والنفــس الأ َّمــارة بالســوء بيــن جنبــي الإنســان هــي أقــرب أعدائــه إليــه ،فليبــدأ بمجاهدتهــا وقمعهــا ،خصو ًصــا وأنهــا التــي تأمــر اللســان بال ِغيبــة ،والنميمــة، والجــدل ،والمــراء ،والكــذب ،والخــوض فــي الفتــن. عـن فضالـة بـن عبيـد ،قـال رسـول الله ﷺ« :المجاهـد مـن جاهـد نفسـه فـي الله عـز وجـل»(.)1 وعـن أبـي ذر ال ِغفـاري ،قـال رسـول الله ﷺ« :أفضـل الجهـاد :أن تجاهـد نفسـك وهـواك فـي ذات الله عـز وجـ َّل»(.)2 وقال أبو حازم رحمه الله« :قاتِل هواك أش َد مما تقاتل عدوك»(.)3 ويتأكـد وجـوب حفـظ اللسـان وقـت الفتـن لمـا لِلِّسـان مـن أثـر فـي إشـعالها، وقـد يحسـب المغـرور أنـه إذا كـ َّف يـده فقـد اعتـزل الفتـن ،ولا يـدري أنـه لا ينجـو منهـا حتـى يكـف لسـانه أيضـاً ،وكـم مـن خائـ ٍض فـي الفتـن متلـو ٍث بهـا بلسـانه ،وهـو يظـن أنـه نـا ٍج منهـا ،وهـو مـن أنشـط السـاعين فيهـا ،ال ُم ْض ِرميـن نا َرهـا. وقال وهيب بن الورد رحمه الله« :وجد ُت العزلة في اللسان»(.)4 وعـن عبـد الله بـن المبـارك رحمـه الله قـال :قـال بعضهـم فـي تفسـير العزلـة: «هـو أن تكـون مـع القـوم ،فـإن خاضـوا فـي ذكـر الله ف ُخـض معهـم ،وإ ْن خاضـوا فـي غيـر ذلـك فاسـكت»(.)5 ( )1أخرجه الترمذي في فضائل الجهاد ،باب ما جاء في فضل من مات مرابط ًا ،165/4:رقم (،)1621 وقال الترمذي\" :هذا حديث حسن صحيح\" ،والإمام أحمد في مسنده ،22 ،20/6:وابن ح َّبان في صحيحه ،5/11:رقم ( ،)4706والطبراني في المعجم الكبير ،309/18:رقم (.)796 ( )2أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء.249/2: ( )3أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء.231/3: ( )4أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء ،153/8:وابن أبي الدنيا في العزلة والانفراد :ص ،44رقم (.)92 ( )5أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت :ص ،62رقم (.)37 149
وقـال حذيفـة « :إن الفتنـة ُو ِّكلَـ ْت بثـاث :بالحـا ِدّ النِّ ْح ِريـ ِر الـذي لا يرتفـع لـه شـيء إ َّل قمعـه بالسـيف ،وبالخطيـب الـذي يدعـو إليهـا ،وبالسـيد ،فأمـا هـذان فتبطحهمـا لوجوههمـا ،وأمـا السـيد فتبحثـه ،حتـى تبلـو مـا عنـده»(.)1 وفــي هــذا ..تحذيــر مــن الخطبــاء الذيــن يوظفــون خطبهــم لإشــعال الفتــن وإضـرام نارهـا ،ويدعـون العامـة والرعـاع إلـى الخـروج علـى الحـكام ،ويهيجـون الشـباب المتحمـس بالـكلام الملهـب عـن الحـ َّكام وسياسـتهم ،دون أن يو ّجهـوا الشـباب الـى العلـم والحـض عليـه ،والاشـتغال بمـا ينفعهـم فـي دينهـم ودنياهـم. وعــن َشــ َكل بــن حميــد قــال :أتيــت النبــ َّي ﷺ ،فقلــت :يــا رســول الله؛ َعلِّ ْمنـي تعـوذاً أتعـوذ بـه ،قـال :فأخـذ بك ِّفـي ،فقـال :قـل« :اللهـ َّم إنـي أعـوذ بـك مـن شـر سـمعي ،ومـن شـر بصـري ،ومـن شـر لسـاني ،ومـن شـر قلبـي ،ومـن شـر منيـي»(.)2 وعـن سـفيان بـن عبـد الله الثقفـي ،قـال :قلـت :يـا رسـول الله حدثنـي بأمـر أعتصـم بـه ،قـال ﷺ« :قـل ربـي الله ثـم اسـتقم» ،قلـت :يـا رسـول الله مـا أخـو ُف مـا تخـا ُف علـ َّي؟ فأخـذ بل َسـا ِن نفسـه ،ثـم قـال« :هـذا»(.)3 ( )1أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء .274/1:وابن أبي الدنيا في العزلة والانفراد :ص ،44رقم (.)92 الحا ُّد :النشيط القوي القلب ،أو الطائش ،والنِّ ْحرير :العالم الحاذق في علمه .ومراده :أن مثل هذا المتهور لا رجاء له في النجاة؛ لأنه يفكر بسيفه. ( )2أخرجه الترمذي في الدعوات ،باب الاستعاذة من شر السمع ،523/5:رقم ( ، )3492وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه» ،وأبو داود في الصلاة ،باب الاستعاذة ،92/2:رقم ( ،)1551والنسائي في الاستعاذة ،باب الاستعاذة من شر السمع والبصر ،259،260/8:رقم (.)5455 ( )3أخرجه الترمذي في الزهد ،باب ما جاء في حفظ اللسان ،607/4:رقم ( ،)2410وقال الترمذي: \"هذا حديث حسن صحيح\" ،والإمام أحمد في مسنده ،145/24:رقم ( ،)15419وابن حبان في صحيحه ،6/13 :رقم ( ،)5699والطبراني في المعجم الكبير ،69/7:رقم ( ،)6396والحاكم في المستدرك ،349/4:رقم ( )7874وقال الحاكم\" :هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه\" ،ووافقه الذهبي ،والبيهقي في شعب الإيمان ،9/7:رقم (.)4574 150
وعـن أبـي سـعيد الخـدري أن النبـ َّي ﷺ قـال« :إذا أصبـ َح ابـ ُن آدمَ فـإ َّن الأعضـاء كلَّهـا تُ َك ِّفـ ُر اللسـا َن فتقـول :اتـ ِق الله فينـا ،فإنمـا نحن بـك ،فإن اسـتقم َت اسـتقمنا ،وإن اعوججـت اعوججنـا»(.)1 وقـد ا َّطلـع عمـر بـن الخطـاب علـى أبـي بكـر وهـو ي ُمـ ُّد لسـانه ،فقـال :مـا تصنـ ُع يـا خليفـة رسـول الله؟ فقـال :إ َّن هـذا أوردنـي المـواردَ ،إ َّن رسـول الله ﷺ قـال« :ليـ َس شـيءٌ مـن الجسـ ِد إ َّل وهـو يشـ ُكو َذ َر َب اللسـا ِن»(.)2 وعـن شـقيق رحمـه الله قـال :لبَّـى عبـد الله بـن مسـعود علـى الصفـا ،ثـم قـال« :يـا لسـان ..قُـ ْل خيـراً تغنـم ،اسـكت تسـلم ،مـن قبـل أن تنـدم» ،قالـوا: يـا أبـا عبـد الرحمـن ،هـذا شـيء أنـت تقولـه أم سـمعته؟ قـال :لا ،بـل سـمعت رسـول الله ﷺ يقـول« :أكثـ ُر خطايـا ابـ ِن آد َم فـي لسـانه»(.)3 ● في الصمت السلامة: لقـد بيـن رسـول الله ﷺ أن الصمـت فيـه السـامة لصاحبـه مـن مخاطـر الدنيـا وشـقاء الآخـرة ،وذلـك فـي كثيـر مـن أقوالـه وتوجيهاتـه ومنهـا: ()1أخرجه الترمذيفيكتاب الزهد،باب حفظاللسان،605/4:رقم(،)2407وقال الترمذي\":هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث حماد بن زيد\" ،والإمام أحمد في مسنده ،96/3:وأبو يعلى الموصلي ،402/2:رقم ( ،)1185وابن السني في عمل اليوم والليلة :ص ،3قوله (تكفر اللسان) :أي َت ِذ ُّل له وتخضع .انظر: فيض القدير ،للمناوي.286/1: ( )2أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده ،17/1:رقم ( ،)5وابن السني في عمل اليوم والليلة :ص ،10رقم ( ،)7والبيهقي في شعب الإيمان ،24/7:رقم ( ،)4596وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ،302/10رقم (\" :)18172رواه أبو يعلى ،ورجاله رجال الصحيح غير موسى بن محمد بن حيان ،وقد وثقه ابن حبان\"، قولهَ ( :ذ َر ُب اللسان) :سلاطته وفساد َمنْ ِط ِقه ،من قولهمَ \" :ذ ِر َب لسا ُنه\" إذا كان حا َّد اللسان ،لا ُيبالي ما قال. ( )3أخرجه الشاشي في مسنده ،82/2:رقم ( ،)602والطبراني في المعجم الكبير ،197/10:رقم (،)10446 وأبو نعيم في حلية الأولياء ،107/4:والبيهقي في شعب الإيمان ،16/7:رقم ( ،)4584وابن أبي الدنيا في الصمت :ص ،53رقم (.)18 151
عن عبد الله بن عمرو قال رسول الله ﷺَ « :م ْن َص َم َت نجا»(.)1 وعـن أبـي هريـرة قـال رسـول الله ﷺ« :مَـ ْن كان يؤمـن بـالله واليـوم الآخـر فليقـل خيـراً أو ليصمـت»(.)2 وعــن معــاذ بــن جبــل قــال رســول الله ﷺ« :إنــك لــم تَــ َز ْل ســالماً مــا َســ َك َّت ،فــإذا تكلَّ ْمــت ُكتِــ َب لــك أو عليــك»(.)3 وعـن عمـر بـن الخطـاب قـال :قـال رسـول الله ﷺَ « :مـ ْن كثُـر كلامُـه كثـر َسـ َق ُطه ،ومـن كثـر سـقطه كثـرت ذنوبـه ،ومـن كثُـرت ذنوبـه كانت النـار أولى بـه»(.)4 وكان رسول الله ﷺ طوي َل الصمت ،قلي َل الضحك(.)5 قـال عبـد الله بـن مسـعود « :والـذي لا إلـه إ َّل هـو ،مـا علـى وجـه الأرض أحـوج إلـى طـو ِل َسـ ْج ٍن ِمـن لسـان»(.)6 ( )1أخرجه الترمذي في صفة القيامة ،660/4:رقم ( ،)2501وقال الترمذي\" :هذا حديث غريب\"، والدارمي في كتاب الرقاق باب في الصمت ،1781/3:رقم ( ،)2755والإمام أحمد في مسنده،159/3: وابن المبارك في الزهد والرقائق ،130/1:رقم ( ،)385والطبراني في المعجم الأوسط ،264/2:رقم ( ،)1933وفي الكبير ،47/13:رقم ( ،)113والبيهقي في شعب الإيمان ،51/7:رقم (.)4629 ( )2أخرجه البخاري في الأدب ،باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ،11/8:رقم (، )6018 ومسلم في الإيمان ،باب الحث على إكرام الجار ،68/1:رقم (.)47 ( )3أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ،73/20:رقم (.)137 ( )4أخرجه الدولابي في الكنى والأسماء ،1093/3:رقم ( ،)1914والطبراني في المعجم الأوسط،328/6: رقم ( )6541وأبو نعيم في حلية الأولياء ،74/3:والشهاب القضاعي في مسنده ،236/1:رقم (.)372 ال َّس َقط هنا :الخطأ في القول والفعل. ( )5أخرجه أبو دود الطيالسي في مسنده ،129/2:رقم ( ،)808وال ِإمام أحمد في مسنده ،405/34:رقم ( ،)20809والخرائطي في مكارم الأخلاق :ص ،40رقم ( ،)63والطبراني في المعجم الأوسط،120/7: رقم ( )7031وفي المعجم الكبير له ،230/2:رقم ( )1953والبيهقي في السنن الكبرى،406/10: رقم ( ،)21117والبغوي في شرح ال ُّسنَّة ،255/13رقم (.)3694 ( )6أخرجه ابن أبي شيبة في الأدب :ص ،245رقم ( ،)221وفي المصنف في كف اللسان ،320/5:رقم ( ، )26499والطبراني في المعجم الكبير ،149/9:رقم ( ،)8744وأبو نعيم في حلية الأولياء،134/1: وابن أبي الدنيا في الصمت :ص ،277رقم ( ،)613وقال الهيثمي في مجمع الزوائد\" :303/10رواه الطبراني بأسانيد ،ورجالها ثقات\". 152
وقــال يزيــد بــن أبــي حبيــب رحمــه الله« :إن المتكلــم لينتظــر الفتنــة ،وإن ال ُمنْ ِصــ َت لينتظــر الرحمــة\"»(.)1 وقـال الفضيـل بـن عيـاض رحمـه الله« :خصلتـان تُ َق ِّسـيان القلـب :كثـرةُ الكلام، وكثرةُ الأكل»(.)2 وقال سفيان الثوري رحمه الله« :طول الصمت ِمفتا ُح العبادة»(.)3 وقـال أبـو الذيَّـال رحمـه الله« :تعلـم الصمـ َت كمـا تتعلـ ُم الـكلامَ ،فـإن يكـن الـكلامُ يهديـك؛ فـإن الصمـت يقيـك ،ولـك فـي الصمـت َخصلتـان :تأخـذ بـه ِعلْـ َم َمـن هـو أعلـ ُم منـك ،وتدفـع بـه عنـك َمـن هـو أجـد ُل منـك»(.)4 وقـال إبراهيـم بـن الأشـعث رحمـه الله« :سـمعت ال ُفضيل يقـولَ :من اسـتوحش ِمـن ال َو ْحـدة ،واسـتأنس بالنـاس ،لـم يسـلم مـن الريـاء ،ولا حـ َّج ولا جهـا َد أشـ ُّد مـن حبـس اللسـان ،وليـس أحـ ٌد أشـ َّد َغ ّمـاً ممـن سـجن لسـانه»(.)5 وقـال إبراهيـم بـن أدهـم رحمـه الله« :إذا اغتممـت بالسـكوت ،فتذكـر سـامتك مـن زلـل اللسـان»(.)6 وقـال مـروان بـن مح َّمـد رحمـه الله« :قيـل لإبراهيـم بـن أدهـم رحمـه الله :إ َّن فلانـاً يتعلـم النحـو ،فقـال :هـو إلـى أن يتعلـ َم الصمـ َت أحـو ُج»(.)7 ( )1أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله ،549/1:رقم (.)912 ( )2أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء ،350/8:والبيهقي في شعب الإيمان ،477/7:رقم (.)5314 ( )3أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت :ص ،222رقم (.)433 ( )4أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله ،550/1:رقم (.)915 ( )5أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء ،110/8:وابن أبي الدنيا في الصمت :ص.288 ( )6أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء.20/8: ( )7أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء.16/8: 153
وقـال ال ُم َعلَّـى رحمـه الله :قـال مـو ِّرق رحمـه الله« :أ ْمـ ٌر ..أنـا فـي طلبـه منـذ كـذا وكـذا سـنة ،لـم أقـدر عليـه ،ولسـ ُت بتـار ٍك طلبَـه أبـداً ،قالـوا :ومـا هـو يـا أبـا المعتمـر؟ قـال :الكـ ُّف عمـا لا يعنينـي»(.)1 وقـال ريـاح القيسـي رحمـه الله :قـال لـي عتبـة الغـام« :يـا ريـاح ..إن كنـ ُت كلمـا دعتنـي نفسـي إلـى الـكلام تكلمـ ُت ،فبئـس الناظـ ُر لهـا أنـا ،يـا ريـاح ..إن لـي موقفـاً يُغتبـط فيـه بطـول الصمـت عـن الفضـول»(.)2 وقــال معــن بــن عيســى رحمــه الله« :قيــل لراهــب مــا لــك لا تتكلــم؟ قــال: لســاني ســبع فأخــاف إن تكلمــت أكلنــي»(.)3 وعـن شـيخ مـن قريـش قـال :قيـل لبعـض العلمـاء« :إنـك تُطيـل الصمـ َت\"، فقـال\" :إنـي رأيـ ُت لسـاني َسـبُعاً َعقـوراً ،أخـا ُف أن أ َخلِّـ َي عنـه فَيَ ْع ِقرنـي»(.)4 ِصـ ْر َت فِيـ َك الجـواب الكافـي« :والـكلام أسـيرك ،فـإذا خـرج مـن وقـال فـي َرقِيـ ٌب َ َليۡـهِ َّ َق يَ ۡل ِف أنـت أسـي َره، إِل ـ ۡو ٍل ـن ِم ـ ُظ ﴿ َّمـا قائـ ٍل: ك ِّل لسـا ِن ـ َد عن واللهُ َعتِيــ ٞد [ ﴾١٨ق] »(.)5 وقال أبو بكر بن عياش رحمه الله« :أدنى نف ِع السكو ِت السلام ُة ،وكفى به عافية ،وأدنى ضر ِر المنط ِق الشهرةُ ،وكفى بها بلية»( .)6وصدق الشاعر إذ يقول: ما إن ندمت على سكوتي م ّر ة ولقد ندمت على الكلام مراراً ( )1أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت :ص.266 ( )2أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء.232/6: ( )3أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ،89/7:رقم (.)4709 ( )4أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت :ص ،299رقم (.)699 ( )5انظر :الجواب الكافي :ص.281 ( )6أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء.303/8: 154
وقـال إبراهيـم بـن أدهـم رحمـه الله« :كانـوا يجلسـون فيتذاكـرون ،فأطولهـم س ـكوتاً أفضلُه ـم ف ـي أنفس ـهم»(.)1 وقــال محــارب رحمــه الله« :صحبنــا القاســم بــن عبــد الرحمــن رحمــه الله، فغلبنــا بثــاث :بكثــرة الصــاة ،وطــو ِل الصمــت ،وســخا ِء النفــس»(.)2 ● الموازنة بين الصمت والكلام: بعـد أن عرفنـا مزايـا الصمـت وخطـورة الـكلام ،وأنـه لا قبـل للمـرء بملازمـة الصمـت ،والامتنـاع عـن الـكلام ،فإنـا نقـول :مـن أراد السـامة فليكـن الأصـل عنــده الصمــت؛ إذ يكفــي فــي فضــل الصمــت كونــه أقــوى وســيلة وقائيــة مــن ال ِغيبـة وأخواتهـا مـن آفـات اللسـان ،والسـامة لا يعدلهـا شـيء إ َّل َمـن تيقـن ِمـن حصـول الغنيمـة بالـكلام ،وإذا اضطـر إلـى الـكلام فليكـن عرضـاً بقـدر الحاجـة، إلا فـي ذكـر الله ونشـر العلـم والدعـوة إلـى الله وبـذل الخيـر والأمـر بالمعـروف والنهـي عـن المنكـر وغيـر ذلـك ممـا أمرنـا الشـرع بالـكلام فيـه. وعـن أُم حبيبـة ـ زوج النبـي ﷺ ـ عـن النبـ ِّي ﷺ قـال« :ك ُّل كلا ِم ابـ ِن آد َم عليـه لا لَـ ُه ،إ َّل أمـ ٌر بمعـروف ،أو نهـ ٌي عـن منكـر ،أو ِذكـ ٌر لله عـز وجـل»(.)3 وقـال ال ِإمـام النـووي رحمـه الله« :اعلـم أنـه ينبغـي لـكل مكلَّـف أن يحفـظ لسـانه عـن جميـع الـكلام إ َّل كلامـاً ظهـرت فيـه المصلحـة ،ومتـى اسـتوى الكلا ُم وتر ُكـه فـي المصلحـة ،فال ُّسـنَّة الإمسـاك عنـه؛ لأنـه قـد ينجـ ُّر الـكلا ُم المبـاح إلـى حـرام أو َمكـروه ،وذلـك كثيـر فـي العـادة ،والسـامة لا يعدلهـا شـيء»(.)4 ( )1أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء ،224/4:وابن أبي الدنيا في الصمت :ص ،278رقم (.)620 ( )2أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ،522/4رقم (.)2929 ( )3أخرجه الترمذي في كتاب الزهد ،608/4:رقم ( ،)2412وقال الترمذي\" :هذا حديث حسن غريب\"، وابن ماجه في الفتن ،باب كف اللسان في الفتنة ،1315/2:رقم ( ،)3974وأبو يعلى الموصلي في مسنده ،58/13:رقم ( ،)7134والحاكم في المستدرك ،556/2:رقم (.)3892 ( )4انظر :رياض الصالحين :ص ،427ط :الرسالة. 155
وعــن أبــي هريــرة ،عــن النبــ ِّي ﷺ ،قــال« :مَــ ْن كان يؤمــن بــالله واليــوم الآخــر فليقــل خيــراً أو ليصمــت»( .)1قــال الإمــام النــووي رحمــه الله« :وهــذا الحديـث صريـح فـي أنـه ينبغـي أ َّل يتكلـم إلا إذا كان الـكلا ُم خيـراً ،وهـو الـذي ظهــرت مصلحتُــه ،ومتــى شــ َّك فــي ظهــور المصلحــة فــا يتكلــم»(.)2 ونقـل الإمـام النـووي عـن ال ِإمـام الشـافعي رحمـه الله قولـه« :إذا أراد الـكلامَ فعليـه أن يفكـر قبـل كلامـه ،فـإن ظهـرت المصلحـة تكلـم ،وإن شـ َّك لـم يتكلـم حتـى تظهـر»(.)3 وقــال رجــل لســلمان الفارســي :أوصنــي ،فقــال« :لا تتكلــم) قــال :مــا يسـتطيع مـن عـاش فـي النـاس أ َّل يتكلـم\" ،قـال« :فـإن تكلمـ َت فتكلـم بحـق أو اســكت»(.)4 إذا لم أَ ِج ْد رب ًحا فلس ُت بخاس ِر قال الشافعي رحمه الله: وجد ُت سكوتي متجراً فَلَ ِزمتُ ه وقال أيضاً: إن الجوا َب لبا ِب الش ِّر مفتا ُح قالوا سك َّت وقد خوصم َت قل ُت له م ( )1أخرجه البخاري في الأدب ،باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ،11/8:رقم (، )6018 ومسلم في الإيمان ،باب الحث على إكرام الجار ،68/1:رقم (.)47 ( )2انظر :رياض الصالحين للنووي :ص ،427والأذكار ،للنووي :ص.332 ( )3انظر :الأذكار ،للنووي :ص.332 ( )4أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت :ص ،276وذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم.340/1: 156
● خطورة َوقْ ِع اللسان في الفتن: عـن عبـد الله بـن عمـرو ،أن رسـول الله ﷺ قـال« :تكـون فتنـة تَ ْسـتَنْ ِظ ُف()1 العـرب ،قتلاهـا فـي النـار( ،)2اللسـا ُن فيهـا أشـ ُّد( )3مـن وقـع السـيف»(.)4 ( )1تستنظف العرب؛ أي :تستوعبهم هلا ًكا؛ يقال :ا ْس َتنْ َظف َت الشيء ،إذا أخذته ك َّله ،ومنه قولهم :استنظفت الخراج ،ولا يقال :ن َّظ ْف ُته .كما في النهاية ،لابن الأثير ،79/5:وقال القاري\" :أي :تطهرهم من الأرذال وأهل الفتن\" نقله في المباركفوري في تحفة الأحوذي.402 /6: ( )2في النار؛ أي :سيكونون في النار أو هم حينئ ٍذ في النار؛ لأنهم يباشرون ما يوجب دخولهم في النار؛ كقوله تعالى: ِ﴿ َّن ٱ ۡلَبۡ َرا َر لَ ِف نَ ِعي ٖم [ ﴾١٣الانفطار] .قال القاضي عياض رحمه الله :المراد بـ« :قتلاها» َم ْن ُقتِل في تلك الفتنة، وإنما هم من أهل النار؛ لأنهم ما قصدوا بتلك المقاتلة والخروج إليها إعلاء دين أو دفع ظالم أو إعانة محق، وإنما كان قصدهم التباغي والتشاجر طم ًعا في المال والملك .انظر :تحفة الأحوذي ،للمباركفوري.335/6: ( )3اللسان فيها أشد؛ أي :وقعه وطعنه على تقدير مضاف ،ويدل عليه رواية« :إشراف اللسان»؛ أي :إطلاقه وإطالته أشد من وقع السيف؛ لأن السيف إذا ُ ِضب به أ َّثر في واحد ،واللسان تضرب به في تلك الحالة ألف ن َس َمة ،كما في تحفة الأحوذي .403/6:قال القرطبي رحمه الله\" :قوله« :اللسان فيها أشد من وقع السيف»؛ أي :بالكذب عند أئمة الجور ،ونقل الأخبار إليهم ،فربما ينشأ عن ذلك من النهب والقتل والجلد والمفاسد العظيمة أكثر مما ينشأ من وقوع الفتنة نفسها\" اهـ .من التذكرة .249/2:ونقل المناوي عن القاضي ابن العربي قوله\" :وجه كونه أشد :أن السيف إذا ضرب ضرب ًة واحد ًة مضت ،واللسان يضرب به في تلك الحالة الواحدة ألف َنسمة ،ثم هذا يحتمل أنه إخبار َع َّم وقع من الحروب بين الصدر الأول، ويحتمل أنه سيكون ،وكيفما كان فإنه من معجزاته؛ لأنه إخبار عن غيب\" اهـ .فيض القدير.101/4: ( )4أخرجه أبو داود في كتاب الفتن ،باب في كف اللسان ،165/4:رقم ( ،)4267والترمذي في كتاب الفتن ،473/4:رقم ( ،)2178وقال الترمذي\" :هذا حديث غريب\" ،وابن ماجه في كتاب الفتن ،باب كف اللسان في الفتنة ،1312/2:رقم ( ،)3967وأحمد في مسنده ،562/11:رقم ( .)6980وقال العلامة الشيخ عبد العزيز عيون السود رحمه الله في خطبته :أي فتنة تستأصل العرب هلاك ًا( ،قتلاها في النار) لقتالهم على الدنيا واتباعهم الشيطان( ،اللسان فيها أشد من وقع السيف) أي :سيكون أشد أثر ًا من السيف اللسان إطالته فيها والسلق بالألسنة الذربة كما هو الواقع في تسليط أبواق الإذاعات بعضهم على بعض. 157
وعــن أبــي هريــرة أن رســو َل الله ﷺ قــال« :ســتكون فتنــة َص َّمــاءُ بَ ْك َمــاءُ َع ْميَـاءُ( )1مـن أشـرف لها ا ْستَ ْشـ َرفَ ْت له ،وإشـراف اللسـان فيهـا كوقوع السـيف»(.)2 و ُروي عـن ابـن عمـر قـال رسـول الله ﷺ« :إياكـم والفتـن ،فـإن اللسـان فيهـا مثـل وقـع السـيف»(.)3 وعـن عبـد الله بـن عمـرو ،قـال :بينمـا نحـن حـول رسـول الله ﷺ إذ ذكـروا الفتنــة ،أو ذُ ِكــر ْت عنــده ،قــال ﷺ« :إذا رأيتــم النــا َس قــد َم ِر َجــ ْت عهو ُدهــم، و َخ َّفــت أماناتُهــم ،وكانــوا هكــذا» ـ و َشــبَّك بيــن أصابعــه ـ قــال :فقمــ ُت إليــه، فقلـت :كيـف أفعـل عنـد ذلـك جعلنـي الله فـداك؟ قـال ﷺ« :الـزم بيتـك ،واملـ ْك عليـك لسـانك ،و ُخـ ْذ بمـا تَ ْعـ ِر ُف ،ودَ ْع مـا تُن ِكـر ،وعليـك بأمـر خاصـ ِة نفسـك، و َدع عنـك أمـ َر العامـة»(.)4 وقـد أثنـى النبـي ﷺ علـى مـن يلـزم بيتـه اتقـاءً لآفـات اللسـان ،واحتـرازاً مـن الغيبـة والنميمـة والجـدل ،وغيـر ذلـك ،ممـا يكـون وقـوداً لإضـرام نـار الفتـن. عمـاً بقاعـدة (الدفـع أسـهل مـن الرفـع) ،و(الوقايـة خيـر مـن العـاج). ( )1وصف الفتنة بأوصاف أصحابها ،أي :يعمي الناس فيها ،فلا يرون منها مخرج ًا ،ويصمون عن استماع الحق .قال ابن الأثير في جامع الأصول ( :39/10صماء بكماء عمياء) ال َب َكم :الخَ َرس في أصل الخلقة ،والصمم :الطرش أراد أن هذه الفتنة لا تسمع ولا تبصر ،ولا تقلع ولا ترتفع ،لأنها لا حواس لها فترعوي إلى الحق ،أو أنه ش َّبهها ـ لاختلاطها وقتل البريء فيها والسقيم ـ بالأعمى الأصم الأخرس ،الذي لا يهتدي إلى شيء ،فهو يخبط خبط عشواء. ( )2أخرجه أبو داود في الفتن ،باب في كف اللسان ،102/4:رقم ( ، )4264وقال الحافظ المنذري في مختصر سنن أبي داود\" :107/3:في إسناده عبد الرحمن بن البيلماني ،ولا ُيتج بحديثه\". ( )3أخرجه ابن ماجه في الفتن ،باب كف اللسان في الفتنة ،1312/2:رقم ( .)3968ونعيم بن حماد في الفتن ،142/1:رقم ( .)351قال البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجهَ \" :176/4:ه َذا إِ ْسنَاد َض ِعيف لضعف ُمَ َّمد بن عبد ال َّر ْ َحن َو َأبو ُه لم يسمع من أحد من ال َّص َحا َبة إِ َّل من شرف َوله َشاهد من َح ِديث عبد الله بن عمر َو َر َوا ُه َأ ُبو َدا ُود ِف سنَنه\". ( )4أخرجه أبو داود في الملاحم ،باب الأمر والنهي ،124/4 :رقم ( ،)4343وأحمد في مسنده ،576/11:رقم ( ،)6988والنسائي في السنن الكبرى ،87/9:رقم ( ،)9962وفي عمل اليوم والليلة :ص ،230رقم (،)203 والطحاوي في شرح مشكل الآثار ،219/3:رقم ( ،)1181والطبراني في الدعاء :ص ،546رقم (.)1963 158
عـن معـاذ بـن جبـل ،قـال رسـول الله ﷺ ...« :ومـن جلـس فـي بيتـه لـم يغتـب إنسـاناً كان ضامنـاً علـى الله»(.)1 وهـذا يـدل علـى فضيلـة مـن اعتـزل مجالـس النـاس ،ولـزم بيتـه بنيـة كـف شـر لسـانه عـن إخوانـه المؤمنيـن. عـن أبـي سـعيد الخـدري قـال :قيـل :يـا رسـول الله ..أي النـاس أفضـل؟ فقـال رسـول الله ﷺ« :مؤمـن يجاهـد فـي سـبيل الله بنفسـه ومالـه» ،قالـوا :ثـم مـن؟ قـال« :مؤمـن فـي شـعب مـن الشـعاب يتقـي الله ،ويـدع النـاس من شـره»(.)2 وعــن ابــن عبــاس :أن رســول الله ﷺ خــرج عليهــم وهــم ُجلُــوس فــي مجلـ ٍس ،فقـال ﷺ« :ألا أخبركـم بخيـر النـاس منـز ًل؟» فقلنـا :بلـى يا رسـول الله، قـال« :رجـل آ ِخـ ٌذ بـرأس فرسـه فـي سـبيل الله حتـى ُعقـرت أو يُقتـل ،فأخبركـم بالـذي يليـه؟» قلنـا :بلـى يـا رسـول الله ،قـال« :امـرؤ معتـزل فـي ِشـ ْعب يقيـم الصـاة ،ويؤتـي الـزكاة ،ويعتـزل شـرور النـاس ...الحديـث»(.)3 وعـن زيـاد بـن حديـر رحمـه الله ،قـال« :لـودد ُت أنـي فـي َحيِّـ ٍز مـن حديـد، ومعـي مـا يُصلحنـي ،لا أُ َكلِّـم النـا َس ،ولا يكلمونـي حتى ألقـى الله تبـارك تعالى»(.)4 ( )1أخرجه ابن ح َّبان في صحيحه ،94/2:رقم ( ،)372والطبراني في المعجم الكبير ،54/20:والحاكم في المستدرك ،90/2:وصححه ،ووافقه الذهبي ،والبيهقي في السنن الكبرى .167 ،166/9:ومعنى «ضامن على الله»؛ أي :مضمون ،على َح ِّد( :عيشة راضية)؛ أي :مرضية ،أو :ذو ضمان .قال النووي: \"معنى «ضامن» :صاحب الضمان ،والضمان :الرعاية للشيء ،كما يقال( :تامر ،ولابن) أي :صاحب تمر ولبن\" .انظر :فيض القدير ،للمناوي ،319/3:والنهاية ،لابن الأثير.102/3: ( )2أخرجه البخاري في كتاب الجهاد ،باب أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله ،15/4:رقم ( ،)2786ومسلم في كتاب الإمارة ،باب فضل الجهاد والرباط ،1503/3:رقم (.)1888 ( )3أخرجه أحمد في مسنده ،24/4:قال الشيخ شعيب الأرناؤوط\" :وإسناده حسن\" ،والبيهقي في شعب الإيمان ،174/5:رقم ( ،)3261والدارمي في سننه ،1548/3:رقم ( ،)2440وابن حبان في صحيحه ،367/2:رقم ( ،)604والطبراني في المعجم الكبير ،315/10:رقم (.)10767 ( )4أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ،155/7:رقم ( ،)34927والإمام أحمد في مسنده ،376/13:رقم ( ،)7997وأبو نعيم في حلية الأولياء ،197/4:وابن أبي عاصم في الزهد :ص ،42رقم (.)67 159
● أحوال الصالحين في حفظ اللسان زمن الفتن: قـال إيـاس بـن معاويـة بـن قُـ َّرة رحمـه الله« :كان أفضلهـم عندهـم ـ أي عنـد الصحابـة ـ أسـلمهم صـدوراً ،وأقلهـم ِغيبـة»(.)1 وسـمع عمـار بـن ياسـر رجـاً ينـال مـن أم المؤمنيـن عائشـة ،فقـال لـه: «اسـ ُك ْت مقبوحـاً منبوحـاً ،فأشـهد أنهـا زوجـة رسـول الله ﷺ فـي الجنـة»( .)2وفـي روايـة« :أتـؤذي محبوبـة رسـول الله ﷺ». وقـال ثابـ ٌت البُنانِـ ُّي رحمـه الله :إن مُ َطـ ِّر َف بـن عبـد الله قـال« :لبثـ ُت فـي فتنـة ابـن الزبيـر تسـعاً أو سـبعاً مـا أُ ْخبِـر ُت فيهـا بخبـر ،ولا اسـتخبرت فيهـا عـن خب ـر»(.)3 وقـال ال ِإمـام الزهـري رحمـه الله :ح َّدثنـي عـروةُ أن ال ِمسـو َر بـن مَ ْخ َرمـة أخبـره أنـه وفـد علـى معاويـ َة ،فقضـى حاجتَـه ،ثـم خـا بـه ،فقـال :يـا مسـو ُر ،مـا فعـل طعنُـك علـى الأئمـة؟ ،قـال :دعنـا مـن هـذا ..وأح ِسـن ،قـال :لا والله ..لتكلِّمنِّـي بـذا ِت نف ِسـك بالـذي تعيـ ُب علَـ َّي ،قـال المسـور :فلـم أتـرك شـيئاً أعيبـه عليـه إ َّل بيَّنـ ُت لـه ،قـال :لا أبـرأ مـن الذنـب ،فهـل ت ُعـ ُّد لنـا يـا مسـو ُر مـا نلـي مـن الإصـاح فـي أمـر العا َّمـة ،فـإن الحسـنة بعشـر أمثالهـا ،أم تعـ ُّد الذنـو َب وتتـر ُك المحاسـ َن؟ قـال المسـور :مـا تُذ َكـر إ َّل الذنـوب ،قـال معاويـة :فإنَّـا نعتـرف لله ( )1أخرجه الطبراني في مكارم الأخلاق :ص ،338رقم (.)73 ( )2أخرجه أبو داود الطيالسي ،42/2:رقم ( ،)686والإمام أحمد في فضائل الصحابة ،876/2:رقم ( ،)1647والطبراني في المعجم الكبير ،40/23:والحاكم في المستدرك ،444/3:رقم ( )5684قال الحاكم\" :صحيح على شرط الشيخين ،ولم يخرجاه\" ،ووافقه الذهبي ،وأبو نعيم في حلية الأولياء،44/2: وابن سعد في الطبقات الكبرى.52/8: ( )3أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى.142/7: 160
بـكل ذنـ ٍب أذنبنـاه ،فهـل لـك يـا مسـو ُر ذنـو ٌب فـي خاصتـك تخشـى بـأن تهلـك إن لـم تُغفـر؟ ،قـال المسـور :نعـم ،قـال معاويـة :فمـا يجعلـك اللهُ برجـاء المغفـر ِة أحـ َّق منـي ،فـو الله مـا ألـي مـن الإصـاح أكثـر ِممـا تلـي ،ولكـن والل ِه لا أُخيَّـر بيـن أمريـن ،بيـن الله وبيـن غيـره ،إ َّل اختـر ُت اللهَ علـى مـا سـواه ،وإنِّـي علـى ديـ ٍن يُقبـل فيـه العمـل ،ويُجـزى فيـه بالحسـنات ،ويجـزى فيـه بالذنـوب إ َّل أن يعفـ َو الله عنهـا ،قـال المسـور :فَ َخ َص َمنـي ،قـال عـروة :فلـم أسـمع المسـو َر ذكـر معاويـ َة إ َّل صلَّـى عليـه(.)1 عـن أبـي راشـد رحمـه الله ،قـال« :جـاء رجـل مـن أهـل البصـرة إلـى عبيـد الله بـن عمـر ،فقـال :إنـي رسـو ُل إخوانـك مـن أهـل البصـرة إليـك ،فإنهـم يُقرؤونـك السـام ،ويسـألونك عـن أمـر هذيـن الرجليـن :علـي وعثمـان ، ومـا قولـك فيهمـا؟ فقـال :هـل غيـر؟ قـال :لا ،قـالَ :ج ّهـزوا الرجـل ،فلمـا فُـرغ مـن َجهـازه قـال :اقـرأ عليهـم السـام ،وأخبرهـم أن قولـي فيهـم﴿ :تِ ۡلـ َك أُ َّمـةَ ٞقـ ۡد َخلَـ ۡتۖ لَ َهـا َمـا َك َسـ َب ۡت َو َل ُكـم َّمـا َك َسـ ۡب ُت ۡمۖ َو َل ت ُ ۡس َٔـلُو َن َع َّمـا َكنُـواْ َي ۡع َم ُلـو َن [ ﴾١٣٤البقـرة]»(.)2 وعـن شـريك رحمـه الله قـال :سـألت إبراهيـم بـن أدهـم رحمـه الله عمـا كان بيـن علـي ومعاويـة ،فبكـى ،فندمـت علـى سـؤالي إيـاه ،فرفـع رأسـه، فقـال« :إنـه مـن عـرف نفسـه اشـتغل بنفسـه ،ومـن عـرف ربـه اشـتغل بربـه عـن غيـره»(.)3 ( )1أخرجه معمر بن راشد في جامعه ،344/11:رقم ( ،)20717والذهبي في تاريخ الإسلام،149/5: وسير أعلام النبلاء.151 ،150/3: ( )2أخرجه الخطابي في العزلة :ص.44 ( )3أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء ،15/8:والذهبي في تاريخ الإسلام.36/10: 161
وقـال الشـافعي رحمـه الله :قيـل لعمـر بـن عبـد العزيـز :مـا تقـول فـي أهـل ِص ِّفيـن؟ قـال« :تلـك دمـاء َط َّهـر الله يـدي منهـا ،فـا أحـب أن أخضـب لسـاني بهـا»(.)1 وقال الرياشي رحمه الله: لنفسي عن ذنوب بني أ َميَّهْ لَعم ُر َك إن في ذنبي لَ ُش ُغلاً تناهى ِعل ُم ذلك لا إليَّ ْه على ربي حسابُه ُم إليه إذا ما الله أصل َح ما لديَّ ْه(. )2 وليس بضائري ما قد أَتَ ْوه وعـن الهيثـم بـن عبيـد الصيدلانـي رحمـه الله ،قـال :سـمع ابـن سـيرين رحمـه الله رجـ ًا يَ ُسـ ُّب الحجـاج ،فقـال« :مـه أيهـا الرجـل ..إنـك لـو وافيـت الآخـرة كان أصغـر ذنـب ع ِملتَـه قَـ ُّط أعظـ َم عليـك مـن أعظـم ذنـ ٍب عملـه الحجـا ُج ،واعلـم أن الله َ ح َكــ ٌم عــد ٌل ،إن أخــذ مــن الحجــاج لمــن ظلمــه شــيئاً فشــيئاً ،أخــذ للحجـاج ِم َّمـن ظلمـه ،فـا تشـغل َّن نف َسـك بسـ ِّب أحـ ٍد »(.)3 ( )1أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء ،114/9:والخطابي في العزلة :ص.44 ( )2الأذكار ،للنووي :ص.288 ( )3أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء ،270/2:والبيهقي في شعب الإيمان ،57/9:رقم (.)6254 162
أحكام تتعلق بالفتن: * حكم تمني المو ِت في الفتنة: لشــدة أهــوال الفتــن وعظــم أوارهــا قــد لا يســتطيع كثيــر مــن النــاس تحمــل ضرامهـا ،والصبـر علـى بلوائهـا ،فيتلفـظ بكلمـات ملؤهـا التضجر والانزعـاج ،حتى يصـل بـه الأمـر إلـى تمنـي المـوت ،ليتخلـص مـن جحيـم هـذه الفتـن وآثارهـا. فعــن أبــي بكــرةَ أن رجــ ًا قــال :يــا رســول الله أ ُّي النــاس خيــر؟ فقــال النبـي ﷺ« :مـن طـال ُع ُمـره و َح ُسـ َن عملُـه» ،قالـوا :يـا رسـول الله ،وأي النـاس شـر؟ قـال ﷺ« :مَـ ْن طـال ُعمـره ،وسـاء عملـه»(.)1 وعــن عبــد الله بــن شــداد قــال :جــاء ثلاثــة رهــط مــن بنــي ُعــ ْذرة إلــى النبـي ﷺ فأسـلموا ،قـال :فقـال النبـي ﷺ« :مـن يكفينـي هـؤلاء؟» قـال :فقـال طلحـة :أنـا ،قـال :فكانـوا عنـدي ،قـال :ف ُضـرب علـى النـاس بعـث ،قـال :فخـرج أحدهـم فاستُشـ ِهد ،ثـم ُضـ ِرب بعـث فخـرج الثانـي فيـه فاستشـهد ،قـال :وبقـى الثالـث حتـى مـات مري ًضـا علـى فراشـه ،قـال طلحـة :فرأيـت فـي النـوم كأنـي أُ ِدخلـ ُت الجنـةَ فرأيتهـم ،أعرفهـم بأسـمائهم وسـيماهم ،قـال :فـإذا الـذي مـات علـى فراشـه دخـل أولهـم ،وإذا الثانـي مـن المستشـهدين علـى أثـره ،وإذا أولهـم آخرهـم ،قـال :فدخلنـي مـن ذلـك ،قـال :فأتيـت النبـي ﷺ :فذكـرت ذلـك لـه، فقــال النبــي ﷺ« :ليــس أحــ ٌد عنــد الله أفضــ َل مــن ُم َع َّمــ ٍر يُ َع َّمــ ُر فــي ال ِإســام لتهليلـه وتكبيـره وتسـبيحه وتحميـده»(.)2 ( )1أخرجه الترمذي في كتاب الزهد ،566/4:رقم ( ، )2330وقال\" :هذا حديث حسن صحيح\" ،وأبو داود الطيالسي في مسنده ،194/2:رقم ( ،)905وابن أبي شيبة في مصنفه ،90/7:رقم ( ،)34424والإمام أحمد في مسنده ،58/34:رقم ( ،)20415والدارمي في سننه ،1802/3:رقم ( ،)2784والبزار في مسنده،92/9: والطحاوي في شرح مشكل الآثار ،205/13:رقم ( ،)5208والطبراني في المعجم الأوسط ،327/5:رقم ( ،)5449والصغير ،81/2:رقم ( ،)818والبيهقي في السنن الكبرى ،519/3:رقم (.)6525 ( )2أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ،90/7:رقم (.)34423 163
وعـن طلحـة بـن عبيـد الله ؛ أن رجلين مـن بَ ِل ٍّي قدمـا على رسـول الله ﷺ ،وكان إسـامهما جميعـاً ،فـكان أحدهمـا أشـ َّد اجتهـاداً مـن الآخـر ،فغـزا المجتهـد منهمـا فاستُشـهد ،ثـم مكـث الآخـر بعـده سـنة ،ثـم تُ ُوفـي ،قـال طلحـة :فرأيـت فـي المنـام: بينـا أنـا عنـد بـاب الجنـة ،إذا أنـا بهمـا ،فخـرج خـارج مـن الجنـة ،فـأ ِذن للـذي توفـي الآ ِخـ َر منهمـا ،ثـم خـرج ،فـأذن للـذي استُشـهد ،ثـم رجـع إلـ َّي فقـال :ارجـع ،فإنـك لـم يـأ ِن لـك بعـ ُد .فأصبـح طلحـة يحـ ّدث بـه النـاس ،فعجبـوا لذلـك ،فبلـغ ذلـك رسـو َل الله ﷺ ،وح َّدثـوه الحديـث ،فقـال ﷺِ « :مـ ْن أَ ِّي ذلِـ َك تَ ْع َجبُـو َن؟» فقالـوا: يـا رسـول الله! هـذا كان أشـد الرجليـن اجتهـادًا ،ثـم استُشـهد ،ودخـل هـذا الآخـر الجنـ َة قبلـه ،فقـال رسـول الله ﷺ« :أَلَيْـ َس قـ ْد مَ َكـ َث هـذا بَ ْعـدهُ سـنة؟» قالـوا :بلـى. قـال« :أَد َر َك رمضـان ،فصـام ،وصلَّـى كـذا وكـذا مـن سـجد ٍة فـي ال ّسـنَّ ِة؟» قالـوا: بلـى ،قـال رسـول الله ﷺ« :فمـا بَيْنَ ُه َمـا أبعـد م َّمـا بيـن ال َّسـ َماء والأرض»(.)1 وعـن أنـس قـال رسـول الله ﷺ« :لا يتمنَّيـ َّن أح ُدكـم المـو َت لِ ُضـ ٍّر نـزل بـه، فـإن كان لا بـد متمنيـاً فليقـل :اللهـ َّم أحينـي مـا كانـت الحيـاةُ خيـراً لـي ،وتوفنـي إذا كانـت الوفـاةُ خيـراً لي»(.)2 وعـن أبـي هريـرة قـال رسـول الله ﷺ« :لا يتمنَّيـ َّن أح ُدكـم المـو َت ،ولا يَــ ْدع بــه ِمــن قبــل أن يأتيَــه ،إنــه إذا مــات أحدكــم انقطــع عملُــه ،وإنــه لا يزيــد المؤمــ َن عمــ ُره إلا خيــراً» ،وعنــد البخــار ّي« :لا يتمنَّيــ َّن أح ُدكــم المــو َت :إمــا محســناً فلعلــه أن يــزدادَ خيــراً ،وإمــا مســيئاً فلعلــه أن يَ ْســتَ ْعتِ َب»(.)3 ( )1أخرجه الإمام أحمد في مسنده ،183/2:وابن ماجه ،1293/2:رقم ( ،)3925والبيهقي في السنن الكبرى ،520/3:رقم (.)6530 ( )2أخرجه البخاري في كتاب المرضى ،باب تمني المريض الموت ،121/7:رقم ( ،)5671ومسلم في الذكر والدعاء ،باب كراهة تمني الموت ،2064/4:رقم (.)2680 ( )3أخرجه البخاري في كتاب المرضى ،باب تمني المريض الموت ،121/7:رقم ( ،)5673ومسلم في الذكر والدعاء، باب كراهة تمني الموت ،2065/4:رقم ( .)2682الاستعتاب :طلب ال ُع ْت َبى ،وهو الرضا ،وذلك لا يحصل إلا بالتوبة والرجوع عن الذنوب .قال الجوهري\" :استعتب :طلب أن ُي ْع َتب؛ يقول :استعتبته فأعتبني؛ أي :استرضيته فأرضاني\" .الصحاح .176/1:وفي التنزيل في حق الكافرينِ﴿ :إَون يَ ۡس َت ۡعتِ ُبواْ َف َما ُهم ِّم َن ٱلۡ ُم ۡع َتبِي َن [ ﴾٢٤فصلت]. 164
َو َأ ۡلفِ ۡـقـإـ ِنيقبِيٱــل َّلصٰ:لِك ِيحـــ َنف١ت١٠من﴾ــ[اىلآييةو/يسوــسـفف] ،وكاـلذامــقاولـ َتتفــمرييـقمولـعـلهيهـاا:لس﴿ـتَ َواَّفـمـِ :ي﴿ َُميٰ َلۡسۡيـتَــلِ ِٗماي ِمـ ُّت َق ۡبـ َل َهٰـ َذا َو ُكنـ ُت ن َ ۡسـ ٗيا َّمن ِسـ ّٗيا [ ﴾٢٣الآية/مريـم]؟ أجـاب القرطبـي رحمـه الله فـي \"تفسـيره\" إذ قـال« :فكيـف يقـال :إن يوسـف تمنـى المـوت والخـروج مـن الدنيـا وقطـع العمـل؟ هـذا بعيـد ..إلا أن يقـال :إن ذلــك كان جائــ ًزا فــي شــرعه ،وإمــا أنــه يجــوز تمنــي المــوت والدعــاء بــه عنــد ظهـور الفتـن وغلبتهـا ،وخـوف ذهـاب الديـن»(.)1 قـال قتـادة رحمـه الله« :لـم يتمـ َّن المـوت أحـ ٌد نبـ ٌّي ولا غيـره إلا يوسـف ، ،فقـال: ح﴿يتَـَو َّفنـتِيكا ُمملۡســلِتٗماع َول َأيـ ۡهلِ ۡاقلـن ِعيـ بِمٱ،ل َّوصٰ ُلِجمِحــع َنلـ١ه١٠ال﴾ش.ـفما ُلش،ـتااشقـتإالـقىإللـقـىا لءقرـباـءهربعــهز وجـل. وقيـل :إن يوسـف لـم يتمـ َّن المـوت ،وإنمـا تمنـى الوفـاة علـى ال ِإسـام؛ أي :إذا جـاء أجلـي توفنـي مسـلماً ،وهـذا هـو القـول المختـار فـي تأويـل الآيـة عنـد أهـل التأويـل»(.)2 وأما مريم عليها السلام فإنما تمنت الموت لوجهين: أحدهما :أنها خافت أن يُظن بها الش ُّر في دينها وتُ َعيَّر ،فيفتنَها ذلك. الثانـي :لئـا يقـع قـوم بسـببها فـي البهتـان والـزور ،والنسـبة إلـى الزنـى ،وذلـك مهلـك لهـم ،وقـد قـال الله فـي حـق مـن افتـرى علـى عائشـة َ ﴿ :وٱ َّ ِلي تَـ َو َّ ٰل كِـ ۡ َر ُهۥ ِم ۡن ُهـ ۡم َ ُلۥ َعـ َذا ٌب َع ِظيـ ٞم [ ﴾١١الآية/النـور] ،وقـال َ ﴿ :و َ ۡت َسـ ُبونَ ُهۥ َه ّيِ ٗنـا َو ُهـ َو ِعنـ َد ٱلَّلِ َع ِظيـ ٞم [ ﴾١٥الآية/النـور](.)3 ( )1انظر :الجامع لأحكام القرآن ،للقرطبي.269/9: ( )2انظر :التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ،للقرطبي.117 ،116/1: ( )3انظر :التذكرة ،للقرطبي .118 ،117/1:وزاد الماوردي وجه ًا ثالث ًا ،وهو :لأنها لم ت َر في قومها رشيد ًا ذا فراسة ينزهها من السوء ،انظر تفسير المارودي.364/3: 165
* جواز تمني الموت إذا خاف على دينه من الفتن: إذا أحدقـت الفتـن وشـ َّب أوارهـا ،وسـاد الهـرج والمـرج بيـن النـاس ،وخـاف المؤمـن علـى دينـه وعرضـه وأهلـه ،فـا حـرج أن يتمنـى المـوت خروجـاً مـن الدنيـا علـى الإيمـان الحـق ،قبـل أن تلفحـه نـار الفتـن الملتهبـة ،فـا يقـوى علـى تحملهــا ،فربمــا خرجــت منــه كلمــة الكفــر ،أو يتعــرض لعــذاب شــديد يفقــده صوابـه وعقلـه ودينـه ،كمـا وقـع ويقـع لكثيـر مـن النـاس ،لذلـك ُر ِّخـص للمؤمـن أيـام الفتـن أن يتمنـى المـوت حفاظـاً علـى دينـه وعرضـه ،ليلقـى الله تعالـى علـى إيمـان كامـل وسـامة مـن الفتـن. فعـن معـاذ بـن جبـل أن رسـو َل الله ﷺ أخبـر عـن الله أنـه قـال« :سـل، قلـت :اللهـم ،إنـي أسـألك فعـل الخيـرات ،وتـرك المنكـرات ،و ُحـ َّب المسـاكين، وأن تغفـر لـي وترحمنـي ،وإذا أرد َت فِتنـةً فـي قـو ٍم فتوفنـي غيـ َر مفتـو ٍن ،وأسـألك ُحبَّـك ،و ُحـ َّب مـن يُحبـك ،وحـ َّب عمـ ٍل يقـرب إلـى حبـك»(.)1 وعـن أبـي هريـرة قـال رسـول الله ﷺ« :ويـل للعـرب مـن شـر قـد اقتـرب، موتـوا إن اسـتطعتم»(.)2 قـال القرطبـي رحمـه الله« :وهـذا غايـة فـي التحذيـر مـن الفتـن والخـوض فيهـا، حيـن جعل المـو َت خيـراً مـن مباشـرتها»(.)3 ( )1أخرجه الإمام مالك في الموطأ باب العمل في الدعاء ،218/1:رقم ( ،)40والإمام أحمد في مسنده ،423/36:والترمذي في التفسير ،باب ومن سورة (ص) ،366/5:رقم ( ، )3233والطبراني في المعجم الكبير ،109/20:والحاكم في المستدرك ،708/1:رقم ( )1932وقال :هذا حديث صحيح على شرط البخاري. ( )2أخرجه الحاكم في المستدرك ،486/4:رقم ( ،)8357وقال :هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ،ووافقه الذهبي. ( )3انظر :التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ،للقرطبي.141/3: 166
وعـن محمـود بـن لَبيـد قـال رسـول الله ﷺ« :اثنتـان يكرههمـا ابـن آدم: يكـره المـوت ،والمـو ُت خيـ ٌر للمومـن مـن الفتنـة ،ويكـره قلـة المـال ،وقلـ ُة المـا ِل أقـ ُّل للحسـاب»(.)1 وعـن أبـي هريـرة قـال رسـول الله ﷺ« :لا تقـوم السـاعة حتـى يَ ُمـ َّر الرجـ ُل بقبـر الرجـ ِل ،فيقـول :يـا ليتنـي مكانَـهَ»(.)2 قـال القرطبـي رحمـه الله( :)3وكأن هـذا إشـارة إلـى أن كثـرة الفتـن وشـدة المحن والمشـقات والأنـكاد اللاحقـة للإنسـان فـي نفسـه ومالـه وولـده قـد أذهبـت الديـ َن منــه و ِمــن أكثــر النــاس ،أو قللــت الاعتنــاء بــه مــن الــذي يتمســك بالديــن عنــد هجـوم الفتـن ،ولذلـك عظـم قـدر العبـادة فـي حالـة الفتـن ،حتـى قـال النبـي ﷺ: «العبـادة فـي ال َهـ ْر ِج كهجـر ٍة إلـ َّي»(.)4 وقـال أيضـاً رحمـه الله( :)5وأمـا الحديـث :فإنمـا هـو خبـر أن ذلـك يكـون لشـدة مـا ينـزل بالنـاس مـن فسـاد الحـال فـي الديـن ،وضعفـه ،وخـو ِف َذهابـه ،لا ل ُضـر ينـزل بالمـرء فـي جسـمه أو غيـر ذلـك مـن ذهـاب مالـه ممـا يحـط بـه عنـه خطاياه، وممـا يوضـح هـذا المعنـى ويبينـه قولـه ﷺ« :اللهـم إنـي أسـألك فعـ َل الخيـرات ( )1أخرجه الإمام أحمد في مسنده ،36/39:رقم ( ،)23625والداني في السنن الواردة في الفتن،236/1: رقم ( ،)36والبغوي في شرح السنة ،267/14:رقم ( ،)4066وقال الهيثمي في مجمع الزوائد :321/2 \"رواه أحمد ،ورجاله رجال الصحيح\". ( )2أخرجه البخاري في كتاب الفتن ،باب لا تقوم الساعة حتى يغبط أهل القبور ،58/9:رقم (،)7115 ومسلم في الفتن ،باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء ،2231/4:رقم (.)157 ( )3انظر :التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ،للقرطبي.117/3: ( )4أخرجه مسلم في كتاب الفتن ،باب فضل العبادة في الهرج ،2268/4:رقم ( ،)2948والترمذي في كتاب الفتن ،باب ما جاء في الهرج والعبادة فيه ،489/4:رقم (.)2201 ( )5انظر :التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ،للقرطبي.118/3: 167
وتـرك المنكـرات و ُحـ َّب المسـاكين ،وإذا أردت ـ ويُـروى :أدرت ـ فـي النـاس فتنـة فاقبضنـي إليـك غيـر مفتـون»(.)1 ومثـل هـذا قـول عمـر « :اللهـم قـد ضعفـت قوتـي وكبـرت سـنين وانتشـرت رعيتـي ،فاقبضنـي إليـك غيـر مضيِّـع ولا ُمق ِّصـر» .فمـا جـاوز ذلـك الشـه َر حتـى قُبِـض .)2( وعـن عبـد الله بـن الصامـت عـن أبـي ذر قـال« :يوشـك أن تمـر الجنـازة فـي السـوق علـى الجماعـة فيراهـا الرجـل ،فيهـز رأسـه فيقـول :يـا ليتنـي مـكان هـذا»، قلـت :يـا أبـا ذر ..إن ذلـك لَ ِمـن أمـ ٍر عظيـم ،قـال« :أجـل»(.)3 قـال ابـن وهـب رحمـه الله :وح َّدثنـي مالـك قـال :كان أبـو هريـرة يلقـى الرجـل فيقـول لـه« :مـت إن اسـتطعت» ،فيقـول لـه :لِـ َم؟ قـال« :تمـوت وأنـت تــدري علــى مــا تمــوت ،خيــر لــك مــن أن تمــوت وأنــت لا تــدري علــى مــا تمـوت عليـه»(.)4 وأخـرج الحاكـم مـن طريـق أبـي سـلمة قـال :عـدت أبـا هريـرة ،فقلـت: اللهــم اشــف أبــا هريــرة ،فقــال« :اللهــم لا ترجعهــا ،إن اســتطعت يــا أبــا ســلمة فمـت ،والـذي نفسـي بيـده ليأتيـن علـى العلمـاء زمـا ٌن المـوت أحـب إلـى أحدهـم مـن الذهـب الأحمـر ،وليأتيـن أح ُدهـم قبـر أخيـه ،فيقـول :يـا ليتنـي مكانـه»(.)5 ()1أخرجهال ِإماممالكفيالموطأ،218/1:رقم(،)40والترمذيفيالتفسيربابومنسورة[ص]،366/5: رقم ( ، ،)3233والطبراني في المعجم الكبير ،109/20:رقم (.)216 ( )2أخرجه مالك في الموطأ ،824/2:رقم (.)1506 ( )3انظر :فتح الباري ،لابن حجر العسقلاني.76/13: ( )4انظر :التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ،للقرطبي.141/3: ( )5انظر :فتح الباري ،لابن حجر العسقلاني.76/13: 168
وعــن أبــي هريــرة قــال« :إذا رأيتــم ســتّاً فــإن كانــت نفــ ُس أح ِدكــم فــي يـده ،فليرسـلها؛ فلذلـك أتمنـى المـو َت ،أخـا ُف أن تدر َكنـي :إذا أُ ِّمـر ِت السـفهاء، وبيـع ال ُح ْكـ ُم ،وتُ ُهـ ِّو َن بالـدم ،وقُطعـت الأرحـام ،و َكثُـرت الجـاوزة ،ونشـأ نـشء يتخـذون القـرآن مزاميـر»(.)1 و ُروي عـن ابـن مسـعود قـال« :سـيأتي عليكـم زمـا ٌن ،لـو وجـد أح ُدكـم المــو َت يُبــا ُع ،لاشــتراه»(.)2 وقد قيل: ألا مو ٌت يُباع فأشتريه وهذا العي ُش ما لا خير فيه وعـن عبـد الرحمـن بـن عمـر قـال :سـمعت عبـد الرحمـن بـن مهـدي ،و ُسـئل عــن الرجــل يتمنــى المــوت؛ قــال« :مــا أرى بذلــك بأســاً :إذ يتمنــى المــو َت الرجـ ُل ،مخافـة الفتنـة علـى دينـه؛ ولكـن :لا يتمنـى المـوت مـن ضربـة أو فاقـة، أو شـيء مثـل هـذا\"؛ ثـم قـال عبـد الرحمـن\" :تمنـى المـو َت أبـو بكـر وعمـر و َمـن دونهمـا». وسـمعته ونحـن مقبلـون مـن جنـازة عبـد الوهـاب؛ فقـال« :إنـي لأشـم ريـح فتنـة ،إنـي لأدعـو الله أن يسـبقني بهـا». وسـمعته يقـول« :كان لـي إخـوان ،فماتـوا ودُفِـ َع عنهـم َشـ ُّر مـا نـرى ،وبقينـا بعدهـم؛ ومـا بقـي لـي أخ ،إلا هـذا الرجـل يحيـي بـن سـعيد؛ ومـا يُ ْغبَـ ُط اليـوم :إلا مؤمـن فـي قبـره»(.)3 ( )1أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء ،384/1:الجَلاوزة :الشرطة ،مفردها :ال ِجلواز :الشرطي ،كما في القاموس المحيط ،175/2:مادة (جلز). ( )2السنن الواردة في الفتن ،للداني ،458/2:رقم (.)181 ( )3أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء.13/9: 169
* حرمة استعمال السلاح أيام الفتن: عـن الأحنـف بـن قيـس رحمـه الله قـال :خرجـت وأنـا أريـد هـذا الرجـل ـ يعني علـي بـن أبـي طالـب ـ فلقينـي أبـو بَكـرة ،فقـال :أيـن تريـد يا أحنـف؟ قال: قلـت :أريـد نصـر ابـن عـم رسـول الله ﷺ ،فقـال :يـا أحنـف ارجـع ،فإنـي سـمعت رسـول الله ﷺ يقـول« :إذا تواجـه المسـلمان بسـيفيهما ،فالقاتـل والمقتـول فـي النـار» ،قـال :فقلـت :يـا رسـول الله ،هـذا القاتـل ،فمـا بـال المقتـول؟ قـال« :إنـه قـد أراد قتـل صاحبـه»(.)1 عـن ُع َدي َسـة بنـت أُهبـان بـن صيفـي الغفـاري قالـت :جـاء علـي بـن أبـي طالـب إلـى أبـي ،فدعـاه إلـى الخـروج معـه ،فقـال لـه أبـي« :إن خليلـي وابـن عمـك ﷺ عهـد إلـي ،إذا اختلـف النـاس ،أن أتخـذ سـيفاً مـن خشـب فقـد اتخذته، فـإن شـئت خرجـت بـه معـك» .قالـت :فتركـه (.)2 عـن أبـي موسـى الأشـعري أن رسـول الله ﷺ قـال« :إن بيـن يـدي السـاعة فتنــاً كقطــع الليــل المظلــم يصبــح الرجــل فيهــا مؤمنــاً ويمســي كافــراً ،ويمســي مؤمنـاً ويصبـح كافـراً ،القاعـد فيهـا خيـر مـن القائـم ،والماشـي فيهـا خيـر مـن السـاعي ،فكسـروا قسـيكم وقطعـوا أوتاركـم ،واضربـوا سـيوفكم بالحجـارة ،فـإن دخـل ـ يعنـى علـى أحـد منكـم ـ فليكـن كخيـر ابنـي آدم»(.)3 ( )1أخرجه البخاري في كتاب الإيمان ،باب ﴿ِإَون َطآئِ َف َتا ِن ِم َن ٱلۡ ُم ۡؤ ِمنِي َن ٱ ۡق َت َت ُلواْ﴾ ،20/1:رقم ( ،)31ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة ،باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما ،2734/5:رقم (.)2888 ( )2أخرجه الترمذي في الفتن ،باب اتخاذ سيف من خشب في الفتنة ،490/4:رقم ( ،)2203وقال\" :هذا حديث حسن غريب\" ،وابن ماجه في الفتن ،باب التثبت في الفتنة ،1309/2 :رقم ( ،)3960والإمام أحمد في مسند أهبان بن صيفي ،270/34 :رقم (.)20670 ( )3أخرجه أبو داود في كتاب الفتن ،باب النهي عن السعي في الفتنة ،162/4:رقم ( ،)4261وابن ماجه في كتاب الفتن ،باب التثبت في الفتنة ،1310/2:رقم ( ، )3961وابن حبان في صحيحه،257/13: رقم (.)5962 170
عن سلمة بن الأكوع أن النبي ﷺ قال« :من س َّل علينا السيف فليس منا»(.)1 وعـن أبـي موسـى الأشـعري أن النبـي ﷺ قـال« :مـن حمـل علينـا السـاح فليس منــا»(.)2 * حكم بيع السلاح زمن الفتنة: ذهـب جمهـور الفقهـاء إلـى حرمـة بيـع مـا يقصـد بـه فعـل محـرم ،واعتبـروه مـن أقسـام البيـوع المنهـي عنهـا ،ومثَّلـوا لـه ببيـع السـاح زمـن الفتنـة ،وسـبب النهـي عنـه ،أنـه يـؤدي إلـى ضـرر مطلـق وعـام ،وفـي منعـه سـد لذريعـة الإعانـة علـى المعصيـة .لمـا روى عمـران بـن حصيـن أن رسـول الله ﷺ« :نهـى عـن بيـع السـاح فـي الفتنـة»(.)3 وبيــع الســاح أيــام الفتــن إعانــة علــى المعصيــة ،وإيقــاظ للفتــن النائمــة ، وتأجيــج لنارهــا ،وقــد جــاء فــي الحديــث عــن أنــس بــن مالــك قــال :قــال رســول الله ﷺ« :الفتنــة نائمــة لعــن الله مــن أيقظهــا»(.)4 ( )1أخرجه مسلم في كتاب الإيمان ،باب (من حمل علينا السلاح فليس منا) ،253/1:رقم (.)99 ( )2أخرجه البخاري في كتاب الفتن ،باب قول النبي ﷺ« :من حمل علينا السلاح فليس منا»،2592/6: رقم ( ،)6660ومسلم في كتاب الإيمان ،باب قول النبي ﷺ« :من حمل علينا السلاح فليس منا» ،253/1:رقم (.)100 ( )3أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ،كتاب البيوع ،باب كراهية بيع الخمر ممن ،327/5:رقم (،)11096 وقال البيهقي\" :رفعه وهم والموقوف أصح\" ،وقال ابن حجر\" :أخرجه ابن عدي والبزار والبيهقي مرفوع ًا ،وهو ضعيف والصواب وقفه ،وكذلك ذكره البخاري تعليق ًا؛ أي :موقوف ًا .التلخيص الحبير، لابن حجر العسقلاني.46/3: ( )4عزاه المتقي الهندي والسيوطي للرافعي .انظر :كنز العمال ،للمتقي الهندي ،127/11:والجامع الصغير، للسيوطي ،370/2:وضعفه السيوطي. 171
آثار الفتن ونتائجها: لـو اسـتعرضنا بعـض صفحـات التاريـخ الإسـامي منـذ مقتـل سـيدنا عمـر بـن الخطـاب إلـى عصرنـا الحاضـر لرأينـا فيهـا مـا يدمـي القلـوب ويعتصـر الفـؤاد حزنـاً وأسـى علـى مـا خلفتـه الفتـن والمحـن. وبمـرور سـريع علـى نتائـج هـذه الفتـن نجـد أنفسـنا أمـام مصائـب وكـوارث علــى الصعــد والمجــالات كافــة ،فآثــار الفتــن أكثــر مــن أن تحصــى ،وأعظــم مــن أن تســتوعب؛ لأنهــا تشــمل الحــرث والنســل ،وتلحــق الأضــرار بالأنفــس والممتلــكات مــن البنيــان والأمــوال والحيــوان والنبــات ،فضــاً عــن الأضــرار الاقتصاديــة والصحيــة والبيئيــة والاجتماعيــة والنفســية والعلميــة وغيرهــا. * تفرق الأمة في آخر الزمان: مـن أعظـم الأضـرار التـي تخلفهـا الفتـن أنهـا تمـزق الأمـة إلـى شـراذم وفـرق مختلفـة متناحـرة ،ممـا يـؤدي إلـى ضعـف الأمـة وانهيـار قوتهـا ،وذهـاب شـوكتها وهيبتهـا ،فتصبـح لقمـة سـائغة يسـهل علـى أعدائهـا ابتلاعهـا ،فهـم يمضـون الأيـام والليالـي يمكـرون ويكيـدون للأمـة ليزيـدوا فـي تفرقهـا وتناحرهـا. عــن أبــي هريــرة أن رســول الله ﷺ قــال« :تفرقــت اليهــود علــى إحــدى وسـبعين ،أو اثنتيـن وسـبعين فرقـة ،والنصـارى مثـل ذلـك ،وتفتـرق أمتـي علـى ثــاث وســبعين فرقــة»(.)1 ( )1أخرجه أبو داود في كتاب السنة ،باب شرح السنة ،323/4:رقم ( ،)4598والترمذي في كتاب الإيمان، باب افتراق الأمة ،25/5:رقم ( ،)2640وقال الترمذي\" :هذا حديث حسن صحيح\". 172
* الحصار الاقتصادي على المسلمين آخر الزمان: ومـن الآثـار السـلبية للفتـن علـى الأمـة الإسـامية أن اسـتحكم أعداؤهـا فـي أرزاقهـم وأقواتهـم ،فبسـبب ضعـف المسـلمين وتفرقهـم ـ جـراء الحـروب الطاحنة بينهـم ـ ضعـف اقتصادهـم وانهـارت عملتهـم ،ممـا حـدا بهـم إلـى مـ ِّد أيديهـم إلى أعدائهـم طلبـاً لمـا يعيشـون بـه ،فاسـتغل أعداؤهـم حاجتهـم فاحتكـروا السـلع والصناعــات والتجــارات والأســواق والاقتصــاد ،وتحكمــوا بهــا فــي العــرض والطلــب ،وتســلطوا علــى ثــروات البــاد وموادهــا الخــام ،ومارســوا الضغــوط علـى البـاد الإسـامية ليحصلـوا عليهـا بأرخـص الأسـعار ،كمـا مارسـوا نفوذهـم وقوتهــم ومكرهــم ليعيدوهــا إليهــم ســلعاً مصنعــة تبــاع فــي أســواق المســلمين بأبهــظ الأثمــان ،فيمتصــون بذلــك دمــاء المســلمين ،ويفرضــون عليهــم حصــاراً اقتصاديــاً محكمــاً ،بطــرق وأســاليب ماكــرة خبيثــة ،والمســلمون فــي غفلــة مــن أمرهـم ،منهمكيـن بالحـروب والفتـن فيمـا بينهـم. عـن عبـد الله بـن عمـر قـال :قـال رسـول الله ﷺ« :يوشـك المسـلمون أن يحاصـروا إلـى المدينـة ،حتـى يكـون أبعـد مسـالحهم :سـاح»( ،)1قـال الزهـري: سـاح قريـب مـن خيبـر. ( )1أخرجه أبو داود في سننه ،كتاب الفتن ،باب ذكر الفتن ودلائلها ،156/4:رقم ( ،)4252والحاكم في المستدرك ،556/4:رقم ( ،)8560وقال الحاكم\" :صحيح على شرط مسلم\" ،ووافقه الذهبي .ومسالحهم: جمع (مسلحة) وأصله موضع السلاح ،وهو موضع قريب من خيبر أسفل منها ،كما في القاموس ،ثم استعمل للثغر؛ أي :أبعد ثغورهم هذا الموضع القريب من خيبر .انظر :عون المعبود.216/11: قال الشيخ عبد العزيز عيون السود رحمه الله في خطبته :و يوشك المسلمون أن يضطروا فرار ًا من حصار عدوهم إلى الالتجاء إلى أسفل من خيبر ،فيكون تلاحم ثغرهم ـ أي الحد الفاصل بينهم وبين أعدائهم وهو ما يسمى اليوم خط الدفاع الأول. 173
عـن جابـر بـن عبـد الله قـال :يوشـك أهـل العـراق أن لا يجبـى إليهـم قفيز()1 ولا درهـم ،قلنـا مـن أيـن ذاك؟ قـال :مـن قبـل العجـم ،يمنعـون ذاك .ثـم قـال: يوشـك أهـل الشـأم ،أن لا يجبـى إليهـم دينـار ولا مـدي( ،)2قلنـا :مـن أيـن ذاك؟ قـال :مـن قبـل الـروم ،ثـم سـكت هنيـة ،ثـم قـال :قـال رسـول الله ﷺ« :يكـون فــي آخــر أمتــي خليفــة يحثــي المــال حثيــاً ،لا يعــده عــدداً» ،قــال :قلــت لأبــي نضـرة وأبـي العـاء :أتريـان أنـه عمـر بـن عبـد العزيـز ؟ فقـالا :لا(.)3 عـن أبـي هريـرة قـال :قـال رسـول الله ﷺ« :منعت العـراق درهمهـا وقفيزه، ومنعـت الشـأم مديهـا ودينارهـا ،ومنعـت مصـر إردبهـا( )4ودينـاره ،،وعدتـم مـن حيـث بدأتـم ،وعدتـم مـن حيـث بدأتـم وعدتـم مـن حيـث بدأتـم» .شـهد علـى ذلـك لحم أبـي هريـرة ودمـه(.)5 * * * ( )1القفيز :مكيال يتواضع الناس عليه ،وهو عند أهل العراق ثمانية مكاكيك .انظر :النهاية ،لابن الأثير.90/4: ( )2ال ُم ْدي :مكيال لأهل الشام يسع خمسة عشر مكوك ًا ،والم ّكوك :صاع ونصف ،وقيل :أكثر من ذلك .انظر: النهاية ،لابن الأثير.310/4: ( )3أخرجه مسلم في كتاب الفتن ،باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر ،2751/5:...رقم (.)2913 ( )4الإردب :مكيال لأهل مصر ،يسع أربعة وعشرين صاع ًا .انظر :النهاية ،لابن الأثير.37/1: ( )5أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة ،باب لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات ،2739/5:رقم (.)2896 174
* الآثار المروعة للخروج على الحكام بالسلاح: الخسـائر والأضـرار التـي منيـت بهـا الأمـة الإسـامية مـن جـراء الخـروج علـى الحـكام بالسـيف وقتالهـم وتفريـق كلمتهـم ،لا يعلمهـا إلا اللهُ والراسـخون فـي العلـم ،وسنشـير إلـى طـرف منهـا ،فقـد راح ضحيـة الخـروج علـى الحكام بالسـاح خيـار هـذه الأمـة مـن الصحابـة والتابعيـن وسـادة علمـاء الديـن ،ومـن ذلـك: أولاً ـ الفتنة الكبرى: أُولـى الفتـن التـي عصفـت بالعالـم الإسـامي بعـد انتقـال النبـي ﷺ تممثَلـت بخـروج بعـض المتألِّبيـن علـى الخليفـة الراشـدي سـيدنا عثمـان بـن ع َّفـان م َّدعيـن أنهـم يريـدون إعـادة الخليفـة إلـى جـادة الصـواب لمخالفتـه كتـاب الله تعالـى فـي أمـور قـام بهـا ،وبعبـارة أخـرى ادعـوا أنهـم قائمـون بالأمـر بالمعـروف والنهــي عــن المنكــر ،فلــم يشــعر أهــل المدينــة إلا وجماعــات مــن أهــل مصــر صـاروا علـى أبـواب المدينـة المنـورة فخـرج إليهـم سـيدنا عثمـان وا ْسـتَ ْقبَلَ ُه ْم َ -وكا َن فـي قَ ْريَـ ٍة لَـ ُه خا ِر َجـةً ِمـ َن ال َمدينَـ ِة -فَلَ ّمـا َسـ ِمعوا بِـ ِه ،أَقْبَلـوا نَ ْحـ َوهُ إِلَـى ال َمـكا ِن الَّـذي هـ َو فيـ ِه ،قـا َلَ :و َكـ ِرهَ أَ ْن يَ ْق َدمـوا َعلَيْـ ِه ال َمدينَـ َة ،فَأَتَـ ْوهُ ،فَقالـوا لَـ ُه: ا َّم ْدســآُعوأَبِنَارلـةَ َزمي َـُلوـنُٱـْلصَّ ُلََسح َلالِتفّ ُاك،ـِفسَمـَد َعِّمعةَــان-بِا ّقلرِـۡزماـُٖقَـل:فَْصفََجَقَحَعَر ۡلأَ ُتِهفــ،مافَ ِّمقَحاۡنتَّلـــ ُهوىا َأحلََتَـَرـا ُه ٗم:ىـاافْعتَ َلوــ َحِح َىلٰاـل َٗهتّاـا ِِذسُق ِهــاَعۡللةَآيَءاـِ ٓ-ةلَّ َوُ:لكأَا﴿نذِـُق َنـواۡلَليُأَ َ َسُركـَءـ ۡيّمۡمُتۖوـأَ َۡممن َ َع ٱلَّلِ َت ۡفـ َ ُرو َن [ ﴾٥٩يونـس] ،فَقالـوا لَـ ُه :أَ َرأَيْـ َت مـا َح َميْـ َت ِمـ َن ال ِح َمـى؟ آل َّلُ أَ ِذ َن لَـ َك أَ ْم علـى ال َّلِ تَ ْفتَـري! فَقـا َل :امْ ِضـ ِه ،نَ َزلَـ ْت فـي َكـذا َو َكـذا ،قـا َلَ :وأَمّـا ال ِح َمـى فـ ِإ َّن ُع َمـ َر َحمـى ال ِح َمـى قَبْلـي ل ِإبـ ِل ال َّص َدقَـ ِة ،فَلَ ّمـا ُولّيـ ُت زادَ ْت إِبِـ ُل ال َّص َدقَـ ِة فَـ ِز ْد ُت فـي ال ِح َمـى لِمـا زا َد فـي إِبِـ ِل ال َّص َدقَـ ِة ،ا ْم ِضـ ِه. قا َل :فَ َج َعلوا يَأْ ُخذونَهُ بِالآيَ ِة ،فَيَقو ُل :امْ ِض ِه ،نَ َزلَ ْت في َكذا َو َكذا. وكان الَّذي يَتَ َولَّى َكلامَ ُعثْما َن يَ ْو َمئِ ٍذ شابّاً حدث الس ِّن لم تنبت لحيته. 175
يقـو َل الـراوي :ثُـ َّم أَ َخـذوهُ بِأَ ْشـياءَ لَـ ْم يَ ُكـ ْن ِعنْـ َدهُ ِمنْهـا َم ْخـ َر ٌج ،قـا َل :فَ َع َرفَهـا، فَقـا َل :أَ ْسـتَ ْغ ِف ُر اللهَ َوأَتـو ُب إِلَيْـ ِه. قا َل :فَقا َل لَ ُه ْم :ما تُريدو َن؟ قــا َل :فَأَ َخــذوا ميثاقَــ ُهَ ،و َكتَبــوا َعلَيْــ ِه َشــ ْرطاً -قــا َلَ :وأَ َخــ َذ عليهــم أَ ّل يَ ُشــ ّقوا َعصــاًَ ،ولا يُفا ِرقــوا َجما َعــةً مــا قــامَ لَ ُهــ ْم بِ َشــ ْر ِط ِه ْم. قا َل :فَقا َل لَ ُه ْم :ما تُريدو َن؟ قالوا :نُري ُد أَ ّل يَأْ ُخ َذ أَ ْه ُل ال َمدينَ ِة َعطاءً. قـا َل :لا فَ ِإنَّمـا َهـذا المـا ُل لِ َمـ ْن قاتَـ َل َعلَيْـ ِهَ ،ولِ َهـ ُؤلا ِء ال ُّشـيو ِخ ِمـ ْن أَ ْصحـا ِب َرســو ِل الل ِه ﷺ. قــا َل :فَ َرضــوا بِ َذلِــ َكَ ،وأَقْبَلــوا مَ َعــ ُه إِلَــى ال َمدينَــ ِة راضيــ َن ،فَقــامَ فَ َخ َطــ َب، فَقـا َل :إِنّـي مـا َرأَيْـ ُت والل ِه َوفْـداً فـي الأَ ْر ِض ُهـ ْم َخيْـ ٌر لِ َح ْوباتـي ِمـ ْن َهـذا ال َوفْـ ِد الَّذيـ َن قَ ِدمـوا َعلَـ َّي ،...أَلا مَـ ْن كا َن لَـهُ َز ْر ٌع فَلْيَلْ َحـ ْق بِ َز ْر ِعـ ِهَ ،و َمـ ْن كا َن لَـهُ َضـ ْر ٌع فَلْيَ ْحتَ ِلــ ْب. قـا َل الـراوي :ثُـ َّم َر َجـ َع ال َوفْـ ُد ال ِم ْصريّـو َن راضيـ َن ،فَبَيْنـا ُهـ ْم فـي ال َّطريـ ِق إِذا ُهـ ْم بِرا ِكـ ٍب يَتَ َعـ َّر ُض لَ ُهـ ْم ثُـ َّم يُفا ِرقُ ُهـ ْم ثُـ َّم يَ ْر ِجـ ُع إِلَيْ ِهـ ْم ،ثـم يفارقهـم ويتبينهـم قـا َل :قالـوا لَـ ُه :مـا لَـ َك؟ إِ َّن لَـ َك لأَ ْمـراً! مـا َشـأْنُ َك؟ قا َل :فَقا َل :أَنا َرسو ُل أَمي ِر المـُ ْؤ ِمني َن إِلَى عا ِم ِل ِه بِ ِم ْص َر. فَ َفتَّشـوهُ ،فَـ ِإذا ُهـ ْم بِال ِكتـا ِب علـى لِسـا ِن ُعثْمـا َن َ ،علَيْـ ِه خاتَ ُمـهُ إِلَـى عا ِم ِلـ ِه بِ ِم ْصـ َر أَ ْن يُ َصلِّبَ ُهـ ْم أَ ْو يُ َقتِّلَ ُهـ ْم أَ ْو يُ َق ِّطـ َع أَيْديَ ُهـ ْم َوأَ ْر ُجلَ ُهـ ْم ِمـ ْن ِخـا ٍف. قـا َل :فَأَقْبَلـوا َحتَّـى قَ ِدمـوا ال َمدينَـةَ ،قـا َل :فَأَتَـ ْوا َعليّـاً ،فَقالـوا :أَلَـ ْم تَـ َر إِلَـى َعـد ِّو الل ِه! إِنَّـ ُه َكتَـ َب فينـا بِ َكـذا َو َكـذاَ ،وإِ َّن اللهَ قَـ ْد أَ َحـ َّل َدمَـهُ ،قُـ ْم َم َعنـا إِلَيْـ ِه ،قـا َل: واللهِ لا أَقــومُ َم َع ُكــ ْم ...إِلَــى أَ ْن قالــوا :فَ ِلــ َم َكتَبْــ َت إِلَيْنــا؟ فَقــا َل :واللهِ مــا َكتَبْــ ُت إِلَيْ ُكـ ْم ِكتابـاً قَـ ُّط ،قـا َل :فَنَ َظـ َر بَ ْع ُض ُهـ ْم إِلَـى بَ ْعـ ٍض ،ثُـ َّم قـا َل بَ ْع ُض ُهـ ْم لِبَ ْعـ ٍض :أَلِ َهـذا تُقاتِلـو َن ،أَ ْو لِ َهـذا تَ ْغ َضبـو َن! 176
قا َل :فانْ َطلَ َق َعل ٌّي ،فَ َخ َر َج ِم َن ال َمدينَ ِة إِلَى قَ ْريَ ٍة. قا َل :فانْ َطلَقوا َحتَّى دَ َخلوا على ُعثْما َن ،فَقالواَ :كتَبْ َت فينا بِ َكذا َو َكذا! أَ ْو ُهمــا اثْنَتــا ِن :أَ ْن تُ َكقتَيبْـمـــ ُوتا َو َعللَاــأَ َّمْيلَلَْرــ ُجلَُيْتــ َو ِنلا ِمــَع ِل َن ْماـلـم ُـُتــ.س ِلمي َن، إلــه إلا هــو مــا قــا َل :فَقــا َل :إِنَّمــا يَمينــي بــالله الــذي لا قـا َل َ :وقَـ ْد تَ ْعلَمـو َن أَ َّن ال ِكتـا َب يُ ْكتَـ ُب علـى لِسـا ِن ال َّر ُجـ ِلَ ،وقَـ ْد يُنْ َقـ ُش الخاتَـ ُم علـى الخاتَـ ِم. قا َل :فَقالوا :فَ َق ْد واللهِ أَ َح َّل اللهُ َد َم َكَ ،ونَ َق ْض َت ال َع ْه َد والميثا َق. قا َل :فَحا َصروهُ. فأَ ْش َر َف َعلَيْ ِه ْم ُعثْما ُن ذا َت يَ ْو ٍم ،فَقا َل :ال َّسلا ُم َعلَيْ ُك ْم. قا َل :فَما َس ِم َع أَ َحداً ِم َن النّا ِس َر َّد َعلَيْ ِه إِ ّل أَ ْن يَ ُر ّدَ َر ُج ٌل في نَ ْف ِس ِه. فَقـا َل :أَنْ ُشـ ُد ُك ْم بِـالل ِه َهـ ْل َع ِل ْمتُـ ْم أَنّـي ا ْشـتَ َريْ ُت رو َمـ َة ِمـ ْن مالـي يُ ْسـتَ ْع َذ ُب بيَِهْمـنَا ُع،نـفَ َيجأَعَلْْنـأَ ُ ْتشـ ِر َرش َـبائ ِمنْيه ِمـناْهـَحاتَّـ َك ِرى أُشفْـاط ِءـ َرَر ُجعـلـ ٍلى ِمـمـَنا ِاءلالمبَـُـ ْحسـ ِلِر!مي؟ َن! فقيـ َل :نَ َعـ ْم .قـا َل :فَمـا قـا َل :أَنْ ُشـ ُد ُك ُم اللهَ َهـ ْل َع ِل ْمتُـ ْم أَنّـي ا ْشـتَ َريْ ُت َكـذا َو َكـذا ِمـ َن الأَ ْر ِض فَ ِز ْدتُـ ُه فـي ال َم ْسـ ِج ِد؟ قيـ َل :نَ َعـ ْم ،قـا َل :فَ َهـ ْل َع ِل ْمتُـ ْم أَ َحـداً ِمـ َن النّـا ِس ُمنِـ َع أَ ْن يُ َصلّـ َي فيـ ِه قَبْلـي!؟ قـا َل :أَنْ ُشـ ُد ُك ُم اللهَ ،هـل سـمعتم نبـ َّي الله ﷺ يذكـر كـذا وكـذا -أشـياء فـي شـأنهَ ،و ِذ ْكـ ِر اللهِ إيّـاهُ أَيْضـاً فـي ِكتابِـ ِه المـُـ َف َّص ِل .- قا َل :فَ َفشا النَّ ْه ُي. قا َل :فَ َج َع َل النّا ُس يَقولو َن :مَ ْهلا َع ْن أَمي ِر المـُؤ ِمني َن ،قا َلَ :وفَشا النَّ ْه ُي. قـا َلَ :وقـا َم الأَ ْشـتَ ُر -قـا َلَ :ولا أَ ْدري يَ ْومَئِـ ٍذ أَ ْو فـي يَـ ْو ٍم آ َخـ َر -فَقـا َل :لَ َعلَّـهُ قَـ ْد ُم ِكـ َر بِـ ِه َوبِ ُكـ ْم! قـا َل :فَ َو ِطئَـهُ النّـا ُسَ ،حتَّـى لَقـ َي َكـذا َو َكـذا ،قـا َل :فَ َرأَيْتُـ ُه أَ ْشـ َر َف َعلَيْ ِهـ ْم َمـ َّرةً أُ ْخـ َرى ،فَ َو َع َظ ُهـ ْم َوذَ َّك َر ُهـ ْم ،فَلَـ ْم تَأْ ُخـ ْذ في ِهـ ُم ال َم ْو ِع َظـةُ. 177
َوكا َن النّـا ُس تَأْ ُخـ ُذ في ِهـ ُم ال َم ْو ِع َظـةُ أَ َّو َل مـا يَ ْسـ َمعونَها ،فَـ ِإذا أُعيـ َد ْت َعلَيْ ِهـ ْم لَـ ْم تَأْ ُخـ ْذ في ِهـ ْم(.)1 َرأ َى أَنَّـ ُه ِم َن َوذا َك قـا َل: يَ َديْـ ِه بَيْـ َن أََوفْ َوِطـ َ ْضرـ َِععنْا َدلنمـاـُـال ْلَّصيْلَ َحـ َةَ.ف ثُـ َّم إِنَّـ ُه فَتَـ َح البـا َب قـا َل: نبـ َّي الله ﷺ يَقـو ُل: اللّيـل أن بَيْــ َدَن يََخـَديْ َـلـ ِهعل-ـ قىــا ُعثَْل:مـفاَيَ َنْهــوي َرلَـُـجهُ ٌلبِ،الفَ َّقســـايْ َلِ:فبَ،يْنفايتَّق َوــبَايْنهَُ ب َيَكــ ِِكدت ِهـ،ا فَُ َقب اَطللَعهِهــ-اقاَ -لفَ:قــواال َلم:ـُـلا ْصأَ ْدَحر ُفي أَبانَهـا أَمْ قَ َط َعهـا َولَـ ْم يَبِنْهـا - قا َل :فَقا َل :أَما واللهِ إِنَّها لأَ َّو ُل َك ٍّف َخ َّط ِت المـُ َف َّص َل. قـا َل َوأَ َخـ َذ ِت ابْنَـ ُة ال ُفرافِ َصـ ِة( )3حليلَهـا فَ َو َض َعتْـ ُه فـي ِح ْج ِرهـاَ ،و َذلِـ َك قَبْـ َل أَ ْن يُ ْقتَـ َل ،فَلَ ّمـا قُتِـ َل تجافَـ ْت عنـ ُه ،فَقـا َل بَ ْع ُض ُهـ ْم :قاتَلَهـا اللهُ! مـا أَ ْع َظـ َم َعجي َزتَهـا! قـا َل :فَ َع ِل ْمـ ُت أَ َّن َعـد َّو الل ِه لَـ ْم يُـ ِر ْد إِ ّل ال ُّدنْيـا. بتحليل هذه الحادثة نلاحظ: - 1أَ َّن سـي َدنا عثمـا َن ِ عنْدمـا َع ِلـ َم بالوفْـ ِد المصـر ِّي لـم ي َشـأْ أ ْن يسـتقبِلَهم فـي المدينَـة. - 2ثـم إِ َّن ُعثْمـان والمحت ّجيـ َن تَحا َكمـوا إِلـى ِكتـا ِب الل ِه ،وانتهـى الحـوار بينهـم إلـى تحديـد شـرو ٍط يلتزمهـا ال َّطرفـان ،أو َضـح النَّـ ُّص شـرطاً واحـداً منهــا ،وقــد َوردَ فــي روايــ ِة مح ّمــد بــ ِن ســيْري َن َهــذ ِه ال ُّشــرو ِط ،قــا َل: فاصطلحــوا علــى خمــ ٍس :علــى أ ّن ال َمنْفــ َّي يُ ْقلــب ،والمحــرومَ يُ ْع َطــى، ويوفَّــ َر ال َفــيءَُ ،ويُ ْعــ َد ُل فــي القســ ِم ،ويُســتَ ْعم َل ذو الأَمانَــ ِة والقــ َّوة)(.)2 - 3فـي ق َّصـ ِة ال ّراكـ ِب -الـذي ادَّعـى أنَّـه يَح ِمـ ُل ِرسـال ًة مـن ُعثما َن - شـيءٌ ُمريـ ٌب للغايـ ِة ،فالمـُـ ْفترض أَ َّن ال َّرسـو َل الـذي يُكلَّـف بمه َمـ ٍة سـ ّري ٍة أ ْن لا ( )1تاريخ الطبري.415 -414/3: ( )2زوجة سيدنا ُع ْثمان . ( )3تاريخ الإسلام للذهبي.242/2: 178
يكـو َن َم ْعروفـاً ،وأ َّن يَكـو َن ُمتحـ ِّرزاً مـ ْن أ ْن يُ ْك َشـف ،أَ ّمـا حامـ ُل ال ِكتـا ِب فـي هـ ِذه الحا ِدثَـ ِة ف َقـ ْد كا َن هـ َو الـذي يتعـ َّر ُض للوفَـ ِد ،ويَلْ ِفـ ُت الأَنْظـا َر نحـوه، كأنَّـه يُح ِّرضهـم علـى كشـ ِف حالِـ ِه وإِطلا ِعهـم علـى مُه َّمتِـه ال َخطيـرة؟!. - 4ثــ َّم كشــ َف ْت لنــا ال ِّروايَــةُ أمــراً شــدي َد ال ُخطــو َرة ،وهــو أَ َّن أَ ْعضــاءَ ال َوفْــ ِد ادَّعـوا أنَّهـم تل َّقـوا ُكتبـاً ِمـ ْن سـيِّدنا علـ ِّي بـ ِن أَبـي طالِـ ٍب يح ُّضهـم علـى الخـرو ِج مـن مصـ َر والحضـو ِر إِلـى المدينـ ِة للقضـا ِء علـى ُعثمـان ؟! وسـي ُدنا علـ ٌّي قـ ْد نَفـى ذلِـ َك نفيـاً ُم ْطلقـاً. هـذا وقـد ذكـر ابـن كثيـر فـي تاريخـه( )1نـ َّص كتـا ٍب آ َخـر ادُّعـ َي أَ َّن الـذي كتبتـه السـيدة عائشـة .فقـد روى مـن طريـق أَبـي ُمعاويَـ َةَ ،عـ ِن الأَ ْع َمـ ِشَ ،عـ ْن َخيْثَ َمةَ، َعـ ْن مَ ْسـرو ٍق قـا َل :قالَـ ْت عائِ َشـ ُة حيـ َن قُتِـ َل ُعثْمـا ُن :تَ َر ْكتُمـوهُ كالثَّـ ْو ِب النَّقـ ِّي ِمـ َن ال َّدنَـ ِس ثُـ َّم قَتَلْتُمـوهُ ،قَ َّربْتُمـوهُ ثـ َّم ذَبَ ْحتمـوهُ َكمـا يُ ْذبَـ ُح ال َكبْـ ُش؟! فَقـا َل لَهـا َم ْسـرو ٌقَ :هـذا َع َملُـ ِك ،أَنْـ ِت َكتَبْـ ِت إِلَـى النّـا ِس تَأْ ُمرينَ ُهـ ْم أَ ْن يَ ْخ ُرجـوا إِلَيْـ ِه!. مــا َكتَبْــ ُت إِلَيْ ِهــ ْم بِــ ِه الكافِــرو َن، والَّــذي آ َمــ َن بِــ ِه المـُــ ْؤ ِمنو َنَ ،و َك َفــ َر فَقالَــ ْت :لا فَكانـوا يَـ َر ْو َن أَنَّـ ُه قـا َل الأَ ْع َمـ ُش: بَيْضـاءَ َحتَّـى َجلَ ْسـ ُت مَ ْج ِلسـي َهـذا. َسـ ْوداءَ فـي ُكتِـ َب علـى لِسـانِها. قــال الإمــام ابــن كثيــر رحمــه اللهَ « :و َهــذا إِ ْســنادٌ َصحيــ ٌح إِلَيْهــاَ .وفــي َهــذا َوأَ ْمثالِــ ِه َدلالَــ ٌة ظا ِهــ َرةٌ علــى أَ َّن َهــ ُؤلا ِء ال َخــوا ِر َج ،قَبَّ َح ُهــ ُم اللهَُ ،ز َّوروا ُكتُبــاً علــى لِسـا ِن ال َّصحابَـ ِة إِلَـى الآفـا ِق ،يُ َح ِّرضونَ ُهـ ْم علـى قِتـا ِل ُعثْمـا َن َ ،كمـا قَ َّد ْمنـا بَيانَـهُ .وللهِ ال َح ْمـ ُد وال ِمنَّـةُ». وقـد نبَّـهَ ُعثمـا ُن ِ مـ ْن ِخـال هـذا النَّـ ِّص إِلـى أ َّن التَّزويـ َر الـذي ح َصـ َل لـم يَ ْقتَصـ ْر علـى تَزويـ ِر ال ِكتـا ِب بـ ْل تعـ ّداه إِلـى تزويـ ِر الخاتـم ،ف َقـ ْد نَفـى أ ْن يكـو َن الكتـا ُب بخاتَ ِمـه ن ْف ِسـه. ( )1البداية والنهاية.195/7: 179
- 5هـذه الحقائـق التـي تق َّدمـت تُشـي ُر إلـى أ َّن وراء الحـادث مؤا َمـرةٌ تُحـا ُك، أَبطالُهــا متخ ّفيــن وراءَ ِســتا ٍر لا يظهــرون ،ويقومــون بصياغــة الحــوادث بشـك ٍل يو ِهـ ُم العا ّمَـة والغوغـاء أ َّن ال َّصحابَـ َة كانـوا َوراءَ الخـرو ِج كمـا ت َّدعيـه ال ِّروايـات المزيَفـة. - 6وعندمـا حـاو َر عثمـا ُن المحتَ ّجيـ َن الذيـن مَنعـوا عنـهُ المـاءَ تُشـي ُر ال ِّروايَ ُة مـن جديـ ٍد إِلـى المؤامـر ِة التـي حيْ َكـ ْت ضـ َّد ُعثْمـا َن ،يظهـ ُر ذلِـ َك ِمـ ْن ِخـا ِل قـو ِل مالِـك الأَ ْشـتر -وقَـ ْد كا َن لـ ُه دو ٌر كبيـ ٌر فـي أَ ْحـدا ِث الفتنَـة ومـا تَبِعهـا \" :-لعلَّـه قـ ْد ُمكـ َر بـ ِه وب ُكـم\". وقــد رأَيْنــا كيــ َف وع َظهــم عثمــا ُن واســتد َّل علــى ســبْ ِقه ومناقبِــ ِه فــي ال ِإسـا ِم مـن ِخـا ِل الأَعمـا ِل التـي قـا َم بهـا ،وكا َن سـبباً ل ُدعـا ِء النَّبـ ِّيﷺ لـهُ فـي أكثـ َر ِمـ ْن ُمناسـبَ ٍة ،وهـذا الـذي جـاءَ يتقا َطـ ُع مـع مـا َوردَ فـي مَناقِبـ ِه فـي ُكتُـ ِب الحديـ ِث ال ِّصحـا ِح. هـذا ولقـد كان مـن آثـار هـذه الحادثـة أن ع َّمـت الفتنـة العـراق كوفـة وبصـرة، وامتـدت إلـى أطـراف بلاد الشـام ،وجـرت الأحـداث الجسـام والحوادث المشـينة مـن قتـل وهـرج وخـاف ،أدى إلـى حربيـن مؤسـفتين (الجمـل وصفيـن) ذهـب ضحيتهـا عشـرات الألاف صرعـى ،ولـم تنتـه إلا وقـد حـدث شـرخ عظيـم ،أدى فــي نهايــة المطــاف باستشــهاد الخليفــة الراشــدي الرابــع ســيدنا علــي بــن أبــي طالـب علـى يـدي ابـن ملجـم. امتدت هذه الفتن لخمس سنوات عجاف ( 40 - 35هـ). * * * 180
ثانياً ـ فتنة الحرة: سـبب هـذه الفتنـة خـروج قسـم مـن أهـل المدينـة فـي سـنة 63ﻫ علـى يزيـد بـن معاويـة ثانـي خلفـاء الأموييـن دفعهـم الحمـاس والغيـرة علـى الديـن إلـى خلعـه، ومنهـم بعـض الفقهـاء ،ولقـد اعتمـدت ثـورة أهـل المدينـة علـى فتـوى هـؤلاء العلمـاء فـي مقاومـة حكـم يزيـد بـن ُمعاويَـة. إ ّل أن معظـ ُم ال َّصحابَـة الذيـ َن امتـ َّد بهـم العمـر إلـى هـذا التاريـخ -منهـم عبـد الله بـن عمـر بـن الخطـاب ،والنعمـان بـن بشـير -ومعهـم بعـ ٌض مـن كبـار التابعيـ َن، مـن أمثـال سـعيد بـن المسـيب ،ومحمـد بـن الحنفيـة ،وزيـن العابديـن (علـ ّي بـن الحسـين) ،وعبـد الله بـن جعفـر ،وغيرهـم ،لـم يشـت ِركوا فـي هـذه الفتنـة ولـم يرضـوا بهـا ،بـل حاولـوا إقنـاع الثائريـن بعـدم خلـع يزيـد والخـروج علـى حكمـه. وأمــا أهــ ُّم الأســباب وال َّدوافــع التــي قامــت عليهــا حركــة أهــل المدينــة فــي الخــروج علــى يزيــد حســب ادعــاء أهلهــا فهــي: ● الأمــر بالمعــروف والنهــي عــن المنكــر؛ لأن بنــي أميــة قــد تجــاوزوا فــي حكمهــم حــدود الشــريعة. ● عدم تمتّع الخليفة بالكفاءة والعدالة في شخصه. كل ذلـك بعـد أَ ْن كانـوا قـد أعطـوا البيعـة ليزيـد ،لكنهـم وللأسـباب الآنفـة رأوا أنـه يجـوز لهـم نقـض البيعـة وخلـع يزيـد نظـراً لعـدم كفاءتـه وصلاحـه للحكـم، وهـو أمـر خالفهـم فيـه عامـة الصحابـة؛ لأَنَّ ُهـم يـرون أَ َّن نقـض البيعـة لا يجـوز، وأ َّن فسـو َق الحاكـم لا يوجـب الخـروج عليـه. يضـاف إلـى ذلـك خـوف علمـاء الصحابـة وكثيـر مـن الفقهـاء علـى أهـل المدينـة مـن القتـل ،وانتهـاك قدسـية مدينـة رسـول الله ﷺ ،وقـد وقـع ذلـك بالفعل. قــام الثائــرون بمحاصــرة بنــي أميــة فــي المدينــة فــي دار مــروان بــن الحكــم، فبلـغ ذلـك يزيـد فـأرد أَ ْن يخلِّصهـم مـن هـذا الحصـار قبـل أَ ْن يُقتلـوا أو يَحـ َّل بهـم 181
مكـروه ،فأمـر بتجهيـز جيـش ليذهـب إلـى المدينـة ،فيخلِّـص بنـي أميَّـة ،ويـردّ هؤلاء المتمرديـن إلـى الطاعـة ،وعيَّـن مسـلم بـن عقبـة المـ ّري قائـداً للجيـش ،وأمـ َره أَ ْن يدع َوهـم ثلاثـاً ،فـإ ْن َرجعـوا إلـى الطاعـ ِة ،قَبِـ َل منهـم وكـ َّف عنهـم ،وإ ّل قاتلهـم. سـار مسـل ٌم إلـى المدينـة فوجـد بنـي أميـة قـد أُخرجـوا منهـا ،وسـاروا تجـاه الشـام، فاســتوقفهم وســألهم عــن الوضــع فــي المدينــة ،فلــم ينطقــوا بجــواب ،وكان أهــل المدينـة ،قـد أطلقـوا حصارهـم بعـد أَ ْن أخـذوا عليهـم العهـود والمواثيـق أ ّل يدلـوا علـى عـورة ولا يعاونـوا عـد ّواً ،ف َغ ِضـ َب مسـل ٌم منهـم غضبـاً شـديداً ،ولـم يهـ ِّدئ غضبَه إ ّل عبـد الملـك بـن مـروان الـذي دلَّـه علـى الخ َّطـة التـي يَجـ ُب اتِّبا ُعهـا فـي حـرب المدينـة ،فأشـار َعليـه بـأ ْن يأْتيَهـا ِمـ ْن ِج َهتِهـا الشـرقية ،ويلحـق فـي الجنـوب منهـا، ليواجـه أهـل المدينـة فـي مـكان يسـمى الحـ َّرة ،وتأتـي الشـمس أمـام جيـ ِش الشـام فتلمــع خ َو ُذهــم وســاحهم فيُر ِهبــون عدوهــم ،وتكــون لهــم الســيطرة مــن الوجهــة الحربيـة ،وهـذا مـا قـام بـه ففـي آواخـر شـهر ذي الحجـة سـنة ( 63هــ) التقـى جيـش الشـام بقيـادة مسـل ٌم بجيـش أهـل المدينـة ،وانتهـت المعركـة لصالـح جيـش الشـام، وقُتِـل عـدد كبيـ ٌر مـن القـادة ووجـوه النّـاس ،منهـم عـدد مـن الصحابـة . وبعـد انتهـاء معركـة الحـ ّرة أحضـر مسـلم مدبّـري الفتـن واسـتعرضهم ،وطلـب إليهـم أَ ْن يبايعـوه علـى أنّهـم َخـ َو ٌل ليزيـد ،ويحكـم فـي أهلهـم ودمائهـم وأموالهـم مـا يشـاء ،فلـم يقبلـوا بـأن يبايعـوا هـذه البيعـة فقتلهـم ،وكان يريـد أَ ْن يقضـ َي علـى فتنتهــم بال َّصغــا ِر ،والحــ ِّط مــن منزلتهــم والتحقيــر مــن شــأنِهم ،بحيــث يُعتبــرون عبيـداً ،هـم ومـا يملكـون .وهـذا انحـراف عظيـم وتجـاوز لحـدود مـا شـرع الله . لقـد كانـت وقعـة الحـ َّر ِة ومـا تلاهـا مصيبـة(\" :)1مـن أكبـر مصائـب الإسـام و ُخرومـه؛ لأن أفاضـل المسـ ِلمي َن وبقيـة الصحابـة وخيـار المسـ ِلمي َن مـن ِجلَّـة التابعيـن قُتِلـوا فيهـا\" .كمـا قـال ابـن حـزم. ( )1إنما قلنا إنها من أكبر المصائب؛ لأن النبيﷺ جعل المدينة حرم ًا فانتهكت تلك الحرمة. 182
ولمـا بلـغ يزيـد خبـر أهـل المدينـة ومـا وقـع بهـم قـال\" :واق ْومـاه\" ثـم دعـا ال َّض ّحـا َك ابـ َن قيْـ ٍس ال ِف ْهـر َّي فقـال لـه\" :تـرى مـا لقـي أهـل المدينـة ،فمـا الـ َّرأ ُي الـذي يَ ْجبُرهـم؟\" قـال\" :ال َّطعـامُ والأُعطيَـةُ\" فأمـر ب َحمـ ِل الطعـام إليهـم وأفـا َض عليهـم أُعطيَتَـه. موقف ابن عمر من هذه الفتنة: يح ُسـن بنـا هنـا أن ننـ ّوه بموقـف سـيدنا عبـد الله بـن عمر مـن هـذه الحادثة، فقـد قدمنـا أَ َّن َكثيـراً ِمـ ْن ُعلَمـا ِء المدينـ ِة وأَعيانِهـا مـن ال َّصحابـ ِة والتَّابعيـ َن اعتـرض علـى َخلـ ِع يزيـ َد فلـم يؤيـدوا مـن قـام بالخـرو ِج ،بـل نصحـوا إخوانهـم واعتزلـوا الفتنـة ،وفـي مقدمـة هـؤلاء عبـد الله بـن عمـر بـن الخطـاب فإنَّـ ُه لَ َّمـا َخلَـ َع أَ ْهـ ُل ال َم ِدينَـ ِة يَ ِزيـ َد بْـ َن ُم َعا ِويَـةََ ،ج َمـ َع َح َشـ َم ُه َو َولَـ َدهُ ،فَ َقـا َل« :إِنِّـي َسـ ِم ْع ُت النَّبِـ َّي ﷺ يَ ُقـو ُل« :يُنْ َصـ ُب لِـ ُك ِّل َغـا ِد ٍر لِـ َواءٌ يَـ ْو َم ال ِقيَامَـ ِة»َ ،وإِنَّـا قَـ ْد بيَُِمباَنْياَيَُْعكـنَـ َـعاْم َر َهَخُـجلَـَذَعا ٌـلاهُلَ،عَّرلَ َـوُجلـىاَ َلببََيْاـيََعـِلَعـَعاللفىِ ِهـبَيْ َويـ َرِعَه ُـسالـ َلذاِهولِا َِهول َأرثَُـْمُسـ َّمـ ِريُو،نْلِإِ ِهََّص،لـ َو َكُإِابنِّنَـلـَـي ُِهتلالااَلِقأََتفَيـْْعالَ َـُصلـُ،م َلَوَغإِبـَنِّيْـْنِدـ ًريايلأَاَ َْوعبأََيَْظ ْنعَــلَـَمهُ»ُمِ(مـأ.َْ )َ1نحـأَد ْناً فقـد عـا َر َض ابـ ُن ُع َمـ َر مـن خـرج مـن أهـل المدينـة لنقـض البيعـة ،فهـم لـم يفعلـوا مثـل الحسـين ،حيـث كان موقفـه واضحـاً منـذ البدايـة ،ولـم يعـ ِط البيعـة. هـذا ولقـد اسـتد َّل الحافـظ اب ُن حجـر رحمـه الله بموقِ ِف ابـ ِن ُع َمـ َر ،والأحاديث التـي استشـهد بهـا علـى وجـوب طاعـة الإمـام الـذي انعقـدت لـه البيعـة ،والمنـع مـن الخـروج عليـه ،ولـو جـا َر فـي ُح ْك ِمـه ،وأنـه لا ينْ َخ ِلـ ُع ولا يُ ُخلَ ُع بالفسـق(.)2 والواقـع أَ َّن موقـف ابـن عمـر يـدل علـى تحريـم الغـدر بـكل أشـكاله ،وفـي جميـع مواضعـه ،بمـا فيهـا غـدر الأُ ّمَـ ِة برئيـ ِس ال َّدولَـة الـذي تـم اختيـاره - ،وهـو أي ابـن عمـر - مـع وفائـه ببيعـة يزيـد ،اعتـزل القتـال ولـم يشـارك أيّـاً مـن ( )1أخرجه البخاري في كتاب الفتن ،باب إذا قال عند قو ٍم ش ْيئ ًا ثم قال بِ ِخلافِ ِه :رقم (.)7111 ( )2انظر :فتح الباري ،لابن حجر.60/13: 183
ال َّطرفيــ ِن ،فهــذا موقــف شــيْ ِخ ال َّصحابــ ِة فــي َع ْصــ ِر ِه ،وأَ ْو َرع النّــا ِس وأزهدهــم وأفقههــم فــي ديــن الله ،الــذي قالَــ ْت عنْــهُ ال َّســي َدةُ عائ َشــ ُة َ « :مــا َرأَيْــ ُت أَلْــ َزمَ لِ ْلَمْـ ِر ا ْلَ َّو ِل ِمـ ْن َعبْـ ِد ال َّ ِل بْـ ِن ُع َمـ َر»(.)1 سبب فشل الخارجين على يزيد من أهل المدينة: لقد كان محكوماً على حركة أهل المدينة بالفشل ،لعدة اعتبارات ،منها: تفـ ُّرق صفوفهـم فلـم يكـن لهـم قائـ ٌد واحـ ٌد ،وقـد تنبّـأَ عبـ ُد الل ِه بـ ُن عبَّـا ٍس عحلاـلِ ِهىـ امل:أَنفقيصــا َل ِرا.سفـقتَـعا َمللاوباـعنبـعَدباـلالهَ بسـ َن م:طيأـم ٍيعـرعالـن؟ى بهـذه النَّتيجـ ِة عندمـا سـأَ َل َعـن قريـ ٍش ،وعبـ َد اللهِ بـ َن حنْ َظلَـةَ َهلـ َك القـو ُم. ولـو حصـل الانتصـار ،فدواعـي اشـتعال الفتنـة موجـودة فمـن يكـون الخليفـة؟ هـل يتولاهـا رجـل مـن قريـش أو مـن الأنصـار؟ فهـم لـم يعلنـوا أنَّ ُهـم تَبَـ ٌع لابـ ِن ال ُّزبَيـ ِر. وســبب تفرقهــم عــدم وضــوح الهــدف الــذي يريــدون تحقيقــه إذا تــ ّم لهــم خلــع يزيـد وانتصـروا ،فهـل كان هدفهـم مـن خلـع يزيـد أَن تكـون لهـم إمـارة مسـتقلة؟ وهـذا غيـر ممكـن .أم كان هدفهـم توليـة الخلافـة شـخصاً غيـره ،ف ِلـ َم لـم يرفعـوا رايـة هـذا الشـخص ،بمعنـى أ ّن الرايـة كانـت عميَّـة ،وقـد نهـى ﷺ عـن القتـال تحـت رايـة عميَّـ ٍة. جـاء فـي منهـاج السـنة النبويـة(َ ...\" :)2وقَ َّل مَـ ْن َخـ َر َج َعلَى إمَـا ٍم ِذي ُسـلْ َطا ٍن إِ ّل َكا َن َمـا تَ َولَّـ َد َعلَـى فِ ْع ِلـ ِه ِمـ َن ال َّشـ ِّر أَع َظـ َم ِم َّمـا تَ َولَّـ َد ِمـ َن الخيـ ِرَ ،كالَّ ِذيـ َن َخ َر ُجـوا َعلَــى يَ ِزيــ َد بِالم ِدينَــ ِة ... ،فَ ُه ِز ُمــوا َو ُهــ ِز َم أَ ْص َحابُ ُهــ ْم ،فَــا أَقَا ُمــوا ِدينــاً َولا أَب َقــوا ُدنيـاَ ... ،واللهُ تَ َعالَـى لا يَأمُـ ُر بِأَمـ ٍر لا يَ ْح ُصـ ُل بِـ ِه َصـا ُح ال ِّديـ ِن َولا َصـا ُح ال ُّدنيـا. ( )1أخرجه الجاكم في المستدرك على الصحيحين.644/3 : ( )2منهاج السنة النبوية.527/4: 184
ثالثاً ـ فتنة عبد الرحمن بن الأشعث وموقف العلماء منها: تُ َعـ ُّد فتنـ ُة ابـ ِن الأَ ْشـع ِث مـ َن الفتـ ِن التـي هـ َّزت الأمـة الإسـامية ،وكادت تطيـح بالخلافـة زمـن بنـي أميـة؛ وقـ ْد كان ابتداؤهـا سـنة إِ ْحـدى وثمانيـ َن ،واسـتمرت إلــى ســنة خمــس وثمانيــن للهجــرة ،وكان مــن شــأن ابــ ِن الأَ ْشــع ِث مــا ل َّخ َصــه الحافـظ ابـن كثيـر فـي تاريخـه (.)1 قــال ابــن كثيــر رحمــه الله :وســبب هــذه الفتنــة أن الحجــاج كان يبغــض ابــن الأشـعث ،وكان هـو يفهـم ذلـك ويضمـر لـه السـوء ،وزوال الملـك عنـه ،فلمـا أمّـره الحجـاج علـى ذلـك الجيـش ...وأمـره بدخـول بـاد رتبيـل ملـك التـرك فمضـى ...ثـم رأى لأصحابـه أن يقيمـوا حتـى يتقـوا إلـى العـام المقبـل ،فكتـب إلـى الحجـاج بذلـك ،فكتـب إليـه الحجـاج يسـتهجن رأيـه فـي ذلـك ،ويسـتضعف عقلـه ،ويقرعـه بالجبـن والنكـول عـن الحـرب. قـال ابـن كثيـر رحمـه الله :فغضـب عبـد الرحمـن بـن الأشـعث ،وقـال :يكتـب إلــ ّي بمثــل هــذا وهــو لا يصلــح أن يكــون مــن بعــض جنــدي ،ولا مــن بعــض خدمـي لخـوره وضعـف قوتـه؟ إلــى أن قــال :جمــع رؤوس أهــل العــراق ،وقــال لهــم :إن الحجــاج قــد ألــ ّح عليكـم فـي الإيغـال فـي بـاد العـدو ،وهـي البـاد التـي قـد هلـك فيهـا إخوانكـم بالأمـس؛ وأخبرهـم بمـا كتـب إليـه الحجـاج مـن الأمـر بمعالجـة رتبيـل ،فثـار إليـه النـاس ،وقالـوا :لا بـل نأبـى علـى عـدو الله الحجـاج ،ولا نسـمع لـه ولا نطيـع. ثـم أقبـل ابـن الأشـعث بالجنـود الذيـن معـه مقبـاً مـن سجسـتان إلـى الحجـاج ليقاتلـه ،ويأخـذ منـه العـراق ،فلمـا توسـطوا الطريـق ،قالـوا :إ َّن خل َعنـا للح ّجـاج خلـ ٌع لابـن مـروان؛ فخلعوهمـا وجـ ّددوا البيعـة لابـن الأشـعث ،فبايعهـم علـى كتـاب وسـنة رسـول الله ﷺ . ... ( )1انظر :البداية والنهاية ،لابن كثير ،43/9:وما بعدها. 185
وبايـع ابـن الأشـعث جميـع مـن فـي البصـرة مـن الفقهـاء والقـ ّراء ،والشـيوخ والشــباب ،وخــرج ابــن الأشــعث علــى الحجــاج ومعــه ثلاثــة وثلاثــون ألــف فــارس ،ومئــة وعشــرون ألــف راجــل. فلمـا بلـغ الح ّجـاج مـا صنعـوا ِمـن خلْ ِعـه وخلْـ ِع أميـر المؤمنيـن ،كتـب إلـى الخليفـة بذلـك يُع ِلمـه ،ويسـتعجله فـي بعثـه الجنـود إليـه ،فانزعـج الخليفـة واهتـ ّم وسـعى الناصحـون المصلحـون فـي درء الفتنـة. فكتــب المهلَّــب بــ ُن أَبــي ُص ْفــرة إلــى ابــن الأشــعث يُحــ ِّذره ،وينهــاه عــن الخــروج علــى إما ِمــ ِه وقــال( :إنــك يــا ابــن الأشــعث قــد وضعــت رجلــك فــي ركا ٍب طويــ ٍل ،أَبــ ِق علــى أمَّــة محمــد ﷺ ،الله الله!! انظــر لنفســك فــا تُهلكهــا، ودمـاء المسـ ِلمي َن فـا تسـفكها ،والجماعـة فـا تفرقهـا ،والبيعـة فـا تنكثهـا ،فـإن قلـت :أخـا ُف النّـاس علـى نفسـي! فـالله أحـ ُّق أَ ْن تخافـه مـن النّـاس ،فـا تُع ِّرضهـا لل ِه فــي ســفك د ٍم أو اســتحلال محــر ٍم ،والســام عليــك). ثـم أخـذ الخليفـة عبـد الملـك فـي تجهيـز الجنـود فـي نصـرة الحجـاج فـي قتالـه الخارجيـن علـى الجماعـة ،وجعـل المفتونـون يلت ّفـون علـى ابـن الأشـعث مـن ك ِّل جانـ ٍب. حتـى دخلـوا البَ ْصـ َرة ،فخطـب ابـن الأشـعث وبايعهـم ،وبايعـوه علـى خلـع الخليفـة ونائبـه الحجـاج بـن يوسـف ،وقـال لهـم ابـن الأشـعث( :ليـس الحجـاج بشـي ٍء ،ولكـن اذهبـوا بنـا إلـى عبـد الملـك الخليفـة لنقاتلـه ،ووافقـه علـى خلعهما جميـع مـن بالبَ ْصـ َرة مـن الفقهـاء والقـراء والشـيوخ والشـباب). قـال الحافـظ ابـن كثيـر :وتفاقـم الأمـ ُر و َكثُـ َر ُمتابـع ابـن الأشـعث علـى ذلـك، واشـتد الحـال وتفرقـت الكلمـة جـداً ،وع ُظـم الخطـب واتسـع الخـرق ا.هــ. ثـم التقـى جيـش الخليفـة وجيـش ابـن الأشـعث ،فقـال القـراء الذيـن خلعـوا البيعـة :أيهـا النّـاس قاتلـوا عـن دينكـم ودنياكـم. 186
وقـال عا ِمـ ٌر ال َّشـعب ُّي -وكان مـن الأئمـة ،لكـن ابـن الأشـعث فتَنَـ ُه :-قاتِلوهـم علـى َجو ِرهـم ،واستــغلالهم الضعفـاء!! وإماتتهـم الصلاة. ثـم بـدأَ القتـال ،مـا بيـن كـ ٍّر وفـ ٍّر ،يقتتـل النّـا ُس ك َّل يـو ٍم قِتـالاً شـديداً ،حتـى أصيــب مــن رؤوس النّــاس خلــ ٌق كثيــ ٌر ،واســتمر هــذا الحــال مــ َّدة طويلــ ًة ،ثــم كتـب الخليفـة إلـى ابـن الأشـعث ومـن معـه يقـول« :إ ْن كان يُ ْرضي ُكـم منِّـي عـز ُل الح َّجـا ِج خل ْعتُـه ،وأبقيـ ُت عليكـم أُعطياتِكـم ،وليــخيَّر ابـ ُن الأَ ْشـ َع ِث أ ّي بلـ ٍد شـاء يكـون عليـه أميـراً مـا عـاش وعشـت». فلمـا بلـغ ذلـك ابـن الأشـعث خطـب النّـاس وندبهـم إلـى قبـول مـا عرضـه عليهـم أميـر المؤمنيـن مـن عـزل الحجـاج وإبقـاء الأعطيـات ،فثـار النّـاس مـن كل جانـب ،وقالـوا :والله لا نقبـل ذلـك ،نحـن أكثـر عـدداً وعـ َّدة!! ثـم جـ َّددوا خلـع الخليفـة عبـد الملـك واتفقـوا علـى ذلـك كلهـم ،واسـتمر القتـال بيـن الفئتيـن مئـة يـوم وثلاثـة أيـام -علـى مـا قالـه ابـن الأثيـر .- وصبــر جيــش الخليفــة بقيــادة الحجــاج ،بالحــرب ،فأَمَــ َر بالحملــة علــى كتيبــ ِة ال ُقــ َّرا ِء الذيــن خلعــوا الخليفــة؛ لأ َّن النّــاس كانــوا تَبَعــاً لهــم ،وهــم الذيــن يح ِّرضونهـم علـى القتـال ،والنّـاس يقتـدون بهـم ،فحمـل جيـش الحجـاج عليهـم، فقتـل منهـم خلقـاً كثيـراً ،وبعدهـا انهـزم ابـن الأشـعث ومـن معـه ،فلحقهـم جيـش الحجـاج يقتلـون ويأسـرون ،وهـرب ابـن الأشـعث ومعـه جمـع قليـل مـن النّـاس، فأرسـل الحجـا ُج خلفـه جيشـاً كثيفـاً ليقتلـوه ويأسـروه ففـ َّر ابـن الأشـعث حتـى دخـل هـو ومـن معـه إلـى بـاد ُرتبيـل ملـك التـرك !!!فأكرمـه وأنزلـه عنـده وأَ َمّنَـه وع َّظمـه كيـداً للمسـلمين. هـرب ابـن الأشـع ِث بعـد أَ ْن أثـار فتنـة أهلكـت الحـرث والنسـل ف ُقتِـل ِمـن أتباعـه مَـن قُتِـل ،وأُ ِسـر كثيـ ٌر منهـم ،فقتلهـم الحجـاج بـن يوسـف ،وهـرب مـن بقـي منهـم ،ومنهـم عامـر الشـعبي الإمـام الثقـة ،فأمـر الحجـاج أَ ْن يُ ْؤتـى بالشـعبي فجـيء بـه حتـى دخـل علـى الحجـاج. 187
قـال الشـعبي :فسـلمت عليـه بالإمـرة ،ثـم قلـت :أيهـا الأميـر ،إن النّـاس قـد أمرونـي أَ ْن أعتـذر إليـك بغيـر مـا يعلـم الله أنـه الحـق ،ووالله لا أقـول فـي هـذا المقـام إلا الحـق ،قـد والله تم َّردنـا عليـك وح َّرضنـا ،وجهدنـا كل الجهـد ،فمـا كنـا بالأتقيـاء البـررة ،ولا بالأشـقياء الفجـرة ،لقـد نصـرك الله علينـا ،وأظفـرك بنـا ،فـإن ســطوت فبذنوبنــا ،ومــا جــرت إليــك أيدينــا ،وإن عفــوت عنــا فبحلمــك ،وبعــد فالح َّجـة لـك علينـا. فقـال الحجـاج لمـا رأى اعترافـه وإقـراره :أنـت يـا شـعبي أحـ ُّب إلـ ّي ممـن يدخـل علينـا يقطـر سـيفه مـن دمائنـا ،ثـم يقـول مـا فعلـت ولا شـهدت ،قـد أَ ِمنْـ َت عندنـا يـا شـعبي. ثــم قــال الحجــاج :كيــف وجــدت النّــاس بعدنــا يــا شــعبي؟ وكان الحجــاج يكرمــه قبــل دخولــه فــي الفتنــة. فقـال الشـعبي مخبـراً عـن حالـه بعـد مفارقتـه للجماعـة :أصلـح اللهُ الأمــير؛ قــد اكتحـــل ُت بعــدك الســهر!! واســتوعر ُت الســهول!! واستجلســ ُت الخــوف!! واســتحلي ُت الهــ َّم!! وفقــد ُت صالــ َح الإخــوان!! ولــم أجــد مــن الأميــر خلَفــاً!! فقال الحجاج :انصرف يا شعبي ،فانصر َف آمنا. ثـم شـرع الحجـاج فـي تتبـع أصحـاب ابـن الأشـعث ،فقتلهـم مثنـى وفـرادى!!! حتـى قيـل إنـه قُتِـ َل منهـم بيـن يديـه مئـة ألـف وثلاثيـن ألفـاً!!! منهـم محمـد بـن سـعد ابـن أبـي وقـاص ،وجماعـا ٌت مـن السـادات ،وابـن أبـي ليلـى الفقيـه ،و َطل َحـةُ بـ ُن ُمصـ ِّر ٍف ،وعطـاءُ بـ ُن ال َّسـائ ِب حتـى كان آخرهـم سـعيد بـن جبيـر رحمهـم الله تعالـى. وكان ممـن تبِـع ابـن الأشـعث طائفـة مـن الأعيـان منهـم (مسـلم بـن يسـار، وأبـو الجـوزاء ،وأبـو المنهـال الرياحـي ،ومالـك بـن دينـار) وقـد حاول أن يسـتميل الحسـن البصـري ،وذلـك أنـه قيـل لابـن الأشـعث« :إ ْن سـ َّرك أَ ْن يُقتلـوا حولـك كمـا قُتلـوا حـول جمـل عائشـة ،فأ ْخـ ِر ِج الحسـ َن ،فأرسـ َل إليـه ،فأكر َهـهُ». وعـن ابـن عـون قـال« :اسـتبطأ النّـا ُس أيـام ابـن الأشـعث؛ فقالـوا لـه :أخـ ِر ْج 188
هــذا الشــيخ -يعنــي الحســن -قــال ابــ ُن عــون :فنظــر ُت إليــه بيــن الجســرين، وعليـه عمامـةٌ سـوداء .قـال :فغفلـوا عنـه ،فألقـى نفسـه فـي بعـض تلـك الأنهـار، حتـى نجـا منهـم ،وكاد يومئـ ٍذ أَن يهلـك». وكان ممـن خـرج أيضـاً :وابـن أبـي ليلـى الفقيـه ،و َطل َحـةُ بـ ُن مُصـ ِّر ٍف ،وعطـاءُ بـ ُن ال َّســائ ِب ،وغيرهم. قــال أيــوب :فمــا منهــم مــن أحــد ُصــ ِرع مــع ابــن الأشــعث إ ّل رغــب عــن َمص َر ِعــه ،ولا نجــا أحــد منهــم إلا حمــد الله أَ ْن ســلَّمه!!! ثـم إن الحجـاج كتـب إلـى ُرتْبيـل ملـك التـرك الـذي لجـأ إليـه ابـن الأشـعث، يقــول« :والله الــذي لا إلــه إلا هــو ،لئــن لــم تبعــث إلــ َّي بابــن الأشــعث لأبعثــن إليـك بألـف ألـف مقاتـل ولأخربنّهـا». فلمـا تح َّقـق الوعيـد مـن الحجـاج استشـار فـي ذلـك بعـض الأمـراء فأشـاروا ا ُرلتْأبيشــ ُلع باثبـقب ِنـ اللأأََ ْْنشـي َعخـثّر فقبباـلحضجـعاليجـهديـواعرلهـ،ىويثألاخثـيـذنعاممّــةنأأمتباصاعـرهه،، عليـه بتسـليم ابـن فعنـد ذلـك غـدر فقيَّدهـم بالأصفـا ِد وبعثهـم مـع رسـل الحجـاج إليـه. فلمـا كانـوا ببعـض الطريـق بمـكا ٍن يقـال لـه (الرخـج) صعـد ابـ ُن الأشـعث وهـو مقيـ ٌد بالحديـ ِد إلـى سـطح قصـر ،ومعـه رجـ ٌل مـو َّك ٌل بـه لئـا يفـ َّر فأَلقـى ابـن الأشـعث بنفسـه مـن ذلـك القصـر ،وسـقط معـه المـو َّك ُل بـه فماتـا جميعـاً. قــال الحافــظ ابــن كثيــر :والعجــب كل العجــب مــن هــؤلاء الذيــن بايعــوه بالإمـارة كيـف يعمـدون إلـى خليفـة قـد بويـع لـه بالإمـارة علـى المسـ ِلمي َن مـن سـنين ،فيعزلونـه وهـو مـن صليبـة قريـش ،ويبايعـون لرجـ ٍل هنـد ٍّي بيْ َعـةً لـم يتَّفـق عليهـا أهـل الحـ ِّل والعقـد!!! ولهـذا لــ ّما كانـت هـذه زلَّـةٌ وفلتـ ٌة نشـأ بسـببها شـ ٌّر كثيـر ،هلـك فيـه خلـ ٌق كثيـر ،ف ِإنّـا لله وإِنّـا إِلَيْـ ِه را ِجعـون .ا.هــ. إن فتنـة ابـن الأشـعث كانـت فتنـة عظيمـة ف َّرقـت الكلمـة ،وقتـل فيهـا أكثـر مـن مئـة ألـف مسـلم. 189
في هذه الحادثة درو ٌس و ِعب ٌر منها: أولهـا :أَ َّن للفتـن فـي أول نشـوئها لـ ّذة وحـاوة تسـتهوي كثيـراً مـن النّـاس، إ ّل مَـن عصمـه الله ون ّجـاه ،وقـد خـرج كثيـر مـن القـ ّراء مـع ابـن الأشـعث ،فضـاً عـن عا َمّـة النّـاس ،كان كلامهـم فـي أول الفتـن قويـاً ومهيجـاً ،تكلَّـم ُمتكلِّموهـم، وأبـدع خطباؤهـم ،فـي التحريـض علـى قتـال جنـد الخليفـة. قـال أبـو البختـري :أيهـا النّـاس قاتلوهـم علـى دينكـم ودنياكـم ،فـوالله لئـن ظهــروا عليكــم ليُ ْف ِســ ُد َّن عليكــم دينَكــم ،وليَلُــ َّن علــى دنياكــم. ولـو كانـوا يعلمـون مـا ستــؤول الأمـور إليـه لمـا قالـوا مـا قالـوا ،ولكنهـا الفتـن ْ تَعمـى فيهـا الأبصـار. ـإن ضحاياهـا الأبـرار والفجـار ،قـال الله تعالـىَ ﴿ :وٱ َّت ُقــوا ثانيـاً :إذا وقعـت الفتـن ف ِمن ُكـ ۡم َخآ َّصـ ٗة ۖ َوٱ ۡع َل ُمـ ٓواْ أَ َّن ٱلَّ َل َشـ ِدي ُد ٱ ۡلعِ َقـا ِب [ ﴾٢٥الأنفال]. َظ َل ُمـواْ ٱ َّ ِليـ َن تُ ِصيـ َ َّن َّ فِ ۡت َنـ ٗة ل ذكـر ابـن الأثيـر فـي تاريخـه :أَ َّن الح ّجـاج لمـا غلـب جيـش ابـن الأشـعث أخـذ يبايـع النّـاس وكان ظالمـاً ،وكان لا يبايـع أحـداً إلا قـال لـه :اشـهد علـى نفسـك أنَّـك كفـرت -يعنـي بنقضـك البيعـة وحملـك السـاح -فـإن قـال نعـم بايعـه ،وإ ّل قتَلـه. ثالثـاً :إذا ولَّـت الفتنـة مدبـرة ،عنـد ذلـك ينـدم مـن دخـل فيهـا لمـا يـراه مـن الفسـاد والشـ ِّر الـذي نتـج عنهـا ،واسـتمع إلـى أهلهـا وقـد جـيء بهـم حتـى أُوقفـوا بيـن يـدي الحجـاج بـن يوسـف .هـا هـو فيـروز بـن الحصيـن أُسـر فأُتـ َي بـه إلـى الحجـاج فقـال لـه :أبـا ُعثْمـان!! مـا أخرجـك مـع هـؤلاء ،فـوالله مـا لحمـك مـن لحومهـم ولا دمـك مـن دمائهـم؟ فقـال :أيهـا الأميـر فتنـة ع ّمـ ْت ،فأمـر بـه الحجـاج فضربـت عنقـه. رابعــاً :إذا وقعــت الفتنــة ســعى أهلهــا فــي اســتدراج بعــض الخــوا ّص إليهــم ليحت ّجـوا بهـم عنـد العامـة ،وقـد قيـل لابـن الأشـعث :إذا أردت أَ ْن يقاتـل النّـاس حولــك كمــا قاتلــوا حــول هــودج عائشــة فأَ ْخــ ِرج الحســن البصــري معــك، فأَ ْخ َر َجـه وخـرج مـع ابـن الأشـعث بعـض الأئمـة ،كسـعيد بـن جبيـر ،ومالـك بـن دينـار وغيرهمـا ،ف ُفتِـن النّـاس والمعصـوم مـن عصمـه الله؛ ولهـذا كان النبـي ﷺ 190
يسـتعيذ بـالل ِه مـن الفتـن ويأمـر بذلـك فـي كل صـاة؛ لأن بعضهـا يجعـل الحليـم حيرانـاً ،ذلـك أَ َّن أهـل الفتنـة يزيّنـون فعلهـم بكثـرة موافقيهـم ،فابـن الأشـعث قاتل معـه أكثـر مـن مئـة وخمسـين ألفـاً ،وتبعـه جماعـة مـن السـادات ،لكـن فعلهـم لـم يكــن مرضيـاً ،إذ هـو خــاف النصــوص الآمـرة بالجماعــة والصبــر ،الناهيـة عـن الخـروج والفرقـة والمنازعـة .قـال أيـوب :مـا منهـم مـن أحـد صـرع مـع ابـن الأشـعث إ ّل رغـب عـن مصرعـه ،ولا نجـا مـن نجـا منهـم إلا حمـد الله وسـلمه. قـال الإمـام ابـن بطـة العكبـري فـي التحذيـر والاغتـرار بالكثـرة :والنّـاس فـي زماننـا أسـراب كالطيـر يتبـع بعضهـم بعضـاً!! لـو ظهـر فيهـم مـن يدعـي النُّبـ َّوة -مـع علمهـم بـأن رسـول الله ﷺ خاتـم الأنبيـاء -أو مـن يدعـي الربوبيـة لوجـد علـى ذلـك أتباعـاً وأشـياعاً. خامسـاً :أَ َّن عاقبـة الفتـن وخيمـة ،ومـآل أهلهـا الخسـران ،فهـا هـو اب ُن الأشـعث خــرج علــى رأس جيــش إســامي مجاهــداً فــي ســبيل الله ،ثــم صــار رأســاً فــي الفتنـة ،فتـرك قتـال الكفـار وهجـم علـى أهـل الإسـام !!وقُــتِل بسـببه جمـ ٌع كثير، واضطربـت الأمـور وكثُـر الشـ ُّر ،ثـم آلـت بـه الحـال أَ ْن يلجـأ إلـى ملـك الكفـار الـذي كان يقاتلـه بالأمـس ،ففـرح بـه الكافـر وأكرمـه إِغاظـ ًة للمسـلمين. وهكـذا الفتـن تقـود صاحبهـا إلـى مـا لا يريـد ،لقـد غـدر بـه الملـك الكافـر وأرسـله موثَّقـاً إلـى الحجـاج ،فأُ ْسـ ِقط فـي يـده ،فلمـا كان ببعـض الطريـق ،صعـد قصـراً فألقـى نفسـه فمـات ،فمـن كان يظـن أَ َّن نهايتـه تكـون كذلـك. سادسـاً :لقـد ألبـس ابـن الأشـعث فتنتـه هـذه لبـاس الشـرع ،وأوهمهـم أنهـا إنـكار للمنكـر ونصـرة للديـن ،لكـن الباطـن خـاف ذلـك ،فقـد نـ َّص ابـ ُن كثيـ ٍر أَ َّن سـبب تلـك الفتنـة كـره ابـن الأشـعث للحجـاج ،ثـم جمـع حولـه مـن يبغضـون الحجـاج ،فانظـروا كيـف اسـتغ ّل كـره النّـاس ليثـأر منـه ويُنَ ِّكـد عليـه!! ولهــذا فمــن دعــا إلــى مفارقــة الجماعــة وإثــارة الفتنــة فهــو صاحــب هــو ًى مريـ ٌض قلبـه ،مخالـف لل ُّسـنّة ،وإن ظهـر فعلـه ذلـك فـي صـورة إنـكار للمنكـر. 191
سـابعاً :إذا وقعـت الفتنـة ،فـإن أ ّو َل مـن يصطلـي بنارهـا َمـن أوقدهـا ،فتنقلـب الأمـور عليهـم ،ويتسـلَّط ال ُج ّهـال مـن أتباعهـم حتـى يكـون الأمـر والنهـي عليهـم. وقـد كتـب الخليفـة إلـى ابـن الأشـعث عـزل الحجـاج وتوليتـه مكانـه ،وبقـاء أعطيـات النّـاس ،فمـال إلـى ذلـك ابـن الأشـعث ،فخطـب النّـاس وقـال :اقبلـوا مـا عـرض عليكـم ،وأنتـم أعـ ّزاء أقويـاء ،فوثـب الجهـال مـن كل مـكان يقولـون :لا والله لا نقبـل نحـن أكثـر منهـم عـدداً وعـ َّدة ،وأعـادوا خلـع الخليفـة ثانيـة ،وبايعـوا ابـن الأشـعث ،فانصـاع لأمرهـم ووافقهـم حتـى آل أمـره إلـى مـا آل إليـه. رابعاً ـ فتنة القيسية: فـي سـنة 227هــ بعـث المعتصـم علـى دمشـق الأميـر أبـا المغيـث الرافقـ ّي، فخــرج عليــه ابــن بَيْ َهــس فــي طائفــة مــن قَيْــس ،فأغــارت قيــس علــى جبــل السـلطان وعاثـوا وأفسـدوا فـي البـاد والعبـاد ،وعسـكروا بمـرج راهـط ،فو ّجـه أبـو المغيـث جي ًشـا لقتالهـم ،ف ُقتِـ َل خلْـ ٌق مـن الجيـش ،وثبتت القيسـيّة ،ثـ ّم رجعوا إلـى دمشـق ،فتح ّصـن بهـا أبـو المغيـث ،فوقـع حصـار شـديد ،فمـات المعتصـم والأمـ ُر علـى ذلـك. ولمـا ولـي الواثـق الخلافـة كتـب إلـى ال َّرقّـة إلـى رجـاء بـن أيـوب الحضـار ّي يأمــره بالمســير إلــى دمشــق .فقدمهــا ونــزل بديــر ُمــ َّران ،والقيســيّة معســكرون بمـرج راهـط ،فو ّجـه رجـاءُ إليهـم يسـألهم الرجـوع إلـى ال ّطاعـة ،فامتنعـوا إ ّل أن يَ ْعـ ِزل أبـا المغيـث عـن دمشـق ،فأنذرهـم القتـا َل يـوم الاثنيـن ،ثـ ّم كبسـهم يـوم الأحـد بغتـ ًة بك ْفـر بَ ْطنـا .وكانـت حشـود القيسـيّة ب ُدومَـة ،فوافاهـم وقـد تفرقـوا، فوضـع السـيف فيهـم ،وقتـل منهـم ألفـاً وخمسـمئة .فهـرب ابـن بَيْ َهـس ولحـق بقومـه ب َحـ ْو َران. وقُتِ َل ابن ع ّم رجاء ،وقتل من الأجناد نحو الثلاثمئة(.)1 ( )1انظر :الكامل ،لابن الأثير ،79/6:وشذرات الذهب ،لابن العماد.121/3: 192
نكتفــي بهــذا القــدر مــن التمثيــل للخســائر الفادحــة التــي ألمــت بالديــن وبالمسـلمين مـن جـراء الخـروج المسـلح علـى الحـكام ،ومـا ذكرنـاه غيـض مـن فيـض وقليـل مـن كثيـر ،وهـو لا يسـاوي شـيئاً ممـا جـرى لهـذه الأمـة بسـبب ذلـك. فعليـك أخـي المسـلم أن تتدبـر مـا أصـاب الإسـام والمسـلمين بسـبب هـذا الخـروج المخالـف لأمـر رسـولك ﷺ ،وعليـك أن تقتـدي بالعقـاء عنـد حـدوث الفتـن ،وليكـن لـك أسـوة فـي عبـد الله بـن عمـر ،وسـعد بـن أبـي وقـاص ،ومحمد ابـن مسـلمة ،وعلـي زيـن العابديـن ،ومحمـد بـن الحنفيـة ،وغيرهـم كثيـر، وإيـاك إيـاك أن تنـزع يـداً مـن طاعـة فتمـوت ميتـة جاهليـة ،أو تقاتـل فـي عميّـة، أو مـن أجـل عصبيـة جاهليـة ،وعليـك أن تصبـر وتحتسـب كمـا احتسـب أولئـك الأخيــار ،وأن تعتبــر بمــا أصــاب المتأوليــن الأبــرار ،فالعاقــل مــن اتعــظ بغيــره، والجاهـل مـن أتبـع نفسـه هواهـا ،وتمنـى علـى الله الأمانـي. *** 193
فضائل بلاد الشام: وفـي ختـام هـذا الكتـاب [منهـج أهـل الإيمـان للعصمـة مـن فتـن آخـر الزمان]، ونحـن نعيـش فـي خضـم هـذه الفتـن علـى أرض الشـام المباركـة ،مستمسـكين بهـذا المنهـج القويـم ،متشـبثين بـه إلـى أن نلقـى الله تعالـى. لا بـد أن نسـتعرض شـيئاً مـن فضائـل بـاد الشـام التـي باركهـا الله تعالـى فـي كتابـه ،ودعـا لهـا رسـول الله ﷺ وعـدد بعـض خصائصهـا ،ولا سـيما أيـام الملاحم والفتـن ،ليـزداد القلـب يقينـاً بمكانـة هـذه البـاد الطاهـرة ومنزلتهـا عنـد الله تعالـى وعنــد رســوله ﷺ ،ممــا يطمئــن قلوبنــا أن هــذه الفتــن ســحابة صيــف ســتنجلي بــإذن الله ،وســتعود شــمس الإســام ســاطعة فــي ربــوع هــذه البــاد الطيبــة، مهمـا أصابهـا وأهلهـا مـن لأواء ،إلا أنهـم ظاهـرون علـى الحـق لا يضرهـم مـن خالفهـم حتـى يأتـي أمـر الله. وهــذا مــا جعلنــا نتشــبث ببــاد الشـام ولـم نغادرهـا ـ كمــا فعــل الكثيــرون ـ ليقيننــا بمــا أخبرنــا بــه رســول الله ﷺ عــن هــذه البــاد المباركــة ،ومــن ذلــك: مـا جـاء عـن جبيـر بـن نفيـر رحمـه الله قـال :حدثنـا رجـل مـن أصحـاب النبـي محمـد ﷺ أن رسـول الله ﷺ قـال« :سـتفتح عليكـم الشـام ،فـإذا خيرتـم المنـازل فيهـا ،فعليكـم بمدينـة يقـال لهـا دمشـق ،فإنهـا معقـل المسـلمين مـن الملاحـم، وفسـطاطها منهـا بـأرض يقـال لهـا الغوطـة»(.)1 ( )1أخرجه الإمام أحمد في مسنده ،13/39:رقم ( ،)17470قال الهيثمي في مجمع الزوائد \" :566/7فيه أبو بكر بن أبي مريم ،وهو ضعيف\". 194
عـن أبـي أمامـة الباهلـي قـال :لا تقـوم السـاعة ،حتـى يتحـول خيـار أهـل العـراق إلـى الشـام ،ويتحـول شـرار أهـل الشـام إلـى العـراق ،وقـال رسـول الله ﷺ: «عليكـم بالشـام»(.)1 عـن عبـد الله بـن عمـر :قـال :سـمعت رسـول الله ﷺ يقـول وهـو علـى المنبر: «اللهـم بـارك لنـا فـي شـامنا ،وفـي يمننـا» ،قالـوا :وفـي نجدنـا؟ قـال« :اللهـم بارك لنـا فـي شـامنا ،اللهـم بـارك فـي يمننـا» ،قالـوا :وفـي نجدنـا؟ قـال« :اللهـم بـارك لنـا فـي شـامنا ،اللهـم بـارك فـي يمننـا» ،قالـوا :يـا رسـول الله ،وفـي نجدنـا؟ فأظنـه قـال فـي الثالثـة« :هنالـك الـزلازل والفتـن ،وبهـا يطلـع قـرن الشـيطان» (.)2 وفــي روايــة :صلــى رســول الله ﷺ الفجــر ،ثــم أقبــل علــى القــوم فقــال: «اللهـم بـارك لنـا فـي مدينتنـا ،وبـارك لنـا فـي مدنـا وصاعنـا ،اللهـم بـارك لنـا فـي حرمنـا ،وبـارك لنـا فـي شـامنا» ،فقـال رجـل :وفـي العـراق ،فسـكت ،ثـم أعـاد ،قـال الرجـل :وفـي عراقنـا ،فسـكت ،ثـم قـال ﷺ« :اللهـم بـارك لنـا فـي مدينتنـا ،وبـارك لنـا فـي مدنـا وصاعنـا ،اللهـم بـارك لنـا فـي شـامنا ،اللهـم اجعـل مـع البركـة بركـة ،والـذي نفسـي بيـده ،مـا مـن المدينـة شـعب ولا نقـب ،إلا وعليـه ملـكان يحرسـانها حتـى تقدمـوا عليهـا». عــن عبــد الله بــن عمــرو قــال :ســمعت رســول الله ﷺ يقــول« :ســتكون هجـرة بعـد هجـرة ،فخيـار أهـل الأرض ألزمهـم مهاجـر إبراهيـم ،ويبقـى فـي ( )1أخرجه الإمام أحمد في مسنده ،461/16:رقم ( ،)22145وابن أبي شيبة في مصنفه،352/21: رقم (.)38905 ( )2أخرجه البخاري في كتاب الفتن ،باب قول النبي ﷺ «الفتنة من قبل المشرق»،2598/6: رقم (.)6681 195
الأرض شـرار أهلهـا ،تلفظهـم أرضوهـم ،تقذرهـم نفـس الله ،وتحشـرهم النـار مـع القـردة والخنازيـر»(.)1 عــن زيــد بــن ثابــت قــال :كنــا يومــاً عنــد رســول الله ﷺ ،فقــال رســول الله ﷺ« :طوبـى للشـام» ،فقلـت :لـم ذلـك يـا رسـول الله؟ قـال« :لأن ملائكـة الرحمــن باســطة أجنحتهــا عليهــا»(.)2 عـن عبـد الله بـن حوالـة قـال :قـال رسـول الله ﷺ« :سـيصير الأمـر إلـى أن تكونـوا جنـوداً مجنـدة ،جنـد بالشـام ،وجنـد باليمـن ،وجنـد بالعـراق» .قـال ابـن حوالـة ِ :خـ ْر لـي يـا رسـول الله ،إن أدركـت ذلـك ،فقـال ﷺ« :عليـك بالشـام, فإنهـا خيـرة الله مـن أرضـه ،يجتبـي إليهـا خيرتـه مـن عبـاده ،فأمـا إِن أبيتـم ،فعليكـم بيمنكـم ،واسـقوا مـن غدركـم ،فـإن الله تـوكل لـي بالشـام وأهلـه»(.)3 وفـي روايـة :فلمـا رأى النبـي ﷺ كراهيـة ابـن حوالـة للشـام قـال« :هـل تـدرون مـا يقـول الله عـز وجـل؟ يقـول :يـا شـام ..يـا شـام ..يـدي عليـك يـا شـام ،أنـت صفوتـي مـن بـادي ،أُدخـل فيـك خيرتـي مـن عبـادي ،أنـت سـيف نقمتـي ،وسـوط عذابـي ،أنـت الأنـدر ،وإليـك المحشـر ،ورأيـت ليلـة أسـري بـي عمـوداً أبيـض ،كأنـه لؤلـؤ ،تحملـه الملائكـة ،قلـت :مـا تحملـون؟ قالـوا :نحمـل عمـود الإسـام ،أمرنـا أن نضعـه بالشـام ،وبينـا أنـا نائـم ،رأيـت كتابـاً اختلـس مـن تحـت وسـادتي ،فظننـت أن الله تخلـى مـن أهـل الأرض ،فأتبعـت بصـري فـإذا هـو ( )1أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد ،باب في سكنى الشام ،213/2:رقم ( ،)2484والإمام أحمد في مسنده ،541/11:رقم ( ،)6952والحاكم في المستدرك في كتاب الفتن والملاحم ،556/4:رقم (،)8558 وقال الحاكم\" :هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه\" ،ووافقه الذهبي. ( )2أخرجه الترمذي في كتاب المناقب ،باب في فضل الشأم واليمن ،734/5:رقم ( ، )3954وقال\" :حسن غريب\"، والحاكم في المستدرك ،249/2:رقم ( )2901وقال الحاكم\" :صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه\". ( )3أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد ،باب في سكنى الشام ،313/2:رقم (.)2485 196
نـور سـاطع بيـن يـدي ،حتـى وضـع بالشـام ـ فمـن أبـى فليلحـق بيمنـه ـ وليسـتق مـن غـدره ،فـان الله قـد تكفـل لـي بالشـام وأهلـه»(.)1 عـن بهـز بـن حكيـم عـن أبيـه عـن جـده قـال :قلـت :يـا رسـول الله أيـن تأمرنـي؟ قـال« :هـا هنـا» ،ونحـا بيـده نحـو الشـام(.)2 عــن أبــي الــدرداء أن رســول الله ﷺ قــال« :إن فســطاط المســلمين يــوم الملحمــة بالغوطــة إلــى جانــب مدينــة يقــال لهــا :دمشــق ،مــن خيــر مدائــن الشــام»(.)3 عـن مكحـول رحمـه الله :أن رسـول الله ﷺ قـال« :موضـع فسـطاط المسـلمين فــي الملاحــم أرض يقــال لهــا :الغوطــة»( .)4وفــي روايــة عنــه موقوفــاً قــال: «لتمخـرن الـروم الشـام أربعيـن صباحـاً ،لا يمتنـع منهـا إلا دمشـق وعمـان»(.)5 عــن عبــد الرحمــن بــن ســليمان رحمــه الله قــال« :ســيأتي ملــك مــن ملــوك العجــم ،يظهــر علــى المدائــن كلهــا ،إلا دمشــق»(.)6 عــن عبــد الله بــن عمــرو بــن العــاص قــال :قــال رســول الله ﷺ« :إنــي رأيـت كأن عمـود الكتـاب انتـزع مـن تحـت وسـادتي ،فأتبعتـه بصـري فـإذا هـو نـور سـاطع عمـد بـه إلـى الشـام ،ألا وإن الإيمـان إذا وقعـت الفتـن بالشـام»(.)7 ( )1أخرجة الطبراني في مسند الشاميين ،رقم ( .)601وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق.1 /120: ( )2أخرجه الترمذي في كتاب الفتن ،باب ما جاء في الشام ،485/4:رقم ( ، )2192وقال\" :حسن صحيح\". ( )3أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم ،باب في المعقل والملاحم ،185/4:رقم (.)4300 ( )4أخرجه أبو داود في كتاب السنة ،باب في الخلفاء ،340/4:رقم (.)4642 ( )5أخرجه أبو داود في كتاب السنة ،باب في الخلفاء ،340/4:رقم (.)4640 ( )6أخرجه أبو داود في كتاب السنة ،باب في الخلفاء ،340/4:رقم (.)4641 ( )7أخرجه أحمد في مسنده ،310/29:رقم ( ،)17775والحاكم في المستدرك في كتاب الفتن والملاحم،555/4: رقم ( ،)8554واللفظ للحاكم ،وقال\" :صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه\" ،ووافقه الذهبي. 197
* الشام أرض المحشر والمنشر: وعــن ميمونــة بنــت ســعد مــولاة النبــي ﷺ قالــت :قلــت يــا رســول الله أفتنـا فـي بيـت المقـدس؟ قـال« :أرض المحشـر والمنشـر ،ائتـوه فصلـوا فيـه ،فـإن صـاة فيـه كألـف صـاة فـي غيـره» ،قلـت أرأيـت إن لـم أسـتطع أن أتحمـل إليـه؟ قـال« :فتهـدي لـه زيتـاً يسـرج فيـه ،فمـن فعـل ذلـك فهـو كمـن أتـاه»(.)1 * فساد الشام ذهاب لخير الأمة: عـن معاويـة بـن قـرة عـن أبيـه قـال :قـال رسـول الله ﷺ« :إذا فسـد أهـل الشــام فــا خيــر فيكــم ،ولا يــزال أنــاس مــن أمتــي منصوريــن ،لا يبالــون مــن خذلهــم ،حتــى تقــوم الســاعة»(.)2 عــن أبــي هريــرة عــن رســول الله ﷺ قــال« :لا تــزال طائفــة مــن أمتــي، يقاتلــون علــى أبــواب بيــت المقــدس ومــا حولهــا ،وعلــى أبــواب أنطاكيــة ومــا حولهـا ،وعلـى أبـواب دمشـق ومـا حولهـا ،وعلـى أبـواب الطالقـان( )3ومـا حولها، ظاهريـن علـى الحـق ،لا يبالـون مـن خذلهـم ،ولا مـن يضرهـم ،حتـى يخـرج الله لهـم كنـزه مـن الطالقـان ،فيحيـي بـه دينـه كمـا أميـت مـن قبـل»(.)4 ( )1أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة ،باب ما جاء في الصلاة مسجد بيت المقدس ،451/1:رقم ( ،)1407والطبراني في المعجم الكبير ،32/25:رقم (.)54 ( )2أخرجه الترمذي في كتاب الفتن ،باب في الأثرة الشام ،485/4:رقم ( ، )21992وابن ماجه في كتاب الإيمان ،باب اتباع سنة رسول اللهﷺ ،45/1:رقم ( ،)6وأخرجه أحمد في مسنده.1071/5: ( )3الطالقان :بلدة بين مرو الروذ وبلخ مما يلي الجبل ،أو ولاية عند قزوين يقال لها طالقان قزوين .انظر: معجم البلدان ،لياقوت الحموي.6/4: ( )4أخرجه ابن عساكر عن أبى هريرة ،257/1:وقال\" :إسناده غريب وألفاظه غريبة ج ّد ًا\". 198
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210