Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore رياض الصالحين المائة الثانية

رياض الصالحين المائة الثانية

Published by مكتبة(ورتل) الإلكترونيه, 2021-04-19 18:37:04

Description: رياض الصالحين المائة الثانية

Search

Read the Text Version

‫الحديث الأول بعد المائة‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫\" ُح ِج َب ِت ال َّنا ُر بال َّش َهوا ِت‪ ،‬و ُح ِج َب ِت ال َج َّن ُة بال َمكا ِر ِه\"‬ ‫)متفق عليه(‬ ‫شرح الحديث‬ ‫وفي رواية لمسلم‪( :‬حفت) بدل (حجبت) وهو بمعناه‪ ،‬أي بينه وبينها هذا‬ ‫الحجاب‪ :‬فإذا فعله دخلها‬ ‫(حفت النار بالشهوات) ‪ ،‬وفي لفظ‪( :‬حجبت) ‪( ،‬وحفت الجنة بالمكاره)‬ ‫وفي لفظ‪( :‬حجبت الجنة بالمكاره)‬ ‫يعني أحيطت بها‪ ،‬فالنار قد أحيطت بالشهوات‪ ،‬والجنة قد أحيطت بالمكاره‬ ‫والشهوات‪ :‬هي ما تميل إليه النفس‪ ،‬من غير تعقل‪ ،‬ولا تبصر‪ ،‬ولا مراعاة‬ ‫لدين‪ ،‬ولا مراعاة لمروءة‬ ‫فهي مطلوبات النفس‪ ،‬وحظوظها الحسية والمعنوية‬ ‫فالحسية مثل الأكل والشرب‪ ،‬والمقصود بها الشهوات المحرمة‪ ،‬وأما‬ ‫المباحة فإنها لا توصل إلى النار‪ ،‬لكن لا يحسن الإكثار منها؛ لأنها تشغله‬ ‫عن الآخرة‬ ‫ومطلوبات النفس المعنوية كالتعالي على الناس‪ ،‬والترفع‪ ،‬والعجب‪ ،‬والرياء‬ ‫والسمعة‪ ،‬وحب المحمدة في قلوب الخلق‪ ،‬وما أشبه ذلك‪.‬‬ ‫(حجبت النار بالشهوات) فكأن النار قد ُوضع دونها ستر‪ ،‬وحائل‪ ،‬وحجاب‪،‬‬ ‫لا ُيتوصل إليها إلا بهتكه‪ ،‬فمن تخطاه يكون قد وصل إليها ودخل فيها‪،‬‬ ‫وكذلك الجنة لا ُيتوصل إليها إلا بهتك ذلك الحجاب الذي حجبت به‪.‬‬ ‫(وحفت) أي‪ :‬أن ذلك أيضا من جميع النواحي لا ُيتوصل إلى الجنة إلا‬ ‫بتخطي هذه المكاره‪ ،‬والمرور بهذا الذي يحتف بها من الأمور التي يحصل‬ ‫بها إيلام للنفس‪ ،‬ومشقة أيا كانت هذه المشقات‬

‫وكذلك حفت الجنة بترك الشهوات التي تطمح إليها النفوس أيضا‪ ،‬وهذا‬ ‫يحتاج إلى مجاهدة‬ ‫ولكن ما دواء هذه الشهوة التي تميل إليها النفس الأمارة بالسوء؟‬ ‫دواؤها (وحفت الجنة بالمكاره) أو حجبت بالمكاره يعني أحيطت بما تكرهه‬ ‫النفوس؛ لأن الباطل محبوب للنفس الأمارة بالسوء‪ ،‬والحق مكروه لها‪ ،‬فإذا‬ ‫تجاوز الإنسان هذا المكروه وأكره نفسه الأمارة بالسوء على فعل الواجبات‬ ‫وعلى ترك المحرمات‪ ،‬فحينئذ يصل إلى الجنة‬ ‫فاجتناب المحرمات مكروه إلى النفوس‪ ،‬وشديد عليها‪ ،‬لا سيما مع قوة‬ ‫الداعي‪ ،‬فإذا أكرهت نفسك على ترك هذه المحرمات‪ ،‬فهذا من أسباب دخول‬ ‫الجنة‬ ‫فجاهد نفسك على ما يحب الله وإن كرهت‪ ،‬واعلم أنك إذا أكرهت نفسك على‬ ‫طاعة الله؛ أحببت الطاعة وألفتها‪ ،‬وصرت ـ بعد ما كنت تكرهها ـ تأبى نفسك‬ ‫أن تتخلف عن الطاعة إذا أردت أن تتخلف عنها‪.‬‬

‫الحديث الثاني بعد المائة‬ ‫عن أبي عبد الله حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما‪ ،‬قال‪ :‬صليت مع النبي‬ ‫صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة‪ ،‬فقلت‪ :‬يركع عند المائة‪ ،‬ثم‬ ‫مضى‪ .‬فقلت‪ :‬يصلي بها في ركعة فمضى‪ ،‬فقلت‪ :‬يركع بها‪ ،‬ثم افتتح النساء‬ ‫فقرأها‪ ،‬ثم افتتح آل عمران فقرأها‪ ،‬يقرأ مترسلا‪ :‬إذا مر بآية فيها تسبيح‬ ‫سبح‪ ،‬وإذا مر بسؤال سأل‪ ،‬وإذا مر بتعوذ تعوذ‪ ،‬ثم ركع‪ ،‬فجعل يقول‪:‬‬ ‫((سبحان ربي العظيم)) فكان ركوعه نحوا من قيامه‪ ،‬ثم قال‪(( :‬سمع الله‬ ‫لمن حمده)) ثم قام قياما طويلا قريبا مما ركع‪ ،‬ثم سجد‪ ،‬فقال‪(( :‬سبحان‬ ‫ربي الأعلى)) فكان سجوده قريبا من قيامه‬ ‫(رواه مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم‬ ‫ذات ليلة ـ يعني في ليلة من الليالي‪ ،‬وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا‬ ‫يصلي معه بعض أصحابه‪ ،‬فمره صلى معه حذيفة‪ ،‬ومرة صلى معه ابن‬ ‫مسعود رضي الله عنه‪ ،‬ومرة صلى معه ابن عباس رضي الله عنهما‬ ‫يقول فافتتح سورة البقرة‪ ،‬فقلت يركع عند المائة‪ ،‬فقرأ السورة كاملة‪ ،‬فظن‬ ‫حذيفة أنه يركع بها؛ أي أنه إذا أكمل سورة البقرة ركع‬ ‫ولكنه مضى صلى الله عليه وسلم فقرأ سورة النساء كاملة‪ ،‬فقال حذيفة‬ ‫يركع بها‪ ،‬ولكنه مضى فقرأ سورة آل عمران كاملة في ركعة واحدة‪ ،‬يقرأ‬ ‫مترسلا غير مستعجل‪ ،‬إذا مر بآية تسبيح سبح‪ ،‬وإذا مر بآية سؤال سأل‪،‬‬ ‫وإذا مر بآية تعوذ تعوذ‬ ‫فجمع عليه الصلاة والسلام بين القراءة‪ ،‬وبين الذكر‪ ،‬وبين الدعاء‪ ،‬وبين‬ ‫التفكر؛ لأن الذي يسأل عند السؤال‪ ،‬ويتعوذ عن التعوذ‪ ،‬ويسبح عن‬

‫التسبيح‪ ،‬لا شك أنه يتأمل قراءته ويتفكر فيها‪ ،‬فيكون هذا القيام روضة من‬ ‫رياض الذكر؛ قراءة وتسبيحا ودعاء وتفكرا‪ ،‬والنبي ـ عليه الصلاة والسلام‬ ‫ـ في هذا كله لم يركع‪.‬‬ ‫ثم أن النبي عليه الصلاة والسلام ركع بعد أن أتم السور الثلاث فقال‪:‬‬ ‫(سبحان ربي العظيم)‬ ‫وأطال الركوع نحوا من قيامه‪ ،‬ثم رفع من ركوعه‪ ،‬وأطال القيام بعد‬ ‫الركوع‪ ،‬وقال‪( :‬سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد)‪ ،‬حتى كان قيامه نحو‬ ‫من ركوعه‪ ،‬ثم سجد صلى الله عليه وسلم فقال‪ (:‬سبحان ربي الأعلى)‪،‬‬ ‫وأطال السجود‪ ،‬حتى كان سجوده نحوا من قيامه‪.‬‬ ‫وهكذا كان عليه الصلاة والسلام يصلي فيجعل الصلاة متناسبة؛ إذا أطال‬ ‫القيام؛ أطال الركوع‪ ،‬والسجود‪ ،‬والقيام الذي بعد الركوع والجلوس الذي‬ ‫بين السجدتين‪ ،‬وإذا خفف القراءة؛ خفف الركوع والسجود والقيام؛ من أجل‬ ‫أن تكون الصلاة متناسبة‪ ،‬وهذا فعله صلوات الله وسلامه عليه ـ في الفرض‬ ‫وفي النفل أيضا‪ ،‬فكان صلى الله عليه وسلم يجعل صلاته متناسبة‬ ‫وفي هذا الحديث ‪ :‬أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعمل عمل المجاهد‬ ‫الذي يجاهد نفسه على الطاعة؛ لأنه يعمل هذا العمل الشاق؛ كل هذه ابتغاء‬ ‫وجه الله ورضوانه‬ ‫وفيه ‪ :‬أنه ينبغي للإنسان في صلاة الليل إذا مر بآية رحمة أن يقف ويسأل‪،‬‬ ‫وإذا مر وعيد يتعوذ بالله‪ ،‬وإذا مر بآية تسبيح يسبح‬

‫الحديث الثالث بعد المائة‬ ‫عن ابن مسعود رضي الله عنه قال‪ :‬صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم‬ ‫ليلة‪ ،‬فأطال القيام حتى هممت بأمر سوء! قيل‪ :‬وما هممت به؟ قال‪ :‬هممت‬ ‫أن أجلس وأدعه ( متفق عليه )‬ ‫شرح الحديث‬ ‫عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وكان أحد الذين يخدمون رسول الله‬ ‫صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقام‬ ‫النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فأطال القيام‬ ‫فهم ابن مسعود رضي الله عنه بأمر سوء يعني بأمر ليس يسر المرء فعله‪،‬‬ ‫قالوا‪ :‬بم هممت يا أبا عبد الرحمن؟ قال‪ :‬هممت أن أجلس وأدعه‪ ،‬يعني‬ ‫أجلس وأدعه قائما‬ ‫فهذا ابن مسعود رضي الله عنه ‪ ،‬الذي أخذ سبعين سورة من‬ ‫في رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صاحب عبادة‪ ،‬وقيام وقراءة وذكر‬ ‫ومع ذلك يقول‪ :‬حتى هممت أن أجلس وأدعه‪ ،‬فيا ترى كم قرأ النبي صلى‬ ‫الله عليه وسلم في تلك الركعة التي تعب معه فيها ابن مسعود رضي الله‬ ‫عنه؟‬ ‫تعب ابن مسعود رضي الله عنه وأعيا‪ ،‬مع أنه شاب‪ ،‬والنبي عليه الصلاة‬ ‫والسلام لم يتعب‪ ،‬لأنه كان أشد الناس عبادة لله عز وجل وأتقاهم لله‬ ‫ففي هذا دليل على أنه من السنة أن يقوم الإنسان في الليل‪ ،‬ويطيل القيام‪،‬‬ ‫وأنه إذا فعل ذلك فهو مقتد برسول الله صلى الله عليه وسلم‬

‫الحديث الرابع بعد المائة‬ ‫عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫\" َي ْت َب ُع ال َم ِّي َت َثلا َث ٌة‪َ ،‬ف َي ْر ِج ُع ا ْثنا ِن و َي ْب َقى مع ُه وا ِح ٌد‪َ :‬ي ْت َب ُع ُه أ ْهلُ ُه ومالُ ُه و َع َملُ ُه‪،‬‬ ‫َف َي ْر ِج ُع أ ْهلُ ُه ومالُ ُه و َي ْب َقى َع َملُ ُه\" ( متفق عليه )‬ ‫شرح الحديث‬ ‫إذا مات الإنسان تبعه المشيعون له؛ فيتبعه أهله يشيعونه إلى المقبرة‪،‬‬ ‫فأقرب الناس إليك‪ ،‬ومن أنت أحب الناس إليهم؛ هم الذين يتولون دفنك؛‬ ‫يتبعونك‪ ،‬ويشيعونك‪ ،‬ويتبعه ماله‪ :‬أي عبيده ‪ ،‬وهذا يمثل الرجل الغني الذي‬ ‫له عبيد وخدم مماليك‪ ،‬يتبعونه‬ ‫ويتبعه عمله معه‪ ،‬فيرجع اثنان‪ ،‬ويدعونه وحده‪ ،‬ولكن يبقى معه عمله‪،‬‬ ‫يبقى عمله عنده أنيسه في قبره ينفرد به إلى يوم القيامة‬ ‫يبقى العمل‪ ،‬عمل الإنسان هو الذي يسعد به‪ ،‬أو يشقى‪ ،‬وإذا تذكر الإنسان‬ ‫هذا لم يغتر بالدنيا‪ ،‬ومباهجها‪ ،‬وكان ذلك عونا له على تحقيق المجاهدة‬ ‫وفي الحدي ِث ‪ :‬دليل على أن الدنيا تزول‪ ،‬كل زينة الحياة الدنيا ترجع ولا‬ ‫تبقى معك في قبرك‪ ،‬المال والبنون زينة الحياة الدنيا ترجع من الذي يبقى؟‬ ‫‪ ..‬العمل فقط‪ ،‬فأحرص على مراعاة هذا الصاحب الذي يبقى ولا ينصرف مع‬ ‫من ينصرف‪ ،‬وعليك أن تجتهد حتى يكون عملك عملا صالحا يؤنسك في‬ ‫قبرك إذا انفردت به عن الأحباب والأهل والأولاد ‪ ،‬ومناسبة هذا الحديث‬ ‫للباب ظاهرة؛ لأن كثرة العمل يوجب مجاهدة النفس‪ ،‬فإن الإنسان يجاهد‬ ‫نفسه على الأعمال الصالحة التي تبقى بعد موته‬

‫الحديث الخامس بعد المائة‬ ‫عن ابن مسعود رضي الله عنه قال‪ :‬قال النبي صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫\"ال َج َّن ُة أ ْق َر ُب إلى أ َح ِد ُك ْم ِمن ِشرا ِك َن ْع ِل ِه‪ ،‬وال َّنا ُر ِم ْثلُ ذل َك\" ( رواه البخاري)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫هذا الحديث يتضمن ترغيبا وترهيبا يتضمن ترغيبا في الجملة الأولى‪ ،‬وهي‬ ‫قوله صلى الله عليه وسلم‬ ‫(الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله) ‪ ،‬وشراك النعل هو السير الذي‬ ‫يكون على ظهر القدم‪ ،‬وهو قريب من الإنسان جدا‪ ،‬ويضرب به المثل في‬ ‫القرب‪ ،‬وذلك لأنه قد يتكلم الإنسان بالكلمة الواحدة من رضوان الله ـ عز‬ ‫وجل ـ لا يظن أنها تبلغ ما بلغت‪ ،‬فإذا هي توصله إلى جنة النعيم‬ ‫وكذلك النار‪ ،‬وهي الجملة الثانية في الحديث‪ ،‬وهي التي فيها التحذير‪ ،‬يقول‬ ‫النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ (والنار مثل ذلك) أي أقرب إلى أحدنا من‬ ‫شراك نعله‪ ،‬فإن الإنسان ربما يتكلم بالكلمة لا يلقى لها بالا‪ ،‬وهي من سخط‬ ‫الله‪ ،‬فيهوي بها في النار كذا وكذا من السنين وهو لا يدري ‪ ،‬فالمقصود أن‬ ‫الإنسان لا يحقر من المعروف شيئا‪ ،‬ولو كان شيئا يسيرا‪ ،‬ولهذا قال النبي‬ ‫صلى الله عليه وسلم ‪ \":‬لا تحقرن من المعروف شيئا‪ ،‬ولو أن تلقى أخاك‬ ‫بوجه طلق\" فالبر وإن قل قد يدخل به الإنسان الجنة‪ ،‬وقد يغفر له بسبب هذا‬ ‫العمل اليسير البسيط‪ ،‬وهكذا أيضا لا يتقال الإنسان معصية الله ‪ ،‬لا تنظر إلى‬ ‫صغر المعصية‪ ،‬ولكن انظر إلى عظمة من عصيت فلا يقول الإنسان‪ :‬هذه‬ ‫المعصية قليلة صغيرة‪ ،‬فالصغائر إذا اجتمعت يمكن أن تحرق الإنسان‪،‬‬ ‫وتكون كبائر‪ ،‬الصغيرة إذا تكررت تكون كبيرة‪.‬‬

‫الحديث السادس بعد المائة‬ ‫عن أبي فراس ربيعة بن كعب الأسلمي خادم رسول الله صلى الله عليه‬ ‫وسلم‪ ،‬ومن أهل الصفة رضي الله عنه‪ ،‬قال‪ :‬كنت أبيت مع رسول الله صلى‬ ‫الله عليه وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته‪ ،‬فقال‪(( :‬سلني)) فقلت‪ :‬اسألك‬ ‫مرافقتك في الجنة‪ .‬فقال‪(( :‬أو غير ذلك؟)) قلت‪ :‬هو ذاك‪ ،‬قال‪(( :‬فأعني‬ ‫على نفسك بكثرة السجود)) (رواه مسلم )‬ ‫شرح الحديث‬ ‫عن ربيعه بن كعب الأسلمي رضي الله عنه وكان خادما لرسول الله صلى الله‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬ومن أهل الصفة‪ ،‬وأهل الصفة رجال مهاجرون‪ ،‬هاجروا إلى‬ ‫المدينة‪ ،‬وليس لهم مأوى‪ ،‬فوطنهم النبي عليه الصلاة والسلام في صفة في‬ ‫المسجد النبوي‬ ‫فكان ربيعة بن كعب رضي الله عنه يخدم النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬حتى‬ ‫إنه كان يبيت على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريا لحاجته‪ ،‬لشدة‬ ‫حرصه على خدمة النبي صلى الله عليه وسلم‬ ‫وكان يأتيه بوضوئه وحاجته‪ ،‬فقال له ذات يوم‪( :‬سلني)‬ ‫يعني‪ :‬اسأل‪ ،‬من أجل أن يكافئه النبي عليه الصلاة والسلام على خدمته إياه؛‬ ‫فأراد أن يكافئه‪ ،‬فقال له‪( :‬سلني) يعني اسأل ما بدا لك‬ ‫وقد يتوقع الإنسان أن هذا الرجل سيسأل مالا‪ ،‬ولكن همته كانت عالية؛ قال‪:‬‬ ‫أسألك مرافقتك في الجنة‬ ‫قال النبي صلى الله عليه وسلم ‪( :‬أو غير ذلك؟)‬ ‫يعني أو تسأل غير ذلك مما يمكن أن أقوم به؟ قال‪ :‬هو ذاك‪ ،‬يعني‪ :‬لا أسال‬ ‫إلا ذاك‬ ‫قال النبي صلى الله عليه وسلم‪( :‬فأعني على نفسك بكثرة السجود)‬

‫أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى سبب يقوي تحقيق هذا المطلوب‪،‬‬ ‫وهو كثرة السجود‪ ،‬وكثرة السجود تعني‪ :‬كثرة الصلاة‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬الحث على الإكثار من الصلاة‪ ،‬وأنه يوجب القرب من الله‬ ‫تعالى‪ ،‬ومرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة‬

‫الحديث السابع بعد المائة‬ ‫عن أبي عبد الله‪ ،‬ويقال‪ :‬أبو عبد الرحمن ثوبان‪ -‬مولى رسول الله صلى الله‬ ‫عليه وسلم رضي الله عنه‪ ،‬قال‪ :‬سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم‬ ‫يقول‪:‬‬ ‫\" َع َل ْي َك ب َك ْث َر ِة ال ُّس ُجو ِد لِ َّل ِه‪ ،‬فإ َّن َك لا َت ْس ُج ُد لِ َّل ِه َس ْج َدة‪ ،‬إ َّلا َر َف َع َك ال َّلهُ ب َها َد َر َجة‪،‬‬ ‫و َح َّط َع ْن َك ب َها َخ ِطي َئة\"‬ ‫)رواه مسلم(‬ ‫شرح الحديث‬ ‫هذا الحديث له سبب وهو أن معدان بن طلحة سأل ثوبان مولى رسول الله‬ ‫صلى الله عليه وسلم قال‪ :‬أخبرني عن عمل يدخلني الجنة‪ ،‬فسكت عنه‪ ،‬ثم‬ ‫سأله ثانية‪ ،‬ثم سأل ثالثة‪ ،‬فقال‪ :‬سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه‬ ‫وسلم وذكر الحديث‬ ‫وثوبان قيل‪ :‬أصله من اليمن‪ُ ،‬سبي وجيء به‪ ،‬يقال‪ :‬مر به النبي صلى الله‬ ‫عليه وسلم في السبي فاشتراه فأعتقه‪ ،.‬وكان يخدم النبي صلى الله عليه‬ ‫وسلم‬ ‫يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‪:‬‬ ‫(عليك بكثرة السجود) يعني الزم كثرة السجود‬ ‫فيه دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يكثر من السجود‪ ،‬وكثرة السجود تعني‬ ‫كثرة الصلاة‪ ،‬لأن كثرة السجود تستلزم كثرة الركوع والقيام والقعود‬ ‫(فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة‪ ،‬وحط عنك بها خطيئة)‬ ‫ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم‪ :‬ماذا يحصل للإنسان من الأجر إذا سجد‪،‬‬ ‫يحصل له فائدتان عظيمتان‪:‬‬

‫الفائدة الأولى‪ :‬أن الله يرفعه بها درجة‪ ،‬يعني منزلة عنده وفي قلوب الناس‪،‬‬ ‫وكذلك في عملك الصالح؛ يرفعك الله به درجة‪.‬‬ ‫والفائدة الثانية‪ :‬يحط عنك بها خطيئة‪ ،‬والإنسان يحصل له الكمال بزوال ما‬ ‫يكره‪ ،‬وحصول ما يحب‪ ،‬فرفع الدرجات مما يحبه الإنسان‪ ،‬والخطايا مما‬ ‫يكره الإنسان‪ ،‬فإذا رفع له درجة وحط عنه بها خطيئة؛ فقد حصل على‬ ‫مطلوبه‪ ،‬ونجا من مرهوبه‬ ‫فهذا الحديث يدل على أن كثرة السجود سبب لرفعة درجات العبد ‪.‬فمن أراد‬ ‫الارتفاع بمنازله في الآخرة فعليه أن يكثر من السجود‪ ،‬من أراد حط الخطايا‬ ‫فعليه بكثرة الخطى إلى المساجد‪ ،‬وانتظار الصلاة إلى الصلاة‪ ،‬وكثرة‬ ‫السجود والاستغفار‪.‬‬

‫الحديث الثامن بعد المائة‬ ‫عن أبي صفوان عبد الله بن بسر الأسلمي رضي الله عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول‬ ‫الله صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫\"خي ُر النا ِس َم ْن طالَ ُع ْم ُر ُه ‪ ،‬و َح ُس َن َع َملُ ُه\"‬ ‫)رواه الترمذي وصححه الألباني (‬ ‫شرح الحديث‬ ‫وفي بعض الروايات‪(( :‬وشركم من طال عمره وساء عمله))‬ ‫خير الناس من طال عمره‪ ،‬وحسن عمله‪ ،‬وذلك أن الإنسان في هذه الحياة‬ ‫الأنفاس والساعات والأيام والشهور والسنون كل ذلك هو فرصة له لمزيد‬ ‫من العمل الصالح‪ ،‬فإذا استغل كل ن َفس في ما يقربه إلى الله ازداد رصيده‪.‬‬ ‫فالإنسان كلما طال عمره في طاعة الله زاد قربا إلى الله وزاد رفعة في‬ ‫الآخرة؛ لأن كل عمل يعمله فيما زاد فيه عمره فهو يقربه إلى ربه ـ عز وجل‬ ‫ـ فخير الناس من وفق لهذين الأمرين طول العمر وإحسان العمل‬ ‫أما طول العمر فإنه من الله‪ ،‬وليس للإنسان فيه تصرف؛ لأن الأعمار بيد الله‬ ‫ـ عز وجل ـ‪ ،‬وأما حسن العمل؛ فإن بإمكان الإنسان أن يحسن عمله‬ ‫واخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض الأعمال الصالحة سبب لطول‬ ‫العمر‪ ،‬وذلك مثل صلة الرحم؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام‪( :‬من أحب أن‬ ‫يبسط له في رزقه‪ ،‬وينسأ له في أثره فليصل رحمه) فصلة الرحم من أسباب‬ ‫طول العمر‬ ‫فينبغي للإنسان ‪-‬وهو لا يدري متى أجله‪ -‬أن يجتهد‪ ،‬فإن كان عمره قصيرا‬ ‫يكون قد استثمره قدر الإمكان فيما يرضي ربه‪ ،‬ويزيد في عمله الصالح‬ ‫وحسناته‪ ،‬وإن كان العمر طويلا ازداد من الطاعة والقربة والإحسان‪.‬‬ ‫وفي هذا دليل على أن مجرد طول العمر ليس خيرا للإنسان إلا إذا أحسن‬ ‫عمله؛ لأنه أحيانا يكون طول العمر شرا للإنسان وضررا عليه‬

‫الحديث التاسع بعد المائة‬ ‫عن أنس رضي الله عنه‪ ،‬قال‪ :‬غاب عمي أنس بن النضر رضي الله عنه‬ ‫عن قتال بدر‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬غبت عن أول قتال قاتلت المشركين‪ ،‬لئن‬ ‫الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع ‪.‬‬ ‫فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون‪ ،‬فقال‪ :‬اللهم أعتذر إليك مما صنع‬ ‫هؤلاء‪ -‬يعني‪ :‬أصحابه‪ -‬وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء‪ -‬يعني‪ :‬المشركين‪ -‬ثم‬ ‫تقدم فاستقبله سعد بن معاذ‪ ،‬فقال‪ :‬يا سعد بن معاذ‪ ،‬الجنة ورب الكعبة إني‬ ‫أجد ريحها من دون أحد‪ .‬قال سعد‪ :‬فما استطعت يا رسول الله ما صنع !‬ ‫قال أنس‪ :‬فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف‪ ،‬أو طعنة برمح‪ ،‬أو رمية‬ ‫بسهم‪ ،‬ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه ‪.‬‬ ‫قال أنس‪ :‬كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه‪{ :‬من‬ ‫المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} [الأحزاب‪ ]23 :‬إلى آخرها‬ ‫)متفق عليه (‬ ‫شرح الحديث‬ ‫عن أنس بين مالك رضي الله عنه أن عمه أنس بن النضر رضي الله عنه لم‬ ‫يكن مع الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر‪ ،‬وذلك لأن غزوة بدر خرج‬ ‫إليها النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يريد القتال‪ ،‬وإنما يريد عير قريش‬ ‫وليس معه إلا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا‪ ،‬وقد تخلف عنها كثير من‬ ‫الصحابة لأنها ليست غزوة‪ ،‬ولم يدع إليها أحد؛ وإنما خرج إليها الخفاف من‬ ‫الناس‪.‬‬ ‫قال أنس بن النضر للنبي عليه الصلاة والسلام يبين له أنه لم يكن معه في‬ ‫أول قتال قاتل فيه المشركين‪ ،‬وقال‪ :‬لئن أدركت قتالا ليرين الله ما أصنع‪.‬‬

‫فلما كانت أحد‪ ،‬وهي بعد غزوة بدر بسنة وشهر‪ ،‬خرج الناس وقاتلوا مع‬ ‫النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وصارت الدائرة في أول النهار للمسلمين‪ ،‬ولكن‪،‬‬ ‫لما تخلف الرماة عن الموقع الذي جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه‪،‬‬ ‫ونزلوا من الجبل؛ كر فرسان المشركين على المسلمين من خلفهم‪،‬‬ ‫واختلطوا بهم‬ ‫وانكشف المسلمون‪ ،‬وصارت الهزيمة‪ .‬لما انكشف المسلمون تقدم أنس بن‬ ‫النضر رضي الله عنه وقال‪( :‬اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء) يعني‬ ‫أصحابه‪( ،‬وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء) يعني المشركين‬ ‫ثم تقدم رضي الله عنه فاستقبله سعد بن معاذ‪ ،‬فسأله إلي أين‬ ‫قال‪ :‬يا سعد‪ ،‬إني لأجد ريح الجنة دون أحد‪ ،‬وهذا وجدان حقيقي‪ ،‬ليس تخيلا‬ ‫أو توهما‪ ،‬ولكن من كرامة الله لهذا الرجل شم رائحة الجنة قبل أن يستشهد‬ ‫رضي الله عنه من أجل أن يقدم ولا يحجم‪ ،‬فتقدم فقاتل‪ ،‬فقتل رضي الله عنه‬ ‫استشهد‬ ‫قال سعد‪ :‬فما استطعت يا رسول الله ما صنع‪ ،‬يعني‪ :‬أن أصنع ما صنع‪ ،‬قال‬ ‫أنس‪ :‬فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف‪ ،‬أو طعنة برمح‪ ،‬أو رمية‬ ‫بسهم‪ ،‬ووجدناه قد قتل‪ ،‬ومثل به المشركون‪ ،‬فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه‪،‬‬ ‫يعني‪ :‬بأطراف أصابعه‪ ،‬فيه علامة عرفته بها‪ ،‬كل جسمه مشوه‪ ،‬دماء‪،‬‬ ‫وجراح‪.‬‬ ‫فكان المسلمون يرون أن الله قد أنزل فيه وفي أشباهه هذه الآية‪ِ ( :‬م َن‬ ‫ا ْل ُم ْؤ ِمنِي َن ِر َجالٌ َص َد ُقوا َما َعا َه ُدوا ال َّلهَ َع َل ْي ِه َف ِم ْن ُه ْم َم ْن َق َضى َن ْح َب ُه َو ِم ْن ُه ْم َم ْن‬ ‫َي ْن َت ِظ ُر َو َما َب َّدلُوا َت ْب ِديلا) (الأحزاب‪ ، )23 :‬ولا شك أن هذا وأمثاله رضي الله‬ ‫عنهم يدخلون دخولا أوليا في هذه الآية‪ ،‬فإنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه‪،‬‬ ‫حيث قال أنس‪ :‬والله ليرين الله ما أصنع‪ ،‬ففعل‪ ،‬فصنع صنعا لا يصنعه أحد‬ ‫إلا من م ْن الله عليه بمثله حتى استشهد‪.‬‬

‫ففي هذا الحديث دليل شاهد للباب‪ ،‬وهو مجاهدة الإنسان نفسه على طاعة‬ ‫الله‪ ،‬فإن أنس بن النضر جاهد نفسه هذا الجهاد العظيم الذي عجز عنه رجل‬ ‫اهتز لموته عرش الرحمن وهو سعد بن معاذ رضي الله عنه ‪ ،‬وتقدم يقاتل‬ ‫أعداء الله بعد أن انكشف المسلمون وصارت الهزيمة حتى قتل شهيد رضي‬ ‫الله عنه‬

‫الحديث العاشر بعد المائة‬ ‫عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه قال‪:‬‬ ‫(لَ َّما َن َز َل ْت آ َي ُة ال َّص َد َق ِة‪ُ ،‬ك َّنا ُن َحا ِملُ على ظهورنا ‪َ ،‬ف َجا َء َر ُجلٌ َف َت َص َّد َق بشيء‬ ‫َكثِير‪َ ،‬فقالوا‪ُ :‬م َرا ِء ‪ ،‬و َجا َء َر ُجلٌ َف َت َص َّد َق ب َصاع‪َ ،‬فقالوا‪ :‬إ َّن ال َّلهَ لَ َغنِي عن‬ ‫َصا ِع هذا‪َ ،‬ف َن َز َل ْت‪{ :‬ا َّل ِذي َن َي ْل ِم ُزو َن ال ُم َّط ِّو ِعي َن ِم َن ال ُم ْؤ ِمنِي َن في ال َّص َد َقا ِت‬ ‫والذي َن لا َي ِج ُدو َن إ َّلا ُج ْه َد ُه ْم} [التوبة‪)]79 :‬‬ ‫)متفق عليه(‬ ‫شرح الحديث‬ ‫عن أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه قال‪:‬‬ ‫)لما نزلت آية الصدقة( يعني الآية التي فيها الحث على‬ ‫الصدقة‪ ،‬قال الحافظ‪ :‬كأنه يشير إلى قوله تعالى‪{ :‬خذ من أموالهم صدقة‬ ‫تطهرهم وتزكيهم بها} الأية (التوبة‪)103:‬‬ ‫فلما نزلت هذه الآية جعل الصحابة رضي الله عنهم يبادرون ويسارعون في‬ ‫بذل الصدقات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‬ ‫فيقول‪( :‬كنا نحامل على ظهورنا) يعني‪ :‬أنهم كانوا لا يجدون شيئا يتصدقون‬ ‫به‪ ،‬فكان الواحد منهم يذهب إلى السوق فيحمل المتاع للناس‪ ،‬من أجل أن‬ ‫يجد شيئا يتصدق به‬ ‫(نحامل) بضم النون وبالحاء المهملة‪ :‬أي يحمل أحدنا على ظهره بالأجرة‬ ‫ويتصدق بها‪ ،‬وذلك لشدة رغبتهم في الخير وفي ما عند الله‬ ‫الصحابة رضي الله عنهم بدءوا يأتون بالصدقة‪ ،‬كل واحد يحمل بقدرته من‬ ‫الصدقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فجاء رجل بصدقة كثيرة‪ ،‬وجاء‬ ‫رجل بصدقة قليلة‪ ،‬فكان المنافقون إذا جاء الرجل بالصدقة الكثيرة؛ قالوا‪:‬‬ ‫هذا مراء‪ ،‬ما قصد به وجه الله‪ .‬وإذا جاء الرجل بالصدقة القليلة قالوا‪ :‬إن‬ ‫الله غني عنه‬

‫يقول‪\" :‬فجاء رجل فتصدق بشيء كثير\"‪ ،‬يقال‪ :‬هذا الرجل هو عبد الرحمن‬ ‫بن عوف رضي الله عنه وكان من أغنياء الصحابة‪ ،‬جاء فتصدق بشيء‬ ‫كثير‪.‬‬ ‫\"فقالوا‪ُ :‬مراء\" يعني‪ :‬قال المنافقون‪ :‬إنه يقصد بذلك الرياء‪ ،‬هؤلاء هم‬ ‫الذين ذكر الله خبرهم على سبيل الذم‪ { :‬ا َّل ِذي َن َي ْل ِم ُزو َن ا ْل ُم َّط ِّو ِعي َن ِم َن‬ ‫ا ْل ُم ْؤ ِم ِني َن ِفي ال َّص َد َقا ِت َوا َّل ِذي َن لاَ َي ِج ُدو َن إِلاَّ ُج ْه َد ُه ْم َف َي ْس َخ ُرو َن ِم ْن ُه ْم َس ِخ َر اللهُ‬ ‫ِم ْن ُه ْم}‬ ‫(التوبة‪)79:‬‬ ‫فإذا جاء الإنسان بصدقة كثيرة قالوا‪ُ :‬مراء‪ ،‬وإذا جاء بشيء قليل قالوا‪ :‬إن‬ ‫الله لغني عن هذا‪ ،‬وعن صدقته‪ .‬فلا يسلم منهم أحد‬ ‫يقول‪ :‬وجاء رجل آخر فتصدق بصاع‬ ‫هذا الرجل يقال‪ :‬إنه أبو عقيل‪ ،‬وكان قد آجر نفسه في استخراج الدلاء من‬ ‫البئر على صاعين من تمر‪ ،‬فذهب بصاع إلى أهله‪ ،‬وتصدق بصاع‪ ،‬فلما جاء‬ ‫بهذا الصاع قالوا‪ :‬إن الله لغني عن صاع هذا‪.‬‬ ‫فنزلت‪ { :‬الَّ ِذي َن َي ْل ِم ُزو َن ا ْل ُم َّط ِّو ِعي َن ِم َن ا ْل ُم ْؤ ِمنِي َن فِي ال َّص َد َقا ِت َوا َّل ِذي َن لاَ‬ ‫َي ِج ُدو َن إِلاَّ ُج ْه َد ُه ْم َف َي ْس َخ ُرو َن ِم ْن ُه ْم َس ِخ َر اللهُ ِم ْن ُه ْم} (التوبة‪)79:‬‬ ‫فهؤلاء لمزوهم‪ ،‬أي‪ :‬أنهم عابوهم وانتقصوهم‪ ،‬وطعنوا في‬ ‫نياتهم وإخلاصهم‪ ،‬أو ذموا عملهم هذا الذي جاءوا به‪ ،‬تارة من جهة القصد‬ ‫والنية‪ :‬هذا ُمراء‪ ،‬وتارة من جهة احتقار العمل‪ :‬إن الله غني عن هذا وعن‬ ‫صدقته‪.‬‬ ‫ففي الحديث دليل على حرص الصحابة على استباق الخير‪ ،‬ومجاهدتهم‬ ‫أنفسهم على ذلك‪ ،‬أيضا على أن الله عز وجل يدافع عن المؤمنين‪ ،‬وأنظر‬ ‫كيف أنزل الله آية في كتاب الله‪ ،‬مدافعة عن المؤمنين الذين كان هؤلاء‬ ‫المنافقين يلمزونهم‪.‬‬

‫وفيه دليل على شدة العداوة من المنافقين للمؤمنين‪ ،‬وأن المؤمنين لا‬ ‫يسلمون منهم؛ إن عملوا كثيرا سبوهم‪ ،‬وإن عملوا قليلا سبوهم‪ ،‬ولكن الأمر‬ ‫ليس إليهم‪ ،‬بل لله عز وجل‪ ،‬فالله سبحانه وتعالى يجزي الإنسان على ما‬ ‫عمل من خير قل أو كثر‪ ،‬ولكن‪ ،‬احرص على أن تكون نيتك خالصة لله‪،‬‬ ‫واحرص على أن تكون متبعا في ذلك رسول صلى الله عليه وسلم‬

‫الحديث الحادي عشر بعد المائة‬ ‫عن أبي ذ ٍّر ال ِغ َفار ِّي َر ِضي اللهُ َع ْن ُه‪ ،‬عن ال َّنب ِّي َصلَّى اللهُ َعلَ ْي ِه َو َس ّلَ َم فيما‬ ‫يرويه عن ر ِّبه ع َّز وجل أ َّنه قالَ‪َ { :‬يا ِع َبا ِدي‪ ،‬إِ ِّني َح َّر ْم ُت ال ُّظ ْل َم َع َلى َن ْف ِسي‪،‬‬ ‫َو َج َع ْل ُت ُه َب ْي َن ُك ْم ُم َح َّرما‪َ ،‬فلاَ َت َظا َل ُموا‪.‬‬ ‫َيا ِع َبا ِدي‪ُ ،‬كلُّ ُك ْم َضال إِلاَّ َم ْن َه َد ْي ُت ُه ‪َ ،‬فا ْس َت ْه ُدونِي أَ ْه ِد ُك ْم‪.‬‬ ‫َيا ِع َبا ِدي‪ُ ،‬كلُّ ُك ْم َجا ِئ ٌع إِلاَّ َم ْن أَ ْط َع ْم ُت ُه‪َ ،‬فا ْس َت ْط ِع ُمو ِني أُ ْط ِع ْم ُك ْم‪.‬‬ ‫َيا ِع َبا ِدي‪ُ ،‬كلُّ ُك ْم َعار إِلاَّ َم ْن َك َس ْو ُت ُه‪َ ،‬فا ْس َت ْك ُسونِي أَ ْك ُس ُك ْم‪.‬‬ ‫َيا ِع َبا ِدي‪ ،‬إِ َّن ُك ْم ُت ْخ ِط ُئو َن بِال َّل ْي ِل َوال َّن َها ِر َوأَ َنا أَ ْغ ِف ُر ال ُّذ ُنو َب َج ِميعا‪،‬‬ ‫َفا ْس َت ْغ ِف ُرو ِني أَ ْغ ِف ْر َل ُك ْم‪.‬‬ ‫َيا ِع َبا ِدي‪ ،‬إِ َّن ُك ْم َل ْن َت ْبلُ ُغوا َض ِّري َف َت ُض ُّرونِي‪َ ،‬و َل ْن َت ْبلُ ُغوا َن ْف ِعي َف َت ْن َف ُعونِي‪.‬‬ ‫َيا ِع َبا ِدي‪َ ،‬ل ْو أَ َّن َأ َّو َل ُك ْم َوآ ِخ َر ُك ْم وإِ ْن َس ُكم َو ِج َّن ُكم َكا ُنوا َعلَى أَ ْت َقى َق ْل ِب َر ُجل‬ ‫وا ِحد ِم ْن ُك ْم َما َزا َد َذلِ َك في ُم ْل ِكي َش ْيئا‪.‬‬ ‫َيا ِع َبا ِدي‪َ ،‬ل ْو أ َّن أ َّولَ ُكم َوآ ِخ َر ُك ْم َوإِ ْن َس ُك ْم َو ِج َّن ُك ْم َكا ُنوا َعلَى َأ ْف َج ِر َق ْل ِب َر ُجل‬ ‫َوا ِحد َما َن َق َص َذلِ َك ِم ْن ُم ْل ِكي َش ْيئا‪.‬‬ ‫يا ِع َبا ِدي َل ْو أَ َّن أَ َّو َل ُك ْم َوآ ِخ َر ُك ْم َوإِ ْن َس ُك ْم َو ِج َّن ُك ْم َقا ُموا فِي َص ِعيد َوا ِحد َف َسأَلُو ِني‬ ‫َفأَ ْع َط ْي ُت ُكلَّ َوا ِحد َم ْسأَلَ َت ُه َما َن َق َص َذلِ َك ِم َّما ِع ْن ِدي إِلاَّ َك َما َي ْنقُ ُص ا ْل ِم ْخ َي ُط إِ َذا‬ ‫أُ ْد ِخلَ ا ْل َب ْح َر‪.‬‬ ‫َيا ِع َبا ِدي‪ ،‬إِ َّن َما ِه َي أَ ْع َمالُ ُك ْم أُ ْح ِصي َها لَ ُك ْم ُث َّم أُ َو ِّفي ُك ْم إِ َّيا َها‪َ ،‬ف َم ْن َو َج َد َخ ْيرا‬ ‫َف ْل َي ْح َم ِد الل َه‪َ ،‬و َم ْن َو َج َد َغ ْي َر َذلِ َك َفلاَ َيلُو َم َّن إِل َّا َن ْف َس ُه}‬ ‫(رواه مسلِ ٌم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫هذا حديث قدسي‬ ‫\" َيا ِع َبا ِدي إِ ِّني َح َّرم ُت ال ُّظل َم َع َلى َنف ِسي\" أي منعته مع قدرتي عليه‬

‫وإنما قلنا‪ :‬مع قدرتي عليه لأنه لو كان ممتنعا على الله لم يكن ذلك مدحا‬ ‫ولاثناء‪ ،‬إذ لا ُيثنى على الفاعل إلا إذا كان يمكنه أن يفعل أو لا يفعل‪.‬‬ ‫\" َو َج َعلتُهُ بَينَ ُك ْم ُم َح َّر َماً\" أي صيرته بينكم محرما‬ ‫\" َفلا َت َظا َل ُموا\" هذا عطف على قوله‪َ \" :‬ج َعلتُهُ بَينَ ُك ْم ُم َح َّر َماً\"‬ ‫أي فبناء على كونه محرما لاتظالموا‪ ،‬أي لا يظلم بعضكم بعضا‪.‬‬ ‫\" َيا ِع َباد َي ُكلُّ ُكم َضال\" أي تائه عن الطريق المستقيم‬ ‫إِلاَّ َم ْن َه َد ْيتُهُ\" أي علمته ووفقته‪ ،‬و علمته هذه هداية الإرشاد و وفقته‬ ‫هداية التوفيق‪.‬‬ ‫\" َفاس َته ُدونِي أَه ِد ُك ْم\" أي اطلبوا مني الهداية لامن غيري أهدكم‪ ،‬وهذا جواب‬ ‫الأمر‬ ‫\" َيا ِع َبا ِدي ُكلُّ ُك ْم َجائِ ٌع إِلاَّ َم ْن أَ ْط َع ْم ُت ُه\" أي كلكم جائع إلا من أطعمه الله‪ ،‬وهذا‬ ‫يشمل ما إذا فقد الطعام‪ ،‬أو وجد ولكن لم يتمكن الإنسان من الوصول إليه‪،‬‬ ‫فالله هو الذي أنبت الزرع‪ ،‬وهو الذي أدر الضرع‪ ،‬وهو الذي أحيا الثمار‬ ‫فكلنا جائع إلا من أطعمه الله‪ ،.‬كذلك أيضا يمكن أن يوجد الطعام لكن قد لا‬ ‫يتمكن الإنسان منه‪:‬إما لكونه محبوسا‪ ،‬أو مصابا بمرض‪ ،‬أو بعيدا عن‬ ‫المحل الخصب والرخاء‪.‬‬ ‫\" َفا ْس َت ْط ِع ُمونِي\" أي اطلبوا مني الإطعام‪ ،‬وإذا طلبتم ذلك ستجدونه‪.‬‬ ‫\"يَا ِعبَا ِدي ُك ُّل ُكم َعا ٍر\" فكلنا عار‪ ،‬لأننا خرجنا من بطون أمهاتنا عراة‪.‬‬ ‫\"إِلاّ َم ْن َك َسوتُهُ فَاستَ ْك ُسونِي أَ ْك ُس ُك ْم\" سواء كان من فعل الإنسان كالكبير‬ ‫يشتري الثوب‪ ،‬أو من فعل غيره كالصغير ُيشترى له الثوب‪ ،‬وربما يقال‪ :‬إنه‬ ‫يشمل لباس الدين‪ ،‬فيشمل الكسوتين‪ :‬كسوة الجسد الحسية‪ ،‬وكسوة الروح‬ ‫المعنوية‬

‫\" َيا ِع َبادي إِ َّن ُك ْم ُت ْخ ِط ُئو َن\" أي تجانبون الصواب‪ ،‬لأن الأعمال إما خطأ وإما‬ ‫صواب‪ ،‬فالخطأ مجانبة الصواب وذلك إما بترك الواجب‪ ،‬وإما بفعل المحرم‪.‬‬ ‫وقوله‪ :‬بِا َّلل ْي ِل الباء هنا بمعنى‪( :‬في)‬ ‫كما هي في قول الله تعالى‪َ ( :‬وإِ َّن ُك ْم َل َت ُم ُّرو َن َعلَ ْي ِه ْم‬ ‫ُم ْصبِ ِحي َن* َوبِال َّل ْيل)[الصافات‪ ]138-137:‬أي وفي الليل‪.‬‬ ‫\" َوأَ َنا أَغ ِف ُر ال ُّذ ُنو َب َج ِمي َعا\" أي أسترها وأتجاوز عنها مهما كثرت‪ ،‬ومهما‬ ‫عظمت‪ ،‬ولكن تحتاج إلى الاستغفار‬ ‫\"فَاستَغفِ ُرونِي أَ ْغفِر لَ ُكم\" أي اطلبوا مغفرتي‪ ،‬إما بطلب المغفرة كأن يقول‪:‬‬ ‫اللهم اغفر لي‪ ،‬أو‪ :‬أستغفر الله وأتوب إليه‪ .‬وإما بفعل ما تكون به المغفرة‪،‬‬ ‫فمن قال‪ :‬سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت خطاياه ولوكانت مثل زبد‬ ‫البحر‪.‬‬ ‫\" َيا ِع َباد َي إِ َّن ُك ْم َل ْن َت ْبلُ ُغوا ُض ِّر ْي َف َت ُض ُّرو ِني‪َ ،‬و َل ْن َت ْبلُ ُغوا َنف ِعي َف َت ْن َف ُعونِي\"‬ ‫أي لن تستطيعوا أن تضروني ولا أن تنفعوني‪ ،‬لأن الضار والنافع هو الله‬ ‫عز وجل والعباد لايستطيعون هذا‪ ،‬وذلك لكمال غناه عن عباده عز وجل‪.‬‬ ‫\" َيا ِع َبا ِد َي َلو أَ َّن َأ َّو َل ُك ْم َوآ ِخ َر ُك ْم َوإِ ْن َس ُك ْم َو ِّجن ُك ْم َكا ُنوا َعلَى أَت َقى َقل ِب َر ُجل‬ ‫َواحد ِمن ُك ْم َما َزا َد َذلِ َك فِي ُم ْل ِكي َش ْي َئا \"‬ ‫يعني لو أن كل العباد من الإنس والجن الأولين والآخرين كانوا على أتقى‬ ‫قلب رجل ما زاد ذلك في ملك الله شيئا‪ ،‬وذلك لأن ملكه عز وجل عام واسع‬ ‫لكل شيء‪ ،‬للتقي والفاجر‪.‬‬ ‫ووجه قوله‪َ \" :‬ما َزا َد َذلِ َك فِي ُمل ِكي َشيئَاً\" أنهم إذا كانوا على أتقى قلب رجل‬ ‫واحد كانوا من أولياء الله‪ ،‬وأولياء الله عز وجل جنوده‪ ،‬وجنوده يتسع بهم‬ ‫ملكه‪ ،‬كما لوكان للملك من ملوك الدنيا جنود كثيرون فإن ملكه يتسع‬ ‫بجنوده‪.‬‬

‫ثم قال‪َ \" :‬يا ِع َبا ِد َي َلو أَ َّن أَ َّو َل ُك ْم َوآ ِخ َر ُك ْم َوإِ ْن َس ُك ْم َو ِج َّن ُك ْم َكا ُنوا َعلَى أَف َج ِر َقل ِب‬ ‫َر ُجل َواحد َما َن َق َص َذلِ َك ِمن ُم ْل ِكي َش ْي َئا\"‬ ‫ووجه ذلك‪ :‬أن الفاجر عدو لله عز وجل فلا ينصر الله‪ ،‬ومع هذا لاينقص من‬ ‫ملكه شيئا لأن الله تعالى غني عنه‪.‬‬ ‫\" َيا ِع َبا ِد َي لَو أَ َّن أَ َّو َل ُك ْم َوآ ِخ َر ُك ْم َوإِ ْن َس ُك ْم َو ِج َّن ُك ْم َقا ُموا في َص ِعيد َوا ِحد‬ ‫َف َسأَلو ِني َفأَع َطي ُت ُكلَّ َوا ِحد َمسأَ َل َت ُه\"‬ ‫أي إذا قاموا في أرض واحدة منبسطة‪ ،‬وذلك لأنه كلما كثر الجمع كان ذلك‬ ‫أقرب إلى الإجابة‪.‬‬ ‫\" َما َن َق َص َذلِ َك ِم َّما ِع ْن ِدي إِلاَّ َك َما َي ْن ُق ُص ال ِم ْخ َي ُط إ َذا أُ ْد ِخلَ ال َبح َر\" وهذا من‬ ‫باب المبالغة في عدم النقص‪ .‬لأن كل واحد يعلم أنك لو أدخلت المخيط وهو‬ ‫الإبرة الكبيرة في البحر ثم أخرجتها فإنها لا تنقص البحر شيئا ولا تغيره‪،‬‬ ‫فكما أنه من المعلوم أن المخيط لو أدخل في البحر لم ينقص شيئا‪ ،‬فكذلك لو‬ ‫أن أول الخلق وآخرهم وإنسهم وجنهم سألوا الله عز وجل وأعطى كل إنسان‬ ‫مسألته مهما بلغت فإن ذلك لاينقص ما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل‬ ‫البحر‪.‬‬ ‫وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‪َ \" :‬ي ُد اللهِ َملأى‬ ‫س َّحا َء\" أي كثيرة العطاء \"ا ّلَليلَ وال َّن َها َر\" أي في الليل والنهار \"أَ َرأَ ْي ُت ْم َما‬ ‫أَ ْن َف َق ُم ْن ُذ َخ َل َق ال َّس َما َوا ِت َوالأَرض َفإِ َّن ُه لَ ْم َي ِغ ْض\" أي لم ينقص \" َما فِي‬ ‫َي ِم ْينِ ِه\"‬ ‫(يَا ِعبَا ِد َي إِنَّ َما ِه َي أَ ْع َمالُ ُك ْم) هذه جملة فيها حصر‪:‬‬ ‫(إنما) أي ما هي إلا أعمالكم أُ ْح ِص ْي َها َل ُك ْم أي أضبطها تماما بالعد لازيادة‬ ‫ولانقصان‪ ،‬لأنهم كانوا في الجاهلية لايعرفون الحساب فيضبطون الأعداد‬ ‫بالحصى‪،‬‬

‫\"ثُ َّم أُ َوفِّي ُك ْم إِيَّا َها\" أي في الدنيا والآخرة‪ ،‬وقد يكون في الدنيا فقط‪ ،‬وقد‬ ‫يكون في الآخرة فقط‪ .‬قد يكون في الدنيا فقط‪:‬‬ ‫فإن الكافر يجازى على عمله الحسن لكن في الدنيا لا في الآخرة‪ ،‬والمؤمن‬ ‫قد يؤخر له الثواب في الآخرة‪ ،‬وقد يجازى به في الدنيا وفي الآخرة‬ ‫إذا فالتوفية تكون في الدنيا دون الآخرة للكافر‪ ،‬أما المؤمن فتكون في الدنيا‬ ‫والآخرة جميعا‪ ،‬أو في الآخرة فقط‪.‬‬ ‫\" َف َم ْن َو َج َد َخ ْي َرا َفل َي ْح َم ِد الل َه\"‪ :‬أي من وجد خيرا من أعماله فليحمد الله على‬ ‫الأمرين‪ :‬على توفيقه للعمل الصالح‪ ،‬وعلى ثواب الله له‬ ‫\" َو َم ْن َو َج َد َغ ْي َر َذلِ َك\" أي وجد شرا أو عقوبة \"فَلا يَلُو َم َّن إِلاَّ نَف َسهُ\" لأنه لم‬ ‫ُيظلم‬

‫المقدمة‬ ‫باب الحث على الازدياد من الخير في أواخر العمر‬ ‫الحديث الثاني عشر بعد المائة‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‪:‬‬ ‫\" أَ ْع َذ َر ال َّلهُ إلى ا ْم ِرئ أ َّخ َر أ َج َل ُه‪ ،‬ح َّتى َبلَّ َغ ُه ِس ِّتي َن َس َنة‪\".‬‬ ‫( صحيح البخاري)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫َيحكي أبو هريرة رضي الله عنه أ َّن النب َّي ص َّلى الله عليه وس ّلَم قال‪\" :‬أَع َذر‬ ‫اللهُ إلى امرئ\"‬ ‫أي‪ :‬ق َطع ُعذ َره في ارتكا ِب المعاصي‪ ،‬قال العلماء‪ :‬معناه‪ :‬لم يترك له عذرا‬ ‫إذ أمهله هذه المدة‪ .‬يقال‪ :‬أعذر الرجل‪ :‬إذا بلغ الغاية في العذر‬ ‫\"أ َّخر أ َج َله\"؛ أي‪ :‬إذا أطال ُع ُم َره \"حتى ب َّلغه س ِّتين َسنة\" وهو على قي ِد‬ ‫الحيا ِة‬ ‫والمعنى أن الله ـ عز وجل ـ إذا عمر الإنسان حتى بلغ ستين سنة فقد أقام‬ ‫عليه الحجة‪ ،‬ونفى عنه العذر؛ لأن ستين سنة يبقى الله الإنسان إليها؛ يعرف‬ ‫من آيات الله ما يعرف‬ ‫ف َمن طال عم ُره حتى ب َلغ س ِّتين عاما‪ ،‬لم َيب َق له ُعذ ٌر في اقتراف الخطايا؛‬ ‫لأ َّنه يج ُب عليه أن َيستع َّد للِقا ِء الله ع َّز وجلَّ‬ ‫وفي هذا الحديث دليل على أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ له الحجة على عباده‬ ‫وذلك أن الله أعطاهم عقولا‪ ،‬وأعطاهم أفهاما‪ ،‬وأرسل إليهم رسلا‬ ‫وفي الحديث‪ :‬أ َّن ال َّشيخوخة نذي ُر الموت وال َّرحي ِل عن ال ُّدنيا؛ ولهذا ينبغي‬ ‫لِ َمن ب َلغ الس ِّتين الاستعدا ُد للقاء الله‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬إشار ٌة إلى أ َّن استكمال الس ِّتين َم ِظ َّن ُة انقضاء الأ َجل‪.‬‬

‫الحديث الثالث عشر بعد المائة‬ ‫عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‪ :‬كان عمر رضي الله عنه يدخلني مع‬ ‫أشياخ بدر‪ ،‬فكأن بعضهم وجد في نفسه‪ ،‬فقال‪ :‬لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء‬ ‫مثله؟! فقال عمر‪ :‬إنه من حيث علمتم! فدعاني ذات يوم فأدخلني معهم‪ ،‬فما‬ ‫رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم‪ ،‬قال‪ :‬ما تقولون في قول الله تعالى‪{ :‬إِ َذا‬ ‫َجا َء َن ْص ُر ال َّل ِه َوا ْل َف ْت ُح} [النصر‪]1 :‬‬ ‫فقال بعضهم‪ :‬امرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا‪ .‬وسكت‬ ‫بعضهم فلم يقل شيئا‪ .‬فقال لي‪ :‬أكذلك تقول يا أبن عباس؟ فقلت‪ :‬لا‪ .‬قال‪ :‬فما‬ ‫تقول؟ قلت هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له قال‪{ :‬إِ َذا َجا َء‬ ‫َن ْص ُر ال َّل ِه َوا ْل َف ْت ُح} وذلك علامة أجلك‪َ { :‬ف َس ِّب ْح ِب َح ْم ِد َر ِّب َك َوا ْس َت ْغ ِف ْر ُه إِ َّن ُه َكا َن‬ ‫َت َّوابا} [النصر‪ ]3 :‬فقال عمر رضي الله عنه ما أعلم منها إلا ما تقول‬ ‫(رواه البخاري)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان‬ ‫يدخله في أشياخ بدر وكان من سيره عمر وهديه رضي الله عنه أنه يشاور‬ ‫الناس ذوي الرأي فيما يشكل عليه‪ ،‬كما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه‬ ‫وسلم‪َ { :‬و َشا ِو ْر ُه ْم ِفي ا ْلأَ ْم ِر} (آل عمران‪)159 :‬‬ ‫فكان يدخل ابن عباس رضي الله عنهما مع أشياخ بدر‪ ،‬أي مع كبار الصحابة‬ ‫رضي الله عنهم‪ ،‬وكان صغير السن بالنسبة لهؤلاء‪ ،‬فوجدوا في أنفسهم‪:‬‬ ‫كيف يدخل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مع أشياخ القوم ولهم أبناء‬ ‫مثله ولا يدخلهم‬ ‫فأراد عمر رضي الله عنه أن يريهم مكانة عبد الله بن عباس رضي الله‬ ‫عنهما من العلم والذكاء والفطنة‪ ،‬فجمعهم ودعاه‪ ،‬فعرض عليهم هذه‬

‫السورة‪( :‬إِ َذا َجا َء َن ْص ُر ال َّل ِه َوا ْل َف ْت ُح َو َرأَ ْي َت ال َّنا َس َي ْد ُخلُو َن ِفي ِدي ِن ال َّل ِه أَ ْف َواجا‬ ‫َف َس ِّب ْح ِب َح ْم ِد َر ِّب َك َوا ْس َت ْغ ِف ْرهُ إِ َّن ُه َكا َن َت َّوابا)‬ ‫فانقسموا إلى قسمين لما سألهم عنها ما تقولون فيها؟‬ ‫قسم سكت‪ ،‬وقسم قال‪ :‬إن الله أمرنا إذا جاء النصر والفتح‪ ،‬أن نستغفر‬ ‫لذنوبنا‪ ،‬وأن نحمده ونسبح بحمده‪ ،‬ولكن عمر رضي الله عنه أراد أن يعرف‬ ‫ما مغزى هذه السورة‪ ،‬ولم يرد أن يعرف معناها التركيبي من حيث الألفاظ‬ ‫والكلمات‪.‬‬ ‫فسال ابن عباس رضي الله عنهما قال‪ :‬ما تقول في هذه السورة؟ قال‪ :‬هو‬ ‫أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬يعني علامة قرب أجله‪ ،‬أعطاه الله آية‪:‬‬ ‫(إِ َذا َجا َء َن ْص ُر ال َّل ِه َوا ْل َف ْت ُح) يعني فتح مكة‪ ،‬فإن ذلك علامة أجلك؛ ( َف َس ِّب ْح‬ ‫ِب َح ْم ِد َر ِّب َك َوا ْس َت ْغ ِف ْرهُ إِ َّن ُه َكا َن َت َّوابا)‬ ‫فقال‪ :‬ما أعلم فيها إلا ما علمت‪ ،‬وظهر بذلك فضل عبد الله بن عباس رضي‬ ‫الله عنهما‬ ‫وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يفطن لمغزى الآيات الكريمة‪ ،‬فإن‬ ‫المعنى الظاهر الذي يفهم من الكلمات والتركيبات؛ هذا أمر قد يكون سهلا‪،‬‬ ‫لكن مغزى الآيات الذي أراده الله تعالى هو الذي قد يخفي على كثير من‬ ‫الناس‪ ،‬ويحتاج إلى فهم يؤتيه الله تعالى من يشاء‬

‫الحديث الرابع عشر بعد المائة‬ ‫عن عائشة رضي الله عنها‪ ،‬قالت‪ :‬ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‬ ‫صلاة بعد أن نزلت عليه‪{ :‬إِ َذا َجا َء َن ْص ُر ال َّلهِ َوا ْل َف ْت ُح} إلا يقول فيها‪:‬‬ ‫((سبحانك ربنا وبحمدك‪ ،‬اللهم اغفر لي))‬ ‫متفق عليه‬ ‫شرح الحديث‬ ‫وفي رواية في الصحيحين عنها‪ :‬كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر‬ ‫أن يقول في ركوعه وسجوده‪(( :‬سبحانك اللهم ربنا وبحمدك‪ ،‬اللهم اغفر‬ ‫لي))‪ ،‬يتأول القرآن‬ ‫معنى‪(( :‬يتأول القرآن)) أي يعمل ما أمر به في القرآن في قوله تعالى‪:‬‬ ‫{ َف َس ِّب ْح ِب َح ْم ِد َر ِّب َك َوا ْس َت ْغفِ ْرهُ}‬ ‫وفي رواية لمسلم‪ :‬كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل أن‬ ‫يموت‪{ :‬إذا جاء نصر الله والفتح} … إلى آخر السورة‪.‬‬ ‫وفي رواية له‪ :‬كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول‪(( :‬سبحان‬ ‫الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه))‪ .‬قالت‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬أراك تكثر‬ ‫من قول سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه؟ فقال‪(( :‬أخبرني ربي أني‬ ‫سأرى علامة في أمتي فإذا رأيتها أكثرت من قول‪ :‬سبحان الله وبحمده‬ ‫أستغفر الله وأتوب إليه فقد رأيتها‪{ :‬إذا جاء نصر الله والفتح} فتح مكة‪،‬‬ ‫{ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه‬ ‫كان توابا}‬ ‫في هذا الحدي ِث ُتخ ِب ُر أُ ُّم ال ُمؤ ِمني َن عائِ َش ُة ر ِض َي اللهُ عنها‪ :‬أن النبي صلى الله‬ ‫عليه وسلم قال‪:‬‬ ‫\" أخبَّرني ربي\"‪ ،‬أي‪ :‬أ ْخ َب َرني ربي بال َو ْحيِ‬

‫\"أ ِّني سأَ َرى َعلا َمة في أُ َّمتي‪ ،‬فإذا َرأَ ْي ُتها أ ْك َث ْر ُت من َقو ِل‪ُ :‬س ْبحا َن اللهِ‬ ‫وب َح ْم ِد ِه‪ ،‬أ ْستغفِ ُر الل َه وأتو ُب إليه‪ ،‬فق ْد َرأَ ْي ُتها\"‬ ‫أي‪ :‬فق ْد َرأَ ْي ُت تلك ال َعلا َم َة الآ َن‪ ،‬فأنا أُكثِ ُر الا ْس ِتغفا َر وال َّتسبي َح ل َر ِّبي ُشكرا له‬ ‫على تلك ال َعلا َم ِة‪ ،‬وتلك ال َعلا َم ُة ما َذ َك َرهُ اللهُ َتعالى في ُسور ِة ال َّنص ِر‪{ :‬إِ َذا‬ ‫َجا َء َن ْص ُر الل ِه َوا ْل َف ْت ُح} أي‪ :‬إذا َح َصلَ َن ْص ُر الل ِه لك على أ ْعدا ِئ َك‪ ،‬و َح َد َث ال َف ْت ُح‬ ‫وهو‪َ \" ،‬ف ْت ُح َم َّك َة\" أي‪ :‬التغلُّ ُب على أ ْه ِلها وإ ْذعانِ ِهم ل ُح ْك ِمك‬ ‫{ َو َرأَ ْي َت ال َّنا َس َي ْد ُخلُو َن فِي ِدي ِن اللهِ َأ ْف َواجا}‪ ،‬أي‪َ :‬جماعات‪َ { ،‬ف َس ِّب ْح ِب َح ْم ِد‬ ‫َر ِّب َك َوا ْس َت ْغفِ ْر إِ َّن ُه َكا َن َت َّوابا} أي‪ :‬كثي ُر ال َّتوب ِة على ِعبا ِد ِه‪ ،‬وا ْستِ ْغفا ُره ص َلّى‬ ‫اللهُ عليه وس ّلَم هو َتعلي ٌم لأُ َّمتِ ِه أو َتوا ُض ٌع منه؛ إ ْذ لا َذ ْن َب له أو َت َر ٍّق في‬ ‫المقاما ِت‬ ‫وفي الحدي ِث ‪ :‬مواظبته صلى الله عليه وسلم على التسبيح والتحمد‬ ‫والاستغفار في ركوعه وسجوده‪ ،‬وأشرف أوقاته وأحواله‬ ‫وفيه‪ :‬خضوعه صلى الله عليه وسلم لربه وانطراحه بين يديه‪ ،‬ورؤية‬ ‫التقصير في أداء مقام العبودية‪ ،‬وحق الربوبية‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬الحث على الازدياد من الخير في أواخر العمر‪.‬‬

‫الحديث الخامس عشر بعد المائة‬ ‫عن أنس رضي الله عنه قال‪ :‬إ َّن ال َّل َه َع َّز َو َجلَّ َتا َب َع ال َو ْح َي ع َلى َرسو ِل اللهِ‬ ‫َص َّلى ال َّلهُ عليه وس َّل َم َق ْبلَ َو َفا ِت ِه‪ ،‬ح َّتى ُت ُو ِّف َي‪ ،‬أَ ْك َث ُر ما كا َن ال َو ْح ُي عليه‬ ‫( متفق عليه )‬ ‫شرح الحديث‬ ‫لَقد أ ْن َزل اللهُ َع َّز و َجلَّ الوح َي على َرسولِه صلَّى اللهُ عليه وس ّلَم ُم ْن ُذ َبعثتِه‪ُ ،‬ث َّم‬ ‫ف َتر الوح ُي فترة‪ُ ،‬ث َّم تتاب َع‬ ‫وفي هذا الحدي ِث َيروي أن ٌس ر ِضي اللهُ عنه أ َّن اللهَ تا َب َع على ال َّنبِ ِّي ص َّلى اللهُ‬ ‫عليه وسلَّم الوح َي ق ْبل وفاتِه‪ ،‬فل َّما ق ُر َبت وفا ُة ال َّن ِب ِّي ص َّلى اللهُ عليه وسلَّم‬ ‫كان الوح ُي أكث َر م َّما كان ِمن َق ْبلُ‬ ‫لِش َّد ِة الحاج ِة إليه في بيا ِن ما َيحتا ُج إليه النا ُس؛ وذلك لِكثر ِة ال َّداخلي َن في‬ ‫الإسلا ِم في عا ِم ال ُوفو ِد‪ُ ،‬ث َّم ان َقط َع الوح ُي ِم َن ال َّسماء بع َد وفا ِة ال َّن ِب ِّي صلى الله‬ ‫عليه وسلم‬ ‫وفي الحدي ِث ‪ :‬أ َّن ال َّنبِ َّي صلَّى اللهُ عليه وس َّلم قد ب ّلَ َغ الوح َي َكاملا‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬أَ َّن َتتا ُب َع الوحيِ عليه كان ُمن ِذرا له ِبال َّتأ ُّه ِب؛ ِلأ َّنه لم يك ْن لِ ُي ْق َب َض صلَّى‬ ‫اللهُ عليه وس َّلم إ َّلا ب ْع َد إنزا ِل الوحيِ ُك ِّله‬

‫الحديث السادس عشر بعد المائة‬ ‫عن جابر رضي الله عنه قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ُ \" :‬ي ْب َع ُث‬ ‫ُكلُّ َع ْبد علَى ما ما َت عليه\" ( صحيح مسلم )‬ ‫شرح الحديث‬ ‫أ ْن ُيخ َت َم ع َملُ العب ِد بال َّطاعا ِت وال ُقربا ِت وما ُيح ُّب اللهُ م َن ال َكلما ِت‪ ،‬ه َو غاي ٌة‬ ‫ُيح ِّصلُها ال َّسعي ُد لا غي ُره‬ ‫َففي هذا ال َحدي ِث ُيخ ِب ُر ال َّنب ُّي ص ّلَى اللهُ علي ِه وس ّلَم أ َّنه ُيبع ُث كلُّ عبد ِمن ذكر‬ ‫أو أُنثى على ما ما َت َعليه‪ِ ،‬من خير وش ٍّر‪ ،‬ف َع َلى كلِّ إنسان أ ْن َيح ِر َص على‬ ‫أ ْن َيمو َت على َخي ِر الأحوا ِل‬ ‫وفي الحدي ِث حث على َدوا ِم َعم ِل ال َّصالحا ِت والخيرا ِت؛ فإ َّنه لا لا َي ْدري أح ٌد‬ ‫م َتى يمو ُت ‪.‬‬

‫المقدمة‬ ‫باب في بيان كثرة طرق الخير‬ ‫الحديث السابع عشر بعد المائة‬ ‫عن أبي ذر جندب بن جنادة رضي الله عنه قال‪:‬‬ ‫ُقل ُت‪ :‬يا َرسول الل ِه‪ ،‬أ ُّي الأ ْعما ِل أ ْف َضلُ؟‬ ‫قالَ‪ \" :‬الإيما ُن بال َّلهِ وا ْل ِجها ُد في َسبيلِ ِه\"‬ ‫قالَ‪ُ :‬قل ُت‪ :‬أ ُّي ال ِّرقا ِب أ ْف َضلُ؟‬ ‫قالَ‪ \" :‬أ ْن َف ُسها ِع ْن َد أ ْهلِها وأَ ْك َث ُرها َث َمنا\"‬ ‫قالَ‪ُ :‬قل ُت‪ :‬فإ ْن َل ْم أ ْف َعلْ؟‬ ‫قالَ‪ُ \" :‬ت ِعي ُن صا ِنعا‪ ،‬أ ْو َت ْص َن ُع ل َأ ْخ َر َق\"‬ ‫قالَ‪ :‬قُل ُت‪ :‬يا َرسولَ اللهِ‪ ،‬أ َرأَ ْي َت إ ْن َض ُع ْف ُت عن َب ْع ِض ال َع َم ِل؟‬ ‫قالَ‪َ \":‬ت ُك ُّف َش َّر َك َع ِن ال َّنا ِس فإ َّنها َص َد َق ٌة ِم ْن َك ع َلى َن ْف ِس َك\"‬ ‫(متفق عليه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل‬ ‫الأعمال من أجل أن يقوموا بها‬ ‫فحرصا على الخي ِر و ِفعلِه سأَل أبو ذ ٍّر رضي الله عنه‪ :‬أ ُّي الأعما ِل أفضلُ‬ ‫وأكث ُرها ثوابا وأن َف ُعها لفاعلِها؟!‬ ‫فد َّله ص َلّى اللهُ عليه وسلَّم على أسا ِس الع َم ِل ال َّصال ِح‪ ،‬أ َلا وهو الإيما ُن بالل ِه‪،‬‬ ‫ث َّم ال ِجها ُد في سبي ِل الله‬ ‫ثم سأله عن الرقاب‪ :‬أي الرقاب أفضل؟ والمراد بالرقاب‪ :‬المماليك‪ ،‬يعني‪ :‬ما‬ ‫هو الأفضل في إعتاق الرقاب؟‬

‫فقال‪( :‬أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً) وأنفسها عند أهلها يعني‪ :‬أحبها عند‬ ‫أهلها‪ ،‬وأكثرها ثمنا‪ :‬أي أغلاها ثمنا‬ ‫فيجتمع في هذه الرقبة النفاسة‪ ،‬وكثرة الثمن‪ ،‬ومثل هذا لا يبذله إلا الإنسان‬ ‫عنده قوة وإيمان وكان ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ إذا أعجبه شيء من‬ ‫ماله تصدق به‬ ‫فقال أبو ذ ٍّر رضي الله عنه‪ :‬فإن لم أف َعلْ؟ أي‪ :‬فإن لم أق ِد ْر على ال ِعت ِق‪ ،‬فهل‬ ‫هناك طري ٌق آ َخ ُر لتحصي ِل الأج ِر؟‬ ‫فقال له ص َّلى اللهُ عليه وسلَّم‪ُ \" :‬ت ِعين صانعا\"‬ ‫أي ُتسا ِعد َمن يع َملُ في ع َملِه او تصنع له معروفا‬ ‫\"أو تصنَ ُع لأخ َر َق \"‪ ،‬والأخ َر ُق هو‪ُ :‬مسي ُء ال َّتدبي ِر‪ ،‬ا َّلذي لا ُيتقِ ُن ما ُيحاولُ‬ ‫ِفع َله فتساعده وتعينه فهذا أيضا صدقة ومن الأعمال الصالحة‬ ‫فأعاد أبو ذ ٍّر رضي الله عنه قولَه‪ :‬فإ ْن لم أف َع ْل؟ أي‪ :‬فإ ْن لم أق ِد ْر على هذا؟‬ ‫فد َّله ص ّلَى اللهُ عليه وس ّلَم على ما لا يع ِج ُز عنه أ َح ٌد‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫\" ت ُك ُّف ش َّرك عن الناس\" وهذا أدنى ما يكو ُن؛ أن ي ُك َّف الإنسا ُن ش َّره عن‬ ‫غي ِره‪ ،‬فيسلَ َم ال َّنا ُس منه‬ ‫وفي الحدي ِث ‪ :‬تن ُّو ُع أبوا ِب الخي ِر‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬خي ُر الأعما ِل هو ص َّح ُة الإيما ِن بالله‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬أج ُر الفع ِل يتع َلّ ُق ب َنف ِعه‬

‫الحديث الثامن عشر بعد المائة‬ ‫عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‪:‬‬ ‫\" ُي ْصبِ ُح ع َلى ُكلِّ ُس َلا َمى ِمن أَ َح ِد ُك ْم َص َد َق ٌة‪َ ،‬ف ُكلُّ َت ْسبِي َحة َص َد َق ٌة‪َ ،‬و ُكلُّ َت ْح ِمي َدة‬ ‫َص َد َق ٌة‪َ ،‬و ُكلُّ َت ْهلِيلَة َص َد َق ٌة‪َ ،‬و ُكلُّ َت ْكبِي َرة َص َد َق ٌة‪َ ،‬و َأ ْم ٌر بال َمعرو ِف َص َد َق ٌة‪،‬‬ ‫َو َن ْه ٌي َع ِن ال ُم ْن َك ِر َص َد َق ٌة‪َ ،‬و ُي ْج ِز ُئ ِمن ذل َك َر ْك َع َتا ِن َي ْر َك ُع ُهما ِم َن ال ُّض َحى \"‬ ‫(مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‪:‬‬ ‫(يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة) السلامى هي العظام‪ ،‬أو مفاصل‬ ‫العظام‪ ،‬يعني أنه يصبح كل يوم على كل واحد من الناس صدقة في كل عضو‬ ‫من أعضائه‪ ،‬في كل مفصل من مفاصله‬ ‫قالوا‪ :‬والبدن فيه ثلاثمائة وستون مفصلا‪ ،‬ما بين صغير وكبير‪ ،‬فيصبح‬ ‫على كل إنسان كل يوم ثلاثمائة وستون صدقة‪.‬‬ ‫ولكن هذا الصدقات ليست صدقات مالية‪ ،‬بل هي عامة‪ ،‬كل أبواب الخير‬ ‫صدقة‪ ،‬كل تهليلة صدقة‪ ،‬وكل تكبيرة صدقة‪ ،‬وكل تسبيحة صدقة‪ ،‬وكل‬ ‫تحميدة صدقة‪ ،‬وأمر بالمعروف صدقة‪ ،‬ونهي عن المنكر صدقة‪ ،‬حتى إن‬ ‫النبي صلى الله عليه وسلم قال‪:‬‬ ‫(إنك إذا أعنت الرجل في دابته وحملته عليها أو رفعت له عليها متعة فهو‬ ‫صدقة) كل شيء صدقة‪ ،‬قراءة القرآن صدقة‪ ،‬طلب العلم صدقة‪ ،‬وحينئذ‬ ‫تكثر الصدقات‪ ،‬ويمكن أن يأتي الإنسان بما عليه من الصدقات‪ ،‬وهي‬ ‫ثلاثمائة وستون صدقة‬ ‫ثم قال‪( :‬ويجزى من ذلك) ‪ ،‬يعني‪ :‬عن ذلك (ركعتان يركعهما من الضحى)‬ ‫يعني أنك صليت من الضحى ركعتين؛ أجزأت عن كل الصدقات التي عليك‪،‬‬ ‫وهذا من تيسير الله ـ عز وجل ـ على العباد‬

‫وفي الحدي ِث دليل على أن الصدقة تطلق على ما ليس بمال‬ ‫وفيه أيضا دليل على أن ركعتي الضحى سنة‪ ،‬سنة كل يوم‪ ،‬لأنه إذا كان كل‬ ‫يوم عليك صدقة على كل عضو من أعضائك‪ ،‬وكانت الركعتان تجزي‪ ،‬فهذا‬ ‫يقضي أن صلاة الضحى سنة كل يوم‪ ،‬من أجل أن تقضي الصدقات التي‬ ‫عليك‪.‬‬ ‫قال أهل العلم‪ :‬وسنة الضحى يبتدئ وقتها مع ارتفاع الشمس قدر رمح‪،‬‬ ‫يعني حوالي ربع إلى ثلث ساعة بعد الطلوع‪ ،‬إلى قبيل الزوال‪ ،‬أي إلى قبل‬ ‫الزوال بعشر دقائق‪ ،‬كل هذا وقت لصلاة الضحى‪ ،‬في أي وقت فيه تصلى‬ ‫ركعتي الضحى‪ ،‬ما بين ارتفاع الشمس قدر رمح إلى وقت الزوال‪ ،‬فإنه‬ ‫يجزي لكن الأفضل أن تكون في آخر الوقت‪ ،‬لقول النبي صلى الله عليه‬ ‫وسلم‪( :‬صلاة الأوابين حين ترمض الفصال) يعني حين تقوم الفصال من‬ ‫الرمضاء لشدة حرارتها‬ ‫ولهذا قال العلماء‪ :‬إن تأخير ركعتي الضحى إلى آخر الوقت أفضل من‬ ‫تقديمها‪ ،‬كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب أن تؤخر صلاة العشاء‬ ‫إلى آخر الوقت‪ ،‬إلا مع المشقة‪.‬‬ ‫فالحاصل أن الإنسان قد فتح الله له أبواب طرق الخير كثيرة‪ ،‬وكل شيء‬ ‫يفعله الإنسان من هذه الطرق‪ ،‬فإن الحسنة بعشر أمثالها‪ ،‬إلى سبعمائة‬ ‫ضعف‪ ،‬إلى أضعاف كثيرة‪.‬‬

‫الحديث التاسع عشر بعد المائة‬ ‫عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‪:‬‬ ‫\" ُع ِر َض ْت َعلَ َّي أ ْعمالُ أُ َّمتي َح َس ُنها و َس ِّي ُئها‪َ ،‬ف َو َج ْد ُت في َمحا ِس ِن أ ْعمالِها‬ ‫الأ َذى ُيما ُط َع ِن ال َّط ِري ِق‪ ،‬و َو َج ْد ُت في َمسا ِوي أ ْعما ِلها ال ُّنخا َع َة َت ُكو ُن في‬ ‫ال َم ْس ِج ِد‪ ،‬لا ُت ْد َف ُن\"‬ ‫(مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫في هذا الحديث ُي َب ِّي ُن ال َّنب ُّي ص ّلَى اللهُ عليه وس َّلم محا ِس َن الأعما ِل ومسا ِو َئها‪،‬‬ ‫فيقول‪ُ ( :‬ع ِر َض ْت َعلَ َّي أعمالُ أُ َّم ِتي) عرضت علي‪ :‬يعني بلغت عنها‪ ،‬وبينت‬ ‫لي‪ ،‬والذي بينها له هو الله عز وجل‪ ،‬لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يحلل‬ ‫ويحرم ويوجب‪ ،‬فعرض الله عز وجل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم‬ ‫المحاسن والمساوئ من أعمال الأمة‬ ‫( َف َو َج ْد ُت في َمحا ِس ِن أ ْعما ِلها الأ َذى ُيما ُط َع ِن ال َّط ِري ِق)‬ ‫فوجد من محاسنها‪ :‬الأذى يماط عن الطريق‪ ،‬ويماط‪ :‬يعني يزال عن الطريق‬ ‫‪ ،‬والأذى هو كل ما يؤذي المارة؛ من شوك‪ ،‬وأعواد‪ ،‬وأحجار‪ ،‬وزجاج‪،‬‬ ‫وغير ذلك‪ .‬كل ما يؤذي فإماطته من محاسن الأعمال‪.‬‬ ‫وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام أن إماطة الأذى عن الطريق صدقة‪ ،‬فهو‬ ‫من محاسن الأعمال‪ ،‬وفيه ثواب الصدقة‬ ‫وبين النبي صلى الله عليه وسلم‪ :‬أن (الإيمان بضع وسبعون شعبة‪ ،‬أعلاها‬ ‫قول لا إله إلا الله‪ ،‬وأدناها إماطة الأذى عن الطريق‪ ،‬والحياء شعبة من‬ ‫الإيمان) فإذا وجدت في الطريق أذى فأماطته؛ فإن ذلك من محاسن أعمالك‪،‬‬ ‫وهو صدقة لك‪ ،‬وهو من خصال الإيمان وشعب الإيمان‬ ‫وإذا كان هذا من المحاسن ومن الصدقات‪ ،‬فإن وضع الأذى في طريق‬ ‫المسلمين من مساوئ الأعمال‬

‫ثم قال ‪(:‬و َو َج ْد ُت في َمسا ِوي أ ْعمالِها النُّخا َعةَ تَ ُكو ُن في ال َم ْس ِج ِد‪ ،‬لا تُ ْدفَ ُن)‬ ‫النخاعة يعني النخامة (وهي البزاقة التي تخرج من الفم) والمراد بها‬ ‫إلقاؤها‬ ‫(تكون في المسجد لا تدفن) أي تركها ظاهرة لاتدفن‪ ،‬لأن المسجد في عهد‬ ‫الرسول صلى الله عليه وسلم مفروش بالحصباء‪ ،‬بالحصى الصغار‪ ،‬فالنخامة‬ ‫تدفن في التراب‪ ،‬أما الآن فليس هناك تراب‪ ،‬ولكن إذا وجدت فإنها تحك‬ ‫بالمنديل حتى تذهب‪ ،‬واعلم أن النخامة في المسجد حرام‪ ،‬فمن تنخع في‬ ‫المسجد فقد أثم‪ ،‬لقول النبي صلى الله عليه وسلم‪( :‬البصاق في المسجد‬ ‫خطيئة)‬ ‫فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم أنها خطيئة وكفارتها دفنها‪ ،‬يعني إذا فعلها‬ ‫الإنسان وأراد أن يتوب فليدفنها‪ ،‬لكن في عهدنا‪ :‬فليحكها بمنديل أو نحوه‬ ‫حتى تزول‪.‬‬ ‫وال َّذ ُّم لا يخت ُّص بصاح ِب ال ُّنخا َع ِة‪ -‬وإ ْن كان إث ُمه أك َث َر‪ -‬بل يد ُخلُ فيه هو و ُكلُّ‬ ‫َمن رآها ولا ُيزيلُها‪ ،‬فلم َيث ُب ْت لها ُحك ُم ال َّس ِّي َئ ِة بمج َّر ِد إيقا ِعها في المس ِج ِد‪،‬‬ ‫بل به وبتر ِكها غي َر مدفو َنة‪ .‬وإذا كانت هذه النخاعة‪ ،‬فما بالك بما هو أعظم‬ ‫منها‬ ‫فكأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عملين يكثر وقوعهما‪ ،‬ولا يعبأ الناس‬ ‫بهما‪ ،‬فكثير من الأحيان يمر الإنسان بالأذى في الطريق‪ ،‬ولا يميطه مع أن‬ ‫ذلك من الصدقات‪ ،‬وكذلك أيضا قد يقع منه الإساءة والذنب والإثم بهذا الفعل‬ ‫في المسجد ولايزيله‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬ال َّترغي ُب في َتنظي ِف المسا ِج ِد‬ ‫وفيه‪ :‬ما ي ُدلُّ على أ َّنه لا َيجو ُز أن ُيحت َق َر م َن البِ ِّر شي ٌء‪ ،‬ولا ُيستص َغ ُر من‬ ‫الإث ِم شي ٌء وإن َقلَّ‬

‫الحديث العشرون بعد المائة‬ ‫عن أبي ذر رضي الله عنه ‪:‬‬ ‫أ َّن َناسا ِمن أَ ْص َحا ِب النب ِّي َص َّلى ال َّلهُ عليه وس ّلَ َم قالوا للنب ِّي َص َّلى ال َّلهُ عليه‬ ‫وس َّل َم‪ :‬يا َرسولَ الل ِه‪َ ،‬ذ َه َب أَ ْهلُ ال ُّد ُثو ِر بالأُ ُجو ِر‪ُ ،‬ي َص ُّلو َن كما ُن َص ّلِي‪،‬‬ ‫َو َي ُصو ُمو َن كما َن ُصو ُم‪َ ،‬و َي َت َص َّد ُقو َن ب ُف ُضو ِل أَ ْم َوا ِل ِه ْم‪ ،‬قالَ‪َ \" :‬أ َولي َس ق ْد َج َعلَ‬ ‫ال َّلهُ َل ُك ْم ما َت َّص َّد ُقو َن؟ إ َّن ب ُكلِّ َت ْسبِي َحة َص َد َقة‪َ ،‬و ُكلِّ َت ْكبِي َرة َص َد َقة‪َ ،‬و ُكلِّ َت ْح ِمي َدة‬ ‫َص َد َقة‪َ ،‬و ُكلِّ َت ْهلِيلَة َص َد َقة‪َ ،‬وأَ ْم ٌر بال َمعرو ِف َص َد َق ٌة‪َ ،‬و َن ْه ٌي عن ُم ْن َكر َص َد َق ٌة‪،‬‬ ‫وفي ُب ْض ِع َأ َح ِد ُك ْم َص َد َق ٌة \"‬ ‫قالوا‪ :‬يا َرسو َل اللهِ‪ ،‬أَيَأتي أَ َح ُدنَا َش ْه َوتَهُ َويَكو ُن له فِي َها أَ ْج ٌر؟ قا َل‪:‬‬ ‫\" أَ َرأَ ْي ُت ْم لو َو َض َع َها في َح َرام أَكا َن عليه ِفي َها ِو ْز ٌر؟ َف َكذل َك إ َذا َو َض َع َها في‬ ‫ال َح َلا ِل كا َن له أَ ْج ٌر \"‬ ‫(مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫كان ال َّصحاب ُة ر ِضي اللهُ عن ُهم لِش َّد ِة ِحر ِصهم على الأَعما ِل ال َّصالح ِة‪ ،‬وق َّو ِة‬ ‫َرغبتِهم في الخي ِر َيحزنو َن على ما َيتع َّذ ُر َعليهم ِفعلُه ِم َن ال َخي ِر م َّما َيق ِد ُر‬ ‫علي ِه َغي ُرهم‪َ ،‬فكا َن ال ُفقرا ُء َيحزنو َن على َفوا ِت ال َّصدق ِة بالأَموا ِل الَّتي َيق ِد ُر‬ ‫َعليها الأَغنيا ُء‪ ،‬و َيحزنو َن على ال َّتخلُّف ع ِن ال ُخرو ِج في ال ِجها ِد؛ لِعد ِم ال ُقدر ِة‬ ‫على آل ِته‪َ ،‬كما قالَ َتعالى‪َ { :‬و َلا َعلَى ا َّل ِذي َن إِ َذا َما أَ َت ْو َك لِ َت ْح ِم َل ُه ْم ُق ْل َت َلا َأ ِج ُد َما‬ ‫أَ ْح ِملُ ُك ْم َعلَ ْي ِه َت َو َّل ْوا َوأَ ْع ُي ُن ُه ْم َت ِفي ُض ِم َن ال َّد ْم ِع َح َزنا أَ َّلا َي ِج ُدوا َما ُي ْن ِف ُقو َن}‬ ‫[التوبة‪]92 :‬‬ ‫وفي هذا ال َحدي ِث ُيخب ُر ال َّصحاب ُّي ال َجليلُ أَبو ذ ٍّر ر ِضي اللهُ عنه أ َّن ناسا م ْن‬ ‫أَصحا ِب ال َّنب ِّي صلَّى اللهُ علي ِه وس َلّم‪ ،‬قالوا لل َّنب ِّي صلَّى اللهُ علي ِه وس َّلم‪( :‬يا‬ ‫َرسولَ الل ِه‪َ ،‬ذه َب أَهلُ ال ُّد ُثو ِر بالأُجو ِر) أي استأثروا بالأجور وأخذوها عنا‪،‬‬ ‫وأهل الدثور‪ :‬يعني أهل الأموال‬

‫أي استأثر أصحاب الأموال بالأجور‪ ،‬وأخذوها عنا مما يحصل لهم من أجر‬ ‫الصدقه بأموالهم‬ ‫(يصلون كما نصلي‪ ،‬ويصومون كما نصوم‪ ،‬ويتصدقون بفضول أموالهم)‬ ‫يعني‪ :‬فنحن وهم سواء في الصلاة وفي الصيام‪ ،‬ولكنهم يفضلوننا بالتصدق‬ ‫بفضول أموالهم‪ ،‬أي بما أعطاهم الله تعالى من فضل المال؛ ونحن لا نتصدق‬ ‫وهذه شكوى غبطة‪ ،‬لا شكوى حسد‪ ،‬ولا اعتراض على الله عز وجل ولكن‬ ‫يطلبون فضلا يتميزون به عمن أغناهم الله‬ ‫فقال النبي صلى الله عليه وسلم‪( :‬أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به )‬ ‫يعني إذا فاتتكم الصدقة بالمال ‪ ،‬فهناك الصدقة بالأعمال الصالحة ‪ ( :‬إن بكل‬ ‫تسبيحة صدقة ‪ ،‬وكل تكبيرة صدقة‪ ،‬وكل تحميدة صدقة‪ ،‬وكل تهليلة صدقة‪،‬‬ ‫وأم ٌر بالمعروف صدقة‪ ،‬ونهي عن المنكر صدقة)‬ ‫فدلهم الرسول صلى الله عليه وسلم على صدقات يقدرون عليها ( إ َّن ب ُك ِّل‬ ‫تَسبيح ٍة َصدقةً) ‪ ،‬أي‪َ :‬قو ِل ُسبحا َن الل ِه‪( ،‬و ُك ُّل تَكبير ٍة َصدقةٌ) ‪ ،‬أي‪َ :‬قو ِل‪ :‬اللهُ‬ ‫أَكب ُر‪ (.‬و ُك ُّل تَحمي َد ٍة صدقةٌ) ‪ ،‬أي‪َ :‬قو ِل‪ :‬ال َحم ُد لل ِه‪( ،‬و ُك ُّل تَهليلَ ٍة َصدقةٌ) ‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫َقو ِل‪ :‬لا إِلَ َه إ َّلا اللهُ‪( ،‬وأم ٌر بال َمعرو ِف صدق ٌة‪ ،‬ونه ٌي عن ُمن َكر َصدق ٌة) فإن‬ ‫الأمر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر من أفضل الصدقات‬ ‫ُث َّم قال ال َّنب ُّي ص َّلى اللهُ علي ِه وس َّلم‪ (:‬وفي ُبض ِع أَح ِدكم َصدق ٌة) يعني أن الرجل‬ ‫إذا أتى امرأته‪ ،‬فإن ذلك صدقة‪ ،‬فتعجبوا‪ ،‬وقالوا ‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬أيأتي أحدنا‬ ‫شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال‪( :‬أرأيتم لو وضعها في الحرام‪ ،‬أكان عليه‬ ‫وزر؟) يعني لو زنى ووضع الشهوة في الحرام‪ ،‬هل يكون عليه وزر؟‬ ‫قالوا‪ :‬نعم‪ .‬قال‪( :‬فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)‬ ‫ومعنى ذلك‪ :‬أن الرجل إذا استغنى بالحلال عن الحرام‪ ،‬كان له بهذا‬ ‫الاستغناء أجر‪.‬‬

‫الحديث الحادي و العشرون بعد المائة‬ ‫عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‪:‬‬ ‫\" لا َت ْحقِ َر َّن ِم َن ال َمعرو ِف شيئا‪ ،‬ولو أ ْن َت ْل َقى أخا َك ب َو ْجه َط ْلق\"‬ ‫(مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫يب ِّي ُن ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم أ َّن المسلِ َم لا َيج ُب َعلي ِه أ ْن َيحقِ َر‪ ،‬أي‪ُ :‬يقلِّلَ‬ ‫م َن المعرو ِف‪ ،‬أي‪ِ :‬من ِفع ِل الخي ِر؛ شيئا‬ ‫و َلو أ ْن َيل َقى أَخاهُ ال ُمسل َم ((ب َوجه \" َط ْلق\"))‪ ،‬أي‪ :‬ضاحك ُمستب ِشر‪ ،‬ولي َس‬ ‫ب َوجه َعبوس ُمكف ِه ٍّر‪.‬‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬أ َّن ِمن َهد ِيه صلى الله عليه وسلم َطلاق َة ال َوج ِه عن َد ال ِّلقا ِء‪.‬‬ ‫و في ِه‪ :‬الح ُّث على ِفع ِل المعرو ِف قليلا كا َن أو كثيرا‪ ،‬بالما ِل‪ ،‬أ ِو ال ُخلُ ِق‬ ‫ال َحس ِن‬ ‫وفي ِه‪ :‬أ َّن ِمن َهدي ِه صلى الله عليه وسلم فِعلَ ال َمعرو ِف وإ ْن َقلَّ‪.‬‬

‫الحديث الثاني و العشرون بعد المائة‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ‪ :‬قال صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫(( ُكلُّ ُسلاَ َمى ِم َن ال َّنا ِس َع َل ْي ِه َص َد َق ٌة ُكلَّ َي ْوم َت ْطلُ ُع ِفي ِه ال َّش ْم ُس؛ َت ْع ِدلُ َب ْي َن‬ ‫الا ْث َن ْي ِن َص َد َق ٌة‪َ ،‬و ُت ِعي ُن ال َّر ُجلَ ِفي َدا َّب ِت ِه َف َت ْح ِملُ ُه َع َل ْي َها‪ ،‬أَ ْو َت ْر َف ُع َل ُه َع َل ْي َها‬ ‫َم َتا َع ُه َص َد َق ٌة ‪َ ،‬وا ْل َك ِل َم ُة ال َّط ِّي َب ُة َص َد َق ٌة‪َ ،‬و ِب ُكلِّ ُخ ْط َوة َت ْم ِشي َها إِلَى ال َّصل َا ِة‬ ‫َص َد َق ٌة‪َ ،‬و ُت ِمي ُط الأَ َذى َع ِن ال َّط ِري ِق َص َد َق ٌة ))‬ ‫( رواه البخار ُّي ومسلِ ٌم )‬ ‫شرح الحديث‬ ‫السلامى هي المفاصل‪ ،‬وجاء في صحيح مسلم أن السلامى ثلاثمائة وستون‬ ‫مفصلا‪.‬‬ ‫(( ُكلُّ ُسلا َمى ِم َن ال َّنا ِس َع َل ْي ِه َص َد َق ٌة ))‬ ‫أي‪ :‬إ َّن كلَّ ِم ْفصل ِمن َمفاص ِل الإنسا ِن عليه صدق ٌة لِ َّل ِه من ِفع ِل ال َّطاع ِة‬ ‫والخي ِر كلَّ يوم‪ ،‬وإ َّنما ُس ِّمي ْت طاع ُة الل ِه ِمن صلاة وغي ِرها صدقة؛ لأ َّن للهِ أ ْن‬ ‫َيفت ِر َض على ِعبا ِده ما شا َء ِم َن الأعما ِل ُدو َن أ ْجر يأج ُرهم عليها‪ ،‬ولا َثواب‬ ‫فيها‪ ،‬ولك َّنه بِ َرحمتِه َتف َّضلَ علينا بال َأ ْج ِر وال َّثوا ِب على ما َفرضه‪ ،‬فل َّما كان‬ ‫ِلأفعالِنا أج ٌر فكأ َّننا نح ُن ابتد ْأنا بِالعم ِل فاستحق ْق َنا ال َأج َر‪ ،‬ف َشا َبه به ال َّصدق َة‪.‬‬ ‫عليه صدقة في مقابلة ما أنعم الله به عليه في تلك السلاميات ‪ ،‬إذ لو شاء‬ ‫لسلبها القدرة وهو في ذلك عادل‪ .‬فإبقاؤها يوجب دوام الشكر بالتصدق ‪ ،‬إذ‬ ‫لو فقد له عظم واحد ‪ ،‬أو يبس ‪ ،‬أو لم ينبسط أو ينقبض لاختلت حياته ‪،‬‬ ‫وعظم بلاؤه ‪،‬والصدقة تدفع البلاء‪.‬‬ ‫(( ُكلُّ َيوم َت ْطلُ ُع فِ ْي ِه ال َّش ْم ُس))‬ ‫يعني كل يوم يصبح على كل عضو من أعضائنا صدقة‪ ،‬أي ثلاثمائة وستون‬ ‫في اليوم‪.‬‬

‫لكن من نعمة الله أن هذه الصدقة عامة في كل القربات‪ ،‬فكل القربات‬ ‫صدقات‪ ،‬وهذا شيء ليس بصعب على الإنسان‪ ،‬مادام كل قربة صدقة فما‬ ‫أيسر أن يؤدي الإنسان ما يجب عليه‪.‬‬ ‫ث َّم أَخب َر صلى الله عليه وسلم ِبوجو ِه ال َّطاعا ِت الَّتي َيتص َّد ُق بها إنسا ُن َعن‬ ‫َمفاصلِه‪ ،‬فقال‪َ (( :‬ت ْع ِدلُ َبي َن الاث َن ْي ِن َص َد َقة )) تعدل أي تفصل بينهما إما‬ ‫بصلح وإما بحكمإذا العدل بين اثنين بالصلح أو بالحكم يكون صدقة‪ ،‬لكن إن‬ ‫علم أن الحق لأحدهما فلا يصلح‪ ،‬بل يحكم بالحق‪.‬‬ ‫(( َو ُت ِع ْي ُن ال َّر ُجلَ ِفي َدا َّبتِ ِه )) أي بعيره (( ف َت ْح ِملُ ُه َع َل ْي َها )) إذا كان‬ ‫لايستطيع أن يركب تحمله أنت وتضعه على الرحل هذا صدقة‪.‬‬ ‫(( أَو َترفع َل ُه َعلَ ْي َها َم َتا َع ُه )) متاعه من طعام وشراب وغيرهما‪ ،‬تحمله‬ ‫على البعير وتربطه‪ ،‬هذا صدقة‪.‬‬ ‫(( َوال َكلِ َم ُة ال َّط ِّي َب ُة َص َد َق ٌة )) أي كلمة طيبة سواء طيبة في حق الله كالتسبيح‬ ‫والتكبير والتهليل‪ ،‬أو في حق الناس كحسن الخلق صدقة‪.‬‬ ‫(( و َبِ ُكلِّ ُخط َوة تمشيها إِلَى ال َّصلا ِة َص َد َقة )) سواء بعدت المسافة أم‬ ‫قصرت‪ ،‬وإذا كان قد تطهر في بيته وخرج إلى الصلاة لايخرجه إلا الصلاة لم‬ ‫يخط خطوة إلا رفع الله له بها درجة‪ ،‬وحط عنه بها خطيئة‪ .‬فيكتسب شيئين‪:‬‬ ‫رفع الدرجة‪ ،‬وحط الخطيئة‪.‬‬ ‫(( و ُت ِمي ُط الأ َذى َع ِن ال َّط ِر ْي ِق َص َد َق ٌة )) أي تزيل الأذى وهو ما يؤذي المارة‬ ‫من حجر أو زجاج أو قاذورات فأي شيء يؤذي المارين إذا أميط عن‬ ‫طريقهم فإنه صدقة‬ ‫و في الحدي ِث ‪ :‬وجوب شكر نعم الله التي في الإنسان ذاته لقول صلى الله‬ ‫عليه وسلم ((على كل سلامى من الناس صدقة)) أي كل عظم من عظام‬ ‫الإنسان يحتاج إلى شكر لله بصدقة لأنه ركبه وأتمه وأنعم به‪.‬‬

‫و فيه‪ :‬أفضل الصدقات ما كان متعديا نفعه مثل ‪ :‬أن تعدل بين اثنين وأن‬ ‫تحمل متاع أخيك أو تعينه على حمله وإماطة الأذى عن الطريق‪.‬‬ ‫و فيه ‪:‬على المسلم ألا يحتقر أي عمل يحتسبه عند الله سبحانه‪ ،‬فمجرد رفع‬ ‫متاع إنسان على دابته وإعانته على ذلك وإماطة الأذى عن الطريق يعتبر‬ ‫صدقة وهما عملان قد يحتقرهما الشخص‪.‬‬

‫الحديث الثالث والعشرون بعد المائة‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ‪ :‬قال رسول صلى الله عليه وسلم ‪َ (( :‬من‬ ‫َغ َدا إلى ال َم ْس ِج ِد‪ ،‬أَ ْو َرا َح‪ ،‬أَ َع َّد ال َّلهُ له في ال َج َّن ِة ُن ُزلا‪ُ ،‬ك َّلما َغ َدا‪ ،‬أَ ْو َرا َح ))‬ ‫( رواه البخار ُّي ومسلِ ٌم )‬ ‫شرح الحديث‬ ‫ير ِش ُد ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم في هذا الحدي ِث إلى فض ِل ال َّذها ِب إلى‬ ‫المساج ِد لأداء صلا ِة الجماع ِة‪ ،‬وال َّثوا ِب ال ُم َع ِّد لِ َمن اعتاد ال َّذها َب إليها‪ ،‬فيقولُ‬ ‫صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬ ‫(( َمن غدا إلى المسج ِد أو راح))‬ ‫وال ُغ ُد ُّو هو الوق ُت بين صلا ِة ال ُّصب ِح إلى شرو ِق ال َّشم ِس‪ ،‬وال َّروا ُح ِمن زوال‬ ‫ال َّشم ِس إلى ال َّلي ِل‪ ،‬والمقصو ُد ليس هذي ِن الوقتي ِن بخصوصهما‪ ،‬وإ َّنما‬ ‫المقصو ُد المداوم ُة على ال َّذها ِب إلى المسج ِد‬ ‫والمعنى‪ :‬أ َّن َمن اعتاد ال َّذها َب إلى المساج ِد فإ َّن اللهَ تعالى (( ُي ِع ُّد له نزلا ))‬ ‫والنزل هو ما يعد ويهيأ ويقدم للضيف من طعام ونحوه على وجه الإكرام‪،‬‬ ‫أي أن الله تعالى يعد لهذا الرجل الذي ذهب إلى المسجد صباحا أو مساء‪ ،‬يعد‬ ‫له في الجنة نزلا إكراما له‪.‬‬ ‫فتصور هذا النزل الذي يعده الله ‪-‬تبارك وتعالى‪ -‬وهو أغنى الأغنياء‪ ،‬وهو‬ ‫أكرم الأكرمين ‪ ،‬الله ‪-‬تبارك وتعالى‪ -‬بهذا العمل اليسير \"غدا إلى المسجد أو‬ ‫راح‪ ،‬أعد الله له نزلا كلما غدا أو راح ‪ ،‬في كل مرة يعد له نزلا‪ ،‬فما ظنكم‬ ‫بهذا النزل الذي يعده رب العالمين ؟!‪.‬‬ ‫(( ُكلَّما َغ َدا‪َ ،‬أ ْو َرا َح))‬ ‫ك ّلَما ذ َهب إلى المسجد‪ ،‬فيكو ُن ذها ُبه سببا في إعدا ِد نزلا وفي حديث‬ ‫البخاري منزلة في الج َّن ِة‬

‫ففي الحدي ِث‪ :‬إثبات هذا الجزاء العظيم لمن ذهب إلى المسجد أول النهار أو‬ ‫آخره‪.‬‬ ‫و فيه بيان فضل الله ـ عز وجل ـ على العبد‪ ،‬حيث يعطيه على مثل هذه‬ ‫الأعمال اليسيرة هذا الثواب الجزيل‪.‬‬ ‫و فيه الحث على شهو ِد الجماعا ِت‪ ،‬والمواظب ِة على ُحضو ِر المساج ِد‬ ‫لل َّصلوا ِت؛ لأ َّنه إذا أ َع َّد اللهُ له ُن ُز َله في الج َّن ِة بال ُغ ُد ِّو وال َّروا ِح؛ فما الظ ُّن بما‬ ‫ُي ِع ُّد له ويتف َّضلُ عليه بال َّصلا ِة في الجماع ِة واحتسا ِب أج ِرها والإخلا ِص فيها‬ ‫للهِ تعالى؟!‬

‫الحديث الرابع و العشرون بعد المائة‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ‪ :‬قال رسول صلى الله عليه وسلم ‪(( :‬يا‬ ‫نِسا َء ال ُم ْس ِلما ِت‪ ،‬لا َت ْحقِ َر َّن جا َر ٌة ِلجا َر ِتها‪ ،‬ولو فِ ْر ِس َن شاة ))‬ ‫(رواه البخار ُّي ومسلِ ٌم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫لا َيفعلُ العب ُد المسل ُم َحسنة أو معروفا إ َّلا جازاه اللهُ به ولو كان يسيرا؛ قال‬ ‫تعالى‪َ { :‬ف َم َن َي ْع َملْ ِم ْث َقالَ َذ َّرة َخ ْيرا َي َر ُه} [الزلزلة‪]7 :‬‬ ‫و لذلك أ َمر النب ُّي صلى الله عليه وسلم بع َدم احتقا ِر شيء من المعرو ِف ولو‬ ‫كان صغيرا‬ ‫و خا َطب ال ِّنسا َء في هذا الحدي ِث وأ َمر ُه َّن أ َّلا َيحت ِق ْر َن أ َّي شيء ُته ِديه إحدا ُه َّن‬ ‫لجارتِها ولو كان (( ِف ْرس َن شاة)) وهو ما دو َن ال ُّرس ِغ ِمن ي ِدها‪ ،‬وقيل‪ :‬هو‬ ‫َع ْظم قليلُ ال َّل ْح ِم‬ ‫والمقصو ُد‪ :‬المبالغ ُة في الح ِّث على الإهدا ِء ولو كان شيئا يسيرا‪ ،‬و َخ َّص‬ ‫النسا َء بال ِخطا ِب؛ لأ َّنه َّن َيغلِب عليه َّن استصغا ُر الشي ِء ال َيسي ِر والتباهي‬ ‫بالكثر ِة‪ ،‬ولأنها هي التي في العادة تختص بأمور المنزل وصنع الطعام‪ ،‬وما‬ ‫أشبه ذلك‪ ،‬وملاحظة الجارة‬ ‫يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث حث على الهدية للجار‬ ‫ولو شيئا قليلا‪ ،‬قال‪(( :‬ولو فرسن شاة)) وهو شيء بسيط زهيد كأن النبي‬ ‫صلى الله عليه وسلم يقول‪ :‬لا تحقرن من المعروف شيئا ولو قل‪.‬‬ ‫و قد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‪(( :‬إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها‬ ‫وتعاهد جيرانك)) ‪ .‬حتى المرق إذا أعطيته جيرانك هدية‪ ،‬فإنك تثاب على‬ ‫ذلك‬ ‫و في الحدي ِث ‪ :‬الح ُّض على ال َّتها ِدي ولو باليسي ِر؛ لأ َّن الكثي َر قد لا يتي َّسر في‬ ‫كلِّ وقت‪ ،‬وإذا َتوا َصل ال َيسي ُر صار كثيرا‪.‬‬

‫الحديث الخامس والعشرون بعد المائة‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ‪ :‬قال رسول صلى الله عليه وسلم ‪(( :‬‬ ‫الإِيما ُن ب ْض ٌع و َس ْب ُعو َن‪ ،‬أ ْو ب ْض ٌع و ِس ُّتو َن‪ُ ،‬ش ْع َبة‪ ،‬فأ ْف َضلُها َق ْولُ لا إ َل َه إ َّلا ال َّلهُ‪،‬‬ ‫وأَ ْدناها إما َط ُة الأ َذى َع ِن ال َّط ِري ِق‪ ،‬وا ْل َحيا ُء ُش ْع َب ٌة ِم َن الإيمان ))‬ ‫(البخاري ومسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫الإيما ُن قولٌ وعملٌ واعتقا ٌد‪ ،‬وهو َدرجا ٌت‪ ،‬وال ِخصالُ ال َحميدةُ كلُّها َت ْن َد ِر ُج‬ ‫َت ْح َت الإيما ِن‪.‬‬ ‫وهذا الحديث بين فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإيمان ليس خصلة‬ ‫واحدة‪ ،‬أو شعبة واحدة‪ ،‬ولكنه شعب كثيرة‬ ‫(( الإيما ُن ِب ْض ٌع و َس ْبعون‪ -‬أو ِب ْض ٌع و ِس ُّتون ُش ْعبة‪)) -‬‬ ‫أي‪ :‬الإيما ُن الكاملُ َد َرجا ٌت‪ ،‬و َي ْش َت ِملُ على أعمال وأفعال وأصناف من‬ ‫ال َّصالحا ِت َي ِصلُ عد ُدها إلى بِ ْضع وسبعين أو ِب ْضع و ِس ِّتين ُجزءا‬ ‫و ((ال ِب ْض ُع)) ‪َ :‬ي ُدلُّ على العد ِد ِمن ثلاثة إلى ِت ْسعة‪ ،‬ف َمن أَتى بعمل من‬ ‫ال َّصالحا ِت َف َق ْد أَ ْك َملَ ُجزءا من إيما ِن ِه‬ ‫(( فأَ ْف َضلُها قولُ لا إل َه إلا اللهُ )) أي‪ :‬أَعلى َد َرجا ِت الإيما ِن وأَ ْف َضلُها‪ ،‬بل‬ ‫وأَصلُ الإيما ِن هو توحي ُد اللهِ ع َّز وجلَّ‪ ،‬وهذه الكلمة هي مفتاح الجنة‪ ،‬لو‬ ‫وزنت بها السماوات والأرض لرجحت بها‪ ،‬لأنها كلمة الإخلاص‪ ،‬وكلمة‬ ‫التوحيد‪ ،‬الكلمة التي من كانت آخر كلامه من الدنيا دخل الجنة‪ ،‬هذه الكلمة‬ ‫هي أفضل شعب الإيمان‬ ‫(( وأَ ْدناها إِما َط ُة ال َأ َذى عن ال َّطري ِق ))‬ ‫أي‪ :‬وأقلُّ أعما ِل الإيما ِن هو َت ْنحي ُة الأَ َذى وإبعا ُدهُ َعن َطري ِق ال َّنا ِس‬

‫إزالة الأذى عن الطريق‪ ،‬وهو كل ما يؤذي المارين‪ ،‬من حجر‪ ،‬أو شوك‪ ،‬أو‬ ‫زجاج‪ ،‬أو غير ذلك‪ ،‬كل ما يؤذي المارين إذا أزلته فإن ذلك من الإيمان‪.‬‬ ‫(( و ال َحيا ُء ُش ْع َب ٌة ِمن الإيما ِن ))‬ ‫أي‪ :‬والحيا ُء َد َرج ٌة من الإيما ِن‪ ،‬وفي حديث آخر‪( :‬الحياء من الإيمان)‬ ‫الحياء خصلة حميدة تحمل صاحبها على فعل ما يزين‪ ،‬وتحجبه من فعل ما‬ ‫لا يليق‪ ،‬تحمله على مكارم الأخلاق‪ ،‬وعلى محاسن الأمور‪ ،‬وتصرفه عن‬ ‫مساوئها‪ ،‬هذا هو الحياء‪.‬‬ ‫ف َج َم َع هذا الحدي ُث َب ْين الا ْع ِتقا ِد و ال َع َم ِل و الأ ْخلا ِق‪ ،‬وأ َّنها ك َّلها ُمك ِّملا ٌت‬ ‫للإيما ِن‪ ،‬و َح ْص ُر ال َعد ِد لا َي ْعني الا ْق ِتصا َر على ال ِب ْض ِع وال ِّس ِّتين أو ال ِب ْض ِع‬ ‫وال َّس ْبعين‪ ،‬ولك َّن ُه َيدلُّ على َك ْثر ِة أَعما ِل الإيما ِن‬

‫الحديث السادس و العشرون بعد المائة‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ‪ :‬قال رسول صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬ ‫((ب ْي َنما َر ُجلٌ َي ْم ِشي ب َط ِريق ا ْش َت َّد عليه ال َع َط ُش‪َ ،‬ف َو َج َد ب ْئرا‪َ ،‬ف َن َزلَ فيها‬ ‫َف َش ِر َب‪ُ ،‬ث َّم َخ َر َج فإذا َك ْل ٌب َي ْل َه ُث َيأْ ُكلُ ال َّث َرى ِم َن ال َع َط ِش‪ ،‬فقالَ ال َّر ُجلُ ل َق ْد َب َل َغ‬ ‫هذا ال َك ْل َب ِم َن ال َع َط ِش ِم ْثلُ الذي كا َن َب َل َغ ِم ِّني‪َ ،‬ف َن َزلَ البِ ْئ َر َف َملأَ ُخ َّف ُه ماء‪ُ ،‬ث َّم‬ ‫أ ْم َس َك ُه بفِي ِه ح َّتى َر ِق َي َف َس َقى ال َك ْل َب َف َش َك َر ال َّلهُ له َف َغ َف َر له \" قالوا‪ :‬يا َرسولَ‬ ‫الل ِه‪ ،‬وإ َّن لنا في ه ِذه ال َبها ِئ ِم لأَ ْجرا؟‬ ‫فقالَ‪ \":‬في ُكلِّ َك ِبد َر ْط َبة أ ْج ٌر ))‬ ‫(البخاري ومسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫و في رواية للبخاري‪(( :‬فشكر الله له‪ ،‬فغفر له‪ ،‬فأدخله الجنة))‬ ‫و في رواية لهما‪(( :‬بينما كلب يطيف بركية قد كاد يقتله العطش إذ رأته بغي‬ ‫من بغايا بني إسرائيل‪ ،‬فنزعت موقها فاستقت له به فسقته فغفر لها به))‬ ‫((الموق))‪ :‬الخف‪ .‬و ((يطيف))‪ :‬يدور حول ((ركية))‪ :‬وهي البئر‬ ‫روي أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بينما‬ ‫رجل يمشي في الطريق مسافرا‪ ،‬أصابه العطش‪ ،‬فنزل بئرا فشرب منها‪،‬‬ ‫وانتهى عطشه‪ ،‬فلما خرج‪ ،‬وإذا بكلب ((يأكل الثرى من العطش)) ‪ ،‬يعني‪:‬‬ ‫يأكل الطين المبتل الرطب‪ ،‬يأكله من العطش‪ ،‬من أجل أن يمص ما فيه‬ ‫الماء‪ ،‬من شدة عطشه‬ ‫فقال الرجل‪ :‬والله لقد أصاب الكلب من العطش ما أصابني‪ ،‬أو بلغ بهذا الكلب‬ ‫من العطش ما بلغى بي‪ ،‬ثم نزل البئر وملأ خفه ماء (الخف‪ :‬ما يلبس على‬ ‫الرجل من جلود ونحوها) ‪ ،‬فملأه ماء فأمسكه بفيه‪ ،‬وجعل يصعد بيديه‪،‬‬

‫حتى صعد من البئر‪ ،‬فسقى الكلب‪ ،‬فلما سقى الكلب شكر الله له ذلك العمل‪،‬‬ ‫وغفر له‪ ،‬وأدخله الجنة بسببه‪.‬‬ ‫و لما َح َّدث صلى الله عليه وسلم الصحابة بهذا الحديث‪ ،‬وكانوا ـ رضي الله‬ ‫عنهم ‪-‬أشد الناس حرصا على العلم‪ ،‬لا من أجل أن يعلموا فقط‪ ،‬لكن من أجل‬ ‫أن يعلموا فيعملوا‪.‬‬ ‫سألوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬إن لنا في البهائم‬ ‫أجرا؟ قال‪(( :‬في كل ذات كبد رطبة أجر))‬ ‫لأن هذا كلب من البهائم‪ ،‬فكيف يكون لهذا الرجل الذي سقاه هذا الأجر‬ ‫العظيم؟ هل لنا في البهائم من أجر؟‬ ‫قال‪(( :‬في كل كبد رطبة أجر)) الكبد الرطبة تحتاج إلى الماء؛ لأنه لولا الماء‬ ‫ليبست وهلك الحيوان‪ ،‬أي في كل كبد لمن سقاها حتى تصير رطبة أجر‬ ‫وثواب ‪.‬‬ ‫فدل هذا على أن البهائم فيها أجر‪ .‬كل بهيمة أحسنت لها بسقي‪ ،‬أو إطعام‪،‬‬ ‫أو وقاية من حر‪ ،‬أو وقاية من برد‪ ،‬سواء كانت لك أو لغيرك من بني آدم‪،‬‬ ‫فإن لك في ذلك أجرا عند الله عز وجل هذا في البهائم؛ فكيف بالآدميين؟ إذا‬ ‫أحسنت إلى الآدميين كان أشد وأكثر أجرا‪.‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook