Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore شرح رياض الصالحين المائة الرابعة

شرح رياض الصالحين المائة الرابعة

Published by مكتبة(ورتل) الإلكترونيه, 2021-04-19 18:41:08

Description: شرح رياض الصالحين المائة الرابعة

Search

Read the Text Version

‫بدلا من س ّنا‪ ،‬يعني‪ :‬الأقدم إسلاما هو الأولى بالإمامة إذا تساوى في‬ ‫القراءة وفي العلم بالسنة وقدم الهجرة‪ِ ،‬سلما أي إسلاما‪.‬‬ ‫وفي رواية‪\" :‬يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة‪ ،‬فإن كانوا في‬ ‫القراءة سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة‪ ،‬فإن كانوا في الهجرة سواء‬ ‫فليؤمهم أكبرهم\"‬ ‫هذا عموما يدل على تقديم أهل الفضل‪ ،‬تقديم أهل القرآن‪ ،‬تقديم أهل‬ ‫العلم‪ ،‬تقديم كبار السن على غيرهم‪ ،‬وهذه من الآداب التي ينبغي على‬ ‫المسلمين أن يراعوها‪ ،‬وهي مما تدعو إليه الفطر‪ ،‬وقد جاءت هذه‬ ‫الشريعة بما يدل على مقتضى الفطرة والعقل الصحيح‪.‬‬

‫المقدمة‬ ‫باب فضل ضعفة المسلمين والفقراء‬ ‫الحديث التاسع والأربعون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أَبي مسعو ٍد عقب َة بن عمرو البدري الأنصاري رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬كا َن‬ ‫َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم َي ْم َس ُح َم َنا ِك َب َنا في ال َّصلا ِة‪ ،‬و َي ُقولُ‪:‬‬ ‫((ا ْس َت ُووا َولاَ َت ْخ َتلِ ُفوا‪َ ،‬ف َت ْخ َتلِ َف ُقلُو ُب ُك ْم‪ ،‬لِ َيلِني ِم ْن ُك ْم أُولُوا الأ ْحلاَ ِم َوال ُّن َهى‪،‬‬ ‫ُث َّم ا ّلَ ِذي َن َيلُو َن ُه ْم‪ُ ،‬ث َّم ا ّلَ ِذي َن َيلُو َن ُه ْم))‬ ‫(رواه مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫)) َوال ُّن َهى))‪ :‬ال ُع ُقولُ‬ ‫(( َوأُولُوا الأ ْحلام)‪ُ :‬هم ال َبالِ ُغو َن‪ ،‬و َقيلَ‪ :‬أ ْهلُ ال ِح ْل ِم َوال َف ْض ِل‬ ‫\"يمسح مناكبهم\"‬ ‫لأن تسوية الصفوف مطلوبة‪ ،‬بل إن من أهل العلم من قال‪ :‬إنها واجبة لا‬ ‫تصح الصلاة إلا بها‬ ‫وكان النبي يسوي الصفوف كما يسوي القِداح‪ ،‬ويمسح مناكبهم بيده‪،‬‬ ‫فكان يفعل ذلك بهذه الطريقة‪ ،‬وكان أيضا يقول لهم ‪:‬‬ ‫\"استووا ولا تختلفوا‪ ،‬فتختلف قلوبكم\" وهذا يدل على أن الفاء هنا‬ ‫للتعليل‪ ،‬وهو يدل على أن الاختلاف في الظاهر يؤثر في الاختلاف في‬ ‫الباطن والقلوب‬

‫كما قال النبي ‪\" :‬ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله‪،‬‬ ‫وإذا فسدت فسد الجسد كله‪ ،‬ألا وهي القلب\"‬ ‫فالقلب إذا حصل فيه الصلاح انقادت له سائر الجوارح‪ ،‬وكذلك أيضا هذا‬ ‫القلب والباطن يتأثر بما يحصل للإنسان في الظاهر‬ ‫\"ل َيلِ ِني منكم أولو الأحلام والنهى\"‬ ‫وفي قوله‪(( :‬ليلني منكم)) اللام لام الأمر‪ ،‬والمعنى أنه في الصلاة ينبغي‬ ‫أن يتقدم أولو الأحلام والنهي‪.‬‬ ‫\"وأولو الأحلام\" ‪ :‬يعني الذين بلغوا الحلم وهم البالغون وقيل أهل الحلم‬ ‫والفضل‬ ‫\"والنهى \" ‪ :‬جمع نهية وهي العقل‪ ،‬يعني العقلاء فالذي ينبغي أن يتقدم‬ ‫في الصلاة العاقلون البالغون‬ ‫لأن ذلك أقرب إلى فهم ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم أو ما يفعله‪،‬‬ ‫من الصغار ونحوهم‪ ،‬فلهذا حث النبي صلى الله عليه وسلم أن يتقدم‬ ‫هؤلاء حتى يلوا الإمام‪ .‬وفيه حث للكبار العقلاء على التقدم‬ ‫\"ثم الذين يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم\"‬ ‫يعني‪ :‬الذين يلون الإمام ينبغي أن يكونوا من أهل هذه الصفة‪ ،‬من أجل‬ ‫أن الإمام إذا أخطأ في آية يردون عليه‪ ،‬وإذا نابه شيء في الصلاة فإنه‬ ‫يمكن لواحد منهم أن يتقدم ويصلي بالناس‬ ‫أما إذا صلى خلف الإمام من لا يفقه ‪ ،‬وإذا أخطأ الإمام لا يستطيع أن يرد‬ ‫عليه‪ ،‬فإن هذا لا يحصل به المقصود‬ ‫فالشاهد في هذا الحديث أن النبي أمر أن الذي يليه يكون من هؤلاء من‬ ‫أولو الأحلام والنهى‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪ ،‬ولذلك فإن هؤلاء‬

‫هم الذين يكونون خلف الإمام‪ ،‬والصبيان يكونون في الصف الذي يليهم‪،‬‬ ‫والنساء يكونون خلف هؤلاء جميعا‬ ‫وفي الحدي ِث ‪ :‬تقديم الأفضل فالأفضل إلى الأمام لأنه أولى بالإكرام‪ ،‬ولأنه‬ ‫ربما احتاج الإمام إلى استخلاف‪ ،‬فيكون هو أولى‪ ،‬ولأنه يتفطن لتنبيه‬ ‫الإمام عن السهو والغلط‪.‬‬

‫الحديث الخمسون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه‬ ‫وسلم‪(( :‬لِ َيلِني ِم ْن ُك ْم أُولُوا الأ ْحلاَم َوال ُّن َهى‪ُ ،‬ث َّم ا َلّ ِذي َن َيلُو َن ُه ْم)) َثلاثا‬ ‫(( َوإ َّيا ُك ْم َو َه ْي َشا ِت الأ ْس َواق))‬ ‫(رواه مسلم(‬ ‫شرح الحديث‬ ‫\"هيشات الأسواق\"‪ :‬المنازعة‪ ،‬والخصومات واللغط‪ ،‬وارتفاع الأصوات‪.‬‬ ‫صلا ُة الجماع ِة في المساج ِد شأ ُنها عظي ٌم‪ ،‬وأَ ْج ُرها كبي ٌر‪ ،‬وقد ن َّظ َم ال َّشر ُع‬ ‫هذه ال َّصلا َة‪ ،‬ور َّتب الوقو َف َخ ْل َف الإمام‪ ،‬فيؤ ُّم ال َّنا َس في ال َّصلاة أقر ُؤهم‬ ‫وأكث ُرهم ِعلما وفِقها‪ ،‬ث َّم يكون َخ ْل َف الإما ِم ال ُح َّفا ُظ للقرآ ِن والعالِمون‬ ‫بأحكا ِم ال َّصلاة والبالغون‪ ،‬ث َّم الأقلُّ ِعلما‪ ،‬حتى َيتع َّلموا منه أولا‪ ،‬ثم‬ ‫ُيص ِّححوا قراء َته إذا أخطأ‪ ،‬و َي ُر ُّدوه إذا سها‪.‬‬ ‫وقول ال َّنب ِّي ص َّلى الله عليه وس َّلم‪\" :‬لِ َيلِني منكم أولو الأحلا ِم وال ُّنهى\"‬ ‫هذا أَ ْم ٌر بأ ْن َيقِف َخ ْلف ال َّنب ِّي ص َلّى الله عليه وس َلّم في ال َّصلا ِة أصحا ُب‬ ‫العقو ِل والأفها ِم‪ ،‬ليكونوا أَ ْقر َب إليه‪ ،‬أو أ ْن يكون َخ ْلفه البالغون ال ُعقلاء‪،‬‬ ‫ثم الأقلُّ س ّنا وهكذا‪ ،‬ث َّم ورا َءهم ال ِّنسا ُء‪.‬‬ ‫\"ث َّم الذين َيلُونهم‪ -‬ثلاثا\"‬ ‫يعني‪ :‬قال ذلك ثلاثا‪ ،‬ث َّم الذين َيلُونهم‪ ،‬ث َّم الذين َيلُونهم؛ أي‪ُ :‬ير َّتب ال َّنا ُس‬ ‫في ال ُّصفوف هكذا‪ :‬الأعل ُم‪ ،‬ث َّم الأقلُّ ِعلما‪ ،‬وهذا ليس فيه َح ْج ُر ال ُّصفوف‬ ‫عليهم أو َح ْج ُزها لهم‪ ،‬وإ َّنما فيه الح ُّث على أ ْن ُيسا ِرع أهلُ ال ِع ْلم وال َف ْهم‬

‫إلى ال َّصلاة في الجماعا ِت؛ ليكونوا َخ ْلف الإما ِم‪ ،‬وهذا الأَ ْم ُر من ال َّتنظيم‬ ‫ال َّنبو ِّي حتى َيتع ّلَ َم ال َّنا ُس منه أحكا َم ال َّصلاة‪ ،‬ث َّم َين ُقلوها لِ َمن َب ْعدهم‪.‬‬ ‫\"وإ َّياكم و َه ْيشا ِت الأسواق\"‬ ‫و َه ْيشا ُت الأسوا ِق أي‪ :‬ا ْرتفا ُع الأصوا ِت‪ ،‬وال َّصخ ُب واللَّ َغ ُط‪ ،‬وال ُمنازعا ُت‬ ‫والفِت ُن التي فيها‪ ،‬وهذا تحذي ٌر من ال َّنب ِّي ص َّلى الله عليه وس ّلَم أ ْن َيح ُدث‬ ‫ِم ْثلُ هذا في المسج ِد‪.‬‬

‫المقدمة‬ ‫باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل‬ ‫و تقديمهم على غيرهم ورفع مجلسهم وإظهار مزيتهم‬ ‫الحديث الحادي والخمسون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أَبي َيح َيى‪ ،‬وقيل‪ :‬أَبي محمد سه ِل بن أَبي َح ْثمة الأنصاري رضي الله‬ ‫عنه َقالَ‪ :‬ان َطلَ َق َعب ُد اللهِ ب ُن س ْه ٍل َو ُم َح ِّي َصة بن َم ْس ُعود إِ َلى َخ ْي َب َر‪َ ،‬و ِه َي‬ ‫َيو َمئ ٍذ ُص ْل ٌح‪َ ،‬ف َت َف َّر َقا‪َ ،‬فأ َتى ُم َح ِّي َص ُة إِ َلى عب ِد اللهِ ب ِن سهل َو ُه َو َيت َش َّح ُط في‬ ‫َد ِم ِه َق ِتيلا‪َ ،‬ف َد َف َن ُه‪ُ ،‬ث َّم َق ِد َم ال َم ِدي َن َة َفا ْن َطلَ َق َعب ُد الرحمن ب ُن سهل َو ُم َح ِّي َص ُة‬ ‫وح َو ِّي َص ُة ا ْب َنا َم ْس ُعو ٍد إِلَى ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم‪َ ،‬ف َذ َه َب َعب ُد الرحمن‬ ‫َي َت َك َّل ُم‪َ ،‬ف َقالَ‪َ (( :‬ك ِّب ْر َك ِّب ْر))‪َ ،‬و ُه َو أ ْح َد ُث ال َقوم‪َ ،‬ف َس َك َت‪َ ،‬ف َت َكلَّ َما‪َ ،‬ف َقالَ‪:‬‬ ‫((أ َت ْحلِ ُفو َن و َت ْس َت ِح ُّقو َن َقاتِلَ ُك ْم؟ …)) وذكر تمام الحديث‬ ‫ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه‬ ‫شرح الحديث‬ ‫وهي يؤمئذ صلح يعني‪ :‬أن المسلمين قد فتحوها‪ ،‬وفُتحت خيبر صلحا‬ ‫وكان النبي ﷺ قد أقر أهلها عليها بشطر (بنصف) ما يخرج من أرضها‪.‬‬ ‫فتفرقا يعني‪ :‬أنهما ذهبا من أجل أن يمتارا‪ ،‬يعني‪ :‬من أجل شراء‬ ‫الطعام‪ ،‬فتفرقا‪ ،‬يعني‪ :‬ذهب كل واحد في ناحية ليشتري‬ ‫فأتى مح ّيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه‬

‫يعني‪ :‬يتخبط ويضطرب‪ ،‬يعني‪ :‬أنه ُقتل لكن لم تخرج روحه بعد‪ ،‬يتشحط‬ ‫في دمه قتيلا‪ ،‬فدفنه ثم قدم المدينة‬ ‫فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومح ّيصة وحو ّيصة ابنا مسعود إلى النبي‬ ‫ﷺ‪ ،‬فذهب عبد الرحمن يتكلم‪ ،‬وكان هو الأصغر‪ ،‬فقال النبي ‪:‬‬ ‫\"ك ّبر ك ّبر\"‬ ‫وهذا هو الشاهد في هذا الحديث‪ \"،‬ك ّبر ك ّبر\"‪ ،‬يعني‪ :‬ابدأ بالأكبر‪ ،‬أي‬ ‫يتكلم الأكبر‬ ‫يعني‪ :‬ينبغي أن يتقدم الأكبر س ّنا فيتكلم‪ ،‬لا يتقدم الصغير على الكبير‬ ‫فيتحدث بين يديه‪ ،‬فهذا تعليم للأدب بين يدي من هم أكبر منا س ّنا‬ ‫قال‪ \" :‬ك ّبر ك ّبر\" ‪ ،‬وهو أحدث القوم‪ ،‬فسكت‪ ،‬فتكلما‪ ،‬فقال‪ \":‬أتحلفون‬ ‫وتستحقون قاتلكم؟\" ‪ .‬وذكر تمام الحديث‬ ‫\"تحلفون\" يعني‪ :‬هذه مسألة القسامة‪ ،‬وهي إذا ُوجد قتيل في محلة قوم‬ ‫لا يعرف من هو قاتله‪ ،‬واتهمهم أولياء المقتول‪ ،‬قالوا‪ :‬دمه عند هؤلاء‪،‬‬ ‫فعندئذ يحلف أولياء المقتول خمسين يمينا ‪-‬كما هو معلوم في مسألة‬ ‫القسامة‪ -‬أن هؤلاء هم الذين قتلوه‬ ‫وفي الحدي ِث ‪ :‬استحباب تقديم أهل الفضل والس ِّن‪ ،‬ولو كان الحق للصغير‬

‫الحديث الثاني والخمسون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن جابر رضي الله عنه أن ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم َكا َن َي ْج َم ُع َب ْي َن‬ ‫ال َّر ُج َل ْي ِن ِم ْن َق ْت َلى أُ ُحد َي ْعنِي في ال َق ْب ِر‪ُ ،‬ث َّم َيقُولُ‪(( :‬أ ُّي ُهما أ ْك َث ُر أخذا‬ ‫لل ُقرآ ِن؟)) َفإ َذا أُشي َر لَ ُه إِلَى أ َح ِد ِه َما َق َّد َم ُه في ال َّل ْح ِد‬ ‫رواه البخاري‬ ‫شرح الحديث‬ ‫عن جابر رضي الله عنه أن النبي كان يجمع بين الرجلين من قتلى‬ ‫أحد يعني في القبر‪ ،‬يعني‪ :‬القبر الواحد‪ ،‬وذلك أنه لما كانت وقعة أحد قُتل‬ ‫سبعون من أصحاب النبي ‪ ،‬واشتكت الأنصار رضي الله عنهم لما‬ ‫أصابهم من الجهد والجرح‪ ،‬يعني‪ :‬هم الآن انتهوا من معركة وفيهم من‬ ‫الجراح ما الله به عليم‪ ،‬ويحتاجون إلى حفر في أرض صخرية‪ ،‬يحفرون‬ ‫سبعين قبرا‪ ،‬فاشتكوا إلى النبي ‪ ،‬فأمرهم أن يوسعوا القبور‪ ،‬فكان‬ ‫النبي يجعل في القبر الواحد الرجلين والثلاثة وأكثر من ذلك‬ ‫ثم يقول‪ \" :‬أيهما أكثر أخذا للقرآن؟\" وهذا هو الشاهد‪ ،‬من هو أكثر‬ ‫حفظا‪ ،‬ولو كان الأصغر سنا؟ يعني‪ :‬لو أن أحدا عمره خمس عشرة سنة‬ ‫وآخر عمره ثمانون فإن الذي يقدم إلى جهة القبلة في القبر هو‬ ‫الأحفظ للقرآن‪ ،‬فهذا هو الشاهد‪ ،‬هنا تقديم أهل الفضل‪ ،‬أهل العلم‪ ،‬أهل‬ ‫القرآن على غيرهم‪ ،‬فكان يقدمهم‪ ،‬حتى في هذه الأمور اليسيرة يقدم‬ ‫هؤلاء‪ ،‬بمعنى أنهم يقدمون في الحياة وبعد الممات يقول‪ :‬فإذا أشير إلى‬ ‫أحدهما قدمه في اللحد‬

‫وفي الحدي ِث ‪ :‬تقديم الأكثر حفظا للقرآن على ما دونه في القبر قال الله‬ ‫تعالى‪َ { :‬ي ْر َف ِع ال َّلهُ ا َّل ِذي َن آ َم ُنوا ِمن ُك ْم َوا َلّ ِذي َن أُو ُتوا ا ْل ِع ْل َم َد َر َجا ٍت} [المجادلة‪]11 :‬‬ ‫الحديث الثالث والخمسون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن ابن عمر رضي الله عنهما‪ :‬أن النبي صلى الله عليه وسلم َقالَ‪:‬‬ ‫((أ َرانِي فِي ال َم َنا ِم أ َت َس َّو ُك بِ ِس َوا ٍك‪َ ،‬ف َجاء ِني َر ُجلا ِن‪ ،‬أ َح ُد ُهما أكبر ِم َن‬ ‫الآخ ِر‪َ ،‬ف َنا َو ْل ُت ال ِّس َوا َك الأ ْص َغ َر‪َ ،‬فقِيلَ لِي‪َ :‬ك ِّب ْر‪َ ،‬ف َد َف ْعت ُه إِ َلى الأ ْك َب ِر ِم ْن ُه َما))‬ ‫رواه مسلم مسندا‪ ،‬ورواه البخاري تعليقا‬ ‫شرح الحديث‬ ‫هذا الحديث بمعنى الحديث السابق‪ ،‬وهو أن النبي قال لمن أراد أن‬ ‫يتكلم ومعه من هو أكبر منه س ّنا‪ \" :‬ك ِّبر ك ِّبر\"‬ ‫فعلمه الأدب في الكلام إذا كان ذلك بحضرة من هو أولى منه به ممن‬ ‫يكبره في السن‬ ‫وهذا الحديث أيضا فيه تعليم للنبي فيما يتصل بهذا المعنى‪ ،‬ذاك في‬ ‫الكلام‪ :‬الذي يقدم هو الأكبر‪ ،‬وهنا أيضا في العطاء‬ ‫إذا أردت أن تعطي أحدا شيئا يشربه أو شيئا يأكله أو نحو ذلك فمن الذي‬ ‫يقدم؟‬ ‫الأصل أن يقدم الكبير إذا كان العالم أو الوالد أو كان ذلك الكبير هو الأكبر‬ ‫س ّنا في المجلس‪ ،‬هو الأول‪ ،‬هو الذي ُيع َطي الماء‪ ،‬أو نحو ذلك‪ ،‬لا ُيبدأ‬ ‫باليمين‬

‫وهذا يخطئ فيه كثير من الناس‪ ،‬يظن أن البدء باليمين مطلقا‪ ،‬وهذا غير‬ ‫صحيح‪ ،‬يبدأ بالأكبر‪ ،‬ثم ِمن هذا الأكبر يدار عن اليمين‪ ،‬عن يمينه‪ ،‬يعني‬ ‫الذي يأخذه هذا الكبير يعطيه لمن يدفعه لمن عن يمينه‪ ،‬ويدور هكذا‪ ،‬لا‬ ‫أنه يبدأ بيمين المجلس‪.‬‬ ‫فالنبي قال‪ \":‬أراني في المنام أتسوك بسواك‪ ،‬فجاءني رجلان أحدهما‬ ‫أكبر من الآخر‪ ،‬فناولت السواك الأصغر‪ ،‬فقيل لي‪ :‬ك ّبر\"‬ ‫وهنا لم يذكر أن الأصغر كان عن يمينه أو عن شماله‪ ،‬فدل على أنه‬ ‫ُيع َطى للأكبر سواء كان على اليمين أو على الشمال‬ ‫لكن لو أنه ُدفع للنبي هذا السواك فإن النبي يعطيه من عن‬ ‫يمينه‪ ،‬سواء كان هو الأصغر أو الأكبر كما يدل عليه ما وقع لابن عباس‬ ‫‪-‬رضي الله تعالى عنهما‪ -‬حينما كان أبو بكر عن يسار النبي وابن‬ ‫عباس عن يمينه‪ ،‬فالنبي استأذن عبد الله بن عباس ‪-‬لأن الحق له‬ ‫لكونه عن يمين النبي أن يعطي الشراب لأبي بكر رضي الله عنه ‪،‬‬ ‫فقال‪ :‬لا أوثر بنصيبي منك أحدا ‪ ،‬أراد أن يحصل على البركة من الشرب‬ ‫بعد النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فاعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم‬ ‫الشراب في يده‬ ‫فهنا يقول‪\" :‬فناولت السواك الأصغر‪ ،‬فقيل لي‪ :‬ك ّبر‪ ،‬فدفعته إلى الأكبر‬ ‫منهما\"‬ ‫وفي الحدي ِث ‪ :‬تقديم ذي السن في السواك‪ ،‬ويلتحق به الطعام والشراب‬ ‫والمشي والكلام‬ ‫وفيه‪ :‬جواز استعمال سواك الغير بإذنه‬

‫الحديث الرابع والخمسون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أَبي موسى رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫((إ َّن ِم ْن إ ْجلا ِل اللهِ َت َعا َلى‪ :‬إ ْك َرا َم ِذي ال َّش ْي َب ِة ال ُم ْسلِ ِم‪َ ،‬و َحا ِم ِل القُرآ ِن َغ ْي ِر‬ ‫ال َغالِي فِي ِه‪َ ،‬وال َجافِي َع ْن ُه‪َ ،‬وإ ْك َرا َم ِذي ال ُّس ْل َطا ِن ال ُم ْق ِسط))‬ ‫حديث حسن رواه أَ ُبو داود (صحيح أبو داود)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫خ َّص اللهُ ع َّز وجلَّ بعضا ِمن ِعبا ِده ببع ِض ال ِّصفا ِت ال َحميد ِة‪ ،‬و َج َعل لهم‬ ‫ُحقوقا َينبغي أ ْن ُترا َعى معهم‬ ‫وفي هذا الحدي ِث يقول ال َّنب ُّي ص َّلى اللهُ عليه وسلَّم‪:‬‬ ‫\"إ َّن ِم ْن إجلا ِل الل ِه\"‪ ،‬أي‪ :‬إ َّن ِمن َت ْبجي ِل الل ِه وتعظي ِمه وأدا ِء َح ِّقه‬ ‫\"إكرا َم\"‪ ،‬أي‪ :‬تعظي َم وتوقي َر‬ ‫\"ذي ال َّش ْي َب ِة المسل ِم\"‪ ،‬أي‪ :‬ال َّشي ِخ ال َكبي ِر في ال ِّس ِّن‪ ،‬الذي قد شاب في‬ ‫الإسلام‬ ‫\"وحا ِم ِل القرآ ِن غي ِر الغالي فيه والجافي عنه\"‬ ‫أي‪ :‬الحافِ ِظ لكتا ِب الل ِه ع َّز وجلَّ‪ ،‬العام ِل بأحكا ِمه دو َن ُمغالا ٍة وتكلُّ ٍف فيه‪،‬‬ ‫والجافي عنه وهو الذي يترك تلاوته‪ ،‬أو يترك العمل به‬ ‫وأشار بهذا إلى أ َّن ال َق ْص َد هو المأمو ُر به؛ فالغل ُّو ِمن ِصفا ِت ال َّنصارى‪،‬‬ ‫والجفا ُء ِمن ِصفا ِت اليهو ِد‬

‫\"وإكرا َم ذي ال ُّسلطا ِن ال ُم ْق ِس ِط\"‪ ،‬أي‪ :‬وكذلك إ َّن ِمن تعظي ِم اللهِ و َتوقي ِره‬ ‫إكرا َم الإما ِم العاد ِل الَّذي يقو ُم بين ال َّنا ِس بال َح ِّق وال َع ْد ِل‪.‬‬ ‫فهؤلاء الثلاثة الذين ذكرهم النبي ‪ ،‬وهكذا من كان بمنزلتهم فإنهم‬ ‫يقدمون على غيرهم‪ ،‬والمقصود أن هذه الشريعة جاءت بمكارم الأخلاق‬ ‫ومحاسن العادات‪ ،‬تسمو بالناس إلى مدارج الكمال في تصرفاتهم‪،‬‬ ‫وأقوالهم‪ ،‬وتعطي لأهل الحقوق حقوقهم‪.‬‬ ‫فلا ُتض َّيع منزلة الإنسان‪ ،‬لا ُيه َدر حقه‪ ،‬ولا يقدم عليه من هو أقل منه‪،‬‬ ‫فالكبير له حق محفوظ‪ ،‬والوالد له حق محفوظ‪ ،‬والعالم له حق‪ ،‬وهكذا كل‬ ‫بحسبه‪ ،‬فلا يستوي الناس الصغير مع الكبير‪ ،‬والعالم مع الجاهل‪ ،‬وما‬ ‫شابه ذلك‪ ،‬فهذه أمور إذا عرفها المسلم انبعث من ذلك ونشأ عنه الخلق‬ ‫اللائق في التعامل مع الناس‪ ،‬يعرف للناس حقهم‪.‬‬

‫الحديث الخامس والخمسون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ َر ُسول الله‬ ‫صلى الله عليه وسلم‪(( :‬لَ ْي َس ِم َّنا َم ْن َل ْم َي ْر َح ْم َص ِغير َنا‪َ ،‬و َي ْع ِر ْف َش َر َف‬ ‫َكبي ِر َنا))‬ ‫حديث صحيح رواه أَ ُبو داود والترمذي‬ ‫َوقالَ الترمذي‪َ ( :‬ح ِدي ٌث َح َس ٌن َصحي ٌح)‬ ‫وفي رواية أبي داود‪َ (( :‬ح َّق َكبي ِر َنا))‬ ‫شرح الحديث‬ ‫\"ليس منا\" أي‪ :‬ليس على هدينا وطريقتنا من لم يرحم صغيرنا‪ ،‬فالصغار‬ ‫ضعفاء يحتاجون إلى رعاية وعطف و ُحنو‪ ،‬وقد ُجبلت النفوس على ذلك‪،‬‬ ‫حتى البهائم فإن من شأنها أن ترحم صغارها‬ ‫فإذا كان القلب قاسيا صلدا لا يرحم الصغير فإن ذلك لا يدل على خير‪،‬‬ ‫والنبي ﷺ حينما ق ّبل صب ّيا فسأله أعرابي قال‪ :‬أتق ِّبلون صبيانكم؟‪ ،‬والله إن‬ ‫لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم‪ ،‬فقال النبي ‪\" :‬أ َوأملك أن‬ ‫نزع الله الرحمة من قلبك؟\" فالمسح على رأس الصغير له أثر كبير في‬ ‫نفسه‪ ،‬الكلمة الحانية الطيبة‪ ،‬الشفقة‪ ،‬الحنان‪ ،‬إشعاره بقيمته ونحو ذلك‬ ‫كل هذا يؤثر فيه‬ ‫قال‪\" :‬ويعرف شرف كبيرنا\" ‪ ،‬وفي الرواية الأخرى\" حق كبيرنا\"‬ ‫الكبير له حق بالتوقير والاحترام والإجلال والتقديم على غيره من الناس؛‬ ‫لشيبته في الإسلام‪ ،‬وتقدم سنه‪ ،‬وضعفه وما أشبه ذلك‪ ،‬فإذا كان الإنسان‬

‫لا يراعي للكبير حقه فإن ذلك يدل على تربية ضعيفة هشة سيئة‪ ،‬في‬ ‫الحدي ِث ‪ :‬الوعيد لمن لا يرحم الصغير‪ ،‬ولا ُيجلّ الكبير‪ ،‬وذوي القدر‪.‬‬ ‫الحديث السادس والخمسون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن ميمون بن أَبي َشبيب رحمه الله‪ :‬أ َّن عائشة َرضي الله عنها َم َّر ِب َها‬ ‫َسا ِئلٌ‪َ ،‬فأ ْع َط ْت ُه ِك ْس َرة‪َ ،‬و َم َّر بِ َها َر ُجلٌ َعلَي ِه ِث َيا ٌب َو َه ْي َئ ٌة‪َ ،‬فأ ْق َع َدت ُه‪َ ،‬فأ َكلَ‪،‬‬ ‫فقِيلَ َل َها في ذلِ َك؟ ف َقال ْت‪َ :‬قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫((أ ْن ِزلُوا ال َّنا َس َم َنا ِز َل ُه ْم))‬ ‫رواه أبو داود‪ .‬لكن قال‪ :‬ميمون لم يدرك عائشة رضي الله عنها‬ ‫وأخرجه مسلم في مقدمة صحيحه معلقا بدون اسناد‬ ‫وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة‪)368 /4( ،‬‬ ‫وفي تحقيق رياض الصالحين‬ ‫شرح الحديث‬ ‫فأعطته كسرة يعني‪ :‬قطعة من الخبز‬ ‫ومر بها رجل عليه ثياب وهيئة‪ ،‬يعني‪ :‬له صورة حسنة من اللباس تدل‬ ‫على أن هذا الإنسان ليس بإنسان من الضعفاء والفقراء‪ ،‬وإنما له شأن‪،‬‬ ‫فأقعدته فأكل‬ ‫فقيل لها في ذلك‪ ،‬يعني‪ :‬لماذا هذا أعطيته كسرة وذهب‪ ،‬وهذا فعلت له‬ ‫أكثر من ذلك؟‪ ،‬فسئلت عن ذلك‪،‬‬ ‫فقالت‪ :‬قال رسول الله ‪ \" :‬أنزلوا الناس منازلهم\"‬

‫والحديث فيه انقطاع‪ ،‬ومعناه صحيح‪ ،‬أ ّنا أُمرنا أن ننزل الناس منازلهم‪،‬‬ ‫وأن نعطي كل ذي حق حقه‪ ،‬فالوالد له حق‪ ،‬والكبير له حق‪ ،‬والأمير له‬ ‫حق‪ ،‬والمقدم في الناس له حق‪ ،‬وشيخ القبيلة له حق‪ ،‬ومدير المدرسة له‬ ‫حق‪ ،‬والمعلم له حق‪.‬‬ ‫وفي الحدي ِث ‪ :‬الح ّض على ُم َرا َعاة مقادير الناس‪ ،‬ومراتبهم‪ ،‬ومناصبهم‬ ‫وتفضيل بعضهم على بعض‪ ،‬ويعطي كل ذي حق حقه‪.‬‬ ‫وهذا الحديث‪ :‬مما أ َّدب به النبي صلى الله عليه وسلم أمته من التعظيم‬ ‫والإكرام لذوي القدر‬

‫الحديث السابع والخمسون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن ابن عباس رضي الله عنهما‪َ ،‬قالَ‪َ :‬ق ِد َم ُع َي ْي َن ُة ب ُن ِح ْصن‪َ ،‬ف َن َزلَ َع َلى‬ ‫ا ْب ِن أ ِخي ِه ال ُح ِّر ب ِن َقي ٍس‪َ ،‬و َكا َن ِم َن ال َّن َف ِر ا َّل ِذي َن ُي ْدنِي ِه ْم ُعم ُر رضي الله عنه‬ ‫َو َكا َن ال ُق َّرا ُء أ ْص َحاب َم ْجلِس ُع َم َر َو ُمشا َو َرتِ ِه‪ُ ،‬ك ُهولا كاَ ُنوا أَ ْو ُش َّبانا‪َ ،‬ف َقالَ‬ ‫ُع َي ْي َن ُة لا ْب ِن أخي ِه‪َ :‬يا ا ْب َن أ ِخي‪َ ،‬ل َك َو ْج ٌه ِع ْن َد َه َذا الأ ِمي ِر‪َ ،‬فا ْس َتأ ِذ ْن لِي‬ ‫َع َلي ِه‪ ،‬فا ْس َتأ َذن له‪َ ،‬فإ ِذ َن َل ُه ُع َم ُر رضي الله عنه َف َل َّما َد َخلَ َقالَ‪ِ :‬هي َيا اب َن‬ ‫ال َخ َّطا ِب‪َ ،‬فوالل ِه َما ُت ْع ِطي َنا ا ْل َج ْزلَ‪َ ،‬ولا َت ْح ُك ُم فِي َنا بال َع ْد ِل‪َ ،‬ف َغ ِض َب ُع َم ُر رضي‬ ‫الله عنه َح َّتى َه َّم أ ْن ُيوقِ َع ِب ِه‪َ ،‬ف َقالَ َل ُه ال ُح ُّر‪َ :‬يا أمي َر ال ُم ْؤ ِمني َن‪ ،‬إ َّن الله‬ ‫َت َعالَى َقالَ لِ َنب ِّي ِه صلى الله عليه وسلم‪ُ { :‬خ ِذ ا ْل َع ْف َو َو ْأ ُم ْر بِا ْل ُع ْر ِف َوأَ ْع ِر ْض‬ ‫َع ِن ا ْل َجا ِهلِي َن} [الأعراف‪َ .]199 :‬وإ َّن َه َذا ِم َن ال َجا ِهلِي َن‪ .‬والل ِه َما َجا َو َزهاَ‬ ‫ُع َم ُر ِحي َن َتلاَ َها عليه‪ ،‬و َكا َن َو َّقافا ِع ْن َد ِك َتا ِب الل ِه َت َعالَى‬ ‫رواه البخاري‬ ‫شرح الحديث‬ ‫عيينة بن حصن رضي الله عنه أسلم بعد فتح مكة‪ ،‬وقيل‪ :‬أسلم قبل الفتح‪،‬‬ ‫وشهد غزوة الطائف وحنين مع النبي ‪ ،‬ثم بعد ذلك ارتد عن الإسلام‪،‬‬ ‫وكان ممن قاتلهم الصحابة رضوان الله عليهم ‪ ،‬وكان عيينة يقاتل مع‬ ‫طليحة الأسدي‪ ،‬ثم أسر وجيء به إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ‪،‬‬ ‫ثم تاب ورجع إلى الإسلام فأطلقه‬ ‫فالحاصل أن عيينة بن حصن نزل على ابن أخيه الحر بن قيس‪ ،‬والحر بن‬ ‫قيس رضي الله عنه من علماء الصحابة وفضلائهم‪ ،‬قدم على النبي‬ ‫في وفد قومه لما رجع النبي من غزوة تبوك‪ ،‬ويدل على منزلته ما‬ ‫جاء في هذا الحديث قال‪ :‬وكان من النفر الذين يدنيهم عمر‬

‫والنفر من الثلاثة إلى السبعة‪ ،‬وبعضهم يقول‪ :‬من الثلاثة إلى العشرة‪ ،‬ولا‬ ‫يزيدون على العشرة‪ ،‬فمن بين ذلك المجتمع الطاهر في وقت عمر رضي‬ ‫الله عنه‪ ،‬يكون هذا من هؤلاء الذين لا يتجاوزون سبعة أشخاص على‬ ‫أكثر تقدير‪ ،‬فهؤلاء هم أهل مجلس عمر رضي الله عنه ‪ ،‬فما منزلة الحر‬ ‫بن قيس في ذلك المجتمع؟ هو من الصفوة القليلة من أولئك الرجال‬ ‫وكان ال ُق ّراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا‬ ‫والمقصود بالقراء إذا قيل القراء‪ :‬فهم قراء القرآن‪ ،‬وكان قراء القرآن‬ ‫في ذلك الوقت هم العلماء؛ لأنهم كما سبق لا يتجاوزون خمس آيات حتى‬ ‫يتعلموا ما فيها من العلم والعمل‬ ‫فكان هؤلاء القراء هم أهل الفقه والعلم والفهم‪ ،‬وكانوا أهل مجلس‬ ‫عمر رضي الله عنه ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا‪ ،‬وهذا هو الشاهد‬ ‫أن التقديم يكون لأهل الفضل والعلم والفهم والفقه والقرآن‪.‬‬ ‫فعمر رضي الله عنه قدم الحر بن قيس مع أنه ليس بكبير في السن‪ ،‬يوجد‬ ‫من هو أكبر منه من أصحاب النبي ‪ ،‬ومع ذلك كان عمر رضي الله‬ ‫عنه يقدمه‪ ،‬ويدخله في مجلسه الخاص الذي يستشير أهله ويظهرهم‬ ‫على ما لا يظهر غيرهم عليه‬ ‫فقال عيينة لابن أخيه‪ :‬يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير‬ ‫يعني‪ :‬لك منزلة‪ ،‬فاستأ ِذ ْن لي عليه‪ ،‬فاستأذن له‪ ،‬فأذن له عمر رضي الله‬ ‫عنه ‪ ،‬والحر بن قيس عندئذ لم يكن يعلم ماذا سيقول عمه‬ ‫فلما دخل قال‪ِ :‬هي يا ابن الخطاب‬ ‫وهي كلمة تقال للتهديد‪ِ ،‬هي يا ابن الخطاب يعني‪ :‬لم يتأدب ولم يقل‪ :‬يا‬ ‫أمير المؤمنين‪ ،‬وإنما هي يا ابن الخطاب‬

‫فوالله ما تعطينا ال َج ْزل‪ ،‬يعني‪ :‬العطاء الكثير‬ ‫ولا تحكم فينا بالعدل‪ ،‬وهذا لا شك أنه افتراء على عمر رضي الله عنه ‪،‬‬ ‫فإذا كان عمر لا يحكم بالعدل فمن الذي يحكم بالعدل بعد عمر رضي الله‬ ‫عنه ؟! فغضب عمر رضي الله عنه حتى هم أن يوقع به‬ ‫يعني‪ :‬أن يعاقبه على ما قال‪ ،‬فقال له الحر‪ :‬يا أمير المؤمنين إن الله‬ ‫تعالى قال لنبيه ‪ُ { :‬خ ِذ ا ْل َع ْف َو َو ْأ ُم ْر ِبا ْل ُع ْر ِف َوأَ ْع ِر ْض َع ِن ا ْل َجا ِهلِي َن}‬ ‫[الأعراف‪]199:‬وهذه من أجمع الآيات في مكارم الأخلاق‪ ،‬بل إن بعض‬ ‫أهل العلم قال‪ :‬هي أجمع آية في مكارم الأخلاق‪.‬‬ ‫ُخ ِذ ا ْل َع ْف َو يعني‪ :‬من أخلاق الناس‪،‬ولا تطالبهم بأمور تشق عليهم‬ ‫فالإنسان لا يطالب الناس بأمور تشق عليهم‪ ،‬ويحصل لهم كلفة بسببها‬ ‫وأمر بالعرف‪ ،‬والعرف يشمل كل ما يحبه الله تعالى ويرضاه‪ ،‬كل ما‬ ‫تستحسنه العقول السليمة فهو داخل في العرف‪ ،‬فيأمر بمكارم الأخلاق‬ ‫ومحاسنها‪ ،‬ويأمر بالقول الطيب‬ ‫وأعرض عن الجاهلين‪ ،‬فلا يقف مع الجاهل‪ ،‬ولا يكون قِرنا له ويستوي‬ ‫معه في جهالاته وسفهه‪ ،‬فينزل إلى مرتبته‪ ،‬وإنما يعرض‪ ،‬وكأنه لم‬ ‫يسمع‪ ،‬قال‪ :‬وإن هذا من الجاهلين‪ ،‬والله ما جاوزها عمر حين تلاها‬ ‫عليه‪ ،‬ما جاوزها يعني‪ :‬وقف عندها‪ ،‬لم يمض في غضبه‪ ،‬ولم يوقع به‬ ‫عقوبة‪ ،‬قال‪ :‬وكان و ّقافا عند كتاب الله تعالى‬ ‫وفي الحدي ِث ‪ :‬تقديم أولي الفضل على من عداهم‪ ،‬وإن كانوا دونهم في‬ ‫السن والنسب‪ .‬وفيه‪ :‬أنه ينبغي لولي الأمر مجالسة القراء‪ ،‬والفقهاء‪،‬‬ ‫ليذكروه إذا نسي‪ ،‬ويعينوه إذا ذكر‪ .‬وفيه‪ :‬الحلم عن الجهال والصبر على‬ ‫أذاهم‪.‬‬

‫الحديث الثامن والخمسون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أَبي سعيد َس ُمرة ب ِن ُجندب رضي الله عنه َقالَ‪ :‬لقد كنت َعلَى َع ْه ِد‬ ‫َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم ُغلاما‪َ ،‬ف ُك ْن ُت أ ْح َف ُظ َع ْن ُه‪َ ،‬ف َما َي ْم َن ُعنِي ِم َن‬ ‫ال َق ْو ِل إلا أ َّن ها ُه َنا ِر َجالا ُه ْم أ َس ُّن ِم ِّني‬ ‫ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه‬ ‫شرح الحديث‬ ‫سمرة رضي الله عنه هو من فزارة‪ ،‬قدمت به أمه إلى المدينة فتزوجها‬ ‫رجل من الأنصار‪ ،‬والنبي قبل مشاركته في غزوة أحد‪ ،‬وقد بلغ‬ ‫الخامسة عشرة من عمره‪ ،‬فهو صغير من صغار الصحابة رضوان الله‬ ‫عليهم‬ ‫وبقي بعد النبي زمانا طويلا حتى قيل‪ :‬إنه توفي سنة تسع وخمسين‪،‬‬ ‫وقيل‪ :‬إنه عاش إلى سنة ستين‪ ،‬مات بعد أبي هريرة رضي الله عنه‬ ‫يقول‪ :‬لقد كنت على عهد رسول الله غلاما فكنت أحفظ عنه‪ ،‬هو حفظ‬ ‫نحوا من مائة حديث عن النبي‬ ‫قال‪ :‬فما يمنعني من القول‪ ،‬يعني‪ :‬من الرواية عن النبي إلا أن ههنا‬ ‫رجالا هم أسن مني‬ ‫وهذا الشاهد‪ :‬التأدب مع الكبار‪ ،‬فلا يتقدم بين أيديهم من هو دونهم إذا‬ ‫كانوا أولى منه بالعلم والحفظ والرواية‬

‫الحديث التاسع والخمسون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أنس رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫(( َما أ ْك َر َم َشاب َش ْيخا لِ ِس ِّن ِه إلا َق َّي َض الله لَ ُه َم ْن ُي ْك ِر ُم ُه ِع ْن َد ِس ِّنه))‬ ‫رواه الترمذي‪َ ،‬وقالَ‪(( :‬حديث غريب))‬ ‫ضعيف‬ ‫تحقيق رياض الصالحين (الشيخ الألباني)‬ ‫ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (‪)474/1‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫إلا ق ّيض الله‪ :‬يعني‪ :‬هيأ وقدر له من يكرمه عند سنه يعني إذا تقدم به‬ ‫العمر‬ ‫فيه‪ :‬أن الجزاء من جنس العمل‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬إيماء إلى الوعد بطول عمر ال ُمك ِرم حتى يبلغ ذلك السن‬ ‫وهذا الحديث لا يصح عن النبي ‪ ،‬وفي الأحاديث الصحيحة كفاية‬ ‫و ُغنية عن الأحاديث الضعيفة‪.‬‬

‫المقدمة‬ ‫باب زيارة اهل الخير ومجالستهم‬ ‫وصحبتهم ومحبتهم‪ ،‬وطلب زيارتهم والدعاء منهم وزيارة‬ ‫المواضع الفاضلة‬ ‫الحديث الستون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أنس رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ أَ ُبو بكر لِ ُع َم َر رضي الله عنهما َب ْع َد َو َفا ِة‬ ‫رسو ِل الله صلى الله عليه وسلم‪ :‬ا ْن َطلِ ْق ِب َنا إِلَى أُ ِّم أ ْي َم َن رضي الله عنها‬ ‫َن ُزو ُر َها َك َما َكا َن َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم َي ُزو ُر َها‪َ ،‬ف َل َّما ا ْن َت َه َيا‬ ‫إِ َل ْي َها‪َ ،‬ب َك ْت‪َ ،‬ف َقالا َل َها‪َ :‬ما ُي ْب ِكي ِك؟ أ َما َت ْع َل ِمي َن أ َّن َما ِع ْن َد اللهِ َخ ْي ٌر ل َر ُسو ِل الله‬ ‫صلى الله عليه وسلم ؟ َف َقالَ ْت‪ :‬إني لاَ أ ْب ِكي إني لا أَ ْعلَم أ َّن َما ِع ْن َد الله‬ ‫َت َعا َلى َخ ْي ٌر لرسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬ولَ ِك ْن أبكي أ َّن ال َو ْح َي ق ِد‬ ‫ا ْن َق َط َع ِم َن ال َّسما ِء‪َ ،‬ف َه َّي َج ْت ُه َما َعلَى ال ُب َكا ِء‪َ ،‬ف َج َعلا َي ْب ِك َيا ِن َم َع َها‬ ‫رواه مسلم‬ ‫شرح الحديث‬ ‫أم أيمن ‪-‬رضي الله تعالى عنها‪ -‬اسمها‪ :‬بركة‪ ،‬وهي مولاة النبي‬ ‫وحاضنته‪ ،‬قيل‪ :‬كانت مملوكة لجده عبد المطلب‪ ،‬ثم وهبها جده لابنه عبد‬ ‫الله والد النبي ‪ ،‬وبعضهم يقول‪ :‬كانت مملوكة لعبد الله والد النبي‬ ‫فصارت إلى النبي بالإرث‪ ،‬فأعتقها النبي ‪ ،‬وأصلها من الحبشة‪،‬‬ ‫وقد توفيت بعد النبي بخمسة أشهر‪ ،‬وكان لها زوج يقال له‪ :‬عبيد‪،‬‬

‫وأيمن هذا ابن عبيد‪ ،‬ثم بعد ذلك زوجها النبي مولاه زيد بن حارثة‪،‬‬ ‫فأنجبت له أسامة بن زيد‬ ‫قال أبو بكر رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه ‪ :‬انطلق بنا إلى أم أيمن ‪-‬‬ ‫رضي الله تعالى عنها‪ -‬نزورها كما كان رسول الله يزورها‪.‬‬ ‫أبو بكر وعمر رضي الله عنهما‪ ،‬زارا امرأة كان النبي صلى الله عليه‬ ‫وسلم يزورها‪ .‬فزاراها من أجل زيارة النبي صلى الله عليه وسلم إياها‪.‬‬ ‫هذا أولا يدل على غاية التواضع‪ ،‬وهو أيضا من حسن العهد‪ ،‬فإن حسن‬ ‫العهد من الإيمان‪ ،‬فهذه امرأة قد حضنت النبي ‪ ،‬فحقها الإكرام‪ ،‬وقد‬ ‫كان النبي يكرمها ويزورها‪ ،‬فمعرفة الفضل لأهل الفضل مطلوبة وإن‬ ‫لم تكن لهم أنساب‪ ،‬وإن لم تكن لهم منزلة اجتماعية‬ ‫يقول‪ :‬فلما انتهينا إليها بكت‪ ،‬فقالا لها‪ :‬ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند‬ ‫الله خير لرسول الله ؟‪.‬‬ ‫فقالت‪ :‬ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله ‪.‬‬ ‫تقول‪ :‬أنا أعرف أن النبي انتقل إلى ما هو أفضل‪ ،‬إلى الرفيق الأعلى‪،‬‬ ‫إلى النعيم‪ ،‬وفارق هذه الدار التي هي دار الأحزان‪ ،‬والهموم‪ ،‬والآلام‪.‬‬ ‫تقول‪ :‬أنا أعرف هذا‪ ،‬ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء‪،‬‬ ‫فهيجتهما على البكاء‪ .‬يعني‪ :‬حركت بواعث البكاء في نفسيهما‪ ،‬فجعلا‬ ‫يبكيان معها‬

‫فهي تبكي على انقطاع الوحي‪ ،‬ولا شك أن تردد الوحي ‪-‬مجيء الملك‪-‬‬ ‫إلى النبي ‪ ،‬ونزول القرآن في الحوادث‪ ،‬كل هذا لا شك أنه من أسباب‬ ‫الخير والبركة‪ ،‬والتثبيت والمزيد من العلم‪ ،‬فكل ذلك قد انقطع‪ ،‬فهي تبكي‬ ‫لهذا‬ ‫وفي الحدي ِث ‪ :‬زيارة الصالح لمن هو دونه‪ ،‬وزيارة الإنسان لمن كان‬ ‫صديقه يزوره‪ .‬وفيه‪ :‬البكاء حزنا على فراق الصالحين‪.‬‬ ‫الحديث الحادي والستون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أَبي هريرة رضي الله عنه عن ال َّنب ِّي صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫((أ َّن َر ُجلا َزا َر أَخا َل ُه في َقر َية أُ ْخ َرى‪َ ،‬فأ ْر َص َد الله َت َعالَى َع َلى َم ْد َر َجتِ ِه‬ ‫َم َلكا‪َ ،‬ف َل َّما أ َتى َع َلي ِه‪َ ،‬قالَ‪ :‬أ ْي َن ُتري ُد؟ َقالَ‪ :‬أُري ُد أخا لي في ه ِذ ِه ال َقر َي ِة‪.‬‬ ‫َقالَ‪َ :‬هلْ لَ َك َعلَي ِه ِم ْن ِن ْع َمة َت ُر ُّب َها َع َلي ِه؟ َقالَ‪ :‬لا‪َ ،‬غ ْي َر أ ِّني أ ْح َب ْب ُت ُه في الله‬ ‫َت َعالَى‪َ ،‬قالَ‪ :‬فإ ِّني َر ُسول الله إ َل ْي َك َبأ َّن الله َق ْد أَ َح َّب َك َك َما أ ْح َب ْب َت ُه فِي ِه))‬ ‫رواه مسلم‬ ‫شرح الحديث‬ ‫‪\" ‬أن رجلا زار أخا له في قرية\" أي زار أخا له في الله‪ ،‬في قرية‬ ‫أخرى‪.‬‬ ‫‪\" ‬فأرصد الله تعالى\" يعني‪ :‬أن الله جعل على طريقه ملكا ينتظره من‬ ‫أجل أن يقول له ما قال‪.‬‬ ‫‪\" ‬على َم ْدرجته\" يعني على طريقه‪.‬‬

‫‪ \" ‬فلما أتى عليه\" وهذا الملك‪ :‬الذي يظهر ‪-‬والله أعلم‪ -‬أن الله جعله‬ ‫على صورة رجل‪ ،‬كما في حديث الثلاثة الأقرع والأعمى والأبرص‪،‬‬ ‫أرسل الله إليهم ملكا في صورة رجل‪ ،‬ومجيء الملك إلى الإنسان‬ ‫بصورة رجل أو بالطريقة التي أرادها الله لا يعني ذلك أنه يكون نب ّيا‪.‬‬ ‫فالمقصود‪ :‬أن الله أرصد على مدرجته ملكا فلما أتى عليه قال‪ :‬أين تريد؟‬ ‫قال‪ :‬أريد أخا لي في هذه القرية‬ ‫‪\" ‬قال‪ :‬هل لك عليه من نعمة تر ُّبها عليه؟\" هل لك عليه؟ يعني أنك‬ ‫قد أتيت لمصلحة دنيوية‬ ‫تر ُّبها عليه أي‪ :‬أنك تتعاهد هذه المصلحة‪ ،‬وتقصد حفظها ورعايتها‬ ‫وتربيتها‪ ،‬أي مصلحة تحتفظ بها تنميها‪ ،‬تثمرها وتسعى في صلاحها‬ ‫‪ ‬فقال‪\" :‬لا‪ ،‬غير أني أحببته في الله تعالى\"‬ ‫زاره محبة ليس لمصلحة دنيوية يرجوها من هذه الزيارة‪ ،‬وإنما محبة‬ ‫في الله‪ ،‬فهي زيارة في الله ومحبة فيه خالصة‪ ،‬ليست على شيء من‬ ‫حظوظ النفس أو حطام الدنيا الذي عليه علاقة أكثر الناس منذ أزمان‬ ‫متطاولة‪.‬‬ ‫‪\" ‬قال‪ :‬فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه\"‬ ‫فهذا الرجل ذهب يزور أخا له في قرية‪ ،‬ولربما لم يخطر في باله هذا‬ ‫الثواب العظيم‪ ،‬وهذه النتيجة العظمى أن الله قد أحبه‪ ،‬ويأتيه ملك‬ ‫على طريقه ويخبره ويبشره بذلك على أمر يسير يحصل من الناس‪،‬‬ ‫ولربما لم يحسبوا له حسابا‪ ،‬ولم يعرفوا عظمه وخطره وشأنه عند‬ ‫الله تعالى‪.‬‬ ‫فهذا الحديث يدل‪ :‬على منزلة المحبة في الله تعالى‬

‫قال صلى الله عليه وسلم‪(( :‬من أحب لله‪ ،‬وأبغض لله‪ ،‬وأعطى لله‪ ،‬ومنع‬ ‫لله‪ ،‬فقد استكمل الإيمان)) صحيح الجامع‬ ‫ويدل أيضا‪ :‬على أهمية التزاور الذي يكون بنية صافية خالصة ليس من‬ ‫أجل الدنيا وحطامها الفاني‪ ،‬وإنما يزوره لله وفي الله‪ ،‬محبة في الله ‪-‬‬ ‫تبارك وتعالى‬ ‫ويدل أيضا‪ :‬على أن من الأعمال ما يكون قليلا في نظرنا ولكن الإنسان قد‬ ‫يبلغ به عند الله تعالى المنازل العالية‪.‬‬

‫الحديث الثاني والستون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫(( َم ْن َعا َد َم ِريضا أَ ْو َزا َر أخا لَ ُه في الله‪َ ،‬نا َدا ُه ُم َنا ٍد‪ِ :‬بأ ْن ِط ْب َت‪َ ،‬و َطا َب‬ ‫َم ْم َشا َك‪َ ،‬و َت َب َّوأ َت ِم َن ال َج َّن ِة َم ْن ِزلا))‬ ‫رواه الترمذي‪َ ،‬وقالَ‪(( :‬حديث حسن))‬ ‫وفي بعض النسخ‪(( :‬غريب))‬ ‫شرح الحديث‬ ‫‪\" ‬ناداه منا ٍد\"هذا أمر يحصل ولو لم يسمعه الإنسان‬ ‫‪\" ‬طبت وطاب ممشاك\" طبت في نفسك‪ ،‬ما يحصل له من السعادة‬ ‫والأنس والراحة واللذة والانشراح‪ ،‬وكذلك أيضا عمله‪ ،‬فإن عمله‬ ‫يكون زاكيا عند الله تعالى‪.‬‬ ‫‪\" ‬وطاب ممشاك\" هذا هو الممشى الذي يحبه الله‪ ،‬لم يم ِش بطرا ولا‬ ‫رياء ولا سمعة‪ ،‬ولا إلى معصية‪ ،‬وإنما ذهب لعيادة مريض أو يزور‬ ‫أخا له في الله‪.‬‬ ‫‪ \" ‬وتبوأت من الجنة منزلا \" تبوأت يعني اتخذ َت منزلا من الجنة‪،‬‬ ‫فهذا المنزل ا ُّتخذ في الجنة بهذا العمل اليسير‪ ،‬زيارة مريض أو‬ ‫زيارة أخ في الله‪ ،‬مع أن هذا أمر تدعو إليه المروءات ومكارم‬ ‫الأخلاق‪ ،‬ويحمل عليه ما يوجد بين الناس من التراحم والتكافل‪ ،‬فالله‬ ‫تعالى رتب على هذه الأعمال اليسيرة التي لا كلفة فيها‪ ،‬رتب عليها‬ ‫هذه الأجور العظيمة‪ ،‬ومع ذلك قد لا نحتسب ذلك عند الله تبارك‬ ‫وتعالى‪ ،‬وإن كنت أرجو أن يحصل للإنسان الثواب ولو لم يكن له‬ ‫احتساب إن كانت زيارته لهذا المعنى؛ لأنه على الأرجح ما كل عمل‬

‫يحتاج إلى احتساب‪ ،‬مثل هذا العمل لا يحتاج إلى احتساب‪ ،‬يكفي أن‬ ‫تكون محبة في الله أن يعود هذا الإنسان‪ ،‬فيؤجر‪ ،‬وهكذا من أحسن‬ ‫إلى إنسان محتاج‪ ،‬أو حمل متاعه‪ ،‬لا يفعل ذلك رياء ولا سمعة ولا‬ ‫لحظ دنيوي‪ ،‬ولكن حملته الشفقة على هذا الإنسان فأحسن إليه فإنه‬ ‫يؤجر على ذلك‪.‬‬ ‫فالمقصود أن هذه الأعمال ينبغي أن نفعلها لله‪ ،‬فكثير من الأعمال نعملها‬ ‫هي فقط تحتاج إلى نية‪ ،‬نية صحيحة‪ ،‬أو على الأقل أن لا يكون للإنسان‬ ‫فيها مقصد سيئ‪ ،‬فنحن نحتاج إلى تصحيح المقاصد في هذه الأعمال‪،‬‬ ‫فنحن نبذل نفس الجهد لكن يحتاج منا فقط إلى نية وقصد صحيح‪.‬‬

‫الحديث الثالث والستون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أَبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم‬ ‫َقالَ‪(( :‬إِ َّن َما َمثلُ ال َجلِي ِس ال َّصالِ ِح َو َجلِي ِس ال ُّسو ِء‪َ ،‬ك َحا ِم ِل ال ِم ْس ِك‪َ ،‬و َنافِ ِخ‬ ‫ا ْل ِكي ِر‪َ ،‬ف َحا ِملُ ا ْل ِم ْس ِك‪ :‬إ َّما أ ْن ُي ْح ِذ َي َك‪َ ،‬وإ َّما أ ْن َت ْب َتا َع ِم ْن ُه‪َ ،‬وإ َّما أ ْن َت ِج َد ِم ْن ُه‬ ‫ريحا َط ِّي َبة‪َ ،‬و َنافِ ُخ ال ِكي ِر‪ :‬إ َّما أ ْن ُي ْح ِر َق ثِ َيا َب َك‪َ ،‬وإ َّما أ ْن َت ِج َد ِم ْن ُه ِريحا‬ ‫ُم ْنتِ َنة))‬ ‫ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه‬ ‫شرح الحديث‬ ‫الأمثال يقصد بها تقريب المعاني المدركة بالعقول في صورة أمور‬ ‫محسوسة‪ ،‬من أجل فهم المعنى المطلوب‪ ،‬ومن أجل تصوره‪ ،‬ومن أجل‬ ‫أن يقع في الذهن موقعا يؤثر فيه‪ ،‬وهذا كثير في الأمثال المضروبة في‬ ‫القرآن والسنة‪.‬‬ ‫وفي هذا الحدي ِث َي ْض ِر ُب ال َّنب ُّي ص َلّى اللهُ عليه وسلَّم َم َثلا لِ ِص ْن َف ْي ِن ِم َن‬ ‫ال َّنا ِس‪ ،‬و ُه َما الجلي ُس ال َّصالِ ُح والجلي ُس ال ُّسوء؛ فيقولُ صلَّى الله عليه‬ ‫وس ّلَم‪:‬‬ ‫‪\" ‬إنما َم َثلُ ال َجلِي ِس\"وهو الذي ُي َجالِ ُس غي َرهُ ِم َن ال َّنا ِس‬ ‫‪\" ‬ال َّصالح\"أي‪َ :‬م ْن َي ُدلُّ جلي َس ُه على الل ِه تعالى وما ُي َق ِّر ُب إليه‪ ،‬من‬ ‫قو ٍل‪ ،‬أو َع َم ٍل‪.‬‬ ‫‪\" ‬وجليس ال ُّسوء\" وهو َم ْن ُيجالِ ُس غي َره و َي ُص ُّد عن َسبي ِل الل ِه‪ ،‬وع َّما‬ ‫ُي َق ِّر ُب إليه‪ ،‬من قو ٍل‪ ،‬وعم ٍل‪.‬‬ ‫‪ ‬ف َم َثلُ الجلي ِس ال َّصال ِح \" َكحامل ال ِم ْس ِك\"‬

‫حامل المسك هو الإنسان الذي يحمل معه المسك‪ ،‬والمسك معروف‪ ،‬وهو‬ ‫طيب يستخرج في الأصل من دم الغزال‬ ‫‪ ‬و َم َثلُ الجلي ِس ال ُّسو ِء َك َم َث ِل \"نافخ الكير \"‬ ‫أي‪ :‬كصاح ِب ال ِكي ِر‪ ،‬وهو ِزق أو بوق أو ِجل ٌد غلي ٌظ ُت ْن َف ُخ به ال َّنا ُر‪،‬‬ ‫والنار مع هذا النفخ تتوقد‪ ،‬فنفخ الكير يكون له رائحة سيئة ج ّدا‪،‬‬ ‫وشرار يتطاير‪ ،‬ونار تتلهب قوية حامية‪.‬‬ ‫‪ ‬قال‪ \" :‬فحامل المسك إما أن ُي ْح ِذيك\" يعني‪ :‬يهبك‪ ،‬يعطيك‪.‬‬ ‫‪\" ‬وإما أن تبتاع منه\" بمعنى تشتري منه‬ ‫‪\" ‬وإما أن تجد منه ريحا طيبة\"‬ ‫يعني‪ :‬لن تعدم خيرا في الأحوال الثلاثة‪ ،‬إما أن يعطيك شيئا‪ ،‬وإما‬ ‫أن تجد منه الريح الطيبة‪ ،‬فأنت رابح بمجالسته‪ ،‬لن تتأذى بمجالسته‬ ‫وكذلك الجلي ُس ال َّصال ُح؛ إ َّما أ ْن تأخ َذ منه خيرا‪ ،‬و َتنتفِ َع به‪ ،‬أو أ ْن َت ِج َد من‬ ‫ُمجا َلستِ ِه َر ْوحا و ِطيبا‪.‬‬ ‫‪ \" ‬ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك‪ ،‬تطير عليها شرارة‪ ،‬وإما أن تجد‬ ‫منه ريحا منتنة\"‬ ‫أي‪ُ :‬يصي ُب من ِدينِ َك‪ ،‬و َيح ِرق َك ب َنا ِر ِه‪ ،‬أو َت ِج ُد منه ريحا خبيثة‪ ،‬ف َي ْجلِ ُب لك‬ ‫َك ْربا و ِضيقا‪َ ،‬و َت َش ُّم منه ما ُيؤذي َك‪.‬‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬الح ُّث على ال ُق ْر ِب ِم َن الجلي ِس ال َّصال ِح‪ ،‬وال ُب ْع ِد عن جلي ِس‬ ‫ال ُّسو ِء‪.‬‬

‫الحديث الرابع والستون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أَبي هريرة رضي الله عنه عن ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم َقالَ‪:‬‬ ‫(( ُت ْن َك ُح ال َم ْرأَةُ لأَ ْر َب ٍع‪ :‬لِ َمالِ َها‪َ ،‬ولِ َح َس ِب َها‪َ ،‬ولِ َج َمالِ َها‪َ ،‬ولِ ِدينِ َها‪َ ،‬فا ْظ َف ْر بِذا ِت‬ ‫ال ِّدي ِن َتر َب ْت َي َداك))‬ ‫ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه‪.‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫تنكح المرأة لأربع‪ ،..‬أي‪ :‬أن الناس في غالب الأحوال إنما تتوجه مطالبهم‬ ‫وأنظارهم إلى هذه الأوصاف الأربع‬ ‫‪\" ‬لمالها‪ ،‬ولحسبها‪ ،‬ولجمالها‪ ،‬ولدينها‪ ،‬فاظفر بذات الدين تربت‬ ‫يداك\" لأن الأغراض التي تنكح من أجلها المرأة في الغالب تنحصر‬ ‫في هذه الأربع‪:‬‬ ‫‪.1‬المال‪ :‬من أجل أن ينتفع به الزوج‪.‬‬ ‫‪.2‬والحسب‪ :‬يعني أن تكون من قبيلة شريفة‪ ،‬من أجل أن يرتفع بها‬ ‫الزوج‪.‬‬ ‫‪.3‬والجمال‪ :‬من أجل أن يتمتع بها الزوج‪.‬‬ ‫‪.4‬والدين‪ :‬من أجل أن تعينه على دينه‪ ،‬وتحفظ أمانته وترعى أولاده‪.‬‬ ‫‪ ‬قال النبي صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) يعني تمسك بها واحرص عليها‪،‬‬ ‫وحث على ذلك بقوله‪(( :‬تربت يداك)) وهذه الكلمة تقال عند العرب‬ ‫للحث على الشيء‪.‬‬ ‫‪\" ‬ت َرب ْت يداك\" أي‪ :‬التصق ْت ِبال ُّترا ِب‪ ،‬ويقالُ على َم ِن افتق َر‪ :‬ت ِرب ْت‬ ‫يداه‪ ،‬وهذه الجمل ُة جاري ٌة على ألسن ِة العر ِب لا ُيريدو َن بها ال ُّدعا َء‬

‫على المخا َط ِب ولا وقو َع الأمر به‪ ،‬والمرا ُد بها الح ُّث وال َّتحري ُض؛‬ ‫َفال َّنب ُّي صلَّى الله عليه وسلَّم يح ُّث على ال َّظف ِر‪ ،‬أي‪ :‬الفوز بصاحب ِة‬ ‫ال ِّدي ِن‪ ،‬فأخب َر ص َلّى الله عليه وس ّلَم ِبأوصا ِف المرأ ِة الَّتي يتع ّلَ ُق بها‬ ‫ال َّنا ُس في ال َّزوا ِج‪ُ ،‬ث َّم نص َح ال َّنب ُّي ص َّلى الله عليه وس َّلم بِاعتبا ِر‬ ‫ال ِّدي ِن‪ ،‬وأ ْن ُيجعلَ عليه المع َّولُ في اختيا ِر ال َّزوج ِة؛ لأ َّن اختيا َر ذا ِت‬ ‫ال ِّدي ِن يتر َّت ُب عليه سعادةُ ال َّدا َري ِن ال ُّدنيا والآخر ِة‪.‬‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬تفضيلُ ذا ِت ال ِّدي ِن ِم َن ال ِّنسا ِء على غي ِرها‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬الح ُّث على ُمصاحب ِة أه ِل ال َّصلا ِح في كلِّ شي ٍء؛ لأ َّن َمن صاح َبهم‬ ‫استفا َد ِمن أخلاقِهم ويأم ُن ا ْل َمفسد َة ِمن جه ِتهم‪.‬‬

‫الحديث الخامس والستون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن ابن عباس رضي الله عنهما‪َ ،‬قالَ‪َ :‬قالَ ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم‬ ‫لِجبريل‪َ (( :‬ما َي ْم َن ُع َك أ ْن َت ُزور َنا أك َثر ِم َّما َت ُزو َر َنا؟)) َف َن َزلَ ْت‪َ { :‬و َما َن َت َن َّزلُ إلا‬ ‫بِأَ ْم ِر َر ِّب َك لَ ُه َما َب ْي َن أَ ْي ِدي َنا َو َما َخ ْل َف َنا َو َما َب ْي َن َذلِ َك} [مريم‪]64 :‬‬ ‫رواه البخاري‬ ‫شرح الحديث‬ ‫الشاهد في هذا الحديث أن النبي قال لجبريل عليه السلام‪:‬‬ ‫‪\" ‬ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزرونا؟\" فطلب زيارة أهل الفضل‬ ‫شيء مطلوب‪ ،‬والنبي قد طلب ذلك من جبريل عليه السلام‪،‬‬ ‫فأنزل الله جل وعلا هذه الآية‪َ { :‬و َما َن َت َن َّزلُ إِ َّلا بِأَ ْم ِر َر ِّب َك}‬ ‫المعنى‪ :‬إلا بإذنه‪.‬‬ ‫أي أن الملائكة ليس لهم أم ٌر‪ ،‬إنما أمرهم بيد الله‪ُ ،‬ينزلهم إذا شاء‪،‬‬ ‫ويمنعهم إذا شاء سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫‪{ ‬لَ ُه َما َب ْي َن أَ ْي ِدي َنا َو َما َخ ْل َف َنا َو َما َب ْي َن َذلِ َك}‬ ‫أي‪ :‬ما أمامنا وخلفنا من الأزمنة والأمكنة‪ ،‬فلا ننتقل من شيء إلى‬ ‫شيء إلا بأمره ومشيئته ‪-‬تبارك وتعالى‪ ،‬فنحن عبيده واقفون عند‬ ‫حدوده‪ ،‬وما يأمر به‪ ،‬ولا ننزل من عند أنفسنا‪.‬‬ ‫والمقصود أن المؤمن يحرص على أهل الفضل والخير أن يزوروه‪،‬‬ ‫وأن يعاشرهم وأن يخالطهم‪ ،‬وأن يكون هؤلاء هم أهل صحبته‬ ‫ومجالسته‪.‬‬

‫وفي الحدي ِث‪ :‬الحث على طلب زيارة أهل الخير لبيتك‬ ‫الحديث السادس والستون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أَبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم َقالَ‪:‬‬ ‫((لا ُت َصا ِح ْب إلا ُم ْؤ ِمنا‪َ ،‬ولاَ َيأْ ُكلْ َط َعا َم َك إلا َتقِي))‬ ‫رواه أَ ُبو داود والترمذي بإسناد لا بأس ِب ِه‬ ‫شرح الحديث‬ ‫‪ \" ‬لا تصاحب\" أي‪ :‬لا تتخذه صاحبا؛ لأن الإنسان يتأثر بمن يخالطه‬ ‫ولا محالة‪.‬‬ ‫‪\" ‬ولا يأكلْ طعا َمك إلا تقي\" والمقصود بهذا ليس الطعام الذي يعطى‬ ‫على سبيل الصدقة أو دفع الحاجة فإن هذا مطلوب‪ ،‬والنبي ﷺ يقول‪:‬‬ ‫\"في كل كبد رطبة أجر\"‪ ،‬فالإنسان يؤجر على ما يبذله للتقي وغير‬ ‫التقي‪.‬‬ ‫‪ ‬ولكن المقصود هنا \"لا يأكل طعامك\" أي‪ :‬لا تعاشر وتد ُع‪ ،‬يعني‬ ‫طعام الدعوة‪ ،‬لا تد ُع‪ ،‬يعني‪ :‬أن الإنسان إنما يدعو عادة من يقربهم‬ ‫ويدنيهم‪ ،‬ويحب أن يكون هؤلاء هم الذين يجالسونه‪ ،‬ويخالطهم على‬ ‫الطعام‪.‬‬ ‫فعليه الصلاة والسلام يقول‪ :‬لا يكن هؤلاء من جلسائك وأهل خلطتك‪،‬‬ ‫والذين تجلس معهم على طعام واحد‪ ،‬وتكون معاشرتك معهم‪ ،‬لا‪ ،‬كن‬ ‫مع الأتقياء الأنقياء من الصالحين والأخيار‪.‬‬ ‫فهذا عند أهل العلم طعام ال ُّصحبة‪ ،‬أما طعام الضيافة فلا ُيشترط فيها‬ ‫ال َّتقي‬

‫لكن ال َّتزاور بين الناس وال َّتواصل يكون بين المؤمنين وبين الأخيار‪،‬‬ ‫ويجتنب صحبة الأشرار وال ُف َّجار‪ ،‬ولا يكون طعامه إلا للأخيار والأتقياء‪.‬‬ ‫أ َّما ما يتعلق بال ّضيفان‪ :‬فالضيف يكون تق ّيا ويكون غير تق ٍّي‪ ،‬فالضيوف‬ ‫لهم ح ّقهم مطلقا‪َ \" :‬من كان ُيؤ ِمن بالله واليوم الآخر فل ُي ْك ِرم ضي َفه\"‬ ‫والنبي صلى الله عليه وس َّلم أكرم الضيو َف‪ ،‬وورد عليه ال ُك َّفار وغير‬ ‫الك َّفار‪.‬‬

‫الحديث السابع والستون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أَبي هريرة رضي الله عنه أن ال َّنب َّي صلى الله عليه وسلم َقالَ‪:‬‬ ‫((ال َّر ُجلُ َعلَى ِدي ِن َخلِيلِ ِه‪َ ،‬فل َي ْن ُظ ْر أَ َح ُد ُك ْم َم ْن ُي َخالِلُ))‬ ‫رواه أَ ُبو داود والترمذي بإسناد صحيح‬ ‫َوقالَ الترمذي‪َ ( :‬ح ِدي ٌث َح َس ٌن)‪.‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫كا َن النب ُّي ص ّلَى اللهُ علي ِه وسلَّم حريصا على َتعلي ِم أُ َّمتِه ما ينف ُعها في‬ ‫ِدي ِنها و ُدنياها‪ ،‬وما يحف ُظ علي ِهم علاقا ِتهم ال َّط ِّيب َة‪ ،‬وكا َن يح ُّض على‬ ‫التوا ُص ِل وال َّتوا ِّد والتصا ُح ِب بي َن المسلمي َن‪ ،‬وهذا الحدي ُث َتوجي ٌه وإرشا ٌد‬ ‫َنبوي لِ َمن أرا َد سلام َة نف ِسه وبي ِته وعلاقاتِه م َع النا ِس‪.‬‬ ‫وفي هذا الحديث يقولُ النب ُّي صلَّى اللهُ علي ِه وس َّلم‪:‬‬ ‫‪\" ‬الر ُجلُ على ِدي ِن َخليلِه؛ َف ْلين ُظ ْر أح ُدكم َمن ُيخالِلْ\"‬ ‫أي‪ :‬المر ُء يشابِ ُه َصدي َقه وصا ِح َبه في ِسير ِته وعاد ِته؛ فه َو مؤ ِّث ٌر في‬ ‫الأخلا ِق والسلو ِك والتص ُّرفا ِت‪ ،‬ونظر ِة النا ِس إلى كلٍّ ِمنهما من خلا ِل‬ ‫َمعرفتِهم بأحوا ِل ال َّصاح ِب؛ ولهذا أرش َد النب ُّي صلَّى اللهُ علي ِه وسلَّم‬ ‫إلى ُحس ِن اخ ِتيا ِر الص ِدي ِق‪.‬‬ ‫وهو يدل على أ َّن الخليل في الغالب ُيؤثر على خليله في دينه‬ ‫وأخلاقه‪ ،‬فلينظر المؤم ُن أ ِخ َّلا َءه وأحبابه‪ ،‬حتى يختارهم‪ ،‬ويكون مع‬ ‫َمن ُترى منه الأعمال الطيبة والسيرة الحميدة‪.‬‬ ‫فالإنسان ينجذب عادة إلى من يشاكله‪ ،‬ويكون مناسبا له‪ ،‬فيميل إليه‬ ‫طبعه‪ ،‬ويحصل بينهما من التوافق والإلف ما لا يقادر قدره‪.‬‬

‫فإذا صحب الإنسان أو أحب أهل الخير والفضل فإن ذلك يدل على أن‬ ‫نفسه تنجذب للخير؛ وهذا مؤشر يدل على أن هذا الإنسان قلبه لا‬ ‫يزال فيه حياة‪ ،‬ويرجى لصاحبه من الخير في الدنيا والآخرة‪.‬‬ ‫وذلك أنه في الدنيا يتأثر بمثل هؤلاء ويعمل بعملهم‪ ،‬وينكف وينزجر‬ ‫عن كثير من الشرور والآفات والآثام‪ ،‬وذلك أن هؤلاء يعينونه على‬ ‫الخير‪ ،‬و ُيقعدونه عن الشر‪ ،‬بخلاف من صحب الأشرار فإنهم‬ ‫يؤ ُّزونه أ ّزا إلى المعصية والمنكر‪ ،‬ويقعدونه عن طاعة الله‪ ،‬ولربما‬ ‫عيروه إذا ترك الباطل أو فعل شيئا من طاعة الله‪.‬‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬الح ُّث على انتِقا ِء الأصحا ِب والأصدقا ِء ِمن الأتقيا ِء‬ ‫المؤمني َن‪.‬‬

‫الحديث الثامن والستون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أَبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن ال َّنب ّي صلى الله عليه‬ ‫وسلم َقالَ‪(( :‬ال َم ْر ُء َم َع َم ْن أَ َح َّب))‬ ‫ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه‬ ‫وفي رواية‪ :‬قال‪ :‬قيل للنبي صلى الله عليه وسلم‪ :‬ال َّر ُجلُ ُيح ُّب ال َقو َم‬ ‫َو َل َّما َي ْل َح ْق بِ ِه ْم؟ َقالَ‪((:‬ال َم ْر ُء َم َع َم ْن أَ َح َّب))‬ ‫شرح الحديث‬ ‫‪\" ‬المرء مع من أحب\"وفي رواية‪ :‬قيل للنبي ‪ :‬الرجل يحب القوم‬ ‫ولما يلحق بهم؟‬ ‫‪ ‬قال‪\" :‬المرء مع من أحب\" يعني في الآخرة‬ ‫قيل للنبي ‪ :‬الرجل يحب القوم‪ ،‬يعني من أهل الصلاح والدين‬ ‫والفضل‪ ،‬يحبهم‪ ،‬ول ّما يلحق بهم‪ ،‬يعني في العمل‪ ،‬هو مقصر‪،‬‬ ‫ومرتبته دون مرتبتهم‪ ،‬فليس له من التشمير ما لهم في طاعة الله‬ ‫تعالى‪.‬‬ ‫‪ ‬فقال النبي صلى الله عليه وس َلّم‪ \":‬المرء مع من أحب\"‬ ‫وهذا من أعظم الأحاديث المبشرة بسعة فضل الله تعالى ورحمته‬ ‫على عباده المؤمنين‪ ،‬فالإنسان قد لا يعمل الأعمال الكثيرة‪ ،‬ولكنه‬ ‫يحب أهل الفضل والدين والصلاح فيلحقه الله بهم‪.‬‬ ‫فهذا الحديث ورد في المحبة الإيمانية الشرعية‪ ،‬التي أمر الله بها‬ ‫عباده‪ ،‬وهي من عرى الإيمان‪ ،‬بل من أوثق عرى الإيمان‬ ‫وعلاماته‪ :‬أن يحب الرجل أخاه‪ ،‬لا يحبه لدنيا ولا مال ولا جاه؛ إنما‬ ‫يحبه لله جل جلاله‪ ،‬فالمرء مع َمن أح َّب‪ :‬إن أح َّب الله ورسوله‬

‫والمؤمنين صار معهم‪ ،‬وإن أح َّب خلاف ذلك صار معهم‪ ،‬والله جل‬ ‫وعلا أوجب على عباده ح َّب الله ورسوله‪ ،‬وح َّب الإيمان‪.‬‬ ‫يقول النب ُّي صلى الله عليه وس ّلَم‪\" :‬لا ُيؤ ِمن أح ُدكم حتى أكون أح َّب‬ ‫إليه من ولده ووالده والناس أجمعين\"‬ ‫فالواجب على المؤمن أن ُيح َّب الله ورسوله‪ ،‬ويحب المؤمنين‪،‬‬ ‫ويحب أهل التقوى‪ ،‬ويتخذهم أصحابا‪ ،‬ويبتعد عن صحبة الأشرار‬ ‫الذين يجرونه إلى ما ح َّرم الله عليه‪.‬‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬الحث على محبة الصالحين‪ ،‬لأن من أح ّبهم دخل معهم‬ ‫الجنة‪ ،‬والمعية تحصل بمجرد الاجتماع وإ ْن تفاوتت الدرجات‪.‬‬

‫الحديث التاسع والستون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أنس رضي الله عنه أ َّن أعرابيا َقالَ لرسول الله صلى الله عليه‬ ‫وسلم‪َ :‬م َتى ال َّسا َع ُة؟ َقالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫(( َما أ ْع َد ْد َت لَ َها؟)) َقالَ‪ُ :‬ح َّب الله ورسول ِه‬ ‫َقالَ‪(( :‬أ ْن َت َم َع َم ْن أ ْح َب ْب َت))‬ ‫ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه‪ ،‬وهذا لفظ مسلم‬ ‫وفي رواية لهما‪َ :‬ص َدَم َقا ٍةأ‪ْ ،‬ع َ َدو ْلَد ِك ِّنُتيَل َأهُا ِح ِم ُّب ْنال َلكهثي َ ِور َر َُسص ْوو َلٍم ُه‪َ ،‬ولا َصلاَ ٍة‪َ ،‬ولا‬ ‫شرح الحديث‬ ‫وق ُت قيا ِم ال َّساع ِة ِم َن الغيب َّيا ِت ا َّلتي استأث َر المولى سبحانه وتعالى‬ ‫بها‪ ،‬ولم ُيطلِ ْع عليه أَحدا؛ ولذلك فإ َّن المؤم َن لا َينشغلُ بِموع ِد‬ ‫قيا ِمها‪ ،‬وإ َّنما يج ُب أ ْن تنصر َف ه َّم ُته إلى زا ِده إليها وما أع َّد لها ِم َن‬ ‫العم ِل وفي هذا الحدي ِث سألَ رجلٌ ِمن أه ِل البادي ِة ال َّنب َّي صلَّى الله‬ ‫عليه وسلَّم َعن وق ِت قيا ِم ال َّساع ِة فقال له ص َلّى الله عليه وسلَّم‪:‬‬ ‫«ما أعد ْد َت لها؟»‪ ،‬وذلك لِينش ِغلَ بِالأصل ِح له وهو العملُ ال َّصال ُح لا‬ ‫ِبموع ِد قيا ِم ال َّساع ِة‬ ‫‪ ‬فقال ال َّرجلُ‪ُ « :‬ح َب الله ورسوله»‬ ‫‪ ‬فقال ص َّلى الله عليه وس َّلم‪« :‬أنت مع َمن أحب ْب َت» أي‪ :‬معهم في‬ ‫الج َّن ِة‪.‬‬ ‫وفي رواية قال‪ :‬ما أعدد ُت لها من كثير صلا ٍة‪ ،‬ولا صو ٍم‪ ،‬ولكني‬ ‫أح ُّب الله ورسوله‪،‬‬ ‫فهذا الحديث يدل على أن الإنسان مع َمن أح َّب‪ ،‬ف َمن أح َّب الله‬

‫ورسوله والمؤمنين فهو معهم‪ ،‬و َمن أح َّب الكفرة والظالمين فهو‬ ‫معهم‪.‬‬ ‫فينبغي للمؤمن أن ُيح َّب الله ورسوله‪ ،‬ويحب أهلَ الإيمان وال َّتقوى‬ ‫والصلاح‪ ،‬ويجتهد في ُصحبتهم وا ِّتخاذهم إخوانا‪ ،‬ويحذر من صحبة‬ ‫الأشرار‪ ،‬فمحبة المؤمنين وصحبة المؤمنين والأخيار من أسباب‬ ‫الحشر معهم يوم القيامة‪ ،‬والفوز بالجنة وال َّسعادة‪ ،‬كما أ َّن ُصحبة‬ ‫الأشرار والفُ َّجار من أسباب الخسارة‪ ،‬وأن تكون معهم في الدنيا‬ ‫والآخرة‪.‬‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬دليل على أنه ليس الشأن أن يسأل الإنسان متى‬ ‫يموت؟ ولكن على أي حال يموت؟ هل يموت على حسن خاتمة؟ أو‬ ‫على خاتمة سيئة؟ ماذا أعددت لها؟ هل عملت؟ هل أنبت إلى ربك؟‬ ‫هل تبت من ذنبك؟ هذا هو المهم‪.‬‬

‫الحديث السبعون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن ابن مسعود رضي الله عنه َقالَ‪ :‬جاء رجلٌ إلى َر ُسو ِل الله صلى‬ ‫الله عليه وسلم َف َقالَ‪َ :‬يا َر ُسول الله‪َ ،‬ك ْي َف َتقُولُ في َر ُج ٍل أَ َح َّب َق ْوما‬ ‫َو َل ْم َي ْل َح ْق بِ ِه ْم؟‬ ‫َف َقالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫((ال َم ْر ُء َم َع َم ْن أ َح َّب))‬ ‫ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه‪.‬‬ ‫ولابن حبان‪(( :‬ولا يستطيع أن يعمل بعملهم))‪.‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫فينبغي للمؤمن أن ُيح َّب الله ورسوله‪ ،‬ويحب أهلَ الإيمان وال َّتقوى‬ ‫والصلاح‪ ،‬ويجتهد في ُصحبتهم وا ِّتخاذهم إخوانا وأخدانا‪ ،‬ويحذر من‬ ‫صحبة الأشرار‪.‬‬ ‫فالمرء مع َمن أح َّب‪ :‬إن أح َّب الله ورسوله والمؤمنين صار معهم‪،‬‬ ‫وإن أح َّب خلاف ذلك صار معهم‪ ،‬والله جل وعلا أوجب على عباده‬ ‫ح َّب الله ورسوله‪ ،‬وح َّب الإيمان‪.‬‬ ‫يقول النب ُّي صلى الله عليه واله و َّسلم‪:‬‬ ‫\" ثلا ٌث َمن ُك َّن فيه وجد به َّن حلاو َة الإيمان‪ :‬أن يكون الله ورسوله‬ ‫أح َّب إليه مما سواهما‪ ،‬وأن ُيح َّب المرء لا ُيح ُّبه إلا لله‪ ،‬وأن يكره أن‬ ‫يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن ُيقذ َف في النار\"‬ ‫فالواجب على المؤمن أن ُيح َّب الله ورسوله‪ ،‬ويحب المؤمنين‪،‬‬ ‫ويحب أهل التقوى‪ ،‬ويتخذهم أصحابا‪ ،‬ويبتعد عن صحبة الأشرار‬ ‫الذين يجرونه إلى ما ح َّرم الله عليه‪.‬‬

‫فالذي قد لا تعينه نفسه على كثير من الأعمال الطيبة الصالحة لا أقل‬ ‫من أن يحب الخير ويحب الصالحين‪ ،‬ويحب مجالسهم‪ ،‬ولا يحب‬ ‫الشر ولا الأشرار‪ ،‬فالمرء مع من أحب‪ ،‬الإنسان قد لا يعمل بعمل‬ ‫الأشرار‪ ،‬ولكنه يحبهم ويؤثرهم على غيرهم‪ ،‬ويحب مجالستهم‪،‬‬ ‫فمثل هذا يلحق بهم‪.‬‬ ‫المرأة المسلمة حينما تكون قدوتها الممثلات والمطربات‪ ،‬وعارضات‬ ‫الأزياء‪ ،‬وما أشبه ذلك فإنها قد تلحق بهم‪ ،‬ولو لم تعمل هي بعملهم‪،‬‬ ‫وإذا كان قدوتها أمهات المؤمنين والصالحات من المؤمنات القانتات‬ ‫التقيات فإن الله يلحقها بهم‪ ،‬ولو قص ّرت عن عملهم‪ ،‬فهذا يحرص‬ ‫الإنسان عليه‪ ،‬ولذلك فإن الإنسان قد يبلغ المراتب في الآخرة بشيء‬ ‫تعلق به بقلبه وإن ق ّصر عنه عمله‪.‬‬

‫الحديث الحادي والسبعون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أَبي هريرة رضي الله عنه عن ال َّنب ِّي صلى الله عليه وسلم َقالَ‪:‬‬ ‫((ال َّنا ُس َم َعا ِد ٌن َك َم َعا ِد ِن ال َّذ َه ِب َوالفِ َّض ِة‪ِ ،‬خ َيا ُر ُه ْم في ال َجا ِهلِ َّي ِة ِخ َيا ُر ُه ْم في‬ ‫الإ ْسلاَ ِم إِ َذا َفق ُهوا‪َ ،‬والأ ْر َوا ُح ُج ُنو ٌد ُم َج َّن َد ٌة‪َ ،‬ف َما َت َعا َر َف ِم ْن َها ا ْئ َتلَ َف‪ ،‬و َما‬ ‫َت َنا َك َر ِم ْن َها ا ْخ َت َل َف))‬ ‫رواه مسلم‬ ‫وروى البخاري قوله‪(( :‬الأَ ْر َوا ُح …)) إلخ ِم ْن رواية عائشة رضي الله‬ ‫عنها‪.‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫‪\" ‬الناس معادن\" أي‪ :‬أنهم أصول للأخلاق والأعمال والأوصاف‬ ‫الطيبة والرديئة‪ ،‬فكل معدن يخرج منه ما في أصله‪ ،‬وكل إنسان‬ ‫يظهر منه ما فيه من خسة‪ ،‬أو شرف‪ ،‬فإذا انضم الدين إلى الشرف‬ ‫الأصلي فقد حاز الشرف‪.‬‬ ‫‪\" ‬كمعادن الذهب والفضة\" فمعادن الذهب والفضة تتفاوت‪ ،‬الذهب‬ ‫أنفس المعادن‪ ،‬ولكنه أيضا هو يتفاوت جودة ورداءة‪ ،‬فقد يكون‬ ‫ذهبا خالصا‪ ،‬وقد يكون ذهبا مشوبا‪ ،‬وكذلك الفضة فهي وإن كانت‬ ‫دون الذهب إلا أنها من أنفس المعادن أيضا‪ ،‬وهي متفاوتة في‬ ‫نفسها‪.‬‬ ‫‪\" ‬خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا\"‬ ‫بمعنى أن أشرافهم ومن كانوا أفضل في معادنهم في الجاهلية فإنهم‬ ‫كذلك يكونون إذا دخلوا في الإسلام‪.‬‬

‫‪ \" ‬إذا فقهوا\" بمعنى إذا علموا من الدين‪ ،‬وصار لهم فقه فيه‪،‬‬ ‫وتهذبت نفوسهم وأرواحهم‪ ،‬فإن الإسلام لا يزيد تلك المعادن الجيدة‬ ‫التي كانت في الجاهلية إلا زكاء ونقاء وتطهيرا وتهذيبا‪.‬‬ ‫‪\" ‬والأرواح جنود مجندة\" أي‪ :‬جموع مجتمعة‪ ،‬وأنواع مختلفة‪ ،‬فما‬ ‫تشاكل منها في الخير أو الشر ح ّن إلى شكله‪.‬‬ ‫أي‪ :‬أن الأرواح يحصل فيها من الانجذاب أو التنافر بحسب ما جبلت‬ ‫عليه‪ ،‬وبحسب ما تخلقت به‪ ،‬فتميل إلى من يشاكلها وتنفر ممن‬ ‫يباينها‪ ،‬وهذا أمر مشاهد في الناس‪ ،‬فأهل الفضل والدين والصلاح‬ ‫والخير يميلون إلى من يشاكلهم‪ ،‬وأهل الشر ينجذبون إلى ما‬ ‫يشاكلهم‪ ،‬وكذلك أيضا ما ُجبلت عليه النفوس‪ ،‬و ُطبعت عليه‪ ،‬فإنه‬ ‫يحصل للنفوس من الانجذاب إلى نظائرها ما لا يخفى‪.‬‬ ‫‪\" ‬فما تعارف منها ائتلف‪ ،‬وما تناكر منها اختلف\"‬ ‫ما تعارف منها ائتلف بمعنى أنه ما تقارب في الأوصاف فإنه يحصل‬ ‫بينه التقارب والانجذاب والتآلف‪ ،‬وإذا حصل التنافر في الصفات فإن‬ ‫ذلك يحصل معه التناكر والتباين والتباعد وهكذا‪.‬‬ ‫وهذا الحديث‪ :‬يدل على أن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة‪،‬‬ ‫فيوجد فيهم ما فطرهم الله عليه من الأوصاف الكاملة‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬الحث على الفقه في دين الله و ُصحبة الأخيار‪.‬‬

‫الحديث الثاني والسبعون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أُ َس ْير بن عمرو‪ ،‬ويقال‪ :‬ابن جابر َقالَ‪َ :‬كا َن ُع َم ُر ْب ُن ال َخ َّطا ِب رضي‬ ‫الله عنه إِ َذا أ َتى َع َلي ِه أ ْم َدا ُد أ ْه ِل ال َي َم ِن َسألَ ُه ْم‪ :‬أفِي ُك ْم أُ َو ْي ُس ْب ُن َعا ِم ٍر؟ َح َّتى‬ ‫أ َتى َعلَى أُ َو ْي ٍس رضي الله عنه َف َقالَ َل ُه‪ :‬أ ْن َت أُ َو ْي ُس ْب ُن َعا ِمر؟ َقالَ‪َ :‬ن َع ْم‪،‬‬ ‫َقالَ‪ِ :‬م ْن ُم َرا ٍد ُث َّم ِم ْن َق َر ٍن؟ َقالَ‪َ :‬ن َع ْم‪َ .‬قالَ‪َ :‬ف َكا َن ِب َك َب َر ٌص‪َ ،‬ف َب َر ْأ َت ِم ْن ُه إلا‬ ‫َم ْو ِض َع ِد ْر َه ٍم؟ َقالَ‪َ :‬ن َع ْم‪َ .‬قالَ‪ :‬لَ َك َوالِد ٌة؟ َقالَ‪َ :‬ن َع ْم‪َ .‬قالَ‪َ :‬س ِم ْع ُت َر ُسول الله‬ ‫صلى الله عليه وسلم يقول‪َ (( :‬يأتِي َعلَ ْي ُك ْم أُو ْي ُس ْب ُن َعا ِم ٍر َم َع أ ْم َدا ِد أ ْه ِل‬ ‫ِم ْن ُه إلا م ْو ِض َع ِد ْر َه ٍم‪ ،‬لَ ُه‬ ‫َف َب َرأَ‬ ‫بِ ِه َب َر ٌص‪،‬‬ ‫َكا َن‬ ‫ِم ْن َق َر ٍن‬ ‫ال َي َم ِن ِم ْن ُم َرا ٍد‪ُ ،‬ث َّم‬ ‫ا ْس َت َط ْع َت أ ْن َي ْس َت ْغفِ َر َل َك‬ ‫فإ ِن‬ ‫الله لأَ َب َّرهُ‪،‬‬ ‫َعلَى‬ ‫لَ ْو أ ْق َس َم‬ ‫َوالدةٌ ُه َو ِب َها َبر‪،‬‬ ‫َفا ْف َعل))‪َ ،‬فا ْس َت ْغفِ ْر لي َفا ْس َت ْغ َف َر َل ُه‪َ ،‬ف َقالَ لَ ُه ُع َم ُر‪ :‬أ ْي َن ُتري ُد؟ َقالَ‪ :‬ال ُكو َف َة‪،‬‬ ‫َقالَ‪ :‬ألا أ ْك ُت ُب لَ َك إِلَى َعا ِملِ َها؟ َقالَ‪ :‬أ ُكو ُن في َغ ْب َرا ِء ال َّنا ِس أَ َح ُّب إِ َل َّي‪َ ،‬فلَ َّما‬ ‫َكا َن ِم َن ال َعا ِم ال ُم ْقبِ ِل َح َّج َر ُجلٌ ِم ْن أ ْش َرافِ ِه ْم‪َ ،‬فوا َف َق ُع َم َر‪َ ،‬ف َسأ َل ُه َع ْن‬ ‫أُ َو ْي ٍس‪َ ،‬ف َقالَ‪َ :‬ت َر ْك ُت ُه َر َّث ال َب ْي ِت َقليلَ ال َم َتاع‪َ ،‬قالَ‪َ :‬س ِم ْع ُت َر ُسول الله صلى‬ ‫الله عليه وسلم يقولُ‪َ (( :‬يأتِي َع َل ْي ُك ْم أُ َو ْي ُس ْب ُن َعا ِم ٍر َم َع أ ْم َدا ٍد ِم ْن أ ْه ِل‬ ‫َمو ِض َع ِد ْر َه ٍم‪ ،‬لَ ُه‬ ‫ال َي َم ِن ِم ْن ُم َرا ٍد‪ُ ،‬ث َّم ِم ْن َق َر ٍن‪َ ،‬كا َن ِب ِه َب َر ٌص َف َب َرأَ ِم ْن ُه إلا‬ ‫أ ْن َي ْس َت ْغفِ َر َل َك‪،‬‬ ‫َوالِ َدةٌ ُه َو بِ َها َبر لَ ْو أ ْق َس َم َعلَى اللهِ لأَ َب َّرهُ‪َ ،‬فإ ِن ا ْس َت ْطع َت‬ ‫َفا ْف َعلْ))‬ ‫َفأ َتى أُ َو ْيسا‪َ ،‬ف َقالَ‪ :‬ا ْس َت ْغفِ ْر لِي‪َ .‬قالَ‪ :‬أ ْن َت أ ْح َد ُث َع ْهدا ب َس َف ٍر َصالِ ٍح‪،‬‬ ‫َفا ْس َت ْغفِ ْر لي‪َ .‬قالَ‪ :‬ا ْس َت ْغفِ ْر لِي‪َ .‬قالَ‪ :‬أ ْن َت أ ْح َد ُث َع ْهدا ب َس َف ٍر َصالِ ٍح‪،‬‬ ‫َفا ْس َت ْغفِ ْر لي‪َ .‬قالَ‪َ :‬لقِي َت ُع َم َر؟ َقالَ‪َ :‬ن َع ْم‪ ،‬فا ْس َت ْغ َف َر لَ ُه‪َ ،‬ف َف ِط َن لَ ُه ال َّنا ُس‪،‬‬ ‫َفا ْن َطلَ َق َعلَى َو ْج ِه ِه‬ ‫رواه مسلم‪.‬‬ ‫وفي رواية لمسلم أيضا‪:‬‬ ‫عن أُ َس ْير بن جابر رضي الله عنه أ َّن أ ْهلَ ال ُكو َف ِة َو َف ُدوا َعلَى ُع َم َر رضي‬

‫الله عنه َوفِيه ْم َر ُجلٌ ِم َّم ْن َكا َن َي ْس َخ ُر ِبأُ َو ْي ٍس‪َ ،‬ف َقالَ ُع َم ُر‪َ :‬هلْ ها ُه َنا أَ َح ٌد‬ ‫ِم َن ال َق َر ِن ِّيي َن؟ َف َجا َء ذلِ َك ال َّر ُجلُ‪َ ،‬ف َقالَ عم ُر‪ :‬إ َّن َر ُسول الله صلى الله عليه‬ ‫وسلم َق ْد َقالَ‪(( :‬إ َّن َر ُجلا َيأ ِتي ُك ْم ِم َن ال َي َم ِن ُي َقالُ َل ُه‪ :‬أُ َو ْي ٌس‪ ،‬لا َي َد ُع بال َي َم ِن‬ ‫َغ ْي َر أُ ٍّم َل ُه‪َ ،‬ق ْد َكا َن ِب ِه َب َيا ٌض َف َد َعا الله َت َعا َلى‪َ ،‬فأ ْذ َه َب ُه إلا َمو ِض َع ال ِّدي َنا ِر أَو‬ ‫ال ِّد ْر َه ِم‪َ ،‬ف َم ْن َلقِ َي ُه ِم ْن ُك ْم‪َ ،‬ف ْل َي ْس َت ْغفِ ْر َل ُك ْم))‪.‬‬ ‫وفي رواية َل ُه‪:‬‬ ‫عن عمر رضي الله عنه َقالَ‪ :‬إ ِّني َس ِم ْع ُت َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم‬ ‫يقول‪(( :‬إ َّن َخ ْي َر ال َّتا ِب ِعي َن َر ُجلٌ ُي َقالُ َل ُه‪ :‬أُ َو ْي ٌس‪َ ،‬ولَ ُه َوالِ َدةٌ َو َكا َن ِب ِه َب َيا ٌض‪،‬‬ ‫َف ُم ُروهُ‪َ ،‬ف ْل َي ْس َت ْغفِ ْر لَ ُك ْم))‪.‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن ‪-‬‬ ‫والأمداد جمع مدد‪ ،‬والمقصود به ما كان يأتي من الأجناد مددا لجيوش‬ ‫المسلمين‬ ‫سألهم‪ :‬أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس‬ ‫يعني‪ :‬في كل مرة يسأل‪ :‬أفيكم أويس بن عامر؟ كلما جاء مجموعة من‬ ‫هؤلاء الأمداد‪ ،‬حتى وقف عليه‪.‬‬ ‫فقال له‪ :‬أنت أويس بن عامر؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬من مراد؟ يعني‪ :‬من قبيلة‬ ‫مراد‪ ،‬ثم من َق َرن؟‪ ،‬يعني‪َ :‬ق َرن فخذ من قبيلة مراد‪ ،‬أو بطن من قبيلة‬ ‫مراد‪ ،‬يعني‪ :‬ال َق َرني المرادي‬ ‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فكان بك برص فب َرأت منه إلا موضع درهم؟ أراد أن يتأكد‬ ‫أن هذا هو المقصود‪ ،‬قال‪ :‬نعم‬ ‫قال‪ :‬لك والدة؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬سمعت رسول الله صلى الله عليه وس َّلم‬ ‫يقول‪\" :‬يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد من أهل اليمن من مراد‪ ،‬ثم‬

‫من قرن‪ ،‬كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم‪ ،‬له والدة هو بها بر لو‬ ‫أقسم على الله لأبره‪ ،‬فإن استطعت أن يستغفر لك\"‬ ‫أي با ّر‪ ،‬وهذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وس ّلَم؛ لأنه في زمانه صلى‬ ‫الله عليه وس َّلم ما كانت تأتي أمداد اليمن‪ ،‬وأويس بن عامر هذا في عداد‬ ‫التابعين‪ ،‬ولم يلقه النبي صلى الله عليه وسلَّم‪ ،‬فذكره بوصف لا يخطئه‪.‬‬ ‫‪ ‬قال‪ \" :‬لو أقسم على الله لأبره \" يعني‪ :‬لو أنه حلف أن يكون كذا‪،‬‬ ‫أو أن لا يقع كذا‪ ،‬أو قال‪ :‬أقسم عليك يا رب بكذا وكذا فإن ذلك‬ ‫يقع‪ ،‬بمعنى أن الله يبر قسمه‪.‬‬ ‫‪\" ‬فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل\" يعني‪ :‬يدعو لك‪ ،‬يطلب لك‬ ‫المغفرة من الله تعالى‪ ،‬فقال له عمر رضي الله عنه‪ :‬فاستغفر لي‪،‬‬ ‫فاستغفر له‪ ،‬فقال له عمر‪ :‬أين تريد؟ قال‪ :‬الكوفة‪ ...‬إلى آخره‪،‬‬ ‫ذكر النبي صلى الله عليه وس َّلم صفة واحدة في عمل أويس القرني‬ ‫وهي البر بأمه‪ ،‬ما ذكر عبادات‪ ،‬وأعمالا‪ ،‬وصدقات‪ ،‬وقياما‪،‬‬ ‫وصياما‪ ،‬فدل ذلك على عظم بر الوالدين‪ ،‬وأن الإنسان يبلغ به‬ ‫المراتب العالية‪.‬‬ ‫‪ ‬قال‪\" :‬لو أقسم على الله لأبره‪ ،‬فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل\"‬ ‫هذا لا يدل على أن أويس القرني أفضل من عمر رضي الله عنه‪،‬‬ ‫فعمر أفضل منه‪ ،‬ولك ّن أويسا القرني له هذه المزية‪ ،‬أن النبي‬ ‫صلى الله عليه وس َّلم ذكره بهذه الصفة‪ ،‬وقال لعمر‪\" :‬إن استطعت‬ ‫أن يستغفر لك فافعل\"‪.‬‬ ‫والقاعدة‪\" :‬أن المزية لا تقتضي الأفضلية\"‪ ،‬فأويس له مزية‪ ،‬لو‬ ‫أقسم على الله لأبره‪ ،‬لكن ليس بأفضل من أبي بكر وعمر وعثمان‬ ‫وعلي والصحابة رضوان الله عليهم‪ ،‬فالمزية لا تقتضي الأفضلية‪.‬‬

‫هل يؤخذ من هذا الحديث أن الإنسان يشرع له أن يطلب من غيره‬ ‫أن يدعو له‪ ،‬أو أن هذا خاص بأويس القرني؟‬ ‫‪.1‬من أهل العلم من أخذ من هذا الحديث مشروعية طلب الدعاء‬ ‫من الغير‪.‬‬ ‫‪.2‬ومن أهل العلم من قال‪ :‬هذا خاص بأويس‪ ،‬زكاه النبي صلى‬ ‫الله عليه وس َّلم‪ ،‬وذكر صفته‪ ،‬وو ّجه عمر رضي الله عنه بهذا‬ ‫وإلا فإن الأصل أن يدعو الإنسان لنفسه‪ ،‬وهو متعبد بهذا‪ ،‬والله يحب‬ ‫الدعاء‪ ،‬والانكسار‪ ،‬والافتقار إليه‪ ،‬وإذا طلب الإنسان من الآخرين أن‬ ‫يدعوا له يكون قد وكل إليهم ذلك‪ ،‬ويكون فيه نوع افتقار إليهم‪ ،‬والإنسان‬ ‫لا يفتقر إلى الخلق‪ ،‬وإنما يكون فقره إلى الله ‪-‬عز وجل‪ ،‬فلا يطلب منهم‬ ‫شيئا حتى الدعاء‪.‬‬ ‫ليس معنى ذلك أنه يحرم‪ ،‬لكن قالوا‪ :‬هذا هو الأفضل والأكمل‪ ،‬ألا يطلب‬ ‫الإنسان من الآخرين‪ ،‬قالوا‪ :‬وهذا فيه تزكية لهذا المطلوب منه‪.‬‬ ‫‪\" ‬أكون في غبراء الناس أح ّب إلي\"‬ ‫غبراء الناس يعني‪ :‬في أهل الحاجة‪ ،‬والضعفاء‪ ،‬والفقراء‪ ،‬والمساكين‪،‬‬ ‫فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشراف أهل الكوفة‪ ،‬فوافق عمر‬ ‫فسأله عن أويس‪ ،‬فقال‪ :‬تركته ر َّث البيت‪ ،‬قليل المتاع‪ ،‬معنى رث البيت‬ ‫يعني‪ :‬رث متاع البيت‪ ،‬أي أن أمتعته بالية خلِ َقة‪.‬‬ ‫‪ ‬قال‪ :‬قليل المتاع وهذا يدل على زهده‪ ،‬وإعراضه عن مظاهر الدنيا‪.‬‬ ‫قال عمر رضي الله عنه‪ :‬سمعت رسول الله صلى الله عليه وس ّلَم يقول‪\" :‬‬ ‫يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد من أهل اليمن‪ ،‬من مراد‪ ،‬ثم من‬ ‫قرن‪\".....‬‬

‫‪ ‬فأتى أويسا‪ ،‬هذا الرجل الشريف جاء إلى أويس فقال‪ :‬استغفر لي‪.‬‬ ‫قال أويس \"أنت أحدث عهدا بسفر صالح\"‬ ‫يعني‪ :‬أنت أتيت من الحج‬ ‫وهذا يدل على أن من سافر سفرا صالحا أنه حري بأن يستجاب له‪،‬‬ ‫فاستغفر لي‪ ،‬أويس يقول للرجل‪.‬‬ ‫‪ ‬فقال الرجل‪ :‬استغفر لي‪.‬‬ ‫الحاصل أن أويسا شك في أن الرجل عنده خبر من أمره‪ ،‬فقال له‪ :‬لقيت‬ ‫عمر؟ قال‪ :‬نعم‬ ‫فاستغف َر له‪ ،‬ففطن له الناس‪ ،‬انتشر الخبر أن هذا الرجل قال فيه النبي‬ ‫صلى الله عليه وسلَّم هذا الكلام‪ ،‬فانطلق على وجهه‪.‬‬ ‫معنى انطلق على وجهه‪ ،‬يعني‪ :‬خرج بحيث لا يعرفه أحد‪ ،‬ولا يراه أحد‪.‬‬ ‫وفي رواية لمسلم أيضا عن أسير بن جابر أن أهل الكوفة وفدوا على‬ ‫عمر رضي الله عنه وفيهم رجل ممن كان يسخر بأويس‪ ،‬يعني كان يسخر‬ ‫منه لوضاعته‪ ،‬وفقره‪ ،‬ورثاثة ثيابه‪ ،‬ومتاعه‪.‬‬ ‫فقال عمر رضي الله عنه‪ :‬هل هاهنا أحد من القرنيين؟ فجاء ذلك الرجل‪،‬‬ ‫فقال عمر رضي الله عنه‪ \" :‬إن رسول الله صلى الله عليه وس َّلم قد قال‪:‬‬ ‫\"إن رجلا يأتيكم من اليمن‪ ،‬يقال له أويس لا يدع باليمن غير أم له قد‬ ‫كان به بياض أي برص‪ ،‬فدعا الله تعالى‪ ،‬فأذهبه إلا موضع الدينار أو‬ ‫الدرهم‪ ،‬فمن لقيه منكم فليستغفر له\"‬ ‫وفي رواية له عن عمر رضي الله عنه قال‪ :‬إني سمعت رسول الله صلى‬ ‫الله عليه وس َلّم يقول‪ \":‬إن خير التابعين رجل يقال له أويس‪.\"..‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook