بدلا من س ّنا ،يعني :الأقدم إسلاما هو الأولى بالإمامة إذا تساوى في القراءة وفي العلم بالسنة وقدم الهجرةِ ،سلما أي إسلاما. وفي رواية\" :يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة ،فإن كانوا في القراءة سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة ،فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم\" هذا عموما يدل على تقديم أهل الفضل ،تقديم أهل القرآن ،تقديم أهل العلم ،تقديم كبار السن على غيرهم ،وهذه من الآداب التي ينبغي على المسلمين أن يراعوها ،وهي مما تدعو إليه الفطر ،وقد جاءت هذه الشريعة بما يدل على مقتضى الفطرة والعقل الصحيح.
المقدمة باب فضل ضعفة المسلمين والفقراء الحديث التاسع والأربعون بعد الثلاثمائة عن أَبي مسعو ٍد عقب َة بن عمرو البدري الأنصاري رضي الله عنه َقالََ :كا َن َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم َي ْم َس ُح َم َنا ِك َب َنا في ال َّصلا ِة ،و َي ُقولُ: ((ا ْس َت ُووا َولاَ َت ْخ َتلِ ُفواَ ،ف َت ْخ َتلِ َف ُقلُو ُب ُك ْم ،لِ َيلِني ِم ْن ُك ْم أُولُوا الأ ْحلاَ ِم َوال ُّن َهى، ُث َّم ا ّلَ ِذي َن َيلُو َن ُه ْمُ ،ث َّم ا ّلَ ِذي َن َيلُو َن ُه ْم)) (رواه مسلم) شرح الحديث )) َوال ُّن َهى)) :ال ُع ُقولُ (( َوأُولُوا الأ ْحلام)ُ :هم ال َبالِ ُغو َن ،و َقيلَ :أ ْهلُ ال ِح ْل ِم َوال َف ْض ِل \"يمسح مناكبهم\" لأن تسوية الصفوف مطلوبة ،بل إن من أهل العلم من قال :إنها واجبة لا تصح الصلاة إلا بها وكان النبي يسوي الصفوف كما يسوي القِداح ،ويمسح مناكبهم بيده، فكان يفعل ذلك بهذه الطريقة ،وكان أيضا يقول لهم : \"استووا ولا تختلفوا ،فتختلف قلوبكم\" وهذا يدل على أن الفاء هنا للتعليل ،وهو يدل على أن الاختلاف في الظاهر يؤثر في الاختلاف في الباطن والقلوب
كما قال النبي \" :ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ،ألا وهي القلب\" فالقلب إذا حصل فيه الصلاح انقادت له سائر الجوارح ،وكذلك أيضا هذا القلب والباطن يتأثر بما يحصل للإنسان في الظاهر \"ل َيلِ ِني منكم أولو الأحلام والنهى\" وفي قوله(( :ليلني منكم)) اللام لام الأمر ،والمعنى أنه في الصلاة ينبغي أن يتقدم أولو الأحلام والنهي. \"وأولو الأحلام\" :يعني الذين بلغوا الحلم وهم البالغون وقيل أهل الحلم والفضل \"والنهى \" :جمع نهية وهي العقل ،يعني العقلاء فالذي ينبغي أن يتقدم في الصلاة العاقلون البالغون لأن ذلك أقرب إلى فهم ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم أو ما يفعله، من الصغار ونحوهم ،فلهذا حث النبي صلى الله عليه وسلم أن يتقدم هؤلاء حتى يلوا الإمام .وفيه حث للكبار العقلاء على التقدم \"ثم الذين يلونهم ،ثم الذين يلونهم\" يعني :الذين يلون الإمام ينبغي أن يكونوا من أهل هذه الصفة ،من أجل أن الإمام إذا أخطأ في آية يردون عليه ،وإذا نابه شيء في الصلاة فإنه يمكن لواحد منهم أن يتقدم ويصلي بالناس أما إذا صلى خلف الإمام من لا يفقه ،وإذا أخطأ الإمام لا يستطيع أن يرد عليه ،فإن هذا لا يحصل به المقصود فالشاهد في هذا الحديث أن النبي أمر أن الذي يليه يكون من هؤلاء من أولو الأحلام والنهى ،ثم الذين يلونهم ،ثم الذين يلونهم ،ولذلك فإن هؤلاء
هم الذين يكونون خلف الإمام ،والصبيان يكونون في الصف الذي يليهم، والنساء يكونون خلف هؤلاء جميعا وفي الحدي ِث :تقديم الأفضل فالأفضل إلى الأمام لأنه أولى بالإكرام ،ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف ،فيكون هو أولى ،ولأنه يتفطن لتنبيه الإمام عن السهو والغلط.
الحديث الخمسون بعد الثلاثمائة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه َقالََ :قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم(( :لِ َيلِني ِم ْن ُك ْم أُولُوا الأ ْحلاَم َوال ُّن َهىُ ،ث َّم ا َلّ ِذي َن َيلُو َن ُه ْم)) َثلاثا (( َوإ َّيا ُك ْم َو َه ْي َشا ِت الأ ْس َواق)) (رواه مسلم( شرح الحديث \"هيشات الأسواق\" :المنازعة ،والخصومات واللغط ،وارتفاع الأصوات. صلا ُة الجماع ِة في المساج ِد شأ ُنها عظي ٌم ،وأَ ْج ُرها كبي ٌر ،وقد ن َّظ َم ال َّشر ُع هذه ال َّصلا َة ،ور َّتب الوقو َف َخ ْل َف الإمام ،فيؤ ُّم ال َّنا َس في ال َّصلاة أقر ُؤهم وأكث ُرهم ِعلما وفِقها ،ث َّم يكون َخ ْل َف الإما ِم ال ُح َّفا ُظ للقرآ ِن والعالِمون بأحكا ِم ال َّصلاة والبالغون ،ث َّم الأقلُّ ِعلما ،حتى َيتع َّلموا منه أولا ،ثم ُيص ِّححوا قراء َته إذا أخطأ ،و َي ُر ُّدوه إذا سها. وقول ال َّنب ِّي ص َّلى الله عليه وس َّلم\" :لِ َيلِني منكم أولو الأحلا ِم وال ُّنهى\" هذا أَ ْم ٌر بأ ْن َيقِف َخ ْلف ال َّنب ِّي ص َلّى الله عليه وس َلّم في ال َّصلا ِة أصحا ُب العقو ِل والأفها ِم ،ليكونوا أَ ْقر َب إليه ،أو أ ْن يكون َخ ْلفه البالغون ال ُعقلاء، ثم الأقلُّ س ّنا وهكذا ،ث َّم ورا َءهم ال ِّنسا ُء. \"ث َّم الذين َيلُونهم -ثلاثا\" يعني :قال ذلك ثلاثا ،ث َّم الذين َيلُونهم ،ث َّم الذين َيلُونهم؛ أيُ :ير َّتب ال َّنا ُس في ال ُّصفوف هكذا :الأعل ُم ،ث َّم الأقلُّ ِعلما ،وهذا ليس فيه َح ْج ُر ال ُّصفوف عليهم أو َح ْج ُزها لهم ،وإ َّنما فيه الح ُّث على أ ْن ُيسا ِرع أهلُ ال ِع ْلم وال َف ْهم
إلى ال َّصلاة في الجماعا ِت؛ ليكونوا َخ ْلف الإما ِم ،وهذا الأَ ْم ُر من ال َّتنظيم ال َّنبو ِّي حتى َيتع ّلَ َم ال َّنا ُس منه أحكا َم ال َّصلاة ،ث َّم َين ُقلوها لِ َمن َب ْعدهم. \"وإ َّياكم و َه ْيشا ِت الأسواق\" و َه ْيشا ُت الأسوا ِق أي :ا ْرتفا ُع الأصوا ِت ،وال َّصخ ُب واللَّ َغ ُط ،وال ُمنازعا ُت والفِت ُن التي فيها ،وهذا تحذي ٌر من ال َّنب ِّي ص َّلى الله عليه وس ّلَم أ ْن َيح ُدث ِم ْثلُ هذا في المسج ِد.
المقدمة باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل و تقديمهم على غيرهم ورفع مجلسهم وإظهار مزيتهم الحديث الحادي والخمسون بعد الثلاثمائة عن أَبي َيح َيى ،وقيل :أَبي محمد سه ِل بن أَبي َح ْثمة الأنصاري رضي الله عنه َقالَ :ان َطلَ َق َعب ُد اللهِ ب ُن س ْه ٍل َو ُم َح ِّي َصة بن َم ْس ُعود إِ َلى َخ ْي َب َرَ ،و ِه َي َيو َمئ ٍذ ُص ْل ٌحَ ،ف َت َف َّر َقاَ ،فأ َتى ُم َح ِّي َص ُة إِ َلى عب ِد اللهِ ب ِن سهل َو ُه َو َيت َش َّح ُط في َد ِم ِه َق ِتيلاَ ،ف َد َف َن ُهُ ،ث َّم َق ِد َم ال َم ِدي َن َة َفا ْن َطلَ َق َعب ُد الرحمن ب ُن سهل َو ُم َح ِّي َص ُة وح َو ِّي َص ُة ا ْب َنا َم ْس ُعو ٍد إِلَى ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلمَ ،ف َذ َه َب َعب ُد الرحمن َي َت َك َّل ُمَ ،ف َقالََ (( :ك ِّب ْر َك ِّب ْر))َ ،و ُه َو أ ْح َد ُث ال َقومَ ،ف َس َك َتَ ،ف َت َكلَّ َماَ ،ف َقالَ: ((أ َت ْحلِ ُفو َن و َت ْس َت ِح ُّقو َن َقاتِلَ ُك ْم؟ …)) وذكر تمام الحديث ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه شرح الحديث وهي يؤمئذ صلح يعني :أن المسلمين قد فتحوها ،وفُتحت خيبر صلحا وكان النبي ﷺ قد أقر أهلها عليها بشطر (بنصف) ما يخرج من أرضها. فتفرقا يعني :أنهما ذهبا من أجل أن يمتارا ،يعني :من أجل شراء الطعام ،فتفرقا ،يعني :ذهب كل واحد في ناحية ليشتري فأتى مح ّيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه
يعني :يتخبط ويضطرب ،يعني :أنه ُقتل لكن لم تخرج روحه بعد ،يتشحط في دمه قتيلا ،فدفنه ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومح ّيصة وحو ّيصة ابنا مسعود إلى النبي ﷺ ،فذهب عبد الرحمن يتكلم ،وكان هو الأصغر ،فقال النبي : \"ك ّبر ك ّبر\" وهذا هو الشاهد في هذا الحديث \"،ك ّبر ك ّبر\" ،يعني :ابدأ بالأكبر ،أي يتكلم الأكبر يعني :ينبغي أن يتقدم الأكبر س ّنا فيتكلم ،لا يتقدم الصغير على الكبير فيتحدث بين يديه ،فهذا تعليم للأدب بين يدي من هم أكبر منا س ّنا قال \" :ك ّبر ك ّبر\" ،وهو أحدث القوم ،فسكت ،فتكلما ،فقال \":أتحلفون وتستحقون قاتلكم؟\" .وذكر تمام الحديث \"تحلفون\" يعني :هذه مسألة القسامة ،وهي إذا ُوجد قتيل في محلة قوم لا يعرف من هو قاتله ،واتهمهم أولياء المقتول ،قالوا :دمه عند هؤلاء، فعندئذ يحلف أولياء المقتول خمسين يمينا -كما هو معلوم في مسألة القسامة -أن هؤلاء هم الذين قتلوه وفي الحدي ِث :استحباب تقديم أهل الفضل والس ِّن ،ولو كان الحق للصغير
الحديث الثاني والخمسون بعد الثلاثمائة عن جابر رضي الله عنه أن ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم َكا َن َي ْج َم ُع َب ْي َن ال َّر ُج َل ْي ِن ِم ْن َق ْت َلى أُ ُحد َي ْعنِي في ال َق ْب ِرُ ،ث َّم َيقُولُ(( :أ ُّي ُهما أ ْك َث ُر أخذا لل ُقرآ ِن؟)) َفإ َذا أُشي َر لَ ُه إِلَى أ َح ِد ِه َما َق َّد َم ُه في ال َّل ْح ِد رواه البخاري شرح الحديث عن جابر رضي الله عنه أن النبي كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد يعني في القبر ،يعني :القبر الواحد ،وذلك أنه لما كانت وقعة أحد قُتل سبعون من أصحاب النبي ،واشتكت الأنصار رضي الله عنهم لما أصابهم من الجهد والجرح ،يعني :هم الآن انتهوا من معركة وفيهم من الجراح ما الله به عليم ،ويحتاجون إلى حفر في أرض صخرية ،يحفرون سبعين قبرا ،فاشتكوا إلى النبي ،فأمرهم أن يوسعوا القبور ،فكان النبي يجعل في القبر الواحد الرجلين والثلاثة وأكثر من ذلك ثم يقول \" :أيهما أكثر أخذا للقرآن؟\" وهذا هو الشاهد ،من هو أكثر حفظا ،ولو كان الأصغر سنا؟ يعني :لو أن أحدا عمره خمس عشرة سنة وآخر عمره ثمانون فإن الذي يقدم إلى جهة القبلة في القبر هو الأحفظ للقرآن ،فهذا هو الشاهد ،هنا تقديم أهل الفضل ،أهل العلم ،أهل القرآن على غيرهم ،فكان يقدمهم ،حتى في هذه الأمور اليسيرة يقدم هؤلاء ،بمعنى أنهم يقدمون في الحياة وبعد الممات يقول :فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد
وفي الحدي ِث :تقديم الأكثر حفظا للقرآن على ما دونه في القبر قال الله تعالىَ { :ي ْر َف ِع ال َّلهُ ا َّل ِذي َن آ َم ُنوا ِمن ُك ْم َوا َلّ ِذي َن أُو ُتوا ا ْل ِع ْل َم َد َر َجا ٍت} [المجادلة]11 : الحديث الثالث والخمسون بعد الثلاثمائة عن ابن عمر رضي الله عنهما :أن النبي صلى الله عليه وسلم َقالَ: ((أ َرانِي فِي ال َم َنا ِم أ َت َس َّو ُك بِ ِس َوا ٍكَ ،ف َجاء ِني َر ُجلا ِن ،أ َح ُد ُهما أكبر ِم َن الآخ ِرَ ،ف َنا َو ْل ُت ال ِّس َوا َك الأ ْص َغ َرَ ،فقِيلَ لِيَ :ك ِّب ْرَ ،ف َد َف ْعت ُه إِ َلى الأ ْك َب ِر ِم ْن ُه َما)) رواه مسلم مسندا ،ورواه البخاري تعليقا شرح الحديث هذا الحديث بمعنى الحديث السابق ،وهو أن النبي قال لمن أراد أن يتكلم ومعه من هو أكبر منه س ّنا \" :ك ِّبر ك ِّبر\" فعلمه الأدب في الكلام إذا كان ذلك بحضرة من هو أولى منه به ممن يكبره في السن وهذا الحديث أيضا فيه تعليم للنبي فيما يتصل بهذا المعنى ،ذاك في الكلام :الذي يقدم هو الأكبر ،وهنا أيضا في العطاء إذا أردت أن تعطي أحدا شيئا يشربه أو شيئا يأكله أو نحو ذلك فمن الذي يقدم؟ الأصل أن يقدم الكبير إذا كان العالم أو الوالد أو كان ذلك الكبير هو الأكبر س ّنا في المجلس ،هو الأول ،هو الذي ُيع َطي الماء ،أو نحو ذلك ،لا ُيبدأ باليمين
وهذا يخطئ فيه كثير من الناس ،يظن أن البدء باليمين مطلقا ،وهذا غير صحيح ،يبدأ بالأكبر ،ثم ِمن هذا الأكبر يدار عن اليمين ،عن يمينه ،يعني الذي يأخذه هذا الكبير يعطيه لمن يدفعه لمن عن يمينه ،ويدور هكذا ،لا أنه يبدأ بيمين المجلس. فالنبي قال \":أراني في المنام أتسوك بسواك ،فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر ،فناولت السواك الأصغر ،فقيل لي :ك ّبر\" وهنا لم يذكر أن الأصغر كان عن يمينه أو عن شماله ،فدل على أنه ُيع َطى للأكبر سواء كان على اليمين أو على الشمال لكن لو أنه ُدفع للنبي هذا السواك فإن النبي يعطيه من عن يمينه ،سواء كان هو الأصغر أو الأكبر كما يدل عليه ما وقع لابن عباس -رضي الله تعالى عنهما -حينما كان أبو بكر عن يسار النبي وابن عباس عن يمينه ،فالنبي استأذن عبد الله بن عباس -لأن الحق له لكونه عن يمين النبي أن يعطي الشراب لأبي بكر رضي الله عنه ، فقال :لا أوثر بنصيبي منك أحدا ،أراد أن يحصل على البركة من الشرب بعد النبي صلى الله عليه وسلم ،فاعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم الشراب في يده فهنا يقول\" :فناولت السواك الأصغر ،فقيل لي :ك ّبر ،فدفعته إلى الأكبر منهما\" وفي الحدي ِث :تقديم ذي السن في السواك ،ويلتحق به الطعام والشراب والمشي والكلام وفيه :جواز استعمال سواك الغير بإذنه
الحديث الرابع والخمسون بعد الثلاثمائة عن أَبي موسى رضي الله عنه َقالََ :قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إ َّن ِم ْن إ ْجلا ِل اللهِ َت َعا َلى :إ ْك َرا َم ِذي ال َّش ْي َب ِة ال ُم ْسلِ ِمَ ،و َحا ِم ِل القُرآ ِن َغ ْي ِر ال َغالِي فِي ِهَ ،وال َجافِي َع ْن ُهَ ،وإ ْك َرا َم ِذي ال ُّس ْل َطا ِن ال ُم ْق ِسط)) حديث حسن رواه أَ ُبو داود (صحيح أبو داود) شرح الحديث خ َّص اللهُ ع َّز وجلَّ بعضا ِمن ِعبا ِده ببع ِض ال ِّصفا ِت ال َحميد ِة ،و َج َعل لهم ُحقوقا َينبغي أ ْن ُترا َعى معهم وفي هذا الحدي ِث يقول ال َّنب ُّي ص َّلى اللهُ عليه وسلَّم: \"إ َّن ِم ْن إجلا ِل الل ِه\" ،أي :إ َّن ِمن َت ْبجي ِل الل ِه وتعظي ِمه وأدا ِء َح ِّقه \"إكرا َم\" ،أي :تعظي َم وتوقي َر \"ذي ال َّش ْي َب ِة المسل ِم\" ،أي :ال َّشي ِخ ال َكبي ِر في ال ِّس ِّن ،الذي قد شاب في الإسلام \"وحا ِم ِل القرآ ِن غي ِر الغالي فيه والجافي عنه\" أي :الحافِ ِظ لكتا ِب الل ِه ع َّز وجلَّ ،العام ِل بأحكا ِمه دو َن ُمغالا ٍة وتكلُّ ٍف فيه، والجافي عنه وهو الذي يترك تلاوته ،أو يترك العمل به وأشار بهذا إلى أ َّن ال َق ْص َد هو المأمو ُر به؛ فالغل ُّو ِمن ِصفا ِت ال َّنصارى، والجفا ُء ِمن ِصفا ِت اليهو ِد
\"وإكرا َم ذي ال ُّسلطا ِن ال ُم ْق ِس ِط\" ،أي :وكذلك إ َّن ِمن تعظي ِم اللهِ و َتوقي ِره إكرا َم الإما ِم العاد ِل الَّذي يقو ُم بين ال َّنا ِس بال َح ِّق وال َع ْد ِل. فهؤلاء الثلاثة الذين ذكرهم النبي ،وهكذا من كان بمنزلتهم فإنهم يقدمون على غيرهم ،والمقصود أن هذه الشريعة جاءت بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات ،تسمو بالناس إلى مدارج الكمال في تصرفاتهم، وأقوالهم ،وتعطي لأهل الحقوق حقوقهم. فلا ُتض َّيع منزلة الإنسان ،لا ُيه َدر حقه ،ولا يقدم عليه من هو أقل منه، فالكبير له حق محفوظ ،والوالد له حق محفوظ ،والعالم له حق ،وهكذا كل بحسبه ،فلا يستوي الناس الصغير مع الكبير ،والعالم مع الجاهل ،وما شابه ذلك ،فهذه أمور إذا عرفها المسلم انبعث من ذلك ونشأ عنه الخلق اللائق في التعامل مع الناس ،يعرف للناس حقهم.
الحديث الخامس والخمسون بعد الثلاثمائة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه َقالََ :قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم(( :لَ ْي َس ِم َّنا َم ْن َل ْم َي ْر َح ْم َص ِغير َناَ ،و َي ْع ِر ْف َش َر َف َكبي ِر َنا)) حديث صحيح رواه أَ ُبو داود والترمذي َوقالَ الترمذيَ ( :ح ِدي ٌث َح َس ٌن َصحي ٌح) وفي رواية أبي داودَ (( :ح َّق َكبي ِر َنا)) شرح الحديث \"ليس منا\" أي :ليس على هدينا وطريقتنا من لم يرحم صغيرنا ،فالصغار ضعفاء يحتاجون إلى رعاية وعطف و ُحنو ،وقد ُجبلت النفوس على ذلك، حتى البهائم فإن من شأنها أن ترحم صغارها فإذا كان القلب قاسيا صلدا لا يرحم الصغير فإن ذلك لا يدل على خير، والنبي ﷺ حينما ق ّبل صب ّيا فسأله أعرابي قال :أتق ِّبلون صبيانكم؟ ،والله إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم ،فقال النبي \" :أ َوأملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟\" فالمسح على رأس الصغير له أثر كبير في نفسه ،الكلمة الحانية الطيبة ،الشفقة ،الحنان ،إشعاره بقيمته ونحو ذلك كل هذا يؤثر فيه قال\" :ويعرف شرف كبيرنا\" ،وفي الرواية الأخرى\" حق كبيرنا\" الكبير له حق بالتوقير والاحترام والإجلال والتقديم على غيره من الناس؛ لشيبته في الإسلام ،وتقدم سنه ،وضعفه وما أشبه ذلك ،فإذا كان الإنسان
لا يراعي للكبير حقه فإن ذلك يدل على تربية ضعيفة هشة سيئة ،في الحدي ِث :الوعيد لمن لا يرحم الصغير ،ولا ُيجلّ الكبير ،وذوي القدر. الحديث السادس والخمسون بعد الثلاثمائة عن ميمون بن أَبي َشبيب رحمه الله :أ َّن عائشة َرضي الله عنها َم َّر ِب َها َسا ِئلٌَ ،فأ ْع َط ْت ُه ِك ْس َرةَ ،و َم َّر بِ َها َر ُجلٌ َعلَي ِه ِث َيا ٌب َو َه ْي َئ ٌةَ ،فأ ْق َع َدت ُهَ ،فأ َكلَ، فقِيلَ َل َها في ذلِ َك؟ ف َقال ْتَ :قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أ ْن ِزلُوا ال َّنا َس َم َنا ِز َل ُه ْم)) رواه أبو داود .لكن قال :ميمون لم يدرك عائشة رضي الله عنها وأخرجه مسلم في مقدمة صحيحه معلقا بدون اسناد وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة)368 /4( ، وفي تحقيق رياض الصالحين شرح الحديث فأعطته كسرة يعني :قطعة من الخبز ومر بها رجل عليه ثياب وهيئة ،يعني :له صورة حسنة من اللباس تدل على أن هذا الإنسان ليس بإنسان من الضعفاء والفقراء ،وإنما له شأن، فأقعدته فأكل فقيل لها في ذلك ،يعني :لماذا هذا أعطيته كسرة وذهب ،وهذا فعلت له أكثر من ذلك؟ ،فسئلت عن ذلك، فقالت :قال رسول الله \" :أنزلوا الناس منازلهم\"
والحديث فيه انقطاع ،ومعناه صحيح ،أ ّنا أُمرنا أن ننزل الناس منازلهم، وأن نعطي كل ذي حق حقه ،فالوالد له حق ،والكبير له حق ،والأمير له حق ،والمقدم في الناس له حق ،وشيخ القبيلة له حق ،ومدير المدرسة له حق ،والمعلم له حق. وفي الحدي ِث :الح ّض على ُم َرا َعاة مقادير الناس ،ومراتبهم ،ومناصبهم وتفضيل بعضهم على بعض ،ويعطي كل ذي حق حقه. وهذا الحديث :مما أ َّدب به النبي صلى الله عليه وسلم أمته من التعظيم والإكرام لذوي القدر
الحديث السابع والخمسون بعد الثلاثمائة عن ابن عباس رضي الله عنهماَ ،قالََ :ق ِد َم ُع َي ْي َن ُة ب ُن ِح ْصنَ ،ف َن َزلَ َع َلى ا ْب ِن أ ِخي ِه ال ُح ِّر ب ِن َقي ٍسَ ،و َكا َن ِم َن ال َّن َف ِر ا َّل ِذي َن ُي ْدنِي ِه ْم ُعم ُر رضي الله عنه َو َكا َن ال ُق َّرا ُء أ ْص َحاب َم ْجلِس ُع َم َر َو ُمشا َو َرتِ ِهُ ،ك ُهولا كاَ ُنوا أَ ْو ُش َّباناَ ،ف َقالَ ُع َي ْي َن ُة لا ْب ِن أخي ِهَ :يا ا ْب َن أ ِخيَ ،ل َك َو ْج ٌه ِع ْن َد َه َذا الأ ِمي ِرَ ،فا ْس َتأ ِذ ْن لِي َع َلي ِه ،فا ْس َتأ َذن لهَ ،فإ ِذ َن َل ُه ُع َم ُر رضي الله عنه َف َل َّما َد َخلَ َقالَِ :هي َيا اب َن ال َخ َّطا ِبَ ،فوالل ِه َما ُت ْع ِطي َنا ا ْل َج ْزلََ ،ولا َت ْح ُك ُم فِي َنا بال َع ْد ِلَ ،ف َغ ِض َب ُع َم ُر رضي الله عنه َح َّتى َه َّم أ ْن ُيوقِ َع ِب ِهَ ،ف َقالَ َل ُه ال ُح ُّرَ :يا أمي َر ال ُم ْؤ ِمني َن ،إ َّن الله َت َعالَى َقالَ لِ َنب ِّي ِه صلى الله عليه وسلمُ { :خ ِذ ا ْل َع ْف َو َو ْأ ُم ْر بِا ْل ُع ْر ِف َوأَ ْع ِر ْض َع ِن ا ْل َجا ِهلِي َن} [الأعرافَ .]199 :وإ َّن َه َذا ِم َن ال َجا ِهلِي َن .والل ِه َما َجا َو َزهاَ ُع َم ُر ِحي َن َتلاَ َها عليه ،و َكا َن َو َّقافا ِع ْن َد ِك َتا ِب الل ِه َت َعالَى رواه البخاري شرح الحديث عيينة بن حصن رضي الله عنه أسلم بعد فتح مكة ،وقيل :أسلم قبل الفتح، وشهد غزوة الطائف وحنين مع النبي ،ثم بعد ذلك ارتد عن الإسلام، وكان ممن قاتلهم الصحابة رضوان الله عليهم ،وكان عيينة يقاتل مع طليحة الأسدي ،ثم أسر وجيء به إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، ثم تاب ورجع إلى الإسلام فأطلقه فالحاصل أن عيينة بن حصن نزل على ابن أخيه الحر بن قيس ،والحر بن قيس رضي الله عنه من علماء الصحابة وفضلائهم ،قدم على النبي في وفد قومه لما رجع النبي من غزوة تبوك ،ويدل على منزلته ما جاء في هذا الحديث قال :وكان من النفر الذين يدنيهم عمر
والنفر من الثلاثة إلى السبعة ،وبعضهم يقول :من الثلاثة إلى العشرة ،ولا يزيدون على العشرة ،فمن بين ذلك المجتمع الطاهر في وقت عمر رضي الله عنه ،يكون هذا من هؤلاء الذين لا يتجاوزون سبعة أشخاص على أكثر تقدير ،فهؤلاء هم أهل مجلس عمر رضي الله عنه ،فما منزلة الحر بن قيس في ذلك المجتمع؟ هو من الصفوة القليلة من أولئك الرجال وكان ال ُق ّراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا والمقصود بالقراء إذا قيل القراء :فهم قراء القرآن ،وكان قراء القرآن في ذلك الوقت هم العلماء؛ لأنهم كما سبق لا يتجاوزون خمس آيات حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل فكان هؤلاء القراء هم أهل الفقه والعلم والفهم ،وكانوا أهل مجلس عمر رضي الله عنه ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا ،وهذا هو الشاهد أن التقديم يكون لأهل الفضل والعلم والفهم والفقه والقرآن. فعمر رضي الله عنه قدم الحر بن قيس مع أنه ليس بكبير في السن ،يوجد من هو أكبر منه من أصحاب النبي ،ومع ذلك كان عمر رضي الله عنه يقدمه ،ويدخله في مجلسه الخاص الذي يستشير أهله ويظهرهم على ما لا يظهر غيرهم عليه فقال عيينة لابن أخيه :يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير يعني :لك منزلة ،فاستأ ِذ ْن لي عليه ،فاستأذن له ،فأذن له عمر رضي الله عنه ،والحر بن قيس عندئذ لم يكن يعلم ماذا سيقول عمه فلما دخل قالِ :هي يا ابن الخطاب وهي كلمة تقال للتهديدِ ،هي يا ابن الخطاب يعني :لم يتأدب ولم يقل :يا أمير المؤمنين ،وإنما هي يا ابن الخطاب
فوالله ما تعطينا ال َج ْزل ،يعني :العطاء الكثير ولا تحكم فينا بالعدل ،وهذا لا شك أنه افتراء على عمر رضي الله عنه ، فإذا كان عمر لا يحكم بالعدل فمن الذي يحكم بالعدل بعد عمر رضي الله عنه ؟! فغضب عمر رضي الله عنه حتى هم أن يوقع به يعني :أن يعاقبه على ما قال ،فقال له الحر :يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه ُ { :خ ِذ ا ْل َع ْف َو َو ْأ ُم ْر ِبا ْل ُع ْر ِف َوأَ ْع ِر ْض َع ِن ا ْل َجا ِهلِي َن} [الأعراف]199:وهذه من أجمع الآيات في مكارم الأخلاق ،بل إن بعض أهل العلم قال :هي أجمع آية في مكارم الأخلاق. ُخ ِذ ا ْل َع ْف َو يعني :من أخلاق الناس،ولا تطالبهم بأمور تشق عليهم فالإنسان لا يطالب الناس بأمور تشق عليهم ،ويحصل لهم كلفة بسببها وأمر بالعرف ،والعرف يشمل كل ما يحبه الله تعالى ويرضاه ،كل ما تستحسنه العقول السليمة فهو داخل في العرف ،فيأمر بمكارم الأخلاق ومحاسنها ،ويأمر بالقول الطيب وأعرض عن الجاهلين ،فلا يقف مع الجاهل ،ولا يكون قِرنا له ويستوي معه في جهالاته وسفهه ،فينزل إلى مرتبته ،وإنما يعرض ،وكأنه لم يسمع ،قال :وإن هذا من الجاهلين ،والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه ،ما جاوزها يعني :وقف عندها ،لم يمض في غضبه ،ولم يوقع به عقوبة ،قال :وكان و ّقافا عند كتاب الله تعالى وفي الحدي ِث :تقديم أولي الفضل على من عداهم ،وإن كانوا دونهم في السن والنسب .وفيه :أنه ينبغي لولي الأمر مجالسة القراء ،والفقهاء، ليذكروه إذا نسي ،ويعينوه إذا ذكر .وفيه :الحلم عن الجهال والصبر على أذاهم.
الحديث الثامن والخمسون بعد الثلاثمائة عن أَبي سعيد َس ُمرة ب ِن ُجندب رضي الله عنه َقالَ :لقد كنت َعلَى َع ْه ِد َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم ُغلاماَ ،ف ُك ْن ُت أ ْح َف ُظ َع ْن ُهَ ،ف َما َي ْم َن ُعنِي ِم َن ال َق ْو ِل إلا أ َّن ها ُه َنا ِر َجالا ُه ْم أ َس ُّن ِم ِّني ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه شرح الحديث سمرة رضي الله عنه هو من فزارة ،قدمت به أمه إلى المدينة فتزوجها رجل من الأنصار ،والنبي قبل مشاركته في غزوة أحد ،وقد بلغ الخامسة عشرة من عمره ،فهو صغير من صغار الصحابة رضوان الله عليهم وبقي بعد النبي زمانا طويلا حتى قيل :إنه توفي سنة تسع وخمسين، وقيل :إنه عاش إلى سنة ستين ،مات بعد أبي هريرة رضي الله عنه يقول :لقد كنت على عهد رسول الله غلاما فكنت أحفظ عنه ،هو حفظ نحوا من مائة حديث عن النبي قال :فما يمنعني من القول ،يعني :من الرواية عن النبي إلا أن ههنا رجالا هم أسن مني وهذا الشاهد :التأدب مع الكبار ،فلا يتقدم بين أيديهم من هو دونهم إذا كانوا أولى منه بالعلم والحفظ والرواية
الحديث التاسع والخمسون بعد الثلاثمائة عن أنس رضي الله عنه َقالََ :قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم: (( َما أ ْك َر َم َشاب َش ْيخا لِ ِس ِّن ِه إلا َق َّي َض الله لَ ُه َم ْن ُي ْك ِر ُم ُه ِع ْن َد ِس ِّنه)) رواه الترمذيَ ،وقالَ(( :حديث غريب)) ضعيف تحقيق رياض الصالحين (الشيخ الألباني) ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة ()474/1 شرح الحديث إلا ق ّيض الله :يعني :هيأ وقدر له من يكرمه عند سنه يعني إذا تقدم به العمر فيه :أن الجزاء من جنس العمل. وفيه :إيماء إلى الوعد بطول عمر ال ُمك ِرم حتى يبلغ ذلك السن وهذا الحديث لا يصح عن النبي ،وفي الأحاديث الصحيحة كفاية و ُغنية عن الأحاديث الضعيفة.
المقدمة باب زيارة اهل الخير ومجالستهم وصحبتهم ومحبتهم ،وطلب زيارتهم والدعاء منهم وزيارة المواضع الفاضلة الحديث الستون بعد الثلاثمائة عن أنس رضي الله عنه َقالََ :قالَ أَ ُبو بكر لِ ُع َم َر رضي الله عنهما َب ْع َد َو َفا ِة رسو ِل الله صلى الله عليه وسلم :ا ْن َطلِ ْق ِب َنا إِلَى أُ ِّم أ ْي َم َن رضي الله عنها َن ُزو ُر َها َك َما َكا َن َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم َي ُزو ُر َهاَ ،ف َل َّما ا ْن َت َه َيا إِ َل ْي َهاَ ،ب َك ْتَ ،ف َقالا َل َهاَ :ما ُي ْب ِكي ِك؟ أ َما َت ْع َل ِمي َن أ َّن َما ِع ْن َد اللهِ َخ ْي ٌر ل َر ُسو ِل الله صلى الله عليه وسلم ؟ َف َقالَ ْت :إني لاَ أ ْب ِكي إني لا أَ ْعلَم أ َّن َما ِع ْن َد الله َت َعا َلى َخ ْي ٌر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولَ ِك ْن أبكي أ َّن ال َو ْح َي ق ِد ا ْن َق َط َع ِم َن ال َّسما ِءَ ،ف َه َّي َج ْت ُه َما َعلَى ال ُب َكا ِءَ ،ف َج َعلا َي ْب ِك َيا ِن َم َع َها رواه مسلم شرح الحديث أم أيمن -رضي الله تعالى عنها -اسمها :بركة ،وهي مولاة النبي وحاضنته ،قيل :كانت مملوكة لجده عبد المطلب ،ثم وهبها جده لابنه عبد الله والد النبي ،وبعضهم يقول :كانت مملوكة لعبد الله والد النبي فصارت إلى النبي بالإرث ،فأعتقها النبي ،وأصلها من الحبشة، وقد توفيت بعد النبي بخمسة أشهر ،وكان لها زوج يقال له :عبيد،
وأيمن هذا ابن عبيد ،ثم بعد ذلك زوجها النبي مولاه زيد بن حارثة، فأنجبت له أسامة بن زيد قال أبو بكر رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه :انطلق بنا إلى أم أيمن - رضي الله تعالى عنها -نزورها كما كان رسول الله يزورها. أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ،زارا امرأة كان النبي صلى الله عليه وسلم يزورها .فزاراها من أجل زيارة النبي صلى الله عليه وسلم إياها. هذا أولا يدل على غاية التواضع ،وهو أيضا من حسن العهد ،فإن حسن العهد من الإيمان ،فهذه امرأة قد حضنت النبي ،فحقها الإكرام ،وقد كان النبي يكرمها ويزورها ،فمعرفة الفضل لأهل الفضل مطلوبة وإن لم تكن لهم أنساب ،وإن لم تكن لهم منزلة اجتماعية يقول :فلما انتهينا إليها بكت ،فقالا لها :ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله ؟. فقالت :ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله . تقول :أنا أعرف أن النبي انتقل إلى ما هو أفضل ،إلى الرفيق الأعلى، إلى النعيم ،وفارق هذه الدار التي هي دار الأحزان ،والهموم ،والآلام. تقول :أنا أعرف هذا ،ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء .يعني :حركت بواعث البكاء في نفسيهما ،فجعلا يبكيان معها
فهي تبكي على انقطاع الوحي ،ولا شك أن تردد الوحي -مجيء الملك- إلى النبي ،ونزول القرآن في الحوادث ،كل هذا لا شك أنه من أسباب الخير والبركة ،والتثبيت والمزيد من العلم ،فكل ذلك قد انقطع ،فهي تبكي لهذا وفي الحدي ِث :زيارة الصالح لمن هو دونه ،وزيارة الإنسان لمن كان صديقه يزوره .وفيه :البكاء حزنا على فراق الصالحين. الحديث الحادي والستون بعد الثلاثمائة عن أَبي هريرة رضي الله عنه عن ال َّنب ِّي صلى الله عليه وسلم: ((أ َّن َر ُجلا َزا َر أَخا َل ُه في َقر َية أُ ْخ َرىَ ،فأ ْر َص َد الله َت َعالَى َع َلى َم ْد َر َجتِ ِه َم َلكاَ ،ف َل َّما أ َتى َع َلي ِهَ ،قالَ :أ ْي َن ُتري ُد؟ َقالَ :أُري ُد أخا لي في ه ِذ ِه ال َقر َي ِة. َقالََ :هلْ لَ َك َعلَي ِه ِم ْن ِن ْع َمة َت ُر ُّب َها َع َلي ِه؟ َقالَ :لاَ ،غ ْي َر أ ِّني أ ْح َب ْب ُت ُه في الله َت َعالَىَ ،قالَ :فإ ِّني َر ُسول الله إ َل ْي َك َبأ َّن الله َق ْد أَ َح َّب َك َك َما أ ْح َب ْب َت ُه فِي ِه)) رواه مسلم شرح الحديث \" أن رجلا زار أخا له في قرية\" أي زار أخا له في الله ،في قرية أخرى. \" فأرصد الله تعالى\" يعني :أن الله جعل على طريقه ملكا ينتظره من أجل أن يقول له ما قال. \" على َم ْدرجته\" يعني على طريقه.
\" فلما أتى عليه\" وهذا الملك :الذي يظهر -والله أعلم -أن الله جعله على صورة رجل ،كما في حديث الثلاثة الأقرع والأعمى والأبرص، أرسل الله إليهم ملكا في صورة رجل ،ومجيء الملك إلى الإنسان بصورة رجل أو بالطريقة التي أرادها الله لا يعني ذلك أنه يكون نب ّيا. فالمقصود :أن الله أرصد على مدرجته ملكا فلما أتى عليه قال :أين تريد؟ قال :أريد أخا لي في هذه القرية \" قال :هل لك عليه من نعمة تر ُّبها عليه؟\" هل لك عليه؟ يعني أنك قد أتيت لمصلحة دنيوية تر ُّبها عليه أي :أنك تتعاهد هذه المصلحة ،وتقصد حفظها ورعايتها وتربيتها ،أي مصلحة تحتفظ بها تنميها ،تثمرها وتسعى في صلاحها فقال\" :لا ،غير أني أحببته في الله تعالى\" زاره محبة ليس لمصلحة دنيوية يرجوها من هذه الزيارة ،وإنما محبة في الله ،فهي زيارة في الله ومحبة فيه خالصة ،ليست على شيء من حظوظ النفس أو حطام الدنيا الذي عليه علاقة أكثر الناس منذ أزمان متطاولة. \" قال :فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه\" فهذا الرجل ذهب يزور أخا له في قرية ،ولربما لم يخطر في باله هذا الثواب العظيم ،وهذه النتيجة العظمى أن الله قد أحبه ،ويأتيه ملك على طريقه ويخبره ويبشره بذلك على أمر يسير يحصل من الناس، ولربما لم يحسبوا له حسابا ،ولم يعرفوا عظمه وخطره وشأنه عند الله تعالى. فهذا الحديث يدل :على منزلة المحبة في الله تعالى
قال صلى الله عليه وسلم(( :من أحب لله ،وأبغض لله ،وأعطى لله ،ومنع لله ،فقد استكمل الإيمان)) صحيح الجامع ويدل أيضا :على أهمية التزاور الذي يكون بنية صافية خالصة ليس من أجل الدنيا وحطامها الفاني ،وإنما يزوره لله وفي الله ،محبة في الله - تبارك وتعالى ويدل أيضا :على أن من الأعمال ما يكون قليلا في نظرنا ولكن الإنسان قد يبلغ به عند الله تعالى المنازل العالية.
الحديث الثاني والستون بعد الثلاثمائة عن أبي هريرة رضي الله عنه َقالََ :قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم: (( َم ْن َعا َد َم ِريضا أَ ْو َزا َر أخا لَ ُه في اللهَ ،نا َدا ُه ُم َنا ٍدِ :بأ ْن ِط ْب َتَ ،و َطا َب َم ْم َشا َكَ ،و َت َب َّوأ َت ِم َن ال َج َّن ِة َم ْن ِزلا)) رواه الترمذيَ ،وقالَ(( :حديث حسن)) وفي بعض النسخ(( :غريب)) شرح الحديث \" ناداه منا ٍد\"هذا أمر يحصل ولو لم يسمعه الإنسان \" طبت وطاب ممشاك\" طبت في نفسك ،ما يحصل له من السعادة والأنس والراحة واللذة والانشراح ،وكذلك أيضا عمله ،فإن عمله يكون زاكيا عند الله تعالى. \" وطاب ممشاك\" هذا هو الممشى الذي يحبه الله ،لم يم ِش بطرا ولا رياء ولا سمعة ،ولا إلى معصية ،وإنما ذهب لعيادة مريض أو يزور أخا له في الله. \" وتبوأت من الجنة منزلا \" تبوأت يعني اتخذ َت منزلا من الجنة، فهذا المنزل ا ُّتخذ في الجنة بهذا العمل اليسير ،زيارة مريض أو زيارة أخ في الله ،مع أن هذا أمر تدعو إليه المروءات ومكارم الأخلاق ،ويحمل عليه ما يوجد بين الناس من التراحم والتكافل ،فالله تعالى رتب على هذه الأعمال اليسيرة التي لا كلفة فيها ،رتب عليها هذه الأجور العظيمة ،ومع ذلك قد لا نحتسب ذلك عند الله تبارك وتعالى ،وإن كنت أرجو أن يحصل للإنسان الثواب ولو لم يكن له احتساب إن كانت زيارته لهذا المعنى؛ لأنه على الأرجح ما كل عمل
يحتاج إلى احتساب ،مثل هذا العمل لا يحتاج إلى احتساب ،يكفي أن تكون محبة في الله أن يعود هذا الإنسان ،فيؤجر ،وهكذا من أحسن إلى إنسان محتاج ،أو حمل متاعه ،لا يفعل ذلك رياء ولا سمعة ولا لحظ دنيوي ،ولكن حملته الشفقة على هذا الإنسان فأحسن إليه فإنه يؤجر على ذلك. فالمقصود أن هذه الأعمال ينبغي أن نفعلها لله ،فكثير من الأعمال نعملها هي فقط تحتاج إلى نية ،نية صحيحة ،أو على الأقل أن لا يكون للإنسان فيها مقصد سيئ ،فنحن نحتاج إلى تصحيح المقاصد في هذه الأعمال، فنحن نبذل نفس الجهد لكن يحتاج منا فقط إلى نية وقصد صحيح.
الحديث الثالث والستون بعد الثلاثمائة عن أَبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم َقالَ(( :إِ َّن َما َمثلُ ال َجلِي ِس ال َّصالِ ِح َو َجلِي ِس ال ُّسو ِءَ ،ك َحا ِم ِل ال ِم ْس ِكَ ،و َنافِ ِخ ا ْل ِكي ِرَ ،ف َحا ِملُ ا ْل ِم ْس ِك :إ َّما أ ْن ُي ْح ِذ َي َكَ ،وإ َّما أ ْن َت ْب َتا َع ِم ْن ُهَ ،وإ َّما أ ْن َت ِج َد ِم ْن ُه ريحا َط ِّي َبةَ ،و َنافِ ُخ ال ِكي ِر :إ َّما أ ْن ُي ْح ِر َق ثِ َيا َب َكَ ،وإ َّما أ ْن َت ِج َد ِم ْن ُه ِريحا ُم ْنتِ َنة)) ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه شرح الحديث الأمثال يقصد بها تقريب المعاني المدركة بالعقول في صورة أمور محسوسة ،من أجل فهم المعنى المطلوب ،ومن أجل تصوره ،ومن أجل أن يقع في الذهن موقعا يؤثر فيه ،وهذا كثير في الأمثال المضروبة في القرآن والسنة. وفي هذا الحدي ِث َي ْض ِر ُب ال َّنب ُّي ص َلّى اللهُ عليه وسلَّم َم َثلا لِ ِص ْن َف ْي ِن ِم َن ال َّنا ِس ،و ُه َما الجلي ُس ال َّصالِ ُح والجلي ُس ال ُّسوء؛ فيقولُ صلَّى الله عليه وس ّلَم: \" إنما َم َثلُ ال َجلِي ِس\"وهو الذي ُي َجالِ ُس غي َرهُ ِم َن ال َّنا ِس \" ال َّصالح\"أيَ :م ْن َي ُدلُّ جلي َس ُه على الل ِه تعالى وما ُي َق ِّر ُب إليه ،من قو ٍل ،أو َع َم ٍل. \" وجليس ال ُّسوء\" وهو َم ْن ُيجالِ ُس غي َره و َي ُص ُّد عن َسبي ِل الل ِه ،وع َّما ُي َق ِّر ُب إليه ،من قو ٍل ،وعم ٍل. ف َم َثلُ الجلي ِس ال َّصال ِح \" َكحامل ال ِم ْس ِك\"
حامل المسك هو الإنسان الذي يحمل معه المسك ،والمسك معروف ،وهو طيب يستخرج في الأصل من دم الغزال و َم َثلُ الجلي ِس ال ُّسو ِء َك َم َث ِل \"نافخ الكير \" أي :كصاح ِب ال ِكي ِر ،وهو ِزق أو بوق أو ِجل ٌد غلي ٌظ ُت ْن َف ُخ به ال َّنا ُر، والنار مع هذا النفخ تتوقد ،فنفخ الكير يكون له رائحة سيئة ج ّدا، وشرار يتطاير ،ونار تتلهب قوية حامية. قال \" :فحامل المسك إما أن ُي ْح ِذيك\" يعني :يهبك ،يعطيك. \" وإما أن تبتاع منه\" بمعنى تشتري منه \" وإما أن تجد منه ريحا طيبة\" يعني :لن تعدم خيرا في الأحوال الثلاثة ،إما أن يعطيك شيئا ،وإما أن تجد منه الريح الطيبة ،فأنت رابح بمجالسته ،لن تتأذى بمجالسته وكذلك الجلي ُس ال َّصال ُح؛ إ َّما أ ْن تأخ َذ منه خيرا ،و َتنتفِ َع به ،أو أ ْن َت ِج َد من ُمجا َلستِ ِه َر ْوحا و ِطيبا. \" ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك ،تطير عليها شرارة ،وإما أن تجد منه ريحا منتنة\" أيُ :يصي ُب من ِدينِ َك ،و َيح ِرق َك ب َنا ِر ِه ،أو َت ِج ُد منه ريحا خبيثة ،ف َي ْجلِ ُب لك َك ْربا و ِضيقاَ ،و َت َش ُّم منه ما ُيؤذي َك. وفي الحدي ِث :الح ُّث على ال ُق ْر ِب ِم َن الجلي ِس ال َّصال ِح ،وال ُب ْع ِد عن جلي ِس ال ُّسو ِء.
الحديث الرابع والستون بعد الثلاثمائة عن أَبي هريرة رضي الله عنه عن ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم َقالَ: (( ُت ْن َك ُح ال َم ْرأَةُ لأَ ْر َب ٍع :لِ َمالِ َهاَ ،ولِ َح َس ِب َهاَ ،ولِ َج َمالِ َهاَ ،ولِ ِدينِ َهاَ ،فا ْظ َف ْر بِذا ِت ال ِّدي ِن َتر َب ْت َي َداك)) ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه. شرح الحديث تنكح المرأة لأربع ،..أي :أن الناس في غالب الأحوال إنما تتوجه مطالبهم وأنظارهم إلى هذه الأوصاف الأربع \" لمالها ،ولحسبها ،ولجمالها ،ولدينها ،فاظفر بذات الدين تربت يداك\" لأن الأغراض التي تنكح من أجلها المرأة في الغالب تنحصر في هذه الأربع: .1المال :من أجل أن ينتفع به الزوج. .2والحسب :يعني أن تكون من قبيلة شريفة ،من أجل أن يرتفع بها الزوج. .3والجمال :من أجل أن يتمتع بها الزوج. .4والدين :من أجل أن تعينه على دينه ،وتحفظ أمانته وترعى أولاده. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) يعني تمسك بها واحرص عليها، وحث على ذلك بقوله(( :تربت يداك)) وهذه الكلمة تقال عند العرب للحث على الشيء. \" ت َرب ْت يداك\" أي :التصق ْت ِبال ُّترا ِب ،ويقالُ على َم ِن افتق َر :ت ِرب ْت يداه ،وهذه الجمل ُة جاري ٌة على ألسن ِة العر ِب لا ُيريدو َن بها ال ُّدعا َء
على المخا َط ِب ولا وقو َع الأمر به ،والمرا ُد بها الح ُّث وال َّتحري ُض؛ َفال َّنب ُّي صلَّى الله عليه وسلَّم يح ُّث على ال َّظف ِر ،أي :الفوز بصاحب ِة ال ِّدي ِن ،فأخب َر ص َلّى الله عليه وس ّلَم ِبأوصا ِف المرأ ِة الَّتي يتع ّلَ ُق بها ال َّنا ُس في ال َّزوا ِجُ ،ث َّم نص َح ال َّنب ُّي ص َّلى الله عليه وس َّلم بِاعتبا ِر ال ِّدي ِن ،وأ ْن ُيجعلَ عليه المع َّولُ في اختيا ِر ال َّزوج ِة؛ لأ َّن اختيا َر ذا ِت ال ِّدي ِن يتر َّت ُب عليه سعادةُ ال َّدا َري ِن ال ُّدنيا والآخر ِة. وفي الحدي ِث :تفضيلُ ذا ِت ال ِّدي ِن ِم َن ال ِّنسا ِء على غي ِرها. وفيه :الح ُّث على ُمصاحب ِة أه ِل ال َّصلا ِح في كلِّ شي ٍء؛ لأ َّن َمن صاح َبهم استفا َد ِمن أخلاقِهم ويأم ُن ا ْل َمفسد َة ِمن جه ِتهم.
الحديث الخامس والستون بعد الثلاثمائة عن ابن عباس رضي الله عنهماَ ،قالََ :قالَ ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم لِجبريلَ (( :ما َي ْم َن ُع َك أ ْن َت ُزور َنا أك َثر ِم َّما َت ُزو َر َنا؟)) َف َن َزلَ ْتَ { :و َما َن َت َن َّزلُ إلا بِأَ ْم ِر َر ِّب َك لَ ُه َما َب ْي َن أَ ْي ِدي َنا َو َما َخ ْل َف َنا َو َما َب ْي َن َذلِ َك} [مريم]64 : رواه البخاري شرح الحديث الشاهد في هذا الحديث أن النبي قال لجبريل عليه السلام: \" ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزرونا؟\" فطلب زيارة أهل الفضل شيء مطلوب ،والنبي قد طلب ذلك من جبريل عليه السلام، فأنزل الله جل وعلا هذه الآيةَ { :و َما َن َت َن َّزلُ إِ َّلا بِأَ ْم ِر َر ِّب َك} المعنى :إلا بإذنه. أي أن الملائكة ليس لهم أم ٌر ،إنما أمرهم بيد اللهُ ،ينزلهم إذا شاء، ويمنعهم إذا شاء سبحانه وتعالى. { لَ ُه َما َب ْي َن أَ ْي ِدي َنا َو َما َخ ْل َف َنا َو َما َب ْي َن َذلِ َك} أي :ما أمامنا وخلفنا من الأزمنة والأمكنة ،فلا ننتقل من شيء إلى شيء إلا بأمره ومشيئته -تبارك وتعالى ،فنحن عبيده واقفون عند حدوده ،وما يأمر به ،ولا ننزل من عند أنفسنا. والمقصود أن المؤمن يحرص على أهل الفضل والخير أن يزوروه، وأن يعاشرهم وأن يخالطهم ،وأن يكون هؤلاء هم أهل صحبته ومجالسته.
وفي الحدي ِث :الحث على طلب زيارة أهل الخير لبيتك الحديث السادس والستون بعد الثلاثمائة عن أَبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم َقالَ: ((لا ُت َصا ِح ْب إلا ُم ْؤ ِمناَ ،ولاَ َيأْ ُكلْ َط َعا َم َك إلا َتقِي)) رواه أَ ُبو داود والترمذي بإسناد لا بأس ِب ِه شرح الحديث \" لا تصاحب\" أي :لا تتخذه صاحبا؛ لأن الإنسان يتأثر بمن يخالطه ولا محالة. \" ولا يأكلْ طعا َمك إلا تقي\" والمقصود بهذا ليس الطعام الذي يعطى على سبيل الصدقة أو دفع الحاجة فإن هذا مطلوب ،والنبي ﷺ يقول: \"في كل كبد رطبة أجر\" ،فالإنسان يؤجر على ما يبذله للتقي وغير التقي. ولكن المقصود هنا \"لا يأكل طعامك\" أي :لا تعاشر وتد ُع ،يعني طعام الدعوة ،لا تد ُع ،يعني :أن الإنسان إنما يدعو عادة من يقربهم ويدنيهم ،ويحب أن يكون هؤلاء هم الذين يجالسونه ،ويخالطهم على الطعام. فعليه الصلاة والسلام يقول :لا يكن هؤلاء من جلسائك وأهل خلطتك، والذين تجلس معهم على طعام واحد ،وتكون معاشرتك معهم ،لا ،كن مع الأتقياء الأنقياء من الصالحين والأخيار. فهذا عند أهل العلم طعام ال ُّصحبة ،أما طعام الضيافة فلا ُيشترط فيها ال َّتقي
لكن ال َّتزاور بين الناس وال َّتواصل يكون بين المؤمنين وبين الأخيار، ويجتنب صحبة الأشرار وال ُف َّجار ،ولا يكون طعامه إلا للأخيار والأتقياء. أ َّما ما يتعلق بال ّضيفان :فالضيف يكون تق ّيا ويكون غير تق ٍّي ،فالضيوف لهم ح ّقهم مطلقاَ \" :من كان ُيؤ ِمن بالله واليوم الآخر فل ُي ْك ِرم ضي َفه\" والنبي صلى الله عليه وس َّلم أكرم الضيو َف ،وورد عليه ال ُك َّفار وغير الك َّفار.
الحديث السابع والستون بعد الثلاثمائة عن أَبي هريرة رضي الله عنه أن ال َّنب َّي صلى الله عليه وسلم َقالَ: ((ال َّر ُجلُ َعلَى ِدي ِن َخلِيلِ ِهَ ،فل َي ْن ُظ ْر أَ َح ُد ُك ْم َم ْن ُي َخالِلُ)) رواه أَ ُبو داود والترمذي بإسناد صحيح َوقالَ الترمذيَ ( :ح ِدي ٌث َح َس ٌن). شرح الحديث كا َن النب ُّي ص ّلَى اللهُ علي ِه وسلَّم حريصا على َتعلي ِم أُ َّمتِه ما ينف ُعها في ِدي ِنها و ُدنياها ،وما يحف ُظ علي ِهم علاقا ِتهم ال َّط ِّيب َة ،وكا َن يح ُّض على التوا ُص ِل وال َّتوا ِّد والتصا ُح ِب بي َن المسلمي َن ،وهذا الحدي ُث َتوجي ٌه وإرشا ٌد َنبوي لِ َمن أرا َد سلام َة نف ِسه وبي ِته وعلاقاتِه م َع النا ِس. وفي هذا الحديث يقولُ النب ُّي صلَّى اللهُ علي ِه وس َّلم: \" الر ُجلُ على ِدي ِن َخليلِه؛ َف ْلين ُظ ْر أح ُدكم َمن ُيخالِلْ\" أي :المر ُء يشابِ ُه َصدي َقه وصا ِح َبه في ِسير ِته وعاد ِته؛ فه َو مؤ ِّث ٌر في الأخلا ِق والسلو ِك والتص ُّرفا ِت ،ونظر ِة النا ِس إلى كلٍّ ِمنهما من خلا ِل َمعرفتِهم بأحوا ِل ال َّصاح ِب؛ ولهذا أرش َد النب ُّي صلَّى اللهُ علي ِه وسلَّم إلى ُحس ِن اخ ِتيا ِر الص ِدي ِق. وهو يدل على أ َّن الخليل في الغالب ُيؤثر على خليله في دينه وأخلاقه ،فلينظر المؤم ُن أ ِخ َّلا َءه وأحبابه ،حتى يختارهم ،ويكون مع َمن ُترى منه الأعمال الطيبة والسيرة الحميدة. فالإنسان ينجذب عادة إلى من يشاكله ،ويكون مناسبا له ،فيميل إليه طبعه ،ويحصل بينهما من التوافق والإلف ما لا يقادر قدره.
فإذا صحب الإنسان أو أحب أهل الخير والفضل فإن ذلك يدل على أن نفسه تنجذب للخير؛ وهذا مؤشر يدل على أن هذا الإنسان قلبه لا يزال فيه حياة ،ويرجى لصاحبه من الخير في الدنيا والآخرة. وذلك أنه في الدنيا يتأثر بمثل هؤلاء ويعمل بعملهم ،وينكف وينزجر عن كثير من الشرور والآفات والآثام ،وذلك أن هؤلاء يعينونه على الخير ،و ُيقعدونه عن الشر ،بخلاف من صحب الأشرار فإنهم يؤ ُّزونه أ ّزا إلى المعصية والمنكر ،ويقعدونه عن طاعة الله ،ولربما عيروه إذا ترك الباطل أو فعل شيئا من طاعة الله. وفي الحدي ِث :الح ُّث على انتِقا ِء الأصحا ِب والأصدقا ِء ِمن الأتقيا ِء المؤمني َن.
الحديث الثامن والستون بعد الثلاثمائة عن أَبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم َقالَ(( :ال َم ْر ُء َم َع َم ْن أَ َح َّب)) ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه وفي رواية :قال :قيل للنبي صلى الله عليه وسلم :ال َّر ُجلُ ُيح ُّب ال َقو َم َو َل َّما َي ْل َح ْق بِ ِه ْم؟ َقالَ((:ال َم ْر ُء َم َع َم ْن أَ َح َّب)) شرح الحديث \" المرء مع من أحب\"وفي رواية :قيل للنبي :الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ قال\" :المرء مع من أحب\" يعني في الآخرة قيل للنبي :الرجل يحب القوم ،يعني من أهل الصلاح والدين والفضل ،يحبهم ،ول ّما يلحق بهم ،يعني في العمل ،هو مقصر، ومرتبته دون مرتبتهم ،فليس له من التشمير ما لهم في طاعة الله تعالى. فقال النبي صلى الله عليه وس َلّم \":المرء مع من أحب\" وهذا من أعظم الأحاديث المبشرة بسعة فضل الله تعالى ورحمته على عباده المؤمنين ،فالإنسان قد لا يعمل الأعمال الكثيرة ،ولكنه يحب أهل الفضل والدين والصلاح فيلحقه الله بهم. فهذا الحديث ورد في المحبة الإيمانية الشرعية ،التي أمر الله بها عباده ،وهي من عرى الإيمان ،بل من أوثق عرى الإيمان وعلاماته :أن يحب الرجل أخاه ،لا يحبه لدنيا ولا مال ولا جاه؛ إنما يحبه لله جل جلاله ،فالمرء مع َمن أح َّب :إن أح َّب الله ورسوله
والمؤمنين صار معهم ،وإن أح َّب خلاف ذلك صار معهم ،والله جل وعلا أوجب على عباده ح َّب الله ورسوله ،وح َّب الإيمان. يقول النب ُّي صلى الله عليه وس ّلَم\" :لا ُيؤ ِمن أح ُدكم حتى أكون أح َّب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين\" فالواجب على المؤمن أن ُيح َّب الله ورسوله ،ويحب المؤمنين، ويحب أهل التقوى ،ويتخذهم أصحابا ،ويبتعد عن صحبة الأشرار الذين يجرونه إلى ما ح َّرم الله عليه. وفي الحدي ِث :الحث على محبة الصالحين ،لأن من أح ّبهم دخل معهم الجنة ،والمعية تحصل بمجرد الاجتماع وإ ْن تفاوتت الدرجات.
الحديث التاسع والستون بعد الثلاثمائة عن أنس رضي الله عنه أ َّن أعرابيا َقالَ لرسول الله صلى الله عليه وسلمَ :م َتى ال َّسا َع ُة؟ َقالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم: (( َما أ ْع َد ْد َت لَ َها؟)) َقالَُ :ح َّب الله ورسول ِه َقالَ(( :أ ْن َت َم َع َم ْن أ ْح َب ْب َت)) ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه ،وهذا لفظ مسلم وفي رواية لهماَ :ص َدَم َقا ٍةأْ ،ع َ َدو ْلَد ِك ِّنُتيَل َأهُا ِح ِم ُّب ْنال َلكهثي َ ِور َر َُسص ْوو َلٍم ُهَ ،ولا َصلاَ ٍةَ ،ولا شرح الحديث وق ُت قيا ِم ال َّساع ِة ِم َن الغيب َّيا ِت ا َّلتي استأث َر المولى سبحانه وتعالى بها ،ولم ُيطلِ ْع عليه أَحدا؛ ولذلك فإ َّن المؤم َن لا َينشغلُ بِموع ِد قيا ِمها ،وإ َّنما يج ُب أ ْن تنصر َف ه َّم ُته إلى زا ِده إليها وما أع َّد لها ِم َن العم ِل وفي هذا الحدي ِث سألَ رجلٌ ِمن أه ِل البادي ِة ال َّنب َّي صلَّى الله عليه وسلَّم َعن وق ِت قيا ِم ال َّساع ِة فقال له ص َلّى الله عليه وسلَّم: «ما أعد ْد َت لها؟» ،وذلك لِينش ِغلَ بِالأصل ِح له وهو العملُ ال َّصال ُح لا ِبموع ِد قيا ِم ال َّساع ِة فقال ال َّرجلُُ « :ح َب الله ورسوله» فقال ص َّلى الله عليه وس َّلم« :أنت مع َمن أحب ْب َت» أي :معهم في الج َّن ِة. وفي رواية قال :ما أعدد ُت لها من كثير صلا ٍة ،ولا صو ٍم ،ولكني أح ُّب الله ورسوله، فهذا الحديث يدل على أن الإنسان مع َمن أح َّب ،ف َمن أح َّب الله
ورسوله والمؤمنين فهو معهم ،و َمن أح َّب الكفرة والظالمين فهو معهم. فينبغي للمؤمن أن ُيح َّب الله ورسوله ،ويحب أهلَ الإيمان وال َّتقوى والصلاح ،ويجتهد في ُصحبتهم وا ِّتخاذهم إخوانا ،ويحذر من صحبة الأشرار ،فمحبة المؤمنين وصحبة المؤمنين والأخيار من أسباب الحشر معهم يوم القيامة ،والفوز بالجنة وال َّسعادة ،كما أ َّن ُصحبة الأشرار والفُ َّجار من أسباب الخسارة ،وأن تكون معهم في الدنيا والآخرة. وفي الحدي ِث :دليل على أنه ليس الشأن أن يسأل الإنسان متى يموت؟ ولكن على أي حال يموت؟ هل يموت على حسن خاتمة؟ أو على خاتمة سيئة؟ ماذا أعددت لها؟ هل عملت؟ هل أنبت إلى ربك؟ هل تبت من ذنبك؟ هذا هو المهم.
الحديث السبعون بعد الثلاثمائة عن ابن مسعود رضي الله عنه َقالَ :جاء رجلٌ إلى َر ُسو ِل الله صلى الله عليه وسلم َف َقالََ :يا َر ُسول اللهَ ،ك ْي َف َتقُولُ في َر ُج ٍل أَ َح َّب َق ْوما َو َل ْم َي ْل َح ْق بِ ِه ْم؟ َف َقالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ال َم ْر ُء َم َع َم ْن أ َح َّب)) ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه. ولابن حبان(( :ولا يستطيع أن يعمل بعملهم)). شرح الحديث فينبغي للمؤمن أن ُيح َّب الله ورسوله ،ويحب أهلَ الإيمان وال َّتقوى والصلاح ،ويجتهد في ُصحبتهم وا ِّتخاذهم إخوانا وأخدانا ،ويحذر من صحبة الأشرار. فالمرء مع َمن أح َّب :إن أح َّب الله ورسوله والمؤمنين صار معهم، وإن أح َّب خلاف ذلك صار معهم ،والله جل وعلا أوجب على عباده ح َّب الله ورسوله ،وح َّب الإيمان. يقول النب ُّي صلى الله عليه واله و َّسلم: \" ثلا ٌث َمن ُك َّن فيه وجد به َّن حلاو َة الإيمان :أن يكون الله ورسوله أح َّب إليه مما سواهما ،وأن ُيح َّب المرء لا ُيح ُّبه إلا لله ،وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن ُيقذ َف في النار\" فالواجب على المؤمن أن ُيح َّب الله ورسوله ،ويحب المؤمنين، ويحب أهل التقوى ،ويتخذهم أصحابا ،ويبتعد عن صحبة الأشرار الذين يجرونه إلى ما ح َّرم الله عليه.
فالذي قد لا تعينه نفسه على كثير من الأعمال الطيبة الصالحة لا أقل من أن يحب الخير ويحب الصالحين ،ويحب مجالسهم ،ولا يحب الشر ولا الأشرار ،فالمرء مع من أحب ،الإنسان قد لا يعمل بعمل الأشرار ،ولكنه يحبهم ويؤثرهم على غيرهم ،ويحب مجالستهم، فمثل هذا يلحق بهم. المرأة المسلمة حينما تكون قدوتها الممثلات والمطربات ،وعارضات الأزياء ،وما أشبه ذلك فإنها قد تلحق بهم ،ولو لم تعمل هي بعملهم، وإذا كان قدوتها أمهات المؤمنين والصالحات من المؤمنات القانتات التقيات فإن الله يلحقها بهم ،ولو قص ّرت عن عملهم ،فهذا يحرص الإنسان عليه ،ولذلك فإن الإنسان قد يبلغ المراتب في الآخرة بشيء تعلق به بقلبه وإن ق ّصر عنه عمله.
الحديث الحادي والسبعون بعد الثلاثمائة عن أَبي هريرة رضي الله عنه عن ال َّنب ِّي صلى الله عليه وسلم َقالَ: ((ال َّنا ُس َم َعا ِد ٌن َك َم َعا ِد ِن ال َّذ َه ِب َوالفِ َّض ِةِ ،خ َيا ُر ُه ْم في ال َجا ِهلِ َّي ِة ِخ َيا ُر ُه ْم في الإ ْسلاَ ِم إِ َذا َفق ُهواَ ،والأ ْر َوا ُح ُج ُنو ٌد ُم َج َّن َد ٌةَ ،ف َما َت َعا َر َف ِم ْن َها ا ْئ َتلَ َف ،و َما َت َنا َك َر ِم ْن َها ا ْخ َت َل َف)) رواه مسلم وروى البخاري قوله(( :الأَ ْر َوا ُح …)) إلخ ِم ْن رواية عائشة رضي الله عنها. شرح الحديث \" الناس معادن\" أي :أنهم أصول للأخلاق والأعمال والأوصاف الطيبة والرديئة ،فكل معدن يخرج منه ما في أصله ،وكل إنسان يظهر منه ما فيه من خسة ،أو شرف ،فإذا انضم الدين إلى الشرف الأصلي فقد حاز الشرف. \" كمعادن الذهب والفضة\" فمعادن الذهب والفضة تتفاوت ،الذهب أنفس المعادن ،ولكنه أيضا هو يتفاوت جودة ورداءة ،فقد يكون ذهبا خالصا ،وقد يكون ذهبا مشوبا ،وكذلك الفضة فهي وإن كانت دون الذهب إلا أنها من أنفس المعادن أيضا ،وهي متفاوتة في نفسها. \" خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا\" بمعنى أن أشرافهم ومن كانوا أفضل في معادنهم في الجاهلية فإنهم كذلك يكونون إذا دخلوا في الإسلام.
\" إذا فقهوا\" بمعنى إذا علموا من الدين ،وصار لهم فقه فيه، وتهذبت نفوسهم وأرواحهم ،فإن الإسلام لا يزيد تلك المعادن الجيدة التي كانت في الجاهلية إلا زكاء ونقاء وتطهيرا وتهذيبا. \" والأرواح جنود مجندة\" أي :جموع مجتمعة ،وأنواع مختلفة ،فما تشاكل منها في الخير أو الشر ح ّن إلى شكله. أي :أن الأرواح يحصل فيها من الانجذاب أو التنافر بحسب ما جبلت عليه ،وبحسب ما تخلقت به ،فتميل إلى من يشاكلها وتنفر ممن يباينها ،وهذا أمر مشاهد في الناس ،فأهل الفضل والدين والصلاح والخير يميلون إلى من يشاكلهم ،وأهل الشر ينجذبون إلى ما يشاكلهم ،وكذلك أيضا ما ُجبلت عليه النفوس ،و ُطبعت عليه ،فإنه يحصل للنفوس من الانجذاب إلى نظائرها ما لا يخفى. \" فما تعارف منها ائتلف ،وما تناكر منها اختلف\" ما تعارف منها ائتلف بمعنى أنه ما تقارب في الأوصاف فإنه يحصل بينه التقارب والانجذاب والتآلف ،وإذا حصل التنافر في الصفات فإن ذلك يحصل معه التناكر والتباين والتباعد وهكذا. وهذا الحديث :يدل على أن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فيوجد فيهم ما فطرهم الله عليه من الأوصاف الكاملة. وفيه :الحث على الفقه في دين الله و ُصحبة الأخيار.
الحديث الثاني والسبعون بعد الثلاثمائة عن أُ َس ْير بن عمرو ،ويقال :ابن جابر َقالََ :كا َن ُع َم ُر ْب ُن ال َخ َّطا ِب رضي الله عنه إِ َذا أ َتى َع َلي ِه أ ْم َدا ُد أ ْه ِل ال َي َم ِن َسألَ ُه ْم :أفِي ُك ْم أُ َو ْي ُس ْب ُن َعا ِم ٍر؟ َح َّتى أ َتى َعلَى أُ َو ْي ٍس رضي الله عنه َف َقالَ َل ُه :أ ْن َت أُ َو ْي ُس ْب ُن َعا ِمر؟ َقالََ :ن َع ْم، َقالَِ :م ْن ُم َرا ٍد ُث َّم ِم ْن َق َر ٍن؟ َقالََ :ن َع ْمَ .قالََ :ف َكا َن ِب َك َب َر ٌصَ ،ف َب َر ْأ َت ِم ْن ُه إلا َم ْو ِض َع ِد ْر َه ٍم؟ َقالََ :ن َع ْمَ .قالَ :لَ َك َوالِد ٌة؟ َقالََ :ن َع ْمَ .قالََ :س ِم ْع ُت َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم يقولَ (( :يأتِي َعلَ ْي ُك ْم أُو ْي ُس ْب ُن َعا ِم ٍر َم َع أ ْم َدا ِد أ ْه ِل ِم ْن ُه إلا م ْو ِض َع ِد ْر َه ٍم ،لَ ُه َف َب َرأَ بِ ِه َب َر ٌص، َكا َن ِم ْن َق َر ٍن ال َي َم ِن ِم ْن ُم َرا ٍدُ ،ث َّم ا ْس َت َط ْع َت أ ْن َي ْس َت ْغفِ َر َل َك فإ ِن الله لأَ َب َّرهُ، َعلَى لَ ْو أ ْق َس َم َوالدةٌ ُه َو ِب َها َبر، َفا ْف َعل))َ ،فا ْس َت ْغفِ ْر لي َفا ْس َت ْغ َف َر َل ُهَ ،ف َقالَ لَ ُه ُع َم ُر :أ ْي َن ُتري ُد؟ َقالَ :ال ُكو َف َة، َقالَ :ألا أ ْك ُت ُب لَ َك إِلَى َعا ِملِ َها؟ َقالَ :أ ُكو ُن في َغ ْب َرا ِء ال َّنا ِس أَ َح ُّب إِ َل َّيَ ،فلَ َّما َكا َن ِم َن ال َعا ِم ال ُم ْقبِ ِل َح َّج َر ُجلٌ ِم ْن أ ْش َرافِ ِه ْمَ ،فوا َف َق ُع َم َرَ ،ف َسأ َل ُه َع ْن أُ َو ْي ٍسَ ،ف َقالََ :ت َر ْك ُت ُه َر َّث ال َب ْي ِت َقليلَ ال َم َتاعَ ،قالََ :س ِم ْع ُت َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم يقولَُ (( :يأتِي َع َل ْي ُك ْم أُ َو ْي ُس ْب ُن َعا ِم ٍر َم َع أ ْم َدا ٍد ِم ْن أ ْه ِل َمو ِض َع ِد ْر َه ٍم ،لَ ُه ال َي َم ِن ِم ْن ُم َرا ٍدُ ،ث َّم ِم ْن َق َر ٍنَ ،كا َن ِب ِه َب َر ٌص َف َب َرأَ ِم ْن ُه إلا أ ْن َي ْس َت ْغفِ َر َل َك، َوالِ َدةٌ ُه َو بِ َها َبر لَ ْو أ ْق َس َم َعلَى اللهِ لأَ َب َّرهَُ ،فإ ِن ا ْس َت ْطع َت َفا ْف َعلْ)) َفأ َتى أُ َو ْيساَ ،ف َقالَ :ا ْس َت ْغفِ ْر لِيَ .قالَ :أ ْن َت أ ْح َد ُث َع ْهدا ب َس َف ٍر َصالِ ٍح، َفا ْس َت ْغفِ ْر ليَ .قالَ :ا ْس َت ْغفِ ْر لِيَ .قالَ :أ ْن َت أ ْح َد ُث َع ْهدا ب َس َف ٍر َصالِ ٍح، َفا ْس َت ْغفِ ْر ليَ .قالََ :لقِي َت ُع َم َر؟ َقالََ :ن َع ْم ،فا ْس َت ْغ َف َر لَ ُهَ ،ف َف ِط َن لَ ُه ال َّنا ُس، َفا ْن َطلَ َق َعلَى َو ْج ِه ِه رواه مسلم. وفي رواية لمسلم أيضا: عن أُ َس ْير بن جابر رضي الله عنه أ َّن أ ْهلَ ال ُكو َف ِة َو َف ُدوا َعلَى ُع َم َر رضي
الله عنه َوفِيه ْم َر ُجلٌ ِم َّم ْن َكا َن َي ْس َخ ُر ِبأُ َو ْي ٍسَ ،ف َقالَ ُع َم ُرَ :هلْ ها ُه َنا أَ َح ٌد ِم َن ال َق َر ِن ِّيي َن؟ َف َجا َء ذلِ َك ال َّر ُجلَُ ،ف َقالَ عم ُر :إ َّن َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم َق ْد َقالَ(( :إ َّن َر ُجلا َيأ ِتي ُك ْم ِم َن ال َي َم ِن ُي َقالُ َل ُه :أُ َو ْي ٌس ،لا َي َد ُع بال َي َم ِن َغ ْي َر أُ ٍّم َل ُهَ ،ق ْد َكا َن ِب ِه َب َيا ٌض َف َد َعا الله َت َعا َلىَ ،فأ ْذ َه َب ُه إلا َمو ِض َع ال ِّدي َنا ِر أَو ال ِّد ْر َه ِمَ ،ف َم ْن َلقِ َي ُه ِم ْن ُك ْمَ ،ف ْل َي ْس َت ْغفِ ْر َل ُك ْم)). وفي رواية َل ُه: عن عمر رضي الله عنه َقالَ :إ ِّني َس ِم ْع ُت َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم يقول(( :إ َّن َخ ْي َر ال َّتا ِب ِعي َن َر ُجلٌ ُي َقالُ َل ُه :أُ َو ْي ٌسَ ،ولَ ُه َوالِ َدةٌ َو َكا َن ِب ِه َب َيا ٌض، َف ُم ُروهَُ ،ف ْل َي ْس َت ْغفِ ْر لَ ُك ْم)). شرح الحديث كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن - والأمداد جمع مدد ،والمقصود به ما كان يأتي من الأجناد مددا لجيوش المسلمين سألهم :أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس يعني :في كل مرة يسأل :أفيكم أويس بن عامر؟ كلما جاء مجموعة من هؤلاء الأمداد ،حتى وقف عليه. فقال له :أنت أويس بن عامر؟ قال :نعم ،قال :من مراد؟ يعني :من قبيلة مراد ،ثم من َق َرن؟ ،يعنيَ :ق َرن فخذ من قبيلة مراد ،أو بطن من قبيلة مراد ،يعني :ال َق َرني المرادي قال :نعم ،قال :فكان بك برص فب َرأت منه إلا موضع درهم؟ أراد أن يتأكد أن هذا هو المقصود ،قال :نعم قال :لك والدة؟ قال :نعم ،قال :سمعت رسول الله صلى الله عليه وس َّلم يقول\" :يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد من أهل اليمن من مراد ،ثم
من قرن ،كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم ،له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره ،فإن استطعت أن يستغفر لك\" أي با ّر ،وهذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وس ّلَم؛ لأنه في زمانه صلى الله عليه وس َّلم ما كانت تأتي أمداد اليمن ،وأويس بن عامر هذا في عداد التابعين ،ولم يلقه النبي صلى الله عليه وسلَّم ،فذكره بوصف لا يخطئه. قال \" :لو أقسم على الله لأبره \" يعني :لو أنه حلف أن يكون كذا، أو أن لا يقع كذا ،أو قال :أقسم عليك يا رب بكذا وكذا فإن ذلك يقع ،بمعنى أن الله يبر قسمه. \" فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل\" يعني :يدعو لك ،يطلب لك المغفرة من الله تعالى ،فقال له عمر رضي الله عنه :فاستغفر لي، فاستغفر له ،فقال له عمر :أين تريد؟ قال :الكوفة ...إلى آخره، ذكر النبي صلى الله عليه وس َّلم صفة واحدة في عمل أويس القرني وهي البر بأمه ،ما ذكر عبادات ،وأعمالا ،وصدقات ،وقياما، وصياما ،فدل ذلك على عظم بر الوالدين ،وأن الإنسان يبلغ به المراتب العالية. قال\" :لو أقسم على الله لأبره ،فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل\" هذا لا يدل على أن أويس القرني أفضل من عمر رضي الله عنه، فعمر أفضل منه ،ولك ّن أويسا القرني له هذه المزية ،أن النبي صلى الله عليه وس َّلم ذكره بهذه الصفة ،وقال لعمر\" :إن استطعت أن يستغفر لك فافعل\". والقاعدة\" :أن المزية لا تقتضي الأفضلية\" ،فأويس له مزية ،لو أقسم على الله لأبره ،لكن ليس بأفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة رضوان الله عليهم ،فالمزية لا تقتضي الأفضلية.
هل يؤخذ من هذا الحديث أن الإنسان يشرع له أن يطلب من غيره أن يدعو له ،أو أن هذا خاص بأويس القرني؟ .1من أهل العلم من أخذ من هذا الحديث مشروعية طلب الدعاء من الغير. .2ومن أهل العلم من قال :هذا خاص بأويس ،زكاه النبي صلى الله عليه وس َّلم ،وذكر صفته ،وو ّجه عمر رضي الله عنه بهذا وإلا فإن الأصل أن يدعو الإنسان لنفسه ،وهو متعبد بهذا ،والله يحب الدعاء ،والانكسار ،والافتقار إليه ،وإذا طلب الإنسان من الآخرين أن يدعوا له يكون قد وكل إليهم ذلك ،ويكون فيه نوع افتقار إليهم ،والإنسان لا يفتقر إلى الخلق ،وإنما يكون فقره إلى الله -عز وجل ،فلا يطلب منهم شيئا حتى الدعاء. ليس معنى ذلك أنه يحرم ،لكن قالوا :هذا هو الأفضل والأكمل ،ألا يطلب الإنسان من الآخرين ،قالوا :وهذا فيه تزكية لهذا المطلوب منه. \" أكون في غبراء الناس أح ّب إلي\" غبراء الناس يعني :في أهل الحاجة ،والضعفاء ،والفقراء ،والمساكين، فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشراف أهل الكوفة ،فوافق عمر فسأله عن أويس ،فقال :تركته ر َّث البيت ،قليل المتاع ،معنى رث البيت يعني :رث متاع البيت ،أي أن أمتعته بالية خلِ َقة. قال :قليل المتاع وهذا يدل على زهده ،وإعراضه عن مظاهر الدنيا. قال عمر رضي الله عنه :سمعت رسول الله صلى الله عليه وس ّلَم يقول\" : يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد من أهل اليمن ،من مراد ،ثم من قرن\".....
فأتى أويسا ،هذا الرجل الشريف جاء إلى أويس فقال :استغفر لي. قال أويس \"أنت أحدث عهدا بسفر صالح\" يعني :أنت أتيت من الحج وهذا يدل على أن من سافر سفرا صالحا أنه حري بأن يستجاب له، فاستغفر لي ،أويس يقول للرجل. فقال الرجل :استغفر لي. الحاصل أن أويسا شك في أن الرجل عنده خبر من أمره ،فقال له :لقيت عمر؟ قال :نعم فاستغف َر له ،ففطن له الناس ،انتشر الخبر أن هذا الرجل قال فيه النبي صلى الله عليه وسلَّم هذا الكلام ،فانطلق على وجهه. معنى انطلق على وجهه ،يعني :خرج بحيث لا يعرفه أحد ،ولا يراه أحد. وفي رواية لمسلم أيضا عن أسير بن جابر أن أهل الكوفة وفدوا على عمر رضي الله عنه وفيهم رجل ممن كان يسخر بأويس ،يعني كان يسخر منه لوضاعته ،وفقره ،ورثاثة ثيابه ،ومتاعه. فقال عمر رضي الله عنه :هل هاهنا أحد من القرنيين؟ فجاء ذلك الرجل، فقال عمر رضي الله عنه \" :إن رسول الله صلى الله عليه وس َّلم قد قال: \"إن رجلا يأتيكم من اليمن ،يقال له أويس لا يدع باليمن غير أم له قد كان به بياض أي برص ،فدعا الله تعالى ،فأذهبه إلا موضع الدينار أو الدرهم ،فمن لقيه منكم فليستغفر له\" وفي رواية له عن عمر رضي الله عنه قال :إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وس َلّم يقول \":إن خير التابعين رجل يقال له أويس.\"..
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207