الحديث السادس والعشرون بعد الثلاثمائة عن زينب الثقفي ِة امرأ ِة عب ِد الله بن مسعود رضي الله َع ْن ُه وعنهاَ ،قالَ ْت: َقالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلمَ (( :ت َص َّد ْق َن َيا َم ْع َش َر ال ِّن َسا ِء َولَ ْو ِم ْن ُحلِ ِّي ُك َّن))َ ،قالَ ْتَ :ف َر َج ْع ُت إِ َلى عبد الله ب ِن مسعود ،فقل ُت َل ُه :إ َّن َك َر ُجلٌ َخفِي ُف َذا ِت ال َي ِدَ ،وإ َّن َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم َق ْد أ َم َر َنا ِبال َّص َد َق ِة َفأْتِ ِهَ ،فاسأل ُه ،فإ ْن َكا َن ذلِ َك ْي ُج ِز ُئ َع ِّني َوإلا َص َر ْف ُت َها إِ َلى َغ ْي ِر ُك ْمَ .ف َقالَ عب ُد اللهَِ :ب ِل ا ْئتِي ِه أن ِت ،فا ْن َط َلق ُتَ ،فإذا ا ْمرأ ٌة ِم َن الأ ْنصا ِر ِب َبا ِب رسو ِل الله صلى الله عليه وسلم َحا َجتي َحا َج ُتهاَ ،و َكا َن َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم َق ْد أُ ْلقِ َي ْت َعلَي ِه ال َم َها َب ُةَ ،ف َخر َج َعلَ ْي َنا ِبلاَلٌَ ،ف ُق ْل َنا لَ ُه :ا ْئ ِت َر ُسول الله صلى الله عليه وسلمَ ،فأ ْخب ْرهُ أ َّن ا ْم َرأ َت ْي ِن بال َبا ِب َتسألا ِن َك :أُ ُت ْج ِز ُئ ال َّص َد َق ُة َع ْن ُه َما َع َلى أ ْزوا ِجه َما َو َع َلى أ ْي َتا ٍم في ُح ُجو ِر ِهما؟َ ،ولا ُت ْخ ِب ْر ُه َم ْن َن ْح ُن، َف َدخلَ بِلاَلٌ َع َلى َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم ،فسألهَ ،ف َقالَ َل ُه َر ُسول الله صلى الله عليه وسلمَ (( :م ْن ُه َما؟)) َقالَ :ا ْم َرأةٌ ِم َن الأ ْن َصا ِر َو َز ْي َن ُب. َف َقالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم(( :أ ُّي ال َّز َيا ِن ِب؟)) َقالَ :ا ْم َرأةُ عب ِد اللهَ ،ف َقالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم(( :لَ ُه َما أ ْج َرا ِن :أ ْج ُر ال َق َرا َب ِة َوأ ْج ُر ال َّص َد َق ِة)) ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه شرح الحديث ح َّث ال َّنب ُّي ص َّلى اللهُ عليه وس َّلم على ال َّصدق ِة ،وب َّين أ َّن أفضلَ ال َّصدق ِة ما كان على الأقار ِب ،وبهذا َتتح َّق ُق ِصل ُة ال َّرح ِم. وفي هذا الحدي ِث تقولُ زين ُب امرأ ُة عب ِد الله ب ِن مسعو ٍد ر ِضي اللهُ عنهما: أنها سمعت ال َّنب َّي ص َلّى اللهُ عليه وس َّلم ،يأمر النساء بالصدقة ويقول:
\" تص َّد ْق َن\" أي :أخ ِر ْج َن ال َّصدق َة \" ولو ِمن ُحلِ ِّيك َّن\" وال ُحلِ ُّي هو ما تتز َّي ُن به المرأ ُة فرجعت إلى بيتها ،وكان زوجها عبد الله بن مسعود خفيف ذات اليد يعني أنه ليس عنده مال ،وكانت زين ُب ُتنفِ ُق على عب ِد اللهِ وأيتا ٍم في َح ْج ِرها ،قيل :هم بنو أخيها وبنو أختها فقالت لعب ِد الل ِهَ :سلْ رسولَ الله ص َّلى اللهُ عليه وس َّلم\" :أ َيجزي عني\" يعني :أيكفي أن أُنفِ َق وأتص َّد َق عليك وعلى أيتا ِمي في َح ْجري ِمن ال َّصدق ِة؟ فقال لها عب ُد الله :بل ائتيه أنت أي اذهب أنت واسألي رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وس َّلم ،قال ْت :فانط َل ْق ُت إلى ال َّنب ِّي صلَّى اللهُ عليه وس َّلم ،فو َج ْد ُت امرأة ِمن الأنصا ِر على الباب، حاج ُتها ِمثلُ حاجتي ،أي ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه ،فلما وصلت إلى بيته وجدت عنده امرأة من الأنصار ،حاجتها كحاجة زينب ،تريد أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن تتصدق على زوجها ومن في بيتها ،فخرج بلال وكان النبي صلى الله قد أعطاه الله المهابة العظيمة ،وكل من رآه هابه ،لكنه من خالطه معاشرة أحبه وزالت عنه الهيبة ،فخرج بلال فسألهما عن حاجتهما فأخبرتاه أنهما يسألان النبي صلى الله عليه وسلم :هل تجوز الصدقة على أزواجهما ومن في بيتهما؟ ولكنهما قالتا له :لا تخبر الرسول صلى الله عليه وسلم من هما؛ أحبتا أن تختفيا. فدخل بلال على النبي صلى الله وأخبره وقال :إن بالباب امرأتين حاجتهما كذا وكذا ،فقال( :من هما؟)
وحينئ ٍذ وقع بلال بين أمرين بين أمانة ائتمنتاه عليها المرأتان؛ حيث قالتا :لا تخبره من نحن، ولكن الرسول قال (من هما؟) قال :امرأة من الأنصار ،وزينب فقال( :أي الزيانب؟) حيث اسم زينب كثير فقال :امرأة عبد الله ،وكان عبد الله بن مسعود خادما للرسول صلى الله عليه وسلم ،وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم أهله وعرف حاله. وهو إنما أخبره مع قولهما له لا تخبره؛ لأن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم واجبة مقدمة على طاعة كل أحد فقال( :لهما أجران :أجر القرابة وأجر الصدقة) أي إن صدقتهما على هؤلاء صدقة وصلة ،يعني فيها أجران: أجرالصدقة ،وأجر الصلة. وفي الحدي ِث :أن الصدقة على القريب إذا كان محتاجا أفضل من الصدقة على البعيد وأن فيه أجران.
الحديث السابع والعشرون بعد الثلاثمائة عن أَبي سفيان صخر ب ِن حرب رضي الله عنه في حديثِ ِه الطويل في قِ َّص ِة ِه َر ْقلَ :أ َّن هر ْقلَ َقالَ لأبي ُس ْف َيا َنَ :ف َما َذا َيأ ُم ُر ُك ْم بِ ِه؟ َي ْعنِي النبي صلى الله عليه وسلم َقالَ :قُ ْل ُت :يقول(( :ا ْع ُب ُدوا الل َه َو ْح َد ُهَ ،ولا ُت ْش ِر ُكوا ِب ِه َشيئا، وا ْت ُر ُكوا َما َيقُولُ آ َبا ُؤ ُك ْمَ ،و َيأ ُم ُر َنا بِال َّصلا ِةَ ،وال ّص ْد ِق ،وال َع َفا ِف ،وال ِّص َل ِة)) ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه شرح الحديث هذا جزء من حديث أبي سفيان صخر بن حرب حين وفد ومعه قوم من قريش على هرقل ،وكان قد وفد على هرقل قبل أن يسلم رضي الله عنه؛ لأنه أسلم عام الفتح ،وأما قدومه إلى هرقل ،فإنه كان بعد صلح الحديبية، ولما سمع بهم هرقل وكان رجلا عاقلا ،عنده علم من كتاب ،وعنده علم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبما يدعو إليه ،لأن صفة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم موجودة في التوراة والإنجيل ،كما قال تبارك وتعالى( :ال َّن ِب َّي ا ْلأُ ِّم َّي ا َلّ ِذي َي ِج ُدو َن ُه َم ْك ُتوبا ِع ْن َد ُه ْم فِي ال َّت ْو َرا ِة َوا ْلإ ْن ِجي ِل)[الأعراف ،]157 :مكتوبا بصفته ومعروفا ،حتى إنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم لا يشكون فيهم ،فلما قدم هؤلاء الجماعة من العرب من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ،من الحجاز دعاهم يسألهم عن حال النبي صلى الله عليه وسلم ،وعما يأمر به ،وعما ينهى عنه ،وعن كيفية أصحابه ،ومعاملتهم له ،إلى غير ذلك مما سألهم عنه ،وقد ذكره البخاري مطولا في صحيحه ،وكان من جملة ما سألهم عنه :ماذا يأمركم به؟ قال أبو سفيان( :يقول اعبدوا الله وحده ،ولاتشركوا به شيئا ،واتركوا مايقول أباؤكم ،ويأمرنز بالصلاة والصدق والعفاف والصلاة) الصلة :يعني صلة الرحم.
والصدق :الخبر الصحيح المطابق للواقع. والعفاف :عن الزنى ،وعما في أيدي الناس من الأموال ،وكذلك الأعراض. ثم إنه لما ذكر له ما ذكر قال له هرقل :إن كان ما تقوله حقا فسيملك ما تحت قدمي هاتين ،يقول ذلك وهو ملك الروم ،لكنه يعلم أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حق ،وأنه هو الصواب المطابق للفطرة ولمصالح الخلق ،وهذه الأشياء التي سأل عنها هنا هرقل هي من دلائل النبوة ،فدلائل النبوة أوسع من معجزات الأنبياء؛ لأن الدلائل منها ما هو معجزات ،كانشقاق القمر ،ونبع الماء بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ،وحنين الجذع. وهناك أشياء تدل على نبوته كصدق الحديث ،وأنه عرف بالأمانة ،وأنه لا يأمر إلا بخير ،ولما رأى وجهه عبد الله بن سلام قال :عرفت أنه ليس بوجه كذاب ،إشراق الوجه ،كل هذه تسمى دلائل النبوة. فدلائل النبوة منها ما هو معجز ،ومنها ما ليس بمعجز ،فهذه الأمور التي سأل عنها هرقل جميعا ليست من المعجزات. وفي الحدي ِث :الأمر بالتوحيد ،والنهي عن الشرك. وفيه :الأمر بالصلاة ،والصدقة والعفاف ،وصلة الأرحام.
الحديث الثامن والعشرون بعد الثلاثمائة عن أَبي ذ ّر رضي الله عنه َقالََ :قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إ َّن ُك ْم َس َت ْف َت ُحو َن أ ْرضا ُي ْذ َك ُر فِي َها القِي َرا ُط)) وفي روايةَ (( :س َت ْف َتحو َن ِم ْص َر َو ِه َي أ ْر ٌض ُي َس َّمى فِي َها القِيرا ُط، َفا ْس َت ْو ُصوا بأ ْهلِ َها َخ ْيرا؛ َفإ َّن لَ ُه ْم ِذ َّمة َو َر ِحما)) وفي رواية(( :فإذا افتتحتموها فأحسنوا إلى أهلها؛ فإن لهم ذمة ورحما)) ،أَ ْو َقالَِ (( :ذ َّمة و ِص ْهرا)) رواه مسلم شرح الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: \" إنكم ستفتحون أرضا ُيذكر فيها القيراط\" أي :بلدا ُيذك ُر فيها \"القيرا ُط\" ،وهو ِمعيا ٌر في ا ْلو ْز ِن والقِيا ِس، واختل َف ْت مقادي ُره ِباختلا ِف الأزمنة ،وفي رواية حددها بأنها مصر (ستفتحون مصر) \" فاستوصوا بأهلها خيرا ،فإن لهم ذمة ورحما\" وفي رواية\" :فإذا افتتحتموها فأحسنوا إلى أهلها فإن لهم ذمة ورحما\" ،أو قال \":ذمة وصهرا\" . َ \" فا ْستو ُصوا ِبأهلِها خيرا\" أي :لِيطل ْب بع ُضكم ِمن بع ٍض الوص َّي َة بهمْ ،أو لِ َيطلُ ْب كل منكم ِمن َنف ِسه و ِمن غي ِره الو ِص َّي َة بهم َوالإحسا َن إليهم.
فإ َّن لهم \" ِذ َّمة\" أي :ح ّقا \" ور ِحما\" ؛ وذل َك لكو ِن َهاج َر أُ ِّم إسماعيلَ ب ِن إبراهيم عليهما ال َّسلا ُم ِمن ِم ْص َر. قالَ العلماء(( :ال َّر ِح ُم)) :الَّتي لَ ُه ْم َك ْو ُن َها َج َر أُ ِّم إ ْس َما ِعيلَ صلى الله عليه وسلم ِم ْن ُه ْمَ (( ،وال ِّص ْه ُر))َ :ك ْون َمارية أ ِّم إ ْبراهي َم ابن َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم ِم ْن ُه ْم. فدل ذلك على أن الرحم لها صلة ولو كانت بعيدة .ودل أيضا على أن صلة القربة من جهة الأم كصلة القرابة من جهة الأب. وهذا فيه جواب أيضا لما يرد من سؤال في كثير من الأحيان في قضية الصلة ،يعني :ما يتعلق بالمصاهرة ،يعني :أهل الزوجة هل هم من الأقارب أو ليسوا من الأقارب؟ هم ليسوا من ذوي الأرحام ،ولكن الإنسان مأمور بصلة من يم ّت إليه ،فإذا كان الله أمر بالإحسان للجار المجاور ،وصاحب الجنب، الزميل في العمل أو الزميل في الدراسة ،أو نحو هذا ،أو الرفيق في السفر ،فكيف بأقارب الزوج أو أقارب الزوجة؟ ،هذا من باب أولى. وفي الحدي ِث :دليل على أن الأصهار يو َصلون ،و ُيح َسن إليهم ويستوصى بهم خيرا. وفيهَ :علام ٌة ِمن علام ِة ال ُّنب َّو ِة؛ لِكو ِن ال ِّصحاب ِة َفتحوا ِم ْص َر بعد ال َّن ِب ِّي ص ّلَى اللهُ عليه وس َّلم. وفيه :الوص َّي ُة ِبحف ِظ ال ِّذ َّم ِة وصل ِة ال َّرح ِم.
الحديث التاسع والعشرون بعد الثلاثمائة عن أَبي هريرة رضي الله عنه َقالَ :لما نزلت ه ِذ ِه الآيةَ { :وأَ ْن ِذ ْر َع ِشي َر َت َك الأَ ْق َر ِبي َن} [الشعراءَ ]214 :د َعا َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم قُ َر ْيشاَ ،فا ْج َت َم ُعوا َف َع َّم َو َخ َّصَ ،وقالَ(( :يا َبنِي َك ْع ِب ْب ِن لُؤ ٍّي، أنقِ ُذوا أ ْنفُ َس ُك ْم ِم َن ال َّنا ِرَ ،يا َبنِي ُم َّر َة بن َك ْع ٍب ،أ ْنقِ ُذوا أ ْن ُف َس ُك ْم ِم َن ال َّنا ِرَ ،يا َبنِي َع ْب ِد َش ْم ٍس أ ْنقِ ُذوا أ ْنفُ َس ُك ْم ِم َن ال َّنا ِرَ ،يا َبنِي َع ْب ِد َم َناف أ ْنقِ ُذوا أ ْنفُ َس ُك ْم ِم َن ال َّنا ِرَ ،يا َب ِني هاشم ،أنقذوا أنفسكم من النارَ ،يا بني عبد المطلب ،انقذوا أنفسكم من النارَ ،يا َفا ِط َم ُة، أ ْنقِذي َن ْف َس ِك ِم َن ال َّنا ِرَ .فإ ِّني لا أ ْملِ ُك لَ ُك ْم ِم َن اللهِ َشيئاَ ،غ ْي َر أ َّن لَ ُك ْم َر ِحما َسأ ُبلُّ َها بِبِلالِ َها)) رواه مسلم شرح الحديث لما أنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم { أَ ْن ِذ ْر َع ِشي َر َت َك ا ْلأَ ْق َر ِبي َن} [الشعراء ،]214جمع قريشا ،وعمم وخص وقال :يا بني فلان ،يا بني فلان ،يا بني فلان ،يعدهم أفخاذا أفخاذا حتى وصل إلى ابنته فاطمة ،قال(( :يا فاطمة ،أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئا)) وهذا من الصلة ،والمراد أن يبدأ الإنسان بالأقرب إليه ،فهم أحق بذلك ،ويؤخذ من هذا أن الأقربين هم أولى بالإحسان أ ّيا كان نوعه ،سواء كان هذا الإحسان من باب العطية والهبة ،أو الصدقة أو حتى الزكاة ،فإن صرفها للأقربين أولى من صرفها للأبعدين ،فهي صدقة وصلة. ودعوته قريشا \" :يا بني عبد شمس\" ،يفهم منه كما ذكر بعض أهل العلم أن العشيرة الأقربين هم من يتناسلون من الجد العاشر
للإنسان ،وقد يؤخذ من هذا أن هؤلاء هم الذين يصلهم الإنسان، أو لهم حق آكد من غيرهم من قراباته ،و كلما دنت القرابة كلما عظم الحق. وهنا النبي صلى الله عليه وسلم دعا هؤلاء جميعا ،وكان يقول لهم: \" أنقذوا أنفسكم من النار\" يعني :بالإيمان والعمل الصالح ،وذلك يدل على أن الإنسان لا يمكن أن تحصل له النجاة بحال من الأحوال إلا بالإيمان والعمل الذي يقربه إلى الله تعالى ،فالإنسان لا تدنو مرتبته عند الله ويرتفع ويرتقي وتحصل له دار الكرامة إلا بعمله وإيمانه ،أما الاتكاء على القرابات ،وأنه من نسل النبي صلى الله عليه وسلم ،أو من قرابته فإن هذا غير مج ٍد ،وإنما المع ّول على الإيمان والعمل الصالح ،حتى فاطمة -رضي الله تعالى عنها -وهي بضعة منه، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم \" :أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئا\" أي :لا تتكلوا على قرابتي فإني لا أقدر على دفع مكروه يريده الله بكم. \" غير أن لكم رحما سأ ُبلُّها ِب ِبلالها\" وضبطه بعضهم بفتح الباء الثانية سأ ُبلُّها بِ َبلالها يعني :ال َبلال الماء الذي يبل به ،يعني :كأنه يقول :سأصلها ،لكم رحم سأصلها، فشبه القطيعة بالنار التي تكون ،أو بالحرارة التي ُتطفأ بالماء، فهذه تبردها الصلة ،سأبلها ببِلالها ،أو ب َبلالها. وذلك لأن قطيعة الرحم نار والماء يطفئ النار ،وقطيعة الرحم موت والماء به الحياة ،كما قال تعالىَ ( :و َج َع ْل َنا ِم َن ا ْل َما ِء ُكلَّ َش ْي ٍء َح ّي) [الأنبياء ]30 :فشبه الرسول صلى الله عليه وسلم صلة الرحم بالماء الذي يبل به الشيء.
الحديث الثلاثون بعد الثلاثمائة عن أَبي عبد الله عمرو بن العاص رضي الله عنهما َقالَ :سمعت َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم ِج َهارا َغ ْي َر ِس ٍّرَ ،ي ُقولُ: ((إ َّن آل َبني ُفلاَن َل ْي ُسوا ِبأولِ َيائِي ،إِ َّن َما َولِ ِّي َي اللهُ َو َصالِ ُح ال ُم ْؤ ِمني َنَ ،ولَ ِك ْن لَ ُه ْم َر ِح ٌم أ ُبلُّ َها بِبلاَلِ َها)) ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه( ،واللفظ للبخاري) شرح الحديث يحكي عم ُرو ب ُن العا ِص رضي الله عنه أ َّنه س ِمع ال َّنب َّي ص َلّى الله عليه وس َّلم يقولُ ِجهارا غي َر س ٍّر ،قول :سمعته صلى الله عليه وسلم يقول جهارا غير سر ،يعني :أنه لا يقول ذلك في مجالسه الخاصة صلى الله عليه وسلم ،دون أن يعلنه كراهية أن يبلغهم مثلا ،لا ،وإنما كان يعلن ذلك \" إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي\" كما قال إبراهيم عليه السلام ومن معه لقومهم{ :إِ َّنا ُب َرآء ِمن ُك ْم َو ِم َّما َت ْع ُب ُدو َن ِمن ُدو ِن ال َّل ِه َك َف ْر َنا بِ ُك ْم َو َب َدا َب ْي َن َنا َو َب ْي َن ُك ُم ا ْل َع َدا َوةُ َوا ْل َب ْغ َضاء أَ َبدا َح َّتى ُت ْؤ ِم ُنوا ِبال َّل ِه َو ْح َد ُه} [الممتحنة.]4: \" ليسوا بأوليائي ،إ َّنما ول ِّي َي اللهُ وصال ُح المؤمنين\" أيَ :من أح َسن وع ِمل صالحا من المؤمنين ،والمعنى :لا أُوالي أحدا بال َقراب ِة ،وإ َّنما أ ِح ُّب اللهَ؛ لِ َما له ِمن الح ِّق الواج ِب على العباد ،وأ ِح ُّب صال َح المؤمنين لوج ِه الل ِه ،وأُوالي َمن أوالي بالإيما ِن وال َّصلا ِح ،سوا ٌء كان ِمن ذوي رحمي أو لا ،ولكن أراعي لذوي ال َّر ِح ِم ح َّقهم بصل ِة ال َّر ِحم. فهذا هو الواجب على المؤمن ،أن يتبرأ من أعداء الله ،ولا يجوز له بحال من الأحوال أن يواليهم سواء كان هؤلاء من المحاربين
أو كانوا من غير المحاربين ،فإن البراءة من المشركين واجبة من جميعهم على اختلاف طوائفهم ،ولا يجوز موالاتهم بحال من الأحوال. \" ولكن لهم ر ِح ُم أ ُبلُّها ب ِبلالها\" أي قرابة أ ِصلُها بصل ِتها ،وش َّبه ال َّر ِحم بأر ٍض إذا ُبلَّ ْت بالما ِء ح َّق بلالِها أز َه ْرت وأثم َر ْت ،و ُر ِئ َي في أثما ِرها أث ُر ال َّنضار ِة ،وأثمر ِت المح َّب َة وال َّصفاء ،وإذا إ َُّتلاِر اكلعتدابغويَة ِروا َلسققطيٍيعي ِبَة َس ْت وأجد َب ْت ،فلم ُتث ِم ْر \" لهم رحم\" هذا الشاهد من الحديث ،لهم رحم يصلها ولو كانوا كفارا كما في حديث أسماء ،وكما في قوله -تبارك وتعالىَ { :وإِن َجا َه َدا َك} [لقمان ]15:في الوالدين يعني :على الشرك ،فنهى عن طاعتهما قالَ :و َصا ِح ْب ُه َما فِي ال ُّد ْن َيا َم ْع ُروفا. \" أ ُبلُّها ِببِلالها\" العرب تسمي الصلة ب ّلا ،وتسمي القطيعة جفاء وصلفا وجفافا، فكأن القطيعة نار محرقة ف ُتبل بالماء بهذه الصلة ،فيذهب ذلك. ومعنى الحديث :لست أخص قرابتي ولا فصيلتي الأدنين بولاية دون المسلمين.
الحديث الحادي والثلاثون بعد الثلاثمائة عن أَبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه أ َّن رجلا َقالََ :يا َر ُسول الله ،أ ْخ ِب ْرني ِب َع َم ٍل ُي ْد ِخلُني ال َج َّن َةَ ،و ُي َبا ِع ُدني ِم َن ال َّنا ِرَ .ف َقالَ ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم: (( َت ْع ُب ُد اللهَ ،ولا ُت ْش ِر ُك ِب ِه َشيئاَ ،و ُتقِي ُم ال َّصلا َة ،و ُتؤ ِتي ال َّز َكا َة ،و َت ِصلُ ال َّرح َم)) ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه شرح الحديث في هذا الحدي ِث أن رجلا قال :يا رسول الله\"... جاء في بعض الروايات أن السائل هو أبو أيوب رضي الله وجاء في حديث آخر لأبي هريرة رضي الله عنه أن أعراب ّيا سأل النبي ﷺ ،وهذا أمر قد يحصل ويتكرر؛ لأن هذا السؤال الذي سأله هو من أجلّ المطالب. \" دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار\" فهذا هو المطلوب الأكبر ،والمقصود الأعظم ،وهو الفلاح الذي يطلبه كل أحد ،أن يدخل الجنة وأن يباعد من النار ،وهذا يدل على حرص الصحابة على المطالب العالية ،وعلى تعلق نفوسهم بما عند الله -تبارك وتعالى -والدار الآخرة ،فمن سأل شيئا فإنما يسأل عما يتعلق اهتمامه به ،وت ْتبعه نف ُسه ،ومعلوم أن الإنسان لا يدخل الجنة بعمله ،كما أخبر النبي ،وإنما تكون الأعمال سببا لدخول الجنة، وإنما يدخلها الإنسان برحمة الله.
قال\" :ويباعدني من النار\" أي :يكون سببا في المباعدة من النار. فقال النبي \" :تعبد الله ولا تشرك به شيئا\" هذا هو التوحيد الذي هو أصل العمل ،وهو أول مطلوب ،وهو آخر ما يخرج به من الدنيا ،وهو مفتاح الجنة ،وهو الشرط الأعظم والأكبر في قبول الأعمال ،تعبد الله ولا تشرك به شيئا ،فمن عبد الله تعالى وعبد معه غيره فإن ذلك غير نافعه. \" وتقيم الصلاة\" ما قال :تؤدي الصلاة ،وجميع المواضع في القرآن لم يذكر فيها أداء الصلاة ،وإنما يذكر فيها الإقامة ،وذلك أن يأتي الإنسان بها مستوفيا لشروطها وأركانها وواجباتها ،فهذه هي حقيقة الإقامة ،أن يأتي الإنسان بما تتطلبه هذه الصلاة ،وعلى قدر ما يحقق من ذلك على قدر ما يكون له من هذا الاتصاف ،من إقامتها ،ولذلك لما ذكر الله تعالى الصلاة وأثرها قال{ :إِ َّن ال َّص َلا َة َت ْن َهى َع ِن ا ْل َف ْح َشاء َوا ْل ُمن َك ِر} [العنكبوت.]45: { َوأَقِ ِم ال َّصلا َة} ،هذا أمر بإقامتها ،ثم بعد ذلك \"إِ َّن\" هنا تفيد التعليل، يعني :أن هذه الصلاة المقامة تنهى عن الفحشاء والمنكر ،وبهذا الاعتبار تكون صلاتنا تنهانا عن الفحشاء والمنكر على قدر ما يكون من إقامتها، فإذا أقمناها إقامة كما ينبغي على الوجه الأكمل كان نهيها عن الفحشاء والمنكر على الوجه الأكمل ،وأما إذا دخل الإنسان لا يدري كيف دخل، وخرج منها ولا يدري ماذا قرأ ،وماذا قرأ الإمام فإن مثل هذا لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر.
\" وتقيم الصلاة ،وتؤتي الزكاة\" يمكن أن يكون النبي اقتصر على هذين الأمرين باعتبار أنهما يمثلان القمة والأهم بالنسبة لسائر شرائع الدين. فالصلاة هي رأس العبادات البدنية ،والزكاة هي رأس العبادات المالية، فذكر له هذا وهذا ،وهذا كثير في النصوص ،الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. ويحتمل أن يكون هذا قبل فرض الصوم ،وقبل فرض الحج. \" وتصل الرحم\" وهذا هو الشاهد ،يعني :ذكر صلة الرحم مع هذه المطالب العالية الثلاثة العظيمة ،التي هي أصول وأركان الإسلام ،يضاف إليها الحج والصيام، فذكرها مع أعظم الأركان ،ولا شك أن هذه الثلاثة هي الأعظم ،وهي التوحيد وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ،فذكر معها صلة الرحم. وهذا يدل على أن صلة الرحم ليست خلقا تكميل ّيا يمكن أن يتصف به الإنسان ،أو يتفضل به ،أو يتجمل به إن شاء ،وإنما هو أصل عظيم قد تتوقف نجاة الإنسان عليه. ولهذا قال النبي \" :لا يدخل الجنة قاطع رحم\" لا يدخلها ،ليس معنى ذلك أنه يخلد في النار ،وإنما ين ّقى ويص ّفى فإن الجنة دار الطيبين ،حتى يطيب ،مثل الذهب يعرض على النار فيذهب شائبه ثم بعد ذلك يبقى خالصه.
وفي الحدي ِث :أ َّنه يؤ َخ ُذ منه تخصي ُص بع ِض الأعمال بالح ِّض عليها، بح َسب حا ِل المخا َطب وافتقا ِره لل َّتنبي ِه عليها أكث َر م َّما سواها ،إ َّما لمش َّق ِتها عليه ،وإ َّما لتسهيلِه في أم ِرها. الحديث الثاني والثلاثون بعد الثلاثمائة عن سلمان بن عامر رضي الله عنه عن ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم َقالَ: ((إِ َذا أ ْف َط َر أ َح ُد ُك ْم َف ْل ُي ْفط ْر َعلَى َت ْم ٍر؛ َفإ َّن ُه َب َرك ٌةَ ،فإ ْن لَ ْم َي ِج ْد َت ْمرا ،فال َما ُء؛ َفإ َّن ُه َط ُهو ٌر)) َوقالَ(( :ال َّص َد َق ُة َع َلى ال ِمسكي ِن َص َدق ٌة ،و َعلَى ِذي ال َّر ِح ِم ِث ْن َتا ِنَ :ص َد َق ٌة َو ِصلَ ٌة)) رواه الترمذيَ ،وقالََ ( :ح ِدي ٌث َح َس ٌن). شرح الحديث \"إذا أفطر أحدكم فليفطر على تم ٍر فإنه بركة ،فإن لم يجد تمرا فليفطر على الماء ،فإنه طهور\" ضعفه الألباني (السلسلة الضعيفة )6383 - وقال في مشكاة المصابيح (ضعيف والصحيح من فعل النبي صلى الله عليه وسلم) الجزء الأول من الحديث \":إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة ،فإن لم يجد تمرا فالماء فإنه طهور\" يشهد له ما ورد من هديه العملي ،فقد كان يفطر على رطب ،فإن لم يجد فتمر ،فإن لم يجد يحسو حسوات من ماء ،فهذه السنة الثابتة
الصحيحة العملية. وإن كان هذا الحديث بهذا اللفظ (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة ،فإن لم يجد تمرا فالماء فإنه طهور) لم يصح ،فالحديث ضعيف بهذا الاعتبار والجملة الثانية\" :الصدقة على المسكين صدقة ،وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة\" َح َّث ال َّنب ُّي َص ّلَى اللهُ عليه وس َلّ َم على ال َّتكا ُف ِل بين ال ُمسلمي َن ،كما َح َّث على ِص َل ِة الأرحا ِم ،وإذا اجت َم َع ْت ِصل ُة ال َّر ِح ِم مع ال َّصدق ِة فذلك خي ٌر. قال رسولُ الل ِه َص َّلى اللهُ عليه وس َّل َم: \"ال َّصدق ُة على المسكي ِن َصدق ٌة\" أي :لها أ ْج ُر ال َّتص ُّد ِق عليه. \" وهي على ِذي ال َّرح ِم اثنتا ِنَ :صدق ٌة و ِصل ٌة\" أي :لها أ ْج ُر ِصلَ ِة ال َّرح ِم وأ ْج ُر ال َّتص ُّد ِق عليه ،والمقصو ُد بـ(ذي ال َّرح ِم) الأقار ُب ال ُفقرا ُءُ ،ذكورا وإناثا ،أ َّما الأغنيا ُء منهم ف ِصل ُتهم تكو ُن بال ُهدايا وال َّتزاو ِر و َبشاش ِة الوج ِه وال ُّنص ِح لل َجمي ِع. وإطلا ُق لف ِظ (ال َّصدق ِة) يش َملُ الف ْر َض ِمن ال َّزكا ِة لِ َمن لا ت ِج ُب عليه ال َّنفق ُة، وال ُمستح َّب من ُمطل ِق ال َّصدقا ِت ،وقيل :هذا إذا لم َي ْقت ِض الحالُ ال َعك َس؛ بأ ْن يكو َن غي ُر القري ِب أش َّد حاجة ،وتض ُّررا ِمن القري ِب ،فيكو ُن ال َّتص ُّد ُق عليه أَولى. وفي الحدي ِث :الح ُّث على الاستكثا ِر ِمن الخي ِر بين الأقار ِب بكلِّ أو ُج ِه الخي ِر. وفيه :الح ُّث على الاهتما ِم بذوي الأرحا ِم ،وأ َّن ال َّتص ُّد َق عليهم أفضلُ ِمن ال َّتص ُّد ِق على غي ِرهم.
الحديث الثالث والثلاثون بعد الثلاثمائة عن ابن عمر رضي الله عنهماَ ،قالََ :كا َن ْت َت ْحتِي ا ْم َرأةٌَ ،و ُك ْن ُت أ ِح ُّب َها، َو َكا َن ُع َم ُر َي ْك َر ُه َهاَ ،ف َقالَ ليَ :ط ِلّ ْق َهاَ ،فأ َب ْي ُتَ ،فأ َتى ُع َم ُر ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلمَ ،ف َذ َك َر ذلِ َك لَ ُهَ ،ف َقالَ ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلمَ (( :ط ِلّ ْق َها)) رواه أَ ُبو داود والترمذيَ ،وقالََ ( :ح ِدي ٌث َح َس ٌن َصحي ٌح) شرح الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه قال :كانت تحتي امرأة تحتي يعني :أنها زوجته ،يقول :كانت تحتي امرأة ،وكنت أحبها ،وكان عمر رضي الله عنه -يعني أباه -يكرهها والمظنون في عمر رضي الله عنه أنه كان يكرهها لسبب ديني ،فقال لي :طلقها. الآن الوالد يأمر الولد بالطلاق ،هل يجب عليه أن يطيعه أو لا؟ يقول :فأبيت ،فأتى عمر رضي الله عنه النبي فذكر ذلك له، فقال النبي :طلقها. أمره أبوه أن يطلقها ،لكنه أبى ذلك؛ لأنه يحبها ،فذكر عمر رضي الله عنه ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ،فأمر ابن عمر بطلاقها. ولكن ليس كل والد يأمر ابنه بطلاق زوجته تجب طاعته؛ فإن رجلا سأل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ،قال إن أبي يقول :طلق امرأتك ،وأنا أحبها ،قال :لا تطلقها ،قال :أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر ابن
عمر أن يطلق زوجته لما أمره عمر ،فقال له الإمام أحمد :وهل أبوك عمر؟ فالشاهد أن هذا عمر ،ف َمن مثل عمر؟! عمر رضي الله عنه بمنزل ٍة من الورع ،والخوف من الله ،والتحري ،فهو أبعد ما يكون عن الهوى ،فأمره بتطليقها ،فأمره النبي ﷺ أن يطيعه، فعمر رضي الله عنه إذا سلك ف ّجا سلك الشيطان ف ّجا آخر. فعمر رضي الله عنه نعلم علم اليقين أنه لن يأمر عبد الله بطلاق زوجته إلا لسبب شرعي ،وقد يكون ابن عمر رضي الله عنه لم يعلمه؛ لأنه من المستحيل أن عمر رضي الله عنه يأمر ابنه بطلاق زوجته ليفرق بينه وبين زوجته بدون سبب شرعي. وعلى هذا فإذا أمرك أبوك أو أمك بأن تطلق امرأتك ،وأنت تحبها ولم تجد عليها مأخذا شرعياَ ،فلا تطلقها؛ لأن هذه من الحاجات الخاصة التي لا يتدخل أحد فيها بين الإنسان وبين زوجته.
الحديث الرابع والثلاثون بعد الثلاثمائة عن أَبي الدردا ِء رضي الله عنه أن رجلا أتاه ،ف َقالَ :إ ّن لي امرأة وإ ّن أُ ِّمي َتأ ُم ُرنِي بِ َطلاقِ َها؟ َف َقالََ :س ِم ْع ُت َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم ،يقول: ((ال َوالِ ُد أ ْو َس ُط أ ْب َوا ِب ال َج َّن ِةَ ،فإ ْن ِش ْئ َتَ ،فأ ِض ْع ذلِ َك ال َبا َب ،أَو ا ْح َف ْظ ُه)) رواه الترمذيَ ،وقالََ ( :ح ِدي ٌث َح َس ٌن َصحي ٌح) شرح الحديث أ َم َرنا ال َّشر ُع ال َحكي ُم بالع ْد ِل والإنصا ِف ،وإيتا ِء كلِّ ذي َح ٍّق ح َّقه ،دو َن َجو ٍر أو إجحا ٍف بحقو ِق ط َر ٍف على آخ َر ،وفي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه :أن رجلا أتاه فقال :إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها ،فهنا ما أعطاه جوابا محددا ،أعطاه جوابا عاما ،قال :سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول \":الوالد أوسط أبواب الجنة ،فإن شئت فأ ِض ْع ذلك الباب أو احفظه\" \" الوالد أوسط أبواب الجنة \" قيل :يعني :هو الوسط ،الجنة لها أبواب ثمانية فالوسط هو الوالد. وقيل :أوسط أبواب الجنة كلمة \"الأوسط\" تعني :الأجود والأفضل ،فهذا طاعة الوالدين. وبعضهم قال :معنى أوسط أبواب الجنة أي :أن طاعته تؤدي إلى الجنة. فأبو الدرداء رضي الله ما أجاب الرجل وقال له :طلقها ،قال :أنا سمعت هذا الحديث ،النبي صلى الله عليه وسلم يقول \" :الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأ ِض ْع ذلك الباب أو احفظه\" ،فقد يفهم من هذا تغليب طاعة الوالد في هذا الجانب ،ولك ْن طاع ُة الوالدي ِن ُمق َّيد ٌة بالمعرو ِف؛ لقولِه
ص َّلى اللهُ عليه وسلَّ َم في الحدي ِث ال ُم َّت َف ِق عليه: \"إ َّنما ال َّطاع ُة في المعرو ِف\"؛ فإذا كان ِت ال َّزوج ُة ُمستقيم َة الأحوا ِل وذا َت ِدي ٍن ،وإ َّنما أَ َمراه ب َطلاقِها لهوى في ن ْف َس ْيهما ،فلا طاع َة لهما في ذلك ،ولا يل َز ُمه طلا ُق امرأ ِته ،وليس تطلي ُق زوجتِه في هذه الحا ِل ِمن بِ ِّر وال َد ْيه، فتجب طاعة الوالد بالمعروف فيما لا يكون فيه ضرر على الولد ولا يحصل به إجحاف. والإمام أحمد -رحمه الله -جاءه رجل وقال :إن أبي يأمرني أن أطلق امرأتي -أو قال :إن أمي تأمرني أن أطلق امرأتي ،فقال :إن لم يب َق عليك من بره إلا هذا فأطعه. وفي الحدي ِث :ال َح ُّث على طاع ِة الوالدي ِن ومعرف ِة ح ِّقهما. وفيهُ :مراعاةُ ال َّشر ِع ل ُحقو ِق جمي ِع أطرا ِف الأُسر ِة دو َن َجو ِر أح ٍد على ح ِّق غي ِره.
الحديث الخامس والثلاثون بعد الثلاثمائة عن البرا ِء بن عازب رضي اللهُ عنهما ،عن النبي صلى الله عليه وسلم َقالَ(( :ال َخال ُة ِب َم ْن ِز َل ِة الأُ ِّم)) رواه الترمذيَ ،وقالََ ( :ح ِدي ٌث َصحي ٌح). شرح الحديث حديث البراء بن عازب -رضي الله تعالى عنهما -عن النبي صلى الله عليه وسلم قال\" :الخالة بمنزلة الأم\" \" الخالة بمنزلة الأم\" قاله النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء ،وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قصد مكة في السنة السادسة من الهجرة وصده المشركون عنها ،ووقع ما وقع من الصلح المعروف ،صلح الحديبية ،وكان مما حصل في ذلك الصلح والاتفاق :أن النبي صلى الله عليه وسلم يرجع ومن معه ،ثم يأتي من العام الذي بعده ليعتمر ،فلما جاء صلى الله عليه وسلم تبعته ابنة حمزة رضي الله عنه ،فأخذها علي بن أبي طالب رضي الله عنه ودفعها إلى زوجته فاطمة رضي الله عنها ،وقال :دونك ابنة عمك ،فتنازع فيها علي رضي الله عنه وزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وجعفر بن أبي طالب ،فالنبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه المناسبة \" :الخالة بمنزلة الأم\" يعني :أنه دفعها لجعفر رضي الله عنه؛ لأنه زوج خالتها ،والشاهد من هذا الحديث في هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الخالة بمنزلة الأم ،والكلام في صلة الأرحام وفي بر الوالدين ،وهذا يدل على أن الخالة لها منزلة قريبة من منزلة الأم تستدعي البر ،والقيام بمزيد من الحق والرعاية والصلة والإحسان إليها.
المقدمة باب تحريم العقوق وقطيعة الرحم الحديث السادس والثلاثون بعد الثلاثمائة عن أَبي بكرة ُن َفيع بن الحارث رضي الله عنه َقالَ: َقالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أُ َن ِّب ُئ ُك ْم بأ ْك َب ِر ال َك َبائِ ِر؟)) -ثلاثا -قُ ْل َناَ :بلَىَ ،يا َر ُسول الله! َقالَ: ((الإ ْش َرا ُك باللهَ ،و ُعقُو ُق ال َوالِ َد ْي ِن)) ،وكان ُم َّت ِكئا َف َج َل َسَ ،ف َقالَ(( :ألاَ َو َق ْولُ ال ُّزو ِر َو َش َها َدةُ ال ُّزو ِر)) َف َما َزالَ ُي َك ِّر ُر َها َح َّتى قُ ْل َناَ :ل ْي َت ُه َس َك َت. ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه شرح الحديث كان ال َّنب ُّي ص َّلى اللهُ عليه وس ّلَ َم شدي َد ال ِحر ِص على تخلي ِص أ َّمتِه ِمن ُكلِّ ما ُي َع ِّر ُضها ل َس َخ ِط الل ِه تعالى ،و ُي َق ِّر ُبها ِم َن ال َّنا ِر ،فذكر ُم َح ِّذرا لهم ِم َن أكبر الكبا ِئ ِر \" ألا أنبئكم\" يعني :ألا أخبركم ،والنبأ لا يقال عادة إلا في الخبر الذي له أهمية وشأن ،وأما الخبر الذي لا قيمة له فإن العرب لا تسميه نبأ. فهنا \" ألا أنبئكم\" هذا أمر يستدعي الانتباه ،وهو أمر في غاية الأهمية؛ لأنه يتصل بأكبر الكبائر ،والذنوب التي ُيعصى الله تبارك وتعالى فيها ليست على مرتبة واحدة ،منها ما يكون من قبيل اللمم، على المشهور من تفسير اللمم بأنه الصغائر ،ومنها ما يكون فوق ذلك ،ومنها ما يكون من الكبائر ،ومنها ما يكون من أكبر الكبائر.
ولهذا قال النبي \" :اجتنبوا السبع الموبقات\"؛ لأنها توبق صاحبها ،أي :أنها تهلكه ،فهذه سبعة ذنوب من أكبر الذنوب ،ومن أعظم الكبائر ،فالكبائر تتفاوت ،وكذلك الصغائر تتفاوت. \" أكبر الكبائر\" ما ذكر واحدة هي الأكبر ،ذكر مجموعة ،فهذه الأشياء قد بلغت الأعلى، بلغت الغاية في كبرها وشدتها وشناعتها ،وإن كانت هي في نفسها أيضا تتفاوت. قلنا :بلى يا رسول الله قال \":الإشراك بالله\" فهذا أعظم ذنب ،أن تصرف العبادة لغير الله ،الله هو المتفضل المنعم ،ثم بعد ذلك يصرف الشكر والعبادة إلى غيره ،هذا من أعظم الإجرام وأشد المنكرات ،وأظلم الظلم. وهو نوعا ِن أحدهما :أن يج َعلَ لل ِه نِ ّدا ويع ُب َد َغي َره. والثاني :وهو ال ِّشر ُك ال َخفِ ُّي؛ ال ِّريا ُء وهو :ما يتس َّر ُب إلى أعما ِل القُلو ِب وخفايا ال ُّنفو ِس؛ وهذا لا ي َّطلِ ُع عليه إ َّلا ع َّلا ُم ال ُغيو ِب. قال\" :وعقوق الوالدين\" وهو قط ُع ال ِّصل ِة بينه وبينهما ،وع َد ُم ال ِب ِّر بهما ،وإيذا ُؤهما بأ ِّي نو ٍع كان ِمن أنوا ِع الأذى ،قلَّ أو ك ُث َرَ ،ن َهيا عنه أو لم ين َه َيا عنه ،أو مخال َف ُتهما فيما يأمرا ِن أو ين َهيا ِن ،بشر ِط انتفا ِء المعصي ِة في ال ُكلِّ. فهو من أكبر الكبائر ،فالله ذكره بعد الإشراك الذي هو أعظم ُجرم يمكن أن يقترفه الإنسان.
وكان متكئا فجلس غ ّير جلسته ليتحدث عن قضية في غاية الأهمية ،وليب ّين خطر هذا الأمر، وسبب الاهتمام به ،سهولة وقوع الناس فيه ،وتهاونهم به ،والحوامل عليه كثيرة من العداوة والحسد وغير ذلك؛ ولأن مفسدته متعدية إلى الغير. فقال\" :ألا وقول الزور ،وشهادة الزور\" فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت\" يعني شفقة عليه ﷺ. والزور هو أشد الكذب ،يقال له :زور ،فهذا من أعظم الذنوب ،وقول الزور أوسع من شهادة الزور. (شهاد ُة ال ُّزور) وهي ال َّشهادةُ الكاذب ُة المخالِف ُة للواقِ ِع ،وكان ْت ِمن أك َب ِر الكبائِ ِر؛ لأنها تج َم ُع بين ال َك ِذ ِب الذي هو من أق َب ِح ال ِخصا ِل وبين التس ُّب ِب في إضاع ِة ُحقو ِق المسلمين؛ ف َقائلُ ال ُّزو ِر لا يك ُت ُم الح َّق فحس ُب؛ بل يم َح ُقه ل ُيثبِ َت مكا َنه البا ِطلَ. فهذا الحديث يوجب للعاقل الحذر من هذه الأمور الأربعة: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقول الزور وشهادة الزور. وفي الحدي ِث :أ َّن ال ُّذنو َب تنق ِس ُم إلى كبائِ َر وصغائِ َر ،وأ َّن الكبا ِئ َر دركا ٌت بع ُضها أغ َل ُظ في ال َّتحري ِم ِمن بع ٍض. وفيهِ :ع َظ ُم ُحقو ِق الوالِ َدي ِن. وفيه :ال َّتغلي ُظ في تحري ِم َشهاد ِة ال ُّزو ِر.
الحديث السابع والثلاثون بعد الثلاثمائة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم َقالَ: ((ال َك َبائِ ُر :الإ ْش َرا ُك باللهَ ،و ُعقُو ُق ال َوالِ َد ْي ِنَ ،و َق ْتلُ ال َّن ْفسَ ،وال َي ِمي ُن ال َغ ُمو ُس)) رواه البخاري شرح الحديث أ َّولَ ال َكبائ ِر وأعظ َمها \" الإشراك بالله\" أ ْن ُتش ِر َك ِبالل ِه ع َّز وجلَّ ،أي :أ ْن َتع ُب َد معه إلها آ َخ َر إذا ُوجد حبط سائر العمل ،ولا ينفع صاحبه سعي وعمل وعبادة، { َو َل ْو أَ ْش َر ُكوا َل َحبِ َط َع ْن ُه ْم َما َكا ُنوا َي ْع َملُو َن} [الأنعام.]88: \" و ُعقو ُق الوالِدي ِن\" أيُ :عقو ُق الوالِدي ِن ثاني أكب ِر َذن ٍب َبع َد الإشرا ِك ِبالل ِه ع َّز وجلّ، وعقو ُق الوالِ َدي ِن :وهو قط ُع ال ِّصل ِة بينه وبينهما ،وع َد ُم البِ ِّر بهما، وإيذا ُؤهما بأ ِّي نو ٍع كان ِمن أنوا ِع الأذى ،قلَّ أو ك ُث َرَ ،ن َهيا عنه أو لم ين َه َيا عنه ،أو مخال َف ُتهما فيما يأمرا ِن أو ين َهيا ِن ،بشر ِط انتفا ِء المعصي ِة في ال ُكلِّ. ذكر الله البر بعد حقه بالعبادة ،وذكر العقوق بعد الإشراك ،فدل على أن أعظم الذنوب وأعظم التفريط بعد التفريط في حق الله تعالى التفريط في حق الوالدين ،وأن أعظم الإحسان بعد الإحسان مع الله تعالى الإحسان إلى الوالدين.
ثم قال \" :وق ْتلُ ال َّنف ِس\" أي النف ِس ا َّلتي ح َّر َم اللهُ ،وهي ال َّنف ُس المعصوم ُة بإسلا ٍم أو ِذ َّم ٍة أو عه ٍد أو أما ٍن إ َّلا بِالح ِّق ،كالقت ِل قِصاصا أو ح َّدا أو ِر َّدة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \":لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث :النفس بالنفس ،والثيب الزاني ،والتارك لدينه المفارق للجماعة\" \" وال َيمي ُن ال َغمو ُس\" أي :ا َّلذي َيحلِ ُف على َشي ٍء وه َو َيعل ُم أ َّنه كا ِذ ٌبَ ،وقيلَُ :س ِّم َي ب َذل َك؛ لأ َّنه َيغ ِم ُس صا ِح َبه في ال َّنا ِر ،وقيل لأنها تغمس الحالف في الإثم. وفي الحدي ِث :ال َّتحذي ُر ِم َن ال َكبائ ِر وال َّتخوي ُف ِم َن ال ُوقو ِع فيها.
الحديث الثامن والثلاثون بعد الثلاثمائة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َقالَ: (( ِم َن ال َك َبائِر َش ْت ُم ال َّر ُجل َوالِ َدي ِه)) قالواَ :يا َر ُسول اللهَ ،و َهلْ َي ْش ُت ُم ال َّر ُجلُ َوالِ َد ْي ِه؟! َقالََ (( :ن َع ْمَ ،ي ُس ُّب أَ َبا ال َّر ُج ِلَ ،ف َي ُس ُّب أ َباهَ ،و َي ُس ُّب أُ َّم ُهَ ،ف َي ُس ُّب أُ َّم ُه)) ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه وفي رواية(( :إ َّن ِم ْن أ ْك َب ِر ال َك َبا ِئ ِر أ ْن َي ْل َع َن ال َّر ُجلُ َوالِ َد ْي ِه!)) ،قِيلََ :يا َر ُسول الله! َك ْي َف َي ْل َع ُن ال َّر ُجلُ َوالِ َدي ِه؟! َقالََ (( :ي ُس ُّب أَ َبا ال َّر ُج ِلَ ،ف َي ُس ُّب أبا ُهَ ،و َي ُس ُّب أُ َّم ُهَ ،ف َي ُس ُّب أُ َّم ُه)) شرح الحديث ح ُّق الوالدي ِن على الول ِد كبي ٌر ج ّدا ،أقلُّه :احترا ُمهما وتعظي ُم ح ِّقهما بأ َّلا ُيسي َء إليهما ِمن قري ٍب أو بعي ٍد. وفي هذا الحدي ِث َيحكي عب ُد الل ِه ب ُن عمرو رضي الله عنهما أ َّن رسولَ الله ص َّلى الله عليه وسلَّم قال: ِ \" من الكبائر شتم الرجل والديه\" والشتم :هو السب والمواجهة بالقبيح من القول ،كل هذا يقال له شتم. قالوا :يا رسول الله ،وهل يشتم الرجل والديه؟ استفهام استبعاد أن يصدر ذلك من ذي دين أو عقل. قال \" :نعم ،يسب أبا الرجل ،فيسب أباه ،ويسب أمه ،فيسب أمه\".
وفي رواية \" :إ ّن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه\" ،قيل :يا رسول الله ،كيف يلعن الرجل والديه؟ قال\" :يسب أبا الرجل فيسب أباه ،ويسب أمه فيسب أمه\" بمعنى أنه يكون متسببا في سب والديه ،هذا هو المعنى ،وإذا كان متسببا فإنه يكون متحملا للوزر ،مع أنه ما باشر ذلك ،لعن الله من لعن والديه ،مع أن اللعن صدر من الطرف الآخر ،لكن ل ّما كان هو المتسبب بهذا لحقه اللعن. وكذلك قال الله -تبارك وتعالىَ { :و َلا َت ُس ُّبوا ا َلّ ِذي َن َي ْد ُعو َن ِم ْن ُدو ِن ال َّلهِ َف َي ُس ُّبوا ال َّلهَ َع ْدوا ِب َغ ْي ِر ِع ْل ٍم} [الأنعام ،]108:يعني لا تتسببوا إلى سب الله -تبارك وتعالى -بسب آلهة المشركين ،فإنكم إن فعلتم فإن هؤلاء لن يسكتوا ،وسيؤدي ذلك إلى سب الله تعالى ،فيكون الإنسان متسببا بهذا المنكر العظيم ،مع أن سب آلهة المشركين لا إشكال فيه. وهذا أصل كبير في سد الذرائع إلى الباطل والمنكر.
الحديث التاسع والثلاثون بعد الثلاثمائة عن أَبي محمد جبي ِر بن مطعم رضي الله عنه :أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َقالَ(( :لا َي ْد ُخلُ ال َج َّن َة َقا ِط ٌع)) َقالَ سفيان في روايتهَ :ي ْعنِيَ :قا ِطع َر ِحم ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه شرح الحديث صل ُة ال َّرح ِم ِمن ذوي ال ُقربى ِمن الأهم َّي ِة بمكا ٍن؛ لِما لها ِمن كبي ِر الأث ِر في نش ِر ال ُح ِّب والو ِّد وال َّتآل ِف في المجتم ِع الإسلام ِّي ،فضلا عن أ َّنها سب ٌب رئي ٌس في دخو ِل الج َّن ِة؛ لذلك أ َم َرنا اللهُ سبحانه وتعالى بالإحسا ِن إلى ذوي القُربى ،وهم الأرحا ُم الَّذين ي ِج ُب َو ْصلُهم ،وال ُّسؤالُ عنهم ،وع َّظم ِمن أم ِر قط ِع هذه ال ِّصلة ،ف َيحكي ُج َبي ُر ب ُن ُمط ِع ٍم رضي الله عنه أ َّنه س ِمع ال َّنب َّي ص َّلى الله عليه وس َلّم يقولُ: \" لا يد ُخلُ الج َّن َة قا ِط ٌع\" ومثل هذا يدل على أنه قد فعل كبيرة من كبائر الذنوب ،والأدلة التي تدل على أن قطيعة الرحم من كبائر الذنوب كثيرة ج ّدا ،وهذا من أوضحها وأجلاها. فمهما كانت صلاة الإنسان ،وقيامه بالليل وصيامه بالنهار ،وقراءته للقرآن إذا كان قاطعا للرحم فإن ذلك يكون مانعا يمنعه من دخول الجنة. وليس المقصود هنا أنه لا يدخلها أبدا ،وإنما المقصود أنه مستحق للعذاب ،أي يط َّهر في كير جهنم بقدر جنايته وتقصيره في هذا الواجب. وفي الحدي ِث :وعيد شديد لمن قطع رحمه. وفيه :عظم إثم قاطع الرحم.
الحديث الأربعون بعد الثلاثمائة عن أَبي عيسى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم َقالَ(( :إ َّن اللهَ َت َعالَى َح َّر َم َعلَ ْي ُك ْمُ :ع ُقو َق الأ َّم َها ِتَ ،و َم ْنعا َو َها ِتَ ،و َو ْأد ال َب َنا ِت ،و َك ِر َه َل ُك ْم :قِيلَ َوقالََ ،و َك ْث َر َة ال ُّس َؤا ِلَ ،وإ َضا َع َة ال َما ِل)) ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه. شرح الحديث (( إن الله تعالى حرم عليكم عقوق الأمهات ،ومنعا وهات ،ووأد البنات)) الشاهد من هذا الحديث قوله(( :عقوق الأمهات)) وهو قطع ما يجب لهن من البر ،والعقوق محرم سواء كان ذلك متوجها إلى الأم ،أو متوجها إلى الأب ،لكن لربما خصت الأم؛ لعظم منزلتها ،فنحن مأمورون بالإحسان إليها بثلاثة أضعاف الإحسان إلى الأب ،فيمكن أن يكون ذكرها هنا -خصها بالذكر -لهذا المعنى ،وإلا فإن الله ح ّرم عقوق الآباء أيضا. (( ومنعا وهات)) يعني أن يكون الإنسان جموعا منوعا؛ يمنع ما يجب عليه بذله من المال ،ويطلب ما ليس له، فها ِت :يعني أعطوني المال ،ومنعا :أي يمنع ما يجب عليه ،فإن هذا أيضا مما حرمه الله عز وجل؛ لأنه لا يجوز للإنسان أن يمنع ما يجب عليه بذله من الله ،ولا يجوز أن يسأل ما لا يستحق ،فكلاهما حرام. أما وأد البنات فهو دفنهن أحياء ،وذلك لأنهم في الجاهلية كانوا يكرهون البنات ،فكانوا يأتون بالبنت فيحفرون لها حفرة ويدفنونها
وهي حية .قال الله تعالىَ ( :وإِ َذا ا ْل َم ْو ُؤو َد ُة ُسئِلَ ْت) [التكوير،]9 ،8 : فحرم الله ذلك ،وهو لاشك من أكبر الكبائر ،ويقال :إن أول من وأد البنات رجل من الجاهلية يقال له :قيس بن عاصم ،أغار عليهم بعض العرب فأخذوا ابنته فاتخذها رئيس تلك القبيلة اتخذها سرية عنده ،أمة ،فلما حصل بينهم صلح خ ّيرها ،خ ّير البنت ،ترجع لأهلها أو تبقى عنده ،فاختارته ،ما اختارت أهلها ،فآلى أنه لا يولد له بنت إلا دفنها ،فصار يدفن البنات ،فاقتدى به بعض العرب وليس كلهم. (( وكره لكم قيل وقال ،وكثرة السؤال ،وإضاعة المال)) كره وحرم ليس بينهما فرق؛ لأن الكراهة في لسان الشارع معناها التحريم، ولكن هذا والله أعلم من باب اختلاف التعبير فقط. (( كره لكم قيل وقال)) يعني نقل الكلام ،وكثرة ما يتكلم الإنسان ويثرثر به ،وأن يكون ليس له هم إلا الكلام في الناس ،قالوا كذا وقيل كذا ،وال َحديث ب ُكلّ َما َيس َمع ُهِ ،م َّما لا َي ْع َل ُم ِص َّح َت ُهَ ،ولا َي ُظ ُّن َهاَ ،و َك َفى بال َم ْر ِء ك ِذبا أ ْن ُي َح ّد َث ب ُكلِّ َما َس ِم َع. والإنسان المؤمن هو الذي لا يقول إلا خيرا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليقل خيرا أو ليصمت)). \" وكثرة السؤال\" يحتمل أن يكون المراد السؤال عن العلم ،ويحتمل أن يكون المراد السؤال عن المال. أما الأول :وهو كثرة السؤال عن العلم فهذا إنما يكره إذا كان الإنسان لا يريد إلا إعنات المسؤول ،والإشقاق عليه ،وإدخال السآمة والملل عيه ،أما إذا كان يريد العلم فإنه لا ينهى عن ذلك ،ولا يكره ذلك ،وقد كان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كثير السؤال ،فقد
قيل له :بم أدركت العلم؟ قال :أدركت العلم بلسان سؤول ،وقلب عقول ،وبدن غير ملول. وأما الثاني :وهو سؤال المال فإن كثرة السؤال قد تلحق الإنسان بأصحاب الشح والطمع ،ولهذا لا يجوز للإنسان سؤال المال إلا عند الحاجة. وأما \" إضاعة المال\" فهو بذله في غير فائدة لا دينية ولا دنيوية؛ لأن هذا أيضا إضاعة له لأن الله تعالى قالَ ( :ولا ُت ْؤ ُتوا ال ُّس َف َها َء أَ ْم َوا َل ُك ُم ا َّل ِتي َج َعلَ ال َّلهُ َل ُك ْم قِ َياما) [النساء ،]5 :فالمال قيام للناس؛ تقوم به مصالح دينهم ودنياهم ،فإذا بذله الإنسان في غير ذلك فهذا إضاعة له ،وأقبح من ذلك أن يبذله في محرم ،فيرتكب في هذا محظورين: المحظور الأول :إضاعة المال. والمحظور الثاني :ارتكاب المحرم. فالأموال يجب أن يحافظ عليها الإنسان ،وألا يضعها وألا يبذلها إلا فيما فيه مصلحة له دينية أو دنيوية.
المقدمة باب فضل بر أصدقاء الأب والأم والأقارب والزوجة وسائر من يندب إكرامه الحديث الحادي والأربعون بعد الثلاثمائة عن ابن عمر رضي الله عنهما :أن النبي صلى الله عليه وسلم َقالَ: \" إ َّن أب َّر الب ِّر أن يصلَ ال َّرجلُ أَ ْهلَ ُو ِّد أبي ِه\" (صحيح الترمذي) شرح الحديث \"إن أبر البر أن يصل الرجل أهل و ّد أبيه\" أي :أن يصل ِح ّبه ،أي :من يحبه ،من يودهم هذا الأب ،فهذا هو أبر البر و\"أبر\" أفعل تفضيل وهي تدل على أن البر يتفاوت ولكن أعلى درجات البر أن يحصل مثل هذا الصنيع بعد وفاة الوالد الإنسان يكون با ّرا إذا قام بحقوق أبيه في حياته ،ولكن ذلك قد ينقطع بعد موته ،فإذا امتد ذلك إلى أصحابه والتواصل معهم ،والإحسان إليهم ،وتفقدهم وما أشبه ذلك فهذا يدل على ب ٍر عظيم ،والناس كما يتفاوتون في خوفهم من الله ،ورجائهم له ،ومحبتهم وتوكلهم وما أشبه ذلك ،هكذا هم يتفاوتون في هذا البر
الحديث الثاني والأربعون بعد الثلاثمائة عن عبد الله بن دينار ،عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما :أ َّن َر ُجلا ِم َن الأ ْع َرا ِب َلقِ َي ُه ب َطري ِق َم َّك َةَ ،ف َس َّل َم َع َلي ِه َعب ُد الله ْب ُن ُع َم َرَ ،و َح َملَ ُه َعلَى ِح َما ٍر َكا َن َي ْر َك ُب ُهَ ،وأ ْع َطا ُه ِع َما َمة َكا َن ْت َع َلى َرأ ِس ِهَ ،قالَ اب ُن ِدي َنارَ :فقُ ْل َنا َل ُه :أ ْصلَ َح َك اللهُ ،إ َّن ُه ُم الأع َرا ُب َو ُه ْم َي ْر َض ْو َن بال َيسيرَ ،ف َقالَ عبد الله بن عمر :إن أَ َبا َه َذا َكا َن ُو ّدا لِ ُع َم َر ب ِن الخطاب رضي الله عنه وإ ِّني َس ِمع ُت َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (( :إ َّن أب َّر البِ ِّر ِص َل ُة ال َّر ُج ِل أ ْهلَ ُو ِّد أ ِبي ِه)) وفي رواية عن ابن دينار ،عن ابن عمر :أ َّن ُه َكا َن إِ َذا َخ َر َج إِلَى َم ّك َة َكا َن لَ ُه ِح َما ٌر َي َت َر َّو ُح َعلَي ِه إِ َذا َملَّ ُر ُكو َب ال َّرا ِحل ِةَ ،و ِع َما َم ٌة َي ُش ُّد ِب َها َرأ َس ُهَ ،فب ْي َنا ُه َو َيوما َعلَى ذلِ َك ال ِح َما ِر إِ ْذ َم َّر بِ ِه أ ْعرابيَ ،ف َقالَ :أ َل ْس َت ُفلاَ َن ْب َن فُلاَن؟ َقالََ :ب َلىَ .فأ ْع َطا ُه ال ِح َما َرَ ،ف َقالَ :ا ْر َك ْب َه َذاَ ،وأ ْع َطا ُه ال ِع َما َم َة َوقالَ :ا ْش ُد ْد بِ َها َرأ َس َكَ ،ف َقالَ َل ُه بع ُض أ ْص َحا ِب ِهَ :غ َف َر الله لَ َك أ ْع َط ْي َت َه َذا الأ ْع َراب َّي ِح َمارا ُك ْن َت َت َر َّو ُح َعلَي ِه ،و ِع َمامة ُك ْن َت َت ُش ُّد بِ َها َرأ َس َك؟ َف َقالَ :إ ِّني َس ِمع ُت َر ُسول الله صلى الله عليه وسلمَ ،يقُولُ: ))إ َّن ِم ْن أ َب ِّر ال ِب ِّر أ ْن َي ِصلَ ال َّر ُجلُ أ ْهلَ ُو ِّد أبي ِه َب ْع َد أ ْن ُيولِّ َي(( َوإ َّن أ َبا ُه َكا َن َصديقا ل ُع َم َر -رضي الله عنه. (ر َوى ه ِذ ِه الروايا ِت ُكلَّ َها مسلم) شرح الحديث عن عبد الله بن دينار -وهو مولى لعبد الله بن عمر -عن عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما -أن رجلا من الأعراب لقيه بطريق مكة ،يعني: لقي عبد الله بن عمر بطريق مكة
والأعراب :هم من سكن البادية ،يقال لهم :أعراب فسلم عليه عبد الله بن عمر ،وحمله على حمار كان يركبه يعني :ابن عمر رضي الله عنهما كان يركب حمارا فحمل هذا الأعرابي عليه ،يعني: دفعه إليه ليركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه ،أي :على رأس ابن عمر ،خلع عمامته وأعطاها لهذا الأعرابي قال ابن دينار :فقلنا له :أصلحك الله ،إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير يعني :ما كان يحتاج أن تعطيه حمارك ،وأن تعطيه عمامتك ،كان بالإمكان أن تعطيه شيئا من طعام أو نحو ذلك ،ويكفيه ذلك ،ليس هذا من الناس الذين لهم شأن ومنزلة ومكانة فيحتاج أن يعطى العطاء الجزيل ،لو أعطيته شيئا يسيرا فرح به وكفاه فقال عبد الله بن عمر-رضي الله تعالى عنهما :إن أبا هذا كان ُو ّدا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الولد لم يكن ُو ّدا لعمر بن الخطاب ،أبوه كان ُو ّدا لعمر بن الخطاب ،عمر لربما ما رأى هذا الولد ولا عرفه ،فهذا من عظيم بر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بأبيه وذلك أنه لم يكت ِف ببر صاحبه ،بل ب َّر ابنه هذا البر العظيم ،فأعطاه دابته وعمامته ،فكيف لو لقي الأب؟! وهذا يدل على أن الإنسان إذا أراد أن يبر الوالدين يبر أصدقاء الوالدين ويبر أيضا من يمت لهؤلاء الأصدقاء بصلة ،كل ذلك من أجل أبيه ،يعني يبر أولاد هؤلاء ويكرمهم إذا رآهم ،هؤلاء والدهم صديق لوالدي. فالشاهد أنه هنا قال :وإني سمعت رسول الله يقول\" :إن أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه\" ،وهو الحديث السابق.
وفي رواية عن ابن دينار عن ابن عمر أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتر ّوح عليه إذا ملّ ركوب الراحلة يتر ّوح عليه بمعنى :أنه إذا تعب من ركوب البعير ،فإنه ينزل ويركب هذا الحمار من أجل التغيير ،وليجدد نشاطه ،فكان يتروح على هذا الحمار إذا ملّ ركوب الراحلة وكانت له عمامة يشد بها رأسه في السفر ،فبينا هو يوما على ذلك الحمار -يعني :يتر ّوح ،إذ م ّر به أعرابي ،فقال :ألس َت فلان بن فلان؟ فقال :بلى ،فأعطاه الحمار ،فقال :اركب هذا ،وأعطاه العمامة ،وقال: اشدد بها رأسك فقال له بعض أصحابه :غفر الله لك ،أعطيت هذا الأعرابي حمارا كنت تر ّوح عليه ،وعمامة كنت تشد بها رأسك ،فقال :إني سمعت رسول الله يقول \" :إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي\" أي :بعد أن يموت ،فهذا من البر الذي يبقى ،وهذا لا يعني أن الإنسان في حياة أبيه لا يبر أصحابه ،لا ،وإنما يكون ذلك أيضا من البر ،فإنه إذا وصلهم وأحسن إليهم في حياة أبيه فإن هذا من بر أبيه ،وهو أطيب لقلبه يقول :وإن أباه كان صديقا لعمر رضي الله عنه ،أي أن ابا الرجل كان صديقا لعمر رضي الله عنه ،فلذا وصلته وفي الحدي ِث :أ َّن ِمن ُحس ِن ب ِّر الوال َد ْي ِن ِصل َة ُو ِّد ِهما بعد مما ِتهما. وفيه :دليلٌ على امتثا ِل ال ِّصحاب ِة ،ور ْغب ِتهم في الخي ِر َومسارع ِتهم إليه. وفيهَ :سع ُة رحم ِة اللهِ ع َّز وجلَّ ،حي ُث إ َّن البِ َّر با ُبه واس ٌع لا يخت ُّص بِالوال َد ْي ِن فقط؛ بل ح َّتى أصدقا ِئهما إذا أحس ْن َت إليهم؛ َفإ َّنما َب ِر ْر َت َوال َد ْي َك َفتثا ُب ثوا َب البا ِّر ِبوال َد ْي ِه .وفيه :الح ُّث على إكرا ِم أصدقا ِء ا ْل َوال َد ْي ِن
الحديث الثالث والأربعون بعد الثلاثمائة عن أَبي أُ َسيد -بضم الهمزة وفتح السين -مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه َقالََ :ب ْي َنا َن ْح ُن ُجلُو ٌس ِع ْن َد َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم إذ َجا َء ُه َر ُجلٌ ِم ْن َبنِي َسلَ َم َةَ ،ف َقالََ :يا رسولَ الل ِه! َهلْ َبقِ َي ِم ْن ب ِّر أَ َب َو َّي َشي ٌء أب ُّر ُهما ِب ِه َب ْع َد َمو ِته َما؟ َف َقالََ )) :ن َع ْم ،ال َّصلاةُ َع َل ْي ِه َما ،والا ْست ْغ َفا ُر لَ ُه َماَ ،وإ ْن َفا ُذ َع ْه ِد ِه َما ِم ْن َب ْع ِد ِهماَ ،و ِصلَ ُة ال َّر ِح ِم الَّتي لا ُتو َصلُ إلا ِب ِه َما، َوإكرا ُم َص ِديقه َما)) ( رواه أَ ُبو داود) شرح الحديث البر في الحياة معلوم ،وذلك بالإحسان إلى الوالدين بالمال وبالمعاشرة، وبالزيارة ،وما أشبه ذلك من الأمور التي يحصل بها البر ،ولكن هل يكون البر أيضا متصلا بعد الموت؟ فالنبي ب ّين وجوها من البر تكون بعد الموت ،قال\" :الصلاة عليهما\" والمقصود بالصلاة عليهما يعني الدعاء لهما فإن الصلاة أصلا معناها في كلام العرب :الدعاء ،وقد جاء ذلك في القرآن بقوله -تبارك وتعالىُ { :خ ْذ ِم ْن أَ ْم َوالِ ِه ْم َص َد َقة ُت َط ِّه ُر ُه ْم َو ُت َز ِّكي ِهم بِ َها َو َصلِّ َعلَ ْي ِه ْم} [التوبة ،]103 :أي :ادع لهم ،فكان الرجل يأتي للنبي بصدقته ،يعني :بزكاته فيدعو له وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتته الصدقة قال :اللهم صل على آل فلان ،كما قال عبد الله بن أبي أوفى أنه أتى بصدقة قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال(( :اللهم صل على آل أبي أوفى)) ،فدعا لهم بالصلاة عليهم. فقول النبي صلى عليه وسلم هنا(( :الصلاة عليهما)) يعني الدعاء لهما، فالصلاة إذا ُعديت بـ\"على\" فإنها تكون بمعنى الدعاء ،ومنه صلاة
الجنازة ،فهي صلاة يقصد بها الدعاء ،فالشاهد هنا قال :الصلاة عليهما، فهذا من البر ،أن لا ينسى أبويه ،فيدعو لهما ((الاستغفار لهما)) وهو أن يستغفر الإنسان لوالديه ،يقول :اللهم اغفر لي ولوالدي وما أشبه ذلك الفرق بين الصلاة والاستغفار :الصلاة :هي الدعاء ،كأن تقول :اللهم ارفع منازله في الجنة ،اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة ،اللهم تجاوز عنه ...وما أشبه ذلك .والاستغفار :هو نوع من الدعاء خاص، وهو بمعنى طلب المغفرة قال\" :وإنفاذ عهدهما من بعدها\" يعني إنفاذ وصيتها ،إنفاذ العهد :أ ّي عهد كان لأبويه فإنه يحقق ذلك وينفذه وينجزه لمن كان له هذا العهد وهذا من البر ،إنفاذ عهدهما من بعدهما \"وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما\" اي صلة الأقارب فإن هذا من برهما ،أن يكون الإنسان واصلا لرحمه ،فالأم يكون برها بصلة أخواتها، وقراباتها ،وأهلها ،والوالد كذلك أيضا \"وإكرام صديقهم\" ،وهذا أبلغ في الصلة؛ مثل حديث ابن عمر رضي الله عنه السابق ،يعني إن كان له صديق فأكرمه ،فإن هذا من بره. فهذه خمسة أشياء :الصلاة عليهما ،والاستغفار لهما ،وإكرام صديقهما، وإنفاذ عهدهما ،وصلة الرحم التي لا صلة لك إلا بهما ،هذه من بر الوالدين .وفي الحدي ِث :الحث على صلة الأرحام وإكرام أصدقاء الوالدين وتنفيذ وصيتهما.
الحديث الرابع والأربعون بعد الثلاثمائة عن عائشة رضي الله عنها َقا َل ْتَ :ما ِغ ْر ُت َع َلى أ َح ٍد ِم ْن ِن َسا ِء ال َّنب ِّي صلى الله عليه وسلم َما ِغ ْر ُت َع َلى َخ ِدي َجة رضي الله عنهاَ ،و َما َرأ ْي ُت َها َق ُّط، َولَ ِك ْن َكا َن ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم ُي ْكثِ ُر ِذ ْك َر َهاَ ،و ُر َّب َما َذ َب َح ال َّشا َةُ ،ث َّم ي َق ِّط ُع َها أ ْع َضاءُ ،ث َّم َي ْبع ُث َها في َص َدائِ ِق َخدي َج َةَ ،ف ُر َّب َما قُ ْل ُت لَ ُهَ :كأ ْن َل ْم َي ُك ْن في ال ُّد ْن َيا امرأة إلا َخدي َج َة !َ .ف َي ُقولُ(( :إ َّن َها َكا َن ْت َو َكا َن ْت َو َكا َن لي ِم ْن َها َو َل ٌد)) ( ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه) وفي رواية :وإ ْن َكا َن لَ َي ْذ َب ُح ال َّشا َةَ ،ف ُي ْه ِدي في َخلاَئِلِ َها ِم ْن َها َما َي َس ُع ُه ّن وفي روايةَ :كا َن إِ َذا ذبح الشاة ،يقولُ(( :أَ ْر ِسلُوا ِب َها إِ َلى أ ْص ِد َقا ِء َخدي َج َة)) وفي روايةَ :قا َلت :ا ْس َتأ َذن ْت َها َل ُة بِ ْن ُت ُخ َو ْيلِد أُ ْخ ُت َخ ِدي َج َة َع َلى َر ُسول الله صلى الله عليه وسلمَ ،فع َر َف ا ْستِئ َذا َن َخدي َج َةَ ،فار َتاع لِ َذلِ َكَ ،ف َقالَ(( :ال ّلَ ُه َّم َهال ُة ِب ْن ُت ُخ َو ْيلِ ٍد)) شرح الحديث عن عائشة رضي الله عنها ،أنها قالت :ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة رضي الله عنها وكان عليه الصلاة والسلام يحب خديجة رضي الله عنها ؛ لأنها أم أولاده ـ إلا إبراهيم فمن مارية ـ ولأنها ساندته وساعدته في أول البعثة ،وواسته بمالها ،فلذلك كان لا ينساها.
فكان في المدينة إذا ذبح شاة أخذ من لحمها وأهداه إلى صديقات خديجة رضي الله عنها ،ولم تصبر عائشة رضي الله عنها على ذلك ،قالت :يا رسول الله ،كأن لم يكن في الدنيا إلا خديجة ،فكان يقول عليه الصلاة والسلام (( :إنها كانت وكانت)) يعني كانت تفعل كذا ،وتفعل كذا ،وذكر من خصالها رضي الله عنها. ((وكان لي منها ولد)) حيث كل أولاده كلهم منها إلا ولدا واحدا هو إبراهيم رضي الله عنه ،فإنه كان من مارية القبطية التي أهداها إليه ملك القبط ،فأولاده كلهم من خديجة فلذلك قال(( :إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد)) والشاهد من هذا الحديث :أن إكرام صديق الإنسان بعد موته يعتبر إكراما له ،وبرا به ،سواء كان من الوالدين ،أو من الأزواج ،أو من الأصدقاء، أو من الأقارب ،فإن إكرام صديق الميت إكراما له. وهذا الحديث يدل على أن مما يدعو إليه الإسلام ،ويحث أتباعه عليه أن يبر الإنسان أصحاب وأصدقاء وقرابة من يحبه ،وهذا الحديث في صديقات الزوجة ،وإذا كان هذا ُيفعل مع صديقات الزوجة فإن ما يطلب مع قرابتها كأبيها وأمها وإخوانها وأخواتها لا شك أنه أهم وأولى من جهة البر والإحسان والصلة. أيضا هذا الحديث يدل على معنى ،وهو حسن العهد ،فخديجة -رضي الله تعالى عنها -زوجة وتوفيت ،وتزوج النبي بعدها بنساء كثير ،إلا أنه لا يزال يحفظ لها الود والذكرى الطيبة ،ويذكرها بخير ،والنبي قد صح عنه: \" أن حسن العهد من الإيمان\"
الحديث الخامس والأربعون بعد الثلاثمائة عن أنس بن مالك رضي الله عنه َقالَ :خرجت َم َع جرير بن عبد الله ال َب َجل ّي رضي الله عنه في َس َف ٍرَ ،ف َكا َن َي ْخ ُد ُمنيَ ،ف ُق ْل ُت لَ ُه :لا َت ْف َعلَ ،ف َقالَ: إِ ِّني َق ْد َرأ ْي ُت الأ ْن َصا َر َت ْص َن ُع برسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا آ َل ْي ُت أ ْن لا أ ْص َح َب أ َحدا ِم ْن ُه ْم إلا َخ َد ْم ُت ُه. ( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه) شرح الحديث أنس بن مالك رضي الله من صغار الصحابة ،ولما هاجر النبي كان قد بلغ العاشرة من عمره ،فأتت به أمه النبي وقالت :يا رسول الله ،هذا أنيس يخدمك وهو من الأنصار ،وجرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أكبر في السن من أنس بن مالك -رضي الله تعالى عن الجميع. فهنا يقول أنس بن مالك رضي الله عنه :فكان يخدمني يعني :يقوم بخدمتي وهو أكبر مني كان جرير أس َّن من أنس رضي الله عنهما ،وجرير رضي الله عنه سيد بجيلة ،فكان يخدم أنسا إكراما للنبي صلى الله عليه وسلم ،وإحسانا للمنتسب إلى خدمته فقلت له :لا تفعل ،فعلل ذلك جرير البجلي رضي الله عنه أنه قام بخدمته؛ لأنه رأى الأنصار يفعلون برسول الله شيئا
فآلي أي :حلف ،أن لا يرى أحدا منهم إلا خدمه ،أو أن لا يصحبه إلا خدمه ،بمعنى أنه رأى من الأنصار فعلا عجيبا من الحفاوة برسول الله،وتعظيمه وإكرامه والقيام على شئونه فحينما رأى منهم هذه الحفاوة العظيمة أكرمهم وأعظمهم ،وصار الواحد في نفسه بهذه المثابة ،أنه حتى لو صحب صغارهم -صغار الأنصار -أن يقوم بخدمته ،إكراما لمن؟ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم. فهذا من الأحاديث التي يستشهد بها على هذا المعنى الذي أورده المصنف ،أو عقد له المصنف -رحمه الله -هذا الباب ،أن من أراد إكرام أحد يحبه فإنه يكرم أولئك الذين يرتبط بهم بقرابة ،أو علاقة وصحبة ومحبة
المقدمة باب إكرام أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان فضلهم الحديث السادس والأربعون بعد الثلاثمائة عن يزيد بن َح َّيا َنَ ،قالَ :ا ْن َط َل ْق ُت أ َنا و ُح َص ْي ُن ْب ُن َس ْب َرةَ ،و َع ْم ُرو بن ُم ْسلِم إِ َلى َز ْيد ْب ِن أر َق َم رضي الله عنه َفلَ َّما َجل ْس َنا إِلَ ْي ِه َقالَ َل ُه ُح َص ْين :لَ َق ْد لقِي َت َيا َز ْي ُد َخ ْيرا َكثِيراَ ،رأ ْي َت َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم ،وسمع َت حدي َث ُه، و َغز ْو َت َم َع ُهَ ،و َص َّل ْي َت َخ ْل َف ُهَ :ل َق ْد لَقِي َت َيا َز ْي ُد َخ ْيرا َكثيراَ ،ح ِّد ْث َنا َيا َز ْي ُد َما َس ِم ْع َت ِم ْن رسو ِل الله صلى الله عليه وسلم َقالََ :يا ا ْب َن أ ِخيَ ،واللهِ لقد َك ِب َر ْت ِس ِّنيَ ،و َق ُد َم َعه ِديَ ،و َنسي ُت َب ْع َض ا َّل ِذي ُك ْن ُت أ ِعي ِم ْن رسو ِل الله صلى الله عليه وسلم ،فما َح َّد ْث ُت ُك ْمَ ،فا ْق َبلُوا ،و َما لا َفلا ُت َكلِّ ُفوني ِهُ .ث َّم َقالَ: قام َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم َيوما فينا َخ ِطيبا ب َماء ُي ْد َعى ُخ ّما َب ْي َن َم َّك َة َوال َم ِدي َن ِةَ ،ف َح ِم َد اللهَ ،وأ ْث َنى َع َلي ِهَ ،ووع َظ َو َذ َّك َرُ ،ث َّم َقالَ(( :أ َّما َبع ُد ،ألا أَ ُّي َها ال َّنا ُسَ ،فإ َّن َما أ َنا َب َش ٌر ُيو ِش َك أ ْن َيأتِي رسولُ ر ِّبي َفأُ ِجي َبَ ،وأ َنا تارك فيكم َث َق َل ْي ِن :أ َّولُ ُه َما ِك َتا ُب الل ِه ،فِي ِه ال ُه َدى َوال ُّنو ُرَ ،ف ُخ ُذوا ِبكتا ِب الله، َوا ْس َت ْم ِس ُكوا بِ ِه))َ ،ف َح َّث َعلَى ِك َتا ِب اللهَ ،و َر َّغ َب فِي ِهُ ،ث َّم َقالََ (( :وأ ْهلُ َب ْي ِتي أُذ ِّك ُر ُك ُم الله في أه ِل َب ْيتي ،أذك ُر ُك ُم الله في أهل بيتي)) َف َقالَ َل ُه ُح َص ْي ٌنَ :و َم ْن أ ْهلُ َبيت ِه َيا َز ْي ُد ،أَ َل ْي َس ِن َسا ُؤ ُه ِم ْن أ ْه ِل َب ْي ِت ِه؟ َقالَ :نِ َسا ُؤ ُه ِم ْن أ ْه ِل َبيت ِه، َول ِك ْن أ ْهلُ َبي ِت ِه َم ْن ُح ِر َم ال َّص َد َق َة َبع َدهَُ ،قالََ :و َم ْن ُه ْم؟ َقالَُ :ه ْم آلُ َعلِ ٍّي َوآلُ عقيل َوآلُ َجع َف َر وآلُ َع َّبا ٍسَ .قالَُ :كلُّ هؤلاء ُح ِر َم ال َّص َد َق َة؟ َقالََ :ن َع ْم (رواه مسلم ( وفي رواية(( :ألا َوإ ّني َتا ِر ٌك فِي ُك ْم َث َقل ْي ِن :أ َح ُد ُهما ِك َتا ُب الله َو ُه َو َح ْبلُ الله، َم ِن ا َّت َب َع ُه َكا َن َع َلى ال ُه َدىَ ،و َم ْن َت َر َك ُه َكا َن َعلَى َضلالَة))
شرح الحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه من صغار الصحابة ،وغزا مع النبي سبع عشرة غزوة ،و َروى عنه نحوا من سبعين حديثا ،وهو من الأنصار من الخزرج وهؤلاء من التابعين كانوا يغبطون الصحابة على صحبتهم لرسول الله ، ورؤيتهم له فهؤلاء من التابعين كانوا يقولون له :لقد لقي َت يا زيد خيرا كثيرا ،ولا شك أن من لقي النبي وآمن به فقد لقي خيرا كثيرا ،يقولون :رأيت رسول الله ،وهذا شرف تحصل به الصحبة؛ و شرف الصحبة لا يدانيه شرف، مهما عمل العاملون بعد الصحابة فإنهم لا يبلغون هذا الشرف رأي َت رسول الله وسمع َت حديثه ،وهذا فوق مجرد الرؤية أو المقابلة ،قد يلقاه الإنسان ولا يسمع حديثه. قال :وغزو َت معه ،وليست غزوة واحدة ،وإنما سبع عشرة غزوة ،ولا شك أن غزوة واحدة لا يعدلها شيء من نفقات الدنيا لو أنفقناها اليوم يقول :لقد لقي َت يا زيد خيرا كثيرا ،حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله ،قال :يا ابن أخي -وهذه كلمة يقولها الإنسان تلطفا -لقد كبرت ،أو كبرت سني ،وقدم عهدي ،ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله تجاوز الثمانين ،وكان الصحابة يتحرجون من التحديث عن رسول الله ،بعضهم كان إذا أراد أن يحدث يصفر وجهه ،وإذا ذكر الحديث قال :أو كما قال النبي ،أو نحو هذا ،من شدة التحرز ،وكان عمر رضي الله عنه ،يقول للصحابة :أقلوا الحديث عن رسول الله وأنا شريككم ،وكان يعاتب على كثرة التحديث عن رسول الله
يقول رضي الله عنه :فما حدثتكم فاقبلوا وما لا فلا ُتكلفونيه. ثم قال :قام رسول الله خطيبا بماء يدعى ُخ ّما ،و ُخم هو :عبارة عن ماء يخرج من عين يصل إلى مكان ُسمي بهذا الماء ،فهذا الماء يقال لهُ :خم، وهو قريب من ال ُجحفة ،بين مكة والمدينة ،يبعد عن الجحفة نحو ثلاثة أميال قال\" :أما بعد\" ،وهذه كلمة تقال لفصل الكلام \"أما بعد :ألا أيها الناس\" ،وألا هذه للتنبيه \"فإنما أنا بش ٌر يوشك أن يأتي رسولُ ربي فأجيب\" يوشك يعني :يقرب ،يعني الأجل \"وأنا تارك فيكم َث َقلين\" َ ،ث َقلين مفرده َث َقل ويقال للشيء العظيم ،وال َّث َقلين هنا قال: \"أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ،فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به\" هذا ال َّث َقل الأول ،والله تعالى جعل هذا القرآن هدى للناس ( إِ َّن َه َذا ا ْل ُق ْرآ َن يِ ْه ِدي لِ َّل ِتي ِه َي أَ ْق َو ُم) [الإسراء]9: قال\" :واستمسكوا به\" ،فحث على كتاب الله ور ّغب فيه ثم قال \":وأهل بيتي \" ،أهل بيت النبي هم أعلم الناس بأحواله ،يخالطونه في داخل بيته ،ويعرفون منه من الأمور الخاصة ما لا يعرفه عامة الناس \"أُ َذ ِّكركم الله في أهل بيتي\" فقال له حصين ،هذا التابعي يسأل زيد بن أرقم ر ضي الله عنه قال :ومن أهل بيته يا زيد؟ ،أليس نساؤه من أهل بيته؟
و أهل البيت يطلق بإطلاقات متعددة ،إطلاق ضيق ج ّدا وهم أصحاب الكساء ،لما النبي جاء بكساء أسود من شعر ،فجاءت فاطمة فأدخلها فيه، ثم جاء علي فأدخله فيه ،ثم جاء الحسن والحسين فأدخلهما فيه ،فقال: هؤلاء أهل بيتي قرأ الآية التي من سورة الأحزاب (إِ َّن َما ُي ِري ُد ال َّلهُ لِ ُي ْذ ِه َب َعن ُك ُم ال ِّر ْج َس أَ ْهلَ ا ْل َب ْي ِت َو ُي َط ِّه َر ُك ْم َت ْط ِهيرا) [الأحزاب .]4[]33:فهذا أضيق إطلاق .الإطلاق الذي أوسع منه يدخل معه النساء ،والآيات التي في الأحزاب كلها في نسائه ،فهن من أهل بيته والإطلاق الذي هو أوسع من هذا بنو هاشم وبنو عبد المطلب ،كذلك ما ذكره أهل العلم من أهل البيوت الأربعة آل عباس وآل جعفر وآل علي وآل عقيل ،هؤلاء الأربعة الذين منعوا من الزكاة. الشاهد أنه هنا قال :أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال :نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من ُحرم الصدقة بعده .هو ما أنكر هنا أن نساءه من أهل بيته ،لكن قال :المقصود بأهل البيت -يعني :بإطلاق أوسع -من ُحرم الصدقة بعده ،وليس أزواج النبي كذلك. قال :ومن هم؟ قال :آل علي ،وآل عقيل ،وآل جعفر ،وآل عباس ،قال :كل هؤلاء ُحرم الصدقة؟ ،قال :نعم. وفي رواية\" :ألا وإني تارك فيكم َث َقلين أحدهما كتاب الله وهو حبل الله\" الحبل :هو الشيء الذي يتوصل به إلى غيره ،فحبل الله هو الذي يتوصل به إلى جنته ومرضاته ودار كرامته ،قال :وهو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة وفي الحدي ِث :الحث على التمسك بالقرآن والتحريض على العمل به والاعتصام به.وفيه :تأكيد الوصاية بأهل البيت ،والعناية بشأنهم وإكرامهم.
الحديث السابع والأربعون بعد الثلاثمائة عن ابن عمر رضي الله عنهما ،عن أَبي بكر الصديق رضي الله عنه َمو ُقوفا َعلَي ِه -أ َّن ُه َقالَ(( :ا ْر َق ُبوا ُم َحمدا صلى الله عليه وسلم في أ ْه ِل َب ْي ِت ِه)) (رواه البخاري) شرح الحديث حفِ َظ اللهُ ُسبحا َنه وتعالى َمقا َم نب ِّيه وأعلى ِمن شأ ِنه؛ فهو ال ُمب ِلّ ُغ عنه آ ِخ َر ِرسالاتِه ،فهو آ ِخ ُر الأنبيا ِء وس ِّي ُد المرسلين ،فأَ َم َر ع َّز وجلَّ ب َتوقي ِره و ِحف ِظ َمكانتِه ،فقال{ :لِ ُت ْؤ ِم ُنوا بِال َّل ِه َو َر ُسولِ ِه َو ُت َع ِّز ُرو ُه َو ُت َو ِّق ُروهُ} [الفتح]9 : و ِح ْف ُظ ح ِّق أه ِل بيتِه ص َلّى اللهُ عليه وسلَّم من ِح ْف ِظ ح ِّقه؛ فهم ِعر ُضه، و َو ْصلُهم بال ِو ِّد من َو ْصلِه و ِو ِّده؛ ولذلك كان َش ُّر ال َخ ْل ِق َمن َيخوضون في ِع ْر ِض َزوجا ِته أُ َّمها ِت المؤمني َن و َي ُس ُّبونه َّن وفي هذا الحدي ِث ُيذ ِّك ُر أبو بك ٍر ر ِضي اللهُ عنه ال َّنا َس بهذا الح ِّق الَّذي َين َبغي على ُكلِّ ُمسل ٍم ِح ْف ُظه ،فقال ارقُبوا مح َّمدا ص َّلى اللهُ عليه وس ّلَم في أه ِل َبي ِته َيعني :اح َفظوه وراعوه وأكرموه في أهلِه فلا َت ُس ُّبوهم ولا ُتؤذوهم وذلك بإكرامهم وتعظيمهم وإجلالهم ،وتقديرهم ،ومعرفة أقدارهم، ومحبتهم. وفي أثر أبي بكر رضي الله عنه دليل على معرفة الصحابة رضي الله عنهم بحق أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيرهم واحترامهم ،فمن كان من أهل البيت مستقيما على الدين متبعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان له ح ّقان :حق الإسلام وحق القرابة
المقدمة باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل و تقديمهم على غيرهم ورفع مجلسهم وإظهار مزيتهم الحديث الثامن والأربعون بعد الثلاثمائة عن أَبي مسعو ٍد عقب َة بن عمرو البدري الأنصاري رضي الله عنه َقالَ: َقالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلمَ ( :ي ُؤ ُّم ال َق ْو َم أَ ْق َر ُؤ ُه ْم لِ ِك َتا ِب اللهَ ،فإ ْن َكا ُنوا في القِراء ِة َس َواء ،فأَ ْعلَ ُم ُه ْم بِال ُّس َّن ِةَ ،فإ ْن َكا ُنوا في ال ُّس َّن ِة َس َواء، َفأَ ْق َد ُم ُه ْم ِه ْج َرةَ ،فإ ْن َكا ُنوا في ال ِه ْج َر ِة َس َواءَ ،فأ ْق َد ُم ُه ْم ِس ّناَ ،ولاَ ُيؤ َّم َّن ال َّر ُجلُ ال َّر ُجلَ فِي ُس ْل َطا ِن ِهَ ،ولاَ َي ْق ُع ْد في َب ْيتِ ِه َعلَى َت ْك ِر َم ِت ِه إلا ِبإ ْذن ِه)) (رواه مسلم) وفي رواية لَ ُهَ (( :فأ ْق َد ُم ُه ْم ِس ْلما)) َب َدلَ (( ِس ّنا)) :أ ْي إ ْسلاما وفي روايةَ (( :ي ُؤ ُّم ال َقو َم أ ْق َر ُؤ ُه ْم لِ ِك َتا ِب اللهَِ ،وأ ْق َد ُم ُه ْم قِراءةَ ،فإ ْن َكا َن ْت قِ َراء ُت ُه ْم َس َواء َف َي ُؤ ُّم ُه ْم أ ْق َد ُم ُه ْم ِه ْج َرةَ ،فإ ْن َكا ُنوا في ال ِه ْج َر ِة َسواء، َفل َي ُؤ ُّم ُه ْم أ ْك َب ُر ُه ْم ِس ّنا)) شرح الحديث هذا الحديث يتعلق بمسألة الإمام ،والأحق بالإمامة ،لكن أورده المصنف - رحمه الله -هنا من أجل بيان هذا المعنى ،وهو تفاضل الناس ،تقديم أهل الفضل ،أهل الكمالات على غيرهم.
فهذا الحديث ذكر درجات للناس فيما يتصل بالإمامة ،يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ،فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ،الأقرأ كان في زمن المخاطبين هو الأفقه وهو الأعلم والصحابة كما جاء عن أبي عبد الرحمن السلمي وغيره أن الواحد منهم ما كان يتجاوز عشر آيات حتى يتعلم ما فيها من العلم والعمل. فيكون عالما ،بخلاف من حفظ فقط ولم يعرف الأحكام التي تضمنتها هذه السور ،ولا المعاني ،فإن ذلك لا يكون بهذه المنزلة ،وإن كان الحفظ خيرا وب ّرا ويرفعه الله به ،لكن ليس كالذي يحفظ مع الفقه. \"يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله\" فيكون الأقرأ هو الأفقه ،وليس مجرد الأقرأ ،وهذا الذي ذهب إليه جماعة من أهل العلم كالإمام مالك والشافعي وذهب أبو حنيفة إلى أن المقدم هو الأحفظ ولو كان َمن خلفه أعلم منه قال القرطبي :تأول أصحاب الحديث بأن الأقرأ في الصدر الأول هو الأفقه، لأنهم كانوا يتفقهون مع القراءة ،فلا يوجد قارئ إلا وهو فقيه ،وكان ِم ْن ُع ْرفهم تسمية الفقهاء بالقراء .وقد َق َّد َم ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم الص ِّدي َق على أُ َب ّي مع قوله(( :أقرؤكم أُ َب ّي)) \"فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة\" وهذا يدل على أن صاحب العلم مقدم على غيره؛ يقدم العلم بكتاب الله ،ثم العالم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولا يقدم من القوم في الأمور الدينية إلا خيرهم أفضلهم.
\"فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة\" الهجرة من الأعمال العظيمة الجليلة التي يعتد بها ،فالأقدم هجرة أحق ،كونه أقدم هجرة لاشك أنه مظنة لأن يكون قد تفقه في الدين أكثر \"فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم س ّنا\" الأكبر ،هذا في حال التساوي في الفقه والقراءة وأيضا الهجرة ،فأقدمهم سنا \"ولا َيؤم ّن الرجلُ الرجلَ في سلطانه\" والمراد ((بسلطانه)) محل ولايته ،أو الموضع الذي يختص به. فلو أن الأمير مثلا كان معهم ،فالأمير أولى بأن يصلي بالناس ،وهذه هي السنة ،كان الأمراء هم الذين يصلون بالناس ومعهم علماء ومعهم قراء كما يقال أيضا :إن إمام المسجد هو الأولى بالإمامة ولو كان ما يحفظ إلا جزء عم ،ولو كان الذين خلفه يحفظون القرآن كاملا ،هذا الإمام الرسمي وكذلك أيضا إذا كان الإنسان في بيته ،فهو سلطان في بيته ،فهو أحق بالإمامة ولو كان الذي معه يحفظ القرآن ،وهذا لا يحفظ إلا قصار السور، وهذا من الآداب والمكارم التي جاءت بها هذه الشريعة ،أن لا يتقدم عليه أحد في بيته ،في سلطانه \"ولا يقعد في بيته على َت ْك ِرمته إلا بإذنه\" تكرمته :المكان الذي هو مهيأ له ،فهي ما ينفرد به من فراش وسرير ونحوهما فأحيانا يكون لصاحب البيت مكان معروف يجلس فيه هو ،لا يجلس فيه أحد غيره ،فلا يأتي أي إنسان ويجلس عليه إلا أن يأذن له؛ لأن صاحب البيت أحق بهذا المكان المخصص له وفي رواية عند مسلم \"فأقدمهم ِسلما\"
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207