ثاني اثنين
ثاني اثنين أدهم شرقاوي الطبعة الأولى 2020 دار كلمات للنشر والتوزيع دولةالكويت/محافظةالعاصمة بريد إلكتروني [email protected] الموقع الإلكتروني: www. kalemat.com جميع الحقوق محفوظة للناشر :لا يسمح بإعادة إصدار هذا الكتاب أو أي جزء منه أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات أو نقله بأ ّي شكل من الأشكال ،دون إذن خطي مسبق من الناشر. * All rights reserved. No part of this book may be reproduced, stored in a retrieval system, or transmitted in any form or by any means without the prior written permission of the publisher. ISBN: ردمك:
ثاني اثنين رواية أدهم شرقاوي 2020
الإهداء هذه ال ِّرواية ُمهداة إلى ال َّرجل الذي لم ي ُك ْن نب ًّيا ولكنَّه لم ي ُك ْن أي ًضا من النَّاس كان يق ُف في منزل ٍة وح َده أدنى من الأنبيا ِء قليل ًا وأعلى من الناس كثير ًا إلى أبي بكر ال ِصديق 5
6
«إن الله بعثني إليكم فقلتم :كذب َت وقال أبو بكر :صد َق وواساني بماله ونفسه ،فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟!» ال َّنبيﷺ 7
8
َأ َينْ ُق ُص ال ِّدي ُن وأنا َح ٌّي؟! أبو بكر ال ِّصديق 9
10
أما قبل: وأتى من بعي ٍد تفو ُح منه رائحة الصحراء... عرب ٌي خالص لا ِشية فيه! نحي ٌل كأنه ُسنبلة قمح! دقيـق ال َّسـاقين كأنـه ع َّداء ،ولكـن ثمة شـيء فيه يخبـرك أ َّن له ِسـباق ًا غير سـباقات النّاس! وجهه أبيض نجا من شمس الصحراء بأعجوبة! ظهـره فيـه انحناء قليل كأ ّنـه كان يحم ُل شـيئ ًا ثقيا ًل على كتفيه طـوال عمـره ،ولكـن نظراتـه الثاقبـة تخبـرك أن هـذا ال ِحمـل لـم يكـن بإمـكان غيـره أن يحمله! لحيتـه مخضوبـة بحنـاء مائلة إلـى ال ُحمرة كأ َّن الشـمس لحظة المغيـب لم تجـد لها مـأوى غيرها! ثيابه بالية ،ولكن الرجل عليه مسحة عراقة التاريخ! أرد ُت أن أسأله :من أن َت؟! ولكن ثمة رجال تف ِق ُد لغت َك في حضرتهم ،وقد كان واحد ًا منهم! أطلـ ُت النظـر إليـه وصمتي ُيكبلنـي ،وفضولـي يقتلني لأعرف مـن هو ولكنـه أزاح عنـي كل هذا حيـن قال :ل َك ال َّسالم. صوتـه عـذب كأن الحـروف تخـرج مـن ِحجـر إسـماعيل لا مـن فمـه ،فيـه ِر َّقة كدعـوات الأمهات ،وخشـوع كتلاوة سـورة الرحمن! 11
ردد ُت عليه على الفور :ول َك ال ّسلام. ثم قال :من الرجل؟ فقل ُت :من العرب ،وأن َت؟ -أبو بكر الصديق! -أبو بكر مؤ ِّد ُب المرتدين؟! -أبـو بكـر ثانـي اثنيـن إذ هما فـي الغـار ولا لق َب أحـ َّب إل ّي مـن هذا! هـو أبـو بكـر إذا ،الرجـ ُل العـ َّدا ُء الـذي كان يركـ ُض إلـى الله بقلبـه فلـم يسـبقه أحـد! والـذي حمل الإسالم علـى كتفيـه كما لـم يفعـل أحد .وفـي حضـرة أبي بكـر لا يعـر ُف المر ُء مـا يفعل، أنـا أمـام معجزة مـن لحـم ودم .والمعجـزات لا تم ُّر بنـا كل يوم! 12
أما بعد: عندمـا ينتهـي الأنبيـاء يبـدأ أبـو بكـ ٍر ،وعندمـا ينتهـي أبـو بكر يبـدأ النـاس! هكـذا هو فئة وحـده! يأتـي دائم ًا أولاً ومـن المحال أن يسـبقه إلـى اللـه أحـد! وحين تع َّلـق الأمـر بالسـخاء والصدقة أتـى عمـر بن الخطـاب بنصف مالـه ممنّي ًا نفسـه أن يسـبق أبا بك ٍر هـذه المـ ّرة ،فوجـد أن أبـا بكـ ٍر قـد جـاء بماله كلـه! وحيـن تع ّل َق الأمـر بالثبـات والشـجاعة فـاق أبو بكـ ٍر الجميـع كالعادة! أبـو بكـر محفـور فـي أذهاننـا علـى أنـه ذاك الشـخص العذب الرقيـق ،وهـذا صحيح فهـو أرحم الأمـة بالأمة بشـهادة النبي ﷺ، وعمـر بـن الخطـاب محفـور فـي أذهاننـا علـى أنه ذاك الشـخص الصلـب ،القـوي الشـرس إذا ما تعلـق الأمر بالدفاع عن الإسالم، وهـذا صحيـح أيضـ ًا .ولكـن أبـا بك ٍر أثبـت فـي مواقف كثيـرة أنه أصلـب وأقـوى وأشـرس الصحابـة جميعـ ًا بمـن فيهـم عمـر بـن الخطاب نفسـه! كان أبـو بكـر ُيم ّثـل القـوة الناعمة ،هـذه القوة التـي تلين حتى يعتقـ ُد المـر ُء أنهـا لا تسـتطيع أن تشـت ّد أبد ًا ،ثـم إذا ما جـ َّد الج ّد، ووقـع الفـأس فـي الـرأس ،وجـد َت تلـك النعومـة ك َّشـر ْت عـن 13
أنيابهـا ،ففاجـأت أعداءهـا وأحبابها على ال َّسـواء! الغـزال الناعم كان بإمكانـه أن يتحـول فـي الظـرف الحالـك إلـى أسـد هصور، وهـذا هو أبـو بكـ ٍر باختصار! وكـي لا يكـون الـكلام رجمـ ًا بالغيب ،وادعـا ًء من غيـر دليل، فلنقـارن بيـن أبي بكـر وعمر في بعـض المواقف ،وهـذه المقارنة ليسـت انتقاصـ ًا مـن عمـر بـن الخطـاب ،معاذ اللـه ،فعمـر حي ُث يضـ ُع قدمـه أتشـر ُف أن أضع رأسـي! ولكـن لأن عمر فـي حزمه وقوتـه لا ُيجـارى ومع هـذا أبو بكر سـبقه! المقارنة هنا لشـرح ما أسـميته القـوة الناعمـة التـي يمثلها أبـو بكر ،وهـي ضرورية لفهم شـخصية أبـي بكر بمختلـف جوانبها ،أبـو بكر كان رقيقـ ًا كوردة، بالمقابـل كان له شـوك قـا ٍس يجعل قطافه مسـتحيل ًا! يـوم الحديبيـة غضـ َب الصحابـة رضـوان اللـه عليهـم جميع ًا للـه ،إذ رأوا فـي بنـود الصلـح إجحافـ ًا ،حتـى أنهـم أول الأمـر لـم يمتثلـوا لأمـر النبـي ﷺ حيـن أمرهـم أن يحلقـوا رؤوسـهم وينحـروا هديهـم ويفكـوا إحرامهـم! فدخل النبي ﷺ خيمته وقال لأم سلمة :يا أم سلمة ما شأن الناس؟! فقالـت لـه :يـا رسـول الله قـد د َخ َلهم مـا رأيـ َت ،فال تك َلم َّن منهـم إنسـان ًا ،واع َمـ ْد إلـى هديـك فانحـره ،واح ِلـ ْق ،فلـو فعل َت ذلـك فعلـوا مثلك! 14
فقـام النبـ ُّي ﷺ فلـم ُيك ِّلـم أحـد ًا ،فنحـ َر هديه ،وحلق رأسـه، فلمـا رأوه ،قامـوا فنحـروا وحلقوا! وكان عمـر بـن الخطـاب يومهـا مـن بيـن الصحابـة الذيـن غضبـوا للـه ،أمـا أبـو بكـر فـكان كالعـادة فئـة وحـده! جـاء عمر إلـى النبي ﷺ يفي ُض ُحبـ ًا لله ورسـوله ،يمل ُؤه الغضب لهـذا الديـن يريـده أن يكـون عزيـز ًا ،وقـال لـه :يا رسـول الله ألسـنا علـى حـق وهم علـى باطل؟ قال :بلى. قال :ألي َس قتلانا في الجنة ،وقتلاهم في النار؟ قال :بلى. فقـال عمـر :ففيـ َم نعطـي ال ّدن ّيـ َة مـن أنفسـنا ،ونرجـع ول َّمـا يحكـم اللـه بيننـا وبينهـم؟! فقـال لـه النبـي ﷺ :يـا ابـن الخطـاب إنـي رسـول اللـه ،ولن يضيعنـي الله! فانطلـ َق عمـر ولم يصبـر متغيظـ ًا ،فأتى أبا بكـر وقال لـه :يا أبا بكر ألسـنا على حـق وهم علـى باطل؟ فقال له أبو بكر :بلى. فقال :ألي َس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فقال :بلى. فقال عمر :فعلا َم نعطي ال َّدين َة في ديننا؟! فقـال لـه أبـو بكـر :يـا ابـن الخطـاب إ َّن الرجـل لنبـي ،ولـن ُيض ّيعـه اللـهَ ،فالـ َزم َغـرز ُه أي تم َّسـك بأمـره! 15
هـذه إحـدى نقـاط قوى أبـي بكـر ،التسـليم الكامل لأمـر الله ورسـوله دون جـدال ومناقشـة .والتسـليم والانصيـاع يحتـاج أحيانـ ًا إلـى قـوة أكبر مـن المعارضـة والجـدال! ثـم دارت الأيام وتب َّيـن للجميـع أن صلـح الحديبيـة التي حسـبوها هزيمـة معنوية كانـت فتحـ ًا عظيمـ ًا ،وهكذا انتصـر ْت قوة أبـي بكـر الناعمة كما هـي دوم ًا! وحيـن أط َّلـ ْت عائشـة مـن حجرتهـا علـى الصحابـة وقالـت لهـم أكثـر جملـ ٍة مؤلمـة فـي تاريخ هـذا الكوكـب :مات رسـول اللـه! رفـض عمـر بـن الخطـاب تصديـق الخبـر ،وارتفـع صوته فـي المسـجد من هـول الفاجعـة ،واعتبـر أن النبـ َّي ﷺ إنما ذهب لميقـات ربـه كما فعل موسـى عليه ال َّسالم من قبل ،ثـم ت َّوج هذا كلـه بأن سـ َّل سـيفه ،وقال :واللـ ِه ليرجع َّن رسـول اللـه ،فليقطعن أيـدي رجـال زعموا أنـه مات! ومعـذور واللـ ِه عمـر ،إننـي أكت ُب عـن حادثة مـوت النبي ﷺ بعـد ألـ ٍف وأربعمئـة سـنة ،والألـم يعتصرنـي ،وقلبي ينفطـ ُر وأنا أتحسـس قـول عائشـة مـات رسـول اللـه! صع ٌب جـد ًا علـ َّي بعد مضـي هـذه القـرون أن أتخ َّيـ َل أن النب َّي ﷺ قـد ض َّمه قبـر ،و ُأهي َل عليـه التـراب! فكيـف لـو كنـ ُت يومهـا معهـم ونـزل الخبـر عل َّي فجـأ ًة كالصاعقة؟! ولكـ َّن أبـا بكـ ٍر كان له شـأن آخر ،هـذا ليس موضع رقـة وإنما 16
موضـع صلابـة وتجلـد ،وأبـو بكـر يكـون دائمـ ًا كمـا تقتضـي المواقـف لـه أن يكـون! دخـ َل المسـج َد ورأى عمـ َر فـي قمـة غضبـه وحزنـه وتأثـره ،فلـم يكلمـه ،وإنمـا دخـل بيـت عائشـة، واقتـرب مـن النبي ﷺ وهو مسـج ًى مغطـ ًى ،فكشـف الغطاء عن وجهـه الشـريف ،وق َّبلـه ،وقـال لـه :بأبـي أنت وأمـي ،مـا أطيب َك حيـ ًا وميتـ ًا! أمـا الموتـة التـي كتبها اللـه عليـ َك فقد ذقتهـا ،ثم لن يصيبـك بعدهـا موتـة أبد ًا! ثـ َّم ر َّد الغطـاء علـى وجهـه ،فخـر َج وعمـر مـا زال يخطـ ُب فـي النـاس ،فقـال لـه :علـى ِرسـلك يا عمـر فأن ِصـ ْت ،فلـم يلتفـ ْت إليه عمـر وتابـع كلامـه ،فلمـا رآه أبـو بكـر علـى هـذه الحـال ،تركـه، وأقبـل علـى الناس وقال :أيهـا الناس ،إنه مـن كان يعبـ ُد محمد ًا فإن محمـد ًا قـد مـات ،ومـن كان يعبـ ُد الله فـإ َّن اللـه حي لا يمـوت ،ثم تال ﴿ َو َما ُم َح َّم ٌد إِ َّل َر ُسـو ٌل َقـ ْد َخ َل ْت ِم ْن َق ْب ِل ِه ال ُّر ُسـ ُل َأ َفـإِ ْن َما َت َأ ْو ُقتِـ َل ا ْن َق َل ْب ُتـ ْم َع َلـى َأ ْع َقابِ ُك ْم َو َمـ ْن َينْ َق ِلـ ْب َع َلى َع ِق َب ْيـ ِه َف َل ْن َي ُضـ َّر ال َّل َه َشـ ْيئ ًا َو َسـ َي ْج ِزي ال َّل ُه ال َّشـا ِك ِري َن﴾ فعلم الناس أن النبي ﷺ قد ما َت حق ًا! لـو كان أبـو بكـر رقيقـ ًا فقـط لـكان أولـى بالانهيـار يومهـا مـن عمـر ،ولكـن أبـا بكـر قـوة ناعمـة .رقيـق فـي موضـع الرقة، ثابـت فـي موضـع الثبـات ،لهذا لم يكـن مسـتغرب ًا أن يكـون أكثر 17
الصحابـة ثباتـ ًا هـو أكثرهـم رقـة ،إنـه أبـو بكـر النمـوذج الفريـد الـذي لا يوجـد منـه نسـخة ثانيـة! أمـا القـوة الناعمـة فك َّشـر ْت عـن أنيابهـا يـوم ولـ َي أبـو بكـر الخلافـة وارتـد ْت العـر ُب ،واجتمـع مجلـس الدفـاع الإسالمي الأعلـى بقيـادة الخليفـة الجديـد يبحثـون مـا يفعلـون أمـام هـذا المـأزق .كان رأي جنـرالات التوحيـد يومهـا أن ُيفاوضـوا المرتديـن ،أمـا أبو بكر وحده مـن دون الجميع قـرر أن ُيحاربهم! الرجل الأسـيف الـذي كان ُيبكيه القـرآن لب َس لأمـة الحرب حين قـرر الفرسـان الأشـداء أن يخلعوهـا! قـال لـه عمر بـن الخطاب يومهـا :كيـف تقاتلهـم وقد قال رسـول اللـه ﷺُ :أمـر ُت أن أقاتل النـاس حتـى يقولـوا لا إلـه إلا الله ،فـإن قالوها فقـد عصموا مني دماءهـم وأموالهـم إلا بحقهـا؟! فقـال لـه أبـو بكـر :واللـ ِه لأقاتلـ َّن مـن فـ َّرق بيـن الـزكاة والصالة ،وواللـ ِه لو منعونـي عقال بعيـر كان يؤ ُّدونه إلى رسـول اللـه لقاتلتهـم عليـه! فقال له عمر :يا خليفة رسول الله تأ ّل ِف الناس وارف ْق بهم. فجذبـه أبـو بكر من ثوبه وقـال له :أج َّبار فـي الجاهلية ،خ َّوار في الإسالم يـا عمـر؟! إنـه قـد انقطـع الوحـي ،وتـم الديـن ،أينقـ ُص ال ّديـ ُن وأنـا حـ ُّي؟! فمضـوا علـى بركـة اللـه ،وأ َّدبـوا المرتديـن ،وأعـادوا القبائل إلـى حظيـرة الإسالم ،وأثبـ َت أبو بكر مـر ًة ُأخـرى أنه يـرى بنور اللـ ِه ،وأنـه وإن كان أر َّق مـن وردة فهـو أيض ًا أصلب مـن ال ّصخر! 18
ثـم هـا هو أبـو بكر هنـا ...فلمـاذا نحكـي عنـه مـا دام بإمكانه أن يحكـي هـو عـن نفسـه ،لا شـيء أروع مـن أن نسـمع الحكاية مـن فـم الحكاية نفسـها! ألت ِفـ ُت إليـه وأسـأله :يا خليفة رسـول اللـه ،متى سـمع َت أول مـر ٍة بال ِّدين؟ -أول مـرة سـمع ُت بالديـن قبـل البعثـة إذ كنـ ُت يومـ ًا جالسـ ًا بفنـاء الكعبـة ،وعلـى مقربة منـي يجل ُس زيـ ُد بن عمرو بـن نفيل، فمـ َّر بـه ُأميـة بـن أبـي الصلت فقـال لـه :كيـف أصبح َت يـا باغي ا لخير ؟ قال :بخير. فقال ُأمية :فهل وجد َت؟ قال :لا ،ولم آ ُل من طلب. فلمـا سـمع ُت حديثهما ،خرج ُت أبحـ ُث على ورقـة بن نوفل، وكان كثيـر النظـر إلى السـماء ،كثيـر همهمة الصـدر ،فلما وجدته اسـتوقفته ،ثـم قصصـ ُت عليه ما كان بيـن الرجلين عنـد الكعبة. فقـال :نعـم يا ابن أخـي ،يخـر ُج نب ُّي من أوسـط العر ِب نسـب ًا، ولـي علم بالنسـب ،وقومك أوسـط العرب نسـب ًا ،وما أحسـبه إلا أن يكون مـن قريش. 19
-فمـا سـبب الحـوار بيـن زيـد بن عمـرو بـن ُنفيـل ،وأمية بن أبـي الصلت ،أعنـي أليس مسـتغرب ًا أن الرجلين يتحدثـان عن نبي آخـر الزمـان وهما مـن قريـش التي تعبـ ُد الأصنام؟ -لم يكن الرجلان على دين قريش! -وكيف هذا؟ -أمـا زيـد بـن عمـرو بـن ُنفيـل فكـره ديـن قريـش ،ورأى أن عبادتهـم شـرك ،فخـر َج إلى الشـام قبـل البعثـة يبحث عـن الدين الحـق ،فلقـ َي عالمـ ًا مـن علمـاء اليهـود ،فقـال لـه :أخبرنـي عن دينكـم ،ف َلع ِّلـي إن رأيـ ُت الحـ َّق فيـه اتبعته. فقـال لـه :لـن تكـون علـى ديننـا حتـى تأخـذ بنصيبـك مـن غضـب اللـه! فقـال لـه زيـد :مـا أفِـ ُّر إلا مـن غضـب اللـه ،ومـا أحمـل مـن غضـب اللـه شـيئ ًا وأنـا أسـتطيع أن لا أحملـه ،فهـل تدلنـي على غير ه ؟ -ما أعلمه ،إلا أن تكون حنيف ًا. -ما الحنيف؟ -ديـن إبراهيـم ،لـم يكـن يهوديـ ًا ولا نصرانيـ ًا ،ولا يعبـ ُد إلا ا لله ! فخـرج زيـد فلقـي عالم ًا مـن النصـارى ،فقال لـه :أخبرني عن دينكـم فلعلي إن رأيـ ُت الح َّق فيـه اتبعته. -لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. -مـا أفِـ ُّر إلا مـن لعنة اللـه ،وما أحم ُل مـن لعنة الل ِه شـيئ ًا وأنا 20
أسـتطيع أن لا أحملها ،فهل تدلنـي على غيره؟ -ما أعلمه ،إلا أن تكون حنيف ًا. -ما الحنيف؟ -ديـن إبراهيـم ،لـم يكـن يهوديـ ًا ولا نصرانيـ ًا ،ولا يعبـ ُد إلا ا لله . فلمـا رأى زيـد قولهـم فـي إبراهيـم عليـه ال َّسالم ،خـرج مـن عندهـم عائـد ًا إلـى مكة ،وقـال :الله َّم إني أشـهدك أنـي على دين إبراهيم. وكان زيـد هـو الذي جـاء بالحنيفية ديـن إبراهيم عليه ال َّسالم إلـى مكـة ،وكان يوم ًا مسـند ًا ظهـره إلـى الكعبة ،يقـول للناس :يا معشـر قريـش ،والل ِه ما منكـم من أحد علـى دين إبراهيـم غيري! وكان دمـث الأخالق ،حلـو المعشـر ،يصـل الرحـم ،ويكرم الضيـف ،ويحيي المـوؤودة ،ويقـول للرجـل إذا أراد أن يئد ابنته: لا تقتلهـا أنـا أكفيـ َك مؤونتها! فيأخذهـا منه ،فـإذا ترعرعت يقول قـال لأبيهـا :إن شـئ َت دفعتهـا إليـك ،وإن شـئ َت أبقي ُتهـا عنـدي، وأنـا أكفيـ َك مؤونتها! وكان يأبـى أن يـأكل مـا تذبـح قريـش ،لأنـه ع ِلـ َم فـي توحيده الخالـص أن الذبـح إنمـا يجـب أن يكـون للـه ،وقـد جلـ َس يوم ًا علـى مائـدة مـع النبـ ِّي ﷺ قبـل بعثتـه ،وكان شـيخ ًا كبيـر ًا يومها، فلمـا ُوضـع الطعام أبى النبـي ﷺ أن يأكل من ذبائـح قريش لذات 21
السـبب ،وكذلـك لم يـأكل زيد مـن الذبائـح ،وقال لقريـش :إني لسـ ُت آ ُك ُل ممـا تذبحـون علـى أنصابكـم ،ولا آ ُك ُل ممـا لـم ُيذكر اسـم اللـ ِه عليه! وكان يعيـ ُب علـى قريش ذبائحهـم ،ويقول :ال َّشـاة خلقها الله، وأنـزل لهـا من السـماء الماء ،وأنبـت لها من الأرض العشـب ،ثم تذبحونهـا على غير اسـم الله! -يـا اللـه ،يا له مـن رجل يا خليفة رسـول الله ،خـرج يجو ُب الأرض باحثـ ًا عن الحق. -نعـم يـا ُبنـي يا له مـن رجل ،هـذا ليعلـم الناس أنه مـن أراد اللـه بصد ٍق ي َّسـر اللـ ُه له الطريـق إليه. -فما فعل زي ٌد بعد البعثة؟ -لـم يـدرك زيـ ٌد البعثة ،وإنمـا توفـي قبلها بخمس سـنوات، دون أن يعلـم أن ذلـك الـذي جلـ َس يومـ ًا معـه علـى مائدة واحـدة ،ورفـ َض أن يـأكل مـن ذبائـح قريـش هو نبـ ُّي آخر الزمان! -فهل ذكر النب ّي ﷺ زيد ًا بعد البعثة بشيء؟ -أجل يا ُبني ،لقد ذكره كما يلي ُق بمؤمن صادق أن ُيذكر. -وكيف هذا يا خليفة رسول الله؟ -كان زيـ ُد بـن عمـرو بن نفيـل صديق ًا لعامـر بن ربيعـة ،فقال لـه يومـ ًا :يـا عامـر إنـي خالفـ ُت قومـي ،واتبعـ ُت ملـة إبراهيـم وإسـماعيل ،ومـا كانـا يعبـدان ،وكانـا يص ِّليـان إلـى هـذه القبلة، 22
وأنـا أنتظـ ُر نبيـ ًا من بنـي إسـماعيل ُيبعـث ،ولا أراني أدركـه لكبر سـني ،وأنـا أؤمـن بـه وأص ّدقـه ،وأشـه ُد أنه نبـي ،فإن طالـ ْت بك حيـاة ،فأقرئـه مني ال َّسالم! -يـا اللـه! مـا هـذا الإيمـان الـذي يقـ ُف أمامـه المـر ُء إعجاب ًا وإجاللاً؟ -هو كذلك والله. -فهل أبل َغ عام ٌر سلام زي ٍد إلى النبي ﷺ؟ -أجـل ،لقـد فعـل ،فمـا كان اللـه إلا أن يصـ ُدق هـذا الرجل الـذي صد َقـه ،ل َّمـا أسـلم عامـر بـن ربيعة ،جـاء إلـى النب ّي ﷺ وأخبـره بالـذي كان بينـه وبين زيـد ،وأبلغه سالمه له. فـر َّد النبـ ُّي ﷺ ال َّسالم ،وتر َّحـم عليـه ،وقـال« :لقـد رأيته فـي الجن ِة يسـح ُب ذيـولاً»! -فهل كان لزي ٍد من أولاد؟ -أجـل يـا ُبنـي ،ابنه سـعيد بـن زيـد أحد العشـرة المبشـرين بالجنـة ،ذريـة طيبـة بعضهـا مـن بعض. -فهل ذكر النب ُّي ﷺ لسعي ٍد شيئ ًا عن أبيه؟ -أجـل قـد فعـل ،فقد قـال يومـ ًا لسـعيد :إن أبـا َك ُيبعـ ُث يوم القيامـة أمـ ًة وحـده بينـي وبين عيسـى. -هـذا عـن زيـد بـن عمـرو بـن ُنفيـل يـا خليفـة رسـول الله، فمـاذا عـن أميـة بـن أبـي الصلت؟ -تلك قصة أخرى ،مشرقة في بدايتها ،محزنة في نهايتها. -وكيف ذلك؟ 23
-أميـة بـن أبي الصلـت شـاعر جاهلي أبـوه من ثقيـف ،وأمه مـن قريـش ،سـكن الطائـف ،وأبـوه الصلـت كان شـاعر ًا أيضـ ًا ،ولـم يكـن الطائـف كثيـر ال ِّشـعر ،إذ أ ّن ال ّشـعر كان يكثـر فـي العـرب التـي تخـوض الحـروب .كالأوس والخـزرج ،أو القبائـل التـي ُتغيـر أو ُيغـا ُر عليهـا .لهـذا قـ َّل شـعر الطائـف لمسـالمتها العـرب ،وقـ َّل شـعر قريش لحرمتهـا عنـد العـرب إذ لـم تكـن ُتحـا َرب أو ُتحـا ِر ُب إلا نـادر ًا ،علـى أ ّن أم ّيـة بـن أبـي ال ّصلـت كان أشـعر أهـل الطائـف فـي زمانـه. -فماذا عن حديثه مع زيد وانتظاره نب َّي آخر الزمان؟ -كان أميـة فـي الجاهليـة يتصـ ُل بأهـل الكتـاب .ويسـمع أخبارهـم ،ويعلـم أن نبيـ ًا قـد حـان وقـت خروجـه ،وكان علـى التوحيد .فلـم يكن يعبـد الأصنام فـي الجاهلية ،وقد تـرك في شـعره مـن معانـي التوحيـد ما لـم يتركـه أحد من شـعراء الجاهليـة فـكان يذكـر الجنَّـة والنـار ،والملائكـة، والحشـر والحسـاب. -وهل أدر َك البعثة أو توفي قبلها كما حدث لزيد؟ -أدر َك أميـة بـن أبـي الصلـت البعثـة ،ولكـن للأسـف لـم ُيسـلم! -لم ُيسلم وقد كان ينتظ ُر النب َّي ﷺ بشغف؟ -هـذا مـا حـدث ،فلما بلغـه مبعث النبـ ّي ﷺ لم يؤمـن به ،إذ ُيقـال أنـه كان ُيمنى نفسـه أن يكـون هو نبي آخـر الزمان. 24
-ومتـى مـات؟ أقصـد ألم يعـ ْش ما يكفـي بعد البعثـة ليرجع إلى الحق ويسـلم؟ -بلـى عا َش مـا يكفي ،فقد توفي في ال َّسـنة التاسـعة للهجرة، قبـل وفاة النبي ﷺ بعـا ٍم واح ٍد! -فهل ذكره النب ُّي بشي ٍء من حديثه؟ -نعـم لقـد ذكـره ،فقـد كان النبـ ُّي ﷺ معجبـ ًا بشـعره لمـا يتضمنـه مـن معاني التوحيـد ،وكان كلما سـم َع ِشـعره قال عنـه :آمـن ِشـعره وكفـر قلبه! وسم َع مر ًة ِشعر ًا له فقال :كاد أمية بن أبي الصلت أن ُيسلم. 25
-هـل يسـمح لـي خليفـة رسـول اللـه أن أرجع بـه أبعـد زمن ًا ممـا نتحـدث فيه الآن ،فاسـأله عن شـي ٍء سـمعته؟ -فإلى أين تريد أن ترجع تحديد ًا؟ وعن أي شيء تري ُد أن تسأل؟ -سـمع ُت أنـ َك لم تسـجد لصنم قط فـي الجاهليـة ،فهل هذا صحيح ؟ -أجـل يـا ُبنـي ،وهـذا من فضـل اللـ ِه وكرمـه على عبـده أن نـ َّزه جبهتـه من السـجود لغيـره حتى فـي الجاهليـة حين ما كنـ ُت أعر ُف مـا الدين ومـا الإيمـان ،فحين ناهـز ُت الحلم أخذنـي أبـي أبـو قحافة من يـدي ثـم انطلق بي إلـى مخدع فيـه الأصنـام ،ثـم قـال لـي :هـذه آلهتـك ال ُّشـم العوالـي، وتركنـي وذهـب ،فدنـو ُت مـن الصنـم وقلـ ُت :إنـي جائع فأطعمنـي ،فلـم يـرد! فقل ُت :إنـي عا ٍر فاكسـني ،فلـم يرد! فألقيـ ُت عليـه حجـر ًا فخ َّر علـى وجهه. -ألا ترى في هذا اصطفا ًء مبكر ًا ل َك يا خليفة رسول الله؟ -مـا ينبغـي للمـر ِء أن ُيزكي نفسـه يا ُبنـ َّي ،ولكني أحمـ ُد الله سـبحانه إذ جعلنـي مـن القلـة النادرة التـي لم ُتشـرك به في الجاهليـة وإن لـم تكـن تعبـده حـ َّق عبادتـه إذ لـم يكن بعد إسالم ولا نبوة. 26
-ولكنـي مـا زلـ ُت أرى فـي الأمـر اصطفـا ًء ،فكمـا اصطفى اللـه نب َّيـه مـن الشـر ِك والفواحـش ،اصطفـى صاحبـه وخليفتـه ،فأنـ َت الوحيـد الذي ُيقـال له خليفة رسـول الله، ومـن جاؤوا بعـدك إنما هم خلفـاؤك أنـ َت ،لا خلفاؤه هو، وقـد كان َح ِر ّيـ ًا بمن سـيحمل هذا اللقب الفاخـر ،والمركز المرمـوق أن يكـون فيـه شـيء مـن اصطفـاء النبوة. -مـا أحسـبك يـا ُبنـي إلا يغلـ ُب علي َك حسـن ظنك بـي ،وما زلـ ُت أحمـ ُد اللـه على العصمـة مـن الشـرك ،ولا أعلو بها علـى النـاس ولا أفخـر ،فلـولا أن تداركتنـي رحمـة ربـي لمسـني شـيء مـن الشـرك ممـا مـ َّس القوم. -يا لتواضعك! -يـا ُبنـي إن العاقـل مـن اته َم نفسـه في الشـر ،واعتـرف لربه بالخيـر ،ومـا أزيـد علـى أن أحمـده علـى أن عصمنـي من ا لشر ك . -حسن ًا ،فماذا عن الخمر يا خليفة رسول الله؟ -ما بها؟ -هل شربتها في الجاهلية؟ -لا والل ِه ما عرف ُت طعمها ،فقد كرهتها مبكر ًا بفضل الل ِه. -وكيف كرهتها وأنت لم تذقها؟ -بـا ُبنـي أن العاقـل مـن ا ّتعـ َظ بغيـره ،والجاهـل مـن كان موعظـ ًة لغيـره ،وإنـي أحمـ ُد اللـه أن جعلني ا ّتعـ ُظ بغيري، ولـم يجعلنـي عظـ ًة لغيـري. 27
-وكيف ا ّتعظ َت بغيرك في مسألة الخمر؟ -مـرر ُت فـي الجاهلية وأنا في ريعان شـبابي برجل سـكران، يمسـك بعـرة البعيـر ويقربها مـن فمه يريـ ُد أن يأكلهـا ،فإذا صـارت قريبـ ًا من فمـه ،شـ َّم ريحهـا فألقاها من يـده ،وهو يفعـل هـذا مـرار ًا وتكـرار ًا! فقلـ ُت فـي نفسـي واللـ ِه لا أشـربها قط ،إنهـا تذه ُب بالعقـل .وإذا ذهـ َب العقل ذهب ْت معـه المـروءة ،ولـم أكن لأفـرط فـي مروءتي. -وما زل َت تص ُّر على أنه لا اصطفاء في الأمر؟ -ما زل ُت أحم ُد الله على العافية ولا أزيد! -فماذا عن صداقتك مع النبي ﷺ في الجاهلية؟ -كنـ ُت والنبـي ﷺ أترابـ ًا ،فـكان يكبرنـي بعاميـن وبضعـة أشـهر ،وكان أحسـن قريـش ُخلقـ ًا ،وأصدقهـا حديثـ ًا، وأوثقهـا أمانـة ،فالتقينـا كمـا يلتقي فتيـان القبيلـة الواحدة، فنشـأ ْت بيننـا صداقـة متينـة ،أحببتـه وأح َّبنـي ،وكان أثيـر ًا علـى قلبـي ،وكنـ ُت أثير ًا علـى قلبـه ،والمر ُء يعـرف مكانته فـي قلـوب الناس! -هنيئ ًا ل َك. -أي والل ِه هنيئ ًا لي ،فعلى مثله ُيهنَّ ُأ المر ُء و ُيغبط. -فماذا كن َت تعمل في الجاهلية؟ -كنـ ُت تاجـر ًا ،وكذلـك كان أغلـب رجـال قريـش ،وكنـ ُت أذهـ ُب للتجـارة فـي رحلتـي الشـتاء والصيف ،في الشـتاء إلـى اليمـن ،وفـي الصيـف إلـى الشـام ،فأشـتري وأبيـع، 28
وأصـد ُق الحديـث ،ولا أغـش ،فبـارك اللـه لي فـي رزقي، وكان رأس مالـي عنـد البعثـة أربعيـن ألـف درهـم. -أي أن َك كن َت من أثرياء مكة قبل البعثة؟ -كنـ ُت ثريـ ًا فـي مالـي فقـط ،فقيـر ًا فـي دينـي ،فلمـا نطق ُت بالشـهادتين صـر ُت أثـرى أهـل الأرض! -أثرى أهل الأرض بالشهادتين؟ -يـا ُبنـ َّي إن اللـه يعطـي الدنيـا لمـن ُيحبـه ولمـن لا ُيحبـه، ولكنـه لا يعطـي هـذا الديـن إلا لمن ُيحبـه ،إ َّن اللـه أعطى الدنيـا كلهـا لسـليمان عليـه السالم ،وكذلـك أعطاهـا للنمـرود ،فلـو كانـت معيـار ًا للتفاضـل بيـن النـاس ،لمـا أعطاهـا لنبـي وطاغيـة! -صدقـ َت يا خليفة رسـول اللـه ،فحدثني عن قصة إسالمك مـا دمنا قـد ذكرناها فقد حـان وقتها. -كل مـا فـي الأمـر أنـي كما أخبرتـ َك كنـ ُت صديقـ ًا للنبي ﷺ، وكنـ ُت أعر ُف أنـه صادق لا يكـذب على النـاس حتى يكذب علـى اللـه ،وكنـ ُت جالسـ ًا يومهـا فـي مجلـس مـن مجالـس قريـش ،فذكروا أن محمـد ًا ﷺ يعي ُب عليهـم آلهتهم ودينهم، ويقـول أنـه جـاء بديـ ٍن خيـر مـن دينهـم ...فخرجـ ُت أبح ُث عنه أري ُد أن أسـمع منه بشـأن هـذا الذي يتحدثون بـه ،فلقيته، فقلـ ُت لـه :يـا أبـا القاسـم فقد ُتـ َك اليو َم فـي مجلـس قوم َك، وقـد ذكـرو َك واتهمو َك بالعيـ ِب لآبائهـم وأمهاتهـم وآلهتهم. 29
فقـال لـي :يـا أبـا بكر إني رسـول اللـ ِه ،وإنـي أدعوك إلـى الله الواحـد الأحـد ،الفـرد الصمـد ،الذي لـم يلد ولـم يولد. فقلـ ُت :أشـه ُد أن لا إلـه إلا اللـه وأشـهد أن َك يا محم ّد رسـول ا لله . -هكـذا بـكل بسـاطة دون أن تتريـ َث أو أن ُتق ِّلـ َب الأمور في عقلك ؟ -يـا ُبنـ َّي بعـض الـكلام ينـز ُل فـي قلبـ َك مباشـرة ،والحمـ ُد للـ ِه أن جعلنـي أول هـذه الأمة إسالم ًا وتصديق ًا وتسـليم ًا، ويكفينـي شـرف ًا شـهادة النبـي ﷺ حيـن قـال :مـا دعـو ُت أحـد ًا إلى الإسالم إلا كانـت عنده كبـوة وتردد ونظـ ٍر ،إلا أبـا بكـر ،فحين دعوتـه أجابنـي ومـا تردد! -هنيئ ًا ل َك هذه الشهادة يا خليفة رسول الله. -بارك الله بك يا ُبني. -فما أول ما فعلته بعد إسلامك؟ -أول مـا أسـلم ُت نظـر ُت فيمن أثـق ممن أعرف وأتوسـم به الخير ،وبـدأ ُت أدعوهـم إلى الله -فمن أسلم منهم على يديك؟ -ثلـة قليلـة العـدد ،كثيـرة البركـة ،اصطفاهـم الله بـأن كانوا حجـر الأسـاس لهـذا الديـن العظيـم ،وهـم الزبيـر بـن العـوام ،وعثمـان بـن عفـان ،وطلحة بـن ُعبيد الله ،وسـعد بـن أبـي وقـاص ،وعثمـان بـن مظعـون ،وأبـو عبيـدة بـن الجـراح ،وعبـد الرحمـن بـن عـو ٍف ،وأبو سـلمة بـن عبد 30
الأسـد ،والأرقـم بـن أبـي الأرقـم ،وقـد دعوتهـم أفـراد ًا ِسـر ًا ،وجئـ ُت بهـم إلـى النبـ َّي ﷺ فأسـلموا بيـن يديـه. -كل هؤلاء في صحيفتك؟ -فضل الل ِه ُيؤتيه من يشاء من عباده يا ُبني. -فماذا عن أهل بيتك؟ -مـا كان لـي أن أدعـو النـاس إلى الخير ،وأنسـى أهـل بيتي، فالأقربـون أولـى بالمعـروف ،لقـد دعـو ُت أهـل بيتـي، فأسـلم ْت زوجتـي أم رومـان ،وأسـلم أولادي عبداللـه، وعائشـة وأسـماء ،وخادمـي عامـر بـن فهيـرة. -وهؤلاء العظماء في صحيفتك أيض ًا؟ -قل ُت ل َك من قبل ،هذا من فضل الل ِه ُيؤتيه من يشاء. -فماذا عن إسلام أبيك وأمك يا خليفة رسول الله؟ -أمـا أبـي فتأخـر إسالمه إلـى يـوم فتـح مكـة ،وأمـا أمـي فأسـلم ْت باكـر ًا فـي بدايـة الدعـوة إلـى اللـه. -فهل يأذن خليفة رسول الله أن يح ّدثني عن إسلام أمه؟ -لـ َك هـذا يـا ُبنـي ،أما يـوم إسالم أمي فكانـت بدايته شـاقة عسـيرة ،ثم مـ َّن الله علـى عبده أبـي بكر بأن جعـل خاتمته سـعيدة ،اجتمعنـا يومهـا فـي دار الأرقـم بـن أبـي الأرقـم ثمانيـة وثلاثيـن رجا ًل ليـس غيرنـا علـى ظهـر الأرض من يوحـده ويعبـده حـ َّق عبادته! فألححـ ُت على النبـ ِّي ﷺ في الجهـر بدعوتنـا علـى مرأى ومسـمع مـن قريش. فقال لي :يا أبا بك ٍر إ َّنا قليل. 31
فمـا زلـ ُت ُألـ ُّح عليـه حتـى أجابنـي ،فخرجنـا إلـى الكعبـة، فقمـ ُت فـي الناس خطيبـ ًا ،وكنـ ُت أول خطيب في الإسالم يدعو إلـى اللـه بعـد النبي ﷺ -فهل سـمح ْت لـ َك قري ٌش يومها بالـكلام هكذا جهـار ًا نهار ًا عند الكعبة؟ -أوتحس ُب أن قريش ًا كانت بتلك السماحة؟ -فما الذي حدث إذ ًا؟ -كن ُت سأح ّدثك ولكنك قطع َت عل َّي حديثي! -أعتـذ ُر منـك يـا خليفـة رسـول اللـه ،وواللـ ِه مـا هـي إلا اللهفـة ،وحـب المعرفـة ،فاعـذر فضولـي. -لا بـأس عليـك يـا ُبنـي ،المهم وأنـا أخط ُب في النـاس ،قام إلـ َّي رجا ٌل مـن قريـش يضربونني ضربـ ًا شـديد ًا ،ودنا مني عتبـة بن ربيعة وضربنـي على وجهي بنعليـه المخصوفتين، حتـى ورم وجهـي ،وأغشـ َي علـ َّي ،فحملونـي إلـى داري وهـم لا يشـكون فـي موتـي ،فجـاء قومـي بنـو تيـم وقالوا لقريـش :واللـ ِه لئـن مـا َت أبو بكـر لنقتلـ َّن عتبة بـن ربيعة. ثـم رجعـوا إلـ َّي فك ّلمونـي وأنـا لا أجيب من شـدة مـا نزل بـي من الضـرب واللطم ،ثم اسـتفق ُت قبل المغـرب ،وكان أول مـا قلـ ُت لهـم :مـا فع َل رسـول الله؟ -تنسى نفسك وما أصاب َك وتسأل عن رسول الله؟ -ومـا لـي لا أسـال عنـه ،فإنمـا أنـا رجـل مـن المسـلمين ،وهـو الديـنكلـه،ومـا َي ُسـ ّرنيأن ُأعافـىجسـديو ُيشـاكهـوبشـوكة. 32
-بهذا القلب سبق َت الناس يا أبا بكر! -يـا ُبنـي إن هذا الدين مسـؤولية وليس انتسـاب ًا ،السـر يكمن فـي نظرتـك للأمـر ،فحين تـرى أنك مجـرد تابع لـن تفعل إلا الفـرض فقـط ،أمـا حين تحمل هـذا الدين علـى كتفيك فعليـ َك أن تهبـه وقتك ودمـ َك ومالك. -بهـذا الفهـم سـبق َت الناس يـا خليفة رسـول الله ،فمـا الذي حدث بعـد ذلك؟ -قالـو لأمـيُ :انظـري أن ُتطعميه شـيئ ًا أو تسـقيه إيـاه ،فأبي ُت أن آكل أو أشـرب حتـى أعلـم مـا حـ َّل بالنبـي ﷺ ،فلمـا يئسـوا منـي ،وخرجـوا عنـي وخلـو ُت بأمـي قل ُت لهـا :ما فعـ َل رسـول الله؟ فقالت :والل ِه ما لي علم بصاحبك. فقل ُت :اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه. -فلماذا أم جميل بنت الخطاب تحديد ًا؟ -لأنهـا مـن أوائـل النسـاء اللاتي أسـلمن لل ِه ورسـوله مـع زوجها سـعيد بن زيـد ،وهي أخت حبيبـي وصديقي عمر بـن الخطاب، ولـم يكـن قد أسـلم بعـد ،وكان بنو عـدي يخفون إسالمهم إذا أسـلم الواحـد منهـم خوفـ ًا من بطشـه ،فسـبحان من جعل أشـد الرجـال عـدا ًء لدينه ،أشـدهم فيمـا بعد دفاعـ ًا عنه. -فما الذي حدث بين أمك وأم جميل بنت الخطاب؟ -ذهبـ ْت أمـي إليهـا وقالـت لهـا :إن أبـا بكـر يسـألك عـن محمـد بـن عبـد اللـه. 33
فقالـت لهـا أم جميـل :مـا أعـر ُف أبا بكـر ،ولا محمـد بن عبد اللـه ،وإن كنـ ِت ُتحبين ذهبـ ُت مع ِك إلـى ابن ِك. فقالت لها أمي :نعم. فجـاءت بهـا أمـي إلـ ّي ،فلمـا رأتني علـى هـذه الحـال قال ْت: واللـ ِه إن قومـ ًا نالـوا هـذا من َك لأهـل فسـ ٍق وفجور ،وإنـي أرجو أن ينتقـم اللـ َه لـ َك منهم. فقل ُت :ما فع َل رسول الله؟ فقال ْت :هذه أمك تسمع! فقل ُت :لا بأس ،لا علي ِك منها. فقالت :هو بخير ،سالم ،صالح. فقل ُت :أين هو؟ فقالت :في بيت الأرقم بن أبي الأرقم. فقلـ ُت :واللـ ِه لا أذوق طعامـ ًا ولا أشـر ُب شـراب ًا حتـى أرى رسـول اللـه! فانتظرنـا حتـى إذا هـدأ ْت الحركـة ،وسـكن النـاس ،خرجتـا بـي أتكـئ عليهمـا من شـدة مـا أصابني ،حتـى دخل ُت علـى النبي ﷺ ،فجعلـ ُت ُأق ٌبلـه ،فـر َّق لحالـي ،فقلـ ُت لـه :بأبـي أنـ َت وأمـي يـا رسـول اللـه ،ليـس بـي بـأس إلا مـا نـال الفاسـق مـن وجهي، وهـذه أمـي َبـ َّر ٌة بولدهـا ،وأنـ َت مبـارك ،فـاد ُع لهـا ،وادعهـا إلى اللـه ،عسـى اللـه أن ينقذها بـك من النـار .فدعا لها النبـ ّي ﷺ ،ثم دعاهـا إلـى اللـه .فأسـلم ْت ...فنسـي ُت من الفـرح بإسالمها كل الـذي أصابني. 34
-هـل يسـمح لـي خليفـة رسـول اللـه أن أسـأله عـن أمريـن اسـتوقفاني فـي هـذه القصـة؟ -تف َّض ْل يا ُبني. -لمـاذا أقسـم قومـك على قتـل عتبة بـن ربيعـة إذا أنت م َّت، فهـل كانوا علـى دينك؟ لا لـم يكونـوا علـى دينـي ،وأغلبهـم كان علـى ديـن قريـش وعتبـة بـن ربيعة ،ولكنهـا العصبية القبليـة ،فالعر ُب لـم تكن تترك ثأرهـا ،ومـن ترك ثأره فـي عرفهم نزل مـن أعين النـاس ،واتهموه فـي شـجاعته ومروءته. -حسـن ًا فهمـ ُت ،الأمـر الثانـي :لمـاذا أنكـر ْت أم جميـل بن الخطـاب معرفتهـا بـ َك وبالنبـي ﷺ ،وهـل كانت تخشـى على نفسـها؟ -لا واللـ ِه مـا كانـت تخشـى علـى نفسـها بقـدر مـا كانـت تخشـى علـى النبـي ﷺ ودعوتـه ،ولـو كانت تخشـى على نفسـها ما طلبـ ْت من أمـي أن تأتي إلـي ،ولكننـا تربينا على قضـاء حوائجنـا بالسـر والكتمان ،وقـد كانـت فاطمة بنت الخطـاب امـرأة عاقلـة حكيمة ،أمـا رأي َت أنها حين سـألتها عـن النبـي ﷺ ،قالـ ْت :هـذه أمـك تسـمع! لقـد خشـي ْت علـى الإسالم حتـى مـن أمـي ،ومـا تكلمـ ْت إلا حيـن أخبرتهـا أنـه لا بـأس عليهـا من أمـي .المؤمـن ك ِّيـ ٌس َف ِط ٌن يـا ُبنـي ،يعـرف من أيـن ُتـؤكل الكتف ،ومـاذا يجـب عليه أن يقـول ،والأهـم أمـام من يقولـه .فهذا الدين ليـس نظرية 35
فقـط ،وإنمـا سـلوك وتطبيـق ومنهـج حيـاة ،وربمـا أضـ َّر المسـلم الدين بحماسـته فلم يـراع المواقف ،ولم يحسـب العواقـب ،وقـد كانـت فاطمـة بنـت الخطاب أعقـل من أن تقـع فـي فـخ التهور. -الشـي ُء بالشـي ِء ُيذكـر يـا خليفـة رسـول اللـه ،فحدثني عن شـي ٍء سـمعته مـن علـي بـن أبـي طالب أنه سـأل مـن حولـه :من أشـجع مؤمـن آل فرعـون أم أبـو بكـر؟ فسـكتوا ،فقـال :واللـ ِه لسـاعة مـن أبي بكر خيـ ٌر من مـلء الأرض من مؤمـن آل فرعون، ذاك رجـ ٌل يكتـم إيمانـه ،وأبـو بكـر يعلـ ُن إيمانه! -رحـم اللـ ُه عليـ ًا ،ذاك الرج ُل آمـ َن وصد َق وجاهـ َد وغل َب، أحببنـاه في اللـه ،وأحبنا فـي الل ِه ،ومـا قال هذا إلا ل ُحسـن ظنـه بي. -فما قصة قوله هذا؟ -بينمـا النبـ ُّي ﷺ يصلـي فـي ِحجر إسـماعيل ،إذ أقبـ َل عقبة بـن أبي معيـط فوضع ثوبـه في عنقـه ،وخنقه خنق ًا شـديد ًا، فقمـ ُت إليـه ،فأخـذ ُت بمنكبيـه ودفعتـه عـن النبـي ﷺ وقلـ ُت« :أتقتلـون رجا ًل أن يقـول ربـي الله»؟! -فما فعل ْت قريش حينها؟ -التهـوا عن النبـي ﷺ ،وأقبلوا علـ َّي يضربوننـي ،ووالل ِه لقد سـ َّرني أن يتركـوه ويضربوني جعلنـي الله فداءه. -واللـ ِه لقـد صـدق علي بن أبـي طالب لأن َت خيـر من مؤمن آل فرعون. 36
-غفر الل ُه ل َك يا ُبني ،ما أراك إلا تحس ُن الظ َّن بي. -فإن لم تكن أهل ًا ل ُحس ِن ال ّظ ّن ،فمن عساه يكون؟ ُ -ك َّف عن مديحي فأنا أعل ُم بنفسي. -يصعـ ُب علـى المـر ِء أن يلجـم قلبـه يـا خليفة رسـول الله، وإنقلبـيهـوالـذييتحـد ُثلالسـاني،ولكـنكمـا ُتح ُّب. سـمع ُت يا خليفة رسـول اللـه أ َّن عمر بـن الخطـاب كان كلما رأى بالل بـن ربـاح قـال :بالل سـيدنا وأعتقـه سـيدنا! يعنيـك أنـ َت ،فمـا قصـة عتـق بلال؟ -كان المسلمون في مكة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: الأول :هـم الذيـن مـن أشـراف قريـش وأعرقهـم نسـب ًا كأبـي حذيفـة بـن عتبـة بـن ربيعـة وهؤلاء لـم يكن يجـرؤ أحـد على أن يقربهـم لمكانتهـم فـي قومهم. الثانـي :ضعفاء المسـلمين الذين كانـوا أحرار ًا ولكـن لم يكن لهـم عائلـة قويـة تحميهـم وتمنعهـم ،كآل ياسـر .فنالـ ْت منهـم قريشـ ًا أذ ًى وإذلالاً. الثالـث :العبيـد الذيـن أسـلموا رغمـ ًا عـن أسـيادهم ،وهؤلاء كانـوا فـي عـرف العـرب بضاعـة ُتبـاع و ُتشـترى ،وليـس للعبـد ديـن غيـر دين سـيده ،ولـو قام سـيد إلـى عبـده فذبحه مـا راجعه فـي هـذا أحد ،فلـم يكن العبـد فـي الجاهلية إنسـان ًا بقـدر ما كان متاعـ ًا ،وقـد كان بالل بـن ربـاح أحـد هـؤلاء .فلمـا أسـلم بلال غضـ َب سـيده أميـة بـن خلـف غضبـ ًا شـديد ًا ،وأقسـم أن يعذبـه 37
حتـى يمـوت أو يرجـع عن دينـه! فـكان أمية يخـرج إلـى رمضاء مكـة إذا َح ِميـت الظهيرة ،فيطرحـه على ظهره ،ثم يأمـر بالصخرة العظيمـة فتوضـع علـى صـدره ،ثـم يقـول :لا تـزال هكـذا حتـى تمـوت أو تكفـر بمحمـد ،وتعبـد الالت والعزى! فيقولَ :أ َح ٌدَ ،أ َحد. وكان ورقـة بـن نوفـل يمـ ُّر عليـه وهـو ُيعـذ ُب بذلـك فيقول: واللـ ِه أحـ ٌد أحـ ٌد يـا بالل ،ثـم يلتف ُت إلـى أميـة ومن معـه فيقول لهـم :واللـ ِه لئـن قتلتمـوه على هـذا لأ ّتخذ َّنـه حنانـ ًا ،أي لأجعل َّن قبـره موضـع حنـان فـأزوره دومـ ًا مترحمـ ًا عليه. وكنـ ُت أنا أمـ ُّر ببلا ٍل وهـو ُيعـ ّذ ُب فيعتصر قلبي ألمـ ًا من هول مـا أراه ،حتـى قلـ ُت يومـ ًا لأمية بـن خلـف :ألا تتقي اللـه في هذا المسـكين ،حتى متى؟ فقال :أن َت أفسدته فأن ِقذه مما ترى. فقلـ ُت :أفعـ ُل ،عنـدي غالم أسـود ،أجلـ ُد منـه وأقـوى ،وهو علـى دينـك ،أبادلـ َك بـه بلالاً. فقال :قبل ُت. فأخذ ُت بلالاً منه ،وقل ُت له أن َت ح ٌّر لوجه الله! -فهل كان بلال بن رباح هو الوحيد الذي أعتقته؟ -أعتق ُت بفض ِل الله سبع ًة كانوا ُيع َّذبون في دينهم. -فمن هم؟ -بالل ،وعامـر بـن فهيـرة ،وأم ُعبيـس ،و ِزنيـ َّرة ،والنهديـة وابنتهـا ،وجاريـة ابـن عمـرو بـن مؤمـل. 38
-فهل من قصة ُتروى في عتق هؤلاء؟ -بعضهـم كان مجـ َّرد صفقـة بيع وشـراء ،ثـم يعقبه َمـن ُعتِق لوجـه اللـه ،وبعضهم قـد كان فيهـم قصة. -فهل يتكرم خليفة رسول الله بإخباري بها؟ -لـ َك هـذا يـا ُبنـي ،فأمـا ِز ِّنيـرة الروميـة فكانـت أمـ ًة لعمـر بـن الخطـاب ،أسـلم ْت قبلـه ،فـكان يضربهـا حتـى ذه َب بصرهـا ،فقالـت قريـش :مـا أذهـ َب بصرهـا إلا الال َت والعـزى. فقالـ ْت وهـي لا تبصـ ُر :والل ِه مـا هو كذلك ،وما تـدري اللات والعـزى مـن يعبدها ،وربي قـادر على أن يـر َّد عل َّي بصري. فـر َّد اللـ ُه عليهـا بصرهـا صبيحة تلـك الليلـة ،فقالـ ْت قريش: هـذا مـن سـحر محمد. وكانـت قريـش تقول :لـو كان هـذا الدين خيـر ًا ما سـبقتنا إليه ِز ِّني�رة ،فأن�زل الل�ه تعالى قوله ﴿ َو َقـا َل ا َّل ِذيـ َن َك َف ُروا لِ َّل ِذيـ َن آ َمنُوا َلـ ْو َكا َن َخ ْيـ ًرا َّما َسـ َب ُقو َنا إِ َل ْي ِه﴾ فلما سمع ُت بخبرها اشتريتها واعتقتها. وأمـا النهديـة وابنتهـا ،فقـد كانتـا لامـرأ ٍة مـن عبـد الـدار، فمـرر ُت بهمـا وقـد بعثتهمـا سـيدتهما إلى طحيـ ٍن لهـا تطحنانه، وهـي تقـول :واللـ ِه لا أعتقكمـا ابـد ًا! فقل ُت لها :تحللي من يمينك. فقالت :قد تحلل ُت ،وأن َت أفسدتهما فأعتِقهما. فقل ُت لها :ب َك ْم؟ 39
فقالت :بكذا وكذا درهم. فقلـ ُت :قـد أخذتهما وهمـا حرتان ،وقلـ ُت لهماَ :أ ْر ِجعـا إليها طحينها . فقالتا :حتى نفرغ منه ونرده إليها. فقل ُت :ذلك لكما إن شئتما. وأمـا جاريـة ابن عمرو بـن مؤمل ،فكانـت مسـلمة ،وكان َح ُّي بنـي مؤمـن مـن َعـدي ،وكان عمـر بـن الخطـاب يعذبهـا لتتـرك الإسالم وهـو يومئـذ علـى الشـرك ،فيضربهـا حتـى إذا مـ َّل منها قـال :أعتـذ ُر إليـك ،إنـي لـم أتـرك ِك إلا ملل ًا. فتدعو عليه... فلما سمع ُت بخبرها ،اشتريتها من سيدها وأعتقتها. -لل ِه أن َت كم جاهد َت بنفسك ومالك في سبيل الله. -يا ُبني من علم أنه لل ِه هو ،هان عليه في سبيله كل شيء! -أتـدري يـا خليفـة رسـول اللـه أنـي أتحـر ُق شـوق ًا أن نصل فـي حديثنـا إلـى يـوم الهجـرة ،ولكـن قبلهـا أتـأذن لـي أن أسـألكعـنموقفيـنحصالمع َكقبـلالهجـرةالشـريفة؟ -وما هما يا ُبني؟ -أريـ ُد أن تتكـرم علـ َّي وتحدثنـي عـن رهانـك مـع ُأبـي بـن خلـف ،وعـن هجرتـك التـي لـم تكتمـل إلـى الحبشـة. -ل َك هذا فاسم ْع. -كلي آذان صاغية يا خليفة رسول الله ،فتف َّضل. 40
-فأمـا رهانـي مـع ُأبـي بـن خلـف فـكان ذلـ َك قبـل الهجرة كمـا ذكـر َت ،ولـم يكـن ال ِّرهـان قـد ُحـ ِّر َم بعـد فـي ديـن الإسالم ،والقصـة هي أن الـروم وفـارس اقتتلتـا ،فهزم ْت فـار ُس الـروم ،فبلغنـا ذلـك فـي مكـة ،فشـ َّق ذلـ َك علينـا لأن النبـي ﷺ كـره أن يظهـر المجـوس عبـدة النـار علـى أهـل الكتـاب من الـروم ،بينمـا فرح مشـركو قريـش بنصر فـارس وشـمتوا ،وكانـوا يقولـون لنـا :إنكـم أهـل كتـاب والنصـارى أهـل كتـاب .ونحـن أم ُّيـون ،وقد ظهـ َر إخواننا مـن أهل فـارس علـى إخوانكـم من أهـل الكتـاب ،وإنكم إن قاتلتمونـا لنظهـر َّن عليكـم .كمـا ظهـر ْت فـارس علـى الروم. فأنـزل اللـه تعالـى قوله ﴿ألـم ُغ ِل َبـ ِت ال ُّرو ُم فِـي َأ ْد َنـى الاْ ْر ِض َو ُهـم ِّمـن َب ْعـ ِد َغ َلبِ ِهـ ْم َسـ َي ْغ ِل ُبو َن فِي بِ ْض ِع ِسـنِي َن﴾. فخرجـ ُت إلى الكفـار فقلـ ُتَ :أ َف ِرحتـم بظهـور إخوانكم على إخواننـا ،فال تفرحـوا ،ولا ي َقـ َّر َّن اللـه أعينكـم ،واللـ ِه ليظهـ َر َّن الـروم علـى فـارس ،أخبرنـا نبينـا بذلك. فقام إل َّي ُأبي بن خلف الجمعي فقال :كذب َت يا أبا ف ِصي ْل. فقل ُت :أن َت أكذ ُب يا عدو الله! فقـال :أراهنـك علـى عشـر قلائـص منـي وعشـر قلائـص منـك ،فإن ظهـرت الروم علـى فـارس دفعتها إليـ َك ،وإن ظهرت فـارس علـى الـروم دفعتها إلـ َّي على أن تكـون مـدة الرهان ثلاث سنو ا ت . 41
-وما هي القلائص يا خليفة رسول الله؟ -القلوص هي الفت َّية من الإبل. -حسن ًا فهم ُت ،فماذا حدث بعد ذلك؟ -جئـ ُت إلـى النبـي ﷺ فأخبرتـه بالـذي كان بيننـا مـن رهـان، فقـال لـي :ما هكـذا ذكر ُت لكـم ،وإنمـا بضع سـنين فهي من الثالث إلـى التسـع فزايـده فـي ال ُمـدة و ِز ْد عليه فـي الرهان. فخرج ُت فلقي ُت ُأب ّي ًا ،فقال لي :لعلك ندم َت؟ فقلـ ُت :لا ،ولكـن تعـال أزيـدك فـي ال ِّرهـان وفـي المـدة، فاجعلهـا مئـة قلـوص إلـى تسـع سـنين. فقال :قد قبل ُت. فلمـا خشـ َي ُأبـ ُّي بـن خلـف أن أخـرج مـن مكـة مهاجـر ًا إلى المدينـة لمـا تناهـى إلى مسـامعه أن المسـلمين قد بـدأوا بالهجرة إليهـا ،جاءنـي وقال لـي :إني أخـا ُف أن تخر َج من مكـة ،فينقضي أجـل الرهـان ول َّمـا تدفع لـي فأ ِق ْم لـي ضامنـ ًا كفيل ًا. -فما الذي حدث بعد ذلك؟ -خـرج ُأبـي بـن خلف إلـى ُأحـد ،ثم رجـع إلى مكـة وما َت فيهـا مـن أثـر جراحـه التـي جرحـه إياهـا النبـ ُّي ﷺ حيـن بـارزه يـوم ُأحد. ثـم هزمـ ْت الرو ُم أهـ َل فـارس يـوم الحديبيـة ،وكان ذلك بعد سـبع سـنوات من رهاننـا ،فقبـ َض ابني عبـد الله الرهـان من ورثة ُأبـي بـن خلـف ،وجاءني بهـا ،فأخذتها إلـى النبـي ﷺ ،فقال لي: تصـ َّد ْق بها. 42
-أمـا حدثت َك نفسـك ولـو للحظة أنـه من الممكن أن تخسـر الرهان؟ -لا واللـ ِه مـا شـكك ُت ولا ارتبـ ُت فـي وعـد اللـه ووعـد رسـوله ،وكنـ ُت علـى يقيـن بأنـي سـأفوز بالرهـان ،ومـا كانـت تعنيني النـوق موضـوع الرهـان ،وإنما كنـ ُت ُأراهن علـى صـدق اللـه ورسـوله. -لل ِه َد ّر َك يا أبا بكر. -فهل انتهينا من هذه القصة؟ -أجـل انتهينـا ،فهل تتكـرم وتحدثني الآن عـن هجرتك التي لـم تكتمل إلى الحبشـة؟ -لك هذا يا ُبني. -كلي آذان صاغية يا خليفة رسول الله. -لمـا زاد ْت قريـش فـي أذاهـا لنـا ،خرجـ ُت مهاجـر ًا إلـى الحبشـة أريـ ُد أن ألحـق بجعفـر بـن أبـي طالـب ومن معـه هناك، حتـى إذا بلغـ ُت برك الغمـاد وهي منطقـة تبع ُد مسـيرة خمس ليا ٍل عـن مكـة ،لقيني هنـاك ربيعة ابـن ال َّدغنة ،واسـمه ربيعـة بن فهيم مـن قبيلـة القـارة وال َّدغنـة أمـه وكان ُينسـ ُب إليها لشـهرتها ،فقال لـي :أيـن تريـ ُد يا أبـا بكر؟ فقل ُت :أخرجني قومي ،فأري ُد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. فقـال :فـإن مثلـك يا أبـا بكـر لا َيخـر ُج ولا ُيخرج ،إنك ُتكسـ ُب المعـدو َم ،وتصـ ُل ال َّرحم ،وتحمـ ُل الـك َّل ،و ُتقري الضيـف ،و ُتعين علـى نوائـب الحـق ،فأنا ل َك جـا ٌر ،ارجـ ْع فاعبـ ْد ر َّبك فـي بلد َك. 43
فرجعـ ُت ورجـ َع معي ابـن ال َّدغنة ،فلمـا صرنا في مكـة ،طا َف بالبيـت ،ثـم أقبـل على سـادة قريش فـي دار الندوة وقـال لهم :إ َّن أبـا بكر لا َيخـر ُج ولا ُيخـر ُج ،أ ُتخرجون رجل ًا ُيكسـ ُب المعدوم، ويصـل الرحـم ،ويحمـل الـك َّل ،و ُيقـري الضيـف ،ويعيـن علـى نوائـب الحق. فسـكتوا برهـ ًة ،لمـا علمـوا مـن صـدق وصفه لـي ،ثـم قالوا: ُمـ ْر أبـا بكـ ٍر فليعبـ ْد ر َّبـه فـي داره فليصـ ِّل فيهـا ،وليقـرأ ما شـاء، ولا ُيؤذينـا ،فإننـا نكـره أن يفتن نسـاءنا وأبناءنا عن دينهـم فيتبعوا د ينه . فقال لهم :لكم هذا. فلبـ ُث زمانـ ًا علـى هـذا ،ثـم بنيـ ُت مسـجد ًا فـي فنـاء داري، فكنـ ُت أصلـي فيـه ،وأقـرأ القـرآن ،فكانت قريـش تم ُّر بـي فتقف تسـمع لصلاتـي وقراءتـي ،فسـاء ذلك سـادة قريش ،فجـاؤوا إلى ابـن ال َّدغنـة وقالـوا لـه :إ َّنـا كنَّـا أجرنـا أبـا بكـ ٍر بجـوارك على أن يعبـد ربـه في داره ،فجـاوز ذلك ،فبنى مسـجد ًا في فنـاء داره ،وإنا قـد خشـينا أن يفتـن نسـاءنا وأبناءنـا ،فانهه ،فـإن أحـ َّب أن يقتصر علـى أن يعبـد ر َّبه فـي داره فعـ َل ،وإن أبـى إلا أن ُيعلن ،فسـله أن يـر َّد إليـ َك ذمتـ َك ،فإنا نكـره أن نر َّد جـوارك فيه ولكننـا لا نرضى أن يجهـر بصلاتـه وقراءته. فجاءنـي ابـن ال َّدغنـة ،فقـال :يـا أبـا بكـر ،قـد علمـ َت الـذي 44
أجر ُتـ َك عليـه ،فإمـا أن تقتصر علـى أن تعبد ربك فـي بيتك ،وإما أن ُترجـ ْع إلـ َّي ذمتـي ،فإنـي لا أح ُّب أن تسـم َع العر ُب أنـه ُأصيب رجـ ٌل وهـو فـي جـواري ،وأنا فـي غنى عـن قتـال قريش. فقلـ ُت لـه :فإنـي أر ُّد إليـك جـوار َك ،وأرضى بجـوار اللـ ِه ع َّز و جل . -لفتني يا خليفة رسول الله ُنبل ابن ال َّدغنة. -أجـل واللـ ِه ،لقـد كان رجا ًل نبيا ًل ،وهكـذا كانـت أخلاق العـرب فـي الجاهليـة ،فعلى شـركهم ،كانت فيهـم أخلا ٌق حميـدة ،وهـذه أقـ َّر لهـم بهـا النبـ ُّي ﷺ يـوم قـال« :إنمـا ُبعثـ ُت لأتمـم مـكارم الأخلاق» .فقـد أق َّر أن للقـوم أخلاق ًا حميـدة ،ولكنهـا أخلاق تعجـ ُب أحيان ًا من نبلها ثـم يقابلها عـادات تعجب مـن ِخ َّسـتها ووضاعتها ،وما بعـث الله نب َّيه ﷺ إلا بديـن التوحيد ،ثـم ل ُيبقي على هذه العـادات والقيم النبيلـة ،ويهـدم العـادات السـيئة ،ويقيـم مكانهـا عـادات الإسالم وأخلاقه. -صدق َت والل ِه. -فه ْل اكتفي َت بما حدثت َك به مما طلب َت؟ -أمـا عمـا طلبـ ُت فقـد اكتفيـ ُت ،وأمـا منـك فال ،فمـا زال للحديـث بقيـة! 45
-والآن يـا خليفـة رسـول اللـه أريـ ُد أن أسـأل َك عـن شـي ٍء غبطـكعليـهالنـاسمنـذأنحـد َثلـ َكحتـىقيـامال َّسـاعة! -وما هو يا ُبني؟ -هجرتك مع النبي ﷺ من مكة إلى المدينة. -واللـ ِه لهـي أجمـل أيـام عمـري ،فعلـى مـا فيهـا من مشـقة السـفر ،وخـوف أن ُنـدرك ،والقلـق علـى النبـي ﷺ وعلى ديـن الإسالم ،إلا أن كل هـذا لا شـيء مقارنـة أن تمشـي معـه فـي رحلـة غ َّيـر ْت وجـه هـذا الكوكـب إلـى الأبـد، ونقلـ ْت الإسالم من مشـقة الدعوة إلى ِسـعة الدولـة ،وأن تختلـي بـه في الغـار وحدكمـا ثلاثة أيـام لهو أجمـل ما في العمـر ،ويسـتحق أن ُأغبـط عليه. -فحدثنـي عنهـا إذ ًا ،فكلـي شـوق أن أسـمع القصـة مـن صا حبهـا . -ل َك هذا يا ُبني ،فأعرني سمع َك. -أعر ُت َك قلبي قبل سمعي. -كنـ ُت كثيـر ًا مـا أسـتأذ ُن النبـ َّي ﷺ فـي الهجرة ،فيقـول لي: لا تعجـل ،لعـ َّل اللـه أن يجعـ َل ل َك صاحبـ ًا .فكنـ ُت أمتث ُل أمـره وأنتظـر ،ومـا كنـ ُت أعل ُم أنـه ُيخبئني لنفسـه! 46
وكان مـن عـادة النبـي ﷺ أن يأتينـي فـي بيتـي إمـا صباحـ ًا، أو مسـا ًء ،فجاءنـي يومـ ًا عنـد منتصـف الظهيـرة ،فقلـ ُت :مـا جاء رسـول اللـه ﷺ في هـذه ال َّسـاعة إلا لأمر قـد حدث .فلمـا دخ َل أفسـح ُت لـه ليجلـس إلـى جـواري علـى سـريري وليـس عندي يومهـا إلا أسـماء وعائشـة. فقال ليَ :أ ْخ ِر ْج عني من عندك. فقل ُت :يا رسول الله ،إنما هما ابنتا َي ،وما ذا َك فدا َك أبي وأمي؟ -إنه قد ُأذ َن لي في الخروج والهجرة. -ال ُّصحبة يا رسول الله. -ال ُّصحبة يا أبا بكر. وكان قلبـي ُيح ّدثنـي أنـه سـيصحبني معـه ،فكن ُت قـد أعدد ُت ناقتيـن للسـفر ،فأخبرته بالأمـر ،وقل ُت لهُ :خ ْذ إحـدى الراحلتين. فقال لي :بالثمن يا أبا بكر. فقل ُت له :كما تشاء يا رسول الله. -فلمـاذا أصـ َّر علـى أن يدفع ثمـن الناقة لك ،مع أنـه لم يكن بينكمـا حسـاب .وهو القائـل :إن أم َّن الناس علـ َّي بصحبته ومالـه أبو بكر؟ -هـذا لتكـون هجرتـه إلـى الله بنفسـه ومالـه ،ولهذا لـم ُأل َّح عليه فقـد فهمـ ُت مغزاه. -حسن ًا ،فما الذي حدث بعدها؟ -رسـمنا خطـة الهجـرة ،وهـي أن نخرج مشـي ًا علـى الأقدام إلـى غـار ثـور ،ونمكـث هنـاك ثلاثة أيـام ،فقـد علمنـا أن 47
قريشـ ًا لا ُبـ َّد أن تخـرج فـي طلبنـا ،فـإذا اختبأنـا هنـاك ،ما تلبـث قريـش أن تعتقـد أننـا سـبقناهم فتكـ َّف عـن طلبنـا. وكنـا قـد اسـتأجرنا رجا ًل عالمـ ًا بالصحـراء داهية ،اسـمه عبـد الله بـن ُأريقط ليكـون دليلنا إلـى المدينـة ،ويختار لنا طريقـ ًا لا يسـلكه النـاس عـادة ،واتفقنـا أن يأتينا عنـد الغار مـع خادمـي عامر بـن فهيـرة والنوق التـي سـنركب عليها، فـإذا أتـ َّم اللـ ُه لنـا هـذا ،انطلقنـا برعاية اللـ ِه إلـى المدينة. وأوصـى النبـ ُّي ﷺ عل ًّي بن أبـي طالب ،أن يبي َت في فراشـه تلك الليلـة حتـى تطمئـن قريـ َش أنه فـي بيتـه ،وأوصـاه أن يـ ُر َّد الأمانات إلـى أصحابهـا ،فلـم يكـن عنـد أحد مـن قريش شـيء يخشـى عليه إلا وضعـه عنـد النبـي ﷺ لمـا يعلمون مـن صدقـه وأمانته. وخرجنـا ولا يعلـم بمكاننا مـن الناس إلا علي بـن أبي طالب، وأهـل بيتـي .وعبـد اللـه بـن ُأريقـط ،وخادمـي عامـر بـن فهيرة، ول َّمـا كنـا على مشـارف مكة ،وقـف النب ُّي ﷺ مودعـ ًا لها والحزن يعتصـ ُر قلبـه وقال :إن ِك لأحـ ُّب أر ِض اللـ ِه إل َّي ،ولـولا أ ّن أهل ِك أخرجونـي من ِك مـا خرج ُت. ونحـن فـي الطريـق إلى غار ثـور كن ُت أسـي ُر مـر ًة أمامـه ومر ًة وراءه ،فقـال لـي :ما هـذا يا أبـا بكر؟ فقلـ ُت :يـا رسـول اللـه أذكـ ُر ال َّرصـد فأكـون أمامـك ،وأذكـ ُر ال ّطلـ َب فأكـون وراءك ،فإنـي أخشـى عليـك. 48
فلمـا وصلنا إلـى غار ثـور دخلنا فاختبأنـا ،وفقدتنـا قري ٌش في مكـة ،وجـاء أبـو جهـل إلـى بيتـي يسـأل ابنتي أسـماء عنـي وقال لهـا :أيـن أبو ِك؟ فقالت :ما أدري أين أبي. فرفـع يـده فلطمهـا على وجههـا لطمة قوية سـقط منهـا القرط الـذي تضعه فـي أذنها! -لكم الله يا آل أبي بكر كم تحملتم في سبيل الل ِه. -بـل الحمـد للـ ِه والمنـة أن اختارنـا مـن دون النـاس لنكون جنـود ًا فـي هـذه الهجـرة المباركة -فما الذي حدث بعد ذلك؟ -تبعـ ْت قريـش آثارنـا حتى وصلـوا إلـى جبل ثـور ،فاختلط عليهـم الأمـر ،فصعـدوا الجبل ،ومـروا بالغار ،فـرأوا على بابـه نسـيج العنكبـوت ،فقالـوا :لو دخـ َل هنا أحـد لم يكن نسـيج العنكبوت علـى بابه. وأنـا في الداخل أخشـى علـى النبـي ﷺ ،وقل ُت له :يا رسـول اللـه لـو أن أحدهم نظـر تحت قدميـه لأبصرنا. فقال لي :يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما. فأن�زل الل�ه تعال�ى علي�ه قرآن� ًا ﴿إِ َّل َتن ُصـ ُرو ُه َف َقـ ْد َن َصـ َر ُه ال َّل ُه، إِ ْذ َأ ْخ َر َجـ ُه ا َّل ِذيـ َن َك َفـ ُروا َثانِـ َي ا ْثنَ ْيـ ِن إِ ْذ ُه َمـا فِـي ا ْل َغـا ِر إِ ْذ َي ُقـو ُل لِ َصا ِحبِـ ِه َل َت ْحـ َز ْن إِ َّن ال َّلـ َه َم َعنَـا َف َأنـ َز َل ال َّلـ ُه َسـ ِكينَ َت ُه َع َل ْيـ ِه َو َأ َّيـ َد ُه بِ ُجنُـو ٍد َّلـ ْم َت َر ْو َهـا َو َج َع َل َك ِل َمـ َة ا َّل ِذي َن َك َفـ ُروا ال ُّسـ ْف َل ٰى َو َك ِل َم ُة ال َّل ِه ِهـ َي ا ْل ُع ْل َيـا َوال َّلـ ُه َع ِزيـ ٌز َح ِكي ٌم﴾. 49
-يـا لِح ّظـك يـا أبـا بكـر ،يطمئنـك بصوتـه العـذب ،وير ّب ُت علـى قلبـك بأجمـل مـا قيـل فـي الطمأنينـة فـي تاريـخ البشـرية ،يـا أبـا بكـر مـا ظنـك باثنيـن اللـه ثالثهمـا .ويـا لحظـك إذ ينـز ُل فيك قـرآن ُيتلـى إلى يـوم القيامة ويشـه ُد أنـ َك كنـ َت صاحبـه. -هـذا فضـل اللـ ِه يؤتيـه مـن يشـاء ،والحمـد لل ِه علـى فضله الـذي آتانا. -فهـل كنتـم تعلمون شـيئ ًا من أخبـار قريش وأنتما فـي الغار قبـل أن يصـل إليكمـا بقيـة فريق الهجـرة المباركـة لإكمال الرحلة؟ -كنا نعرف كل أخبارهم. -وكيف هذا؟ -أخبر ُتـ َك أننـا أعددنـا للأمـر خطـة محكمـة وكان مـن بنود الخطـة أن يبقـى ابنـي عبـد اللـ ِه فـي مكـة نهـار ًا يسـتطل ُع أخبـار قريـش ،ويعـرف ما هـم فاعلون مـن أمرهـم ،وماذا يقولـون و ُيد ّبـرون ،فـإذا كان الليـل انسـ َّل إلينـا فـي الغـار وأخبرنـا بخبـر القـوم ،وكان يبقـى سـاهر ًا عنـد بـاب الغار يحرسـنا فـإذا كان الصبـاح عاد إلى مكـة .فرآه القـوم هناك فـي النهـار فلـم يشـكوا للحظـة أنه بـات فـي بيته. -هـي واللـ ِه خطـة محكمـة ،ولكـن ألـم يخطـر ببالكمـا أن قريشـ ًا قـد تتبـ ُع الأثـر إلـى غـار ثـور مـر ًة أخـرى؟ -على يقيننا أن قريش ًا ما كانت تعود ،إلا أننا احتطنا للأمر. 50
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202