201 معالجتهـا سـريعاً .لكـن معالجـة إيـران وبرنامجهـا النـووي بصـورة معزولـة تمثـل قصـر نظـر، إذ إن سياسـات إيـران التوسـعية ،خصوصـاً فـي العـراق ،جـزء مـن المشـكلة ،وتجـب معالجتهـا ووقفهـا. وخــال جلســة المصادقــة فــي البرلمــان ،قــال بلينكــن إن دول الخليــج العربــي وإســرائيل سـتنخرط فـي مفاوضـات مـع إيـران بشـأن دورهـا فـي المنطقـة .ولـم يكـن هنـاك أي ذكـر للعـراق، علـى الرغـم مـن أنـه مركـز طموحـات إيـران التوسـعية فـي المنطقـة. سوء فهم وثمـة سـوء فهـم شـائع بـأن إيـران لديهـا مـا اعتـادت وصفـه بــ«دور طبيعـي» لهـا فـي العـراق ،سـواء كان ذلـك بسـبب العلاقـات الثقافيـة أو طموحـات إيـران للهيمنـة .ومـع ذلـك ليـس هنـاك سـبب يدعـو إيـران لأن يكـون لهـا دور أمنـي أو سياسـي فـي الـدول الأخـرى ذات السـيادة. وبلاشـك فـإن العلاقـات الثقافيـة مهمـة ،لكـن وجـود ميليشـيا فـي العـراق تابعـة للحـرس الثـوري الإيرانـي ،تعمـل بأوامـره ،وتعبـر الحـدود بحريـة ،يعتبـر أمـراً يتجـاوز بكثيـر التأثيـر الثقافـي. والحقيقـة ،يجـب ألا ينظـر إلـى العـراق فقـط ضمـن السـياق الإيرانـي. وتمتلـك الولايـات المتحـدة عـدداً مـن أدوات النفـوذ التـي يمكـن أن تسـتخدمها فـي العـراق ،إذ إن الوجـود المحسـوس للأميركييـن ،سـواء كان السـفارة أو الجنـود الأميركييـن ،مطلـوب لإظهـار مــدى التـزام واشـنطن ،وللمســاعدة علــى تأميــن اسـتقرار العـراق .وبمعــزل عـن حلفــاء إيــران المتحمسـين فـي بغـداد ،الذيـن يتمنـون طـرد الولايـات المتحـدة إلـى خـارج العـراق ،يفضـل القـادة السياسـيون الوجـود الأميركـي لمعادلـة كفـة النفـوذ الإيرانـي .وحتـى رجـل الديـن ،مقتـدى الصـدر، الـذي حـارب أتباعـه ضـد الولايـات المتحـدة ،فإنـه يفضـل بقـاء النفـوذ الأميركـي فـي العـراق لتجنـب السـيطرة الكاملـة الإيرانيـة علـى البلـد .وثمـة أداة أخـرى هـي العقوبـات التـي اسـتخدمتها
202 إدارة الرئيـس السـابق ،دونالـد ترامـب ،بصـورة متكـررة .وهـذه العقوبـات تعـد مؤشـراً إلـى مـن ســتعمل معــه واشــنطن ومــن لــن تعمــل معــه .وأي شــخص تصنفــه الولايــات المتحــدة كزعيــم ميليشـيا ،يمكـن أن تنتهـي طموحاتـه السياسـية ،وتمنعـه مـن دخـول الحكومـة وتسـلم السـلطة. ويــدرك السياســيون العراقيــون أن إدارة بايــدن لا تملــك الكثيــر مــن الوقــت أو المــوارد لتبديدهـا فـي بلادهـم .وهـذا مـا يشـكل قلقـاً للذيـن يأملـون رؤيـة الولايـات المتحـدة تلعـب دوراً هنـاك ،وأن تكـون لهـا علاقـات وثيقـة مـع العـراق ،أمـا الذيـن يناصـرون إيـران ،والذيـن يـرون الولايـات المتحـدة كتحـ ٍّد لخططهـم ،فيمثـل ذلـك تطـوراً مرحبـاً بـه ،لهـذا يجـب ألا نمنحهـم مـا يرغبـون بـه. *مينا العريبي :صحافية بريطانية من أصل عراقي للرجوع الى اصل المقال على الرابط التالي: https://foreignpolicy.com/.../iraq-biden-missing-agenda/...
203 الجائحة تس ِّرع عجلة التاريخ بدلاً من إعادة تشكيله ليست كل أزمة نقطة تحول. ريتشارد هاس* فورين أفيرز 7أبريل 2020 مـا نمـر بـه هـو أزمـة كبيـرة بـكل المقاييـس ،لـذا مـن الطبيعـي أن نفتـرض أنهـا نقطـة تحـول فـي التاريـخ الحديـث .فـي الأشـهر التـي تلـت ظهـور COVID 19المـرض الناجـم عـن الفيـروس التاجـي الجديـد ،اختلـف المحللـون حـول نـوع العالـم الـذي سـيتركه الوبـاء فـي أعقـاب انتهـاء هـذه الجائحـة .لكـن معظمهـم يجادلـون بـأن العالـم الـذي ندخلـه سـيكون مختلفًـا بشـكل أساسـي عمـا كان موجـو ًدا مـن قبـل .يتوقـع البعـض أن يـؤدي الوبـاء إلـى نظـام عالمـي جديـد بقيـادة الصيـن؛ يعتقـد البعـض الآخـر أنهـا سـتؤدي إلـى زوال زعامـة الصيـن .يقـول البعـض إنهـا سـتنهي العولمـة؛ يأمـل البعـض الآخـر أن تكـون فاتحـة لعصـر جديـد مـن التعـاون العالمـي .ولا يـزال البعـض الآخـر يتوقـع أنهـا سـتحفز النزعـة القوميـة ،وتقـوض التجـارة الحـرة ،وتـؤدي إلـى تغييـر النظـام فـي مختلـف البلـدان ،أو كل مـا سـبق. لكـن مـن غيـر المحتمـل أن يكـون العالـم الـذي يلـي الوبـاء مختلفًـا جذريًـا عـن العالـم الـذي سـبقه COVID 19 .لـن يغيـر الاتجـاه الأساسـي لتاريـخ العالـم كثيـ ًرا ولكـن يسـرعه .لقـد كشـف الوبـاء والاسـتجابة لـه عـن الخصائـص الأساسـية للجغرافيـا السياسـية وعززهـا اليـوم .ونتيجـة لذلـك ،تعـد هـذه الأزمـة نقطـة تحـول أقـل مـن كونهـا محطـة طريـق علـى طـول الطريـق الـذي كان العالـم يسـير فيـه خـال العقـود القليلـة الماضيـة .مـن السـابق لأوانـه التنبـؤ بموعـد انتهـاء
204 الأزمــة نفســها .ســواء فــي غضــون ســتة أو 12أو 18شــه ًرا ،ســيعتمد التوقيــت علــى درجــة اتبـاع الأشـخاص للمبـادئ التوجيهيـة للمسـافة الاجتماعيـة والنظافـة الصحيـة الموصـى بهـا؛ توافـر اختبـارات سـريعة ودقيقـة ومعقولـة التكلفـة وعقاقيـر مضـادة للفيروسـات ولقـاح؛ ومـدى الإغاثـة الاقتصاديـة المقدمـة للأفـراد والشـركات. ومــع ذلــك ،فــإن العالــم الــذي ســيخرج مــن الأزمــة يمكــن تمييــزه .تضــاؤل القيــادة الأمريكيـة ،وتعثـر التعـاون العالمـي ،وخـاف القـوى العظمـى ،كل هـذه السـمات ميـزت البيئـة الدوليــة قبــل ظهــور ،COVID 19وأدى الوبــاء إلــى زيــادة حدتهــا بــدلا مــن إغاثتهــا .مــن المرجــح أن تكــون هــذه الســمات أكثــر بــرو ًزا فــي العالــم بعــد الكورونــا. العالم ما بعد الأمريكي. كانـت إحـدى سـمات الأزمـة الحاليـة التراجـع الواضـح فـي القيـادة الأمريكيـة .لـم تحشـد الولايـات المتحـدة العالـم فـي محاولـة جماعيـة لمواجهـة الفيـروس أو تداعياتـه الاقتصاديـة .كمـا لــم تحشــد الولايــات المتحــدة العالــم ليحــذو حذوهــا فــي معالجــة المشــكلة فــي الداخــل .وتعتنــي دول أخـرى بنفسـها بأفضـل مـا يمكنهـا أو تلجـأ إلـى الذيـن تجـاوزوا ذروة العـدوى ،مثـل الصيـن، للحصـول علـى المسـاعدة .ولكـن إذا كان العالـم الـذي سـيتبع هـذه الأزمـة عال ًمـا مـع هيمنـة أقـل للولايــات المتحــدة ،مــن المســتحيل تقريبًــا تخيــل أي شــخص يكتــب اليــوم عــن “لحظــة أحاديــة القطـب” ،فهـذا الاتجـاه ليـس جديـ ًدا .لقـد كان واضحـا منـذ عقـد علـى الأقـل. إلـى حـد مـا ،هـذا نتيجـة لمـا وصفـه فريـد زكريـا (مقـدم برنامـج علـى قنـاة CNN ومؤلـف كتـاب “مـا بعـد العالـم الأميركـي” – 2002إضافـة مـن المترجـم) بأنـه “صعـود الباقـي” (والصيـن علـى وجـه الخصـوص) ،ممـا أدى إلـى انخفـاض فـي الميـزة النسـبية للولايـات المتحـدة علـى الرغـم مـن اسـتمرار قوتهـا الاقتصاديـة والعسـكرية المطلقـة فـي النمـو .ولكـن حتـى أكثـر
205 مـن ذلـك ،فهـو نتيجـة تعثـر الإرادة الأمريكيـة بـدلاً مـن تراجـع القـدرة الأمريكيـة .أشـرف الرئيـس بـاراك أوبامـا علـى الانسـحاب مـن أفغانسـتان والشـرق الأوسـط .اسـتخدم الرئيـس دونالـد ترامـب فـي الغالـب القـوة الاقتصاديـة لمواجهـة الأعـداء .لكنـه أنهـى بشـكل أساسـي الوجـود الأمريكـي فـي سـوريا ،ويسـعى إلـى القيـام بنفـس الشـيء فـي أفغانسـتان ،وربمـا الأكثـر أهميـة ،لـم يبـد اهتما ًمـا كبيـ ًرا إمـا بالتحالفـات أو فـي الحفـاظ علـى الـدور التقليـدي للولايـات المتحـدة فـي معالجـة القضايـا عبـر الوطنيـة الرئيسـية. كان احتمــال هــذا التغييـر جـز ًءا كبيــ ًرا مــن جاذبيـة رســالة ترامــب “أمريــكا أولاً” ،التــي وعـدت بـأن الولايـات المتحـدة سـتكون أقـوى وأكثـر ازدهـا ًرا إذا فعلـت أقـل فـي الخـارج وركـزت طاقاتهــا علــى القضايــا المحليــة .ضمنيًــا فــي هــذا الــرأي كان الافتــراض أن الكثيــر ممــا فعلتــه الولايــات المتحــدة فــي العالــم كان مســرفًا وغيــر ضــروري وغيــر مرتبــط بالرفاهيــة المحليــة. بالنسـبة للعديـد مـن الأمريكييـن ،مـن المرجـح أن يعـزز الوبـاء هـذا الـرأي علـى الرغـم مـن حقيقـة أنـه يجـب بـدلاً مـن ذلـك أن يسـلط الضـوء علـى كيفيـة تأثـر الرفـاه المحلـي ببقيـة العالـم .سـوف يقولـون إن علـى الولايـات المتحـدة أن تركـز علـى تصحيـح نفسـها وتكريـس المـوارد للاحتياجـات فـي الداخـل بـدلاً مـن الخـارج ،للحصـول علـى الزبـدة بـدلاً مـن الأسـلحة .هـذا خيـار زائـف ،حيـث تحتـاج البـاد وبإمكانهـا تحمـل كليهمـا ،ولكـن مـن المحتمـل المجادلـة بأنهمـا نفـس الشـيء. الترابـط القيمـي بيـن ال ُمثـل الأميركيـة هـي نفسـها خيـارات السياسـة الأمريكيـة .قبـل وقـت طويـل مـن تدميـر COVID 19لـأرض ،كان هنـاك بالفعـل انخفـاض حـاد فـي جاذبيـة النمـوذج الأمريكـي .بفضـل الجمـود السياسـي المسـتمر ،والعنـف المسـلح ،وسـوء الإدارة التـي أدت إلـى الأزمـة الماليـة العالميـة لعـام ،2008ووبـاء الإدمـان ،وأكثـر مـن ذلـك ،أصبحـت أمريـكا بشـكل متزايـد غيـر جذابـة للكثيريـن .إن اسـتجابة الحكومـة الفيدراليـة البطيئـة وغيـر المترابطـة وغيـر
206 الفعالـة فـي كثيـر مـن الأحيـان للوبـاء سـتعزز الـرأي السـائد بالفعـل بـأن الولايـات المتحـدة فقـدت طريقهـا. مجتمع فوضوي. إن الوبـاء الـذي يبـدأ فـي بلـد واحـد وينتشـر بسـرعة كبيـرة فـي جميـع أنحـاء العالـم هـو تعريـف التحـدي العالمـي .كمـا أنـه دليـل آخـر علـى أن العولمـة حقيقـة وليسـت خيـا ًرا .لقـد عـاث الوبــاء خرابًــا فــي البلــدان المفتوحــة والمغلقــة ،الغنيــة والفقيــرة ،الشــرقية والغربيــة .والغائــب الحقيقـي هـو أي علامـة علـى اسـتجابة عالميـة ذات مغـزى( .يبـدو أن قانـون نيوتـن ،وهـو أن لـكل فعـل رد فعـل معاكـس و متسـاو ،تـم تعليقـه علـى مـا يبـدو) إن عـدم وجـود صلـة وثيقـة تقريبـاً بمنظمــة الصحــة العالميــة ،التــي ينبغــي أن تكــون أساســية لمواجهــة التهديــد القائــم ،يشــير إلــى الحالـة السـيئة للحكـم العالمـي . ولكـن فـي حيـن أن هـذا الوبـاء جعـل هـذا الواقـع واض ًحـا بشـكل خـاص ،فـإن الاتجاهـات الأساســية ســبقته منــذ فتــرة طويلــة .ظهــور تحديــات عالميــة لا يمكــن لأي دولــة ،مهمــا كانــت قوتهـا ،أن تواجههـا بمفردهـا ،وفشـل المنظمـات العالميـة فـي مواكبـة هـذه التحديـات .والواقـع أن الفجـوة بيـن المشـاكل العالميـة والقـدرة علـى مواجهتهـا تقطـع شـوطا طويـا نحـو تفسـير حجـم الوبـاء .الحقيقـة المحزنـة التـي لا مفـر منهـا هـي أنـه علـى الرغـم مـن اسـتخدام عبـارة “المجتمـع الدولـي” كمـا لـو كانـت موجـودة بالفعـل ،إلا أنهـا فـي الغالـب طموحـة ،تنطبـق علـى جوانـب قليلـة مـن الجغرافيـا السياسـية اليـوم .هـذا الواقـع لـن يتغيـر فـي أي وقـت قريـب. وكانـت الاسـتجابات الرئيسـية للوبـاء وطنية أو حتـى دون وطنية ،وليسـت دولية .وبمجرد أن تمـر الأزمـة ،سـيتحول التركيـز إلـى الانتعـاش الوطنـي .في هذا السـياق ،مـن الصعب رؤيـة الكثير مـن الحمـاس ،علـى سـبيل المثـال ،للتعامـل مـع تغير المنـاخ وخاصة إذا ظـل يُنظر إليه ،بشـكل غير
207 صحيـح ،كمشـكلة بعيـدة يمكـن وضعهـا على الـرف لصالح معالجـة أزمات أكثـر إلحا ًحا. أحـد أسـباب هـذا التشـاؤم هـو أن التعـاون بيـن أقـوى دولتيـن فـي العالـم ضـروري لمواجهـة معظـم التحديـات العالميـة ،لكـن العلاقـات الأمريكيـة الصينيـة كانـت تتدهـور لسـنوات .هـذا الوبـاء يفاقـم الاحتـكاك بيـن البلديـن .فـي واشـنطن ،يحمـل الكثيـرون الحكومـة الصينيـة المسـؤولية ،وذلـك بفضـل أسـابيع مـن التسـتر والخمـول ،بمـا فـي ذلـك الفشـل فـي إغـاق ووهـان علـى الفـور ،المدينة التـي بـدأ فيهـا التفشـي ،والسـماح لآلاف المصابيـن بالمغـادرة ونشـر الفيـروس أكثـر .إن محاولـة الصيـن الآن تصويـر نفسـها علـى أنهـا تقـدم نموذ ًجـا ناج ًحـا للتعامـل مـع الوبـاء واسـتخدام هـذه اللحظـة كفرصـة لتوسـيع نفوذهـا فـي جميـع أنحـاء العالـم سـيضيف فقـط إلـى العـداء الأمريكـي. وفــي الوقــت نفســه ،لــن يغيــر شــيئًا بشــأن الأزمــة الحاليــة وجهــة نظــر الصيــن بــأن الوجــود الأمريكـي فـي آسـيا هـو حالـة شـاذة تاريخيـة أو يقلـل مـن اسـتيائها مـن سياسـة الولايـات المتحـدة بشـأن مجموعـة مـن القضايـا ،بمـا فـي ذلـك التجـارة وحقـوق الإنسـان وتايـوان. اكتســبت فكــرة “الفصــل” الاقتصــادي بيــن البلديــن جاذبيــة كبيــرة قبــل الوبــاء ،مدفو ًعــا بمخـاوف فـي الولايـات المتحـدة مـن أنهـا أصبحـت تعتمـد بشـكل كبيـر علـى خصـم محتمـل للعديـد مـن السـلع الأساسـية وهـي عرضـة بشـكل مفـرط للتجسـس الصينـي وسـرقة الملكيـة الفكريـة. الدافـع للانفصـال سـينمو نتيجـة للوبـاء ،ويعـود ذلـك جزئيـاً فقـط إلـى المخـاوف بشـأن الصيـن. ســيكون هنــاك تركيــز متجــدد علــى إمكانيــة انقطــاع سلاســل التوريــد مــع الرغبــة فــي تحفيــز التصنيـع المحلـي .سـتتعافى التجـارة العالميـة جزئيًـا ،لكـن الحكومـات سـتدير الجـزء الأكبـر منهـا. إن المقاومـة فـي معظـم أنحـاء العالـم المتقـدم لقبـول أعـداد كبيـرة مـن المهاجريـن واللاجئين، وهــو اتجــاه كان مرئيًــا علــى الأقــل خــال نصــف العقــد الماضــي ،ســوف يزيــد حــدة خــال فتـرة الوبـاء .سـيكون هـذا جزئيـاً بسـبب القلـق مـن خطـر اسـتيراد الأمـراض المعديـة ،ويرجـع
208 ذلــك جزئيــاً إلــى أن البطالــة المرتفعــة ســتجعل المجتمعــات حــذرة مــن قبــول الغربــاء .ســتنمو هـذه المعارضـة حتـى مـع اسـتمرار زيـادة عـدد النازحيـن واللاجئيـن ،بالفعـل علـى المسـتويات التاريخيـة ،بشـكل ملحـوظ حيـث لـم تعـد الاقتصـادات قـادرة علـى دعـم سـكانها. وسـتكون النتيجـة معانـاة إنسـانية واسـعة النطـاق وأعبـاء أكبـر علـى الـدول التـي لا تسـتطيع تحملهـا .كان ضعـف الدولـة مشـكلة عالميـة كبيـرة لعقـود ،لكـن الخسـائر الاقتصاديـة للوباء سـتخلق دو ًل أكثــر ضعفــاً أو فاشــلة .ومــن شــبه المؤكــد أن هــذا ســوف يتفاقــم بســبب مشــكلة الديــون المتزايـدة ،فقـد كان الديـن العـام والخـاص فـي معظـم أنحـاء العالـم بالفعـل فـي مسـتويات غيـر مسـبوقة ،والحاجـة إلـى الإنفـاق الحكومـي لتغطيـة تكاليـف الرعايـة الصحيـة ودعـم العاطليـن عـن العمـل سـيؤدي إلـى ارتفـاع الديـن بشـكل كبيـر .سـيواجه العالـم النامـي علـى وجـه الخصـوص متطلبـات هائلـة لا يمكنـه تلبيتهـا ،ويبقـى أن نـرى مـا إذا كانـت البلـدان المتقدمـة سـتكون مسـتعدة لتقديـم المسـاعدة بالنظـر إلـى الاحتياجـات فـي الداخـل .هنـاك احتمـال حقيقـي لحـدوث توابـع ،فـي الهنـد والبرازيـل والمكسـيك وفـي جميـع أنحـاء إفريقيـا ،يمكـن أن تؤثـر علـى الانتعـاش العالمـي. سـلط انتشـار COVID 19إلـى أوروبـا وعبرهـا الضـوء أي ًضـا علـى فقـدان زخم المشـروع الأوروبـي .وقـد اسـتجابت البلـدان فـي معظمهـا بشـكل فـردي للوبـاء وآثـاره الاقتصاديـة .لكـن عمليـة الاندمـاج الأوروبـي اسـتنفدت زخمهـا قبـل هـذه الأزمـة بوقـت طويـل ،كمـا أظهـر خـروج بريطانيـا مـن الاتحـاد الأوروبـي بشـكل واضـح .السـؤال الرئيسـي فـي عالـم مـا بعـد الوبـاء هـو إلـى أي مـدى سيسـتمر بنـدول السـاعة فـي التأرجـح مـن بروكسـل إلـى العواصـم الوطنيـة ،حيـث تتسـاءل البلـدان عمـا إذا كان التحكـم فـي حدودهـا كان يمكـن أن يبطـئ انتشـار الفيـروس. مــن المرجــح أن يعــزز الوبــاء الركــود الديمقراطــي الــذي كان واضحــا منــذ 15عامــا. سـتكون هنـاك دعـوات لـدور حكومـي أكبـر فـي المجتمـع ،سـواء كان ذلـك لتقييـد حركـة السـكان
209 أو تقديـم المسـاعدة الاقتصاديـة .سـيتعامل الكثيـرون مـع الحريـات المدنيـة علـى أنهـا مـن ضحايـا الحـرب ،وهـي رفاهيـة لا يمكـن تحملهـا فـي الأزمـات .وفـي الوقـت نفسـه ،سـتظل التهديـدات التـي تشـكلها الـدول غيـر الليبراليـة مثـل روسـيا وكوريـا الشـمالية وإيـران موجـودة بمجـرد عـدم انتشـار الوبـاء .فـي الواقـع ،ربمـا ازدادت بالفعـل والعالـم مشـغول فـي مـكان آخـر. عالم في حالة فوضى كبرى. منـذ أكثـر مـن ثـاث سـنوات ،نشـرت كتابًـا بعنـوان “العالـم فـي فوضـى” .وصفـت المشـهد العالمـي وزيـادة التنافـس بيـن القـوى العظمـى ،والانتشـار النـووي ،والـدول الضعيفـة ،وزيـادة تدفـق اللاجئيـن ،وتنامـي القوميـة ،إلـى جانـب انخفـاض دور الولايـات المتحـدة فـي العالـم .مـا سـيتغير نتيجـة الوبـاء ليـس حقيقـة الفوضـى ولكـن مـدى هـذه الفوضـى. مـن الناحيـة المثاليـة ،سـتجلب الأزمـة التزا ًمـا متجـد ًدا ببنـاء نظـام دولـي أكثـر قـوة ،مثلمـا أدت كارثـة الحـرب العالميـة الثانيـة إلـى ترتيبـات تعزز السالم والازدهـار والديمقراطيـة لما يقرب مـن ثلاثـة أربـاع القـرن .وسيشـمل مثـل هـذا النظـام تعاونًـا أكبـر لرصـد تفشـي الأمـراض المعديـة والتعامـل مـع عواقبهـا ،بالإضافـة إلـى مزيـد مـن الاسـتعداد للتصـدي لتغيـر المنـاخ ،ووضـع قواعد للفضـاء السـيبراني ،ومسـاعدة المهاجريـن القسـريين ،ومعالجـة الانتشـار والإرهـاب. ولكـن ليـس هنـاك سـبب يدعـو للاعتقـاد بـأن الماضـي سـيكرر نفسـه بعـد هـذه الكارثـة العالميـة الأخيـرة .إن العالـم اليـوم لا يفضـي ببسـاطة إلـى قبـول إعـادة تشـكيله .يتـم توزيـع السـلطة فـي أيـدي الكثيريـن ،سـواء الدولـة أو غيـر الدولـة ،أكثـر مـن أي وقـت مضـى .و الإجمـاع غائـب فـي الغالـب .لقـد تجـاوزت التقنيـات والتحديـات الجديـدة القـدرة الجماعيـة علـى التعامـل معهـا .لا يوجـد بلـد واحـد يتمتـع بمكانـة الولايـات المتحـدة كمـا كانـت فـي عـام .1945 مـا هـو أكثـر مـن ذلـك ،أن الولايـات المتحـدة ليسـت مسـتعدة فـي الوقـت الحالـي لتولـي دور دولـي رائـد ،نتيجـة الإرهـاق الناجـم عـن حربيـن طويلتيـن فـي أفغانسـتان والعـراق وتزايـد
210 الاحتياجـات فـي الداخـل .حتـى إذا فـازت سياسـة “تقليديـة” خارجيـة مثـل نائـب الرئيـس السـابق جوزيـف بايـدن فـي الانتخابـات الرئاسـية فـي نوفمبـر ،فـإن مقاومـة الكونغـرس والجمهـور سـتمنع عـودة واسـعة النطـاق لـدور أمريكـي موسـع فـي العالـم .ولا يوجـد بلـد آخـر ،لا الصيـن ولا أي شـخص آخـر ،لديـه الرغبـة والقـدرة علـى مـلء الفـراغ الـذي خلقتـه الولايـات المتحـدة. بعـد الحـرب العالميـة الثانيـة ،حفـزت الحاجـة إلـى مواجهـة التهديـد الشـيوعي الـذي يلـوح فـي الأفـق الجمهـور الأمريكـي لدعـم بلادهـم فـي تولي دور رائـد في جميـع أنحاء العالـم .قال وزير الخارجية الأسـبق دين أتشيسـون مقولته المشـهورة إن الحكومة كان عليها أن تجعل الحجج “أوضح مـن الحقيقـة” لجعـل الشـعب الأمريكـي والكونغـرس يشـتركان فـي جهود احتـواء الاتحاد السـوفيتي. يقتـرح بعـض المحلليـن أن المحاججـة بالتهديـد الصينـي يمكـن أن يحفـز بالمثل الدعم الشـعبي اليوم، ولكـن السياسـة الخارجيـة القائمـة علـى معارضـة الصيـن لا تكفـي لمواجهـة التحديـات العالمية التي تشـكل عالـم اليـوم .وفـي الوقـت نفسـه ،فـإن مناشـدة الشـعب الأمريكي لوضـع معالجة هذه المشـاكل العالميـة فـي صميـم السياسـة الخارجيـة للولايـات المتحـدة سـيظل أم ًرا صعبًـا .وبنا ًء علـى ذلك ،فإن السـابقة الأكثـر صلـة بواقعنـا الآن والتـي يجـب مراعاتهـا قـد لا تكون الفتـرة التالية للحـرب العالمية الثانيـة ،ولكـن الفتـرة التاليـة للحـرب العالمية الأولى ،حقبـة من انخفاض التدخـل الأمريكي وتصاعد الاضطرابـات الدوليـة .البقيـة كمـا يقولون ،هـو تاريخ. * رئيس مجلس العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة الامريكية رابط المقال الأصلي : https://www.foreignaffairs.com/articles/united-states/2020-04- 07/ pandemic-will-accelerate-history-rather-reshape-it?utm_medium=news- letters&utm_source=twofa&utm_campaign=The%20Pandemic%20Will%20 Accelerate%20History%20Rather%20Than%20Reshape%20It&utm_con- tent=20200410&utm_term=FA%20This%20Week%20-%20112017
211 الجائحة والنظام السياسي مكاسب للتكنولوجيا وتآكل الليبرالية وزيادة موجات الهجرة فرانسيس فوكوياما فورين أفيرز يوليو /أغسطس 2020 عـادة مـا تخ ِلّـف الأزمـات الكبـرى عواقـب وخيمـة ،وعـادة مـا تكـون غيـر متوقعـة. فقـد كانـت أزمـة الكسـاد الكبيـر سـبباً فـي تحفيـز الانعزاليـة والقوميـة والفاشـية والحـرب العالميـة الثانيـة؛ لكنهـا أدت أيضـاً إلـى عقـد صفقـة جديـدة ،وهـي صعـود الولايـات المتحـدة كقـوة عظمـى عالميـة ،وإنهـاء الاسـتعمار فـي نهايـة المطـاف .وقـد أسـفرت هجمـات الحـادي عشـر مـن سـبتمبر عـن تدخلَيـن أمريكييَّـن فاشـلَين ،أ َّديَـا إلـى صعـود إيـران ،وظهـور أشـكا ٍل جديـدة مـن التطـرف الإسـامي. كمـا ولَّـدت الأزمـة الماليـة عـام 2008طفـرة فـي الشــعبوية المناهضـة للمؤسسـات، والتـي حلـت محـل القيـادة فـي مختلـف أنحـاء العالـم .وسـيتتبع المؤرخـون فـي المسـتقبل آثـاراً كبيـرة مماثلـة لجائحـة فيـروس كورونـا الحاليـة؛ ويكمـن التحـدي فـي فهـم أبعادهـا مسـبقاً. ومـن الواضـح بالفعـل لمـاذا كان أداء بعـض البلـدان أفضـل مـن غيرهـا فـي التعامـل مـع الأزمـة حتـى الآن ،وهنـاك كل الأسـباب التـي تدعونـا إلـى الاعتقـاد بـأن هـذه الاتجاهـات سـوف تسـتمر .حيـث إن الأمـر لا يتعلـق بنظـام الحكـم .فقـد كان أداء بعـض الأنظمـة الديمقراطيـة جيـداً، والبعـض الآخـر لـم يكـن كذلـك ،وينطبـق الأمـر نفسـه علـى الأنظمـة الاسـتبدادية .وقـد كانـت العوامـل المسـؤولة عـن الاسـتجابة الناجحـة للجائحـة هـي قـدرة الدولـة والثقـة الاجتماعيـة والقيـادة. وكان أداء الـدول التـي تمتلـك هـذه الخصائـص الثـاث :جهـاز دولـة مختصـاً ،وحكومـة
212 يثـق بهـا المواطنـون ويسـتمعون إليهـا ،وقـادة فعاليـن ،مثيـراً للإعجـاب ،وهـو الأمـر الـذي أدى إلـى الحـد مـن الأضـرار التـي لحقـت بهـم .أمـا البلـدان التـي تعانـي اختـالاً فـي الأداء الحكومـي، ومجتمعاتهــا مســتقطبة ،أو تفتقــر إلــى القيــادة ،فــكان أداؤهــا ســيئاً للغايــة؛ الأمــر الــذي جعــل مواطنيهـا واقتصاداتهـا معرضيـن للخطـر وضعفـاء. وكلمــا تعلمنــا أكثــر عــن فيــروس (كوفيــد ،)19-وهــو المــرض الناجــم عــن الفيــروس التاجـي المسـتحدث ،بـدا أن الأزمـة سـتكون طويلـة ،وتقـاس بالسـنوات بـدلاً مـن الشـهور .ويبـدو الفيـروس أقـل فتـكاً ممـا كنـا نخشـى؛ لكنـه معـ ٍد جـداً وغالبـاً مـا ينتقـل دون أن تظهـر أعـراض .وإذ نجـد وبـاء الإيبـولا مميتـاً للغايـة ،فإنـه علـى الرغـم مـن ذلـك تصعُـب الإصابـة بـه؛ لأن الضحايـا يموتـون بسـرعة قبـل أن يتمكنـوا مـن نقلـه .أمـا (كوفيـد )19-فهـو علـى العكـس مـن ذلـك؛ مـا يعنـي أن النـاس لا يميلـون إلـى التعامـل معـه بجديـة كمـا ينبغـي ،وهكـذا انتشـر وسيسـتمر فـي الانتشـار علـى نطـاق واسـع فـي جميـع أنحـاء العالـم ،مسـبباً أعـداداً هائلـة مـن الوفيـات. ولـن تكـون هنـاك لحظـة تسـتطيع فيهـا البلـدان إعـان انتصارهـا علـى المـرض؛ بـل إن الاقتصـادات سـوف تنفتـح ببـطء وبشـكل مؤقـت ،مـع تباطـؤ التقـدم بسـبب موجـات العـدوى اللاحقـة .ويبـدو أن الآمـال فـي تحقيـق انتعـاش علـى شـكل حـرف ( )Vبمقاييـس الأداء الاقتصـادي متفائلـة إلـى حـد كبيـر .فعلـى الأرجـح سـتكون علـى شـكل ( )Lذي ذيـل طويـل ينحنـي لأعلـى أو سلسـلة مـن الصعـود والهبـوط .والاقتصـاد العالمـي لـن يعـود إلـى أي شـيء مماثـل لحالـة مـا قبـل جائحـة كورونـا فـي وقـ ٍت قريـب. وعلـى الصعيـد الاقتصـادي ،فـإن الأزمـة التـي طـال أمدهـا سـتعاني المزيـد مـن الإخفاقات والدمـار فـي قطـاع الأعمـال لصناعـات مثـل مراكـز التسـوق ،وسلاسـل البيـع بالتجزئـة ،والسـفر. وقـد ظلـت مسـتويات تركـز السـوق فـي الاقتصـاد الأمريكـي ترتفـع بشـكل مضطـرد لعقـود؛ لكـن
213 الوبـاء سـيدفع هـذا الاتجـاه إلـى أبعـد مـن ذلـك .ولـن يتسـنى إلا للشـركات الكبيـرة ذات رؤوس الأمـوال الضخمـة أن تخـرج مـن العاصفـة ،مـع مكاسـب لعمالقـة التكنولوجيـا أكثـر مـن أي مجـال آخـر؛ حيـث أصبحـت التفاعـات الرقميـة أكثـر أهميـة مـن أي وقـت مضـى. وقـد تكـون العواقـب السياسـية أكثـر أهميـة .ويمكـن اسـتدعاء الشـعوب للقيـام بأعمـال بطوليـة تتسـم بالتضحيـة الجماعيـة بالـذات لفتـرة مـن الوقـت؛ ولكـن ليـس إلـى الأبـد .إن اسـتمرار انتشـار وبـاء كورونـا إلـى جانـب فقـدان الوظائـف بشـكل كبيـر ،والركـود طويـل الأمـد ،وعـبء الديـون غيـر المسـبوق ،سـوف يخلـق حتمـاً توتـرات تتحـول إلـى رد فعـل سياسـي عنيـف ،ولكـن ضـد مـن؟ لـم يتضـح الأمـر بعـد. أخطأت الولايات المتحدة في الاستجابة على نحو خطير وشهدت مكانتها تراجعاً هائلاً. سيسـتمر التوزيـع العالمـي للقـوة فـي التحـول نحـو الشـرق؛ حيـث كان أداء شـرق آسـيا أفضـل فـي إدارة الموقـف مقارنـة بأوروبـا أو الولايـات المتحـدة .وعلـى الرغـم مـن أن الوبـاء نشـأ فـي الصيـن ،وأن بكيـن قـد تسـترت عليـه فـي البدايـة ،وسـمحت لـه بالانتشـار؛ فـإن الصيـن سـوف تسـتفيد مـن الأزمـة ،علـى الأقـل بشـكل نسـبي. وكمـا حـدث ،فقـد كان أداء حكومـات أخـرى هزيـاً فـي البدايـة وحاولـت تغطيـة الأمـر أيضـاً بشـكل أكثـر وضوحـاً؛ بـل وربمـا كانـت العواقـب أشـد فتـكاً بالنسـبة إلـى مواطنيهـا .وعلـى الأقـل تمكنـت بكيـن مـن اسـتعادة السـيطرة علـى الوضـع ،وهـي الآن تنتقـل إلـى التحـدي التالـي، وهـو اسـتعادة تقـدم اقتصادهـا بسـرعة وبشـكل مسـتدام. وعلـى النقيـض مـن ذلـك ،أخطـأ ِت الولايـات المتحـدة فـي مـدى اسـتجابتها للأزمـة علـى نحـو خطيـر ،وشـهدت مكانتهـا تراجعـاً هائـاً .وعلـى الرغـم مـن أنهـا تمتلـك قـدرات هائلـة علـى
214 مسـتوى الدولـة ،ونجحـت فـي بنـاء سـجل باهـر فـي مـا يتعلـق بالأزمـات الوبائيـة السـابقة؛ فـإن مجتمعهـا الحالـي الـذي يتسـم بالاسـتقطاب الشـديد ،وزعيمهـا غيـر الكفـؤ ،كانـا سـبباً فـي منـع الدولـة مـن العمـل بفعاليـة. وقــد أ َّجــج الرئيــس الأمريكــي الانقســام بــدلاً مــن تعزيــز الوحــدة ،وقــام بتســييس توزيــع المسـاعدات ،وألقـى بالمسـؤولية علـى حـكام الولايـات؛ لاتخـاذ قـرارات محوريـة ،بينمـا شـجع الاحتجاجـات ضدهـم لحمايـة الصحـة العامـة ،كمـا هاجـم المؤسسـات الدوليـة بـدلاً مـن تحفيزهـا. وبوسـع العالـم أن يشـاهد التلفـاز؛ حيـث وقـف ترامـب مذهـولاً ،حيـن سـارعت الصيـن بتوضيـح المقارن ـة. وعلـى مـدى السـنوات القادمـة ،قـد يـؤدي هـذا الوبـاء إلـى انحـدار نسـبي للولايـات المتحـدة، واسـتمرار تـآكل النظـام الدولـي الليبرالـي ،وعـودة الفاشـية فـي جميـع أنحـاء العالـم .كمـا يمكـن أن يـؤدي أيضـاً إلـى ميـاد جديـد للديمقراطيـة الليبراليـة ،وهـو النظـام الـذي أربـك المتشـككين مـرات عديـدة ،وأظهـر قـدراً غيـر مسـبوق مـن القـدرة علـى الصمـود والتجديـد .وسـوف تظهـر عناصـر مـن كلا الطيفَيـن ،فـي أماكـن مختلفـة؛ ولكـن مـن المؤسـف أن التوقعـات العامـة قاتمـة مـا لـم تتغيـر الاتجاهـات الحاليـة بشـكل جـذري. صعود الفاشية مـن السـهل أن نتخيـل النتائـج المتشـائمة؛ فالقوميـة والانعزاليـة وكراهيـة الأجانـب والهجمات علـى النظـام العالمـي الليبرالـي مـا فتئـت تتزايـد لسـنوات ،وهـذا الاتجـاه لـن يتسـارع إلا بسـب ِب هــذا الوبــاء .وقــد اســتغلت الحكومــات فــي هنغاريــا والفلبيــن الأزمــة؛ لإعطــاء نفســها ســلطات الطـوارئ ،الأمـر الـذي دفعهـا إلـى مزيـد مـن الابتعـاد عـن الديمقراطيـة.
215 كمـا اتخـذت بلـدان أخـرى كثيـرة؛ بمـا فيهـا الصيـن والسـلفادور وأوغنـدا ،تدابيـر مماثلـة. وقـد ظهـرت حواجـز أمـام حركـة الأشـخاص فـي كل مـكان؛ بمـا فـي ذلـك داخـل قلـب أوروبـا، وبـدلاً مـن التعـاون البنّـاء مـن أجـل تحقيـق الصالـح العـام للبلـدان ،تحولـت الـدول إلـى الداخـل، وتصارعـت بعضهـا مـع بعـض ،وجعلـت مـن منافسـيها كبـش فـداء سياسـي لإخفاقاتهـا. إن صعـود النزعـة القوميـة سـيزيد مـن إمكانيـة نشـوب صـراع دولـي .وقـد يـرى القـادة أن المعـارك مـع الأجانـب مصـدر تشـتيت سياسـي مفيـد داخليـاً ،أو قـد يغريهـم ضعـف أو انشـغال خصومهـم ويسـتغلون الوبـاء لزعزعـة اسـتقرار الأهـداف المفضلـة أو خلـق حقائـق جديـدة علـى الأرض .ومـع ذلـك ،ونظـراً لاسـتمرار تـوازن القـوى الـذي تفرضـه الأسـلحة النوويـة والتحديـات المشـتركة التـي تواجـه جميـع اللاعبيـن الأساسـيين؛ فـإن الاضطرابـات الدوليـة أقـل احتمـالاً مـن الاضطرابـات الداخليـة. وسـتتضرر البلـدان الفقيـرة ذات المـدن المزدحمـة ،وأنظمـة الصحـة العامـة الضعيفـة بشـدة. وليـس مجـرد التباعـد الاجتماعـي بـل حتـى النظافـة البسـيطة مثـل غسـل اليديـن ،سـتكون أمـراً بالـغ الصعوبـة فـي البلـدان التـي لا يحصـل فيهـا العديـد مـن المواطنيـن علـى الميـاه النظيفـة بشـك ٍل منتظـم .وكثيـراً مـا جعلـت الحكومـات الأمـور أسـوأ بـدلاً مـن أن تكـون أفضـل سـواء عـن طريـق التخطيـط ،أو التحريـض علـى التوتـرات الطائفيـة ،وتقويـض التماسـك الاجتماعـي ،أو ببسـاطة عـدم الكفـاءة. فالهنـد ،علـى سـبيل المثـال ،قـد زادت مـن تعرضهـا إلـى الخطـر مـن خـال إعلانهـا إغلاقـاً مفاجئـاً علـى مسـتوى البـاد بالكامـل دون التفكيـر فـي العواقـب المترتبـة علـى عشـرات الملاييـن مـن العمـال المهاجريـن الذيـن يحتشـدون فـي كل مدينـة كبيـرة .وذهـب الكثيـرون إلـى منازلهـم الريفيـة ،فنشـروا المـرض فـي جميـع أنحـاء البلـد؛ وبمجـرد أن عكسـت الحكومـة موقفهـا وبـدأت
216 فــي تقييــد الحركــة ،وجــد عــدد كبيــر منهــم أنفســهم عالقيــن فــي المــدن دون عمــل أو مــأوى أو رعايـة. وقـد كان النـزوح الناجـم عـن تغيـر المنـاخ يمثـل بالفعـل أزمـة بطيئـة الحركـة تختمـر فـي الجنـوب العالمـي .لكـن الوبـاء سـوف يضاعـف مـن آثـاره ،ممـا يقـرب أعـداداً كبيـرة مـن السـكان فـي البلـدان الناميـة مـن حافـة الكفـاف .وقـد حطمـت الأزمـة آمـال مئـات الملاييـن مـن النـاس فـي البلـدان الفقيـرة الذيـن اسـتفادوا مـن عقديـن مـن النمـو الاقتصـادي المسـتدام. سـيزداد الغضـب الشـعبي ،وسـوف يكـون تبديـد التوقعـات المتزايـدة للمواطنيـن فـي نهايـة المطــاف وصفــة كلاســيكية للثــورة .وســوف يســعى اليائســون إلــى الهجــرة ،وسيســتغل القــادة الديماغوغيـون الوضـع للاسـتيلاء علـى السـلطة ،وسـينتهز الساسـة الفاسـدون الفرصـة لسـرقة مـا يمكنهـم سـرقته ،وسـوف يضيِّـق العديـد مـن الحكومـات الخنـاق أو ينهـار تمامـاً. فـي الوقـت نفسـه ،فـإن موجـة جديـدة مـن محـاولات الهجـرة مـن الجنـوب العالمـي إلـى الشـمال سـوف تقابـل بتعاطـف أقـل ومقاومـة أكبـر هـذه المـرة؛ حيـث يمكـن اتهـام المهاجريـن الآن بشـكل أكثـر مصداقيـة بجلـب المـرض والفوضـى .وأخيـراً ،فـإن مظاهـر مـا يسـمى البجـع الأسـود بحكـم التعريـف لا يمكـن التنبـؤ بهـا ولكـن مـن المحتمـل بشـكل متزايـد أن ينظـر المـرء إلـى أبعـد مـن ذلـك. فقـد عـززت الأوبئـة السـابقة رؤى نهايـة العالـم ،والطائفيـة ،والديانـات الجديـدة التـي نشـأت حـول القلـق الشـديد الناجـم عـن الشـدائد طويلـة الأمـد .والواقـع أن الفاشـية يمكـن أن يُن َظـر إليهـا باعتبارهـا واحـدة مـن هـذه الطوائـف ،التـي نشـأت مـن رحـم العنـف والتشـرذم الناجميـن عـن الحـرب العالميـة الأولـى ومـا أعقبهـا.
217 وكانـت نظريـات المؤامـرة تزدهـر عـادة فـي أماكـن مثـل الشـرق الأوسـط؛ حيـث كان الناس العاديـون محروميـن مـن القـوة ويشـعرون بأنهـم يفتقـرون إلـى السـلطة .لكنهـا اليـوم انتشـرت علـى نطـاق واسـع فـي جميـع أنحـاء البلـدان الغنيـة أيضـاً ،ويرجـع الفضـل فـي ذلـك جزئيـاً إلـى البيئـة الإعلاميـة الممزقـة الناجمـة عـن الإنترنـت ووسـائل التواصـل الاجتماعـي ،ومـن المرجـح أن توفـر المعانـاة المسـتمرة مـادة غنيـة للديماغوجييـن الشـعبويين؛ لاسـتغلالها. الديمقراطية المرنة وكمـا لـم يسـفر الكسـاد الكبيـر عـن الفاشـية فحسـب ،بـل أعـاد أيضـاً تنشـيط الديمقراطيـة الليبراليـة ،فقـد يـؤدي هـذا الوبـاء إلـى بعـض النتائـج السياسـية الإيجابيـة أيضـاً .وكثيـراً مـا يتطلـب الأمـر مثـل هـذه الصدمـة الخارجيـة الهائلـة لإخـراج الأنظمـة السياسـية المتصلبـة مـن الركـود وتهيئـة الظـروف للإصـاح البنيـوي الـذي طـال انتظـاره .ومـن المرجـح أن يتكـرر هـذا النمـط مـرة أخـرى ،علـى الأقـل فـي بعـض الأماكـن. إن الواقـع العملـي للتعامـل مـع وبـاء كورونـا يحابـي المهنيـة والخبـرة؛ حيـث تتـم تعريـة الديماغوجيـة وعـدم الكفـاءة بسـهولة .وينبغـي أن يـؤدي ذلـك فـي نهايـة المطـاف إلـى إحـداث تأثيـر مفيـد فـي الاختيـار ،وأن يكافـئ الساسـة والحكومـات الذيـن يبلـون بـا ًء حسـناً ،وأن يعاقـب أولئـك الذيـن يخفقـون. فقـد حـاول الرئيـس البرازيلـي جاييـر بولسـونارو الـذي أفـرغ المؤسسـات الديمقراطيـة فـي بـاده مـن مضمونهـا بشـكل مطـرد فـي السـنوات الأخيـرة ،أن يخـادع للخـروج مـن الأزمـة ،وهـو الآن يتخبـط ويقـود البـاد إلـى كارثـة صحيـة .بينمـا حـاول فلاديميـر بوتيـن فـي روسـيا التقليـل مـن أهميـة الوبـاء فـي البدايـة ،ثـم زعـم أن روسـيا كانـت تحـت السـيطرة ،وسـوف يضطـر إلـى تغييـر نبرتـه مـرة أخـرى مـع انتشـار (كوفيـد )19-فـي جميـع أنحـاء البـاد .وكانـت شـرعية بوتـن
218 قـد بـدأت تضعـف بالفعـل قبـل الأزمـة ،وربمـا تسـارعت بسـبب هـذه العمليـة. وقـد سـلط الوبـاء ضـوءاً سـاطعاً علـى المؤسسـات القائمـة فـي كل مـكان ،كاشـفاً عـن أوجـه قصورهـا وضعفهـا .وقـد تعمقـت الفجـوة بيـن الأغنيـاء والفقـراء ،سـواء بيـن النـاس أو البلـدان، وبســبب الأزمــة ســوف تــزداد تلــك الفجــوة حــدة خــال الركــود الاقتصــادي الــذي طــال أمــده. ولكـن إلـى جانـب هـذه المشـكلات ،كشـفت الأزمـة أيضـاً عـن قـدرة الحكومـة علـى توفيـر الحلـول بالاعتمـاد علـى المـوارد الجماعيـة فـي هـذه العمليـة. والواقــع أن الإحســاس المســتمر بــروح “بمفردنــا معًــا” مــن شــأنه أن يعــزز التضامــن الاجتماعـي ويدفـع إلـى تنميـة وسـائل حمايـة اجتماعيـة أكثـر سـخا ًء إلـى الأمـام ،تمامـاً كمـا كانـت المعانـاة الوطنيـة المشـتركة التـي صاحبـت الحـرب العالميـة الأولـى والكسـاد سـبباً فـي تحفيـز نمـو دول الرفاهـة الاجتماعيـة فـي عشـرينيات وثلاثينيـات القـرن العشـرين. وقـد يضـع هـذا حـداً للأشـكال المتطرفـة مـن الليبراليـة الجديـدة ،وهـي أيديولوجيـا السـوق الحـرة التـي ابتكرهـا خبـراء اقتصـاد مـن جامعـة شـيكاغو ،مثـل جـاري بيكـر ،وميلتـون فريدمـان، وجـورج سـتيجلر ،خـال ثمانينيـات القـرن العشـرين ،فقـد قدمـت مدرسـة شـيكاغو تبريـراً فكريـاً لسياسـات الرئيـس الأمريكـي رونالـد ريجـان ،ورئيسـة الـوزراء البريطانيـة مارجريـت تاتشـر، التـي اعتبـرت الحكومـة الضخمـة المتمـددة عقبـة فـي طريـق النمـو الاقتصـادي والتقـدم البشـري. فـي ذلـك الوقـت ،كانـت هنـاك أسـباب وجيهـة لتقليـص العديـد مـن أشـكال الملكيـة الحكوميـة والتنظيـم؛ لكـن الحجـج تصلبـت وتحولـت إلـى ديـن ليبرالـي ،غـرس العـداء لعمـل الدولـة فـي جيـل مـن المثقفيـن المحافظيـن؛ خصوصـاً فـي الولايـات المتحـدة .ونظـراً لأهميـة اتخـاذ الدولـة إجـراءات قويـة لإبطـاء انتشـار وبـاء كورونـا ،سـيكون مـن الصعـب القـول ،كمـا فعـل ريغـان فـي خطـاب تنصيبـه الأول ،إن “الحكومـة ليسـت الحـل لمشـكلتنا؛ الحكومـة هـي المشـكلة” ،كمـا لـن
219 يتمكـن أي شـخص مـن تقديـم حجـة معقولـة مفادهـا أن القطـاع الخـاص والأعمـال الخيريـة يمكـن أن تحـل محـل دولـة مختصـة أثنـاء حالـة الطـوارئ الوطنيـة. وفـي أبريـل الماضـي ،أعلـن جـاك دورسـي ،الرئيـس التنفيـذي لشـركة “تويتـر” ،أنـه سيسـهم بمليـار دولار فـي الإغاثـة مـن وبـاء (كوفيـد ،)19-وهـو عمـل خيـري اسـتثنائي .وفـي الشـهر نفسـه ،خصـص الكونغـرس الأمريكـي مبلـغ 2,3تريليـون دولار لدعـم الشـركات والأفـراد الذيـن تضـرروا جـراء الوبـاء .وقـد تظـل كراهيـة الدولـة بيـن المحتجيـن علـى الحظـر؛ لكـن اسـتطلاعات الــرأي تشــير إلــى أن الغالبيــة العظمــى مــن الأمريكييــن يثقــون فــي نصائــح الخبــراء الطبييــن الحكومييـن فـي التعامـل مـع الأزمـة .ويمكـن أن يزيـد ذلـك مـن الدعـم المقـدم للتدخـات الحكوميـة الراميـة إلـى معالجـة مشـكلات اجتماعيـة أساسـية أخـرى. وقــد تحفــز الأزمــة فــي نهايــة المطــاف تجــدد التعــاون الدولــي .وفــي حيــن يلعــب القــادة الوطنيـون لعبـة إلقـاء اللـوم ،يعمـل العلمـاء ومسـؤولو الصحـة العامـة فـي مختلـف أنحـاء العالـم علـى تعميـق شـبكاتهم واتصالاتهـم .وإذا أدى انهيـار التعـاون الدولـي إلـى كارثـة وتـم الحكـم عليـه بالفشـل ،فـإن الحقبـة التاليـة يمكـن أن تشـهد التزامـاً متجـدداً بالعمـل متعـدد الأطـراف؛ مـن أجـل تعزيـز المصالـح المشـتركة. لا تتفاءلوا كثيراً كان الوبـاء بمثابـة اختبـار ضغـط سياسـي عالمـي .فالبلـدان التـي لديهـا حكومـات شـرعية قـادرة سـوف تمـر بشـكل جيـد نسـبياً وتتبنـى إصلاحـات تجعلهـا أقـوى وأكثـر مرونـة ،وبالتالـي تيسـير أدائهـا المتفـوق فـي المسـتقبل .أمـا البلـدان التـي تعانـي ضعـف قـدرة الدولـة أو ضعـف الزعامـة سـوف تكـون فـي مـأزق؛ حيـث إنهـا سـوف تعانـي الركـود ،إن لـم يكـن الفقـر وعـدم الاسـتقرار .والمشـكلة أن المجموعـة الثانيـة عددهـا أكثـر بكثيـر مـن المجموعـة الأولـى.
220 ومــن المؤســف أن اختبــار الضغــط كان صعبــاً إلــى الحــد الــذي قــد يجعــل عــدداً ضئيــاً للغايـة مـن المرجـح أن يجتـازه .ولمعالجـة المراحـل الأوليـة للأزمـة بنجـاح ،لا تحتـاج البلـدان إلـى حكومـات قـادرة ومـوارد كافيـة فحسـب؛ بـل أيضـاً إلـى قـدر كبيـر مـن التوافـق الاجتماعـي وقـادة أكفـاء يمنحـون الثقـة. وقـد لبَّـت كوريـا الجنوبية هـذه الحاجة ،ففوضـت إدارة الوباء إلى بيروقراطيـة صحية مهنية، وأيضـاً ألمانيـا بقيـادة أنجيال ميـركل .والشـيء الأكثـر شـيوعاً هـو أن الحكومـات قصرت بشـكل أو بآخـر .وبمـا أن إدارة بقيـة الأزمـة سـوف تكـون أيضـاً أمـراً بالغ الصعوبـة ،فمن المرجح أن تسـتمر هـذه الاتجاهـات الوطنيـة؛ الأمـر الـذي يجعـل التفـاؤل الأوسـع نطاقـاً أمـراً بالـغ الصعوبـة .وهنـاك سـبب آخـر للتشـاؤم ،وهـو أن السـيناريوهات الإيجابيـة تفتـرض نوعـاً مـن الخطـاب العـام العقلانـي والتعلـم الاجتماعـي .ولكـن الصلـة بيـن الخبـرة التكنوقراطيـة والسياسـة العامـة أضعـف اليـوم ممـا كانـت عليـه فـي الماضـي ،عندمـا كانـت النخبـة تتمتـع بقـدر أكبر من السـلطة. وبالتالـي ،فـإن إضفـاء الطابـع الديمقراطـي علـى السـلطة التـي حفزتهـا الثـورة الرقميـة قـد أدى إلـى تسـطيح التسلسـل الهرمـي المعرفـي جنبـاً إلـى جنـب مـع التسلسـات الهرميـة الأخـرى، وأصبـح صنـع القـرار السياسـي مدفوعـاً الآن بالثرثـرة المسـلحة فـي كثيـر مـن الأحيـان .وهـذا لا يشـكل بيئـة مثاليـة للفحـص الذاتـي والجماعـي البنّـاء ،وقـد تظـل بعـض النواحـي السياسـية غيـر منطقيـة لفتـرة أطـول مـن قدرتهـا علـى الوفـاء بواجباتهـا. إن أكبـر متغيـر هـو الولايـات المتحـدة .وكان مـن سـوء حـظ البـاد أن يكـون القائـد الأكثـر عجـزاً وإثـارة للخـاف فـي تاريخهـا الحديـث علـى رأس السـلطة عندمـا ضربـت الأزمـة ،ولـم يتغيـر أسـلوب حكمـه تحـت الضغـط .فبعـد أن أمضـى فتـرة ولايتـه فـي الحـرب مـع الدولـة التـي يترأسـها ،لـم يتمكـن مـن توظيفهـا بشـكل فعـال عندمـا اقتضـى الأمـر ذلـك .وهـو الـذي اعتبـر أن
221 أفضـل وسـيلة لخدمـة ثرواتـه السياسـية يأتـي عبـر المواجهـة والضغينـة بـدلاً مـن الوحـدة الوطنيـة، واسـتغل الأزمـة لشـن المعـارك وزيـادة الانقسـامات الاجتماعيـة .وإذا كان ضعـف الأداء الأمريكـي أثنـاء الوبـاء لـه عـدة أسـباب؛ فـإن أهمهـا الزعيـم الوطنـي الـذي فشـل فـي القيـادة. ولعـل الصلـة بيـن الخبـرة التكنوقراطيـة والسياسـة العامـة أضعـف اليـوم ممـا كانـت عليـه فــي الماضــي ،عندمــا كانــت النخــب تتمتــع بقــدر أكبــر مــن الســلطة .وإذا ُمنــح الرئيــس فتــرة ولايـة ثانيـة فـي نوفمبـر ،فـإن فـرص عـودة الديمقراطيـة أو النظـام الدولـي الليبرالـي علـى نطـاق أوسـع سـوف تنخفـض .ولكـن أيـاً كانـت نتيجـة الانتخابـات ،فمـن المرجـح أن يسـتمر الاسـتقطاب العميـق فـي الولايـات المتحـدة .وسـوف يكـون إجـراء الانتخابـات أثنـاء انتشـار الجائحـة أمـراً بالـغ الصعوبـة ،وسـتكون هنـاك حوافـز تدفـع الخاسـرين السـاخطين إلـى تحـدي شـرعيتها. وحتـى إذا اسـتولى الديمقراطيـون علـى البيـت الأبيـض وكل مـن مجلسـي الكونغـرس ،فإنهـم بهـذا يرثـون دولـة جاثيـة علـى ركبتيهـا .وسـوف تواجـه المطالبـة باتخـاذ إجـراءات حاسـمة جبـالاً مـن الديـون والمقاومـة المتشـددة مـن المعارضـة .وسـتكون المؤسسـات الوطنيـة والدوليـة ضعيفـة ومترنحـة بعـد سـنوات مـن إسـاءة التعامـل معهـا ،كمـا يسـتغرق إعـادة بنائهـا سـنوات ،إذا كان ذلـك لا يـزال ممكنـاً مـن الأسـاس. ومــع مــرور أكثــر مراحــل الأزمــة إلحاحــاً ومأســاوية ،فــإن العالــم يتحــرك نحــو دوامــة طويلــة مــن الكســاد .وســوف يخــرج منهــا فــي نهايــة المطــاف بانقســامات أســرع مــن غيرهــا. ومـن غيـر المرجـح أن تحـدث اضطرابـات عالميـة عنيفـة .وإذا كانـت الديمقراطيـة والرأسـمالية والولايـات المتحـدة قـد أثبتـت قدرتهـا علـى التحـول والتكيـف مـن قبـل ،فإنهـا سـتحتاج إلـى القيـام بالمسـتحيل مـرة أخـرى.
222 *فرانسـيس فوكويامـا هـو زميـل أوليفييـه نوميلينـي فـي معهـد فريمـان سـبوجلي للدراسـات الدوليـة بجامعـة سـتانفورد ومؤلـف كتـاب «الهويـة :مطلـب الكرامـة وسياسـة الاسـتياء». رابط المقال الاصلي: https://www.foreignaffairs.com/articles/world/2020-06-09/pandemic-and-political-order
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210
- 211
- 212
- 213
- 214
- 215
- 216
- 217
- 218
- 219
- 220
- 221
- 222
- 223