Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore مجلة شؤون عراقية – العدد الحادي عشر – تعديل قانون الانتخابات

مجلة شؤون عراقية – العدد الحادي عشر – تعديل قانون الانتخابات

Published by info, 2021-05-31 12:23:03

Description: مجلة شؤون عراقية – العدد الحادي عشر – تعديل قانون الانتخابات

Search

Read the Text Version

‫‪51‬‬ ‫وقـد بـدأت قطاعـات هـذا الاقتصـاد بالظهـور منـذ إواخـر القـرن الــ ‪ ٢٠‬حتـى تسـيدت تمامـا‬ ‫فـي القـرن الــ ‪ ٢١‬بظهـور شـبكة الانترنيـت وكل منتجاتهـا الأخـرى المختلفـة فـي عصرنـا الراهن‪.‬‬ ‫وتصاحــب هــذا التحــول فــي الريــادة مــن الصناعــة للتكنولوجيــا إلــى ظهــور الصيــن كمصنــع‬ ‫للاقتصـاد العالمـي أو ورشـة الصناعـة العالميـة‪ ،‬وقـد اسـتفادت الصيـن مـن هـذا التحـول ورغبـة‬ ‫الـدول الصناعيـة فـي تـرك قطـاع الصناعـة إلـى قطـاع الخدمـات والتكنولوجيـا بالإضافـة الـى‬ ‫جملـة مـن العوامـل الأخـرى مثـل‪:‬‬ ‫أولا‪ -‬بنية تحتية جيدة تم تشييدها منذ أيام ماوتسي تونغ‬ ‫ثانيــا‪ -‬بنيــة قمعيــة ممتــازة للطبقــة العاملــة الصينيــة (‪ )blue collar‬بعدمــا أصبحــت‬ ‫الطبقـة العاملـة الغربيـة متخمـة بالحقـوق المختلفـة‪ ،‬الأمـر الـذي انعكـس علـى كلـف اسـتخدامها فـي‬ ‫الغـرب (حـد أدنـى للرواتـب وضمانـات صحيـة واجتماعيـة وحـد أعلـى لسـاعات العمـل وحقـوق‬ ‫النسـاء وتحريـم عمالـة الأطفـال)‪.‬‬ ‫ثالثـا‪ -‬عـدم اكتـراث صينـي بقوانيـن الحـد مـن التلـوث والحفـاظ علـى البيئـة‪ ،‬ممـا قلـل‬ ‫كثيـرا مـن كلـف الإنتـاج‪.‬‬ ‫رابعا‪ -‬طاقة رخيصة ومتوفرة (الفحم)‪.‬‬ ‫خامسـا‪ -‬تحكـم حكومـي كامـل بقيمـة العملـة المحليـة الصينيـة (اليـوان أو الرينغمبـي)‪ ،‬ممـا‬ ‫جعـل الحكومـة تتعمـد إبقاءهـا بأدنـى مسـتوى لديمومـة رخـص عوامـل الإنتـاج الصينـي‪ ،‬وبالتالـي‬ ‫إبقـاء الصيـن كمنطقـة جـذب أولـى عالميـا للرسـاميل‪.‬‬ ‫وفـي حيـن نجحـت المراكـز الصناعيـة المتطـورة والصغيـرة (سـكانيا وقطاعيـا) إلـى حـد‬ ‫كبيــر فــي التحــول مــن واقــع الاقتصــاد الصناعــي إلــى الاقتصــاد الجديــد (كســنغافورة وتايــوان‬

‫‪52‬‬ ‫والــدول الاســكندنافية ودول وســط أوروبــا كالنمســا وسويســرا) فــإن التحــول بالنســبة إلــى‬ ‫الاقتصـادات الكبـرى (بريطانيـا وفرنسـا وألمانيـا والولايـات المتحـدة) كان أصعـب وأكثـر إيلامـا‬ ‫وكان يعنــي عمليــة مــن اتجاهيــن‪:‬‬ ‫أولا ‪ -‬أفـول القطـاع الصناعـي وتراجعـه مـع مـا يعنيـه ذلـك مـن بطالـة وإفـاس لشـركات‬ ‫هـذا القطـاع أو تحولهـا إلـى مناطـق أخـرى وعلـى رأسـها الصيـن‪.‬‬ ‫ثانيـا ‪ -‬عمليـة بنـاء كـوادر وعمالـة الاقتصـاد الجديـد أو مـا يدعـى ب (‪)white collar‬‬ ‫وهــي عمليــة تســتغرق بالتأكيــد وقتــا وجهــدا كبيريــن‪ ،‬ناهيــك عــن تغييــر المناهــج الدراســية‬ ‫وتطويرهـا بشـكل عـال ومكلـف للوصـول لبنـاء الطاقـات العلميـة المطلوبـة لمثـل هـذا الاقتصـاد‬ ‫واحتياجاتــه‪.‬‬ ‫أمـا بالنسـبة إلـى الصيـن‪ ،‬فقـد بـدأ اسـتعدادها لبنـاء دورهـا الجديـد فـي الاقتصـاد الدولـي‪،‬‬ ‫علـى يـد قيادتهـا الجديـدة آنـذاك والمتمثلـة ب دنـغ هسـياوبنغ‪ ،‬منـذ عـام ‪١٩٨٢‬م سياسـيا وتشـريعيا‬ ‫باعتمـاد سياسـة أصلـح وانفتـح ‪ reform & opening‬واكتملـت ملامـح النظـام بعـد أحـداث تيـان‬ ‫ان ميـن ‪١٩٨٩‬م باعتبـاره نظامـا ليبراليـا مـن الناحيـة الاقتصاديـة قمعيـا أوليغارشـيا مـن الناحيـة‬ ‫السياسـية‪.‬‬ ‫وبــدءا مــن عــام ‪ ،٢٠٠٣‬تــم إقــرار صيغــة الانفتــاح الكامــل فــي الصيــن أمــام الرســاميل‬ ‫الأجنبيـة بموافقـة الحـزب الشـيوعي الصينـي‪ ،‬وقـد سـبق هـذا الوضـع قيـام الكونغـرس الأمريكـي‬ ‫بإصــدار قانــون العلاقــات الأمريكيــة الصينيــة عــام ‪٢٠٠٠‬م‪ ،‬ثــم انضمــام الصيــن علــى إثرهــا‬ ‫إلــى منظمــة التجــارة الدوليــة ( ‪ ) WTO‬فــي ‪٢٠٠١‬م وفــي نفــس العــام أصبحــت الصيــن مــن‬ ‫مجموعـة الـدول الأولـى بالرعايـة بالنسـبة إلـى الولايـات المتحـدة ‪.‬وهكـذا بـدأ زحـف الصناعـات‬ ‫الأمريكيـة إلـى الصيـن‪ ،‬وقـدر نزيـف الوظائـف الصناعيـة التـي رحلـت مـن الاقتصـاد الأمريكـي‬

‫‪53‬‬ ‫إلـى الاقتصـاد الصينـي بحوالـي ‪ ٢.٧‬مليـون وظيفـة خـال الأعـوام ‪٢٠١٠-٢٠٠٠‬م‪.‬‬ ‫والواقــع‪ ،‬أن هــذا لــم يكــن حــال الولايــات المتحــدة لوحدهــا بــل كان هــو نفــس الوضــع‬ ‫لجميـع الصناعـات فـي كل أنحـاء العالـم فيمـا عـرف وسـمي بصدمـة الصيـن (‪.)China shock‬‬ ‫وعلـى الرغـم مـن كل ادعـاءات الشـعبويين فـإن الأرقـام وتحليـات علمـاء الاقتصـاد أمثـال ديفيـد‬ ‫اوتـور وديفيـد دورن وغـوردون هانسـون أثبتـت أن اقتصـادات الغـرب قـد كسـبت وظائـف فـي‬ ‫الاقتصـاد المعرفـي تعـادل مـن حيـث القيمـة الاقتصاديـة وليـس العدديـة حجـم الوظائـف المفقـودة‬ ‫مـن الاقتصـاد الصناعـي‪ ،‬لكـن المشـكلة هـي أن هـذه العمليـة لـم تكـن واضحـة أبـدا أمـام قطاعـات‬ ‫الـرأي العـام الغربـي الـذي بـدأ يتنامـى لديـه شـعور مضطـرد بعـدم الرضـا عـن تصـوره قيـام‬ ‫الاقتصـاد الصينـي بالتكسـب علـى حسـابه ‪.‬‬ ‫مــن جهــة أخــرى‪ ،‬فقــد تطــورت الرؤيــة الصينيــة بدورهــا‪ ،‬بعــد نجاحهــا الصناعــي‬ ‫والاقتصـادي الهائـل وتراكـم السـيولة الماليـة لديهـا بإمكانيـات متقدمـة‪ ،‬فاقـت جميـع دول العالـم‬ ‫باسـتثناء الاقتصـاد الأمريكـي‪ ،‬وأصبحـت تتطلـع لولـوج عالـم الاقتصـاد المعرفـي‪ .‬وعلـى الرغـم‬ ‫مـن الاعتراضـات المتراكمـة غربيـا علـى شـكل العلاقـة مـع الصيـن فـأن الاربـاح الهائلـة التـي‬ ‫تدفقـت علـى مجمـل الاقتصـاد العالمـي فيمـا عـرف بالفقاعـة الاقتصاديـة كانـت كفيـا بإسـكات كل‬ ‫الاصـوات المعترضـة حتـى مجـيء ازمـة ‪٢٠٠٨‬م والتـي مثلـت نقطـة النهايـة لشـهر العسـل بيـن‬ ‫الطرفيـن ‪.‬‬ ‫بـدأت الأزمـات السياسـية والاقتصاديـة تتوالـى بيـن الطرفيـن منـذ ‪٢٠٠٩‬م الـذي يمثـل تاريخ‬ ‫أول نـزاع تجـاري بيـن الطرفيـن حـول صناعـة إطـارات السـيارات‪ ،‬فبـدأت الاتهامـات الأمريكيـة‬ ‫للصيـن بالتربـح علـى حسـابها مـن جهـة فيمـا أتهمـت الصيـن الجانـب الأمريكـي بأخـذ موقـف‬ ‫حمائـي مخالـف لروحيـة منظمـة التجـارة العالميـة‪ .‬وعندمـا أرادت الصيـن ولـوج عالـم الاقتصـاد‬

‫‪54‬‬ ‫المعرفــي ووجهــت برفــض غربــي أو بالأحــرى اشــتراط غربــي عليهــا فــي ملفيــن رفضتهمــا‬ ‫الصيـن بشـكل بـات وهمـا ‪:‬‬ ‫أولا‪ -‬ملـف حقـوق الأنسـان وانتهـاكات الصيـن فيـه‪ ،‬والمطالبـة بالإصـاح السياسـي للنظـام‬ ‫الصينـي وإكمـال التحـول الديمقراطـي فـي النظـام الـذي انقطـع بأحـداث ‪١٩٨٩‬م كشـرط أساسـي‬ ‫لانضمـام الصيـن إلـى نـادي الـدول الكبـرى اقتصاديـا‪ ،‬أسـوة بالهنـد وبقيـة الـدول العالمثالثيـة‪،‬‬ ‫لكـون النظـام الصينـي الحالـي سـيكون مصـدر تهديـد عالمـي وإقليمـي بقوتـه الجديـدة أن لـم تكتمـل‬ ‫فيـه أسـس التحـول الديمقراطـي‪.‬‬ ‫ثانيــا‪ -‬أن الصيــن أذا أرادت ولــوج الاقتصــاد المعرفــي‪ ،‬فإنــه ينبغــي لهــا التخلــي عــن‬ ‫الاقتصـاد الصناعـي‪ ،‬أسـوة بمـا فعلتـه وتفعلـه الاقتصـادات الغربيـة الأخـرى‪ ،‬وحتـى تمنـح المجـال‬ ‫لاقتصـادات أخـرى فـي العالـم لتحـل محلهـا صناعيـا وتتيـح لهـا التطـور والنمـو اقتصاديـا‪ ،‬كمـا‬ ‫حصـل معهـا منـذ عـام ‪٢٠٠٠‬م‪ ،‬وهـذا الشـرط لـن يتحقـق إلا مـن خـال سـماح الصيـن باحتـال‬ ‫عملتهـا المحليـة لمسـتواها الحقيقـي مـن حيـث القيمـة والتوقـف عـن عمليـة تخفيضهـا المتعمـد‪ .‬فـي‬ ‫البـدء كان اليـوان منخفـض القيمـة فعـا لكنـه ارتفـع فعـا لاحقـا بعد ارتفـاع الدخل القومـي والفردي‬ ‫فـي الصيـن لكـن الحكومـة مازالـت تصـر علـى تخفيضـه بشـكل متعمـد لضمـان اسـتمرار تدفـق‬ ‫الرسـاميل الصناعيـة إليهـا‪ .‬وبالطبـع‪ ،‬فقـد رفضـت الصيـن كلـي الشـرطين ومازالـت تقاومهمـا‪.‬‬ ‫لقـد نشـأ عـن ذلـك الموقـف‪ ،‬وضـع مغلـق أمـام تطلعـات الصيـن وجـدت فيـه نفسـها مضطرة‬ ‫للاعتمـاد علـى التجسـس الصناعـي والمعلوماتـي الكامـل علـى الغـرب ومؤسسـاته فأصبـح هـذا‬ ‫الملـف جـزءا مضافـا إلـى ملـف العلاقـات المثقـل بالقضايـا بيـن الطرفيـن‪.‬‬ ‫مـن جهـة أخـرى‪ ،‬فقـد أعطـى التفـوق الاقتصـادي للصيـن دفعـة قويـة لأطماعهـا الإقليميـة‬ ‫فـي منطقـة مثقلـة بالأزمـات الموروثـة التاريخيـة‪ ،‬مثـل‪ :‬الشـرق الأقصـى والمحيـط الهـادي وبحـر‬

‫‪55‬‬ ‫الصيـن الجنوبـي‪ ،‬فـازداد الخـوف والهواجـس مـن حلفـاء الولايـات المتحـدة أمثـال تايـوان واليابـان‬ ‫وكوريـا الجنوبيـة‪ ،‬بـل حتـى اسـتراليا ونيوزلنـدا بعدمـا ألغـت الصيـن عمليـا اتفـاق ‪١٩٩٧‬م مـع‬ ‫بريطانيــا بخصــوص هونــغ كونــغ‪ ،‬كمــا ظلــت ترســل رســائل التهديــد المعلنــة والمخفيــة تجــاه‬ ‫تايـوان وهـو مـن أخطـر مهـددات الأمـن فـي المحيـط الهـادي ‪.‬‬ ‫كمـا ينظـر الغـرب عمومـا وواشـنطن علـى وجـه التحديـد بعـدم رضـا واضـح عـن زحـف‬ ‫الرسـاميل الصينيـة عالميـا لابتـاع الـدول فيمـا عـرف بمبـادرة الحـزام والطريـق (‪belt & the‬‬ ‫‪ )road initiative‬التـي بـدأت منـذ عـام ‪٢٠١٣‬م لتمـدد النفـوذ الصينـي عبـر العالـم سـواء فـي‬ ‫المحيـط الهـادي أو الهنـدي أو حتـى فـي أوروبـا‪ ،‬والتـي مازالـت ترفـض الاستسـام لمغريـات‬ ‫المشـروع اقتصاديـا حتـى الأن علـى الرغـم مـن تخلـي إدارة ترامـب عـن دعمهـا حتـى الأن‪.‬‬ ‫ويبقــى الســؤال الأهــم والمركــزي فــي الموضــوع هــو مــاذا ســيكون موقــف إدارة بايــدن‬ ‫الجديــدة مــن الملــف الصينــي؟‬ ‫يبـدو أنـه سـيكون مـن الصعـب علـى الإدارة الجديـدة أن تمسـح تاريـخ السـنوات الأربـع‬ ‫السـابقة وتعيـد عقـارب السـاعة للـوراء إلـى مرحلـة شـهر العسـل الامريكـي الصينـي‪ ،‬حيـث أطلـق‬ ‫بعــض الباحثيــن مصطلــح صيمريــكا علــى العلاقــة الفريــدة التــي كانــت تجمــع البلديــن‪ ،‬حيــث‬ ‫تقـوم الصيـن بدعـم الاقتصـاد الأمريكـي عبـر شـراء سـندات الخزانـة الأمريكيـة مقابـل أن يقـوم‬ ‫الأمريـكان بضـخ الأمـوال فـي الاقتصـاد الصينـي‪.‬‬ ‫وبالتالــي‪ ،‬ســتحاول إدارة بايــدن أن تبعــد التوتــر الــذي كان قائمــا‪ ،‬والــذي أوصــل بعــض‬ ‫المحلليـن للحديـث عـن احتماليـة الصـدام العسـكري بيـن الطرفيـن إبـان عهـد ترامـب‪ ،‬لكـن دون‬ ‫التفريـط بأسـس الصـراع الحالـي وهـي إيقـاف التهديـد الصينـي الأمنـي لمناطـق جوارهـا‪ ،‬وأيقـاف‬ ‫مسلسـل انتهـاكات حقـوق الأنسـان داخـل الصيـن‪ ،‬وهـو الملـف الـذي أقـر بايـدن بأهميتـه ليـس‬

‫‪56‬‬ ‫مـع الصيـن لوحدهـا بـل مـع مختلـف الأنظمـة فـي العالـم‪ ،‬فـي محاولـة لإيجـاد تـوازن فـي العلاقـة‬ ‫التجاريـة بيـن الطرفيـن‪ ،‬لإسـكات قطـاع الـرأي العـام المتضـرر مـن هـذه العلاقـة‪ ،‬لاسـيما فـي‬ ‫قطـاع الصناعـة الأمريكيـة المحتضـرة‪.‬‬ ‫وأخيـرا‪ ،‬محاولـة إيجـاد جبهـة دوليـة مسـاندة مـع حلفـاء واشـنطن التقليدييـن‪ ،‬الذيـن عانـوا‬ ‫مـن سياسـات ترامـب‪ ،‬كـدول الاتحـاد الأوربـي وكنـدا واسـتراليا واليابـان وكوريـا والهنـد وبقيـة‬ ‫دول جنـوب شـرق اَسـيا‪ ،‬لا لمواجهـة بايجنـغ فقـط‪ ،‬بـل لمواجهـة جميـع دول مجموعـة شـانغهاي‬ ‫(محـور بايجنـغ – موسـكو)‪ ،‬وربمـا هـذا بالضبـط مـا حـدا بموسـكو وبايجنـغ إلـى التصريـح علنـا‬ ‫بأنهمـا يفضـان بقـاء ترامـب فـي البيـت الأبيـض وبقـاء خطـه الفوضـوي فـي السياسـة الخارجيـة‬ ‫علـى مجـيء بايـدن‪.‬‬

‫‪57‬‬ ‫تقدير موقف‬ ‫تحليل لعدد من القضايا السياسية والاقتصادية‬

‫‪58‬‬ ‫(‪ )1‬ملاحظات حول مشروع قانون جرائم المعلوماتية‬ ‫مشروع قانون جرائم المعلوماتية وانتهاكات حقوق الإنسان‬ ‫مـازال القانـون العراقـي يفتقـر إلـى التشـريعات التـي تنظـم البيئـة المعلوماتيـة‪ ،‬ومـن هنـا‬ ‫جـاء طـرح مشـروع (قانـون جرائـم المعلوماتيـة)‪ ،‬الـذي قـدم بصيغتـه الأولـى منـذ عـام ‪2011‬‬ ‫وتمـت قراءتـه الثانيـة فـي الـدورة البرلمانيـة الرابعـة الحاليـة‪ ،‬فـي بدايـة العـام الحالـي‪ ،‬حيـث‬ ‫تـم ترحيلـه مـن دورتيـن برلمانيتيـن سـابقتين‪ ،‬وتأجـل تشـريعه وإقـراره بسـبب وجـود الكثيـر مـن‬ ‫وجهـات النظـر المتقاطعـة حـول مضامينـه وفقراتـه ونتائجـه المتوقعـة وانعكاسـاته علـى الحيـاة‬ ‫الاجتماعيــة والحريــات الفرديــة‪ ،‬وهــو حصيلــة جهــد مشــترك لســت لجــان برلمانيــة هــي لجنــة‬ ‫الأمـن والدفـاع‪ ،‬ولجنـة التعليـم العالـي‪ ،‬واللجنـة القانونيـة‪ ،‬ولجنـة الثقافـة والإعـام والسـياحة‪،‬‬ ‫ولجنـة حقـوق الأنسـان‪ ،‬والأسـرة والمـرأة والطفـل‪ ،‬ولجنـة الخدمـات والإعمـار ‪.‬‬ ‫وتنـص المـادة (‪ )2‬مـن مشـروع القانـون علـى‪« :‬يهـدف هـذا القانـون إلـى توفيـر الحمايـة‬ ‫القانونيـة للاسـتخدام المشـروع للحاسـوب وشـبكة المعلومـات ومعاقبـة مرتكبـي الأفعـال التي تشـكل‬ ‫اعتـداء علـى حقـوق مسـتخدميها مـن الأشـخاص الطبيعيـة أو المعنويـة ومنـع إسـاءة اسـتخدامه فـي‬ ‫ارتـكاب جرائـم الحاسـوب»‪.‬‬ ‫وكان الأجــدر‪ ،‬القيــام بنشــر مشــروع القانــون فــي وســائل الإعــام لإعطــاء الفرصــة‬ ‫لمناقشـته فـي حـوار مفتـوح بيـن منظمـات المجتمـع المدنـي‪ ،‬مـن قبـل المختصيـن فـي الإعـام‪،‬‬ ‫المعلومـات‪ ،‬الاجتمـاع‪ ،‬الاقتصـاد‪ ،‬الأمـن‪ ،‬الحقـوق‪ ،‬لدراسـته وتقديـم التوصيـات اللازمـة لمعالجـة‬ ‫الاختـالات البنيويـة والوظيفيـة والتطبيقيـة‪ .‬حيـث تنـاول المشـروع المفـردات المتعلقـة بالرقابـة‬ ‫علـى اسـتخدام شـبكة المعلوماتيـة وتنفيـذ القانـون‪ ،‬علـى مسـتخدمي الحواسـيب وأجهـزة الموبايـل‬ ‫ووسـائل الاتصـال عبـر الشـبكة الدوليـة للمعلومـات‪ ،‬بمعنـى‪ :‬التأكيـد علـى الجانـب الأمنـي فـي‬

‫‪59‬‬ ‫الرقابـة علـى حركـة المعلومـات‪ ،‬ممـا قـد يشـكل انتهـاكاً للخصوصيـة والحريـة الفرديـة‪ ،‬وهنـا‬ ‫نشـير إلـى عـدد مـن الملاحظـات‪:‬‬ ‫‪ .1‬لقـد كفـل الدسـتور العراقـي بالمـادة (‪ )38‬حريـة التعبيـر‪ ،‬بمعنـى‪ :‬كفـل وسـائل التعبيـر‬ ‫عـن الـرأي والمتمثلـة بتقنيـة المعلومـات الإلكترونيـة فـي مواقـع التواصـل الاجتماعـي‪ .‬لـذا‪ ،‬فـأن‬ ‫أي تحديـد لهـذه الوسـائل هـو بمثابـة انتهـاك للدسـتور وانتهـاك لحقـوق الأنسـان فـي الديمقراطيـة‬ ‫وحريـة التعبيـر‪.‬‬ ‫‪ .2‬تناقـض فلسـفة مشـروع القانـون مـع الفكـر الإنسـاني حـول التعامـل مـع انتشـار وحريـة‬ ‫انتقــال المعلومــات‪ ،‬بمعنــى‪ :‬أن انتشــار المعلومــات أصبــح حقــا للجميــع‪ ،‬والحــق فــي الانتفــاع‬ ‫مـن المعرفـة كحـق مـن حقـوق الإنسـان‪ ،‬ولا يجـوز حرمـان الشـعب العراقـي مـن حريـة انتقـال‬ ‫المعلومـات‪ .‬لـذا‪ ،‬يتوجـب أن يتضمـن مشـروع القانـون مـا يشـير إلـى إنمـاء المعرفـة لدى الإنسـان‪،‬‬ ‫بــدلا مــن تقيدهــا الإجــراءات الأمنيــة التــي قــد تكــون تعســفية بمــا يتناقــض مــع مبــادئ حقــوق‬ ‫الإنسـان وحريـة انتقـال الأفـكار والمعلومـات‪.‬‬ ‫‪ .3‬يفتــرض ان يتجنــب مشــروع القانــون‪ ،‬ذكــر عبــارات عامــة غيــر محــددة‪ ،‬كإفشــاء‬ ‫الأخبـار والمعلومـات ومخالفـة النظـام العـام‪ ،‬وغيرهـا مـن الكلمـات التـي تخضـع للتأويـل‪ ،‬ممـا‬ ‫يسـمح بشـرعنة قمـع حريـة التعبيـر‪ ،‬واللجـوء إلـى الاعتقـالات التعسـفية وقمـع الحريـات الفرديـة‬ ‫والعامـة‪ ،‬وهـذا مـا يشـكل انتهـاكا خطيـراً لحريـة الاتصـال المشـار إليهـا فـي المـادة (‪ )12‬مـن‬ ‫الإعـان العالمـي لحقـوق الإنسـان‪.‬‬ ‫‪ .4‬يجـب البحـث فـي كيفيـة تعامـل مشـروع القانـون مـع إشـكالية المصطلحـات الـواردة فيـه‪،‬‬ ‫التـي تُعـد واحـدة مـن أبـرز المشـكلات التـي تعانـي منهـا التشـريعات الوطنيـة والدوليـة فـي العديـد‬ ‫مـن البلـدان بمـا فيهـا الـدول التـي أنتجـت تقنيـة المعلومـات‪ .‬ممـا يثيـر العديـد مـن التحديـات في فهم‬

‫‪60‬‬ ‫مضمـون المصطلحـات الـواردة فـي مشـروع القانـون‪ ،‬وهـذا يتطلـب العمـل علـى إصـدار مذكـرة‬ ‫تفسـيرية (علـى غـرار التقريـر التفسـيري لاتفاقيـة الجريمـة الإلكترونيـة الأوربيـة)‪ ،‬لتقديـم شـرح‬ ‫واضـح حـول الجريمـة الإلكترونيـة للمصطلحـات الـواردة فـي المشـروع‪ ،‬ولمعالجـة وتوضيـح‬ ‫القضايـا المتعلقـة بالجريمـة الإلكترونيـة‪ ،‬التـي تشـكل الهـدف الجوهـري لمشـروع قانـون جرائـم‬ ‫المعلوماتية‪.‬‬ ‫‪ .5‬تتحمـل السـلطة التشـريعية مسـؤولية إصـدار قوانيـن تدعـم قـدرة المجتمـع علـى التعامـل‬ ‫مـع مظاهـر التقـدم العلمـي والتكنولوجـي فـي مجـال الحاسـوب ومنظومـات التواصـل الاجتماعـي‬ ‫والسياسـي والاقتصـادي والعلمـي‪ ،‬واحتـرام ثقافـة المشـاركة السياسـية والاقتصاديـة والاجتماعيـة‬ ‫للشـعب فـي رسـم السياسـات وصياغـة القـرارات والتشـريعات‪ ،‬بوصفـه مصـدر السـلطات بنـاء‬ ‫علـى المـادة (‪ )5‬مـن الدسـتور‪ ،‬فضـا عـن صـدور القوانيـن والأحـكام باسـم الشـعب طبقـاً للمبـادئ‬ ‫الدسـتورية فـي المـادة (‪ )124‬مـن الدسـتور‪.‬‬ ‫‪ .6‬إعـادة النظـر بتسـمية القانـون التـي ينبغـي أن تكـون‪« :‬قانـون الجريمـة الإلكترونيـة»‪،‬‬ ‫كمـا يفتـرض أن لا يقتصـر القانـون علـى الجرائـم والعقوبـات‪ ،‬فالمجتمـع العراقـي يحتـاج إلـى‬ ‫تنظيـم البيئـة الالكترونيـة بكاملهـا‪ ،‬وتحديـد الحقـوق والواجبـات والعقوبـات‪ ،‬ويخشـى الكثيـرون أن‬ ‫يتعـارض هـذا القانـون مـع مضمـون المـادة (‪ )38‬مـن الدسـتور العراقـي التـي تكفـل حريـة التعبيـر‬ ‫عـن الـرأي بـكل الوسـائل‪ ،‬وتضمـن حريـة الصحافـة والطباعـة والإعـان والإعـام والنشـر‪ ،‬وهـو‬ ‫مـا يدعـو إلـى التأنـي فـي تشـريع القانـون‪ ،‬وينبغـي أن يخضـع لحـوار وطنـي عميـق‪ ،‬لأنـه يمـس‬ ‫حيـاة العراقييـن جميعـاً‪ ،‬ويرتبـط مـع مسـتقبلهم وقدرتهـم علـى اسـتيعاب تكنولوجيـا المعلومـات‬ ‫وطريقـة توظيفهـا للمنفعـة العامـة‪.‬‬

‫‪61‬‬ ‫مشروع قانون جرائم المعلوماتية‪ :‬أداة لقمع حرية التعبير‬ ‫مــازال القانــون يثيــر الجــدل‪ ،‬وســط انتقــادات كثيــرة مــن تأثيــره علــى حريــة التعبيــر‪،‬‬ ‫خصوصـا أنـه يتضمـن عقوبـات قاسـية إزاء انتهـاكات متعلقـة بالتعبيـر الكلامـي‪ ،‬التـي تـم تعريفهـا‬ ‫بشـكل غامـض فـي نـص مشـروع القانـون‪ .‬حيـث نصـت المـادة (‪ )3‬علـى إنـزال عقوبـة السـجن‬ ‫مـدى الحيـاة مـع فـرض غرامـات باهظـة لأولئـك الذيـن تصـدر أحـكام إدانـة بحقهـم‪« ،‬باسـتخدام‬ ‫الكمبيوتـر والإنترنـت لتقويـض اسـتقلال البـاد ووحدتها وسـامتها‪ ،‬أو مصالحها العليـا الاقتصادية‬ ‫والسياسـية والعسـكرية أو الأمنيـة أو لإثـارة خـاف طائفـي وزعزعـة الوضـع الأمنـي والعـام أو‬ ‫إلحـاق الأذى بسـمعة البـاد»‪ .‬لـذا‪ ،‬وصفتـه منظمـة العفـو الدوليـة بأنـه‪ :‬قانـون فضفـاض يهـدد‬ ‫الحقـوق والحريـات للشـعب العراقـي ويعـرض الصحفييـن والكتـاب للاعتقـال التعسـفي‪ ،‬لتعميـق‬ ‫الدولـة الأمنوقراطيـة فـي العـراق‪.‬‬ ‫إن إقـرار مشـروع قانـون جرائـم المعلوماتيـة‪ ،‬بصيغتـه الحاليـة‪ ،‬يمكـن أن يـؤدي إلـى تقييـد‬ ‫الحريـات الفرديـة والعامـة‪ ،‬خاصـة وأن دسـتور العـراق ضمـن حريـة التعبيـر‪ ،‬وكذلـك المواثيـق‬ ‫والاتفاقيـات الدوليـة التـي وقـع عليهـا العـراق خصوصـاً القانـون الدولـي لحقـوق الأنسـان‪ ،‬لـذا‪،‬‬ ‫ضـرورة البحـث فـي كافـة مـواد القانـون وضمـان عـدم المسـاس بالحقـوق والحريـات التـي كفلهـا‬ ‫الدسـتور العراقـي لعـام ‪٢٠٠٥‬م‪ .‬كمـا يفتـرض تبنـي اسـتراتيجية وطنيـة شـاملة لمواجهـة شـبكات‬ ‫الجريمـة المنظمـة المتمثلـة بــ‪ :‬الإرهـاب‪ ،‬الاتجـار بالبشـر؛ تجـارة الأعضـاء البشـرية‪ ،‬تجـارة‬ ‫المخـدرات؛ تبييـض الأمـوال؛ تجـارة الأسـلحة‪ ،‬الجريمـة السـيبرانية (خـرق منظومـات الاتصـال‬ ‫والمعلومـات)؛ التـي يفتـرض أن تؤخـذ بالاعتبـار لضمـان الأمـن الوطنـي‪.‬‬ ‫لقــد تض ّمـن الفصــل الثانــي مـن مشـروع القانـون المقتـرح أحكامــاً عقابيـة قاسـية‪ ،‬قـد لا‬ ‫يوجــد لهــا مثيــل فــي تشــريعات الــدول الأخــرى‪ ،‬فقــد تكــررت عقوبــة «الســجن المؤبــد» فــي‬

‫‪62‬‬ ‫المـواد‪ 3( :‬و‪ 4‬و‪ 5‬و‪ )6‬التـي تشـمل عـدداً كبيـراً مـن الجرائـم التـي لا تقتضـي فـي أغلبهـا هـذا‬ ‫النـوع مـن العقوبـة القصـوى‪ ،‬ومثـال علـى ذلـك الفقـرة ثالثـا مـن المـادة ‪« :6‬نشـر أو إذاعـة وقائـع‬ ‫كاذبـة أو مضللـة بقصـد إضعـاف الثقـة بالنظـام المالـي الالكترونـي أو الأوراق التجاريـة والماليـة‬ ‫الالكترونيـة ومـا فـي حكمهـا أو الإضـرار بالاقتصـاد الوطنـي والثقـة الماليـة للدولـة»‪.‬‬ ‫كمـا نصـت المادتـان (‪ )8-7‬علـى عقوبـة (السـجن المؤقـت)‪ ،‬مـع غرامـات ماليـة‪ ،‬وذلـك‬ ‫مـن دون تحديـد مـدة (السـجن المؤقـت)‪ ،‬أمـا المـواد مـن (‪ ،)23-9‬فتتضمـن عقوبـة الحبـس أو‬ ‫السـجن لمـدد متفاوتـة تتـراوح مـا بيـن عـام واحـد إلـى عشـرة أعـوام‪ ،‬إلـى جانـب غرامـات ماليـة‬ ‫كبيـرة‪ ،‬أمـا الجرائـم التـي تشـملها هـذه العقوبـات‪ ،‬فهـي متعـددة ومتنوعـة‪ ،‬ومثـال علـى ذلـك‪:‬‬ ‫الفقـرة ثانيـا مـن المـادة (‪ )18‬التـي جـاء فيهـا‪« :‬يعاقـب بالحبـس مـدة لا تزيـد علـى ‪ 3‬سـنوات‬ ‫وبغرامــة لا تقــل عــن مليونــي دينــار ولا تزيــد علــى ‪ 3‬ملاييــن دينــار كل مــن اســتخدم أجهــزة‬ ‫الحاسـوب وشـبكة المعلومـات»‪.‬‬ ‫إن ثــورة المعلومــات أصبحــت تشـكل حيــاة البشـرية وهــي نعمـة غيـر مسـبوقة لا يمكـن‬ ‫الاسـتغناء عنهـا ومـا زالـت قفزاتهـا متواصلـة نحـو المسـتقبل‪ ،‬بطريقـة تفـوق أقصـى مـا يتخيلـه‬ ‫الأنســان‪ ،‬ولا شــك أن البيئــة الإلكترونيــة المعلوماتيــة تقتضــي وجــود أطــر إداريــة وقانونيــة‬ ‫ومؤسســاتية جديــدة تســتطيع اســتيعابها وتوجيههــا لخدمــة الإنســان وتقليــل مخاطرهــا ونتائجهــا‬ ‫السـلبية مثـل الإدمـان الإلكترونـي أو انتهـاك الخصوصيـة أو الحقـوق الفكريـة والعلميـة وغيرهـا‬ ‫مـن القضايـا‪ ،‬التـي أصبحـت مـن سـمات الفضـاء الإلكترونـي المفتـوح بـدون قيـود‪.‬‬

‫‪63‬‬ ‫خلاصة واستنتاجات حول مشروع قانون جرائم المعلوماتية‬ ‫يحــوي القانــون تعاريــف «فضفاضــة» وعقوبــات خطــرة‪ ،‬ممــا أثــار النقــاش حولــه منــذ‬ ‫عـام ‪٢٠١١‬م‪ .‬حيـث أثـار مشـروع قانـون «جرائـم المعلوماتيـة» العراقـي الجـدل الواسـع بيـن‬ ‫المشــرعين العراقييــن‪ ،‬لا ســيما الخاصــة بشــأن العقوبــات التــي تصــل إلــى الســجن ‪ 10‬أعــوام‬ ‫وغرامــات كبيــرة‪ ،‬وهــو مــا يثيــر القلــق بشــأن حمايــة الحريــات الفرديــة والعامــة وضمانهــا‬ ‫وتشـير الفقـرة الرابعـة مـن المـادة ‪ 8‬مـن مشـروع القانـون إلـى أنـه‪« :‬يعاقـب بالسـجن مـدة‬ ‫لا تقـل عـن سـبع سـنوات ولأ تزيـد علـى عشـر سـنوات وبغرامـة لا تقـل عـن (‪)10000000‬‬ ‫عشـرة ملاييـن دينـار عراقـي ولا تزيـد علـى (‪ )15000000‬خمسـة عشـر مليـون دينـار عراقـي‬ ‫كل مـن اسـتخدم شـبكة المعلوماتيـة أو أحـد أجهـزة الحاسـوب ومـا فـي حكمهـا بقصـد الاعتـداء‬ ‫علـى المبـادئ والقيـم الدينيـة أو الأسـرية أو الاجتماعيـة‪.‬‬ ‫إن «التعريفـات الفضفاضـة» لمـواد قانونيـة جرميـة يمكـن أن تسـتخدم مـن قبـل السـلطة‬ ‫لإسـكات المعارضـة الشـعبية‪ ،‬وبحسـب الخبيـر العراقـي فـي الشـؤون القانونيـة‪ ،‬علـي التميمـي‪،‬‬ ‫فـإن مشـروع القانـون يحتـوي علـى‪« :‬تعاريـف مقتضبـة وهـي تحتاج أن تعـرف»‪ ،‬مثـل «الاعتداء‬ ‫علـى المبـادئ والقيـم الدينيـة أو الأسـرية أو الاجتماعيـة» التـي يمكـن أن تعنـي أي شـيء مـن النقـد‬ ‫للعـادات الاجتماعيـة والعشـائرية وإلـى المطالبـة بالحريـات‪.‬‬ ‫ويقـول علمـاء الديـن‪ :‬إن «المسـلمين مختلفـون بينهـم فـي التفاسـير ابتـداء مـن صفـات الله‬ ‫ووصــولا إلــى أحــكام الوضــوء»‪ ،‬وبنــاء عليــه‪« :‬كيــف ســنحدد ماهــي القيــم الدينيــة إذن؟” إن‬ ‫«عقوبـة المسـاس بالقيـم الدينيـة والأسـرية غيـر واضحـة‪ ،‬وتدخـل المطبـق للقانـون فـي إشـكالية‬ ‫فهـم النـص”‪.‬‬

‫‪64‬‬ ‫بنـاء علـى ماتقـدم مـن ملاحظـات‪ ،‬نوصـي بإجـراء تعديـات جوهريـة علـى مشـروع قانـون‬ ‫جرائـم المعلوماتيـة‪ ،‬بمـا ينسـجم مـع المبـادئ والقواعـد العامـة للاتفاقيـة الدوليـة لمكافحـة الجريمـة‬ ‫الالكترونيـة المعروفـة بــ «الاتفاقيـة المتعلقـة بالجريمـة الالكترونية‪-‬بودابسـت ‪ 23‬تشـرين الثانـي‬ ‫‪2001‬م‪ ،‬والاطـاع علـى التقريـر التفسـيري للاتفاقيـة‪ ،‬والمرفقـة روابطهـا فـي أدنـاه‪.‬‬ ‫رابط الاتفاقية المتعلقة بالجريمة الالكترونية‪-‬بودابست‪:‬‬ ‫‪https://rm.coe.int/budapest-convention-in-arabic/1680739173‬‬ ‫رابط التقرير التفسيري لاتفاقية الجريمة الالكترونية‪:‬‬ ‫‪https://rm.coe.int/explanatory-report-budapest-convention-in-ar-‬‬ ‫‪abic/1680739174‬‬

‫‪65‬‬ ‫(‪ )2‬تداعيات الأزمة الاقتصادية وتخفيض قيمة الدينار‬ ‫فـي أيـار ‪2020‬م تبنـت الحكومـة العراقيـة برنامـج الورقـة البيضـاء للإصـاح الاقتصـادي‪،‬‬ ‫التـي تبنـت وضـع معالجـات للمشـكلات والتحديـات الاقتصاديـة التـي تفاقمـت بسـبب السياسـات‬ ‫الاقتصاديــة الخاطئــة منــذ ‪2003‬م والتــي أضعفــت الاقتصــاد العراقــي وهــددت بانهيــار النظــام‬ ‫الاقتصـادي والسياسـي بفعـل سـوء الإدارة السياسـية والاقتصاديـة‪.‬‬ ‫تحديات الإصلاح السياسي والاقتصادي‬ ‫تتفاقــم مشــكلة العــراق بفعــل تعقيــد التركيبــة السياســية والاقتصاديــة التــي تجعــل مــن أي‬ ‫مشـروع للإصـاح السياسـي والاقتصـادي صعـب التحقيـق‪ ،‬إذا مـا اسـتهدفت التصـدي للحـد مـن‬ ‫النفــوذ السياســي والاقتصــادي للأحــزاب والتيــارات المهيمنــة علــى الســلطات الثــاث‪ .‬لقــد أكــد‬ ‫رئيــس الــوزراء مصطفــى الكاظمــي‪ ،‬خــال جلســة مجلــس الــوزراء الســبت ‪ 19‬كانــون الأول‬ ‫‪2020‬م‪ ،‬أن « العـراق يعانـي منـذ عـام ‪2003‬م مـن التأسـيس الخطـأ الـذي يهـدد النظـام السياسـي‬ ‫والاجتماعـي بالانهيـار الكامـل»‪ .‬وأضـاف‪ « :‬إمـا انهيـار النظـام والدخـول فـي فوضـى عارمـة‬ ‫أو ندخـل فـي عمليـة قيصريـة للإصـاح»‪ .‬مؤكـداً انـه‪« :‬مـن غيـر المعقـول أن نخضـع لمعادلـة‬ ‫الفسـاد السـابقة»‪.‬‬ ‫وأشـار رئيـس الـوزراء إلـى‪ :‬أن «الأزمـة السياسـية فـي العـراق مرتبطـة بثـاث قضايـا‪،‬‬ ‫هـي السـلطة والمـال والفسـاد»‪ ،‬كاشـفا أن الـوزارة سـتعمل علـى «معالجـة الأزمـة مـن منطلـق‬ ‫اقتصـادي‪ ،‬وبقـرار جـريء لتذليـل عقبتـي الفسـاد والمـال”‪ .‬ولفـت السـيد الكاظمي إلـى أن‪« :‬الورقة‬ ‫البيضـاء والإصلاحـات التـي نقـوم بهـا حصلـت علـى دعـم دولـي وإقليمـي وسياسـي»‪ ،‬مردفـا‪:‬‬ ‫«نســعى مــن خــال الإصلاحــات التــي اعتمدناهــا إلــى محاربــة الفســاد والفاســدين والنهــوض‬ ‫بالاقتصـاد العراقـي وصناعـة مسـتقبل أفضـل‪ ،‬يحفـظ كرامـة المواطنيـن”‪.‬‬

‫‪66‬‬ ‫الاختلالات البنيوية والوظيفية‬ ‫إن العـراق يعانـي مـن خلـل بنيـوي ووظيفـي فـي مؤسسـاته الاقتصاديـة والماليـة يتمثـل بهدر‬ ‫المـال العـام وتعزيـز الفسـاد وشـرعنته حزبيـاً وسياسـياً‪ ،‬كمـا لـم تعمـل الأحـزاب التـي احتكـرت‬ ‫السـلطة منـذ عـام ‪2003‬م‪ ،‬علـى تبنـي اسـتراتيجية اقتصاديـة شـاملة فـي إطـار نظريـة اقتصـاد‬ ‫السـوق لإعـادة بنـاء الصناعـة والزراعـة والخدمـات وتوفيـر الفـرص أمـام الاسـتثمارات الوطنيـة‬ ‫والأجنبيـة لتعظيـم المـوارد الاقتصاديـة مـن خـال توفيـر الطاقـة الكهربائيـة وتشـجيع التجـارة‬ ‫الداخليـة والخارجيـة وتحقيـق التـوازن فـي العلاقـات الاقتصاديـة والدبلوماسـية مـع دول الجـوار‬ ‫والاتحـاد الأوربـي والولايـات المتحـدة الأمريكيـة بجانـب الصيـن وروسـيا والـدول الاسـيوية عبـر‬ ‫الانفتـاح علـى شـراكات اقتصاديـة للتعـاون فـي الاسـتثمار فـي الثـروات العراقيـة التـي تتجـاوز‬ ‫‪ 20‬ترليـون دولار لمواجهـة ظاهـرة الفقـر والبطالـة والجـوع‪ ،‬وتحريـر الاقتصـاد العراقـي مـن‬ ‫سياســات رأســمالية الدولــة والاقتصــاد الأحــادي الريعــي الــذي يعتمــد علــى ‪ %90‬مــن واردات‬ ‫النفـط‪ ،‬والانتقـال نحـو الاقتصـاد الإنتاجـي‪.‬‬ ‫الفساد المالي ومخاطر انهيار النظام الاقتصادي‬ ‫إن الســبب الجوهــري للوضــع الاقتصــادي والسياســي الكارثــي فــي العــراق‪ ،‬كمــا أشــار‬ ‫بوضـوح رئيـس الـوزراء‪ ،‬هـو اسـتحواذ طبقـة الأحـزاب السياسـية التـي تفتقـد لاعتمـاد نظريـة‬ ‫سياسـية واقتصاديـة معاصـرة‪ ،‬كمـا لا تؤمـن بالنظريـات المعاصـرة للدولـة‪ ،‬ولجأت إلى الاسـتحواذ‬ ‫علـى السـلطات الثـاث ونهـب الثـروات العامـة‪ ،‬حيـث انفقـت خـال ‪2014-2006‬م ‪ 600‬مليـار‬ ‫دولار مـن دون إيصـالات‪ ،‬وفـق تقريـر أعـده عـادل نـوري عضـو مجلـس النـواب‪ ،‬كمـا كشـف‬ ‫محافـظ البنـك المركـزي سـنان الشـبيبي عـن قيـام الحكومـة بهـدر ‪ 800‬مليـار دولار‪ ،‬كان بإمكانهـا‬ ‫تحويـل العـراق إلـى بلـد حضـاري متطـور ومزدهـر يضـم ‪ 30‬مليـون نسـمة‪ .‬وبسـبب الخـوف‬

‫‪67‬‬ ‫والتهديــد بالقتــل أو الاحتجــاز مــن قبــل مافيــات الفســاد والجريمــة المنظمــة‪ ،‬قــام المســتثمرون‬ ‫العراقيــون بتهريــب ‪ 300‬مليــار دولار خــارج العــراق‪ .‬إذاً‪ ،‬لابــد مــن جراحــة عميقــة لتصفيــة‬ ‫طبقـة الفسـاد المالـي والسياسـي التـي احتكـرت السـلطة عبـر فوضـى الحيـاة السياسـية والدمـار‬ ‫الاقتصـادي‪ ،‬لتجنـب انهيـار النظـام السياسـي وانـدلاع الفوضـى وربمـا الحـرب الأهليـة‪.‬‬ ‫لقــد جــاءت قــرارات البنــك المركــزي لخفــض قيمــة الدينــار العراقــي أمــام الــدولار فــي‬ ‫محاولــة لإنقــاذ الوضــع الاقتصــادي المتدهــور مــن الانهيــار‪ ،‬ولكــن فــي نفــس الوقــت‪ ،‬ســتفاقم‬ ‫هـذه القـرارات مـن المشـكلات الاقتصاديـة والاجتماعيـة للطبقـات المسـحوقة الفقيـرة والمتوسـطة‬ ‫وسـيؤدي إلـى رفـع معـدلات الفقـر لأكثـر مـن ‪ %40‬إضافـة إلـى وجـود ‪ 4.5‬مليـون نسـمة تحـت‬ ‫مسـتوى خـط الفقـر‪ ،‬بجانـب ‪ 6‬ملاييـن يتيـم و‪ 2‬مليـون أرملـة بحاجـة إلـى الرعايـة الاجتماعيـة‬ ‫والصحيـة‪ ،‬كمـا يعيـش ‪ 4‬ملاييـن مواطـن فـي البيـوت العشـوائية‪ ،‬حيـاة البـؤس والتشـرد فـي بلـد‬ ‫يمتلـك ثانـي احتياطـي للنفـط بعـد المملكـة العربيـة السـعودية لكنـه الأفقـر مـن بيـن دول المنطقـة‪.‬‬ ‫إن تخفيـض البنـك المركـزي فـي العـراق لقيمـة الدينـار مقابـل الـدولار الأمريكـي‪ ،‬جـاء‬ ‫اسـتجابة للضغـوط الاقتصاديـة المتزايـدة‪ ،‬وبينهـا تراجـع أسـعار النفـط‪ ،‬وفـي ظـل اسـتمرار تفشـي‬ ‫فيــروس كورونــا‪ ،‬ممــا أدى إلــى حــدوث عجــز كبيــر فــي الموازنــة العامــة واضطــرار وزارة‬ ‫الماليــة إلــى الاقتــراض مــن المصــارف‪ ،‬لدفــع الرواتــب وتلبيــة الاحتياجــات الإنفاقيــة الأخــرى‬ ‫المتعلقـة بالخدمـات المقدمـة للمواطنيـن‪ .‬وحـدد البنـك المركـزي سـعر الصـرف الرسـمي الجديـد‬ ‫عنـد ‪ 1460‬دينـارا مقابـل الـدولار الواحـد‪ ،‬بـدلا مـن ‪ 1182‬دينـارا للـدولار‪ ،‬مـا يخفـض القيمـة‬ ‫الرســمية للعملــة بنحــو ال ُخمــس‪ .‬وأضــاف فــي بيــان‪ :‬أن الإخفاقــات السياســية‪ ،‬التــي تعــود إلــى‬ ‫أكثـر مـن ‪ 15‬عامـا‪ ،‬أدت إلـى تفاقـم الأزمـة‪ ،‬مشـددا علـى أن الخفـض سـيكون لمـرة واحـدة ولـن‬ ‫يتكـرر‪ ،‬وأنـه يهـدف إلـى دعـم الماليـة العامـة ومتطلبـات الإنفـاق العـام‪.‬‬

‫‪68‬‬ ‫ويبـدو ان الأزمـة الاقتصاديـة فـي العـراق وانخفـاض أسـعار النفـط‪« ،‬قـد يثيـران حالـة مـن‬ ‫انعـدام الأمـن” والفوضـى والقلـق بيـن العراقييـن‪ ،‬خوفـا مـن تدهـور الظـروف المعيشـية وتفاقـم‬ ‫الأوضـاع بصـورة أكبـر‪ .‬وفـي إطـار تقييـم قـرار البنـك المركـزي‪ ،‬أكـد الخبيـر الاقتصـادي‪ ،‬عبـد‬ ‫الرحمـن المشـهداني‪« ،‬إن قـرار خفـض قيمـة العملـة سـتكون لهـا انعكاسـات سـلبية علـى المواطـن‬ ‫والاقتصــاد‪ ،‬علــى حــد ســواء»‪ .‬وتابــع المشــهداني قائــا‪ :‬إن «خفــض قيمــة العملــة بنســبة ‪20‬‬ ‫بالمئـة‪ ،‬فيمـا السـوق المحليـة تعتمـد بنسـبة ‪ 85‬بالمئـة مـن احتياجاتهـا علـى السـلع المسـتوردة‪،‬‬ ‫يعنـي أن الأسـعار سـترتفع بأكثـر مـن ‪ 20‬بالمئـة وربمـا إلـى نحـو ‪ 30‬بالمئـة”‪ .‬وممـا لا شـك فيـه‬ ‫أن قـرار خفـض قيمـة الدينـار العراقـي‪ ،‬قـد أحـدث صدمـة عميقـة فـي أوسـاط الموظفيـن والطبقـة‬ ‫المتوسـطة والفقـراء المسـحوقين‪ ،‬رغـم وعـود وزارة الماليـة بـأن تعديـل سـعر الصـرف «سـيكون‬ ‫لمـرة واحـدة فقـط ولـن يتكـرر مسـتقبلا»‪ ،‬إلـى جانـب محاولـة الحكومـة طمأنـة المواطنيـن والتعهـد‬ ‫بـأن القـرار لـن يؤثـر علـى فئـات الشـعب التـي تعتمـد علـى السـلع المحليـة‪.‬‬ ‫تداعيات ومشاهد تطور الأزمة الاقتصادية‬ ‫لقـد شـهد العالـم تخفيـض عديـد مـن الـدول قيمـة عملتهـا‪ ،‬منـذ أن تخلـت الاقتصـادات عـن‬ ‫ربـط عملاتهـا بالذهـب‪ ،‬وباتـت تربطهـا بعمـات أخـرى أو بسـلة مـن العمـات‪ .‬ولذلـك‪ ،‬تبعـات‬ ‫إيجابيـة وسـلبية علـى الاقتصاديـات تختلـف مـن بلـد لأخـر وحسـب ظـروف كل بلـد‪ ،‬وقـد تسـبب‬ ‫كمـا رأينـا قـرار خفـض قيمـة صـرف الدينـار العراقـي مقابـل الـدولار الأميركـي الأخيـر بضجـة‬ ‫كبيـرة‪ ،‬ضاعفـت مـن حجـم الأزمـة التـي يعيشـها العـراق منـذ سـنوات‪.‬‬ ‫لكـن فـي وسـط كل هـذه المعطيـات‪ ،‬تسـتمر الأزمـة الاقتصاديـة والماليـة الخانقـة‪ ،‬وتنعـدم‬ ‫فـرص بلـورة سياسـة اقتصاديـة ماليـة لإنقـاذ الاقتصـاد العراقـي‪ .‬فالتحديـات والعقبـات الأمنيـة‬ ‫الكبــرى والســاح المنفلــت‪ ،‬ومخاطــر اســتمرار طبقــة الفســاد المالــي والسياســي فــي التحكــم‬

‫‪69‬‬ ‫بالثـروات والمـال العـام‪ ،‬تحـت سـطوة اسـتمرار ظاهـرة انعـدام الاسـتقرار الاقتصـادي والسياسـي‪.‬‬ ‫وبالتالـي‪ ،‬يمكـن أن تـؤول الأمـور فـي العـراق‪ ،‬فـي ضـوء قـرار خفـض الدينـار العراقـي‪ ،‬إلـى‬ ‫أحـد ثلاثـة سـيناريوهات وفـق الآتـي‪:‬‬ ‫الســيناريو الأول‪ :‬أذا مــا شــهدت الأســواق النفطيــة صعــودا فــي أســعار النفــط‪ ،‬وهــو مــا‬ ‫يتأملـه المراقبـون مـع بدايـة عـام ‪2021‬م وعـودة النشـاط الاقتصـادي العالمـي‪ ،‬أو علـى الأقـل‬ ‫اسـتقرار الأسـعار الحاليـة‪ ،‬فـإن ذلـك قـد يمكـن الحكومـة العراقيـة مـن أتخـاذ إجـراءات تخفيفيـة‬ ‫لتبعـات هـذا القـرار علـى المواطنيـن اذا مـا كانـت الحكومـة العراقيـة صادقـة بنواياهـا بمسـاعدة‬ ‫المواطنيــن‪ ،‬أو تخصيصهــا جــزءا مــن القــروض الدوليــة لدعــم الصناعــة المحليــة‪ ،‬لكــن هــذا‬ ‫السـيناريو يواجـه عقبـة الفسـاد المستشـري فـي جسـد الدولـة العراقيـة الـذي سـاهم فـي تعطيـل‬ ‫جميـع الحلـول الاقتصاديـة الممكنـة سـابقا‪ ،‬وبالتالـي ممكـن أن يوقفهـا حاليـا‪.‬‬ ‫السـيناريو الثانـي‪ :‬وهـو الاكثـر ترجيحـاً وقتامـة فـي ضـوء المؤشـرات الحاليـة‪ ،‬وهـو أن‬ ‫ينزلــق العــراق فــي دوامــة مــن الانهيــار الاقتصــادي قــد تســتمر لســنوات قبــل أن يســتعيد هــذا‬ ‫الاقتصـاد عافيتـه وتوازنـه مـرة ثانيـة‪ ،‬وهـو أمـر ينطـوي علـى كثيـر مـن المخاطـر فـي بلـد هـو‬ ‫غيـر مسـتقر سياسـيا وأمنيـا واقتصاديـا حيـث ينتشـر السـاح المنفلـت فيـه منـذ العـام ‪2003‬م‪ ،‬وقـد‬ ‫سـاهمت الرواتـب المرتفعـة نسـبيا فـي اسـتقراره الـى حـد مـا‪ ،‬فكيـف إذا مـا تـم تخفيـض قيمـة تلـك‬ ‫الرواتـب الفعليـة؟‪.‬‬ ‫السـيناريو الثالـث‪ :‬قـد يسـاهم خفـض سـعر صـرف الدينـار العراقـي الحالـي فـي أن يعـود‬ ‫أصحـاب رؤوس الامـوال إلـى العـراق إلـى الاسـتثمار فيـه مسـتفيدين مـن انخفـاض قيمـة العملـة‪،‬‬ ‫ولكـن هـذا السـيناريو أيضـا يواجـه عقبـات عديـدة‪ ،‬فالأمـوال المطلوبـة للاسـتثمار ولعـودة البـاد‬ ‫للاسـتقرار هائلـة‪ ،‬تتجـاوز ‪ ٤٠٠‬مليـار دولار لإعـادة الإعمـار وفـق تقديـرات البنـك الدولـي‪ ،‬كمـا‬ ‫أن الوضـع الأمنـي غيـر المسـتقر‪ ،‬كمـا أسـلفنا‪ ،‬يدفـع أي مسـتثمر للتفكيـر بحـذر قبـل اتخـاذ قـرار‬ ‫العـودة للاسـتثمار فـي العـراق‪.‬‬

70

‫‪71‬‬ ‫(‪ )3‬المصالحة وانتهاء الازمة الخليجية …‪ .‬الاسباب المعلنة والخفية‬ ‫د‪ .‬الناصر دريد‬ ‫مستشار المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية‬ ‫انفجــرت الازمــة الخليجيــة فــي حزيــران ‪ 2017‬عندمــا قــررت مجموعــة الرباعــي‬ ‫(الســعودية‪ ،‬الامــارات‪ ،‬البحريــن‪ ،‬مصــر) قطــع العلاقــات الدبلوماســية مــع قطــر‪ ،‬وقــد تبعــت‬ ‫بعــض الــدول الاخــرى دول الرباعــي بدرجــة أو بأخــرى (مثــل ادارة عبــد ربــه منصــور فــي‬ ‫اليمـن‪ ،‬وجـزر المالديـف‪ ،‬جـزر القمـر‪ ،‬موريتانيـا‪ ،‬النيجـر‪ ،‬ليبيـا) كمـا خفضـت كل مـن الأردن‬ ‫وجيبوتــي مســتوى التمثيــل الدبلوماســي مــع قطــر‪ ،‬وتعــود جــذور الأزمــة إلــى أحــداث الربيــع‬ ‫العربـي التـي اندلعـت عـام ‪ ،2010‬إذ أفـرزت تلـك الأحـداث بـروز التيـار الإسـامي الـذي حـاول‬ ‫قيـادة الاحتجاجـات فـي الشـارع العربـي ضـد الانظمـة الدكتاتوريـة العربيـة وبرغـم اتفـاق دول‬ ‫الخليـج علـى دعـم الانتفاضـات العربيـة (باسـتثناء الاحتجـاج الكويتـي علـى إسـقاط مبـارك فـي‬ ‫مصـر والرفـض السـعودي للتغييـر فـي تونـس ومصـر) بدرجـات متفاوتـة‪ ،‬إلا أن الخـاف بـرز‬ ‫بعـد ذلـك اثـر اندفـاع قطـر (وبدعـم مـن إدارتـي الرئيسـين اردوغـان واوبامـا فـي تركيـا والولايـات‬ ‫المتحـدة) فـي تأييـد الخـط الاسـامي‪ ،‬لاسـيما الاخـوان المسـلمون والأحـزاب التابعـة لهـم علـى‬ ‫مسـتوى المنطقـة‪ ،‬وبالـذات بعـد وصولهـم للسـلطة فـي أكثـر مـن بلـد (مصـر وتونـس والمغـرب)‬ ‫الامـر الـذي اثـار الخـوف فـي العديـد مـن دول المنطقـة أن تكـون هـذه هـي البدايـة لتغييـرات قـد‬ ‫تمتـد لتشـمل جميـع انظمـة المنطقـة‪ ،‬وقـد كانـت خاتمـة الجهـود السـعودية‪ ،‬الاماراتيـة‪ ،‬لاحبـاط‬ ‫جهـود المحـور القطـري التركـي متمثـاً بدعـم التغييـر الـذي اطـاح بحكومـة الاخـوان المسـلمين‬ ‫فـي مصـر فـي ‪ 2013‬وبـدأ واضحـاً منـذ اللحظـة الاولـى الانقسـام بيـن موقـف الريـاض الـودي‬ ‫مـن هـذا التغييـر وموقـف الدوحـة الرافـض لـه‪ ،‬ومـا لبـث الخـاف ان اندلـع بشـكل معلـن فـي‬

‫‪72‬‬ ‫‪ 2014‬اثـر قيــام الريــاض وابــو ظبــي والمنامــة بســحب سـفراءهم مــن الدوحــة احتجاجــاً علــى‬ ‫موقـف الاخيـرة مـن نظـام السيسـي فـي مصـر‪ ،‬وتمـت معالجـة الازمـة بشـكل مؤقـت لتندلـع مـرة‬ ‫ثانيـة فـي ‪ 2017‬بشـكل نهائـي‪ ،‬اذ اكـدت الحكومـة القطريـة ان موقـع وكالـة الانبـاء القطريـة قـد‬ ‫تـم اختراقـه لوضـع تصريحـات مختلقـة علـى لسـان اميـر قطـر بؤكـد فيهـا دعمـه لايـران وحمـاس‬ ‫وحـزب الله واسـرائيل‪ ،‬وتـم تبـادل الهجمـات الاعلاميـة والاختراقـات المتبادلـة لمواقـع رسـمية او‬ ‫شـبه رسـمية للطرفيـن وتـم توجيـه العديـد مـن الاتهامـات المتبادلـة بيـن الطرفيـن والتـي توجـت‬ ‫بقطـع العلاقـات وسـحب السـفراء فـي ‪ 5‬حزيـران ‪ 2017‬وفـي ‪ 7‬حزيـران اقـر البرلمـان التركـي‬ ‫ارسـال ‪ 5‬الآف جنـدي تركـي الـى قطـر وفـي ‪ 9‬حزيـران صـرح الرئيـس الامريكـي ترامـب مؤيـداً‬ ‫اتهـام قطـر بدعـم الإرهـاب‪ ،‬وفـي ‪ 22‬حزيـران قدمـت دول الرباعـي شـروطها لاعـادة العلاقـات‬ ‫مـع قطـر عبـر الوسـاطة الكويتيـة وأعلنـت قطـر فـي ‪ 6‬تمـوز رفضهـا الاسـتجابة لهـذه الشـروط‬ ‫وبـدأت المقاطعـة ضـد قطـر‪ ،‬وقـد أدت هـذه المقاطعـة لآثـار وخيمـة علـى المسـتويات السياسـية‬ ‫والنفسـية والاقتصاديـة طـوال أكثـر مـن ‪ 25‬شـهر‪ ،‬فكيـف تـم حـل الازمـة فجـأة مؤخـراً ؟‬ ‫‪ ‬وقـد اختلفـت الآراء حـول سـبب التغييـر المفاجـئ فـي الموقـف السـعودي والـذي أدى الـى‬ ‫تغييـر كامـل موقـف الرباعيـة وانهيـار الحصـار المفـروض سياسـياً واعلاميـاً واقتصاديـاً علـى‬ ‫قطـر‪ ،‬لا سـيما وأنـه جـاء بعـد زيـارة المبعـوث الأمريكـي الخـاص ومستشـار الرئيـس الأمريكـي‬ ‫الســابق دونالــد ترامــب وصهــره جاريــد كوشــنر فــي أواخــر عــام ‪ ،2020‬مــا زاد فــي غرابــة‬ ‫التوقيــت أنــه جــاء عقــب إعــان نتائــج الانتخابــات الامريكيــة وتأكــد خســارة الرئيــس ترامــب‬ ‫امـام الرئيـس الامريكـي الحالـي جوزيـف بايـدن‪ ،‬الأمـر الـذي طـرح العديـد مـن التسـاؤلات عـن‬ ‫سـر المبـادرة التـي قـام بهـا الرئيـس ترامـب عبـر صهـره ومستشـاره فـي الايـام الاخيـرة قبيـل‬ ‫خروجـه مـن البيـت الابيـض‪ ،‬واذا كان ترامـب مهتمـاً بالمصالحـة بيـن الفريقيـن فلمـاذا لـم يبـادر‬

‫‪73‬‬ ‫بهـا قبـل خسـارته الانتخابـات ؟ والسـؤال الأهـم هـو لمـاذا اسـتجابت السـعودية لمبـادرة رئيـس‬ ‫خسـر الانتخابـات ولـم يعـد لـه التأثيـر الكبيـر الـذي كان لـه قبـل الانتخابـات ؟ بـل وكيـف اسـتطاع‬ ‫كوشـنر اقنـاع السـعودية بتغييـر موقفهـا ‪ 180‬درجـة حيـال قطـر بهـذا الشـكل رغـم علـم الجميـع‬ ‫بقـرب مغادرتـه موقعـه؟‬ ‫تذهــب الفاينانشــال تايمــز فــي مقــال لهــا‪ ،‬الــى الاشــارة الــى قلــق الســعودية مــن الإدارة‬ ‫الامريكيـة الجديـدة هـو مـا دفعهـا الـى قبـول وسـاطة كوشـنر‪ ،‬بعدمـا هاجـم الرئيـس الأمريكـي‬ ‫إبـان حملتـه الانتخابيـة السياسـات السـعودية فـي أكثـر مـن موضـع وزاويـة وقـد رسـم مستشـار‬ ‫المركـز العراقـي للدراسـات الاسـتراتيجية الدكتـور الناصـر دريـد فـي لقـاء إعلامـي معـه بتاريـخ‬ ‫‪ 11‬ديسـمبر سـيناريو متوقـع حـول أسـباب هـذه المصالحـة‪ ،‬بالقـول انهـا قـد تكـون مقدمـة لعمليـات‬ ‫التفــاوض المتوقعــة بيــن الولايــات المتحــدة وإيــران مــع قــدوم ادارة بايــدن للســلطة‪ ،‬فبعــد ان‬ ‫اشـتكت الـدول الحليفـة لواشـنطن مـن اسـتبعادها مـن عمليـات التفـاوض التـي جـرت بيـن الـدول‬ ‫الخمـس الكبـرى وإيـران إبـان إدارة اوبامـا فـي الاتفـاق النـووي فقـد قـررت ادارة بايـدن مسـاراً‬ ‫متخلفـاً لهـذا التفـاوض هـذه المـرة بإشـراك دول المنطقـة فـي هـذا التفـاوض بشـرط التصالـح فيمـا‬ ‫بينهـا وانهـاء الملفـات العالقـة بينهـا لتتمكـن مـن الحضـور كصـوت واحـد فـي التفـاوض المتوقـع‬ ‫والمزمـع عقـده‪ ،‬وهـذا مـا يفسـر اتفاقـات السـام بيـن الإمـارات والبحريـن مـن جهـة وإسـرائيل‬ ‫مـن جهـة ثانيـة‪ ،‬كمـا يبـرر المصالحـة الخليجيـة الاخيـرة …‪ ،‬وبغـض النظـر عـن اسـباب هـذه‬ ‫المصالحـة‪ ،‬الا ان معطياتهـا مـا زالـت قيـد التفاعـل حتـى سـاعة كتابـة هـذا التقييـم‪.‬‬

‫‪74‬‬ ‫البحوث والدراسات‬

‫‪75‬‬ ‫تأثير الحروب على التلوث البيئي والحياة الانسانية في العراق ‪2003-1991‬م‬ ‫د‪ .‬غازي فيصل حسين‬ ‫مدير المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية‬ ‫ملخص الورقة البحثية‬ ‫أثبتــت البحــوث والدراســات‪ ،‬أن ملوثــات الهــواء الإشــعاعية بســبب الحــرب الأمريكيــة‬ ‫علـى العـراق منـذ عـام ‪1991‬م حتـى بعـد احتـال العـراق عـام ‪2003‬م‪ ،‬قـد عرضـت الإنسـان‬ ‫والبيئـة لأضـرار خطيـرة خصوصـاً التربـة والمـاء والهـواء‪ ،‬ممـا انعكـس بأمـراض وتشـوهات‬ ‫واضطرابــات علــى الإنســان والحيــوان والنبــات‪.‬‬ ‫لـذا تحـاول هـذه الورقـة عـرض ومناقشـة مـا ولدتـه الحـرب التكنولوجيـة والاليكترونيـة‬ ‫الحديثــة‪ ،‬بمــا تحويــه مــن أســلحة بيولوجيــة وجرثوميــة بجانــب اليورانيــوم المخضــب‪ ،‬وهــو‬ ‫المعـدن الكثيـف للغايـة‪ ،‬والمصنـوع مـن النفايـات المشـعة‪ ،‬الـذي يدخـل ضمـن اسـتخدام المدرعـات‬ ‫العســكرية الدفاعيــة والصواريــخ والذخائــر التقليديــة‪ ،‬ولــه قــدرة علــى اختــراق دروع الدبابــات‬ ‫بسـهولة‪ ،‬يـؤدي إلـى تلـف الكلـى وسـرطان الرئـة‪ ،‬بالإضافـة إلـى التشـوهات الخلقيـة للأطفـال‬ ‫حديثـي الـولادة‪ ،‬وكذلـك النسـاء الحوامـل‪.‬‬ ‫كمـا ترصـد هـذه الورقـة مـدى تعـرض البنيـة التحتيـة والصحـة العامـة للتدهـور بسـبب‬ ‫الحـرب‪ ،‬لتعـرض شـبكات الكهربـاء والمـاء والصـرف الصحـي للتدميـر المنظـم‪ ،‬ممـا يعـرض‬ ‫التربـة الزراعيـة إلـى التدميـر فيقـل إنتاجهـا بسـبب تسـرب المـواد المشـعة التـي تحتويهـا القنابـل‬ ‫إلـى التربـة‪ ،‬ثـم تصـل إلـى الإنسـان عبـر السـلة الغذائيـة‪ .‬وقـد ظهـرت بالفعـل نتيجـة ذلـك حـالات‬ ‫مرضيــة غامضــة فــي العــراق‪ ،‬أعقبــت الحــرب الأخيــرة‪ ،‬ومــن أبرزهــا التشــوهات الخلقيــة‬

‫‪76‬‬ ‫والاعتـال العصبـي وسـرطان الـدم والثـدي والغـدد اللمفاويـة‪ ،‬كمـا أن وجـود الألغـام الأرضيـة قـد‬ ‫يجعـل مسـاحات واسـعة مـن الأراضـي المنتجـة غيـر صالحـة للزراعـة‪.‬‬ ‫وتخلـص الورقـة البحثيـة‪ ،‬إلـى أن التقييـم العلمـي لأثـر الحـرب فـي البيئـة لا يمكـن أن يكـون‬ ‫محصـوراً فـي بلـد معيـن حصلـت فيـه الحـرب‪ ،‬إنمـا دائـرة مخاطـر الحـرب تتسـع لتشـمل دول‬ ‫الجـوار والعالـم‪ ،‬حيـث يبقـى الأثـر البيئـي للحـرب‪ ،‬حتـى بعـد انتهـاء العمليـات العسـكرية وينتشـر‬ ‫وتتسـع رقعتـه لبلـدان الجـوار الإقليمـي كمـا حصـل أن انتقلـت آثـار مـن ملوثـات الهـواء الإشـعاعية‬ ‫مـن العـراق حتـى اليابـان عـن طريـق الامطـار الحامضيـة‪.‬‬ ‫مقدمة‬ ‫بصـورة عامـة‪ ،‬تؤثـر الحـروب فـي البيئـة‪ :‬التربـة والمـاء والنبـات والهـواء‪ ،‬ومـن هـذه‬ ‫التأثيـرات‪،‬‏ تدميـر التربـة‪ ،‬وإضعـاف خصوبتهـا‪ ،‬م ّمـا يـؤ ّدي إلـى ضعـف الإنتاجيـة‪ ،‬وهـذا يُسـبّب‬ ‫شـحة فـي المـواد الغذائيـة وانتشـار المجاعـات والفقـر والأمـراض‪ .‬إن اسـتخدام الأسـلحة التقليديـة‬ ‫وفـوق التقليديـة فـي الحـروب‪ ،‬يـؤدي إلـى تلـوث البيئـة بالمـواد الكيميائيـة‏السـامة‪ ،‬التـي تنتقـل‬ ‫إلـى جسـم الإنسـان مباشـرةً مـن خـال تناولـه الغـذاء الملـوث‪.‬‏ كمـا تؤثـر الحـروب بشـكل أساسـي‬ ‫علـى المـوارد المائيـة وذلـك مـن خـال الأسـاطيل البحريـة والغواصـات التـي تطلـق الصواريـخ‬ ‫مـن تحـت المـاء‪ ،‬التـي تُسـبّب تلـوث الميـاه بالمـواد الكيميائيـة والإشـعاعات التـي تضـر بشـكل‬ ‫أساسـي بالبيئـة‏وبصحـة الإنسـان‪.‬‏وللحـروب تأثيـر خطيـر علـى الغـاف الجـوي‪ ،‬حيـث تـؤدي‬ ‫المـواد الكيميائيـة الناتجـة عـن الانفجـارات إلـى انبعـاث الغـازات المولـدة للاحتبـاس الحـراري‪،‬‬ ‫ممـا يـؤدي إلـى ارتفـاع درجـة حـرارة الأرض واتسـاع فتحـة الأوزون‪ .‬ولا تقتصـر الحـروب علـى‬ ‫الأضـرار البيئيـة بـل تتع ّداهـا إلـى انتشـار الأمـراض‪ ،‬واسـتنزاف المـوارد البشـرية والاقتصاديـة‪،‬‬ ‫وتدميـر البنيـة التحتيـة للـدول‪ ،‬وتشـريد النـاس‪ .‬لذلـك‪ ،‬يجـب بـذل الجهـود الدوليـة لمنـع انـدلاع‬

‫‪77‬‬ ‫الحـرب والعمـل لبنـاء السـام والأمـن (‪.)1‬‬ ‫لقـد أثبتـت البحـوث والدراسـات‪ ،‬أن ملوثـات الهـواء الإشـعاعية بسـبب الحـرب الامريكيـة‬ ‫علـى العـراق منـذ عـام ‪1991‬م حتـى بعـد احتـال العـراق عـام ‪2003‬م‪ ،‬قـد عرضـت الإنسـان‬ ‫والبيئـة لأضـرار خطيـرة خصوصـاً التربـة والمـاء والهـواء‪ ،‬ممـا انعكـس بأمـراض وتشـوهات‬ ‫واضطرابـات علـى الإنسـان والحيـوان والنبـات‪ .‬لـذا‪ ،‬تحـاول هذه الورقـة البحثية‪ ،‬عرض ومناقشـة‬ ‫مـا ولدتـه الحـروب التكنولوجيـة والاليكترونيـة الحديثـة‪ ،‬مـن آثـار خطيـرة ومدمـرة علـى البيئـة‬ ‫فـي العـراق والخليـج العربـي والشـرق الأوسـط‪ ،‬بمـا تحويـه مـن أسـلحة بيولوجيـة وجرثوميـة‬ ‫بجانـب اليورانيـوم المن ّضـب‪ ،‬وهـو المعـدن الكثيـف للغايـة‪ ،‬والمصنـوع مـن النفايـات المشـعة‪،‬‬ ‫الـذي يدخـل ضمـن اسـتخدام المدرعـات العسـكرية الدفاعيـة والصواريـخ والذخائـر التقليديـة‪ ،‬ولـه‬ ‫قـدرة علـى اختـراق دروع الدبابـات بسـهولة‪ ،‬يـؤدي إلـى تلـف الكلـى وسـرطان الرئـة‪ ،‬بالإضافـة‬ ‫إلـى التشـوهات الخلقيـة للأطفـال حديثـي الـولادة‪ ،‬وكذلـك النسـاء الحوامـل‪.‬‬ ‫كمـا ترصـد هـذه الورقـة مـدى تعـرض البنيـة التحتيـة والصحـة العامـة للتدهـور بسـبب‬ ‫الحـرب‪ ،‬لتعـرض شـبكات الكهربـاء والمـاء والصـرف الصحـي للتدميـر المنظـم‪ ،‬ممـا يعـرض‬ ‫التربـة الزراعيـة إلـى التدميـر فيقـل إنتاجهـا بسـبب تسـرب المـواد المشـعة التـي تحتويهـا القنابـل‬ ‫إلـى التربـة‪ ،‬ثـم تصـل إلـى الإنسـان عبـر السـلة الغذائيـة‪ .‬وقـد ظهـرت بالفعـل نتيجـة ذلـك حـالات‬ ‫مرضيــة غامضــة فــي العــراق‪ ،‬أعقبــت الحــرب الأخيــرة‪ ،‬ومــن أبرزهــا التشــوهات الخلقيــة‬ ‫والاعتـال العصبـي وسـرطان الـدم والثـدي والغـدد اللمفاويـة‪ ،‬كمـا أن وجـود الألغـام الأرضيـة قـد‬ ‫يجعـل مسـاحات واسـعة مـن الأراضـي المنتجـة غيـر صالحـة للزراعـة‪.‬‬ ‫إن الواقـع البيئـي يتمحـور حـول ثلاثـة عناصـر بيئيـة هـي‪ :‬المـاء والهـواء والتربـة‪ ،‬وأي‬ ‫خلـل فـي أحـد أطـراف هـذا المثلـث ينتـج عنـه خلـل فـي دورة الحيـاة بحكـم الترابـط بينهمـا‪ .‬وفـي‬

‫‪78‬‬ ‫أحـدث تقريـر وثائقـي لحقـوق الإنسـان فـي العـراق‪ :‬أن حوالـي ‪ %90‬مـن إجمالـي سـكان العـراق‬ ‫لا يحصلــون علــى احتياجاتهــم مــن المــاء الصالــح للشــرب كمــا يــؤدي الهــواء الملــوث بســبب‬ ‫اسـتمرار العمليـات العسـكرية فـي المـدن والقـرى إلـى انخفـاض كفـاءة الجهـاز المناعـي لجسـم‬ ‫الإنسـان وانتشـار مـرض السـرطان بمعـدلات غيـر مسـبوقة فـي الوقـت الحاضـر‪ .‬كمـا قـد خسـر‬ ‫العـراق ‪ %70‬مـن محاصيلـه الحقليـة بسـبب الجفـاف والتصحـر وأسـهم ذلـك فـي توسـيع معانـاة‬ ‫الأنهـار مـن انخفـاض فـي معـدلات الميـاه‪ ،‬إذ انخفـض المـاء فيهـا بمعـدل ‪ ،%45‬وتعرضـت بعـض‬ ‫الأنهـار إلـى مـا يقـرب مـن الجفـاف مثـل نهـري الخالـص وديالـى اللذيـن تعتمـد عليهمـا الكثيـر‬ ‫مـن المناطـق الزراعيـة‪ .‬هـذا‪ ،‬وتقـول الإحصـاءات إن منسـوب الميـاه فـي نهـر دجلـة حاليًّـا يعـد‬ ‫الأدنـى منـذ أكثـر مـن ‪ 75‬عامـاً كاملـة‪.‬‬ ‫لقـد أفـادت دراسـة علميـة أعدتهـا وزارة العلـوم والتكنولوجيـا فـي العـراق‪ ،‬بـأن ‪ 84‬ألـف‬ ‫طـن مـن القنابـل ألقيـت علـى مسـاحة ‪ 4000‬ميـل مربـع مـن جنوبـي العـراق‪ ،‬وأضافـت أن ‪7‬‬ ‫مليـارات غالـون مـن الوقـود العسـكري اسـتخدمت فـي حـرب عـام ‪1991‬م إضافـة إلـى اسـتهلاك‬ ‫‪ 900‬مليـون غالـون للطائـرات وحدهـا فـي تلـك الحـرب ناهيـك عـن حـرب عـام ‪2003‬م‪ .‬ويوجـد‬ ‫‪ 25‬مليــون لغــم أرضــي مزروعــة فــي العــراق‪ ،‬وإن الاســلحة الكيمياويــة وذخائــر اليورانيــوم‬ ‫المن ّضـب أدت الـى وجـود ‪ 15‬موقعـا ملوثـا‪.‬‬ ‫لـذا‪ ،‬فمـن الضـروري البحـث فـي العناصـر المكونـة للسياسـة الخارجيـة الأمريكيـة‪ ،‬عبـر‬ ‫الاعتمــاد علــى منهــج التحليــل السوســيولوجي‪ ،‬الــذي يمكننــا مــن إدراك الترابــط بيــن مكونــات‬ ‫الوعـي الأمريكـي فـي عصرنـا الراهـن‪ ،‬والآفـاق ال ُمسـتقبلية للسياسـة الخارجيـة الأمريكيـة‪ ،‬التـي‬ ‫ترتكـز علـى اسـتراتيجية الانتشـار السـريع والواسـع للسـيطرة علـى الحيـاة الدوليـة‪ ،‬سـواء عبـر‬ ‫نظريـة ماهـان‪ ،‬فـي السـيطرة علـى البحـار والمحيطـات والمضايـق‪ ،‬للتحكـم فـي القـارات‪ ،‬أو مـن‬

‫‪79‬‬ ‫خــال اســتغلال نتائــج الثــورة التكنولوجيــة الثالثــة‪ ،‬لعســكرة الفضــاء‪ ،‬والهيمنــة علــى منظومــة‬ ‫الاتصــالات الدوليــة‪ ،‬وفــق نظريــة جــاك أتالــي‪ ،‬التــي تــرى‪ :‬إن مــن يتحكــم بقنــوات الاتصــال‬ ‫والمـال والتكنولوجيـة فـي العالـم‪ ،‬سـيكون قـادراً علـى التحكـم بمسـتقبل العالـم ‪.‬‬ ‫‪ .1‬خصائص السياسية الخارجية الأمريكية‬ ‫تأسيسـاً علـى العـرض الـوارد فـي أعـاه‪ ،‬يـرى زبيغنـو بريجينيسـكي‪ ،‬فـي تحليلـه للسياسـة‬ ‫الخارجيـة الأمريكيـة‪ :‬إن أمريـكا تعيـش فـي فـراغ مـن القيـم والمعاييـر الأخلاقيـة‪ ،‬لـذا‪ ،‬لا يمكنهـا‬ ‫أن تكـون نموذجـاً عالميـاً‪ ،‬لأن المجتمـع الأمريكـي يضـم أقليـة تتسـم بالجشـع المـادي‪ ،‬وأغلبيـة‬ ‫معدمـة اقتصاديـاً ومحرومـة مـن ال ُمشـاركة الاجتماعيـة‪ ،‬يتجـاوز عددهـا ‪ 35‬مليونـا أمريكيـا‪ ،‬ومـن‬ ‫خـال ذات المنطـق تتجاهـل واشـنطن‪ ،‬ال ُمشـكلات الاقتصاديـة والسياسـية والصحيـة والبيئيـة‪ ،‬التي‬ ‫يتعـرض لهـا عالـم الجنـوب‪ ،‬لقـد أكـد بريجينيسـكي‪ :‬أن الموقـف الأمريكـي مـن ال ُمشـكلات الدوليـة‪:‬‬ ‫«يثيـر قضيـة أخلاقيـة تدعـو للقلـق البالـغ» (‪.)2‬‬ ‫ويـرى الجنـرال برنـت سـكوكروفت‪ ،‬مستشـار الأمـن القومـي الأمريكـي عـام ‪1990‬م أن‪:‬‬ ‫الشـعب الأمريكـي يؤمـن بهـدف العمـل للوصـول إلـى نمـوذج المدينـة ال ُمشـرقة الموجـودة فـوق‬ ‫التــل‪ ،‬ليــس مــن خــال قفــزة واحــدة بــل مــن خــال الخطــوة خطــوة‪ ،‬وأن تكــون هــذه ألمدينــة‬ ‫نموذجـاً لشـعوب ألعالـم‪ ،‬هكـذا يسـود الاعتقـاد فـي الولايـات ألمتحـدة الأمريكيـة‪ ،‬بأنهـا تُمثـل الهدف‬ ‫الإنســاني الأســمى علــى كوكــب الأرض‪ ،‬ومــا علــى الــدول والمجتمعــات إلا القبــول بالنمــوذج‬ ‫الأمريكــي‪ ،‬الــذي تــروج لــه ُمختلــف وســائل الدعايــة والثقافــة‪ ،‬والتبشــير بالأفــكار والمعتقــدات‬ ‫الدينيـة‪ ،‬إلـى جانـب تكريـس العلاقـات التجاريـة والاقتصاديـة‪ ،‬وتقديـم المسـاعدات للـدول وفـق‬ ‫شـروط ترتبـط بالمقاصـد والأهـداف الأمريكيـة‪ ،‬أي‪ :‬أمركـة ألعالـم (‪.)3‬‬

‫‪80‬‬ ‫لقـد غيـرت الأحـداث العالميـة بعمـق التصـورات الأمريكية على صعيـد السياسـية الخارجية‪،‬‬ ‫وأدركـت الإدارة الأمريكيـة أهميـة السـيطرة علـى التـوازن فـي العلاقـات الدوليـة‪ ،‬لضمـان أمـن‬ ‫النظـام الرأسـمالي الدولـي‪ .‬كمـا دفعـت مرحلـة العزلـة والتمركـز علـى الـذات‪ ،‬إلـى بلـورة وهـم‬ ‫أمريكـي يقـوم علـى الاعتقـاد‪ :‬بـأن التطبيقـات فـي السياسـة الخارجيـة‪ ،‬مجـرد خيـارات تنطلـق مـن‬ ‫حاجـات داخليـة‪ .‬وبنـاء عليـه‪ ،‬اسـتندت عقيـدة مونـرو إلـى قاعـدة تُعطـي للولايـات المتحـدة الحـق‬ ‫باحتـكار الدفـاع عـن الديمقراطيـة والحريـة ونشـرهما فـي العالـم‪ .‬لقـد اعتمـدت هـذه السياسـة‪،‬‬ ‫منـذ عهـد الرئيـس جـون كنيـدي حتـى بيـل كلينتـون‪ ،‬علـى اعتقـاد الرؤسـاء بأنهـم يمثلـون أكبـر‬ ‫ديمقراطيـة فـي العالـم‪ ،‬ورمـزا للإنسـانية مـن أجـل التقـدم (‪.)4‬‬ ‫لكـن حقائـق الواقـع تشـير‪ :‬إن الصراعـات بيـن الـدول الكبـرى‪ ،‬للهيمنـة علـى العالـم خـال‬ ‫القـرن العشـرين‪ ،‬أدت إلـى مقتـل ‪ 175‬مليـون إنسـان فـي حـروب دمويـة‪ ،‬ذات دوافـع إيديولوجيـة‬ ‫واقتصاديـة‪ ،‬كمـا اسـتطاعت الولايـات المتحـدة‪ ،‬بفعـل سـيطرتها علـى ‪ %50‬مـن الإنتـاج العالمـي‪،‬‬ ‫أن تلعـب أدواراً هامـة علـى الصعيـد الدولـي‪ ،‬بعـد الحـرب العالميـة الثانيـة‪ ،‬خصوصـاً فـي مجـال‬ ‫قيادتهـا لـدول المنظومـة الرأسـمالية الغربيـة‪ .‬لقـد اعتمـد حلفـاء واشـنطن علـى قدراتهـا العسـكرية‬ ‫والاقتصاديـة‪ ،‬وعكسـت خطـة مارشـال رغبـة الولايـات المتحـدة‪ ،‬فـي أمركـة ألمجتمـع والاقتصـاد‬ ‫الأوربـي‪ ،‬لضمـان الاسـتقرار السياسـي‪.‬‬ ‫كمـا نجحـت الولايـات المتحـدة‪ ،‬انطلاقـا مـن عقيـدة ترومـان‪ ،‬ببنـاء منظمـة حلـف شـمال‬ ‫الأطلســي‪ ،‬لتحقيــق التــوازن بيــن الشــرق والغــرب‪ ،‬لكــن الخلــل فــي العلاقــات بيــن الشــمال‬ ‫والجنــوب‪ ،‬بقــي الطابــع الــذي ميَّــز الحيــاة الدوليــة‪ ،‬ووســع مــن ظاهــرة الهيمنــة الأمريكيــة‪،‬‬ ‫الاقتصاديـة والسياسـية والعسـكرية‪ ،‬والاسـتحواذ علـى مناطـق النفـوذ والثـروات والأسـواق‪ ،‬ممـا‬ ‫شـكل خلـاً بنيويـاً خطيـراً فـي طبيعـة العلاقـات الدوليـة‪ ،‬عـرض الأمـن والاسـتقرار فـي العالـم‬

‫‪81‬‬ ‫لتهديـدات خطيـرة‪ ،‬خصوصـاً بعـد انهيـار ألشـيوعية‪ ،‬ودخـول العالـم إلـى مرحلـة مـن الفوضـى‬ ‫والإحبـاط وانتشـار العنـف‪ ،‬بـدلا مـن توفيـر الضمانـات الدوليـة مـن أجـل الاسـتقرار الـذي يوفـر‬ ‫توسـيع فـرص التعـاون والتنميـة والعـدل الاجتماعـي ‪.‬‬ ‫الولايـات المتحـدة الأمريكيـة مـن جانبهـا‪ ،‬عـدت أن جميـع مـا موجـود مـن مصـادر معدنيـة‬ ‫وثـروات طبيعيـة فـي العالـم‪ ،‬هـي مصـادر أمريكيـة‪ ،‬وإن «الحـادث الجيولوجـي العـارض»‪ ،‬هـو‬ ‫الـذي وضـع هـذه الثـروات خـارج السـيطرة الأمريكيـة‪ ،‬لـذا وضعـت الإدارة الأمريكية اسـتراتيجية‬ ‫لحمايـة هـذه المصـادر‪ ،‬بوصفهـا ُملكيـة أمريكيـة‪ ،‬وتشـجيع الاسـتثمارات الخاصة‪ ،‬وإتاحـة الفرصة‬ ‫أمـام الاسـتثمارات الرأسـمالية الغربيـة لتحقيـق الأربـاح‪ ،‬عبـر تركـز الإدارة والقـدرات الاقتصاديـة‬ ‫فـي الأطـراف‪ ،‬بمـا يضمـن تكاملهـا مـع قوى الإنتـاج ورأس المـال في الـدول الصناعيـة (‪ .)5‬وهذا‬ ‫مـا دفـع إلـى ظهـور مدرسـتين فـي مجال الأمـن القومـي الأمريكـي (‪:)6‬‬ ‫المدرســة الواقعيــة‪ ،‬التــي تتبنــى فكــرة مفادهــا‪ :‬أن العالــم يقــوم أساســا علــى المصالــح‬ ‫المتضاربــة ويســوده التناحــر‪ ،‬بغيــة تحقيــق المصالــح الأنانيــة للــدول فــي المجتمــع الدولــي‪ ،‬أو‬ ‫مصالـح الأفـراد ضمـن الدولـة‪ ،‬أي ان القـوة هـي التـي تصنـع الحـق‪ ،‬لـذا يفتـرض تحقيـق مصالـح‬ ‫الدولـة عبـر الاسـتخدام العقلانـي والكـفء للقـوة‪ ،‬كعنصـر حاسـم فـي السياسـة الخارجيـة‪ .‬وبنـاء‬ ‫عليـه‪ ،‬يفتـرض العمـل علـى تركيـز الجهـود‪ ،‬لتوسـيع القـدرات العسـكرية الأمريكيـة‪ ،‬لكـي يتحقـق‬ ‫التـوازن فـي علاقـات القـوة العسـكرية‪.‬‬ ‫المدرسـة الأخلاقيـة أو المثاليـة‪ ،‬التـي تـرى‪ :‬أن السياسـة الخارجيـة القائمـة علـى المبـادئ‬ ‫الأخلاقيـة‪ ،‬تكـون أكثـر فعاليـة‪ ،‬لأنهـا تنمـي الوحـدة والتعـاون الدولـي‪ ،‬بدلا مـن التنافـس والصراع‪.‬‬ ‫القـوة الأخلاقيـة‪ ،‬إذاً‪ ،‬هـي أكثـر فعاليـة مـن القـوة الماديـة‪ ،‬لأنهـا أكثـر ثباتـاً‪ ،‬وتسـتحوذ علـى عقـول‬ ‫الأفـراد وتكسـب ولاءهـم للمبـادئ التـي تحكـم العلاقـات بيـن الأمـم‪ ،‬وهـذا مـا يـؤدي إلـى بلـورة‬

‫‪82‬‬ ‫مفهـوم « المجتمـع الدولـي»‪ ،‬الـذي يسـتند إلـى مبـدأ التعـاون الدولـي والقانـون الدولـي والمنظمـة‬ ‫الدوليـة‪ ،‬كمعيـار لتقييـم سـلوك الـدول‪ ،‬ودورهـا فـي الحيـاة الدوليـة‪ .‬بنـاء عليـه‪ ،‬يفتـرض العمـل‬ ‫علـى تركيـز الجهـود‪ ،‬لزيـادة التعـاون بيـن الـدول والأمـم‪ ،‬لبنـاء نظـام عالمـي‪ ،‬عبـر تقليـل دور‬ ‫القـوة فـي العلاقـات الدوليـة إلـى الحـد الأدنـى‪.‬‬ ‫إن التحليـل الموجـز لنمـط التفكيـر الأمريكـي‪ ،‬المبنـي علـى نظريـة العنـف والعنـف المضاد‪،‬‬ ‫كجـزء مـن التـراث الفكـري فـي الوعـي وفـي بنيـة منظومـة القيـم الأمريكيـة‪ ،‬يبيـن أثـر العزلـة‬ ‫وخصائـص التاريـخ والجغرافيـة والمكونـات الجيوسياسـية‪ ،‬التـي بلـورت ظاهـرة «التمركـز علـى‬ ‫الــذات»‪ ،‬ممــا انعكــس بــدوره علــى طبيعــة السياســتين الداخليــة والخارجيــة للولايــات المتحــدة‬ ‫الأمريكيـة‪ ،‬فالإحسـاس بالتفـوق دفـع باسـتمرار إلـى السـيطرة علـى المناطـق الاسـتراتيجية فـي‬ ‫العالـم لضمـان الأمـن فـي الداخـل‪ ،‬هكـذا يولـد العنـف الأمريكـي عنفـاً مضـاداً لـه‪ ،‬علـى صعيـد‬ ‫العلاقـات الدوليـة‪ ،‬مكرسـاً ظاهـرة عـدم الاسـتقرار التـي تهـدد الأمـن والسـلم العالمـي ‪.‬‬ ‫يطـرح هنـري كيسـنجر‪ ،‬تصـوراً آخـر للسياسـة الخارجيـة الأمريكيـة‪ ،‬يسـتند إلـى الاعتقـاد‬ ‫بـأن‪ :‬التحـدي الـذي يواجـه الغـرب‪ ،‬ليـس بفعـل قصـور فـي قدراتـه الذاتيـة‪ ،‬بـل بسـبب العجـز‬ ‫الكامـن فـي تصوراتـه السياسـية عـن العالـم‪ .‬لـذا يؤكـد هنـري كيسـنجر‪ :‬أن أمريـكا لا تسـتطيع‬ ‫بنـاء السـام الدولـي‪ ،‬إلا مـن خـال مسـاعدة الـدول الناميـة علـى تحقيـق التطـور والتحديـث فـي‬ ‫العالــم الثالــث‪ ،‬خصوصــاً فــي البلــدان الآســيوية والإفريقيــة‪ .‬بمعنــى آخــر‪ :‬إن هــدف الولايــات‬ ‫المتحـدة فـي بنـاء نظـام دولـي مسـتقر‪ ،‬يعكـس المصالـح الاسـتراتيجية لواشـنطن‪ ،‬ويضمـن الأمـن‬ ‫والســام للعالــم الرأســمالي‪ ،‬مــن خــال تقديــم المســاعدات الاقتصاديــة للــدول الناميــة‪ ،‬وتعزيــز‬ ‫نظـام المبـادلات التجاريـة الدوليـة‪ ،‬وهـذا مـا يُشـكل‪ ،‬وفـق تصـور الإدارة الأمريكيـة‪ ،‬مفتاحـاً لرفـاه‬ ‫الشـعوب والمجتمعـات فـي العالـم (‪.)7‬‬

‫‪83‬‬ ‫تنطلـق وجهـة النظـر الأمريكيـة‪ ،‬مـن الادعـاء باتبـاع سياسـة واقعيـة فـي الشـئون الدوليـة‪،‬‬ ‫تنــادي بالإصلاحــات الاجتماعيــة والسياســية والاقتصاديــة‪ ،‬والإيمــان بجدليــة الصــراع بيــن‬ ‫ثنائيــة الخيــر والشــر‪ ،‬علــى صعيــد العلاقــات بيــن الــدول‪ ،‬أو فــي داخــل المجتمعــات‪ .‬وتطــرح‬ ‫واشــنطن العديــد مــن الأفــكار‪ ،‬علــى صعيــد القيــم وال ُمثــل‪ :‬كحقــوق الإنســان‪ ،‬والديمقراطيــة‪،‬‬ ‫والعدالـة‪ ،‬والحريـات الدينيـة‪ ،‬لكنهـا فـي الواقـع‪ ،‬تطبـق سياسـات تتناقـض مـع هـذه المبـادئ‪ ،‬وتتبـع‬ ‫اســتراتيجيات للمحافظــة علــى المصالــح الذاتيــة‪ ،‬فــي علاقاتهــا مــع الــدول الناميــة فــي مختلــف‬ ‫القـارات‪ ،‬كمـا ترتكـب عبـر الحـروب التـي تشـنها علـى الـدول والأمـم‪ ،‬جرائـم ضـد الإنسـانية‪،‬‬ ‫ممــا يُفقــد السياســة الخارجيــة الأمريكيــة‪ ،‬الصدقيــة والموثوقيــة (‪.)8‬‬ ‫لـذا توصـف السياسـة الخارجيـة الأمريكيـة‪ ،‬بأنها سياسـة عدمية‪ ،‬لأنها لا تتعامـل بموضوعية‬ ‫مـع حقائـق الحيـاة الدوليـة ومشـكلاتها‪ ،‬ولا تهتـم بالفـروق الثقافيـة بيـن المجتمعـات‪ ،‬بـل تنطلـق‬ ‫مـن مجموعـة مـن التصـورات والافتراضـات‪ ،‬التـي تـرى فـي النمـوذج الأمريكـي نموذجـاً للخيـر‬ ‫المطلـق‪ ،‬تـدور فـي فلكـه مجموعـة الـدول الصناعيـة الكبـرى‪ ،‬والرأسـماليات الطرفيـة فـي الـدول‬ ‫الغنيــة بالمــوارد الطبيعيــة‪ ،‬التابعــة للمركــز الرأســمالي‪ ،‬إضافــة إلــى الــدول النفطيــة‪ ،‬أمــا بقيــة‬ ‫الـدول فهـي نمـوذج للشـر المطلـق‪ ،‬الـذي يجـب تدميـره‪.‬‬ ‫إن تقسـيم العالـم‪ ،‬وفـق إطـار الصـراع بيـن ثنائيـة الخيـر والشـر‪ ،‬دفـع الولايـات المتحـدة‬ ‫الأمريكيـة‪ ،‬إلـى اسـتخدام القـوة فـي العلاقـات الدوليـة‪ ،‬تحـت ذريعـة‪ :‬حـق الدفـاع الذاتـي المشـروع‬ ‫عـن النفـس‪ ،‬وفـق المـادة ‪ 51‬مـن ميثـاق الأمـم المتحـدة‪ ،‬كمـا فعلـت فـي غزوهـا فيتنـام وبنمـا‪،‬‬ ‫أو هجومهـا المسـلح الجـوي علـى الجمهوريـة العربيـة الليبيـة‪ ،‬أو دعمهـا للمليشـيات والعصابـات‬ ‫ال ُمسـلحة فـي أمريـكا اللاتينيـة وجنـوب إفريقيـا وهايتـي وأخيـراً عدوانهـا الوحشـي علـى جمهوريـة‬ ‫يوغسـافيا وتفكيكهـا وتحويلهـا لمجموعـة مـن الجمهوريـات العرقيـة والدينيـة‪ ،‬واحتـال أفغانسـتان‬ ‫والعـراق فـي عـام ‪2003‬م‪.‬‬

‫‪84‬‬ ‫يبـدو للمتتبـع للبحـث فـي الشـؤون الأمريكيـة‪ ،‬وجـود تباينـات عديـدة فـي السياسـة الخارجيـة‬ ‫الأمريكيـة‪ ،‬سـواء علـى صعيـد الأفـكار أو فـي مجـال التطبيـق‪ .‬لقـد طـرح الرئيـس الأمريكـي‬ ‫جـورج بـوش بعـد انهيـار النظـم الشـيوعية‪ ،‬فـي خطابـه أمـام الجمعيـة العامـة للأمـم المتحـدة‪ ،‬فـي‬ ‫‪ 23‬أكتوبـر ‪1990‬م‪ ،‬عـدداً مـن أفـكاره لبنـاء نظـام دولـي جديـد‪ ،‬يقـوم علـى الاعتـراف بتعـدد‬ ‫الثقافـات والمصالـح والقـوى‪ ،‬ممـا يوجـب علـى الـدول‪ ،‬ال ُمشـاركة الجماعيـة فـي صيانـة الأمـن‬ ‫والسـلم الدولييـن‪ ،‬عبـر الاحتـرام المتبـادل بيـن الجميـع‪ ،‬والعمـل علـى تجنـب الحـروب والأزمـات‪،‬‬ ‫واعتمـاد الأمـم المتحـدة أداةً لإحـال السـام وحـل المنازعـات‪ .‬كمـا دعـا الرئيـس جـورج بـوش‬ ‫إلـى نشـر الديمقراطيـة واحتـرام حقـوق الإنسـان (‪ .)9‬لكـن الواقـع يُشـير إلـى عـدم وجـود نظـام‬ ‫عالمـي وفـق المقاييـس التـي طرحـت فـي مفهـوم جـورج بـوش‪ « .‬لأننـا فـي عصـر‪ ،‬وفـق تصـور‬ ‫محمـد حسـنين هيـكل‪ :‬توزعـت فيـه مراكـز القـوه التكنولوجيـة والاقتصاديـة والعسـكرية»‪ ،‬لـذا‬ ‫«فـأن القـرن الواحـد والعشـرين يصعـب أن يكـون لـه ضابـط واحـد‪ ..‬كمـا لـم يعـرف التاريـخ‬ ‫نظامـاً لـإدارة اليوميـة للعالـم» (‪.)10‬‬ ‫إن الإدارة الأمريكيـة اتبعـت نهجـاً جديـداً‪ ،‬عبـر الاسـتثمار الرأسـمالي للجيـوش الأمريكيـة‪،‬‬ ‫حيـث حققـت أرباحـاً مـن حربهـا علـى العـراق عـام ‪1991‬م تقـدر بــ ‪ 30‬مليـار دولار‪ ،‬لتغطية كلفة‬ ‫اسـتخدام آلتهـا العسـكرية‪ .‬ولتحقيـق الأهـداف الأمريكيـة‪ ،‬يفتـرض تحويـل الشـرق الأوسـط إلـى‬ ‫مجـال حيـوي تابـع للسـيطرة الأمريكيـة‪ ،‬عسـكرياً واقتصاديـاُ وسياسـياً واجتماعيـاً وثقافيـاً‪ ،‬والعمـل‬ ‫علـى منـع الـدول الناميـة مـن الحصـول علـى تكنولوجيـة عسـكرية متطـورة‪ ،‬وضمـان بقـاء أوربـا‬ ‫حليفـاً اسـتراتيجيا للولايـات المتحـدة‪ ،‬لحمايـة مصالـح الـدول الصناعيـة ألكبـرى فـي حـال انـدلاع‬ ‫الأزمـات والحـروب‪.‬‬ ‫لقـد ذهبـت الإدارة الأمريكيـة‪ ،‬خـال أزمـة اجتيـاح القـوات العراقيـة للكويـت عـام ‪1990‬م‪،‬‬

‫‪85‬‬ ‫نحـو خيـار الحـرب مسـتبعدة الخيـارات الدبلوماسـية‪ .‬لقـد أكـدت مارغريـت تاتشـر‪ ،‬خـال لقائهـا‬ ‫مـع يفغينـي بريماكـوف‪ ،‬قبـل شـن الحـرب علـى العـراق‪ :‬علـى عـدم قبـول أي حـل دبلوماسـي‪ ،‬بـل‬ ‫«يجـب توجيـه ضربـة سـاحقة للعـراق‪ ،‬وتدميـر جميـع قـدرات هـذا البلـد العسـكرية وربمـا طاقاتـه‬ ‫الصناعيـة‪ ،‬ولا يجـوز الحـؤول دون تحقيـق هـذا الهـدف‪ ،‬بـل لا ينبغـي لأحـد أن يحـاول تجنيـب‬ ‫العـراق الضربـة اللازمـة» (‪ ،)11‬بغيـة عـزل العـراق ومـن ثـم احتلالـه‪ ،‬خـارج الشـرعية الدوليـة‬ ‫والقانـون الدولـي عـام ‪2003‬م‪.‬‬ ‫كمـا وصفـت الخارجيـة الأمريكيـة منطقـة الشـرق الأوسـط‪ ،‬حيـث يقـع العـراق فـي قلبهـا‪:‬‬ ‫بأنهـا مصـدر خـارق للقـدرة الاسـتراتيجية لامتلاكهـا واحـدة مـن أعظم الثـروات التي عرفهـا تاريخ‬ ‫البشـرية‪ ،‬فالشـرق الأوسـط‪ ،‬وفـق وصـف الرئيـس دوايـت أيزنهـاور يعـد «المنطقـة الاسـتراتيجية‬ ‫الأكثـر أهميـة فـي العالـم» (‪ ،)12‬علـى صعيـد الاسـتثمارات المتعـددة الجنسـية‪ ،‬لامتلاكـه ثـروة‬ ‫البتـرول‪ .‬لاحقـاً‪ ،‬شـدد الرئيـس بيـل كلينتـون علـى‪ :‬ضـرورة إبقـاء «التفـوق النوعـي العسـكري‬ ‫لإسـرائيل علـى خصومهـا المحتمليـن»‪ ،‬كمـا أكـد علـى أهميـة العمـل لمنـع انتشـار أسـلحة الدمـار‬ ‫ألشـامل فـي منطقـة الشـرق الأوسـط (‪ ،)13‬باسـتثناء إسـرائيل التـي تمتلـك أكثـر مـن ‪ 200‬رأس‬ ‫كتلــوي‪ ،‬ممــا يمنــع الــدول العربيــة مــن ممارســة حــق الدفــاع الذاتــي ألمشــروع عــن النفــس‪،‬‬ ‫وتعريـض الأمـن القومـي العربـي‪ ،‬الاقتصـادي والسياسـي والعسـكري‪ ،‬لمخاطـر كبيـرة‪.‬‬ ‫لقـد أظهـر نمـوذج اسـتراتيجية الحـرب علـى العـراق عـام ‪1991‬م‪ ،‬ومـن ثـم فـرض حضـر‬ ‫اقتصـادي وسياسـي وعلمـي شـامل‪ ،‬عـدم اكتـراث الولايـات المتحـدة الأمريكيـة بحـق الشـعوب فـي‬ ‫تقريـر مصيرهـا‪ ،‬ثـم قامـت واشـنطن بشـن الحـرب عـام ‪2003‬م لاحتـال العـراق خـارج اطـار‬ ‫الشـرعية الدوليـة والقانـون الدولـي‪ُ ،‬مسـتخدمة الأسـلحة المحرمـة دوليـاً‪ ،‬كاليورانيـوم الناضـب‬ ‫وغـاز الخـردل‪ ،‬كمـا عمـدت إلـى تدميـر المنشـآت المدنيـة والزراعيـة والصناعيـة‪ ،‬بمـا يتنافـى‬

‫‪86‬‬ ‫ومـواد القانـون الدولـي الإنسـاني‪ ،‬وميثـاق الأمـم المتحـدة‪ ،‬ويتناقـض مـع المبـادئ الدوليـة المعلنـة‪،‬‬ ‫التـي تشـجع الـدول علـى بـذل الجهـود مـن أجـل تحقيـق السـام والأمـن‪ ،‬والعمـل لإبعـاد الإنسـانية‬ ‫والعالـم عـن مخاطـر الدمـار والحـروب‪.‬‬ ‫إن تبنـي الإدارة الأمريكيـة لسياسـة الاحتـواء فـي العلاقـات الدوليـة‪ ،‬أدى إلـى تهديـد الأمـن‬ ‫الوطنـي للـدول الناميـة‪ ،‬كمـا عـرض البنـي الاقتصاديـة والسياسـية والثقافيـة لمخاطـر التفـكك ودفـع‬ ‫المجتمعـات نحـو التخلـف‪ ،‬وهـذا مـا يتنافـى مـع المواثيـق والقوانيـن الدوليـة‪ ،‬التـي أكـدت أهميـة‬ ‫تعزيـز التعـاون بيـن الـدول وتشـجيع المجتمعـات للانتقـال نحـو عصـر الحداثـة واسـتيعاب العلـوم‬ ‫والمعرفة‪.‬‬ ‫‪ .2‬الحــرب الأمريكيــة علــى العــراق واســتخدام الاســلحة المحرمــة دوليــاً فــي عاصفــة‬ ‫الصحــراء ‪1991‬م‬ ‫عندمـا أعلنـت الولايـات المتحـدة الأمريكيـة وقـف العمليـات العسـكرية فـي الحـرب علـى‬ ‫العــراق عــام ‪1991‬م‪ ،‬كانــت وســائل الإعــام الأمريكيــة تؤكــد بــأن‪« :‬أمريــكا قــد دفنــت عــار‬ ‫فيتنـام‪ ،‬إلـى الأبـد‪ ،‬فـي الصحـراء العربيـة»‪ ،‬ممـا عكـس حجـم عقـدة الإحسـاس بالخطيئـة‪ ،‬لـدى‬ ‫الإدارة الأمريكيــة‪ ،‬التــي ولدتهــا هزيمــة الحــرب الأمريكيــة فــي فيتنــام‪ ،‬لكــن الإدارة الأمريكيــة‬ ‫ارتكبـت خطيئـة فادحـة فـي تاريخنـا المعاصـر‪ ،‬عندمـا خططـت لشـن «حـرب تحريـر الكويـت»‪،‬‬ ‫عبـر توسـيع نطـاق العمليـات العسـكرية ضـد جمهوريـة العـراق‪.‬‬ ‫لقــد أكــد البيــان الأول للقيــادة العســكرية الأمريكيــة‪ ،‬انتهــاء العمليــات العســكرية لحــرب‬ ‫وصلــت كلفتهــا إلــى ‪ 75‬مليــار دولار‪ ،‬دفعــت واشــنطن منهــا ‪ 15‬مليــار دولار فقــط‪ ،‬وتحمــل‬ ‫حلفاؤهـا الباقـي‪ ،‬كمـا ضخمـت البيانـات الصـادرة عـن وزارة الدفـاع الأمريكيـة خسـائر العـراق‪،‬‬ ‫عندمـا أعلنـت عـن تدميـر القـوات البحريـة والجويـة العراقيـة‪ ،‬إضافـة إلـى تدميـر ‪ 3000‬دبابـة‪،‬‬

‫‪87‬‬ ‫‪ 1800‬ناقلـة جنـود‪ 1480 ،‬مدفعـا‪ ،‬إلـى جانـب تدميـر ‪ 29‬فرقـة عسـكرية‪ ،‬كمـا أعلنـت وزارة‬ ‫الدفـاع الأمريكيـة أن ضحايـا الحـرب‪ ،‬بيـن قتيـل وجريـح مـن جنـود الجيـش العراقـي يتـراوح بيـن‬ ‫‪ 100000-85000‬مقاتــل‪.‬‬ ‫كمـا بينـت وسـائل الإعـام الأمريكيـة‪ ،‬أن قـوات التحالف بقيـادة الولايات المتحـدة الأمريكية‪،‬‬ ‫نفـذت ‪ 90000‬طلعـة جويـة‪ ،‬ألقـت خلالهـا مـا زنتـه مليـون طـن مـن القنابـل علـى العـراق‪ ،‬ممـا‬ ‫عـرض ‪ 2614070‬وحـدة مدنيـة للأضـرار أو للدمـار الكامـل‪ ،‬تشـتمل علـى‪ :‬جسـور‪ ،‬طـرق‪،‬‬ ‫مطـارات‪ ،‬مستشـفيات‪ ،‬جامعـات ومعاهـد ومـدارس‪ ،‬جوامـع وكنائـس‪ ،‬مصانـع‪ ،‬محطـات توليـد‬ ‫الكهربـاء‪ ،‬منشـآت ومصافـي النفـط‪ ،‬منظومـات الاتصـال السـلكية واللاسـلكية‪ ،‬سـدود‪ ،‬ملاجـئ‪،‬‬ ‫إدارات ومؤسسـات الدولـة‪ ،‬التـي اسـتطاعت القـدرات الهندسـية والفنيـة العراقيـة إعـادة بنـاء ‪%55‬‬ ‫مـن البنيـة التحتيـة التـي تعرضـت للدمـار حتـى نهايـة عـام ‪1993‬م‪.‬‬ ‫‪ 1-1‬آثار التلوث البيئي لحرب عاصفة الصحراء على العراق والخليج العربي‬ ‫لقـد تعرضـت البيئـة فـي العـراق وبلـدان الخليـج العربـي‪ ،‬إلـى الآثـار الخطيـرة للتلـوث‪،‬‬ ‫بسـبب اسـتخدام الاسـلحة المحرمـة دوليـا فـي العمليـات العسـكرية‪ ،‬لقصـف المدنييـن فـي العـراق‬ ‫الفوسـفور الأبيـض والقنابـل العنقوديـة والنابالـم المتطـور‪ ،‬فضـا عـن اليورانيـوم المن ّضـب القاتـل‬ ‫الخفـي البطـيء‪ .‬حيـث لا تـزال الأراضـي والميـاه ملوثـة باليورانيـوم المن ّضب‪ ،‬وسـتبقي كذلك على‬ ‫مـدى ملاييـن السـنين‪ ،‬ممـا عـرض السـكان المدنييـن لمخاطـر الاضطرابـات الجسـدية والنفسـية‬ ‫والصحيــة‪ .‬ويعتقــد أغلــب النــاس‪ ،‬أن الضحيــة الأولــى مــن الحــرب دائمــا هــي البيئــة وصحــة‬ ‫الإنســان‪ ،‬ولكـن تبقـى الحقيقــة هــي الضحيــة الأولــى للحــرب‪ ،‬كمــا يقــول الســيناتور الأمريكــي‬ ‫هيــرام جونســون ‪ .Hiram Johnson‬وطبقــاً لتقريــر موقــع إيــاف‪ ،‬فــإن حــرب عاصفــة‬ ‫الصحـراء‪ ،‬هـي احـد أسـباب سـوء الأحـوال الجويـة فـي العـراق ومنطقـة الخليـج العربـي‪ ،‬بسـبب‬

‫‪88‬‬ ‫اسـتخدام القذائـف ذات الـرؤوس المـزودة باليورانيـوم المن ّضـب فـي مسـرح العمليـات العسـكرية‬ ‫بيـن العـراق والكويـت‪ ،‬التـي أدت إلـى تلـوث الصحـراء العربيـة‪.‬‬ ‫كمــا تســببت حــرب عاصفــة الصحــراء بانــدلاع حرائــق فــي آبــار النفــط الكويتيــة‪ ،‬التــي‬ ‫تحولـت الـى مشـكلة عالميـة وخطـر كبيـر علـى صحـة البشـر‪ ،‬بسـبب ارتفـاع الدخـان إلـى مسـافة‬ ‫‪ 4-1‬كيلومتـر فـي الفضـاء‪ ،‬الـذي وصـل إلـى الإمـارات العربيـة المتحـدة وإيـران وتركيـا وسـوريا‬ ‫والعــراق وأفغانســتان‪ ،‬واجتــاح هــذه البلــدان هطــول الأمطــار الحامضيــة الســوداء‪ .‬كمــا أدت‬ ‫العمليـات العسـكرية إلـى تفجيـر صمامـات آبـار النفـط فـي الكويـت ممـا أدى إلـى تسـرب مـا بيـن‬ ‫أربعـة وأحـد عشـر مليـون برميـل نفـط فـي البحـر‪ .‬وقـدر خبـراء كويتيـون أن تسـرب النفـط أدى‬ ‫إلـى تكـون ‪ 200‬بحيـرة‪ ،‬وخلـق تبخـر النفـط مـن هـذه البحيـرات رواسـب كثيفـة مـن النفـط فـي‬ ‫الصحـراء تعـرض التربـة والميـاه الجوفيـة للتلـوث‪ ،‬ممـا عـرض الصحـة العامـة للسـكان والنباتـات‬ ‫والحيوانـات البريـة والبحريـة لمخاطـر انتشـار الأمـراض والمـوت (‪.)14‬‬ ‫‪ 2-1‬ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض في العراق والكويت‬ ‫أدت حـرب عاصفـة الصحـراء إلـى ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض السـرطانية والنفسـية‬ ‫والتشـوهات الخلقيـة والتلـوث البيئـي‪ ،‬فـي العـراق والكويـت‪ ،‬ويعـود السـبب الرئيسـي لاسـتخدام‬ ‫اليورانيــوم المن ّضــب ومختلــف أنــواع الاســلحة التقليديــة والاليكترونيــة‪ .‬وتشــير الإحصــاءات‬ ‫الرسـمية الصـادرة عـن وزارة الصحـة العراقيـة والمنظمـات الدوليـة المعنيـة بالصحـة إلـى زيـادة‬ ‫حـادة فـي معـدلات الإصابـة بالأمـراض السـرطانية فـي العـراق‪ .‬فـي عـام ‪1995‬م انتشـر فـي‬ ‫الكويـت مـرض اضطـراب الكـرب‪ ،‬الـذي يلـي الصدمـة النفسـية فـي ‪ %27‬مـن الكويتييـن منهـم‬ ‫‪ %86‬مــن البالغيــن‪ %66 .‬مــن أولئــك الذيــن تــم تشــخصيهم بالمــرض يحلمــون بالكوابيــس عــن‬ ‫بعـض أحـداث الحـرب‪ .‬ويعتقـد الكثيـر مـن العلمـاء أن اليورانيـوم المن ّضـب هـو السـبب الرئيسـي‬

‫‪89‬‬ ‫لظهـور الأمـراض الجديـدة فـي الكلـى والرئتيـن والكبـد والانهيـار الكلـي لنظـام المناعـة‪ .‬بالإضافـة‬ ‫إلــى ذلــك لوحــظ أن عــدد حــالات الإجهــاض هــو الأعلــى فــي المنطقــة المزدحمــة بالعمليــات‬ ‫العسـكرية‪ ،‬كمـا ازدادت أمـراض الجهـاز التنفسـي (‪.)15‬‬ ‫إذ ســتبقى الأراضــي والميــاه العراقيــة ملوثــة باليورانيــوم المن ّضــب‪ ،‬علــى مــدى ملاييــن‬ ‫السـنين‪ ،‬مـا لـم تسـارع المؤسسـات والمنظمـات بإثـارة انتبـاه الـرأي العـام والمجتمـع الدولـي إلـى‬ ‫مخاطـر التلـوث والضغـط علـى الولايـات المتحـدة الأمريكيـة وحلفائهـا فـي الحـرب علـى العـراق‬ ‫للاعتـراف بمـا ارتكبـه الجيـش الأمريكـي مـن جرائـم حـرب وانتهـاكات خطيـرة للقانـون الدولـي‬ ‫الإنسـاني وتحمـل مسـؤولية تنظيـف الأراضـي والميـاه والأجـواء من الآثـار الخطيرة للتلـوث البيئي‬ ‫وبالتعـاون مـع المنظمـات العالميـة والإنسـانية لتجنـب المزيـد مـن الكـوارث الإنسـانية‪ .‬وكشـفت‬ ‫المديـرة العامـة لمنظمـة المجتمـع العلمـي العربـي‪ ،‬الدكتـورة مـوزه بنـت محمـد الربـان‪ ،‬التـي قالـت‬ ‫إن علمـاء البيئـة اسـتطاعوا قيـاس مسـتويات عاليـة مـن اليورانيـوم فـي عينـات مـن التربـة مـن عدة‬ ‫مناطـق فـي العـراق‪ ،‬وقـد ربطـوا تلـك القياسـات والنتائـج التـي توصلـوا إليهـا بالزيـادة الكبيـرة‬ ‫فـي أعـداد المصابيـن بأمـراض السـرطان المسـجلة فـي السـجلات الوطنيـة للسـرطان فـي العـراق‪.‬‬ ‫وأضافـت إن العلمـاء اسـتنتجوا أن الحربيـن الدوليتيـن بقيـادة الولايـات المتحـدة علـى العـراق فـي‬ ‫عامـي ‪ 1991‬و‪ ،2003‬واللتيـن اسـتخدمت فيهمـا قذائـف اليورانيـوم المن ّضـب‪ ،‬قـد تركتـا إرثـا‬ ‫وخيمـا علـى صحـة المدنييـن العراقييـن بشـكل عـام‪ ،‬وزيـادة فـي السـرطانات والتشـوهات الخلقيـة‬ ‫لـدى المواليـد بشـكل خـاص‪ .‬وأضافـت الربـان أن «الأمـر لا يقتصـر علـى اليورانيـوم المن ّضـب‬ ‫فحسـب‪ ،‬بـل لقـد اسـتخدمت أنـواع عديـدة مـن الملوثـات فـي تلـك الحـروب كان لهـا أبلـغ الأثـر‬ ‫علـى البيئـة والصحـة لأهالـي المنطقـة (‪.)16‬‬

‫‪90‬‬ ‫وختمـت المديـرة العامـة لمنظمـة المجتمـع العلمـي العربـي بأنهـم يأملـون فـي أن يحـرك‬ ‫هـذا الملـف سـاكنا‪ ،‬ويشـمل ذلـك دعـوة لاتخـاذ إجـراءات فوريـة وفاعلـة علـى كافـة المسـتويات‬ ‫الرسـمية والعلميـة والشـعبية‪ ،‬مؤكـدة أن البيئـة الملوثـة فـي العـراق ليسـت بعيـدة عـن دول الجـوار‬ ‫عامـة وعـن الكويـت والسـعودية خاصـة‪ ،‬وداعيـة لعمـل مشـترك بيـن هـذه الـدول لإنقـاذ مسـتقبل‬ ‫الأجيـال‪ .‬ويوضـح الدكتـور كاظـم المقـدادي‪ ،‬أن قـوات التحالـف بقيـادة واشـنطن أُطلقـت علـى‬ ‫العــراق خــال الحربيــن ‪ 1991‬و‪ 2003‬كميــة هائلــة مــن ذخائــر اليورانيــوم خلفــت أكثــر مــن‬ ‫‪ 2200‬طـن متـري مـن اليورانيـوم المن ّضـب‪ ،‬أي مـا يسـاوي فـي ذريتـه ‪ 250‬قنبلـة ذريـة‪ ،‬وهـذا‬ ‫وفقــا لتقديــر البروفســور ياغازاكــي ‪ Katsuma Yagasaki‬مــن الهيئــة العلميــة فــي جامعــة‬ ‫ريوكيـوس فـي أوكينـاوا فـي اليابـان‪ .‬ويضيـف أنـه ثمـة أدلـة قاطعـة علـى أن اسـتخدام اليورانيـوم‬ ‫المن ّضـب هـو سـبب الزيـادة الكبيـرة فـي حـالات الإصابـة بالسـرطانات فـي العـراق‪ ،‬مثـل سـرطان‬ ‫الـدم لـدى الأطفـال وسـرطان الثـدي لـدى الفتيـات فـي بعـض مناطـق العـراق بعـد حـرب ‪1991‬‬ ‫وخـال احتـال العـراق عـام ‪ 2003‬ومـا بعـده‪ ،‬كمـا تشـير الإحصـا َءات إلـى زيـادة كبيـرة فـي‬ ‫الـولادات المشـوهة فـي المناطـق القريبـة مـن سـاحات المعـارك (‪.)17‬‬ ‫كمـا كشـف العالـم الكنـدي هـاري شـارما بعـد زيارتـه الميدانيـة للبصـرة‪ ،‬عـن أنـه سـيموت‬ ‫بالسـرطان نحـو ‪ %12-5‬مـن الذيـن تعرضـوا لأسـلحة اليورانيـوم المن ّضـب عـام ‪1991‬م‪ ،‬وأكـد‬ ‫شـارما أن مئـة ألـف مواطـن فـي البصـرة وحدهـا أصيبوا بالسـرطان بيـن عامـي ‪ 1991‬و‪1998‬م‪،‬‬ ‫وأن ‪ %75‬منهـم أطفـال‪ .‬وسـجلت حـالات مـن الإسـقاط والاعتـال العصبـي والتشـوهات الجنينيـة‬ ‫أكثـر بكثيـر ممـا كان معتـادا‪ ،‬وحصـل ذلـك وسـط العراقييـن مـن العسـكريين والمدنييـن‪ .‬ويضيـف‬ ‫إن العقديــن الأخيريــن شــهدا انتشــارا للأمــراض ال َســرطانيّة فــي المجتمــع العراقــي علــى نحــو‬ ‫كارثـي‪ ،‬وبلغـت الإصابـات ال َسـرطانيّة أكثـر مـن مليـون إصابـة ُمسـ ّجلة رسـميا‪ ،‬ومـا زال العـدد‬

‫‪91‬‬ ‫يرتفــع باســتمرار‪ .‬ويمــوت مــن هــذه الإصابــات ســنويا مــا يتــراوح بيــن ‪ 10‬آلاف و‪ 12‬ألــف‬ ‫شـخص‪ ،‬وهنـاك عشـرات آلاف الإصابـات والوفيـات سـنويا غيـر المسـجلة‪ .‬ويضيـف شـارما إن‬ ‫أطفــال العــراق هــم الضحيــة الأولــى للأمــراض الســرطانية‪ ،‬فقــد أكــدت المعطيــات أن العــراق‬ ‫صاحـب أعلـى معـدل لوفيـات الأطفـال فـي العالـم‪ ،‬الـذي يشـكل ‪ %8‬مـن حـالات السـرطان كافـة‬ ‫فـي العـراق‪ ،‬مقارنـة بــ‪ %1‬فـي الـدول المتقدمـة‪ .‬إن أكثـر السـرطانات شـيوعا بيـن الأطفـال هـو‬ ‫ســرطان الــدم‪ ،‬تليــه ســرطانات الجهــاز اللمفــاوي والدمــاغ وأورام الجهــاز العصبــي‪ ،‬وإنــه قــد‬ ‫تضاعفــت إصابــة الأطفــال بســرطان الــدم فــي مدينــة البصــرة ثــاث مــرات خــال ‪ 15‬عامــا‬ ‫الماضيــة (‪.)18‬‬ ‫‪ .3‬الجهود والبرامج العلمية لمواجهة مخاطر التلوث النووي والإشعاعي البيئي في العراق‬ ‫بنـاء علـى اهتمـام مجلـس الـوزراء العراقـي‪ ،‬وبإشـراف اللجنـة العليـا للعلـوم والتكنولوجيـا‪،‬‬ ‫لمعالجـة الاَثـار الخطيـرة للتلـوث البيئـي‪ُ ،‬كلـف قسـم الهندسـة البيئيـة فـي جامعـة بغـداد‪ ،‬وبالتنسـيق‬ ‫مــع منظمــة الطاقــة الذريــة العراقيــة لتحديــد مواقــع التلــوث الإشــعاعي فــي المناطــق الجنوبيــة‬ ‫بالإحداثيــات الدقيقــة‪ ،‬واتفــق علــى جمــع الآليــات المل ّوثــة وردمهــا فــي مناطــق عــزل خاصــة‪،‬‬ ‫وأنجـزت مـن المشـروع مرحلتـان مـن ثـاث مراحـل فـي عـام ‪1998‬م‪ ،‬بعـد ان حـددت أفضـل‬ ‫المواقــع لــردم النفايــات الصناعيــة الخطــرة والمشــعة‪ .‬لقــد اعتمــدت وزارة الخارجيــة العراقيــة‬ ‫فـي هيئـة الأمـم المتحـدة دراسـات قسـم الهندسـة البيئيـة التـي أعـدت بالتنسـيق مـع قسـم الهندسـة‬ ‫النوويـة وقسـم البيئـة الإشـعاعية فـي منظمـة الطاقـة الذريـة‪ ،‬حـول التلـوث الإشـعاعي بأسـلحة‬ ‫اليورانيـوم المن ّضـب للمطالبـة بحقـوق العـراق جـراء هـذه الكارثـة البيئيـة‪ ،‬لإعـداد بحـوث موقعيـة‬ ‫تضمنـت قـراءات حقليـة وفحوصـات مختبريـة وإجـراء حسـابات وتقديـرات للجـرع الإشـعاعية‬ ‫للسـكان فـي جنـوب العـراق‪ .‬لقـد تـم اختيـار ثـاث مناطـق بمسـاحات محـددة لـردم هـذه النفايـات‬

‫‪92‬‬ ‫خـال المرحلتيـن الاولـى والثانيـة (‪. )19‬‬ ‫وأكـدت د‪ .‬سـعاد العـزاوي‪ ،‬المشـرفة علـى مشـاريع ردم النفايـات ال ُمشـعة‪ ،‬علـى عـدم وجـود‬ ‫اسـتراتيجية لمعالجـة موضـوع التلـوث باليورانيـوم المن ّضـب تحديـداً‪ ،‬وهـذا الموضـوع لا ينتهـي‬ ‫بوجـود مواقـع لـردم النفايـات المشـعة والنوويـة فقـط‪ ،‬لأن الأهـم مـن ذلـك‪ ،‬هـو تحديـد مناطـق‬ ‫التلـوث ونمذجـة انتقـال الملوثـات بمختلـف الآليـات المعروفـة‪ ،‬وتحديـد الجـرع الإشـعاعية المسـلمة‬ ‫فـي المناطـق المختلفـة ومعايرتهـا بأخـذ نمـاذج حيويـة مـن المصابيـن ومـن عينـات عشـوائية أو‬ ‫محـددة مـن المناطـق ذات التعـرض العالـي‪ .‬وكذلـك وضـع خطـط مواجهـة نتائـج هـذا التعـرض‬ ‫فــي كل منطقــة ســواء مــن الناحيــة الصحيــة أو إجــراءات التنظيــف المطلوبــة (‪ .)20‬وتشــير‬ ‫المصـادر إلـى وجـود أكثـر مـن أربعيـن موقعـاً فـي عمـوم محافظـات العـراق ملوثـاً بمسـتويات‬ ‫عاليـة مـن الإشـعاعات والمـواد السـامة‪ ،‬ومـع اسـتمرار الحـروب والإهمـال‪ ،‬تحولـت البيئـة فـي‬ ‫أجـزاء واسـعة مـن البـاد إلـى أضـرار كبيـرة بفعـل وجـود الخـردة المعدنيـة للمعـدات والتجهيـزات‬ ‫العسـكرية الملوثـة باليورانيـوم المن ّضـب‪ ،‬التـي تحتـوي فـي داخلهمـا علـى نسـب عالية من الإشـعاع‬ ‫المتأيـن‪ ،‬الـذي اسـتعمل كذخيـرة أثنـاء حـرب الخليـج عـام ‪2003-1991‬م (‪.)21‬‬ ‫إن اسـتخدام اليورانيـوم المن ّضـب فـي الحـرب علـى العـراق يُعـد جريمـة ضـد الإنسـانية‬ ‫لمخالفتـه القانـون الدولـي الإنسـاني وقواعـد وأعـراف الحـرب‪ ،‬وتُعـد الولايـات المتحـدة الأمريكيـة‬ ‫مــن الأطــراف الموقعــة علــى اتفاقيــة لاهــاي لعــام ‪1899‬م‪ ،‬والأعلانــات الثــاث ال ُملحقــة بهــا‪،‬‬ ‫كمـا أنهـا دولـة طـرف فـي اتفاقيـة لاهـاي لعـام ‪1907‬م بشـأن قواعـد وأعـراف الحـرب‪ ،‬ومـا‬ ‫ارتكبتـه الولايـات المتحـدة الأمريكيـة فـي حـق العـراق يُعـد مخالفـة صريحـة لنـص المـادة (‪)23‬‬ ‫مـن اتفاقيـة لاهـاي‪ ،‬وكذلـك اتفاقيـات جنيـف الأربعـة لعـام ‪1949‬م والبروتوكـولان ال ُملحقـان بهـا‬ ‫وفقـا للمـادة (‪ ،)55‬التـي تُلـزم الـدول بمراعـاة حمايـة البيئـة الطبيعيـة مـن الأضـرار البالغـة أثنـاء‬

‫‪93‬‬ ‫القتـال‪ .‬وأظهـرت دراسـة أمريكيـة‪ ،‬أجراهـا مركـز بحـوث اليورانيـوم الأمريكـي‪ ،‬مـن خـال مسـح‬ ‫ميدانـي‪ ،‬أن ارتفـاع مسـتوى التلـوث الإشـعاعي كان واضحـا فـي جنـوب العـراق وبعـض مناطـق‬ ‫بغـداد‪ ،‬وأن أغلـب القـراءات الإشـعاعية كانـت أعلـى فـي الهـواء مـن وجودهـا فـي التربـة‪ ،‬ويـدل‬ ‫ذلـك علـى أن ذرات اليورانيـوم ال ُمشـع‪ ،‬التـي ينقلهـا الهـواء هـي مـن النـوع الـذي يسـهل استنشـاقه‬ ‫ودخولـه حويصـات الرئـة (‪.)22‬‬ ‫واعترفـت نرميـن عثمـان‪ ،‬وزيـرة البيئـة فـي الحكومـة العراقيـة‪ ،‬فـي اجتمـاع لجامعـة الـدول‬ ‫العربيـة عقـد فـي القاهـرة بتاريـخ ‪ 23‬تمـوز‪ /‬يوليـو ‪2007‬م‪ ،‬باسـتخدام القـوات الأمريكيـة لسـاح‬ ‫اليورانيـوم المن ّضـب خـال حملـة الترويـع والصدمـة فـي عـام ‪ 2003‬لتربـط‪ ،‬ولأول مـرة ايضـا‪،‬‬ ‫بيــن اســتخدامه وازديــاد حــالات الإصابــة بمــرض الســرطان بيــن العراقييــن‪ .‬ذكــرت الوزيــرة‬ ‫نرميــن عثمــان‪ ،‬أن هنــاك ‪ 350‬موقعــا ملوثــا نتيجــة القصــف الأمريكــي وأن هنــاك ‪ 140‬ألــف‬ ‫إصابـة بمـرض السـرطان كمـا تسـجل ‪ 7‬ـ ‪ 8‬آلاف حالـة جديـدة كل عـام‪ .‬وبينـت نرميـن عثمـان‪،‬‬ ‫أن مـن بيـن الأسـباب الملوثـة للبيئـة تدميـر المحطـات وحـرق المـواد الكيمياويـة أثنـاء القصـف‬ ‫وإن كانـت النتائـج البيئيـة غيـر واضحـة‪ .‬وإن العـراق بحاجـة إلـى المختبـرات لرصـد درجـة تلـوث‬ ‫الهـواء والمـاء‪ .‬وإنـه لـم تجـر أيـة عمليـة تنظيـف أو توعيـة عـن التلـوث فـي العـراق‪ .‬وهـذه هـي‬ ‫المـرة الأولـى‪ ،‬التـي يتحـدث فيهـا مسـؤول حكومـي عراقـي عـن اليورانيـوم المن ّضـب‪ .‬إذ غالبـا‬ ‫مـا يرفـض المسـؤولون الحديـث عـن الموضـوع خشـية إثـارة غضـب الإدارة الأمريكيـة الرافضـة‬ ‫بشـكل مطلـق الاعتـراف بمسـؤوليتها عـن جرائـم التلـوث والتشـويهات والمـوت البطـيء الناتـج‬ ‫عـن الإصابـة بالأمـراض السـرطانية علـى اختـاف أنواعهـا (‪.)23‬‬ ‫ومـن المثيـر للانتبـاه‪ ،‬عـدم اهتمـام وزارة البيئـة فـي الحكومـة العراقيـة بالتلـوث الإشـعاعي‬ ‫وتأثيـره علـى البيئـة والصحـة البشـرية‪ ،‬ورفـض قـوات الاحتـال الأمريكـي والبريطانـي‪ ،‬الكشـف‬

‫‪94‬‬ ‫عـن كميـات اليورانيـوم المسـتخدم وأنواعهـا كمـا ترفـض الكشـف عن مواقـع اسـتخدامها لئلا يبحث‬ ‫باتخـاذ الإجـراءات لتقليـل أضـرار إشـعاعاتها ضـد الصحـة‪ .‬كمـا منعـت قـوات الاحتـال منظمـات‬ ‫الأمـم المتحـدة مـن إجـراء أي برنامـج لتقديـر المخاطـر الصحيـة علـى حيـاة المواطنيـن نتيجـة‬ ‫الإشـعاعات الضـارة كمـا منعـت أصـدار أيـة أرقـام أو إحصائيـات مـن قبـل وزارة الصحـة بعـد‬ ‫الاحتـال كجـزء مـن تغطيـة الجرائـم والانتهـاكات ال ُمرتكبـة للقانـون الدولـي الإنسـاني والاتفاقيـات‬ ‫الدوليـة‪ .‬وتكشـف البحـوث حقيقـة مخيفـة مفادهـا أن تأثيـر الإشـعاع قـد أدى إلـى تغييـر تركيبـة‬ ‫الجينـات والكروموسـومات لـدى جنـود الولايـات المتحـدة الأمريكيـة المقاتليـن فـي حـرب عاصفـة‬ ‫الصحـراء ‪1991‬م‪ .‬لـذا يفتـرض قيـام الإدارة الأمريكيـة بتوفيـر المعلومـات الضروريـة عـن أنـواع‬ ‫وكميـات ومواقـع اليورانيـوم المن ّضـب والسـماح لمنظمـة الأمـم المتحـدة ومنظمـة الصحـة العالميـة‬ ‫بوضـع برنامـج استكشـافي كامـل لتقديـر مـا أصـاب الصحـة والبيئـة نتيجـة اسـتخدام هـذه الأسـلحة‬ ‫المحرمـة دوليـا علـى العـراق منـذ عـام ‪1991‬م‪ .‬يشـمل سـكان المناطـق الملوثـة لمعرفـة عواقـب‬ ‫التعــرض لليورانيــوم‪ ،‬وإخلائهــا مــن المركبــات والآليــات الملوثــة وإيجــاد آليــة شــاملة لتنظيــف‬ ‫المواقـع الملوثـة‪ .‬والتحقيـق فـي مسـؤولية الإدارات الأمريكيـة والـدول المشـاركة فـي الحـرب علـى‬ ‫العـراق والعمـل عالميـا عبـر الاتفاقيـات الدوليـة لمنـع اسـتخدام اليورانيـوم المن ّضـب مسـتقبلا ضـد‬ ‫الشـعوب والـدول (‪.)24‬‬ ‫لقـد حـ ّذر مجموعـة مـن الأكاديمييـن العراقييـن مـن مخاطـر التلـوث البيئـي علـى أنواعـه‬ ‫فـي العـراق‪ ،‬خـال انعقـاد مؤتمـر عـن التلـوث البيئـي فـي العـراق‪ ،‬ن ّظمتـه لجنـة البيئـة والصحـة‬ ‫التابعـة لرابطـة الأكاديمييـن العراقييـن فـي لنـدن‪ ،‬للبحـث فـي مخاطـر التلـوث الممتـدة منـذ عقـود‪،‬‬ ‫الـذي اسـتفحل نتيجـة الحـروب‪ ،‬مشـددين علـى أهميـة التوعيـة إلـى جانـب الضغـط علـى الحكومـة‬ ‫لمعالجـة مسـبباته وآثـاره‪ .‬وتمثـل هـدف المؤتمـر‪ ،‬بالبحـث فـي أسـباب التلـ ّوث البيئـي وتداعياتـه‬

‫‪95‬‬ ‫وسـبل معالجتـه‪ ،‬حيـث ذكـرت الدكتـورة جيهـان بابـان‪ ،‬إن آثـار حـروب الخليـج لا تـزال مسـتم ّرة‬ ‫فـي تلويـث البيئـة الـذي نـراه فـي جميـع مـدن العـراق‪ ،‬خصوصـاً فـي مدينـة بغـداد حيـث نجـد‬ ‫التلـ ّوث بأشـكاله المتن ّوعـة مـن الكيمـاوي والإشـعاعي والمـواد الصلبـة والنفايـات الطبيـة وتلـ ّوث‬ ‫المـاء والأنهـار والطعـام الـذي نتناولـه والهـواء‪ ،‬فضـاً عـن التسـ ّمم بالرصـاص‪ ،‬ممـا يتسـبّب‬ ‫بإصابــة أطفــال كثيريــن بالتشــ ّوهات والمــوت المبكــر فــي جميــع أنحــاء العــراق‪ ،‬مشــيرة إلــى‬ ‫ارتفـاع معـ ّدلات الإصابـة بالأمـراض السـرطانية خصوصـاً لـدى الأطفـال والنسـاء‪.‬‬ ‫وعـن أسـباب التلـ ّوث الإشـعاعي‪ ،‬قالـت الدكتـورة بابـان‪ ،‬إنـه منـذ عـام ‪ ،2003‬اسـتخدمت‬ ‫الأسـلحة الكيمياويـة بشـكل كبيـر فـي العـراق‪ ،‬مضيفـة أ ّن جميـع الحـروب تـؤذي البيئـة‪ ،‬وتؤثّـر في‬ ‫الاقتصـاد والميزانيـة وتعيـق اسـتخدام المهـارات والخبـرات‪ ،‬فـي وقـت تعانـي فيـه البيئـة اليـوم فـي‬ ‫العـراق مـن وضـع فـي غاية السـوء‪ .‬وأشـارت إلى عـدم توفر الصـرف الصحي في مـدن عديدة‪ ،‬ما‬ ‫يسـبب اختلاطهـا بالميـاه‪ ،‬وعـدم إتاحـة وسـائل لنقل النفايـات‪ ،‬إضافة إلـى المبيدات الفاسـدة المخ ّزنة‬ ‫فـي براميـل غيـر صحيّـة منـذ مـ ّدة طويلـة‪ ،‬مؤكـدة أنّـه ينبغـي استشـارة خبـراء لاسـتخدام الطـرق‬ ‫الصحيحـة‪ .‬لـذا‪ ،‬يبـدو أن مسـتقبل العـراق البيئـي مبهـم كمسـتقبل العـراق السياسـي‪ ،‬فالواقـع البيئـي‬ ‫سـيئ جـداً فـي الوقـت الحالـي والتلـ ّوث لا يـزال مسـتمراً منـذ ‪ 40‬عامـاً‪ ،‬ممـا يتطلـب نشـر الوعـي‬ ‫البيئـي فـي المجتمـع‪ ،‬والضغـط علـى الحكومـة لمعالجـة تلـك المشـاكل (‪. )25‬‬ ‫وفـي ظـل انتشـار التلـوث الإشـعاعي فـي أرجـاء العـراق‪ ،‬الـذي يعـد مـن أخطـر انـواع‬ ‫التلـوث علـى جميـع الاحيـاء فـي الأرض‪ ،‬ليـس بسـبب اخطـاره وحسـب‪ ،‬وإنمـا كذلـك بسـبب طـول‬ ‫العمـر الزمنـي لبقـاء تلـك الملوثـات‪ .‬ويشـير د‪ .‬علـي حنـوش‪ ،‬إلـى المتابعـة التـي جـرت للمواقـع‬ ‫التـي تعرضـت للتلـوث الإشـعاعي‪ ،‬كبقايـا الآليـات العسـكرية التـي اسـتهدفت بالقصـف أو منظمـة‬ ‫الطاقـة الذريـة التـي تعرضـت منشـآتها للسـرقة أو التدميـر‪ ،‬والتـي يمكـن أن تكـون مصـدرا مـن‬

‫‪96‬‬ ‫مصـادر التلـوث المشـعة‪ .‬إن عمليـات مراقبـة بعـض المراكـز والمفاعـات النوويـة العراقيـة فـي‬ ‫التويثـة بعـد الاحتـال الأمريكـي عـام ‪2003‬م‪ ،‬أظهـرت أن البعـض منهـا أصبـح مصـدراً لإطـاق‬ ‫مسـتويات مـن الإشـعاعات ذات خطـر علـى الصحـة والبيئـة معـا‪ .‬فنسـبة الإطـاق بلغـت ‪2.8‬‬ ‫مليرم‪/‬ســاعة‪ ،‬قياســا بالمعــدلات الطبيعيــة وهــو ‪ 1‬مليرم‪/‬ســاعة قبــل أن تفضــي إلــى الأضــرار‬ ‫بالصحـة والبيئـة‪ .‬ومـن المعتقـد أن سـرقات أجهـزة حساسـة وبراميـل معبـأة بأكسـيد اليورانيـوم‬ ‫المعـروف باسـم «الكعـك الاصفـر»‪ ،‬واسـتخدامها فـي تخزيـن المـاء والحليـب واللبـن‪ ،‬مـن دون‬ ‫معرفـة الآثـار المترتبـة علـى ذلـك حيـث إنهـا تحتـوي علـى مـواد مشـعة‪ ،‬سـيكون لـه أضـرار‬ ‫مسـتقبلية علـى الأرجـح‪ .‬كمـا أن إجـراء دراسـة حـول مخلفـات اليورانيـوم المن ّضـب سـتفضي إلـى‬ ‫الحصـول علـى بيانـات دقيقـة عـن المواقـع المصابـة‪ ،‬وتسـهيل تنظيفهـا مسـتقبلاً‪ .‬ويتابـع المركـز‬ ‫إجـراء المسـوحات الإشـعاعية لمواقـع الدبابـات والآليـات‪ ،‬التـي أظهـرت نتائـج فحصهـا وجـود‬ ‫تلـوث إشـعاعي نتيجـة قصفهـا بقذائـف‪ D.U‬فـي بغـداد والبصـرة وغيرهـا مـن المحافظـات (‪.)26‬‬ ‫وينتشـر اليـوم فـي العـراق أكثـر مـن أربعيـن موقعـاً ملوثـاً بمسـتويات عاليـة من الإشـعاعات‬ ‫النوويـة والمـواد السـامة بسـبب ثلاثـة عقـود مـن الحـروب والإهمـال‪ ،‬التـي تزامنـت مـع تزايـد‬ ‫ظهـور أعـراض الإصابـة بالسـرطان والتشـوهات الولاديـة لـدى السـكان‪ .‬وقالـت وزيـرة البيئـة‬ ‫نرميـن عثمـان‪« :‬إن المسـتويات العاليـة مـن المـواد السـامة فـي الأراضـي الزراعيـة فـي جنـوب‬ ‫العـراق كانـت بشـكل خـاص علـى نحـو متزايـد‪ ،‬العامـل الأساسـي فـي انخفـاض المسـتوى الصحـي‬ ‫لحيــاة النــاس فــي أفقــر مناطــق البــاد»‪ ،‬وأضافــت الوزيــرة قائلــة‪« :‬إذا نظرنــا إلــى البصــرة‪،‬‬ ‫فهنــاك تلــوث شــديد فــي بعــض المناطــق حيــث إن هنــاك العديــد مــن العوامــل التــي تســهم فــي‬ ‫ذلـك‪ ،‬فـأولا لقـد كانـت تلـك المناطـق سـاحة معركـة لثـاث حـروب كبيـرة هـي الحـرب العراقيـة‬ ‫الإيرانيــة وحــرب عاصفــة الصحــراء وحــرب احتــال العــراق عــام ‪2003‬م‪ ،‬حيــث اســتعملت‬

‫‪97‬‬ ‫العديـد مـن أنـواع القنابـل فيهـا يضـاف إليهـا تفجيـر أنابيـب النفـط‪ ،‬لذلـك‪ ،‬فـإن أغلـب التلـوث‬ ‫اسـتقر فـي وحـول البصـرة‪ ،‬وقـد انتقـل هـذا التلـوث فـي النهايـة ليسـتقر فـي رئـات النـاس وفـي‬ ‫الغـذاء الـذي يتناولـه النـاس‪ .‬كانـت المـواد السـامة ذات نسـبة عاليـة جـداً فـي تلـك المناطـق‪ ،‬مـا‬ ‫سـبب مشـاكل واسـعة النطـاق فـي النظـام البيئـي والصحـة العامـة» (‪.)27‬‬ ‫لقـد ركـزت المجموعـة الحكوميـة التـي أعـدت دراسـة خاصـة عـن مدينـة الفلوجـة المنكوبـة‬ ‫بالحــرب غــرب بغــداد حيــث أبعــدت الحالــة الأمنيــة غيــر المســتقرة فيهــا العلمــاء عــن إجــراء‬ ‫الفحوصــات منــذ أن بــدأ فيهــا القتــال العنيــف بيــن المقاومــة العراقيــة والقــوات الأمريكيــة عــام‬ ‫‪ .2004‬وكانـت الغارديـان قـد نشـرت دعـوى بعـض الأطبـاء المحلييـن فيهـا عـن ارتفـاع هائـل‬ ‫فــي التشــوهات الولاديــة فــي المدينــة‪ .‬وخصوصــا تشــوهات الحبــال العصبيــة وأدمغــة المواليــد‬ ‫الجــدد‪ ،‬وتضيــف وزيــرة البيئــة قائلــة‪« :‬نحــن نعلــم بهــذه التقاريــر لكــن يجــب علينــا أن نكــون‬ ‫حذريــن فــي الوصــول الــى اســتنتاجات حــول الأســباب»‪ ،‬مضيفــة‪« :‬إن الوضــع الصحــي فــي‬ ‫المدينـة ليـس جيـداً وليـس هنـاك نظـام لتصريـف المجـاري‪ ،‬بالإضافـة الـى الكثيـر مـن النفايـات‬ ‫الراكـدة‪ ،‬مـا يسـبب أمراضـاً تؤثـر علـى الجينـات بشـكل مباشـر لكننـا علـى أيـة حـال علـى علـم‬ ‫بـأن هنـاك الكثيـر مـن اليورانيـوم المن ّضـب قـد اسـتعمل هنـاك‪ ،‬فنحـن نحـاول ضبـط هـذه الحـالات‬ ‫ومراقبتهـا‪ ،‬ونحـاول جمـع قاعـدة بيانـات حولهـا بأسـرع مـا يمكـن»‪ ،‬وتواصـل الوزيـرة‪« :‬لقـد‬ ‫كان لدينـا تعـاون مـع برنامـج الأمـم المتحـدة للبيئـة وتـم تسـليمهم تقاريرنـا فـي جنيـف حيـث تمـت‬ ‫دراسـة ‪ 500‬موقـع ملـوث بالمـواد الكيمياويـة واليورانيـوم المن ّضـب‪ ،‬منـذ ذلـك الحيـن حتـى الآن‬ ‫اكتشـفنا ‪ 42‬موقعـا قـد تـم الأعـان عنهـا كونهـا «عاليـة الخطـورة» بسـبب المـواد الكيمياويـة‬ ‫الســامة واليورانيــوم» (‪.)28‬‬

‫‪98‬‬ ‫ومــن الجديــر بالذكــر‪ ،‬وجــود عشــر مناطــق قــد تــم تصنيفهــا مــن هيئــة الطاقــة الذريــة‬ ‫العراقيـة‪ ،‬كونهـا تمتلـك مسـتويات عاليـة مـن الإشـعاع تتضمـن ثلاثـة مواقـع نوويـة سـابقة فـي‬ ‫منطقـة التويثـة علـى أطـراف جنـوب شـرق بغـداد بالإضافـة إلـى مراكـز البحـوث السـابقة حـول‬ ‫العاصمـة‪ ،‬التـي قصفـت أو تـم تفكيكهـا خـال الفتـرة الواقعـة بيـن حربـي الخليـج‪ .‬وقـال رئيـس‬ ‫الهيئــة عدنــان جرجيــس‪« :‬حينمــا وصــل مفتشــو الوكالــة الدوليــة للطاقــة الذريــة لزيــارة هــذه‬ ‫المواقـع‪ ،‬قلـت لهـم إننـا حتـى لـو كان لدينـا أفضـل العلمـاء فـي العالـم للمسـاعدة‪ ،‬فإنـه لا يسـتطيع‬ ‫أحـد منهـم أن يعـد العـراق نظيفـاً قبـل عـام ‪2020‬م» ‪ .‬وأكـدت بشـرى علـي أحمـد مديـرة مركـز‬ ‫الإشـعاع فـي بغـداد‪ ،‬علـى‬ ‫إمكانيـة التركيـز‪ :‬لانقـاذ ‪ %80‬مـن المواقـع التـي تلوثـت بسـبب الحـروب‪ ،‬ولدينـا خطـط‬ ‫لمسـح مواقـع أخـرى‪ ،‬لكـن المشـكلة لدينـا حينمـا توجـد مثـاً دبابـة محطمـة ثـم جـرى سـحبها بعـد‬ ‫ذلـك‪ ،‬سـنجد دائمـاً إشـعاعا فـي مكانهـا وهـو مـا يحتـاج إلـى فتـرة لتطهيـر مثـل هـذه المواقـع‪.‬‬ ‫كمـا أضافـت وزيـرة البيئـة نرميـن عثمـان قائلـة‪« :‬لقـد ازداد تدهـور البيئـة فـي العـراق بالجفـاف‬ ‫ونقـص الميـاه الحـاد فـي أنحـاء البـاد كافـة حيـث شـهدت نقصـا يبلـغ ‪ %70‬في حجـم المـاء المتدفق‬ ‫عبـر نهـري دجلـة والفـرات‪ ،‬ولذلـك لـن نسـتطيع القـول بأننـا أرض الرافديـن حيـث إن الكثيـر مـن‬ ‫الميـاه التـي نسـتخدمها قـد تـم اسـتخدامها مـن قبـل سـوريا وتركيـا لتوليـد الطاقـة الكهربائيـة‪ ،‬لذلـك‪،‬‬ ‫حينمـا يصلنـا المـاء‪ ،‬يكـون رديئـاً‪ ،‬كذلـك‪ ،‬فـإن المـاء المسـتخدم فـي الزراعـة ملـوث هـو الآخـر‬ ‫لذلـك نشـعر بأننـا فـي وسـط كارثـة بيئيـة فريـدة مـن نوعهـا» (‪.)29‬‬ ‫وبسـبب الفضائـح التـي هـزت الـرأي العـام البريطانـي والمجتمـع الدولـي عـن جرائـم الحرب‬ ‫فـي العـراق والانتهـاكات الخطيـرة للقانـون الدولـي الإنسـاني‪ ،‬نشـرت لجنـة تحقيـق العراق برئاسـة‬ ‫السـير جـون تشـيلكوت‪ ،‬نتائـج تحقيقهـا‪ ،‬الـذي اسـتمر ‪ 7‬سـنوات‪ ،‬وخرجـت باسـتنتاجات مهمـة‬

‫‪99‬‬ ‫بشـأن مشـاركة المملكـة المتحـدة فـي احتـال العـراق‪ ،‬معلنـة بـأن الحـرب فـي عـام ‪ 2003‬لـم‬ ‫تكــن ضروريــة‪ ،‬ومبرراتهــا ليســت مقنعــة‪ ،‬فلــم يشــكل العــراق وقتهــا خطــراً علــى المصالــح‬ ‫البريطانيـة‪ ،‬ولـم تثبـت مزاعـم امتلاكـه أسـلحة الدمـار الشـامل‪ .‬وأوحـى تقريرهـا بعـدم شـرعية‬ ‫الحــرب‪ ،‬وتجــاوزت الدراســة البريطانيــة مــا تنــص عليــه الأمــم المتحــدة للحفــاظ علــى الأمــن‬ ‫والسـام الدولييـن‪ ،‬علـى الرغـم مـن ادعائهـا بأنهـا «تحركـت نيابـة عـن المجتمـع الدولـي»‪ ،‬بينمـا‬ ‫لـم يتحـدث المحامـي العـام فـي وقـت تونـي بليـر اللـورد غولـد سـميث عـن وجـود أسـاس شـرعي‬ ‫للحــرب ضــد العــراق‪ .‬ولــم يفــوض مجلــس الأمــن‪ ،‬فــي وقتهــا‪ ،‬أي دولــة لشــن الحــرب علــى‬ ‫العــراق (‪.)30‬‬ ‫وقدمـت الشـبكة البريطانيـة لأسـلحة اليورانيـوم فـي ‪ 15‬تمـوز‪ /‬يوليـو ‪2010‬م تقريـراً علميـاً‬ ‫وافيـاً مكرسـاً لاسـتخدام المملكـة المتحـدة لذخائـر اليورانيـوم المن ّضـب فـي العـراق‪ ،‬شـرحت فيـه‬ ‫طبيعتهــا وأصنافهــا وحجــم مــا اســتخدم منهــا علــى العــراق‪ .‬وتناولــت بالأدلــة العلميــة القاطعــة‬ ‫المخاطـر الصحيـة لليورانيـوم المن ّضـب‪ ،‬مسـتندة إلـى نتائـج دراسـات وأبحـاث رصينـة‪ ،‬أثبتـت‬ ‫سـميته الكيميائيـة والإشـعاعية علـى العسـكريين والمدنييـن‪ ،‬تجسـدت بـ « أعراض حـرب الخليج»‪،‬‬ ‫التـي طالـت مئـات اَلاف العسـكريين‪ ،‬وانتشـار الإصابـات السـرطانية والتشـوهات الخلقيـة وعلـل‬ ‫مرضيـة أخـرى غيـر قابلـة للعـاج وسـط المدنييـن الأبريـاء‪ .‬ولفتـت الشـبكة انتبـاه لجنـة التحقيـق‬ ‫إلـى تكـرار اسـتخدام وزارة الدفـاع ذخائـر اليورانيـوم فـي غـزو العـراق علـى الرغـم مـن علمهـا‬ ‫المســبق بمخاطــر اســتخدامها‪ ،‬باعتبارهــا ذخائــر مشــعة مصنعــة مــن نفايــات نوويــة خطيــرة‪.‬‬ ‫وهـذا مـا أكـده البروفسـور مالكولـم هوبـر‪ ،‬أسـتاذ الكيميـاء الطبيـة بجامعـة سـندرلاند‪ ،‬والمستشـار‬ ‫العلمــي لــ «جمعيــة جنــود حــرب الخليــج الثانيــة المتقاعديــن فــي المملكــة المتحــدة»‪ ،‬متجاهلــة‬ ‫كافــة التحذيــرات العلميــة‪ ،‬الصــادرة عــن مؤسســات علميــة بريطانيــة معروفــة‪ ،‬بشــأن ســميتها‬

‫‪100‬‬ ‫الكيميائيـة والإشـعاعية وأضرارهـا البيولوجيـة علـى صحـة العسـكريين والمدنييـن وحياتهـم‪ .‬لكـن‬ ‫وزارة الدفـاع البريطانيـة‪ ،‬التـي لديهـا معرفـة كاملـة عـن هـذه المعلومـات‪ ،‬قامـت بإخفـاء البيانـات‬ ‫والمعلومـات ذات العلاقـة (‪.)31‬‬ ‫إضافـة إلـى مـا تقـدم‪ ،‬أكـد دوج ويـر‪ ،‬منسـق «التحالـف الدولـي لحظـر أسـلحة اليورانيـوم‬ ‫(‪ ،)UKUW‬فــي مقالــة لــه فــي مجلــة ‪ The Ecologist‬فــي ‪ 11‬تمــوز‪ /‬يوليــو‪2016‬م‪ ،‬بــأن‬ ‫تقريـر تشـيلكوت كشـف عـن أن المملكـة المتحـدة ليـس لديهـا نيـة لتنظيـف العـراق مـن تركتهـا‬ ‫المشــعة القاتلــة‪ ،‬وتخلــت عــن مســؤوليتها وواجبهــا فــي إزالــة المخلفــات الســامة التــي خلفتهــا‬ ‫هنـاك‪ ،‬ولا حتـى وجـوب رصـد تأثيراتهـا علـى صحـة السـكان ومسـتقبلهم‪ .‬وأخفـت وزارة الدفـاع‬ ‫عــن لجنــة التحقيــق وثيقــة عســكرية قديمــة‪ ،‬فــي عــام ‪2003‬م‪ ،‬أعلنــت فيهــا عــن نيتهــا إزالــة‬ ‫مخلفـات اليورانيـوم المن ّضـب والذخائـر غيـر المنفجـرة مـن المناطـق العراقيـة المقصوفـة‪ ،‬وأقـرت‬ ‫فيهـا‪« :‬لدينـا علـى المـدى الطويـل مسـؤولية قانونيـة لتنظيـف العـراق مـن مخلفـات اليورانيـوم‬ ‫المن ّضـب»‪ ،‬لكنهـا غيـرت فيمـا بعـد المسـؤولية القانونيـة إلـى‪« :‬أخلاقيـة»‪ ،‬ومـن ثـم رفضـت أي‬ ‫مسـؤولية‪ ،‬معتبـرة إياهـا بـكل صلافـة مهمـة حكومـة بغـداد‪ .‬لقـد تنـاول تقريـر ‪ UKUWN‬المقـدم‬ ‫للجنـة بالتفصيـل المسـؤولية فـي انتهـاكات القانـون الإنسـاني الدولـي مـن قبـل مسـتخدمي أسـلحة‬ ‫اليورانيـوم‪ ،‬متجاهليـن القوانيـن الدوليـة التـي حظـرت فـي البروتوكـول الإضافـي الأول الملحـق‬ ‫باتفاقيـات جنيـف المـادة (‪ ،)35‬التـي تنـص علـى‪« :‬يحظـر اسـتخدام وسـائل أو اسـاليب القتـال‬ ‫يقصـد بهـا أو قـد يتوقـع منهـا أن تلحـق بالبيئـة الطبيعيـة أضـرارا بالغـة واسـعة الانتشـار وطويلـة‬ ‫الأمـد»‪ .‬ووفقـا للمـادة ‪ 4‬مـن التعليمـات الرسـمية‪ ،‬والمـادة ‪ 7‬مـن قانـون المحكمـة الجنائيـة الدوليـة‪،‬‬ ‫فـإن مـا سـبق يُعـ ُد بـرأي د‪ .‬سـعاد العـزاوي‪« :‬جريمـة ضـد الإنسـانية نتيجـة لتأثيراتـه الصحيـة‬ ‫الضـارة التـي لا تميـز بيـن المدنييـن والعسـكريين‪ ،‬والتـي تسـتمر أضرارهـا لفتـرات طويلـة بعـد‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook