د.أسماء بنت راشد الرويشد المشرفة العامة على مؤسسة آسية للاستشارات والتدريب وموقع آسية الإلكتروني
الطبعة الأولى 1432هـ 2011 -م المملكة العربية السعودية الرياض -الدائري الشرقي -مخرج 15 هاتف - 2549993ناسوخ 2549996 ص .ب 93404الرمز11684 : البريد الحاسوبي: [email protected] ح أسماء راشد الرويشد 1432 ،هـ. فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الرويشد ،أسماء راشد هكذا عاشوا مع القرآن / .أسماء راشد الرويشد -.الرياض 1432 ،هـ 168ص؛ 22 × 17سم ردمك978 - 603 - 00 - 8307 - 7 : أ .العنوان -1القرآن -مباحث عامة ديوي 1432 / 8711 229 رقم الإيداع1432 / 8711 : ردمك978 - 603 - 00 - 8307 - 7 :
قـبـل الـبـدء * يقول الله تعالى في محكم قرآنه :ﮋﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﮊ (). * قال النبي × لعبد الله بن مسعود « :اقرأ عل َّي ،فقال عبد الله :أقر ُأ علي َك وعلي َك ُأنزل؟ قال النبي :نعم ،فقرأت عليه سورة النساء حتى أتي ُت إلى هذه الآ ِية :ﮋﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮊ() ،قال :حسبك الآن ،فالتف ُّت إليه فإذا عيناه تذرفان»(). * فليس شي ٌء أنف ُع للعب ِد في معا ِش ِه ومعا ِد ِه من تدبر القرآ ِن وجم ِع الفك ِر على معاني آياتِ ِه؛ فلا تزا ُل معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل ،وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل ،وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل ،وتبصره بحدود الحلال والحرام، وتوقفه عليها؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل ،وتناديه كلما فترت عزماته: ص.29 : النساء.41 : رواه الشيخان ،وهذا نص البخاري (.)1925/4
هكذا عاشوا مع القرآن تقد َم الرك ُب ،وفات َك الدليل ،فاللحا َق اللحا َق ،والرحي َل الرحي َل(). * إ ّن تأثير القرآن في نفوس المؤمنين إنما يحص ُل بمعانيه لا بأنغامه ،وبمن يتلوه من العاملين به لا بمن جُي ِّوده من المحترفين له ،ولقد زلزل المؤمنون بالقرآن الأر َض يوم زلزلت معانيه نفو َسهم ،وفتحوا به الدنيا يوم فتحت حقا ِئ ُقه عقو َهلم، وسيطروا به على العالم يوم سيطرت مباد ُئه على أخلا ِقهم ورغباتهِ م ،وبهذا فقط ولا شيء سواه ُيعيد المسلمون التاريخ إلى سيرته الأولى(). * إن كان سحر أسلوب القرآن وجمال معانيه؛ يحُ دث مثل هذا ال ّتأثير في نفوس علما َء لا َي ُم ُّتو َن إلى العرب ولا إلى المسلمين بصلة؛ فكيف تكون قوة الحماسة التي تستهوي عرب الحجاز وهم الذين نزلت الآيات بلغتهم الجميلة؟! لقد كانوا لا يسمعون القرآن إلا وتتمل ُك نفو َس ُه ُم انفعالا ٌت هائلة مباغتة، فيظلون في مكانهم وكأنهم قد ُس ِّمروا فيه ،أهذه الآيات الخارقة تأتي من محمد × ذلك الأمي الذي لم ينل ح ًظا من المعرفة؟ كلا ،إن هذا القرآن ليستحيل أن يصدر عن محمد × ،وأنه لا مناص من الاعتراف بأن الله العلي القدير هو الذي أملى تلك الآيات البينات! مدارج السالكين /ابن القيم (.)486 – 485/1 هكذا علمتني الحياة /مصطفى السباعي ،ص.267
بين يدي الكتاب الحمد لله رب العالمين ،والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين ،وبعد: فالقرآن الكريم كلام الله الذي أنزله على خاتم رسله محمد × ،وقد أنزله بِ ِل َسا ِن العر ِب فكان ِذ ْك ًرا و َت رْ ِشي ًفا لهم ،يقول تعالى :ﮋﯖﯗ ﯘﯙﯚﯛ ﯜﮊ() ،وجعله ُم ْع ِج ًزا في البيان ليدوم إعجازه فلا ينقطع على م ِّر الأزمان، يقول تعالى :ﮋﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯪﯫ ﯬﯭﯮ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄﮊ(). وقد تكفل الله تعالى بحفظه ،فقال :ﮋﮗﮘﮙﮚ ﮛﮜﮝﮊ()، فلا يستطيع أح ٌد أن ُيب ِّدله أو َيزيد فيه أو َينقص منه ،وقد جا َء في الحدي ِث عن َد مسل ٍمَ :و َأ ْن َز ْل ُت َع َل ْي َك ِك َتا ًبا لاَ َي ْغ ِس ُل ُه المَْا ُءَ ،ت ْق َر ُؤ ُه َنا ِئماً َو َي ْق َظا َن(). الزخرف.44 : البقرة.24-23 : الحجر.9 : صحيح مسلم (.)158/8
هكذا عاشوا مع القرآن وجعلهسبحانهوتعالى ُم َي َّر ًساللفهموالا ِّدكار،قالتعالى:ﮋﮞﮟﮠ ﮡ ﮢﮣﮤ ﮊ() ،ثم أمرنا بتدبره فقال تعالى :ﮋﭲﭳﭴﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺﮊ() ،وجمع الله سبحانه وتعالى فيه أحكام كل شيء ،قال تعالى :ﮋﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭶﭷ ﭸﮊ(). ولذا اعتنى به َص ْح ُب رسول الله × ،وتابعهم على ذلك السلف الصالح من هذه الأمة؛ تلاوة وحف ًظا وتدب ًرا وفهماً وعمل ًا ،ومع ضعف الأمة في عصورها المتأخرة تراجع الاهتمام بالقرآن الكريم ،حتى صار الأمر عند غالب المسلمين إلى حفظه وتجويده وتلاوته بلا تدبر مع التقصير في العمل به .وقد أنزل الله القرآن وأمرنا بتدبره ،وتكفل لنا بحفظه ،فانشغلنا بحفظه وتركنا تدبره ،قال الحسن« :نزل القرآن ل ُي َت َد َّب َر و ُيعمل به؛ فات ِخذوا تلاوته عملا ،فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن ،وإطالة التأمل ،وجمع الفكر على معاني آياته»(). والتأمل والتدبر كما قال ابن القيم « :تحدي ُق َناظِ ِر القل ِب إلى معانيه ،وجم ُع الفك ِر على ت َد ُّب ِر ِه و َت َع ُّق ِل ِه ،وهو المقصو ُد بإنزالِ ِه ،لا مجر َد تِلا َوتِ ِه بلا فه ٍم ولا تد ُّب ٍر، قال الله تعالى :ﮋﭲﭳﭴﭵﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺﮊ()، القمر.17 : ص.29 : النحل.89 : مدارج السالكين (.)451/1 ص.29 :
هكذا عاشوا مع القرآن وقال تعالى :ﮋﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮊ() ،وقال تعالى: ﮋﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮊ() ،وقال تعالى :ﮋﮅ ﮆﮇﮈ ﮉﮊﮊ()»(). وهذا كتاب جمعت فيه قصصا ومواقف لتدبر النبي × للقرآن ،وكذلك تدبر من بعده من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان من سلف هذه الأمة. كما أوردت فيه قصصا لتأثر بعض المعاصرين بالقرآن ،وتدبرهم له. وجعلت بين يدي ذلك مدخلا تحدثت فيه عن معنى تدبر القرآن ،وأهميته، وأسباب تحصيله. وذيلت الكتاب بملحق أوردت فيه أقوالا لمشاهير عن القرآن الكريم. سائلة الله تعالى أن يتقبل هذا الكتاب ،وأن ينفع به والله المستعان ،وعليه التكلان ،والحمد لله رب العالمين. د .أسماء بنت راشد الرويشد المشرفة العامة على مؤسسة آسية للاستشارات والتدريب وموقع آسية الإلكتروني للتواصل [email protected] : محمد.24 : المؤمنون.68 : الزخرف.3 : مدارج السالكين (.)451/1
المـدخـل طري ُق الو ُصول إلى تدبر القرآن الكريم 111
معنى التدبر َت َد َّب َر الأم َر لغ ًة؛ أيَ :ن َظ َر في عواقبه() ،وقال في تا ِج العرو ِس :في الك َتا ِب ال َع ِزي ِز :ﮋﮣﮤﮥﮊ() َأي َألم َي َت َف َّهموا ما ُخو ِط ُبوا به في ال ُقرآن؟ وكذلك قوله تعالى :ﮋﮑﮒﮓﮊ()َ ،أي َأ َفل َا َي َت َف َّك ُرون ف َيعتبرِ وا ،فال َّتد ُّبر هو ال َّت َف ُّكر وال َّت َف ُّهم(). فيكون معنى تدبر القرآن :هو التفكر والتأمل في كلام الله لأجل فهمه ،وإدراك معانيه وحكمه ،والمراد منه . أساس البلاغة (ج - 1ص .)129 المؤمنون.68 : محمد.24 : تاج العروس (.)2814/1 13
َح ِدْي ُث ال ُقْرآ ِن َع ِن الَّت َدُبّر ذكر الله تعالى في كتابه العزيز علاما ٍت و ِص َفا ٍت؛ تصف حقيقة تدبر القرآن الكريم وتوضحها بجلاء ،يقول الله تعالى آ ِم ًرا عبا َد ُه بتدبر القرآن ،وناه ًيا لهم عن الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة :ﮋﭻ ﭼ ﭽﮊ()() .ويقول ابن القيم في النوع الرابع من أنواع هجر القرآن :هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه() .وفي هذا يقول تعالى :ﮋﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝﯞﯟﯠﮊ () ،قال ابن كثير :وترك تد ُّب ِر ِه و َت َف ُّه ِم ِه ِم ْن ُه ْج َرانِ ِه() ،و َروى ابن كثير عن ابن مسعود في قوله تعالى :ﮋﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸﭹ ﭺﭻﭼ ﮊ() ،قال :والذي نفسي بيده؛ إن ح َّق النساء.82 : تفسير القرآن العظيم /ابن كثير (.)364/2 الفوائد /ابن القيم (.)82/1 الفرقان.30 : تفسير القرآن العظيم /ابن كثير (.(108/6 البقرة.121 : 15
هكذا عاشوا مع القرآن تلاوتِ ِه أن يحُ ِ َّل حلاله ،ويحُ َ ِّر َم حرامه ،ويقرأه كما أنزله الله() .ويقول تعالى :ﮋﭧ ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭶ ﭷﮊ ()َ ،ف ُه ْم بِ ِخلا ِف الكاف ِر الذي ُذ ِّك َر بآيات ربه فاستمر على حاله، كأن لم يسمعها أص َّم أعمى ،قال مجاه ٌد :قوله :ﮋﮝﮞﮟﮠﮡﮊ(): لم يسمعوا ،ولم يبصروا ،ولم يفقهوا شي ًئا ،وقال الحسن البصري :كم ِمن رج ٍل يقرؤها و َخ ِي ُّر عليها أصم أعمى!(). وانظر قوله تعالى :ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭦﮊ() ،فقد وصفهم الله تعالى بسيل الدمع عند البكاء ،ورقة القلب عند سماع القرآن() ،إنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول من هذا القرآن اهتزت مشاعرهم ،ولانت قلوبهم ،وفاضت أعينهم بالدمع تعبي ًرا عن التأثر العميق العنيف بالحق الذي سمعوه ،والذي لا يجدون له في أول الأمر ِك َفا ًء من التعبير إلا الدمع الغزير ،وهي حالة معروفة في النفس البشرية حين يبلغ بها التأثر درج ًة أعلى من أن َي ِف َي بها القو ُل؛ فيفيض الدمع ليؤدي ما لا يؤديه القول ،وليطلق الشحنة الحبيسة من التأثر العميق العنيف ،ثم هم لا يكتفون بهذا الفيض من الدمع ،ولا يقفون موقفا سلب ًيا من الحق الذي تفسير القرآن العظيم /ابن كثير (.)403/1 الأنفال.2 : الفرقان.73 : تفسير القرآن العظيم /ابن كثير (.)131/6 المائدة.83 : تفسير الخازن (.)324/2 16
هكذا عاشوا مع القرآن تأثروا به هذا التأثر عند سماع القرآن ،والشعور بالحق الذي يحمله ،والإحساس بما له من سلطان ،إنهم لا يقفون موقف المتأثر الذي تفيض عيناه بالدمع ثم ينتهي أمره مع هذا الحق! إنما هم يتقدمون ليتخذوا من هذا الحق موق ًفا إيجاب ًّيا صري ًحا، موق َف ال َق ُبو ِل لهذا الحق ،والإيمان به ،والإذعان لسلطانه ،وإعلان هذا الإيمان وهذا الإذعان في لهجة قوية عميقة صريحة(). ويقول تعالى :ﮋﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﮊ() ،قال ابن القيم في الصواعق المرسلة :ذ َّم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة؛ وهي الأماني() ،وعن قتادة قال: إنما هم أمثا ُل البهائم ،لا يعلمون شي ًئا() ،وقال ال َما َو ْر ِد ُّي :والثالث ...يعني :إلا تلاو ًة من غي ِر َف ْه ٍم؛ َقا َل ُه ال َف َّرا ُء وال ِك َسا ِئ ُّي(). قال ابن كثير :وقوله :ﮋﭯﭰ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭷﭸ ﭹﭺﭻ ﮊ() ،أي هذه صفة الأبرار ،عند سماع كلام الجبار، المهيمن العزيز الغفار ،لمَِا يفهمون منه من الوعد والوعيد ،والتخويف والتهديد، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف ،ﮋﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﮊ لمَِا َيرجون و ُيؤ ِّملون من رحمته ولطفه ،فهم مخالفون لغيرهم من الكفار في ظلال القرآن (.)416/2 البقرة.78 : الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة /ابن القيم (.)1049/3 تفسير الطبري (.)260/2 النكت والعيون /الماورد ّي (.)65/1 الزمر.23 : 17
هكذا عاشوا مع القرآن من وجو ٍه ...عددها ابن كثير حتى قال :الثاني :أنهم إذا تليت عليهم آيا ُت الرحم ِن :ﮋﮡ ﮢ ﮣﮊ () ،بأدب وخشية ،ورجاء ومحبة ،وفهم وعلم، كما قال :ﮋﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ ﭮﭯﭰﭱﭲ ﭳ ﭴ ﮊ() ،وقال تعالى :ﮋﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮊ() ،أي :لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها ،بل مصغين إليها ،فاهمين بصيرين بمعانيها؛ فلهذا إنما يعملون بها ،ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم(). وعن التابعي الجليل الحسن البصري قال :إن هذا القرآ َن قد قرأه عبي ٌد وصبيا ٌن لا ِع ْل َم لهم بتأويله ،ولم يتأولوا الأمر من أوله ،قال الله عز وجل :ﮋﭲ ﭳﭴﭵﭶ ﭷﮊ() ،وما تد ُّب ُر آياته إلا اتباعه ،والله يعلم ،أ َما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول :قد قرأ ُت القرآ َن ك َّله فما ُأسقط منه حر ًفا ،وقد والله أسقطه كله ،ما َترى القرآن له في ُخ ُل ٍق ولا عم ٍل، حتى إن أحدهم ليقول :إني لأقرأ السورة في َن َف ٍس واحد ،والله ما هؤلاء بال ُقرا ِء ولا الحُكما ِء ولا ال َو َر َع ِة ،متى كان ِت القرا ُء تقو ُل مث َل هذا؟ لا أكث َر الله في النا ِس مثل هؤلاء(). مريم.58 : الأنفال.2 : الفرقان.73 : تفسير القرآن العظيم /ابن كثير (.)94/7 ص.29 : أخلاق حملة القرآن للآجري (.)39/1 18
هكذا عاشوا مع القرآن فتح َّص َل من استعراض بعض حديث القرآن عن التدب ِر؛ ِع َّد ُة علاما ٍت َت ُد ُّل على حصولِ ِه؛ منها: . 1اجتما ُع القلب والفكر عند قراءته. .2في ُض العين من خشية الله. . 3زياد ُة الخشوع. . 4السجو ُد تعظيماً لله. . 5زياد ُة الإيمان؛ مع الفرح والاستبشار به. َ . 6و َج ُل القل ِب خو ًفا من الله تعالى. فمن وجد واح ًدا من هذه الصفات أو أكثر قد وصل إلى حال التدبر والتفكر بحسبه ،أما من لم يحصل له أ ٌّي من هذه الصفات فنسأل الله ألاَّ يحرمه من لذة تدبر القرآن الكريم. 19
الَّت َدُبُّر ِفي ال ُّسَنّ ِة ال َّشِري َف ِة في السنة الشريفة ما لا يحُ صى كثر ًة من كنو ِز التدبر العملي؛ ابتدا ًء من سي ِد الخل ِق وحبي ِب الح ِّق × ،ومرو ًرا بصحابته البررة ،وانتهاء بالسلف الصالح من التابعين وتابعيهم بإحسان ،وسنضرب صف ًحا عن الآثار التي سيتم سردها في ثنايا الكتاب إيثارا للاختصا ِر ،وعدم الإملا ِل بالتكرا ِر ،فمن ذلك ما َر َوى حذيف ُة َقا َلَ :ص َّل ْي ُت َم َع النَّبِ ِّى × َذا َت َل ْي َل ٍة؛ َفا ْف َت َت َح ا ْل َب َق َر َة َف ُق ْل ُت َي ْر َك ُع ِعنْ َد المِْا َئ ِةُ ،ث َّم َم َىض َف ُق ْل ُتُ :ي َصليِّ بهِ َا فيِ َر ْك َع ٍة؛ َف َم ىَضَ ،ف ُق ْل ُتَ :ي ْر َك ُع بهِ َاُ ،ث َّم ا ْف َت َت َح النِّ َسا َء َف َق َر َأ َهاُ ،ث َّم ا ْف َت َت َح آ َل ِع ْم َرا َن َف َق َر َأ َهاَ ،ي ْق َر ُأ ُمترَ َ ِّسل ًا ،إِ َذا َم َّر بِآ َي ٍة فِي َها َت ْسبِي ٌح َس َّب َحَ ،وإِ َذا َم َّر بِ ُس َؤا ٍل َس َأ َلَ ،وإِ َذا َم َّر بِ َت َع ُّو ٍذ َت َع َّو َذُ ،ث َّم َر َك َع...إلى آخر الحديث() ،وتأ َّم ْل قو َل حذيفة َ « :ي ْق َر ُأ ُمترَ َ ِّسل ًا» ُم ْس َت ْحضرِ ً ا برك َة وقتِ ِه × وكيف قرأ هذه الطوال مترسل ًا؛ وأع َج ْب!. وعن عبد الله بن عمر ٍو قال ،قال رسول الله × :لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث(). صحيح مسلم (.)186/2 صحيح أبي داود (.)262/1 21
هكذا عاشوا مع القرآن وقد قام النبي × ليل ًة بآي ٍة ُي َر ِّد ُد َها حتى أصب َح وهي :ﮋﯯﯰﯱﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﮊ () ،بها يرك ُع ،وبها يسج ُد ،وبها يدعو، فلما أصب َح قال له أبو ذ ٍّر :يا رسو َل اللهِ؛ ما زل َت تقر ُأ هذه الآية حتى أصبح َت! ترك ُع بها ،وتسجد بها ،وتدعو بها ،وقد َع َّل َم َك الل ُه القرآ َن ُك َّل ُه ،لو فع َل هذا بع ُضنا لوجدنا عليه ،قال :إني سأل ُت ربي عز وجل الشفاع َة لأمتي فأعطانيها ،وهي نائل ٌة إن شاء الله من لا يشرك بالله شي ًئا(). المائدة.118 : صحيح البخاري ،صفة الصلاة (.)121/1 22
فضل التدبر وأهميته التدبر هو مفتاح الفهم لكلام الله ،يقول الإمام الزركش ُّي في البرهانُ :ت ْك َر ُه ِق َرا َء ُة القرآ ِن بلا تدب ٍر ،وعليه محل حديث عبد الله بن عمرو :لا َي ْف َق ُه َم ْن قرأ القرآن في أق َل ِم ْن ثلا ٍثَ ...ذ َّم ُه ْم بِإ ْح َكا ِم ألفاظ ِه و َت ْر ِك ال َّت َف ُّه ِم لمَِ َعانِي ِه()َ ،و َها ُه َو النَّبِ ُّي × َي ِص ُف أ ْف َرا ًدا َي ُذ ُّم ُه ْم َف َي ُق ُو ُلَ :خير ُج َنا ٌس ِم َن ِق َب ِل ال َم رْ ِش ِقَ ،يقرؤون القرآ َن لا ُج َيا ِو ْز َت َرا ِقيه ْم َي ْم ُر ُقو َن ِم َن ال ِّد ْي ِن َكماَ َي ْم ُر ُق ال َّس ْه ُم ِم َن ال َّر ِم َّي ِة() ...يعني -والل ُه أعل ُم - أنهم لا يتفقهو َن به حتى َي ِص َل إلى قلوبهم ،لأ َّن الفه َم راج ٌع إلى القل ِب ،فإذا لم َي ِص ْل إلى القل ِب لم يحَْ ُص ْل فيه َف ْه ٌم على حا ٍل ،وإنما َي ِق ُف عن َد محَِ ِّل الأصوا ِت والحرو ِف فقط ،وهو الذي يشتر ُك فيه من يفه ُم ومن لا يفهم(). و َث َب َت َع ْن َعب ِد الل ِه ب ِن َم ْس ُعو ٍد أ َّن َر ُجلا َقا َل َل ُه :إِنيِّ لأَ ْق َر ُأ المُْ َف َّص َل ىِف َر ْك َع ٍة، َف َقا َل َع ْب ُد اللهَِ :ه ًّذا َك َه ِّذ ال ِّش ْع ِر؟! إِ َّن َأ ْق َوا ًما َي ْق َر ُءو َن ا ْل ُق ْرآ َن لاَ ُج َيا ِو ُز َت َرا ِق َي ُه ْمَ ،و َل ِك ْن البرهان في علوم القرآن )455/1( -فصل فى كراهة قراءة القرآن بلا تدبر. صحيح البخاري ( ،)2748/6وقوله« :تراقيهم» جمع َت ْر ُق َو ٍة ،وهي َع ْظ ٌم بي َن َن ْق َر ِة ال َّن ْح ِر وال َعاتِ ِق ،وال ُم َرا ُد أنها لا َت ِص ُل إلى قلوبهم ولا يتأثرون بها. كتاب الاعتصام للشاطبي (.)464/1 23
هكذا عاشوا مع القرآن إِ َذا َو َق َع ىِف ا ْل َق ْل ِب َف َر َس َخ فِي ِه َن َف َع(). و َأ ْخ َر َج الآ ُج ِّر ُّي فيِ «حمَ َ َل ِة ال ُق ْرآ ِن» عن ابن مسعود قال :لا تنثروه نثر ال َّد ْق ِل، ولا تهَ ُ َّذ ْو ُه َه َّذ ال ِّش ْع ِرِ ،ق ُفوا عن َد عجائبه ،و َح ِّر ُكوا به القلو َب ،ولا َي ُك ْن َه ُّم َأ َح ِد ُك ْم آخ ُر السورة () .قال العلماء :والترتي ُل مستح ٌب للتدب ِر ولغيره ،قالوا :يستح ُّب الترتي ُل للأعجمي الذي لا يفه ُم معناه؛ لأن ذلك أقر ُب إلى التوقي ِر والاحترا ِم، وأش ُّد تأثي ًرا في القلب(). ويقول الإمام ابن القيم :لا شي َء أنف ُع للقل ِب ِم ْن قراء ِة القرآ ِن بالتدب ِر والتفك ِر؛ فإنه يور ُث :المحب َة والشو َق والخو َف والرجا َء والإناب َة والتوك َل والر َضا والتفوي َض والشك َر والصب َر ،وسائ َر الأحوا ِل التي بها حيا ُة القل ِب وكما ُله ،وكذلك َي ْز ُج ُر عن جمي ِع الصفا ِت والأفعا ِل المذموم ِة؛ والتي بها فسا ُد القل ِب وهلا ُكه ،فلو َعلم النا ُس ما في قراء ِة القرآ ِن بالتدب ِر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها ،فإذا قرأ ُه بتفك ٍر حتى م َّر بآي ٍة هو محتا ٌج إليها في شفا ِء قلبِ ِه؛ فليكررها ولو مائة مرة ،فقراء ُة آي ٍة بتفك ٍر وتفه ٍم خير من قراء ِة ختم ٍة كامل ٍة بغي ِر تدب ٍر وت َف ُّه ٍم ،وه َو أنف ُع للقل ِب وأدعى إلى حصو ِل الإيما ِن و َذ ْو ِق حلاو ِة القرآن ...فقراءة القرآن بالتفكر هي أص ُل صلا ِح القلب (). وإن قارئ القرآن ل ُي َح ِّد ُث ر َّب ُه تعالى ويناجيه؛ َف ْل َي ِع ما يناجي به.. رواه البخاري ومسلم ،وهذا لفظ مسلم في إحدى رواياته (.)204/2 الإتقان في علوم القرآن (.)282/1 التبيان في آداب حملة القرآن (.)91/1 زاد المعاد (.)323/1 24
هكذا عاشوا مع القرآن وتأمل قوله تعالى :ﮋﮊﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮙﮚ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮊ(): فقاس سبحانه َم ْن حمَ َّ َل ُه كتا َب ُه ليؤ ِم َن به ويتدب َر ُه ويعمل به ويدعو إليه؛ ثم خالف ذلك؛ ولم يحَْ ِم ْل ُه إلا على َظ ْه ِر َق ْل ٍب ،فقرأه به بغي ِر تدب ٍر ولا َت َف ُّه ٍم ولا اتبا ٍع له ولا تحكي ٍم له وعم ٍل بموجبه؛ كحمار على ظهره َزا ِم َل ُة أسفا ٍر لا يدري ما فيها ،وح ُّظه منها حم ُل َها على ظهره ليس إلا ،فحظه من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره ،فهذا المث ُل وإ ْن كا َن قد ُرضب لليهود؛ فهو ُم َتنَا ِو ٌل من حيث المعنى لمَِ ْن حمَ َ َل القرآ َن فتر َك العم َل به ،ولم يؤ ِّد ح َّق ُه ولم َي ْر َع ُه ح َّق رعايته(). الجمعة.5 : الأمثال في القرآن /لابن القيم (ص .)27 25
التدبر والتلاوة ولتتبين أهمية تلاوة القرآن حق التلاوة ؛ تأمل قول ابن القيم في مفتاح دار السعادة بعد أن ذكر بعض الآيات ،ثم قال :فحقيق ُة التلاو ِة في هذ ِه المواض ِع هي ال ِّتلاو ُة ال ُمطلق ُة التام ُة ،وهي تلاو ُة اللف ِظ والمعنى ،فتلاو ُة اللف ِظ جز ٌء من ُمس َّمى التلاو ِة المطلق ِة ،وحقيق ُة اللف ِظ إنما هي الاتبا ُع ،يقالُ :ا ْت ُل َأ َث َر فلا ٍن ،و َت َل ْو ُت َأ َث َر ُه و َق َف ْو ُت ُه و َق َص ْص ُت ُه بمعنىَ :تبِ ْع ُت َخ ْل َف ُه ...وهذه التلاو ُة وسيل ٌة وطريق ُة ،والمقصو ُد التلاو ُة الحقيقي ُة ،وهي تلاو ُة المعنى واتبا ُع ُه تصدي ًقا بخب ِر ِه ،وائتما ًرا بأمره ،وانتهاء بنهيه ،وائتما ًما به ،حيثما قادك انقدت معه ،فتلاو ُة القرآن تتناول تلاوة لفظه ومعناه، وتلاوة المعنى أشرف من مجرد تلاوة اللفظ ،وأهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والآخرة ،فإنهم أهل تلاوة ومتابعة ح ًقا(). مفتاح دار السعادة (.)42/1 27
الفرق بين التدبر والتفسير هناك من يفهم التدبر للقرآن الكريم على أنه تفسير له فحسب ،بينما التدبر هو ثمرة فهم القرآن وتفسيره ،والذي ينبغي على أهل التدبر والتأمل في كلام الل ,ه أن َي ْس َت ِعينُوا بأقوا ِل أه ِل العل ِم في تفسي ِر كتا ِب اللهِ ليكو َن تدبرهم وفهمهم ُم َّت ِس ًقا تما ًما مع مراد الله من كلامه!. فأما التفسير والتأويل فهو من اختصاص أهل العلم ،قال شيخ الإسلام ابن تيميةَ :ف َأ َّما َت ْف ِسي ُر ا ْل ُق ْرآ ِن بِ ُم َج َّر ِد ال َّر ْأ ِي َف َح َرا ٌمَ ...ف َم ْن َقا َل فيِ ا ْل ُق ْرآ ِن بِ َر ْأ ِي ِه َف َق ْد َت َك َّل َف َما لا ِع ْل َم َل ُه بِ ِهَ ،و َس َل َك َغ ْر َي َما ُأ ِم َر بِ ِهَ ،ف َل ْو َأ َّن ُه َأ َصا َب المَْ ْعنَى فيِ َن ْف ِس الأَ ْم ِر َل َكا َن َق ْد َأ ْخ َط َأ؛ لأَ َّن ُه لمَْ َي ْأ ِت الأَ ْم ُر ِم ْن َبابِ ِهَ ،ك َم ْن َح َك َم َبينْ َ النَّا ِس َعلىَ َج ْه ٍل َف ُه َو فيِ النَّا ِر؛ َوإِ ْن َوا َف َق ُح ْك ُم ُه ال َّص َوا َب فيِ َن ْف ِس الأَ ْمرَ ،ل ِك ْن َي ُكو ُن َأ َخ َّف ُج ْر ًما مِمَّ ْن َأ ْخ َط َأ، َو َاللهَ ُّ َأ ْع َل ُم(). أما التدبر؛ فيقول الله تبارك وتعالى عنه في محكم كتابه :ﮋﮞﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮊ() ،أي :فهل من ُم ْع َتبرِ ٍ ُم َّت ِع ٍظ ،يتذك ُر فيعتب ُر بما فيه من ال ِعبرَ ِ مجموع الفتاوى (.)370/13 القمر.17 : 29
هكذا عاشوا مع القرآن وال ِّذ ْكر() ،قال البِ َقا ِع ُّي :وهي إشار ٌة إلى ارتفا ِع ُع ْذ ِر َم ْن َت َع َّل َق باستِ ْص َعا ِب الأمو ِر على زوا ِج ِر ِه وتنبيهاتِ ِه ومواعظِ ِه ،و َي َّد ِعي بعد ذلك استغلاقه؛ فقيل له :إنه ُم َي رَّ ٌس قري ُب ال َمرام ،وهذا فيما يحصل عند التنبيه والتذكير لما عنده؛ بكون الاستجابة بإذن الله تعالى ،وورا َء ذل َك من ال ُم ْش ِك ِل وال ُم َت َشابِ ِه ما لا يتوق ُف علي ِه ما ذكره ،و َح ْس ُب عمو ِم المؤمني َن الإيما ُن بجميعه ،والعم ُل بِ ُم ْح َك ِم ِه ،ثم يفت ُح الله تعالى َف ْه َم ذل ِك على َم ْن شرَ َّ َف ُه بِ ِه وأعلى َد َر َج َته(). تفسير الطبري (.)584/22 نظم الدرر للبقاعي (.)264/8 30
ثمرات تدبر القرآن الكريم وفوائده إن الثمرة العظمى ،والفائدة الكبرى من تدبر كلام الله هي أن يثمر في القلب إيما ًنا ،يدفع صاحبه إلى العمل بمقتضاه ،بحيث يكون رضى الله وحده مبتغاه ،فلا يرى دون ذلك ولا بعده شي ًئا ،إلا أن يكون موصلا إليه أو مم ًرا عليه ،فأما التدبر المجرد دون اعتبا ٍر وعم ٍل فمحصلته في نهاية الأمر رهبن ٌة وسفسطة لم يقصد إليهما الشارع الحكيم من إنزال القرآن الكريم ،فقد نزل ليكون هداية للبشر ،ونبرا ًسا لهم في دياجير الحضارات الأرضية ،ولا يمكن أن يكون القرآن في واقعنا بهذا الوصف إلا بتطبيقه ،ولا َيتأتى تطبيقه إلا بفهمه وتدبره لمعرفة مراد الله من كلامه ،يقول العلامة السعدي :وكلما ازداد العبد تأ ُّمل ًا فيه ازداد علماً وعملا وبصيرة() ،ويقول العلامة العثيمين :فلا يمكن الاتعاظ بما في القرآن بدون فهم معانيه(). ويقول ابن القيم في فوائد التدبر والتفكر :ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن ،وجمَْ ِع الفك ِر على معاني آياته ،فإنها: * ُت ْط ِل ُع العب َد على َم َعالمِ ِ الخي ِر والش ِّر بحذافيرها. تفسير السعدي (.)190 -189/1 تفسير القرآن للعثيمين (.)20/1 31
هكذا عاشوا مع القرآن * وعلى ُطرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما. * وتجعل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة. * وتثبت قواعد الإيمان في قلبه. * و ُت ِري ِه صور َة الدنيا والآخر ِة أو الجن ِة والنا ِر في قلبه. * وتحُ ضره بين الأم ِم ،و ُت ِري ِه أيا َم الله فيهم. * و ُت َبصرِّ ُ ُه مواق َع ال ِعبرَ ِ . * و ُت ْش ِه ُد ُه عدل الله وفضله. * و ُت َع ِّر ُف ُه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله ،وما يحبه وما يبغضه ،وصراطه الموصل إليه. * وقواطع الطريق وآفاته. * وتعرفه النفس وصفاتها. * ومفسدات الأعمال ومصححاتها. * وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار. * وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم. * ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة(). * وأقسا َم الخل ِق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه ،وافتراقهم فيما يفترقون فيه. حتى قال :فلا تزال معانيه – أي القرآن الكريم: مدارج السالكين (.)486 – 485 /1 32
هكذا عاشوا مع القرآن * ُتنْ ِه ُض العب َد إلى ربه بالوع ِد الجمي ِل. * وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب ال َوبِي ِل. * وتهَ ديه في ُظ َل ِم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل. * وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل. * وتبصره بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل. * وتناديه كلما فترت عزماته :تقد َم الرك ُب وفاتك الدليل ،فاللحا َق اللحا َق والرحي َل الرحيل. وفي تأ ُّم ِل القرآن وتد ُّبره وتف ُّهمه أضعا ُف أضعا ُف ما ُذكر من ال ِح َك ِم والفوائد، وبالجمل ِة فهو أعظ ُم الكنو ِزَ ،ط ْل َس ُم ُه الغو ُص بالفكر إلى قرار معانيه() ...حتى أوجز ذلك فقال :وبالجملة ُت َع ِّر ُف ُه – أي الآيا ُت: . 1الر َّب المدع َّو إليه. . 2وطري َق الوصو ِل إليه. .3وما له من الكرام ِة إذا ما َق ِد َم عليه. وتع ِّر ُف ُه فى مقاب ِل ذل َك ثلاث ًة أخرى: . 4ما يدعو إليه الشيطان. . 5والطري َق الموصلة إليه. مدارج السالكين (.)451/1 33
هكذا عاشوا مع القرآن . 6وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه(). ويقول العلامة ال َّس ْع ِد ُّي :إن تد ُّب َر كتا ِب الله: * ِمفتا ٌح للعلو ِم والمعار ِف. * وبه ُيستنت ُج ك ُّل خي ٍر. * و ُتستخرج منه جميع العلوم. * وبه َيزداد الإيمان في القلب و َت ْر َس ُخ شجرته ،فإنه: ُ oيع ِّرف بالر ِّب المعبو ِد. oوما له من صفا ِت الكما ِل. oوما ُينزه عنه من ِسماَ ِت النق ِص. * و ُيع ِّرف الطري َق ال ُم ْو ِص َل َة إليه وصف َة أهلها. * وما لهم عند القدو ِم عليه. * ويع ِّرف العد َّو الذي هو العد ُّو على الحقيقة. * والطري َق الموصل َة إلى العذا ِب ،وصف َة أهلها. * وما لهم عند وجو ِد أسبا ِب العقاب. * وكلما ازداد العبد تأملا فيه؛ ازداد علماً وعملا وبصيرة(). إ ّن َم ْن يتدب ُر القرآ َن الكري َم ح َّق تد ُّبره؛ يحُ َ ِّص ُل من المنافع والمصالح الدنيوية مدارج السالكين (.)452/1 تفسير السعدي (.)189/1 34
هكذا عاشوا مع القرآن والأخروية ما لا يعلمه إلا الله ،و ِمن أعظم ثمرات التدبر وفوائده أن يكون َمظِنَّة ما يلي: * حصول الثبات على دين الله: يقول × « :تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه»() ،فكتاب الله هو أعظم وسائل الثبات للمؤمنين ،ولقد أنزل الله القرآن منجماً مفر ًقا ،وجعل الغاية من ذلك هي تثبيت قلب النبي × ،قال تعالى :ﮋ َو َقا َل ا َّل ِذي َن َك َف ُروا َلولا ُن ِّز َل َع َل ْي ِه ا ْل ُق ْرآ ُن جمُْ َل ًة َوا ِح َد ًةَ ،ك َذلِ َك لِنُ َث ِّب َت بِ ِه ُف َؤا َد َكﮊ () ،ثم أخبر أنه أنزله تثبي ًتا للمؤمنين ،فقال تعالى :ﮋﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﮊ() ،فالقرآن الكريم أعظم مصادر الثبات ،ذلك أنه يزرع الإيمان ويقوي الصلة بالله ،ولذلك دعانا الله سبحانه إلى التدبر فقال :ﮋﭲ ﭳﭴﭵﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺﮊ () ،أي :وليتذكر أصحاب العقول السليمة ما كلفهم الله به() ،فالغاية هي التذكر والاتصال بالله تعالى! الموطأ برواية يحيى الليثي ( ،)899/2قال الألباني :رواه مالك مرسل ًا ،والحاكم من حديث ابن عباس وإسناده حسن ،وله شاهد من حديث جابر خرجته في (سلسلة الأحاديث الصحيحة .)1761 - الفرقان.32 : النحل.102 : ص.29 : التفسير الميسر (.)185/8 35
هكذا عاشوا مع القرآن * تحقيق صحة الأعمال ثم َقبولها: يقول العلامة الألباني :وقد تبين من الكتاب والسنة أن العمل حتى يكون صال ًحا مقبولاً ُيقرب إلى الله سبحانه فلابد من أن يتوفر فيه أمرا ِن ها َّما ِن عظيمان: oأولهما :أن يكون صاحبه قد قصد به وجه الله .Q oوثانيهما :أن يكون موافقا لشرع الله تبارك وتعالى في كتابه ،أو بينه رسوله في سنته ،فإذا اختل واحد من هذين الشرطين لم يكن العمل صالحا ولا مقبولا(). وهذا الأخير -أي الموافقة -لا يعر ُف إلا من خلال معرفة مراد الله لنتبعه، وإلا صار ابتدا ًعا من تلقاء أنفسنا وأهوائنا ،ومراد الله لا ُيعر ُف إلا بتدبر كلامه، ومن عرف مراد الله؛ أوشك أن يعمل به مخل ًصا ف ُيكت ُب له ال َقبول. * حصول اليقين الدافع للعمل: يقول العلامة السعدي :ومن فوائد التدبر لكتاب الله :أنه بذلك يصل العبد إلى درجة اليقي ِن والعلم بأ ّنه كلام الله؛ لأنه يراه يص ِّدق بعضه بع ًضا ،ويوافق بعضه بع ًضا() ،ولهذا لم يملك إخواننا من الجن إذ سمعوه أن قالوا :ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﮊ ()، ولما س ِمعه جم ٌع منهم فتدبروه وفهموه؛ عملوا مباشرة بما يقتضيه هذا الفهم ،يقول التوسل (.)12/1 تفسير السعدي (.)189/1 الجن.2-1 : 36
هكذا عاشوا مع القرآن تعالى :ﮋﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﮊ () . يقول صاحب الظلال :لم يلبثوا أن سارعوا إلى قومهم ،وقد حملت نفوسهم ومشاعرهم منه ما لا تطيق السكوت عليه ،أو التلكؤ في إبلاغه والإنذار به ،وهي حالة من امتلأ حسه بشيء جديد ،وحفلت مشاعره بمؤثر قاهر غلاب، يدفعه دف ًعا إلى الحركة به والاحتفال بشأنه ،وإبلاغه للآخرين في جد واهتمام(). وبقول الطبري في معنى قوله تعالى( :ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭹﭺ)() :ليتد َّبروا ُح َجج الله التي فيه ،وما شرع فيه من شرائعه ،فيتعظوا ويعملوا به(). * حصول التذكرة الجالبة للمنفعة العاجلة والآجلة: فقد حصر الله تعالى الفائدة من إنزال الكتاب فقال :ﮋﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﮊ () ،وقال في موضع آخر :ﮋﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮊ () ،وقال :ﮋﯬﯭﯮ ﮊ () ،وقال عن ابن أم مكتوم :ﮋﭝ الأحقاف.29 : في ظلال القرآن (.)428/6 ص.29 : تفسير الطبري (.)190/21 ص.29 : المدثر.56-54 : الأعلى.10 : 37
هكذا عاشوا مع القرآن ﭞ ﭟ ﭠ ﮊ () ،قال الطبري :يعني :يعتبر فينفعه الاعتبار والاتعاظ()، وقال ال َما َو ْر ِد ُّي :وفي الذكرى وجهان :أحدها :الفقه ،والثاني :العظة() ،وقال ابن تيمية في المجموع :والنفع نوعان :حصول النعمة ،واندفاع النقمة ،ونفس اندفاع النقمة نف ٌع؛ وإن لم يحصل معه نفع آخر ،ونفس المنافع التي يخاف معها عذاب نفع، وكلاهما نفع ،فالنفع تدخل فيه الثلاثة ،والثلاثة تحصل بالذكرى()! وفوائد التدبر وثماره أكثر من ذلك ،ولا يقوم بإحصائها أح ٌد ،ولكن جمِ اعها وخلاصتها أن يقود التدبر صاحبه إلى مرضاة الله ،وأن ينجيه من الهلكة بعذاب الله ،ولا يتحصل ذلك إلا بمعرفة مراد الله في كتابه ،ثم السير على منهاجه وسبيله بلا زيغ ولا نكوص ،والله أعلم. عبس.4 : تفسير الطبري (.)219/24 النكت والعيون للماوردي (.)383/4 مجموع فتاوى ابن تيمية (التفسير .)227/4 38
قاعدة جليلة لابن القيم في الانتفاع بالقرآن يقول ابن القيم :إذا أرد َت الانتفا َع بالقرآن؛ فاجمع قلب َك عند تلاوته وسماعه ،و َأ ْل ِق سم َع َك واحْضرَْ حضو َر َم ْن يخاط ُب ُه بِ ِه َم ْن تكل َم به سبحانه منه إليه؛ فإنه خطا ٌب منه لك على لسان رسوله ،قال تعالي :ﮋﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﮊ () ،وذلك أن تمام التأثير ل َّما كان موقو ًفا على مؤ ٍّث ٍر مقت ٍض ،ومحَ ٍّل قاب ٍل ،وشر ٍط لحصول الأثر ،وانتفاء المانع الذي يمنع منه؛ تضمن ِت الآي ُة بيا َن ذلك ك ِّله بأوجز لف ٍظ و َأ ْب َينِه و َأ َد ِّله على المراد: .1فقوله :ﮋﭡﭢﭣﭤﮊ هو المؤ ِّثر. .2وقوله :ﮋﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﮊ هو ال َم ِح ُّل القابِ ُل ،والمراد به :القلب الحي الذي َي ْع ِقل عن الله؛ كما قال تعالى في سورة يس :ﮋﯲ ﯳ ﯴﯵﯶﯷ ﯸ ﯹﯺﯻ ﯼﮊ () ،أيَ :ح َّي القل ِب. .3وقوله :ﮋﭩﭪﭫﮊ أي :و َّجه سمعه ،وأصغى حا َّس َة سم ِع ِه إلى ما ق.37 : يس.70-69 : 39
هكذا عاشوا مع القرآن ُيقال له ،وهذا شر ُط التأ ُّثر بالكلام. .4وقوله :ﮋﭬﭭﮊ أي شاه ُد القل ِب ،حاض ٌر غي ُر غائ ٍب ،قال ابن ُق َت ْي َب َة :استم َع كتا َب الل ِه وهو شاه ُد القل ِب والفه ِم؛ ليس بغاف ٍل ولا سا ٍه ،وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثير؛ وهو َس ْه ُو القل ِب و َغ ْي َب ُت ُه عن َت َع ُّق ِل ما يقال له، والنظر فيه وتأمله. فإذا َح َص َل المؤث ُر :وهو القرآن ،وال َم ِح ُّل القاب ُل :وهو القل ُب الحي ،و ُو ِج َد الشر ُط :وهو الإصغا ُء ،وانتفى المانع :وهو اشتغا ُل القل ِب و ُذ ُهو ُل ُه عن معنى الخطا ِب ،وانصرافه عنه إلى شي ٍء آخر؛ َح َص َل الأث ُر وهو الانتفا ُع والتذك ُر()! الفوائد (ص .)3 40
الَّث َوا ُب ال ُمَرَّت ُب َعلَى عدد الأ ْحُر ِف و َغْيُر ال ُمَرَّت ِب لقد َر َّت َب الشار ُع الحكي ُم على لسا ِن الحبي ِب × ثوا ًبا على كل حر ٍف ُيتلى من القرآن الكريم ،فعن عبد الله بن مسعود قال :قال رسول الله ׫ :من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسن ٌة ،والحسن ُة بِ َع ْر ِش أمثالها ،لا أقو ُل :ﱹﭑﱸ حرف ،ولكن أل ٌف حر ٌف ،ولا ٌم حر ٌف ،ومي ٌم حر ٌف»(). فأ ُهّيما أفض ُل وأثو ُب :التلاوة بمرتبة التحقيق مع قلة مقدار ما ُيتلى ،أم التلاوة بمرتبة الحدر السريعة لتحصيل كثرة عدد الأحرف؟ إ َّن النظ َر إلى حدي ِث اب ِن مسعو ٍد مجر ًدا َي ُسو ُق إلى أفضلي ِة عد ِد الأحر ِف على التدبر ،لكن ال َفا ِص َل هو فِ ْع ُل النبي × ،ففي صحي ِح البخار ِّي عن َق َتا َد َة قال: سأل ُت أ َن ًسا عن قراءة النبي × فقال« :كان َي ُم ُّد َم ًّدا»() ،وقال شعب ُة :حدثنا أبو جمرة ،قال« :قل ُت لابن عبا ٍس :إني رجل سري ُع ال ِقراءة ،وربما قرأ ُت القرآن في ليل ٍة مر ًة أو مرتين ،فقال اب ُن عباس :لأن أقرأ سور ًة واحد ًة أعج ُب إِليَ َّ ِمن أن أفعل َذلِ َك صحيح الترغيب والترهيب (.)77/2 صحيح البخاري (.)1924/4 41
هكذا عاشوا مع القرآن الذي تفعل!! فإن كنت فاعلا ولا ُب َّد؛ فاقرأ ِقرا َء ًة ُت ْسم ُع ُأ ُذ َن ْيكَ ،وي ِع ْي َها قل ُبك»(). ابن القيم يجيب: يقول ابن القيم في كلا ٍم واض ٍح َن ِفي ٍس :إن ثواب قراءة الترتيل والتد ُّبر أج ُّل وأرفع قد ًرا ،وثواب كثرة القراءة أكثر عد ًدا ،فالأول كمن تصدق بجوهرة عظيمة ،أو أعتق عب ًدا قيم ُته َن ِفي َس ٌة ،والثاني كمن تصد َق بِ َع َد ٍد كثي ٍر من الدراهم ،أو أعتق عد ًدا من العبيد قيم ُت ُهم رخيصة(). وهذا رسول الله × يقوم ليلة كاملة بآية واحدة يتدبرها ،فعن أبي ذ ٍّر قال: صلى رسو ُل الله × ليل ًة؛ فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها (ﯯﯰ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ) ()(). َو َق ْد َأ َقا َم ا ْب ُن ُع َم َر َعلىَ ِح ْف ِظ ا ْل َب َق َر ِة ِسنِي َنَ ،ذ َك َر ُه َمالِ ٌكَ ،و َذلِ َك َأ َّن اللهََّ َت َعالىَ َقا َل :ﮋﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﮊ()َ ،و َقا َل :ﮋﮑ ﮒ ﮓ ﮊ ()َ ،و َقا َل :ﮋﮣﮤﮥﮊ () َ ،و َت َد ُّب ُر ا ْل َكلام ُدو َن َف ْه ِم َم َعانِي ِه غي ُر مُمْ ِك ٍن(). مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي (.)7/1 زاد المعاد (.)339/1 المائدة.118 : مسند أحمد بن حنبل ( ،)149/5قال الشيخ شعيب الأرناءوط :إسناده حسن. ص.29 : النساء.82 : المؤمنون.68 : شرح مقدمة التفسير (.)1 /3 42
هكذا عاشوا مع القرآن وروى القرطبي بسنده عن ابن عمر قال :كان الفاضل من أصحاب رسول الله × في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السور َة أو نحوها ،و ُر ِز ُقوا العمل بالقرآن ،وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآ َن -منهم الصب ُّي والأعمى -ولا ُي ْر َز ُقو َن العم َل به(). و َع ْن أ ِّم المؤمنين َح ْف َص َة بنت الفاروق ؛ َأنهَّ َا َقا َل ْت في طائفة من حدي ٍث عند الإمام مسلم ،عن الحبيب ×َ :و َكا َن َي ْق َر ُأ بِال ُّسو َر ِة َفيرُ َ ِّت ُل َها َح َّتى َت ُكو َن َأ ْط َو َل ِم ْن َأ ْط َو َل ِمنْ َها() ،أي أطو َل في زمن تلاوتِ ِه لها لكونها تلاوة بطيئة؛ ِمن السورة التي َت ُفو ُق َها طولا إذا تلاها غيره لكونها تلاوة سريعة ،والله أعلم. اختيار الإمام النووي : قال النوو ُّي :والاختيا ُر أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص ،فمن كان من أهل ال َف َهم وتدقي ِق الفكر؛ اس ُت ِح َّب له أن يقتص َر على القدر الذي لا يخت ُّل به المقصو ُد من التدبر واستخراج المعاني ،وكذا من كان له شغ ٌل بالعلم وغيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة؛ يستحب له أن يقتصر منه على القدر الذي لا ُخيل بما هو فيه ،ومن لم يكن كذلك فالأولى له الاستكثار ما أمكنه من غير خروج إلى ال َملل ،و لا يقرؤه هذرمة(). تفسير القرطبي (.)40/1 صحيح مسلم (.)164/2 نقله عن النووي ابن حجر في الفتح 97/9 43
هكذا عاشوا مع القرآن ما الفرق؟! والظاهر من فعل السل ِف أنهم كانوا يقيمو َن على السور ِة من القرآ ِن الكري ِم، يتعلمو َن ما فيها من الأحكا ِم والعل ِم حتى تتشربها قلوبهم وعقولهم ،و ُي ْد ِر ُجونهَ َا في أعمالهم حتى تكون واق ًعا تألفه جوارحهم َس ِلي َق ًة و َت َط ُّب ًعا ،فإذا قرأ أح ُد ُه ُم السورة من ال ِّط َوال بعد هذا التدبر الطويل في ليل ٍة واحد ٍة كان تأثره بها شديدا ،وتفاعله معها عظيما ،كيف لا وقد أنفق في تدبرها السنين ،وكابد في فهمها الليالي والأيام، وله عند كل حرف ِع رْ َب ٌة و َع ْر َب ٌة ،وفي كل كلمة فكر ٌة و َخ ْل َجة ،أ َّما أن يكو َن ُك ُّل عه ِد ِه بها هو تلاوتهُ ا هذرم ًة في ليل ٍة واحدة ،دون أن يكو َن َس َل َف منه تد ُّب ٌر لأجزائها وآيتها؛ فهذا هو المذموم. و َر َوى الإما ُم أحم ُد بسنده عن عائشة ؛ أ َّن ُه ُذ ِك َر لها أ َّن نا ًسا يتلون القرآن في اللي ِل مر ًة أو مرتين ،فقالت :أولئك قرؤوا ولم يقرؤوا ،كن ُت أقو ُم مع النبي × ليل َة التمام ،فكان يقرأ سور َة البقر ِة وآ ِل عمرا َن والنسا ِء؛ فلا يم ُّر بآي ٍة فيها تخَ َ ُّو ٌف إلا دعا الله واستعاذ ،ولا يمر بآي ٍة فيها استبشا ٌر إلا دعا الله و َر ِغ َب إليه(). المسند ( ،)92 /6ونقله ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (.)77/1 44
من هو صاحب القرآن ؟ وعند الإمام أحمد بسنده ،عن النبي × :يقال لصاحب القرآن :اقرأ وا ْر َق و َر ِّت ْل كما كنت ُت َر ِّت ُل في الدنيا ،فإ َّن منزل َك عند آخر آية تقرؤها() ولا يوصف القار ُئ بأنه صاح ٌب للقرآ ِن إلا إذا كا َن ملاز ًما له ملازم َة الصاح ِب لصاحبه، وكان على ُخ ُل ِق هذا الصاح ِب وهو القرآ ُن ،فالمرء على دين خليله ،فإذا كان َد ْي َد ُن ُه و ُخ ُل ُق ُه القرآ َن؛ فهو صاحب القرآن ،وإلا فلي َس بصاحبه ،ولولا ذلك لقال ×: يقال لقارئ القرآن :اقرأ ...فتأمل! يقول ابن القيم ( :صاحب القرآن هو العالم به ،العامل بما فيه ،وإن لم يحفظه عن ظهر قلب ،وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل به فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم)(). المسند (.)192/2 كتاب الفوائد لابن القيم. 45
َم َعالِ ُم َعلَى َطِري ِق َت َدُبِّر ال ُقْرآ ِن ال َكِريم إن تدب َر القرآن الكريم َم ْق ِص ٌد أساس َّي من مقاصد نزوله ،فهو السبيل لفهم أحكامه ،وهو الطريق لبيان غاياته ومقاصده؛ فلا ُيفهم القرآن حق الفهم ،ولا ُتعرف مقاصده وغاياته حق المعرفة؛ إلا بالوقوف عند آياته وتدبرها حق التدبر، لكشف ما وراءها من حكم ومعان!. وفي السنة الشريفة من حديث رسول الله ׫ :وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم :إلا نزلت عليه ُم السكين ُة ،وغشيته ُم الرحم ُة ،و َح َّف ْت ُه ُم الملائك ُة ،وذكره ُم الله فيمن عنده »() ،فقد َق َر َن الحدي ُث بين التلاو ِة وال ُمدارسة ،ور َّت َب علي ِهماَ م ًعا :السكين َة والرحم َة و ِرفق َة الملائك ِة و ِذ ْك َر الله لقارئي كتابه!. ومع كثرة من يتلون القرآ َن الكري َم -خصو ًصا في رمضان -فإن الكثير منهم لا يزال يتلوه دون تدبر ولا فهم ،الأمر الذي أدى إلى تفويت المقصد الأساس الذي لأجله أنزل القرآن ،ألا وهو العمل بأحكامه ،واتباع أوامره ،واجتناب نواهيه. صحيح مسلم (.)71/8 47
هكذا عاشوا مع القرآن ولعل الحديث عن كيفية التدبر وطرائقه تفصيلا أن يكون محَِ ُّل ُه في غي ِر هذا ال ُم َصنَّ ِف ،فقد َصنَّ َف فيه كثيرون من أهل العلم ،ولكن لا بأس بأن نطوف بها على عجل؛ إشارة لمن أراد التذكرة ،وهذه إطلال ٌة على بع ِض المعالمِ المهم ِة التي تساع ُد على تدبر القرآن الكريم: أن يكون التدب ُر هو الأصل عند القارئ: فالتدبر هو الأصل في تلاوة القرآن الكريم؛ حتى عند من يريد الحفظ ،فلابد أن يكون له ورد من التدبر مع الحفظ ،لا أن يحفظ القرآن الكريم أولا ثم يبحث عن التدبر ،فقد حذر ابن عمر بالغ التحذير من هذا المنه ِج المعكوس بقوله: ولقد رأيت رجالا ُي ْؤ َتى أح ُدهم القرآ َن قبل الإيما ِن ،فيقر ُأ ما بي َن فاتحِ َ ِة الكتا ِب إلى خاتمتِه ما يدري ما آمره وزاجره ،وما ينبغي أن يقف عنده منه()! وكان هذا منه َج النب ِّي × مع صحابته ،فقد ُروي عن أبي عبد الرحم َن ال ُّس َل ِم ِّي أنه قال :ح َّدثنا الذين كانوا ُيق ِرئوننا القرآن؛ كعثما َن بن عفا َن ،وعب ِد الل ِه ب ِن مسعو ٍد، وغي ُرهما :أنهم كانوا إذا تع َّلموا من النبي × عشر آيا ٍت لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ،قالوا :فتع َّلمنا القرآن والعلم والعمل جميع ًا()، ولهذا كانوا يمكثون في حفظ السورة الواحدة مدة طويلة. الاستعداد للتلاوة ومراعاة آدابها: ومن ذلك ُح ْس ُن اختيار المكان والزمان المناسبين ،والتهيئة الذهنية والبعد عن بحث الواجب الدعوي على حملة القرآن (.)25/1 أخرجه أحمد في مسنده (. )410/5 48
هكذا عاشوا مع القرآن المشغلات ،أما آدا ُب التلاوة فكثيرة معلومة ،لك َّن مجرد استصحابها قبل الشروع في التلاوة مما يهيئ القلب لاستقبال كلام الله ،ومن تهيئة القلب كذلك :أن تكون تلاوة القرآن الكريم بعد طاعة أو ُقربة كصلاة فريضة ،أو اغتناما للحظات ُقر ٍب من الله جل وعلا ،كمن سمع موعظة وتأثر بكلام أهل الصلاح والخير ،أو وقعت له حاجة ألجأته إلى الله تعالى وهو على فتور. استحضار أهمية الفهم والتدبر: واستحضا ُر ِع َظم ثوابهِ ما غي ِر ال ُم َر َّت ِب على الثواب الموعود على عدد الأحرف، وهذا الاستحضار له فائدتان: * الأولى :عدم انشغال البال بفوت الثواب المرتب ،الذي ينصرف له الذهن عادة عند التلاوة. * والثاني :جمع القلب على الانتفاع بما يتلوه اللسان ،فيتواطآن م ًعا على التلاوة، فكأن اللسا َن يجمع الثواب ال ُمر َّت َب على عدد الأحرف ،والقل َب يجمع الثواب غير المرتب بالتدبر! العكوف على قراءة القرآن مع التأمل والنظر والتفكر في آياته: التفك ُر والتدب ُر والنظ ُر والتأم ُل يفت ُح لقارئ كتا ِب الله كثي ًرا من المعاني التي لا يمكن أن يكتسبها إلا من خلال ذلك. ومن الأهمية بمكا ٍن تسجي ُل الخواط ِر والمعاني لحظ َة ورودها ،أو بعد الانتهاء من ِو ْر ِد التلاو ِة مباشرة ،مع الحرص على تطبيق كل آية تمر أثناء القراءة في الواقع العملي بعد ذلك ،قال × في بع ِض حدي ٍث رواه مسلمَ :وا ْل ُق ْرآ ُن ُح َّج ٌة َل َك َأ ْو 49
هكذا عاشوا مع القرآن َع َل ْي َك() ،وهذا كله مما يعين على توارد آيات القرآن على القلب آناء الليل والنهار بعفوية وتلقائية ،يقول ُم َط ِّر ُف بن َع ْب ِد اللهَ ِّ بن ال ِّش ِّخي ِر :إني لأستلقي من الليل على فراشي فأتدبر القرآن ،وأعرض عملي على عمل أهل الجنة؛ فإذا أعما هُلم شديدة :ﮋ ﮌﮍﮎﮏ ﮐﮑﮊ()،ﮋﯟ ﯠﯡ ﯢﯣﮊ()، ﮋﯦﯧ ﯨﯩﯪﯫﯬﮊ () ،فلا أراني فيهم ،فأع ِر ُض نفسي على هذه الآية :ﮋﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﮊ () فأرى القوم مكذبين ،و َأ ُم ُّر بهذه الآية :ﮋ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮊ()؛ فأرجو أن أكون أنا وأنتم يا إخوتاه منهم(). الرجوع إلى كتب التفاسير المعتمدة: والنظر إلى أقوال أهل العلم الواردة فيها ،خصوصا لمن لم يسعفه نظره المجرد وتأمله في القرآن الكريم دون الاستعانة بها ،فقد حوت تلك الكتب كثي ًرا من تفاسير السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم ،كـ(تفسير ابن كثير ،والطبري، والقرطبي) وغيرهم ،فالرجوع إليها عون على تدبر آيات الكتاب وفهمه الفهم السليم .ولا مانع من الاطلاع على التفاسير المختصرة ،خصوصا ما كان بهامش صحيح مسلم (.)140/1 الذاريات.17 : الفرقان.64 : الزمر.9 : المدثر.42 : التوبة.102 : حلية الأولياء (.)198/2 50
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168