Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore هكذا عاشوا مع القران

هكذا عاشوا مع القران

Published by إيمان بنت مانع, 2021-10-25 14:26:35

Description: هكذا عاشوا مع القران

Search

Read the Text Version

‫د‪.‬أسماء بنت راشد الرويشد‬ ‫المشرفة العامة على مؤسسة آسية للاستشارات والتدريب‬ ‫وموقع آسية الإلكتروني‬

‫الطبعة الأولى‬ ‫‪ 1432‬هـ ‪ 2011 -‬م‬ ‫المملكة العربية السعودية‬ ‫الرياض ‪ -‬الدائري الشرقي ‪ -‬مخرج ‪15‬‬ ‫هاتف ‪ - 2549993‬ناسوخ ‪2549996‬‬ ‫ص‪ .‬ب ‪ 93404‬الرمز‪11684 :‬‬ ‫البريد الحاسوبي‪:‬‬ ‫‪[email protected]‬‬ ‫ح أسماء راشد الرويشد‪ 1432 ،‬هـ‪.‬‬ ‫فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر‬ ‫الرويشد‪ ،‬أسماء راشد‬ ‫هكذا عاشوا مع القرآن‪ / .‬أسماء راشد الرويشد ‪ -.‬الرياض‪ 1432 ،‬هـ‬ ‫‪ 168‬ص؛ ‪ 22 × 17‬سم‬ ‫ردمك‪978 - 603 - 00 - 8307 - 7 :‬‬ ‫أ‪ .‬العنوان‬ ‫‪ -1‬القرآن ‪ -‬مباحث عامة ‬ ‫ديوي ‪1432 / 8711 229‬‬ ‫رقم الإيداع‪1432 / 8711 :‬‬ ‫ردمك‪978 - 603 - 00 - 8307 - 7 :‬‬



‫قـبـل الـبـدء‬ ‫ * يقول الله تعالى في محكم قرآنه‪ :‬ﮋﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ‬ ‫ﭸ ﭹ ﭺﮊ ()‪.‬‬ ‫* قال النبي × لعبد الله بن مسعود ‪« :‬اقرأ عل َّي‪ ،‬فقال عبد الله ‪ :‬أقر ُأ‬ ‫علي َك وعلي َك ُأنزل؟ قال النبي ‪ :‬نعم‪ ،‬فقرأت عليه سورة النساء حتى أتي ُت‬ ‫إلى هذه الآ ِية‪ :‬ﮋﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ‬ ‫ﮒﮊ()‪ ،‬قال‪ :‬حسبك الآن‪ ،‬فالتف ُّت إليه فإذا عيناه تذرفان»()‪.‬‬ ‫ * فليس شي ٌء أنف ُع للعب ِد في معا ِش ِه ومعا ِد ِه من تدبر القرآ ِن وجم ِع الفك ِر على‬ ‫معاني آياتِ ِه؛ فلا تزا ُل معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل‪ ،‬وتحذره وتخوفه‬ ‫بوعيده من العذاب الوبيل‪ ،‬وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل‪،‬‬ ‫وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل‪ ،‬وتبصره بحدود الحلال والحرام‪،‬‬ ‫وتوقفه عليها؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل‪ ،‬وتناديه كلما فترت عزماته‪:‬‬ ‫  ص‪.29 :‬‬ ‫  النساء‪.41 :‬‬ ‫ رواه الشيخان‪ ،‬وهذا نص البخاري (‪.)1925/4‬‬ ‫‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫تقد َم الرك ُب‪ ،‬وفات َك الدليل‪ ،‬فاللحا َق اللحا َق‪ ،‬والرحي َل الرحي َل()‪.‬‬ ‫ * إ ّن تأثير القرآن في نفوس المؤمنين إنما يحص ُل بمعانيه لا بأنغامه‪ ،‬وبمن‬ ‫يتلوه من العاملين به لا بمن جُي ِّوده من المحترفين له‪ ،‬ولقد زلزل المؤمنون بالقرآن‬ ‫الأر َض يوم زلزلت معانيه نفو َسهم‪ ،‬وفتحوا به الدنيا يوم فتحت حقا ِئ ُقه عقو َهلم‪،‬‬ ‫وسيطروا به على العالم يوم سيطرت مباد ُئه على أخلا ِقهم ورغباتهِ م‪ ،‬وبهذا فقط ولا‬ ‫شيء سواه ُيعيد المسلمون التاريخ إلى سيرته الأولى()‪.‬‬ ‫* إن كان سحر أسلوب القرآن وجمال معانيه؛ يحُ دث مثل هذا ال ّتأثير في‬ ‫نفوس علما َء لا َي ُم ُّتو َن إلى العرب ولا إلى المسلمين بصلة؛ فكيف تكون قوة الحماسة‬ ‫التي تستهوي عرب الحجاز وهم الذين نزلت الآيات بلغتهم الجميلة؟!‬ ‫لقد كانوا لا يسمعون القرآن إلا وتتمل ُك نفو َس ُه ُم انفعالا ٌت هائلة مباغتة‪،‬‬ ‫فيظلون في مكانهم وكأنهم قد ُس ِّمروا فيه‪ ،‬أهذه الآيات الخارقة تأتي من محمد ×‬ ‫ذلك الأمي الذي لم ينل ح ًظا من المعرفة؟ كلا‪ ،‬إن هذا القرآن ليستحيل أن يصدر‬ ‫عن محمد ×‪ ،‬وأنه لا مناص من الاعتراف بأن الله العلي القدير هو الذي أملى تلك‬ ‫الآيات البينات!‬ ‫ مدارج السالكين‪ /‬ابن القيم (‪.)486 – 485/1‬‬ ‫  هكذا علمتني الحياة‪ /‬مصطفى السباعي‪ ،‬ص‪.267‬‬ ‫‬

‫بين يدي الكتاب‬ ‫الحمد لله رب العالمين‪ ،‬والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين‪ ،‬وبعد‪:‬‬ ‫فالقرآن الكريم كلام الله الذي أنزله على خاتم رسله محمد ×‪ ،‬وقد أنزله‬ ‫بِ ِل َسا ِن العر ِب فكان ِذ ْك ًرا و َت رْ ِشي ًفا لهم‪ ،‬يقول تعالى‪ :‬ﮋﯖﯗ ﯘﯙﯚﯛ‬ ‫ﯜﮊ()‪ ،‬وجعله ُم ْع ِج ًزا في البيان ليدوم إعجازه فلا ينقطع على م ِّر الأزمان‪،‬‬ ‫يقول تعالى‪ :‬ﮋﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯪﯫ ﯬﯭﯮ‬ ‫ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ‬ ‫ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄﮊ()‪.‬‬ ‫وقد تكفل الله تعالى بحفظه‪ ،‬فقال‪ :‬ﮋﮗﮘﮙﮚ ﮛﮜﮝﮊ()‪،‬‬ ‫فلا يستطيع أح ٌد أن ُيب ِّدله أو َيزيد فيه أو َينقص منه‪ ،‬وقد جا َء في الحدي ِث عن َد‬ ‫مسل ٍم‪َ :‬و َأ ْن َز ْل ُت َع َل ْي َك ِك َتا ًبا لاَ َي ْغ ِس ُل ُه المَْا ُء‪َ ،‬ت ْق َر ُؤ ُه َنا ِئماً َو َي ْق َظا َن()‪.‬‬ ‫ الزخرف‪.44 :‬‬ ‫  البقرة‪.24-23 :‬‬ ‫  الحجر‪.9 :‬‬ ‫  صحيح مسلم (‪.)158/8‬‬ ‫‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫وجعلهسبحانهوتعالى ُم َي َّر ًساللفهموالا ِّدكار‪،‬قالتعالى‪:‬ﮋﮞﮟﮠ‬ ‫ﮡ ﮢﮣﮤ ﮊ()‪ ،‬ثم أمرنا بتدبره فقال تعالى‪ :‬ﮋﭲﭳﭴﭵ‬ ‫ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺﮊ()‪ ،‬وجمع الله سبحانه وتعالى فيه أحكام كل‬ ‫شيء‪ ،‬قال تعالى‪ :‬ﮋﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭶﭷ‬ ‫ﭸﮊ()‪.‬‬ ‫ولذا اعتنى به َص ْح ُب رسول الله ×‪ ،‬وتابعهم على ذلك السلف الصالح من‬ ‫هذه الأمة؛ تلاوة وحف ًظا وتدب ًرا وفهماً وعمل ًا‪ ،‬ومع ضعف الأمة في عصورها‬ ‫المتأخرة تراجع الاهتمام بالقرآن الكريم‪ ،‬حتى صار الأمر عند غالب المسلمين إلى‬ ‫حفظه وتجويده وتلاوته بلا تدبر مع التقصير في العمل به‪ .‬وقد أنزل الله القرآن وأمرنا‬ ‫بتدبره‪ ،‬وتكفل لنا بحفظه‪ ،‬فانشغلنا بحفظه وتركنا تدبره‪ ،‬قال الحسن‪« :‬نزل القرآن‬ ‫ل ُي َت َد َّب َر و ُيعمل به؛ فات ِخذوا تلاوته عملا‪ ،‬فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده‬ ‫وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن‪ ،‬وإطالة التأمل‪ ،‬وجمع الفكر على معاني آياته»()‪.‬‬ ‫والتأمل والتدبر كما قال ابن القيم ‪« :‬تحدي ُق َناظِ ِر القل ِب إلى معانيه‪ ،‬وجم ُع‬ ‫الفك ِر على ت َد ُّب ِر ِه و َت َع ُّق ِل ِه‪ ،‬وهو المقصو ُد بإنزالِ ِه‪ ،‬لا مجر َد تِلا َوتِ ِه بلا فه ٍم ولا تد ُّب ٍر‪،‬‬ ‫قال الله تعالى‪ :‬ﮋﭲﭳﭴﭵﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺﮊ()‪،‬‬ ‫ القمر‪.17 :‬‬ ‫  ص‪.29 :‬‬ ‫  النحل‪.89 :‬‬ ‫  مدارج السالكين (‪.)451/1‬‬ ‫ ص‪.29 :‬‬ ‫‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫وقال تعالى‪ :‬ﮋﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮊ()‪ ،‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫ﮋﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮊ()‪ ،‬وقال تعالى‪ :‬ﮋﮅ‬ ‫ﮆﮇﮈ ﮉﮊﮊ()»()‪.‬‬ ‫وهذا كتاب جمعت فيه قصصا ومواقف لتدبر النبي × للقرآن‪ ،‬وكذلك تدبر‬ ‫من بعده من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان من سلف هذه الأمة‪.‬‬ ‫كما أوردت فيه قصصا لتأثر بعض المعاصرين بالقرآن‪ ،‬وتدبرهم له‪.‬‬ ‫وجعلت بين يدي ذلك مدخلا تحدثت فيه عن معنى تدبر القرآن‪ ،‬وأهميته‪،‬‬ ‫وأسباب تحصيله‪.‬‬ ‫وذيلت الكتاب بملحق أوردت فيه أقوالا لمشاهير عن القرآن الكريم‪.‬‬ ‫سائلة الله تعالى أن يتقبل هذا الكتاب‪ ،‬وأن ينفع به‬ ‫والله المستعان‪ ،‬وعليه التكلان‪ ،‬والحمد لله رب العالمين‪.‬‬ ‫د‪ .‬أسماء بنت راشد الرويشد‬ ‫المشرفة العامة على مؤسسة آسية للاستشارات والتدريب‬ ‫وموقع آسية الإلكتروني‬ ‫للتواصل ‪[email protected] :‬‬ ‫ محمد‪.24 :‬‬ ‫ المؤمنون‪.68 :‬‬ ‫ الزخرف‪.3 :‬‬ ‫  مدارج السالكين (‪.)451/1‬‬ ‫‬



‫المـدخـل‬ ‫طري ُق الو ُصول إلى تدبر‬ ‫القرآن الكريم‬ ‫‪111‬‬



‫معنى التدبر‬ ‫َت َد َّب َر الأم َر لغ ًة؛ أي‪َ :‬ن َظ َر في عواقبه()‪ ،‬وقال في تا ِج العرو ِس‪ :‬في الك َتا ِب‬ ‫ال َع ِزي ِز‪ :‬ﮋﮣﮤﮥﮊ() َأي َألم َي َت َف َّهموا ما ُخو ِط ُبوا به في ال ُقرآن؟ وكذلك‬ ‫قوله تعالى‪ :‬ﮋﮑﮒﮓﮊ()‪َ ،‬أي َأ َفل َا َي َت َف َّك ُرون ف َيعتبرِ وا‪ ،‬فال َّتد ُّبر هو‬ ‫ال َّت َف ُّكر وال َّت َف ُّهم()‪.‬‬ ‫فيكون معنى تدبر القرآن‪ :‬هو التفكر والتأمل في كلام الله لأجل فهمه‪ ،‬وإدراك‬ ‫معانيه وحكمه‪ ،‬والمراد منه ‪.‬‬ ‫ أساس البلاغة (ج ‪ - 1‬ص ‪.)129‬‬ ‫  المؤمنون‪.68 :‬‬ ‫  محمد‪.24 :‬‬ ‫  تاج العروس (‪.)2814/1‬‬ ‫‪13‬‬



‫َح ِدْي ُث ال ُقْرآ ِن َع ِن الَّت َدُبّر‬ ‫ذكر الله تعالى في كتابه العزيز علاما ٍت و ِص َفا ٍت؛ تصف حقيقة تدبر القرآن‬ ‫الكريم وتوضحها بجلاء‪ ،‬يقول الله تعالى آ ِم ًرا عبا َد ُه بتدبر القرآن‪ ،‬وناه ًيا لهم‬ ‫عن الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة‪ :‬ﮋﭻ ﭼ‬ ‫ﭽﮊ()()‪ .‬ويقول ابن القيم في النوع الرابع من أنواع هجر القرآن‪ :‬هجر تدبره‬ ‫وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه()‪ .‬وفي هذا يقول تعالى‪ :‬ﮋﯘﯙ ﯚ‬ ‫ﯛ ﯜﯝﯞﯟﯠﮊ ()‪ ،‬قال ابن كثير‪ :‬وترك تد ُّب ِر ِه و َت َف ُّه ِم ِه ِم ْن‬ ‫ُه ْج َرانِ ِه()‪ ،‬و َروى ابن كثير عن ابن مسعود في قوله تعالى‪ :‬ﮋﭴ ﭵ‬ ‫ﭶﭷ ﭸﭹ ﭺﭻﭼ ﮊ()‪ ،‬قال‪ :‬والذي نفسي بيده؛ إن ح َّق‬ ‫  النساء‪.82 :‬‬ ‫  تفسير القرآن العظيم‪ /‬ابن كثير (‪.)364/2‬‬ ‫ الفوائد‪ /‬ابن القيم (‪.)82/1‬‬ ‫ الفرقان‪.30 :‬‬ ‫ تفسير القرآن العظيم‪ /‬ابن كثير (‪.(108/6‬‬ ‫  البقرة‪.121 :‬‬ ‫‪15‬‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫تلاوتِ ِه أن يحُ ِ َّل حلاله‪ ،‬ويحُ َ ِّر َم حرامه‪ ،‬ويقرأه كما أنزله الله()‪ .‬ويقول تعالى‪ :‬ﮋﭧ‬ ‫ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ‬ ‫ﭶ ﭷﮊ ()‪َ ،‬ف ُه ْم بِ ِخلا ِف الكاف ِر الذي ُذ ِّك َر بآيات ربه فاستمر على حاله‪،‬‬ ‫كأن لم يسمعها أص َّم أعمى‪ ،‬قال مجاه ٌد‪ :‬قوله‪ :‬ﮋﮝﮞﮟﮠﮡﮊ()‪:‬‬ ‫لم يسمعوا‪ ،‬ولم يبصروا‪ ،‬ولم يفقهوا شي ًئا‪ ،‬وقال الحسن البصري‪ :‬كم ِمن رج ٍل‬ ‫يقرؤها و َخ ِي ُّر عليها أصم أعمى!()‪.‬‬ ‫وانظر قوله تعالى‪ :‬ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ‬ ‫ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭦﮊ()‪ ،‬فقد وصفهم‬ ‫الله تعالى بسيل الدمع عند البكاء‪ ،‬ورقة القلب عند سماع القرآن()‪ ،‬إنهم إذا سمعوا‬ ‫ما أنزل إلى الرسول من هذا القرآن اهتزت مشاعرهم‪ ،‬ولانت قلوبهم‪ ،‬وفاضت‬ ‫أعينهم بالدمع تعبي ًرا عن التأثر العميق العنيف بالحق الذي سمعوه‪ ،‬والذي لا‬ ‫يجدون له في أول الأمر ِك َفا ًء من التعبير إلا الدمع الغزير‪ ،‬وهي حالة معروفة في‬ ‫النفس البشرية حين يبلغ بها التأثر درج ًة أعلى من أن َي ِف َي بها القو ُل؛ فيفيض الدمع‬ ‫ليؤدي ما لا يؤديه القول‪ ،‬وليطلق الشحنة الحبيسة من التأثر العميق العنيف‪ ،‬ثم‬ ‫هم لا يكتفون بهذا الفيض من الدمع‪ ،‬ولا يقفون موقفا سلب ًيا من الحق الذي‬ ‫ تفسير القرآن العظيم‪ /‬ابن كثير (‪.)403/1‬‬ ‫  الأنفال‪.2 :‬‬ ‫  الفرقان‪.73 :‬‬ ‫  تفسير القرآن العظيم‪ /‬ابن كثير (‪.)131/6‬‬ ‫ المائدة‪.83 :‬‬ ‫ تفسير الخازن (‪.)324/2‬‬ ‫‪16‬‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫تأثروا به هذا التأثر عند سماع القرآن‪ ،‬والشعور بالحق الذي يحمله‪ ،‬والإحساس‬ ‫بما له من سلطان‪ ،‬إنهم لا يقفون موقف المتأثر الذي تفيض عيناه بالدمع ثم ينتهي‬ ‫أمره مع هذا الحق! إنما هم يتقدمون ليتخذوا من هذا الحق موق ًفا إيجاب ًّيا صري ًحا‪،‬‬ ‫موق َف ال َق ُبو ِل لهذا الحق‪ ،‬والإيمان به‪ ،‬والإذعان لسلطانه‪ ،‬وإعلان هذا الإيمان‬ ‫وهذا الإذعان في لهجة قوية عميقة صريحة()‪.‬‬ ‫ويقول تعالى‪ :‬ﮋﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ‬ ‫ﭥﮊ()‪ ،‬قال ابن القيم في الصواعق المرسلة‪ :‬ذ َّم الله المحرفين لكتابه‬ ‫والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة؛ وهي الأماني()‪ ،‬وعن قتادة قال‪:‬‬ ‫إنما هم أمثا ُل البهائم‪ ،‬لا يعلمون شي ًئا()‪ ،‬وقال ال َما َو ْر ِد ُّي‪ :‬والثالث‪ ...‬يعني‪ :‬إلا‬ ‫تلاو ًة من غي ِر َف ْه ٍم؛ َقا َل ُه ال َف َّرا ُء وال ِك َسا ِئ ُّي()‪.‬‬ ‫قال ابن كثير ‪ :‬وقوله‪ :‬ﮋﭯﭰ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶ‬ ‫ﭷﭸ ﭹﭺﭻ ﮊ()‪ ،‬أي هذه صفة الأبرار‪ ،‬عند سماع كلام الجبار‪،‬‬ ‫المهيمن العزيز الغفار‪ ،‬لمَِا يفهمون منه من الوعد والوعيد‪ ،‬والتخويف والتهديد‪،‬‬ ‫تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف‪ ،‬ﮋﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ‬ ‫ﭻﮊ لمَِا َيرجون و ُيؤ ِّملون من رحمته ولطفه‪ ،‬فهم مخالفون لغيرهم من الكفار‬ ‫ في ظلال القرآن (‪.)416/2‬‬ ‫ البقرة‪.78 :‬‬ ‫ الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة‪ /‬ابن القيم (‪.)1049/3‬‬ ‫ تفسير الطبري (‪.)260/2‬‬ ‫  النكت والعيون‪ /‬الماورد ّي (‪.)65/1‬‬ ‫  الزمر‪.23 :‬‬ ‫‪17‬‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫من وجو ٍه ‪ ...‬عددها ابن كثير حتى قال‪ :‬الثاني‪ :‬أنهم إذا تليت عليهم آيا ُت‬ ‫الرحم ِن‪ :‬ﮋﮡ ﮢ ﮣﮊ ()‪ ،‬بأدب وخشية‪ ،‬ورجاء ومحبة‪ ،‬وفهم وعلم‪،‬‬ ‫كما قال‪ :‬ﮋﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ ﭮﭯﭰﭱﭲ‬ ‫ﭳ ﭴ ﮊ()‪ ،‬وقال تعالى‪ :‬ﮋﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ‬ ‫ﮟ ﮠ ﮡ ﮊ()‪ ،‬أي‪ :‬لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها‪ ،‬بل‬ ‫مصغين إليها‪ ،‬فاهمين بصيرين بمعانيها؛ فلهذا إنما يعملون بها‪ ،‬ويسجدون عندها‬ ‫عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم()‪.‬‬ ‫وعن التابعي الجليل الحسن البصري قال‪ :‬إن هذا القرآ َن قد قرأه عبي ٌد‬ ‫وصبيا ٌن لا ِع ْل َم لهم بتأويله‪ ،‬ولم يتأولوا الأمر من أوله‪ ،‬قال الله عز وجل‪ :‬ﮋﭲ‬ ‫ﭳﭴﭵﭶ ﭷﮊ()‪ ،‬وما تد ُّب ُر آياته إلا اتباعه‪ ،‬والله يعلم‪ ،‬أ َما والله‬ ‫ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول‪ :‬قد قرأ ُت القرآ َن ك َّله‬ ‫فما ُأسقط منه حر ًفا‪ ،‬وقد والله أسقطه كله‪ ،‬ما َترى القرآن له في ُخ ُل ٍق ولا عم ٍل‪،‬‬ ‫حتى إن أحدهم ليقول‪ :‬إني لأقرأ السورة في َن َف ٍس واحد‪ ،‬والله ما هؤلاء بال ُقرا ِء‬ ‫ولا الحُكما ِء ولا ال َو َر َع ِة‪ ،‬متى كان ِت القرا ُء تقو ُل مث َل هذا؟ لا أكث َر الله في النا ِس‬ ‫مثل هؤلاء()‪.‬‬ ‫  مريم‪.58 :‬‬ ‫ الأنفال‪.2 :‬‬ ‫  الفرقان‪.73 :‬‬ ‫ تفسير القرآن العظيم‪ /‬ابن كثير (‪.)94/7‬‬ ‫ ص‪.29 :‬‬ ‫ أخلاق حملة القرآن للآجري (‪.)39/1‬‬ ‫‪18‬‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫فتح َّص َل من استعراض بعض حديث القرآن عن التدب ِر؛ ِع َّد ُة علاما ٍت َت ُد ُّل‬ ‫على حصولِ ِه؛ منها‪:‬‬ ‫‪ . 1‬اجتما ُع القلب والفكر عند قراءته‪.‬‬ ‫‪ .2‬في ُض العين من خشية الله‪.‬‬ ‫‪ . 3‬زياد ُة الخشوع‪.‬‬ ‫‪ . 4‬السجو ُد تعظيماً لله‪.‬‬ ‫‪ . 5‬زياد ُة الإيمان؛ مع الفرح والاستبشار به‪.‬‬ ‫‪َ . 6‬و َج ُل القل ِب خو ًفا من الله تعالى‪.‬‬ ‫فمن وجد واح ًدا من هذه الصفات أو أكثر قد وصل إلى حال التدبر والتفكر‬ ‫بحسبه‪ ،‬أما من لم يحصل له أ ٌّي من هذه الصفات فنسأل الله ألاَّ يحرمه من لذة تدبر‬ ‫القرآن الكريم‪.‬‬ ‫‪19‬‬



‫الَّت َدُبُّر ِفي ال ُّسَنّ ِة ال َّشِري َف ِة‬ ‫في السنة الشريفة ما لا يحُ صى كثر ًة من كنو ِز التدبر العملي؛ ابتدا ًء من سي ِد‬ ‫الخل ِق وحبي ِب الح ِّق ×‪ ،‬ومرو ًرا بصحابته البررة‪ ،‬وانتهاء بالسلف الصالح من‬ ‫التابعين وتابعيهم بإحسان‪ ،‬وسنضرب صف ًحا عن الآثار التي سيتم سردها في ثنايا‬ ‫الكتاب إيثارا للاختصا ِر‪ ،‬وعدم الإملا ِل بالتكرا ِر‪ ،‬فمن ذلك ما َر َوى حذيف ُة‬ ‫َقا َل‪َ :‬ص َّل ْي ُت َم َع النَّبِ ِّى × َذا َت َل ْي َل ٍة؛ َفا ْف َت َت َح ا ْل َب َق َر َة َف ُق ْل ُت َي ْر َك ُع ِعنْ َد المِْا َئ ِة‪ُ ،‬ث َّم َم َىض‬ ‫َف ُق ْل ُت‪ُ :‬ي َصليِّ بهِ َا فيِ َر ْك َع ٍة؛ َف َم ىَض‪َ ،‬ف ُق ْل ُت‪َ :‬ي ْر َك ُع بهِ َا‪ُ ،‬ث َّم ا ْف َت َت َح النِّ َسا َء َف َق َر َأ َها‪ُ ،‬ث َّم‬ ‫ا ْف َت َت َح آ َل ِع ْم َرا َن َف َق َر َأ َها‪َ ،‬ي ْق َر ُأ ُمترَ َ ِّسل ًا‪ ،‬إِ َذا َم َّر بِآ َي ٍة فِي َها َت ْسبِي ٌح َس َّب َح‪َ ،‬وإِ َذا َم َّر بِ ُس َؤا ٍل‬ ‫َس َأ َل‪َ ،‬وإِ َذا َم َّر بِ َت َع ُّو ٍذ َت َع َّو َذ‪ُ ،‬ث َّم َر َك َع‪...‬إلى آخر الحديث()‪ ،‬وتأ َّم ْل قو َل حذيفة‬ ‫‪َ « :‬ي ْق َر ُأ ُمترَ َ ِّسل ًا» ُم ْس َت ْحضرِ ً ا برك َة وقتِ ِه × وكيف قرأ هذه الطوال مترسل ًا؛‬ ‫وأع َج ْب!‪.‬‬ ‫وعن عبد الله بن عمر ٍو قال‪ ،‬قال رسول الله ×‪ :‬لا يفقه من قرأ القرآن‬ ‫في أقل من ثلاث()‪.‬‬ ‫  صحيح مسلم (‪.)186/2‬‬ ‫ صحيح أبي داود (‪.)262/1‬‬ ‫‪21‬‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫وقد قام النبي × ليل ًة بآي ٍة ُي َر ِّد ُد َها حتى أصب َح وهي‪ :‬ﮋﯯﯰﯱﯲﯳ‬ ‫ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﮊ ()‪ ،‬بها يرك ُع‪ ،‬وبها يسج ُد‪ ،‬وبها يدعو‪،‬‬ ‫فلما أصب َح قال له أبو ذ ٍّر ‪ :‬يا رسو َل اللهِ؛ ما زل َت تقر ُأ هذه الآية حتى أصبح َت!‬ ‫ترك ُع بها‪ ،‬وتسجد بها‪ ،‬وتدعو بها‪ ،‬وقد َع َّل َم َك الل ُه القرآ َن ُك َّل ُه‪ ،‬لو فع َل هذا بع ُضنا‬ ‫لوجدنا عليه‪ ،‬قال‪ :‬إني سأل ُت ربي عز وجل الشفاع َة لأمتي فأعطانيها‪ ،‬وهي نائل ٌة‬ ‫إن شاء الله من لا يشرك بالله شي ًئا()‪.‬‬ ‫ المائدة‪.118 :‬‬ ‫  صحيح البخاري‪ ،‬صفة الصلاة (‪.)121/1‬‬ ‫‪22‬‬

‫فضل التدبر وأهميته‬ ‫التدبر هو مفتاح الفهم لكلام الله‪ ،‬يقول الإمام الزركش ُّي في البرهان‪ُ :‬ت ْك َر ُه‬ ‫ِق َرا َء ُة القرآ ِن بلا تدب ٍر‪ ،‬وعليه محل حديث عبد الله بن عمرو‪ :‬لا َي ْف َق ُه َم ْن قرأ القرآن‬ ‫في أق َل ِم ْن ثلا ٍث‪َ ...‬ذ َّم ُه ْم بِإ ْح َكا ِم ألفاظ ِه و َت ْر ِك ال َّت َف ُّه ِم لمَِ َعانِي ِه()‪َ ،‬و َها ُه َو النَّبِ ُّي ×‬ ‫َي ِص ُف أ ْف َرا ًدا َي ُذ ُّم ُه ْم َف َي ُق ُو ُل‪َ :‬خير ُج َنا ٌس ِم َن ِق َب ِل ال َم رْ ِش ِق‪َ ،‬يقرؤون القرآ َن لا ُج َيا ِو ْز‬ ‫َت َرا ِقيه ْم َي ْم ُر ُقو َن ِم َن ال ِّد ْي ِن َكماَ َي ْم ُر ُق ال َّس ْه ُم ِم َن ال َّر ِم َّي ِة()‪ ...‬يعني ‪ -‬والل ُه أعل ُم ‪-‬‬ ‫أنهم لا يتفقهو َن به حتى َي ِص َل إلى قلوبهم‪ ،‬لأ َّن الفه َم راج ٌع إلى القل ِب‪ ،‬فإذا لم َي ِص ْل‬ ‫إلى القل ِب لم يحَْ ُص ْل فيه َف ْه ٌم على حا ٍل‪ ،‬وإنما َي ِق ُف عن َد محَِ ِّل الأصوا ِت والحرو ِف‬ ‫فقط‪ ،‬وهو الذي يشتر ُك فيه من يفه ُم ومن لا يفهم()‪.‬‬ ‫و َث َب َت َع ْن َعب ِد الل ِه ب ِن َم ْس ُعو ٍد أ َّن َر ُجلا َقا َل َل ُه‪ :‬إِنيِّ لأَ ْق َر ُأ المُْ َف َّص َل ىِف َر ْك َع ٍة‪،‬‬ ‫َف َقا َل َع ْب ُد اللهِ‪َ :‬ه ًّذا َك َه ِّذ ال ِّش ْع ِر؟! إِ َّن َأ ْق َوا ًما َي ْق َر ُءو َن ا ْل ُق ْرآ َن لاَ ُج َيا ِو ُز َت َرا ِق َي ُه ْم‪َ ،‬و َل ِك ْن‬ ‫ البرهان في علوم القرآن ‪ )455/1( -‬فصل فى كراهة قراءة القرآن بلا تدبر‪.‬‬ ‫  صحيح البخاري (‪ ،)2748/6‬وقوله‪« :‬تراقيهم» جمع َت ْر ُق َو ٍة‪ ،‬وهي َع ْظ ٌم بي َن َن ْق َر ِة ال َّن ْح ِر‬ ‫وال َعاتِ ِق‪ ،‬وال ُم َرا ُد أنها لا َت ِص ُل إلى قلوبهم ولا يتأثرون بها‪.‬‬ ‫  كتاب الاعتصام للشاطبي (‪.)464/1‬‬ ‫‪23‬‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫إِ َذا َو َق َع ىِف ا ْل َق ْل ِب َف َر َس َخ فِي ِه َن َف َع()‪.‬‬ ‫و َأ ْخ َر َج الآ ُج ِّر ُّي فيِ «حمَ َ َل ِة ال ُق ْرآ ِن» عن ابن مسعود قال‪ :‬لا تنثروه نثر ال َّد ْق ِل‪،‬‬ ‫ولا تهَ ُ َّذ ْو ُه َه َّذ ال ِّش ْع ِر‪ِ ،‬ق ُفوا عن َد عجائبه‪ ،‬و َح ِّر ُكوا به القلو َب‪ ،‬ولا َي ُك ْن َه ُّم َأ َح ِد ُك ْم‬ ‫آخ ُر السورة ()‪ .‬قال العلماء‪ :‬والترتي ُل مستح ٌب للتدب ِر ولغيره‪ ،‬قالوا‪ :‬يستح ُّب‬ ‫الترتي ُل للأعجمي الذي لا يفه ُم معناه؛ لأن ذلك أقر ُب إلى التوقي ِر والاحترا ِم‪،‬‬ ‫وأش ُّد تأثي ًرا في القلب()‪.‬‬ ‫ويقول الإمام ابن القيم ‪ :‬لا شي َء أنف ُع للقل ِب ِم ْن قراء ِة القرآ ِن بالتدب ِر‬ ‫والتفك ِر؛ فإنه يور ُث‪ :‬المحب َة والشو َق والخو َف والرجا َء والإناب َة والتوك َل والر َضا‬ ‫والتفوي َض والشك َر والصب َر‪ ،‬وسائ َر الأحوا ِل التي بها حيا ُة القل ِب وكما ُله‪ ،‬وكذلك‬ ‫َي ْز ُج ُر عن جمي ِع الصفا ِت والأفعا ِل المذموم ِة؛ والتي بها فسا ُد القل ِب وهلا ُكه‪ ،‬فلو‬ ‫َعلم النا ُس ما في قراء ِة القرآ ِن بالتدب ِر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها‪ ،‬فإذا قرأ ُه‬ ‫بتفك ٍر حتى م َّر بآي ٍة هو محتا ٌج إليها في شفا ِء قلبِ ِه؛ فليكررها ولو مائة مرة‪ ،‬فقراء ُة‬ ‫آي ٍة بتفك ٍر وتفه ٍم خير من قراء ِة ختم ٍة كامل ٍة بغي ِر تدب ٍر وت َف ُّه ٍم‪ ،‬وه َو أنف ُع للقل ِب‬ ‫وأدعى إلى حصو ِل الإيما ِن و َذ ْو ِق حلاو ِة القرآن ‪ ...‬فقراءة القرآن بالتفكر هي‬ ‫أص ُل صلا ِح القلب ()‪.‬‬ ‫وإن قارئ القرآن ل ُي َح ِّد ُث ر َّب ُه تعالى ويناجيه؛ َف ْل َي ِع ما يناجي به‪..‬‬ ‫ رواه البخاري ومسلم‪ ،‬وهذا لفظ مسلم في إحدى رواياته (‪.)204/2‬‬ ‫ الإتقان في علوم القرآن (‪.)282/1‬‬ ‫ التبيان في آداب حملة القرآن (‪.)91/1‬‬ ‫ زاد المعاد (‪.)323/1‬‬ ‫‪24‬‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫وتأمل قوله تعالى‪ :‬ﮋﮊﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ‬ ‫ﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮙﮚ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮊ()‪:‬‬ ‫فقاس سبحانه َم ْن حمَ َّ َل ُه كتا َب ُه ليؤ ِم َن به ويتدب َر ُه ويعمل به ويدعو إليه؛ ثم خالف‬ ‫ذلك؛ ولم يحَْ ِم ْل ُه إلا على َظ ْه ِر َق ْل ٍب‪ ،‬فقرأه به بغي ِر تدب ٍر ولا َت َف ُّه ٍم ولا اتبا ٍع له ولا‬ ‫تحكي ٍم له وعم ٍل بموجبه؛ كحمار على ظهره َزا ِم َل ُة أسفا ٍر لا يدري ما فيها‪ ،‬وح ُّظه‬ ‫منها حم ُل َها على ظهره ليس إلا‪ ،‬فحظه من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب‬ ‫التي على ظهره‪ ،‬فهذا المث ُل وإ ْن كا َن قد ُرضب لليهود؛ فهو ُم َتنَا ِو ٌل من حيث المعنى‬ ‫لمَِ ْن حمَ َ َل القرآ َن فتر َك العم َل به‪ ،‬ولم يؤ ِّد ح َّق ُه ولم َي ْر َع ُه ح َّق رعايته()‪.‬‬ ‫ الجمعة‪.5 :‬‬ ‫ الأمثال في القرآن‪ /‬لابن القيم (ص ‪.)27‬‬ ‫‪25‬‬



‫التدبر والتلاوة‬ ‫ولتتبين أهمية تلاوة القرآن حق التلاوة ؛ تأمل قول ابن القيم في مفتاح دار‬ ‫السعادة بعد أن ذكر بعض الآيات‪ ،‬ثم قال‪ :‬فحقيق ُة التلاو ِة في هذ ِه المواض ِع هي‬ ‫ال ِّتلاو ُة ال ُمطلق ُة التام ُة‪ ،‬وهي تلاو ُة اللف ِظ والمعنى‪ ،‬فتلاو ُة اللف ِظ جز ٌء من ُمس َّمى‬ ‫التلاو ِة المطلق ِة‪ ،‬وحقيق ُة اللف ِظ إنما هي الاتبا ُع‪ ،‬يقال‪ُ :‬ا ْت ُل َأ َث َر فلا ٍن‪ ،‬و َت َل ْو ُت َأ َث َر ُه‬ ‫و َق َف ْو ُت ُه و َق َص ْص ُت ُه بمعنى‪َ :‬تبِ ْع ُت َخ ْل َف ُه‪ ...‬وهذه التلاو ُة وسيل ٌة وطريق ُة‪ ،‬والمقصو ُد‬ ‫التلاو ُة الحقيقي ُة‪ ،‬وهي تلاو ُة المعنى واتبا ُع ُه تصدي ًقا بخب ِر ِه‪ ،‬وائتما ًرا بأمره‪ ،‬وانتهاء‬ ‫بنهيه‪ ،‬وائتما ًما به‪ ،‬حيثما قادك انقدت معه‪ ،‬فتلاو ُة القرآن تتناول تلاوة لفظه ومعناه‪،‬‬ ‫وتلاوة المعنى أشرف من مجرد تلاوة اللفظ‪ ،‬وأهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء‬ ‫في الدنيا والآخرة‪ ،‬فإنهم أهل تلاوة ومتابعة ح ًقا()‪.‬‬ ‫  مفتاح دار السعادة (‪.)42/1‬‬ ‫‪27‬‬



‫الفرق بين التدبر والتفسير‬ ‫هناك من يفهم التدبر للقرآن الكريم على أنه تفسير له فحسب‪ ،‬بينما التدبر هو‬ ‫ثمرة فهم القرآن وتفسيره‪ ،‬والذي ينبغي على أهل التدبر والتأمل في كلام الل ‪,‬ه أن‬ ‫َي ْس َت ِعينُوا بأقوا ِل أه ِل العل ِم في تفسي ِر كتا ِب اللهِ ليكو َن تدبرهم وفهمهم ُم َّت ِس ًقا تما ًما‬ ‫مع مراد الله من كلامه!‪.‬‬ ‫فأما التفسير والتأويل فهو من اختصاص أهل العلم‪ ،‬قال شيخ الإسلام ابن‬ ‫تيمية‪َ :‬ف َأ َّما َت ْف ِسي ُر ا ْل ُق ْرآ ِن بِ ُم َج َّر ِد ال َّر ْأ ِي َف َح َرا ٌم‪َ ...‬ف َم ْن َقا َل فيِ ا ْل ُق ْرآ ِن بِ َر ْأ ِي ِه َف َق ْد‬ ‫َت َك َّل َف َما لا ِع ْل َم َل ُه بِ ِه‪َ ،‬و َس َل َك َغ ْر َي َما ُأ ِم َر بِ ِه‪َ ،‬ف َل ْو َأ َّن ُه َأ َصا َب المَْ ْعنَى فيِ َن ْف ِس الأَ ْم ِر‬ ‫َل َكا َن َق ْد َأ ْخ َط َأ؛ لأَ َّن ُه لمَْ َي ْأ ِت الأَ ْم ُر ِم ْن َبابِ ِه‪َ ،‬ك َم ْن َح َك َم َبينْ َ النَّا ِس َعلىَ َج ْه ٍل َف ُه َو فيِ‬ ‫النَّا ِر؛ َوإِ ْن َوا َف َق ُح ْك ُم ُه ال َّص َوا َب فيِ َن ْف ِس الأَ ْمر‪َ ،‬ل ِك ْن َي ُكو ُن َأ َخ َّف ُج ْر ًما مِمَّ ْن َأ ْخ َط َأ‪،‬‬ ‫َو َاللهَ ُّ َأ ْع َل ُم()‪.‬‬ ‫أما التدبر؛ فيقول الله تبارك وتعالى عنه في محكم كتابه‪ :‬ﮋﮞﮟﮠ‬ ‫ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮊ()‪ ،‬أي ‪ :‬فهل من ُم ْع َتبرِ ٍ ُم َّت ِع ٍظ‪ ،‬يتذك ُر فيعتب ُر بما فيه من ال ِعبرَ ِ‬ ‫  مجموع الفتاوى (‪.)370/13‬‬ ‫  القمر‪.17 :‬‬ ‫‪29‬‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫وال ِّذ ْكر()‪ ،‬قال البِ َقا ِع ُّي‪ :‬وهي إشار ٌة إلى ارتفا ِع ُع ْذ ِر َم ْن َت َع َّل َق باستِ ْص َعا ِب الأمو ِر‬ ‫على زوا ِج ِر ِه وتنبيهاتِ ِه ومواعظِ ِه‪ ،‬و َي َّد ِعي بعد ذلك استغلاقه؛ فقيل له‪ :‬إنه ُم َي رَّ ٌس‬ ‫قري ُب ال َمرام‪ ،‬وهذا فيما يحصل عند التنبيه والتذكير لما عنده؛ بكون الاستجابة بإذن‬ ‫الله تعالى‪ ،‬وورا َء ذل َك من ال ُم ْش ِك ِل وال ُم َت َشابِ ِه ما لا يتوق ُف علي ِه ما ذكره‪ ،‬و َح ْس ُب‬ ‫عمو ِم المؤمني َن الإيما ُن بجميعه‪ ،‬والعم ُل بِ ُم ْح َك ِم ِه‪ ،‬ثم يفت ُح الله تعالى َف ْه َم ذل ِك على‬ ‫َم ْن شرَ َّ َف ُه بِ ِه وأعلى َد َر َج َته()‪.‬‬ ‫ تفسير الطبري (‪.)584/22‬‬ ‫  نظم الدرر للبقاعي (‪.)264/8‬‬ ‫‪30‬‬

‫ثمرات تدبر القرآن الكريم وفوائده‬ ‫إن الثمرة العظمى‪ ،‬والفائدة الكبرى من تدبر كلام الله هي أن يثمر في القلب‬ ‫إيما ًنا‪ ،‬يدفع صاحبه إلى العمل بمقتضاه‪ ،‬بحيث يكون رضى الله وحده مبتغاه‪ ،‬فلا‬ ‫يرى دون ذلك ولا بعده شي ًئا‪ ،‬إلا أن يكون موصلا إليه أو مم ًرا عليه‪ ،‬فأما التدبر‬ ‫المجرد دون اعتبا ٍر وعم ٍل فمحصلته في نهاية الأمر رهبن ٌة وسفسطة لم يقصد إليهما‬ ‫الشارع الحكيم من إنزال القرآن الكريم‪ ،‬فقد نزل ليكون هداية للبشر‪ ،‬ونبرا ًسا لهم‬ ‫في دياجير الحضارات الأرضية‪ ،‬ولا يمكن أن يكون القرآن في واقعنا بهذا الوصف‬ ‫إلا بتطبيقه‪ ،‬ولا َيتأتى تطبيقه إلا بفهمه وتدبره لمعرفة مراد الله من كلامه‪ ،‬يقول‬ ‫العلامة السعدي‪ :‬وكلما ازداد العبد تأ ُّمل ًا فيه ازداد علماً وعملا وبصيرة()‪ ،‬ويقول‬ ‫العلامة العثيمين ‪ :‬فلا يمكن الاتعاظ بما في القرآن بدون فهم معانيه()‪.‬‬ ‫ويقول ابن القيم في فوائد التدبر والتفكر‪ :‬ليس شيء أنفع للعبد في معاشه‬ ‫ومعاده من تدبر القرآن‪ ،‬وجمَْ ِع الفك ِر على معاني آياته‪ ،‬فإنها‪:‬‬ ‫ * ُت ْط ِل ُع العب َد على َم َعالمِ ِ الخي ِر والش ِّر بحذافيرها‪.‬‬ ‫ تفسير السعدي (‪.)190 -189/1‬‬ ‫ تفسير القرآن للعثيمين (‪.)20/1‬‬ ‫‪31‬‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫ * وعلى ُطرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما‪.‬‬ ‫ * وتجعل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة‪.‬‬ ‫* وتثبت قواعد الإيمان في قلبه‪.‬‬ ‫* و ُت ِري ِه صور َة الدنيا والآخر ِة أو الجن ِة والنا ِر في قلبه‪.‬‬ ‫* وتحُ ضره بين الأم ِم‪ ،‬و ُت ِري ِه أيا َم الله فيهم‪.‬‬ ‫* و ُت َبصرِّ ُ ُه مواق َع ال ِعبرَ ِ ‪.‬‬ ‫ * و ُت ْش ِه ُد ُه عدل الله وفضله‪.‬‬ ‫* و ُت َع ِّر ُف ُه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله‪ ،‬وما يحبه وما يبغضه‪ ،‬وصراطه‬ ‫الموصل إليه‪.‬‬ ‫* وقواطع الطريق وآفاته‪.‬‬ ‫* وتعرفه النفس وصفاتها‪.‬‬ ‫ * ومفسدات الأعمال ومصححاتها‪.‬‬ ‫ * وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار‪.‬‬ ‫ * وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم‪.‬‬ ‫ * ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة()‪.‬‬ ‫* وأقسا َم الخل ِق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه‪ ،‬وافتراقهم فيما يفترقون فيه‪.‬‬ ‫حتى قال‪ :‬فلا تزال معانيه – أي القرآن الكريم‪:‬‬ ‫  مدارج السالكين (‪.)486 – 485 /1‬‬ ‫‪32‬‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫ * ُتنْ ِه ُض العب َد إلى ربه بالوع ِد الجمي ِل‪.‬‬ ‫ * وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب ال َوبِي ِل‪.‬‬ ‫ * وتهَ ديه في ُظ َل ِم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل‪.‬‬ ‫* وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل‪.‬‬ ‫* وتبصره بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء‬ ‫الطويل‪.‬‬ ‫* وتناديه كلما فترت عزماته‪ :‬تقد َم الرك ُب وفاتك الدليل‪ ،‬فاللحا َق اللحا َق‬ ‫والرحي َل الرحيل‪.‬‬ ‫وفي تأ ُّم ِل القرآن وتد ُّبره وتف ُّهمه أضعا ُف أضعا ُف ما ُذكر من ال ِح َك ِم والفوائد‪،‬‬ ‫وبالجمل ِة فهو أعظ ُم الكنو ِز‪َ ،‬ط ْل َس ُم ُه الغو ُص بالفكر إلى قرار معانيه()‪ ...‬حتى‬ ‫أوجز ذلك فقال‪ :‬وبالجملة ُت َع ِّر ُف ُه – أي الآيا ُت‪:‬‬ ‫‪ . 1‬الر َّب المدع َّو إليه‪.‬‬ ‫‪ . 2‬وطري َق الوصو ِل إليه‪.‬‬ ‫‪ .3‬وما له من الكرام ِة إذا ما َق ِد َم عليه‪.‬‬ ‫وتع ِّر ُف ُه فى مقاب ِل ذل َك ثلاث ًة أخرى‪:‬‬ ‫‪ . 4‬ما يدعو إليه الشيطان‪.‬‬ ‫‪ . 5‬والطري َق الموصلة إليه‪.‬‬ ‫ مدارج السالكين (‪.)451/1‬‬ ‫‪33‬‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫‪ . 6‬وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه()‪.‬‬ ‫ويقول العلامة ال َّس ْع ِد ُّي‪ :‬إن تد ُّب َر كتا ِب الله‪:‬‬ ‫* ِمفتا ٌح للعلو ِم والمعار ِف‪.‬‬ ‫ * وبه ُيستنت ُج ك ُّل خي ٍر‪.‬‬ ‫ * و ُتستخرج منه جميع العلوم‪.‬‬ ‫ * وبه َيزداد الإيمان في القلب و َت ْر َس ُخ شجرته‪ ،‬فإنه‪:‬‬ ‫‪ُ o‬يع ِّرف بالر ِّب المعبو ِد‪.‬‬ ‫‪ o‬وما له من صفا ِت الكما ِل‪.‬‬ ‫‪ o‬وما ُينزه عنه من ِسماَ ِت النق ِص‪.‬‬ ‫ * و ُيع ِّرف الطري َق ال ُم ْو ِص َل َة إليه وصف َة أهلها‪.‬‬ ‫* وما لهم عند القدو ِم عليه‪.‬‬ ‫ * ويع ِّرف العد َّو الذي هو العد ُّو على الحقيقة‪.‬‬ ‫ * والطري َق الموصل َة إلى العذا ِب‪ ،‬وصف َة أهلها‪.‬‬ ‫* وما لهم عند وجو ِد أسبا ِب العقاب‪.‬‬ ‫ * وكلما ازداد العبد تأملا فيه؛ ازداد علماً وعملا وبصيرة()‪.‬‬ ‫إ ّن َم ْن يتدب ُر القرآ َن الكري َم ح َّق تد ُّبره؛ يحُ َ ِّص ُل من المنافع والمصالح الدنيوية‬ ‫  مدارج السالكين (‪.)452/1‬‬ ‫  تفسير السعدي (‪.)189/1‬‬ ‫‪34‬‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫والأخروية ما لا يعلمه إلا الله‪ ،‬و ِمن أعظم ثمرات التدبر وفوائده أن يكون َمظِنَّة‬ ‫ما يلي‪:‬‬ ‫* حصول الثبات على دين الله‪:‬‬ ‫يقول × ‪« :‬تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة‬ ‫نبيه»()‪ ،‬فكتاب الله هو أعظم وسائل الثبات للمؤمنين‪ ،‬ولقد أنزل الله القرآن منجماً‬ ‫مفر ًقا‪ ،‬وجعل الغاية من ذلك هي تثبيت قلب النبي ×‪ ،‬قال تعالى‪ :‬ﮋ َو َقا َل ا َّل ِذي َن‬ ‫َك َف ُروا َلولا ُن ِّز َل َع َل ْي ِه ا ْل ُق ْرآ ُن جمُْ َل ًة َوا ِح َد ًة‪َ ،‬ك َذلِ َك لِنُ َث ِّب َت بِ ِه ُف َؤا َد َكﮊ ()‪ ،‬ثم أخبر‬ ‫أنه أنزله تثبي ًتا للمؤمنين‪ ،‬فقال تعالى‪ :‬ﮋﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ‬ ‫ﯷ ﯸ ﯹﮊ()‪ ،‬فالقرآن الكريم أعظم مصادر الثبات‪ ،‬ذلك أنه‬ ‫يزرع الإيمان ويقوي الصلة بالله‪ ،‬ولذلك دعانا الله سبحانه إلى التدبر فقال‪ :‬ﮋﭲ‬ ‫ﭳﭴﭵﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺﮊ ()‪ ،‬أي‪ :‬وليتذكر أصحاب‬ ‫العقول السليمة ما كلفهم الله به()‪ ،‬فالغاية هي التذكر والاتصال بالله تعالى!‬ ‫  الموطأ برواية يحيى الليثي (‪ ،)899/2‬قال الألباني‪ :‬رواه مالك مرسل ًا‪ ،‬والحاكم من حديث‬ ‫ابن عباس وإسناده حسن‪ ،‬وله شاهد من حديث جابر خرجته في (سلسلة الأحاديث‬ ‫الصحيحة ‪.)1761 -‬‬ ‫ الفرقان‪.32 :‬‬ ‫ النحل‪.102 :‬‬ ‫ ص‪.29 :‬‬ ‫ التفسير الميسر (‪.)185/8‬‬ ‫‪35‬‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫* تحقيق صحة الأعمال ثم َقبولها‪:‬‬ ‫يقول العلامة الألباني ‪ :‬وقد تبين من الكتاب والسنة أن العمل حتى يكون‬ ‫صال ًحا مقبولاً ُيقرب إلى الله سبحانه فلابد من أن يتوفر فيه أمرا ِن ها َّما ِن عظيمان‪:‬‬ ‫‪ o‬أولهما‪ :‬أن يكون صاحبه قد قصد به وجه الله ‪.Q‬‬ ‫‪ o‬وثانيهما‪ :‬أن يكون موافقا لشرع الله تبارك وتعالى في كتابه‪ ،‬أو بينه رسوله‬ ‫في سنته‪ ،‬فإذا اختل واحد من هذين الشرطين لم يكن العمل صالحا ولا مقبولا()‪.‬‬ ‫وهذا الأخير ‪ -‬أي الموافقة ‪ -‬لا يعر ُف إلا من خلال معرفة مراد الله لنتبعه‪،‬‬ ‫وإلا صار ابتدا ًعا من تلقاء أنفسنا وأهوائنا‪ ،‬ومراد الله لا ُيعر ُف إلا بتدبر كلامه‪،‬‬ ‫ومن عرف مراد الله؛ أوشك أن يعمل به مخل ًصا ف ُيكت ُب له ال َقبول‪.‬‬ ‫* حصول اليقين الدافع للعمل‪:‬‬ ‫يقول العلامة السعدي ‪ :‬ومن فوائد التدبر لكتاب الله‪ :‬أنه بذلك يصل‬ ‫العبد إلى درجة اليقي ِن والعلم بأ ّنه كلام الله؛ لأنه يراه يص ِّدق بعضه بع ًضا‪ ،‬ويوافق‬ ‫بعضه بع ًضا()‪ ،‬ولهذا لم يملك إخواننا من الجن إذ سمعوه أن قالوا‪ :‬ﮋﭑ ﭒ‬ ‫ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﮊ ()‪،‬‬ ‫ولما س ِمعه جم ٌع منهم فتدبروه وفهموه؛ عملوا مباشرة بما يقتضيه هذا الفهم‪ ،‬يقول‬ ‫ التوسل (‪.)12/1‬‬ ‫ تفسير السعدي (‪.)189/1‬‬ ‫  الجن‪.2-1 :‬‬ ‫‪36‬‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫تعالى‪ :‬ﮋﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﮊ () ‪.‬‬ ‫يقول صاحب الظلال ‪ :‬لم يلبثوا أن سارعوا إلى قومهم‪ ،‬وقد حملت‬ ‫نفوسهم ومشاعرهم منه ما لا تطيق السكوت عليه‪ ،‬أو التلكؤ في إبلاغه والإنذار‬ ‫به‪ ،‬وهي حالة من امتلأ حسه بشيء جديد‪ ،‬وحفلت مشاعره بمؤثر قاهر غلاب‪،‬‬ ‫يدفعه دف ًعا إلى الحركة به والاحتفال بشأنه‪ ،‬وإبلاغه للآخرين في جد واهتمام()‪.‬‬ ‫وبقول الطبري في معنى قوله تعالى‪( :‬ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ‬ ‫ﭹﭺ)()‪ :‬ليتد َّبروا ُح َجج الله التي فيه‪ ،‬وما شرع فيه من شرائعه‪ ،‬فيتعظوا‬ ‫ويعملوا به()‪.‬‬ ‫ * حصول التذكرة الجالبة للمنفعة العاجلة والآجلة‪:‬‬ ‫فقد حصر الله تعالى الفائدة من إنزال الكتاب فقال‪ :‬ﮋﭲ ﭳ ﭴ‬ ‫ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﮊ ()‪ ،‬وقال في موضع آخر‪ :‬ﮋﭵ‬ ‫ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ‬ ‫ﮇﮈ ﮊ ()‪ ،‬وقال‪ :‬ﮋﯬﯭﯮ ﮊ ()‪ ،‬وقال عن ابن أم مكتوم‪ :‬ﮋﭝ‬ ‫ الأحقاف‪.29 :‬‬ ‫ في ظلال القرآن (‪.)428/6‬‬ ‫  ص‪.29 :‬‬ ‫ تفسير الطبري (‪.)190/21‬‬ ‫ ص‪.29 :‬‬ ‫  المدثر‪.56-54 :‬‬ ‫ الأعلى‪.10 :‬‬ ‫‪37‬‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫ﭞ ﭟ ﭠ ﮊ ()‪ ،‬قال الطبري‪ :‬يعني‪ :‬يعتبر فينفعه الاعتبار والاتعاظ()‪،‬‬ ‫وقال ال َما َو ْر ِد ُّي‪ :‬وفي الذكرى وجهان‪ :‬أحدها‪ :‬الفقه‪ ،‬والثاني‪ :‬العظة()‪ ،‬وقال ابن‬ ‫تيمية في المجموع‪ :‬والنفع نوعان‪ :‬حصول النعمة‪ ،‬واندفاع النقمة‪ ،‬ونفس اندفاع‬ ‫النقمة نف ٌع؛ وإن لم يحصل معه نفع آخر‪ ،‬ونفس المنافع التي يخاف معها عذاب نفع‪،‬‬ ‫وكلاهما نفع‪ ،‬فالنفع تدخل فيه الثلاثة‪ ،‬والثلاثة تحصل بالذكرى()!‬ ‫وفوائد التدبر وثماره أكثر من ذلك‪ ،‬ولا يقوم بإحصائها أح ٌد‪ ،‬ولكن جمِ اعها‬ ‫وخلاصتها أن يقود التدبر صاحبه إلى مرضاة الله‪ ،‬وأن ينجيه من الهلكة بعذاب‬ ‫الله‪ ،‬ولا يتحصل ذلك إلا بمعرفة مراد الله في كتابه‪ ،‬ثم السير على منهاجه وسبيله‬ ‫بلا زيغ ولا نكوص‪ ،‬والله أعلم‪.‬‬ ‫ عبس‪.4 :‬‬ ‫ تفسير الطبري (‪.)219/24‬‬ ‫ النكت والعيون للماوردي (‪.)383/4‬‬ ‫  مجموع فتاوى ابن تيمية (التفسير ‪.)227/4‬‬ ‫‪38‬‬

‫قاعدة جليلة لابن القيم في الانتفاع بالقرآن‬ ‫يقول ابن القيم ‪ :‬إذا أرد َت الانتفا َع بالقرآن؛ فاجمع قلب َك عند تلاوته‬ ‫وسماعه‪ ،‬و َأ ْل ِق سم َع َك واحْضرَْ حضو َر َم ْن يخاط ُب ُه بِ ِه َم ْن تكل َم به سبحانه منه إليه؛‬ ‫فإنه خطا ٌب منه لك على لسان رسوله‪ ،‬قال تعالي‪ :‬ﮋﭡﭢﭣﭤﭥﭦ‬ ‫ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﮊ ()‪ ،‬وذلك أن تمام التأثير ل َّما كان موقو ًفا‬ ‫على مؤ ٍّث ٍر مقت ٍض‪ ،‬ومحَ ٍّل قاب ٍل‪ ،‬وشر ٍط لحصول الأثر‪ ،‬وانتفاء المانع الذي يمنع منه؛‬ ‫تضمن ِت الآي ُة بيا َن ذلك ك ِّله بأوجز لف ٍظ و َأ ْب َينِه و َأ َد ِّله على المراد‪:‬‬ ‫‪ .1‬فقوله‪ :‬ﮋﭡﭢﭣﭤﮊ هو المؤ ِّثر‪.‬‬ ‫‪ .2‬وقوله‪ :‬ﮋﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﮊ هو ال َم ِح ُّل القابِ ُل‪ ،‬والمراد به‪ :‬القلب الحي‬ ‫الذي َي ْع ِقل عن الله؛ كما قال تعالى في سورة يس‪ :‬ﮋﯲ ﯳ ﯴﯵﯶﯷ ﯸ‬ ‫ﯹﯺﯻ ﯼﮊ ()‪ ،‬أي‪َ :‬ح َّي القل ِب‪.‬‬ ‫‪ .3‬وقوله‪ :‬ﮋﭩﭪﭫﮊ أي‪ :‬و َّجه سمعه‪ ،‬وأصغى حا َّس َة سم ِع ِه إلى ما‬ ‫  ق‪.37 :‬‬ ‫  يس‪.70-69 :‬‬ ‫‪39‬‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫ُيقال له‪ ،‬وهذا شر ُط التأ ُّثر بالكلام‪.‬‬ ‫‪ .4‬وقوله‪ :‬ﮋﭬﭭﮊ أي شاه ُد القل ِب‪ ،‬حاض ٌر غي ُر غائ ٍب‪ ،‬قال ابن‬ ‫ُق َت ْي َب َة‪ :‬استم َع كتا َب الل ِه وهو شاه ُد القل ِب والفه ِم؛ ليس بغاف ٍل ولا سا ٍه‪ ،‬وهو‬ ‫إشارة إلى المانع من حصول التأثير؛ وهو َس ْه ُو القل ِب و َغ ْي َب ُت ُه عن َت َع ُّق ِل ما يقال له‪،‬‬ ‫والنظر فيه وتأمله‪.‬‬ ‫فإذا َح َص َل المؤث ُر‪ :‬وهو القرآن‪ ،‬وال َم ِح ُّل القاب ُل‪ :‬وهو القل ُب الحي‪ ،‬و ُو ِج َد‬ ‫الشر ُط‪ :‬وهو الإصغا ُء‪ ،‬وانتفى المانع‪ :‬وهو اشتغا ُل القل ِب و ُذ ُهو ُل ُه عن معنى‬ ‫الخطا ِب‪ ،‬وانصرافه عنه إلى شي ٍء آخر؛ َح َص َل الأث ُر وهو الانتفا ُع والتذك ُر()!‬ ‫ الفوائد (ص ‪.)3‬‬ ‫‪40‬‬

‫الَّث َوا ُب ال ُمَرَّت ُب َعلَى عدد الأ ْحُر ِف و َغْيُر ال ُمَرَّت ِب‬ ‫لقد َر َّت َب الشار ُع الحكي ُم على لسا ِن الحبي ِب × ثوا ًبا على كل حر ٍف ُيتلى من‬ ‫القرآن الكريم‪ ،‬فعن عبد الله بن مسعود قال‪ :‬قال رسول الله ×‪« :‬من قرأ حرفا‬ ‫من كتاب الله فله به حسن ٌة‪ ،‬والحسن ُة بِ َع ْر ِش أمثالها‪ ،‬لا أقو ُل‪ :‬ﱹﭑﱸ حرف‪ ،‬ولكن‬ ‫أل ٌف حر ٌف‪ ،‬ولا ٌم حر ٌف‪ ،‬ومي ٌم حر ٌف»()‪.‬‬ ‫فأ ُهّيما أفض ُل وأثو ُب‪ :‬التلاوة بمرتبة التحقيق مع قلة مقدار ما ُيتلى‪ ،‬أم التلاوة‬ ‫بمرتبة الحدر السريعة لتحصيل كثرة عدد الأحرف؟‬ ‫إ َّن النظ َر إلى حدي ِث اب ِن مسعو ٍد مجر ًدا َي ُسو ُق إلى أفضلي ِة عد ِد الأحر ِف على‬ ‫التدبر‪ ،‬لكن ال َفا ِص َل هو فِ ْع ُل النبي ×‪ ،‬ففي صحي ِح البخار ِّي عن َق َتا َد َة قال‪:‬‬ ‫سأل ُت أ َن ًسا عن قراءة النبي × فقال‪« :‬كان َي ُم ُّد َم ًّدا»()‪ ،‬وقال شعب ُة‪ :‬حدثنا أبو‬ ‫جمرة‪ ،‬قال‪« :‬قل ُت لابن عبا ٍس‪ :‬إني رجل سري ُع ال ِقراءة‪ ،‬وربما قرأ ُت القرآن في ليل ٍة‬ ‫مر ًة أو مرتين‪ ،‬فقال اب ُن عباس‪ :‬لأن أقرأ سور ًة واحد ًة أعج ُب إِليَ َّ ِمن أن أفعل َذلِ َك‬ ‫  صحيح الترغيب والترهيب (‪.)77/2‬‬ ‫ صحيح البخاري (‪.)1924/4‬‬ ‫‪41‬‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫الذي تفعل!! فإن كنت فاعلا ولا ُب َّد؛ فاقرأ ِقرا َء ًة ُت ْسم ُع ُأ ُذ َن ْيك‪َ ،‬وي ِع ْي َها قل ُبك»()‪.‬‬ ‫ابن القيم يجيب‪:‬‬ ‫يقول ابن القيم في كلا ٍم واض ٍح َن ِفي ٍس‪ :‬إن ثواب قراءة الترتيل والتد ُّبر‬ ‫أج ُّل وأرفع قد ًرا‪ ،‬وثواب كثرة القراءة أكثر عد ًدا‪ ،‬فالأول كمن تصدق بجوهرة‬ ‫عظيمة‪ ،‬أو أعتق عب ًدا قيم ُته َن ِفي َس ٌة‪ ،‬والثاني كمن تصد َق بِ َع َد ٍد كثي ٍر من الدراهم‪ ،‬أو‬ ‫أعتق عد ًدا من العبيد قيم ُت ُهم رخيصة()‪.‬‬ ‫وهذا رسول الله × يقوم ليلة كاملة بآية واحدة يتدبرها‪ ،‬فعن أبي ذ ٍّر قال‪:‬‬ ‫صلى رسو ُل الله × ليل ًة؛ فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها (ﯯﯰ‬ ‫ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ) ()()‪.‬‬ ‫َو َق ْد َأ َقا َم ا ْب ُن ُع َم َر َعلىَ ِح ْف ِظ ا ْل َب َق َر ِة ِسنِي َن‪َ ،‬ذ َك َر ُه َمالِ ٌك‪َ ،‬و َذلِ َك َأ َّن اللهََّ‬ ‫َت َعالىَ َقا َل‪ :‬ﮋﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﮊ()‪َ ،‬و َقا َل‪ :‬ﮋﮑ ﮒ‬ ‫ﮓ ﮊ ()‪َ ،‬و َقا َل‪ :‬ﮋﮣﮤﮥﮊ () ‪َ ،‬و َت َد ُّب ُر ا ْل َكلام ُدو َن َف ْه ِم َم َعانِي ِه‬ ‫غي ُر مُمْ ِك ٍن()‪.‬‬ ‫ مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي (‪.)7/1‬‬ ‫ زاد المعاد (‪.)339/1‬‬ ‫ المائدة‪.118 :‬‬ ‫ مسند أحمد بن حنبل (‪ ،)149/5‬قال الشيخ شعيب الأرناءوط‪ :‬إسناده حسن‪.‬‬ ‫ ص‪.29 :‬‬ ‫ النساء‪.82 :‬‬ ‫ المؤمنون‪.68 :‬‬ ‫ شرح مقدمة التفسير (‪.)1 /3‬‬ ‫‪42‬‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫وروى القرطبي بسنده عن ابن عمر قال‪ :‬كان الفاضل من أصحاب‬ ‫رسول الله × في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السور َة أو نحوها‪ ،‬و ُر ِز ُقوا‬ ‫العمل بالقرآن‪ ،‬وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآ َن ‪ -‬منهم الصب ُّي والأعمى ‪ -‬ولا‬ ‫ُي ْر َز ُقو َن العم َل به()‪.‬‬ ‫و َع ْن أ ِّم المؤمنين َح ْف َص َة بنت الفاروق ؛ َأنهَّ َا َقا َل ْت في طائفة من حدي ٍث‬ ‫عند الإمام مسلم‪ ،‬عن الحبيب ×‪َ :‬و َكا َن َي ْق َر ُأ بِال ُّسو َر ِة َفيرُ َ ِّت ُل َها َح َّتى َت ُكو َن َأ ْط َو َل‬ ‫ِم ْن َأ ْط َو َل ِمنْ َها()‪ ،‬أي أطو َل في زمن تلاوتِ ِه لها لكونها تلاوة بطيئة؛ ِمن السورة التي‬ ‫َت ُفو ُق َها طولا إذا تلاها غيره لكونها تلاوة سريعة‪ ،‬والله أعلم‪.‬‬ ‫اختيار الإمام النووي ‪:‬‬ ‫قال النوو ُّي ‪ :‬والاختيا ُر أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص‪ ،‬فمن كان‬ ‫من أهل ال َف َهم وتدقي ِق الفكر؛ اس ُت ِح َّب له أن يقتص َر على القدر الذي لا يخت ُّل به‬ ‫المقصو ُد من التدبر واستخراج المعاني‪ ،‬وكذا من كان له شغ ٌل بالعلم وغيره من‬ ‫مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة؛ يستحب له أن يقتصر منه على القدر الذي‬ ‫لا ُخيل بما هو فيه‪ ،‬ومن لم يكن كذلك فالأولى له الاستكثار ما أمكنه من غير خروج‬ ‫إلى ال َملل‪ ،‬و لا يقرؤه هذرمة()‪.‬‬ ‫  تفسير القرطبي (‪.)40/1‬‬ ‫  صحيح مسلم (‪.)164/2‬‬ ‫ نقله عن النووي ابن حجر في الفتح ‪97/9‬‬ ‫‪43‬‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫ما الفرق؟!‬ ‫والظاهر من فعل السل ِف أنهم كانوا يقيمو َن على السور ِة من القرآ ِن الكري ِم‪،‬‬ ‫يتعلمو َن ما فيها من الأحكا ِم والعل ِم حتى تتشربها قلوبهم وعقولهم‪ ،‬و ُي ْد ِر ُجونهَ َا في‬ ‫أعمالهم حتى تكون واق ًعا تألفه جوارحهم َس ِلي َق ًة و َت َط ُّب ًعا‪ ،‬فإذا قرأ أح ُد ُه ُم السورة‬ ‫من ال ِّط َوال بعد هذا التدبر الطويل في ليل ٍة واحد ٍة كان تأثره بها شديدا‪ ،‬وتفاعله‬ ‫معها عظيما‪ ،‬كيف لا وقد أنفق في تدبرها السنين‪ ،‬وكابد في فهمها الليالي والأيام‪،‬‬ ‫وله عند كل حرف ِع رْ َب ٌة و َع ْر َب ٌة‪ ،‬وفي كل كلمة فكر ٌة و َخ ْل َجة‪ ،‬أ َّما أن يكو َن ُك ُّل‬ ‫عه ِد ِه بها هو تلاوتهُ ا هذرم ًة في ليل ٍة واحدة‪ ،‬دون أن يكو َن َس َل َف منه تد ُّب ٌر لأجزائها‬ ‫وآيتها؛ فهذا هو المذموم‪.‬‬ ‫و َر َوى الإما ُم أحم ُد بسنده عن عائشة ؛ أ َّن ُه ُذ ِك َر لها أ َّن نا ًسا يتلون القرآن في‬ ‫اللي ِل مر ًة أو مرتين‪ ،‬فقالت‪ :‬أولئك قرؤوا ولم يقرؤوا‪ ،‬كن ُت أقو ُم مع النبي × ليل َة‬ ‫التمام‪ ،‬فكان يقرأ سور َة البقر ِة وآ ِل عمرا َن والنسا ِء؛ فلا يم ُّر بآي ٍة فيها تخَ َ ُّو ٌف إلا دعا‬ ‫الله واستعاذ‪ ،‬ولا يمر بآي ٍة فيها استبشا ٌر إلا دعا الله و َر ِغ َب إليه()‪.‬‬ ‫ المسند (‪ ،)92 /6‬ونقله ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (‪.)77/1‬‬ ‫‪44‬‬

‫من هو صاحب القرآن ؟‬ ‫وعند الإمام أحمد بسنده‪ ،‬عن النبي ×‪ :‬يقال لصاحب القرآن‪ :‬اقرأ وا ْر َق‬ ‫و َر ِّت ْل كما كنت ُت َر ِّت ُل في الدنيا‪ ،‬فإ َّن منزل َك عند آخر آية تقرؤها() ولا يوصف‬ ‫القار ُئ بأنه صاح ٌب للقرآ ِن إلا إذا كا َن ملاز ًما له ملازم َة الصاح ِب لصاحبه‪،‬‬ ‫وكان على ُخ ُل ِق هذا الصاح ِب وهو القرآ ُن‪ ،‬فالمرء على دين خليله‪ ،‬فإذا كان َد ْي َد ُن ُه‬ ‫و ُخ ُل ُق ُه القرآ َن؛ فهو صاحب القرآن‪ ،‬وإلا فلي َس بصاحبه‪ ،‬ولولا ذلك لقال ×‪:‬‬ ‫يقال لقارئ القرآن‪ :‬اقرأ‪ ...‬فتأمل!‬ ‫يقول ابن القيم ‪( :‬صاحب القرآن هو العالم به‪ ،‬العامل بما فيه‪ ،‬وإن لم‬ ‫يحفظه عن ظهر قلب‪ ،‬وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل به فليس من أهله وإن‬ ‫أقام حروفه إقامة السهم)()‪.‬‬ ‫  المسند (‪.)192/2‬‬ ‫ كتاب الفوائد لابن القيم‪.‬‬ ‫‪45‬‬



‫َم َعالِ ُم َعلَى َطِري ِق َت َدُبِّر ال ُقْرآ ِن ال َكِريم‬ ‫إن تدب َر القرآن الكريم َم ْق ِص ٌد أساس َّي من مقاصد نزوله‪ ،‬فهو السبيل لفهم‬ ‫أحكامه‪ ،‬وهو الطريق لبيان غاياته ومقاصده؛ فلا ُيفهم القرآن حق الفهم‪ ،‬ولا‬ ‫ُتعرف مقاصده وغاياته حق المعرفة؛ إلا بالوقوف عند آياته وتدبرها حق التدبر‪،‬‬ ‫لكشف ما وراءها من حكم ومعان!‪.‬‬ ‫وفي السنة الشريفة من حديث رسول الله ×‪« :‬وما اجتمع قوم في بيت من‬ ‫بيوت الله؛ يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم‪ :‬إلا نزلت عليه ُم السكين ُة‪ ،‬وغشيته ُم‬ ‫الرحم ُة‪ ،‬و َح َّف ْت ُه ُم الملائك ُة‪ ،‬وذكره ُم الله فيمن عنده »()‪ ،‬فقد َق َر َن الحدي ُث بين‬ ‫التلاو ِة وال ُمدارسة‪ ،‬ور َّت َب علي ِهماَ م ًعا‪ :‬السكين َة والرحم َة و ِرفق َة الملائك ِة و ِذ ْك َر الله‬ ‫لقارئي كتابه!‪.‬‬ ‫ومع كثرة من يتلون القرآ َن الكري َم ‪ -‬خصو ًصا في رمضان ‪ -‬فإن الكثير منهم‬ ‫لا يزال يتلوه دون تدبر ولا فهم‪ ،‬الأمر الذي أدى إلى تفويت المقصد الأساس الذي‬ ‫لأجله أنزل القرآن‪ ،‬ألا وهو العمل بأحكامه‪ ،‬واتباع أوامره‪ ،‬واجتناب نواهيه‪.‬‬ ‫  صحيح مسلم (‪.)71/8‬‬ ‫‪47‬‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫ولعل الحديث عن كيفية التدبر وطرائقه تفصيلا أن يكون محَِ ُّل ُه في غي ِر هذا‬ ‫ال ُم َصنَّ ِف‪ ،‬فقد َصنَّ َف فيه كثيرون من أهل العلم‪ ،‬ولكن لا بأس بأن نطوف بها على‬ ‫عجل؛ إشارة لمن أراد التذكرة‪ ،‬وهذه إطلال ٌة على بع ِض المعالمِ المهم ِة التي تساع ُد‬ ‫على تدبر القرآن الكريم‪:‬‬ ‫أن يكون التدب ُر هو الأصل عند القارئ‪:‬‬ ‫فالتدبر هو الأصل في تلاوة القرآن الكريم؛ حتى عند من يريد الحفظ‪ ،‬فلابد‬ ‫أن يكون له ورد من التدبر مع الحفظ‪ ،‬لا أن يحفظ القرآن الكريم أولا ثم يبحث‬ ‫عن التدبر‪ ،‬فقد حذر ابن عمر بالغ التحذير من هذا المنه ِج المعكوس بقوله‪:‬‬ ‫ولقد رأيت رجالا ُي ْؤ َتى أح ُدهم القرآ َن قبل الإيما ِن‪ ،‬فيقر ُأ ما بي َن فاتحِ َ ِة الكتا ِب إلى‬ ‫خاتمتِه ما يدري ما آمره وزاجره‪ ،‬وما ينبغي أن يقف عنده منه()!‬ ‫وكان هذا منه َج النب ِّي × مع صحابته‪ ،‬فقد ُروي عن أبي عبد الرحم َن ال ُّس َل ِم ِّي‬ ‫أنه قال‪ :‬ح َّدثنا الذين كانوا ُيق ِرئوننا القرآن؛ كعثما َن بن عفا َن‪ ،‬وعب ِد الل ِه ب ِن مسعو ٍد‪،‬‬ ‫وغي ُرهما ‪ :‬أنهم كانوا إذا تع َّلموا من النبي × عشر آيا ٍت لم يتجاوزوها حتى‬ ‫يتعلموا ما فيها من العلم والعمل‪ ،‬قالوا‪ :‬فتع َّلمنا القرآن والعلم والعمل جميع ًا()‪،‬‬ ‫ولهذا كانوا يمكثون في حفظ السورة الواحدة مدة طويلة‪.‬‬ ‫الاستعداد للتلاوة ومراعاة آدابها‪:‬‬ ‫ومن ذلك ُح ْس ُن اختيار المكان والزمان المناسبين‪ ،‬والتهيئة الذهنية والبعد عن‬ ‫  بحث الواجب الدعوي على حملة القرآن (‪.)25/1‬‬ ‫  أخرجه أحمد في مسنده (‪. )410/5‬‬ ‫‪48‬‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫المشغلات‪ ،‬أما آدا ُب التلاوة فكثيرة معلومة‪ ،‬لك َّن مجرد استصحابها قبل الشروع‬ ‫في التلاوة مما يهيئ القلب لاستقبال كلام الله‪ ،‬ومن تهيئة القلب كذلك‪ :‬أن تكون‬ ‫تلاوة القرآن الكريم بعد طاعة أو ُقربة كصلاة فريضة‪ ،‬أو اغتناما للحظات ُقر ٍب‬ ‫من الله جل وعلا‪ ،‬كمن سمع موعظة وتأثر بكلام أهل الصلاح والخير‪ ،‬أو وقعت‬ ‫له حاجة ألجأته إلى الله تعالى وهو على فتور‪.‬‬ ‫استحضار أهمية الفهم والتدبر‪:‬‬ ‫واستحضا ُر ِع َظم ثوابهِ ما غي ِر ال ُم َر َّت ِب على الثواب الموعود على عدد الأحرف‪،‬‬ ‫وهذا الاستحضار له فائدتان‪:‬‬ ‫* الأولى‪ :‬عدم انشغال البال بفوت الثواب المرتب‪ ،‬الذي ينصرف له الذهن‬ ‫عادة عند التلاوة‪.‬‬ ‫* والثاني‪ :‬جمع القلب على الانتفاع بما يتلوه اللسان‪ ،‬فيتواطآن م ًعا على التلاوة‪،‬‬ ‫فكأن اللسا َن يجمع الثواب ال ُمر َّت َب على عدد الأحرف‪ ،‬والقل َب يجمع الثواب غير‬ ‫المرتب بالتدبر!‬ ‫العكوف على قراءة القرآن مع التأمل والنظر والتفكر في آياته‪:‬‬ ‫التفك ُر والتدب ُر والنظ ُر والتأم ُل يفت ُح لقارئ كتا ِب الله كثي ًرا من المعاني التي لا‬ ‫يمكن أن يكتسبها إلا من خلال ذلك‪.‬‬ ‫ومن الأهمية بمكا ٍن تسجي ُل الخواط ِر والمعاني لحظ َة ورودها‪ ،‬أو بعد الانتهاء‬ ‫من ِو ْر ِد التلاو ِة مباشرة‪ ،‬مع الحرص على تطبيق كل آية تمر أثناء القراءة في الواقع‬ ‫العملي بعد ذلك‪ ،‬قال × في بع ِض حدي ٍث رواه مسلم‪َ :‬وا ْل ُق ْرآ ُن ُح َّج ٌة َل َك َأ ْو‬ ‫‪49‬‬

‫هكذا عاشوا مع القرآن‬ ‫َع َل ْي َك()‪ ،‬وهذا كله مما يعين على توارد آيات القرآن على القلب آناء الليل والنهار‬ ‫بعفوية وتلقائية‪ ،‬يقول ُم َط ِّر ُف بن َع ْب ِد اللهَ ِّ بن ال ِّش ِّخي ِر‪ :‬إني لأستلقي من الليل على‬ ‫فراشي فأتدبر القرآن‪ ،‬وأعرض عملي على عمل أهل الجنة؛ فإذا أعما هُلم شديدة‪ :‬ﮋ‬ ‫ﮌﮍﮎﮏ ﮐﮑﮊ()‪،‬ﮋﯟ ﯠﯡ ﯢﯣﮊ()‪،‬‬ ‫ﮋﯦﯧ ﯨﯩﯪﯫﯬﮊ ()‪ ،‬فلا أراني فيهم‪ ،‬فأع ِر ُض نفسي على‬ ‫هذه الآية‪ :‬ﮋﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﮊ () فأرى القوم مكذبين‪ ،‬و َأ ُم ُّر بهذه الآية‪ :‬ﮋ‬ ‫ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮊ()؛ فأرجو أن أكون أنا‬ ‫وأنتم يا إخوتاه منهم()‪.‬‬ ‫الرجوع إلى كتب التفاسير المعتمدة‪:‬‬ ‫والنظر إلى أقوال أهل العلم الواردة فيها‪ ،‬خصوصا لمن لم يسعفه نظره المجرد‬ ‫وتأمله في القرآن الكريم دون الاستعانة بها‪ ،‬فقد حوت تلك الكتب كثي ًرا من‬ ‫تفاسير السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم‪ ،‬كـ(تفسير ابن كثير‪ ،‬والطبري‪،‬‬ ‫والقرطبي) وغيرهم‪ ،‬فالرجوع إليها عون على تدبر آيات الكتاب وفهمه الفهم‬ ‫السليم‪ .‬ولا مانع من الاطلاع على التفاسير المختصرة‪ ،‬خصوصا ما كان بهامش‬ ‫  صحيح مسلم (‪.)140/1‬‬ ‫ الذاريات‪.17 :‬‬ ‫ الفرقان‪.64 :‬‬ ‫ الزمر‪.9 :‬‬ ‫ المدثر‪.42 :‬‬ ‫  التوبة‪.102 :‬‬ ‫  حلية الأولياء (‪.)198/2‬‬ ‫‪50‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook