المقدمة باب الخوف الحديث الحادي بعد الأربعمائة عن أنس رضي الله عنه َقالَ :خطبنا َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة َما َس ِم ْع ُت ِمثلها ق ّطَ ،ف َقالَ(( :لَ ْو َت ْع َل ُمو َن َما أ ْعلَ ُمَ ،لض ِح ْك ُت ْم َقلِي ًل َو َل َب َكي ُت ْم َك ِثي ًرا)) َف َغ َّطى أ ْص َحا ُب َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم َو ُجو َه ُه ْمَ ،ولَ ُه ْم َخ َنين ُم َّت َفق َع َلي ِه وفي روايةَ :بلَ َغ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم َع ْن أَ ْص َحابِ ِه َش ْيء َف َخ َط َب َف َقالَُ (( :ع ِر َض ْت َعلَ َّي ال َج َّن ُة َوال َّنا ُر َف َل ْم أ َر َكال َيو ِم في ال َخي ِر َوال َّشر َولَ ْو َت ْعلَمو َن َما أعلَ ُم لَ َض ِح ْك ُت ْم َقلِي ًل َولَ َب َك ْي ُت ْم َك ِثي ًرا)) َف َما أ َتى َعلَى أ ْص َحا ِب َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم َي ْوم أَ َشد ِم ْن ُهَ ،غ َّط ْوا ُر ُؤو َس ُه ْم َولَ ُه ْم َخ ِنين شرح الحديث \"ما سمعت مثلها قط\" أي :في الوعظ والزجر والتخويف فقال \":لو تعلمون ما أعلم\" من عظمة الله وشدة عقابه ،وأحوال الآخرة وأهوالها ،وصفات النار وما فيها من العذاب \"لضحكتم قليلً ولبكيتم كثيراً\" وهذا حال أهل الخشية من الله تعالى ،أنهم يخافون
وكان ابن عمر رضي الله عنه يقول :لو أعلم أنه قبلت لي سجدة واحدة لم أبا ِل فغطى أصحاب رسول الله ﷺ وجوههم ولهم خنين ،أي :بكاء مع غنة وصوت ،كأنه يستنشق الصوت من الأنف فينبغي على العبد أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة؛ لأن أهل الجنة قالوا{ :ا ْل َح ْم ُد لِ َِّ ِل ا ّلَ ِذي أَ ْذ َه َب َع َّنا ا ْل َح َز َن} [فاطر[ 34: فليخف أن يكون من أصحاب النار ،فإن من صفة أهل الجنة التي ذكرها الله تعالى أنهم يخافون ،وأنهم في حال من الوجل والخشية والإشفاق ولا يرد على هذا أن المسلمين الله ينجيهم من النار ،وأنهم لو يعلمون ما لهم من النعيم لضحكوا وسروا بذلك ،فإن العبد لا يدري بأي شيء يختم له وفي الحدي ِث :أ َّن النب َّي صلَّى اللهِ عليه وس َلّم أعظ ُم ال َّناس َخشي ًة لربه؛ لأ َّن َخشي َة اللهِ إ َّنما تكو ُن على ِمقدا ِر ال ِعل ِم ِبه ،ول َّما لم َيعل ْم أحد ك ِعل ِم النبي صلَّى الله عليه وس ّلَ َم ،لم َيخ َش ك َخشيتِه ،وفيه :فضلُ ال َّصحاب ِة و ُبكا ُؤهم عن َد موعظ ِة النبي صلَّى الله عليه وس َّل َم لهم .وفيه الحث على البكاء ،والتحذير من إكثار الضحك
الحديث الثاني بعد الأربعمائة عن المقداد رضي الله عنه َقالَ :س ِم ْع ُت َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ (( :ت ْد َنى ال َّش ْم ُس َي ْو َم القِ َيا َم ِة ِم َن ال َخ ْل ِق َح َّتى َت ُكو َن ِم ْن ُه ْم َك ِم ْق َدا ِر ِميل)) َقالَ ُس َل ْيم ب ُن عا ِمر الراوي عن المقدادَ :ف َواللهِ َما أ ْد ِري َما يعني بال ِمي ِل، أ َم َسا َف َة الأر ِض أَ ِم ال ِميلَ الَّ ِذي ُت ْك َت َحلُ ِب ِه ال َع ْي ُن؟ (( َفي ُكو ُن ال َّنا ُس َعلَى َق ْد ِر أ ْع َمالِ ِه ْم في ال َع َر ِقَ ،ف ِم ْن ُه ْم َم ْن َي ُكو ُن إِلَى َك ْع َب ْي ِه ،ومنهم من يكون إِ َلى ركبتيه ،ومنهم َم ْن َي ُكو ُن إِلَى ِح ْق َو ْي ِه، َو ِم ْن ُه ْم َم ْن ُي ْل ِج ُم ُه ال َع َر ُق إ ْل َجا ًما)) َوأَ َشا َر َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم بيد ِه إِلَى فِي ِه رواه مسلم. شرح الحديث يو ُم القيام ِة يوم عظيم ،وأهوالُه و َمواقفُه ُمتعددة ،م َن ال َحش ِر ،وان ِتظا ِر ال ِحسا ِب ،والمرو ِر على الصرا ِط وغي ِر َذلك ،و ِمن أَوائ ِل تل َك ال َمواق ِف أن اول َتَعرظيش ِم ُحفاَيلأَشتج َّدساال ُم َك ْبرال ُبَع،ر ِوق َت ادلنغوزايل ِر َّشمس في ذل َك ال َمحش ِر َيجم َع اللهُ ال َخلئ َق ف َتشتد الحرارةُ، م َن الرؤو ِس وفي هذا ال َحدي ِث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم\" َتدني ال َّشمس يو َم القيام ِة م َن ال َخل ِق ،ح َّتى تكو َن منهم ك ِمقدا ِر ِميل\"
قال ُسلي ُم ب ُن عامرَ :فواللهِ ! ما أ ْدري ما َيعني بال ِمي ِل؟ أَمساف ُة الأر ِض، أ ِم الميلُ الَّذي َتك ِتحلُ به العي ُن أي ُيقرب الله -تبارك وتعالى -الشمس يوم القيامة من المخلوقين حتى تصير المسافة كمقدار ميل ما أدري مايعني بالميل :هل أَراد به ال َمساف َة ا ّلَتي ه َي عن َد ال َعر ِب ِمقدا ُر َمد البص ِر م َن الأر ِض ،وتقديره أربعة آلاف ذراع أم الميل الذي يكحل به العين ،أي الحديدة التي تكون في المكحلة هل ُبعد الشمس عن رءوس الناس بهذا المقدار ،يعني بمقدار أقل من أصبع؟ ،أو المقصود ميل الأرض الذي هو أربعة آلاف ذارع ،وهو منتهى البصر ،وهي مسافة أيضاً قريبة جداً وعلماء الفلك يقولون :لو أن الشمس اقتربت بمقدار يسير عما هي عليه الآن لمات كل شيء على وجه الأرض وهلك واحترق ،ولو ارتفعت قليلً لتجمد كل شيء ،فالِل تعالى جعلها بمقدار ،فتنزل يوم القيامة إلى قريب من رءوس الناس ،ولكنهم لا يموتون بإرادة الله تبارك وتعالى \"ف َيكو ُن ال َّناس على َقد ِر أَعمالِهم في ال َع َر ِق\" فيكون الناس على قدر أعمالهم؛ فاختلفهم في مكان العرق بحسب اختلفهم في العمل صل ًحا وفسا ًدا \"ف ِمنهم َمن َيكو ُن إلى َكعب ْيه \"فمنهم من يصل العرق إلى كعبيه، والكعب :هو العظم البارز عند مفصل الساق مع القدم
\"و ِمنهم َمن َيكو ُن إلى ُركب َت ْيه \"ومنهم من يصل إلى ركبتيه \"و ِم ْنهم َمن َيكو ُن إلى ِحق َو ْيه \"حقويه هما معقد الإزار ،والمراد ما يحاذي ذلك الموضع من جنبيه ،أي منهم من يصل إلى موضع معقد الإزار منه ،يعني إلى المنتصف \"ومنهم من ُيلجمه العرق إلجاماً ،وأشار رسول الله ﷺ بيده إلى فيه \" ومنهم من يصل العرق إلى فيه وأذنيه فيلجمه إلجا ًما ،فيكون له بمنزلة اللجام من الحيوانات. وهذا بحسب عمل العبد يوم القيامة ،وذلك من شدة كرب يوم القيامة وأهوالها ،ف َتتراك ُم في هذا الموق ِف الأَهوالُ ،و َتدنو ال َّشم ُس ،و َيكو ُن زحا ُم بع ِضهم بع ًضا ،ف ُيش َّدد أم ُر ال َعر ِق على البع ِض و ُيخ َّفف على ال َبعض ب َح َس ِب أَعمالِهم وفي الحدي ِث :الناس يكونون في الشدة يوم القيامة في الموقف على حسب أعمالهم وفيه :الترغيب بأعمال الخير ،والترهيب من أعمال الشر وفيه :بيان أهوال يوم القيامة والتحذير منها
الحديث الثالث بعد الأربعمائة عن أَبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َقالَ: (( َي ْع َر ُق ال َّنا ُس َيو َم القِ َيا َم ِة َح َّتى َي ْذ َه َب َع َرقُ ُه ْم في الأر ِض َس ْب ِعي َن ِذرا ًعا، َو ُي ْل ِج ُم ُه ْم َح َّتى َي ْبلُ َغ آ َذا َن ُه ْم)) ُم َّت َفق َع َلي ِه شرح الحديث (( َي ْذ َه ُب في الأر ِض)) :ينزل ويغوص قيل :سبب العرق في المحشر شدة كرب يوم القيامة وأهوالها. يحكي أبو ُهري َرة رضي الله عنه أ َّن النب َّي ص َّلى الله عليه وسلَّم قال\" : َيع َرق ال َّناس يو َم القيامة \"وذلك من ش َّدة الكرب ،ودنو ال َّشمس من الرؤوس \"حتى يذ َهب عرقُهم في الأرض سبعين ذرا ًعا \" يذهب أي :في العمق ،يغوص العرق في الأرض ،تشربه الأرض إلى سبعين ذراعا من كثرته \"و ُيل ِجمهم حتى يبلُ َغ آذا َنهم\" أيَ :يغ ُمر الع َرق أجسامهم حتى ي ِصل إلى آذانهم
وفي الحدي ِث :اشتدا ُد الكرب على ال َّناس في المحشر ،وتكا ُثر الع َرق فيه؛ بسب ِب حرارة ال َّشمس وش َّدة الزحام. وفيه :أ َّن ال َّناس لا َيتسا َو ْون في المحشر ،ولا يتسا َوون في الع َرق أي ًضا ،بل ُيعانونه بح َسب أعمالهم. وفيه :إخبا ُره ص َّلى الله عليه وس ّلَم عن الغي ِب ،وهو من علمات النب َّوة
الحديث الرابع بعد الأربعمائة عن أبي ُهرير َة َر ِضي اللهُ َع ْن ُه َقالَُ :ك َّنا َم َع َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم إ ْذ سمع وجبةَ ،ف َقالََ (( :هلْ َت ْد ُرو َن َما َه َذا؟)) قُ ْل َنا :الله َو َر ُسولُ ُه أ ْعلَ ُمَ .قالَ(( :ه َذا َح َجر ُر ِم َي بِ ِه في ال َّنا ِر ُم ْن ُذ َس ْبعي َن َخري ًفاَ ،فهُ َو َي ْه ِوي في ال َّنا ِر الآ َن َح َّتى ا ْن َت َهى إِلَى َق ْع ِرها َف َس ِم ْع ُت ْم َو ْج َب َت َها)) رواه مسلم شرح الحديث الوجبة :السقطة من علو إلى أسفل بصوت مزعج كصوت الهدم كان الصحابة مع النبي -صلى الله عليه وسلم -فسمعوا سقطة ،فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم( :-هل تدرون ما هذا؟( فقالوا :الله ورسوله أعلم ،فقال :هذا صوت حجر ُرمي به في النار من سبعين عاما ،فهو ينزل في النار الآن حين انتهى إلى قعرها؛ فسمعتم صوت اضطراب النار من نزول الحجر إليها. إذ َس ِم َع َوجب ًةَ ،وه َي ال َّسقط ُة ِمن ُعلو إلى أَسفلَ ب َصوت ُمزعج ك َصو ِت ال َهد ِم فسألَ ال َّنبي صلَّى اللهُ علي ِه وس ّلَم َمن َح َض َر َمعه وق ْد َس ِمعوا ذل َك ال َّصو َتَ ،فقال ص َّلى اللهُ علَي ِه وس َّلمَ ( :تدرو َن ما هذا؟(
فقالوا :اللهُ ورسولُه أَعل ُم فقال \":هذا َحجر ُر ِم َي به في ال َّنا ِر من ُذ َسبعي َن خري ًفا ،فه َو َيه ِوي في ال َّنا ِر الآ َن\" أيَ :يسقُ ُط \"ح َّتى ان َتهى إلى َقع ِرها\" َيعني :نِهاي َتها \"ف َسمع ُتم َوج َب َتها\" يعنيَ :ل َّما َوق َع في نِهايتِها َس ِم ْع ُتم ذل َك ال َّصو َت وفي الحدي ِث ِ :ع َظ ُم َخ ْل ِق ال َّنا ِر و ُع ْم ُق َقع ِرها ،وهذا يقتضي شدة عذابها، وهو يستدعي الخوف منها. وفيه :كرامة الصحابة في سماعهم لصوت السقطة. وفيه :استحباب إسناد العلم إلى الله تعالى فيما لا علم للإنسان به
الحديث الخامس بعد الأربعمائة عن عدي بن حاتم رضي الله عنه َقالََ :قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلمَ (( :ما ِم ْن ُك ْم ِم ْن أَ َحد إلا َس ُي َكل ُم ُه َرب ُه َل ْي َس َب ْي َن ُه و َب ْي َن ُه َت ْر ُج َمان، َف َي ْن ُظ ُر أ ْي َم َن ِم ْن ُه َفل َي َرى إلا َما َق َّد َمَ ،و َي ْن ُظ ُر أ ْشأَ َم ِم ْن ُه َفل َي َرى إلا َما َق َّد َمَ ،و َي ْن ُظ ُر َب ْي َن َي َد ْي ِه َفل َي َرى إلا ال َّنا َر تِ ْل َقا َء َو ْج ِه ِهَ ،فا َّتقُوا ال َّنا َر َو َل ْو بِ ِشق َت ْم َرة)) ُم َّت َفق َعلَي ِه شرح الحديث \" ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه \" أي ما من أحد إلا و سيكلمه الله سبحانه وتعالى على حدة ،وهذا فيه إثبات صفة الكلم لِل تعالى بما يليق بجلله وعظمته ،فالِل يتكلم كما شاء بما شاء كلماً يليق به ،لا يماثل كلم المخلوقين ))ليس بينه وبينه ترجمان (( ليس بينه وبينه ترجمان ،أي أن الله يكلمه مباشرة بل واسطة ،ليس عن طريق الم َلك ،وإنما يكلمه تكليماً مباشراً وإذا استشعر الإنسان مثل هذا الموقف ،وأن الله يكلم عبده تكليماً مباشراً ،ويقرره بذنوبه ويحاسبه على أعماله ،ويقول له كما دلت عليه الأحاديث :اذكر كذا ،فعل َت في يوم كذا ،وكذا ،فإذا أنكر الإنسان ختم على فيه ،ونطقت جوارحه ،حتى الأرض التي يمشي عليها الإنسان تنطق وتتكلم ،فهذه ينبغي للإنسان أن يضعها دائماً نصب عينيه ،أن الله سيحاسبه ويكلمه مباشرة
\"فينظر أيمن منه\" أي :الجهة اليمنى\" ،فل يرى إلا ما قدم\" أي :لا يرى إلا الأعمال التي عملها من صلة وصيام وصدقة ،وغير ذلك \"وينظر أشأم منه\" يعني :ناحية الشمال ،فل يرى إلا ما قدم \"وينظر بين يديه فل يرى إلا النار تلقاء وجهه\" أي :قبالة وجهه، بمعنى أنه لا يخلصه بعد رحمة الله ولطفه إلا العمل ،لا تخلصه الأنساب، ولا يخلصه الجاه في الدنيا ،ولا يخلصه المال والثروة ،وإنما يخلصه عمله ولهذا قال النبي ﷺ هنا\" :فاتقوا النار ولو بشق تمرة\" بشق تمرة أي :ولو بنصف تمرة ،فيحتاج الإنسان أن يضع بينه وبين النار أعمالاً يتقرب بها إلى الله تعالى وفي الحدي ِث :إثبات صفة الكلم لِل عز وجل بما يليق بجلله ،وأنه سبحانه وتعالى يتكلم بكلم مسموع مفهوم ،لا يحتاج إلى ترجمة ، يعرفه المخاطب به .وفيه :دليل على أن الصدقة ولو قلت تنجي من النار ،والحث على الصدقة ،والاستكثار من الأعمال الصالحة
الحديث السادس بعد الأربعمائة عن أَبي ذر رضي الله عنه َقالََ :قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني أَ َرى َما لا َت َر ْو َن ،وأَسم ُع ما لا َتسم ُعون ،أ َّط ِت ال َّس َما ُء َو ُح َّق لَ َها أ ْن َت ِئ َّطَ ،ما فِي َها َمو ِض ُع أ ْر َبع أ َصاب َع إلا َو َم َلك َوا ِضع َج ْب َه َت ُه َسا ِج ًدا لِلِ َت َعالَى .والله لَ ْو َت ْعلَ ُمو َن َما أ ْعلَ ُم ،لَ َض ِح ْك ُت ْم َقلِي ًل َولَ َب َك ْي ُت ْم َك ِثي ًراَ ،و َما َتلَ َّذ ْذ ُت ْم بالنسا ِء َع َلى الفُ ُر ِشَ ،ولَ َخ َر ْج ُت ْم إِ َلى الص ُع َدا ِت َت ْجأ ُرو َن إِلَى اللهِ َت َعا َلى)) رواه الترمذيَ ،وقالََ ( :ح ِديث َح َسن( شرح لحديث ))أ َّطت)) ومعناه :أ َّن َكث َر َة َم ْن في ال َّسما ِء ِم َن ال َمل ِئ َك ِة ال َعا ِب ِدي َن َق ْد أ ْث َق َل ْت َها َح َّتى أ ّط ْت ))الص ُعدات)) :الط ُرقات )) َتجأَ ُرون))َ :تس َتغي ُثو َن \" إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون\" أي :إني أشا ِه ُد ما لا َتستطيعون ُمشاهد َته ،وأس َم ُع ما لا تستطيعون َسما َعه ِمن أمور غائبة عنكم وذلك مما يطلعه الله تعالى عليه من أمر الغيب ،فإن الله تبارك وتعالى يطلع نبيه ﷺ على أمور لا نطلع عليها ،فالنبي ﷺ
لا يعلم الغيب ،وإنما يطلعه ربه على ما شاء ،ومن الأمور التي اطلع عليها ﷺ أنه رأى الجنة ،ورأى النار ،كما رأى ﷺ في ليلة المعراج أموراً كثيرة. \"أ َّطت السماء و ُحق لها أن تئط\"، والأطيط هو صوت الرحل الذي يصدر إذا جلس عليه الركب من الثقل، الرحل على البعير بمنزلة السرج على الفرس ،فهذا الرحل هو من الخشب فإذا ركب عليه الراكب فمع الثقل فإنه يصدر له صوت ،هذا الصوت يقال له :الأطيط فهنا السماء لكثرة من عليها من الملئكة لها صوت كصوت الرحل إذا جلس عليه الراكب \"أطت السماء وحق لها أن تئط\" ،أي يحق لها ذلك ،لماذا؟ قال\" :ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساج ًدا لِل تعالى\" والملئكة خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى َ {،لا َي ْع ُصو َن ال َّلهَ َما أَ َم َر ُه ْم َو َي ْف َعلُو َن َما ُي ْؤ َم ُرو َن } [التحريم ، ]6:فهم يعبدون الله بل كلل ولا ملل ولا فتور \"والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلً ولبكيتم كثيراً\" )لو تعلمون ما أعلم) أي :من عظمة الله وشدة انتقامه وما أعد من النكال والعذاب والأهوال
)لضحكتم قليلً ولبكيتم كثيراً) أي خوفا من سطوة الجبار سبحانه وتعالى \"وما تلذذتم بالنساء على الفرش\" ،وذلك أن الإنسان إذا غلب عليه الخوف ،أو غلب عليه الحزن فإنه لا يجد لذة لشيء مستلذ \"ولخرجتم إلى الص ُعدات تجأرون إلى الله تعالى\" الص ُعدات :هي الطرقات ،تجأرون إلى الله أي :أنكم تستغيثون ،ترفعون أصواتكم بالاستغاثة والضراعة لِل تعالى أي :و َل َترك ُتم ُبيو َتكم وخ َرج ُتم في الطر ِق والسب ِل ،ت َتض َّرعون إلى اللهِ أن ُينج َيكم و َيغ ِف َر لكم و َيعفُ َو عنكم. فهذا كله مما يحفز الإنسان ويدعوه إلى مزيد من الجد والاجتهاد والعمل في طاعة الله تعالى ،وأن يكف عن كل ما لا يليق مما يكرهه الله تعالى ويسخطه من الأعمال والأقوال
الحديث السابع بعد الأربعمائة عن أَبي برزة َن ْضلَة بن عبيد الأسلمي َقالََ :قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم(( :لا َت ُزولُ َق َد َما َع ْبد َح َّتى ُي ْسأَلَ َع ْن ُع ُم ِر ِه فِي َم أف َناهُ؟ َو َع ْن ِعل ِم ِه فِي َم َف َعلَ فيه؟ َو َع ْن َمالِ ِه ِم ْن أ ْي َن ا ْك َت َس َب ُه؟ َوفي َم أ ْن َف َق ُه؟ َو َع ْن ِجس ِم ِه ِفي َم أبلهُ؟)) رواه الترمذيَ ،وقالََ ( :ح ِديث َح َسن َصحيح) شرح الحديث َشَعبيدء َ؛وقوفذًةل َبكي َنَح ًّثَيا َدميِن اهللهِصَتَّلعاىلالىلهُ لِ ُكل وس َلّ َم أ َّن ب َّي َن ال َّنبي صلَّى اللهُ عليه ُكل و َجلَّ عن َيو َم القيام ِةَ ،يسألُه اللهُ َع َّز عليه وس ّلَ َم على الاستِعدا ِد لِهذا ال َموقِ ِف ،وإعدا ِد ال َجوا ِب له لا تزول قدما عبد من موقفه للحساب حتى يسأل عن عمره فيما أفناه أفي طاعة أم معصية ،وعن عمله فيم عمله لوجه الله تعالى خال ًصا أو رياء وسمعة. وعن ماله من أين اكتسبه ،أَ ِم ْن حلل أو حرام؟ وفيما أنفقه أفي البر والمعروف أو الإسراف والتبذير؟ وعن جسمه فيما أبله أفي طاعة الله أو معاصيه؟ يقولُ ال َّنبي ص َّلى اللهُ عليه وسلَّ َم \" :لا َتزولُ َق َدما َعبد َيو َم القيام ِة \" وال َمعنى :لا َتت َح َّر ُك و َتن َص ِر ُف َق َد ُم ُكل إنسان ِمن َمو ِض ِع ال ِحسا ِب َيو َم القيام ِة ،أي أن كل أحد لايجاوز موقف الحساب حتى َيسألَه اللهُ َع َّز و َجلَّ عن هذه الأمور الأربعة:
\"حتى ُيسألَ عن ُع ُم ِره؛ في َم أفناه؟\" عن َحياتِه و َزما ِنه الذي عا َشه، ماذا َع ِملَ فيه؟ وكيف اس َت َغلَّ أوقا َته؟ فالإنسان يحاسب على عمره كيف قضاه ،هل قضاه في طاعة الله أو قضاه في معصيته أو ضيع عمره من غير طائل بالنوم والتنزه والمباحات حتى انقضى عمره دون أن ينتفع به \" وعن ِع ْل ِمه؛ في َم َف َعلَ فيه؟\" و َيسألُه َربه َع َّز و َجلَّ عن ِع ْل ِمه الذي َت َع َّل َمه ،ماذا َف َعلَ بهذا ال ِع ْل ِم؟ هل َت َع َّل َمه لِ َوج ِه اللهِ خالِ ًصا أم ِريا ًء و ُسمع ًة؟ وهل َع ِملَ فيما َعلِ َم أم لم َين َف ْعه ِع ْل ُمه؟ \"وعن مالِه؛ ِمن أي َن اك َت َس َبه؟ وفي َم أن َف َقه؟\" و َيسألُه َربه َع َّز و َجلَّ عن أموالِه التي َج َم َعها ،أ ِمن َحلل أم ِمن َحرام؟ وفي َم أن َف َقها؟ أفي طاعة أم في َمعصية؟ \"وعن ِجس ِمه\" وال ُمرا ُد به الص َّح ُة؛ \"في َم أبله\" وعن قُ َّوتِه ماذا َف َعلَ بها؟ وفي َم أضا َع َشبا َبه و ِص َّح َته؟ وحينما يقال :وعن جسمه فيم أبله فإنه يشمل العين والأذن واليد والرجل وسائر الأعضاء ،هذه الأشياء كيف تصرف بها؟ ،كيف عمل بها؟ ،هل شكر الله تعالى على هذه النعم ،أو أنه استغل سمعه ليصبح ويمسي على أصوات المعازف ،ومجالسه يسمع فيها ما حرمه الله ، وهكذا أيضاً يستغل نظره فيما حرم الله ،يستغل يده فيما حرم الله؟ ،كل ذلك الله سيسأله عنه
وهذا إرشاد ِم َن ال َّنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّ َم ِلأُ َّمتِه إلى اغ ِتنا ِم الفُ َر ِص في الحيا ِة؛ لِل َع َم ِل لِلآ ِخر ِة ِبـ َملْ ِء الأوقا ِت بال َّطاعا ِت؛ ِلأ َّنها هي ُع ُم ُر الإنسا ِن في الدنيا ،و َذخي َر ُته في الآ ِخر ِة وفي الحدي ِث َ :بيا ُن أ َّن لِ ُكل َعبد َوقف ًة لِل ِحسا ِب َبي َن َي َديِ اللهِ َتعالى وفيهَ :بيا ُن ِصف ِة ُسؤا ِل اللهِ َع َّز و َجلَّ لِل َعب ِد َيو َم القيام ِة
الحديث الثامن بعد الأربعمائة عن أَبي هريرة رضي الله عنه َقالَ :قرأ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم: { َي ْو َمئِذ ُت َحد ُث أَ ْخ َبا َر َها} [الزلزلةُ ]4 :ث َّم َقالَ(( :أ َت ْدرو َن َما أ ْخ َبار َها؟)) قالوا :الله َو َر ُسولُ ُه أ ْع َل ُمَ .قالَ(( :فإ َّن أ ْخ َبا َر َها أ ْن َت ْش َه َد َعلَى ُكلّ َع ْبد أَ ْو أ َمة بما َع ِملَ َع َلى َظ ْه ِر َها َتقُولَُ :عم ْل َت َك َذا و َك َذا في َيو ِم َك َذا و َك َذا َفه ِذ ِه أ ْخ َبا ُر َها)) رواه الترمذيَ ،وقالََ ( :ح ِديث َح َسن َصحيح). ضعيف ضعفه الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة (تحقيق رياض الصالحين) شرح الحديث \"فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها \"، في هذا النص عمومان :تشهد على كل عبد أو أمة ،فظاهره أنه يشمل المسلم والكافر ،البر والفاجر والعموم الآخر هو :بما عمل أي :بكل ما عمل ،فهذا يشمل الخير والشر ،الكبائر والصغائر ،تشهد عليه ،وتخبر و ُتن ِبئ وتنطق وتتكلم بكل ما ُعمل عليها
الحديث التاسع بعد الأربعمائة عن أَبي سعيد الخدري رضي الله عنه َقالََ :قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم: (( َك ْي َف أ ْن َع ُم! َو َصا ِح ُب ال َق ْر ِن َق ِد ال َت َق َم ال َق ْر َنَ ،وا ْس َت َم َع الإ ْذ َن َم َتى ُيؤ َم ُر أ ْص َحا ِب رسو ِل َثقُلَ َع َلى َف َكأ َّن ذلِ َك َف َي ْنفُ ُخ)) بال َّن ْف ِخ عليه الله الله صلى َح ْس ُب َنا الله َونِ ْع َم ((قُولُوا: َف َقالَ لَ ُه ْم: وسلم ال َو ِكيلُ)) رواه الترمذيَ ،وقالََ ( :ح ِديث َح َسن) شرح الحديث كان ال َّنبي ص ّلَى اللهُ عليه وسلَّم ُيحذ ُرنا ِم ِن اقتِرا ِب ال َّساع ِة ،و َي ُحثنا على ُحس ِن ال َع َم ِل استِ ْعدا ًدا لها وفي هذا ال َحدي ِث يقولُ ال َّنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قوله ﷺ\" :كيف أنعم \"أي :كيف أطيب عي ًشا ،وقد قرب أمر الساعة ،كيف أس ّر وأتسع في العيش وألتذ \" وق ِد ا ْل َت َق َم صا ِح ُب ال َق ْر ِن ال َق ْر َن\" ب َم ْعنى أ َّن إ ْسرافيلَ عليه ال َّسل ُم ،وهو ال ُم َكلَّ ُف بال َّن ْف ِخ ،ق ِد اس َت َع َّد وأم َس َك ال ُبو َق أو الصو َر الَّذي َينفُ ُخ فيه ،و َو َض َع ُه في َف ِم ِه فالمقصود بالقرن :هو الصور الذي ينفخ فيه
\"واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ \"أي أنه في غاية التهيؤ والانتظار والاستعداد ،متى يؤمر بالنفخ فينفخ فالنبي ﷺ يذكر ذلك على سبيل التخويف لأمته ،كيف أتسع بالعيش؟ وكيف أركن إلى الدنيا وأسر بها وألتذ وأتنعم وأتوسع في المعاش وصاحب القرن قد وضعه في فمه والتقمه ينتظر متى يؤمر فينفخ؟ فأمر الساعة قريب وفي رواية ،قالَ ال ُمسلِ ِمو َن :فكي َف نقولُ يا رسولَ الل ِه؟ ثقل عليهم الأمر وقالوا ماذا نقول قالَ \":قُولواَ :ح ْس ُبنا اللهُ و ِن ْع َم ال َوكيلُ \"ب َم ْعنى أ َّن اللهَ هو كافينا ،وهو ِن ْع َم ال َم ْوكولُ إليه ،و ِنع َم ال َمولى ونِع َم ال َّنصي ُر وفي الحدي ِث َ :بيا ُن َو َج ِل ال َّنبي صلَّى اللهُ عليه وس َّلم و َخوفِ ِه وإ ْشفا ِق ِه ِم ْن قيا ِم ال َّساع ِة مع ِع ْل ِم ِه بقُ ْربِها ،وما فيها من أ ْهوال ،ومع َت ْغيي ِب اللهِ ل َم ْو ِع ِدها م َّما َيج َعلُ ال ُمؤ ِم َن دائِ َم ال َخو ِف. وفيهَ :بيا ُن َفض ِل َقو ِلَ \" :ح ْس ُبنا اللهُ ونِ ْع َم الوكيلُ\" ،وأ َّنه ِم َن ال ُمنجيا ِت ِمن َف َز ِع القيام ِة. وفيه :إثبا ُت ُوجو ِد الصو ِر ،وأ َّن له َم َل ًكا ُمكلَّ ًفا بال َّن ْف ِخ فيه بأم ِر اللهِ. وفيهَ :ت ْحذير لل ُمؤ ِمني َن وإ ْرشاد َتلأهتميل َبلإغت ْسًةرا ِع ب َع َم ِل ال َّطاعا ِت؛ لأ َّن القيام َة
الحديث العاشر بعد الأربعمائة عن أَبي هريرة رضي الله عنه َقالََ :قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم: (( َم ْن َخا َف أ ْدلَ َجَ ،و َم ْن أ ْدلَ َج َب َل َغ ال َم ْن ِزلَ .ألا إ َّن ِس ْل َع َة الل ِه َغالِ َية ،ألا إ َّن ِس ْل َع َة الله ال َج َّن ُة)) رواه الترمذيَ ،وقالََ ( :ح ِديث َح َسن) شرح الحديث كان النبي صلَّى اللهُ عليه وس َّلم كثي ًرا ما َي ُحض أصحا َب ُه على أَ ْم ِر الآ ِخ َر ِة ،و َي ُحثهم على ال َّتشمي ِر ل ُبلو ِغ ال َج َّن ِة. وفي هذا الحدي ِث يقولُ النبي ص َّلى اللهُ عليه وسلَّم: \" من خاف\" :أي خاف البيات ،يعني خاف أن ينزل به عدوه ،أو أن يهجم عليه عدوه وأن يباغته في الليل ،فإنه يبادر في المسير\" ،من خاف أدلج\" ،وأدلج معناها سار في أول الليل أيَ :م ْن خاف أ َّلا َي ِصلَ إلى غايتِ ِه سار أَ ْثنا َء الليلَ؛ ل َيكو َن ذلك أَ ْرجى له في ال ُوصو ِل إلى غاي ِت ِه \"ومن أدلج بلغ المنزل\" أي :بلغ المنزل الذي يأمن فيه فل يخاف، ف َم ْن سار باللي ِل َو َصلَ إلى غاي ِت ِه ونال ُم ْبتغاهُ
فالمقصود أن هذه الجملة من قول رسول الله ﷺ تعني أن الإنسان ينبغي عليه أن يشمر ويجد ويجتهد في طاعة الله -تبارك وتعالى ،ولا يتوانى ولا يتراخى ،من أجل أن يصل إلى مطلوبه ،إلى مأمنه بإذن الله تعالى ،فإن الآخرة ُتطوى مراحلها بالأعمال الصالحة ف َم ْن َش َّم َر سا ِع َد ْي ِه وا ْج َت َه َد في ِعباد ِة اللهِ وأ َّدى ما عليه ِم ْن الحقو ِق والواجبا ِت؛ فإ َّنه أَ ْر َجى أ ْن َي ِصلَ إلى غاي ِت ِه ِم ْن َم ْغفِر ِة الل ِه ورحمته والفو ِز بج َّنتِ ِه \" أ َلا إ َّن ِس ْل َع َة اللهِ غالية \"ثم قال ﷺ مبيناً شدة الحاجة وضرورة العمل ،شدة الحاجة إلى التشمير\" :ألا إن سلعة الله غالية\" أي :إ َّن ما ِع ْن َد اللهِ غال وعظي ُم ال َق ْد ِر ،ولا َينالُه إ َّلا َم ْن ا ْج َته َد في َتحصيلِ ِه وس َعى له َح َّق ال َّسعي \" أ َلا إ َّن ِس ْل َع َة الل ِه ال َج َّن ُة \" أي :إ َّن ما ِع ْن َد اللهِ هي ال َج َّن ُة ،ف َم ْن أرادها فل ُب َّد له من ال َّسعي وال َّتشمي ِر لأَ ْج ِل ال َّظ َف ِر بها؛ ف َج َّن ُة اللهِ لا ُتنالُ بالأماني ولا بال َّتمني ،ول ِك ْن بالعم ِل والا ْج ِتها ِد ،ث َّم هي بع َد ذلك لا َيد ُخلُها أحد إ َّلا ب َرحم ِة اللهِ َتعا َلى. فالسلعة إذا كانت غالية وذات ثمن عند أصحابها فإنهم لا يبيعونها بثمن زهيد ،لا يبذلونها لكل من سامها ،وإنما يكون ذلك لمن دفع فيها الثمن الذي تستحقه ويصلح لمثلها ،فهكذا الجنة ،الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ،ولا خطر على قلب بشر ،فيها ألوان النعيم المقيم ،ما
لا ُيقا َدر قدره ولا يخطر على بال ،فهذا النعيم الذي يكون في الجنة يحتاج إلى ثمن فمن عرف قدر السلعة وقبل ذلك عرف قدر المعبود سبحانه وتعالى ، وعظم إفضاله على عبيده فإنه يبذل نفائس الأوقات فيما يقربه إليه، وفيما يرفعه عنده ،وفيما يخلص رقبته عند الله يوم القيامة وفي الحدي ِث ُ :حس ُن َتعلي ِم النبي ص َّلى اللهُ عليه وسلَّم وتوضي ُح أَ ْم ِر الآ ِخ َر ِة ب َض َر ِب ال َم َث ِل ِم ْن أَ ْم ِر الدنيا.
المقدمة باب الخوف الحديث الحادي عشر بعد الأربعمائة عن عائشة رضي الله عنهاَ ،قالَ ْتَ :س ِم ْع ُت َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ (( :ي ْح َش ُر ال َّنا ُس َي ْو َم القِ َيا َم ِة ُح َفا ًة ُع َرا ًة ُغ ْر ًلا)) ،قُ ْل ُتَ :يا َر ُسول الله الر َجالُ َوالنسا ُء َج ِمي ًعا َي ْن ُظ ُر َبع ُض ُه ْم إِلَى َب ْعض؟! َقالََ (( :يا عائِ َش ُة ،الأم ُر أ َشد ِم ْن أ ْن ُي ِه َّم ُه ْم ذلِ َك)) وفي رواية(( :الأَ ْم ُر أهم ِم ْن أ ْن َي ْن ُظ َر َبع ُض ُه ْم إِ َلى َبعض)) ُم َّت َفق َع َلي ِه شرح الحديث ▪️(( ُغر ًلا)) أ ْيَ :غي َر َمخ ُتوني َن يو ُم القيام ِة يوم عظيم وشديد ،يقو ُم فيه ال َّنا ُس َبي َن َي َدي رب العالَ ِمين للحسا ِب وفي هذا الحدي ِث َي ِصف النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لنا بع َض ما في هذا اليو ِم ،حيث يقولُُ \" :ي ْح َش ُر ال َّنا ُس يو َم القيام ِة\" ،أ ْيُ :ي ْج َمعون بعد ال َبع ِث من الموت ،و َيقُومون للحسا ِب \" ُحفا ًة ُعرا ًة ُغ ْر ًلا\" ،أ ْي :وهم ُحفاة الأقدا ِم بل أحذية ولا ِنعال ،و ُعراةُ الأجسا ِد بل ثياب ولا ُس ُتورُ ،غ ْر ًلا غير َم ْختو ِنين ،قد ذ َهب عنهم كل ما
َكانوا في ِه في الدنيا و َعا ُدوا كما َخلَ َقهم اللهُ؛ { َك َما َب َد ْأ َنا أَ َّولَ َخ ْلق ُن ِعي ُدهُ} [الأنبياء]104 : قالت عائش ُة\" :يا رسولَ اللهِ ،النسا ُء والرجالُ جمي ًعا َين ُظ ُر بع ُضهم إلى بعض؟!\" وهذا ا ْستِفهام وا ْستِغراب من أ ْن ُي ْج َم َع النا ُس ُعرا ًة و َع ْوراتهم َظا ِهرة أمام بع ِضهم رجا ًلا ونسا ًء؛ فهل َين ُظرون إلى بع ِضهم ال َبع ِض؟! المرأة المسلمة ُيهمها الحجاب والستر ،وهي مفطورة ومجبولة على الحياء ،فالذي أشغلها حينما ذكر النبي ﷺ ذلك هو ما يتعلق بالستر، كيف يكون الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال صلَّى اللهُ عليه وس ّلَم\" :يا عائش ُة ،الأم ُر أَ َشد ِمن أ ْن َين ُظ َر بع ُضهم إلى بعض\" أ ْي :إ َّن شأ َن ال ُموقِ ِف وال َح ْش ِر َب ْع َد ال َب ْع ِث ِمن المو ِت فيه من الأهوا ِل ما َيأ ُخ ُذ ا ْهتِما َم ال َّنا ِس وأَ ْبصا َرهم عن ال َّنظ ِر إلى ال َع ْورا ِت ،و ِم ْنها ما قال اللهُ تعالىَ { :ي ْو َم َت َر ْو َن َها َت ْذ َهلُ ُكل ُم ْر ِض َعة َع َّما أَ ْر َض َع ْت َو َت َض ُع ُكل َذا ِت َح ْمل َح ْم َل َها َو َت َرى ال َّنا َس ُس َكا َرى َو َما ُه ْم ِب ُس َكا َرى َو َل ِك َّن َع َذا َب اللهِ َش ِديد} [الحج]2 : فالإنسان يكون في غاية الخوف والاشتغال بنفسه ،والبحث عما يخلص رقبته عند الله -تبارك وتعالى ،ولا يفكر في شيء آخر ،لا يشعر الإنسان بهؤلاء الذين بجواره من الرجال والنساء ،هل هم عراة ،أو غير عراة؟ هو لا ينظر إلى هذا ،الذي أهمه هو كيف يتخلص من هذا الموقف المفزع
المقدمة باب الرجاء الحديث الثاني عشر بعد الأربعمائة عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه َقالََ :قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلمَ (( :م ْن َش ِه َد أ َّن لا إل َه إلا اللهُ َو ْح َدهُ لا َش ِري َك لَ ُهَ ،وأ َّن ُم َحم ًدا َع ْبدهُ و َر ُسولُ ُهَ ،وأ َّن ِعيسى َع ْب ُد الل ِه َو َر ُسولُ ُه َو َكلِ َم ُت ُه أ ْل َقا َها إِ َلى َم ْر َي َم و ُروح ِم ْن ُهَ ،وأ َّن ال َج َّن َة َح ٌّقَ ،وال َّنا َر َح ٌّق ،أ ْد َخلَ ُه اللهُ ال َج َّن َة َعلَى َما َكا َن ِم َن ال َع َم ِل)) ُم َّت َفق َع َلي ِه وفي رواية لمسلمَ (( :م ْن َش ِه َد أ ْن لا إلَ َه إلا اللهُ َوأ َّن ُم َح َّم ًدا َر ُسولُ الل ِه، َح َّر َم اللهُ َعلَي ِه ال َّنا َر)) شرح الحديث افترى ال َّنصا َرى على اللهِ الك ِذ َب ،وا َّد َع ْوا أ َّن له ول ًدا ،وهو ِمن أقب ِح ما قيل في حقه سبحانه؛ ولذلك فإ َّن الإيما َن لا يستقي ُم لأحد ح َّتى ُي ِق َّر بوحدان َّي ِة اللهِ تعالى ،وأ َّنه ُمن َّزه عن كل نقص وعيب؛ فهو الأح ُد ال َّص َم ُد، الَّذي لم يلِ ْد ولم يولَ ْد
وفي هذا الحدي ِث تعريض بال َّنصارى في ادعائِهم على الل ِه الول َد؛ فإ َّنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخ َبر أَّن الج َّن َة هي مثوى َمن ش ِهد أن لا إل َه إ َّلا اللهُ وحده لا شري َك له ،وأ َّن مح َّم ًدا عب ُده ورسولُه ،وأ َّن عيسى عب ُد اللهِ ورسولُه ،وكلم ُته ألقاها إلى مري َم ،و ُروح منه \"من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،وأن محمداً عبده ورسوله ،وأن عيسى عبد الله ورسوله\" وأن عيسى عبد الله ورسوله ،يعني خلفاً للنصارى الذين أ ّلهوه، وجعلوه ثالث ثلثة \"وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه\" (كلمته) :عيسى يقال له :كلمة الله ،وذلك أنه ُوجد وكان بالكلمة \"كن\" كما قال الله -تبارك وتعالى{ :إِ َّن َم َثلَ ِعي َسى ِع ْن َد ال َّلهِ َك َم َث ِل آ َد َم َخ َل َق ُه ِم ْن ُت َراب ُث َّم َقالَ َل ُه ُك ْن} [آل عمران]59: \"وروح منه \" روح منه :أي روح مخلوقة من الله تبارك وتعالى كما قال الله تعالى للملئكة في آدم عليه السلم َ { :فإِ َذا َس َّو ْي ُت ُه َو َن َف ْخ ُت ِفي ِه ِم ْن ُرو ِحي َف َق ُعوا لَ ُه َسا ِج ِدي َن } [الحجر]29: \"و ُروح منه\" وأُ ِضيفت الرو ُح إلى اللهِ على وج ِه ال َّتشري ِف؛ بمعنى أنها مبت َدأة منه ،أن الله خلقها ،كما قال سبحانهَ { :و َس َّخ َر َل ُك ْم َما ِفي ال َّس َم َوا ِت َو َما ِفي ا ْلأَ ْر ِض َج ِمي ًعا ِم ْن ُه} [الجاثية ،]13 :أيِ :من َخلقِه
و ِمن عن ِده ،وتسمي ُته عليه ال َّسلم بالرو ِح؛ لأ َّنه ُو ِج َد ِمن غي ِر أب، فأحياه اللهُ تعالى ِمن غي ِر الأسبا ِب ال ُمعتادة \"وأن الجنة حق والنار حق ،أدخله الله الجنة على ما كان من العمل\" يعني :من كان محققاً لهذا الإيمان راسخاً في قلبه ،فإنه يدخل الجنة على ما كان من عمل دليل على أ َّن ال ُعصا َة ِمن ال ُمسلِمين لا ُي َخ ّلَدون في ال َّنا ِر ،فقد يعذب الإنسان بالنار ثم يدخل الجنة والرواية الثانية عند مسلم \":من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار\" هنا هذا يدل على أنه لا يدخل النار وهذا من أحاديث الرجاء ،قال ابن القيم ( :إن من حقق لا إله إلا الله فإن أنوار لا إله إلا الله تزيح عنه الشبهات والظلمات ،وتنجلي عنه الغشاوة ،وإذا رسخت هذه الكلمة في قلب العبد فإنه يكون ممتثلً لأمر الله مجتنباً نهيه ،وإنما يقع العبد في المخالفة والمعصية إذا كان لم يعرف لِل قدره، ولهذا يقال له :جاهل ،وقد جاء في قوله -تبارك وتعالى{ :أَ َّن ُه َم ْن َع ِملَ ِم ْن ُك ْم ُسو ًءا ِب َج َها َلة} [الأنعام]54: قال ابن مسعود رضي الله عنه وغيره\" :كل من عصى الله فهو جاهل\"
لأنه لو عظم الله حق التعظيم ،وعرف حقه حق المعرفة ما عصاه، ولهذا يقال :لا تنظر إلى صغر المعصية وانظر إلى عظمة من عصيت، فلو عظمنا الله تعالى على الوجه اللئق فإننا لا نعصيه
الحديث الثالث عشر بعد الأربعمائة عن أَبي ذر رضي الله عنه َقالََ :قالَ ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم(( :يقول الله -عز وجلَ :م ْن َجاء بال َح َس َن ِة َفلَ ُه َع ْش ُر أ ْم َثالِ َها أَ ْو أ ْز َيدَ ،و َم ْن َجا َء بال َسي َئ ِة َف َجزا ُء َسي َئة َسي َئة ِم ْثلُ َها أَ ْو أ ْغفِ ُرَ .و َم ْن َت َق َّر َب ِمني ِش ْب ًرا َت َق َّر ْب ُت ِم ْن ُه ِذ َرا ًعاَ ،و َم ْن َت َق َّر َب ِمني ِذ َرا ًعا َت َق َّر ْب ُت ِم ْن ُه َبا ًعاَ ،و َم ْن أ َتا ِني َي ْم ِشي أ َت ْي ُت ُه َه ْر َو َل ًةَ ،و َم ْن َل ِقيني بِقُ َرا ِب الأ ْرض َخ ِطيئ ًة لا ُي ْش ِر ُك بِي َشي ًئا ،لَقِي ُت ُه ِب ِم ْثلِ َها َمغ ِف َر ًة)) رواه مسلم شرح الحديث هذا من الأحاديث القدسية وهو ما يضيفه النبي ﷺ إلى ربه تبارك وتعالى معنى الحديثَ (( :م ْن َت َق َّر َب)) إلَ َّي ب َطا َعتِي (( َت َق َّر ْب ُت)) إِ َل ْي ِه ِب َر ْح َم ِتي َوإ ْن َزا َد ِز ْد ُت (( َفإ ْن أ َتاني َي ْم ِشي)) َوأس َر َع في َطا َعتي ((أ َت ْي ُت ُه َه ْر َو َل ًة)) أ ْي: َص َب ْب ُت َعلَي ِه ال َّر ْح َم َة َو َس َب ْق ُت ُه بِ َها َولَ ْم أ ْح ِو ْج ُه إِلَى ال َم ْشيِ ال َكثِي ِر في ال ُو ُصو ِل إِ َلى ال َم ْق ُصو ِد \"يقول الله عز وجل :من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها\"
(من) هذه تفيد العموم ،وهذا مقيد بالقيود المذكورة في النصوص الأخرى ،وذلك أن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما تحقق فيه شروط قبول العمل الإخلص والمتابعة \"فله عشر أمثالها أو أ ْز َيد\" فله عشر أمثالها ،وهذا المقصود به الحد الأدنى في الجزاء ،وإلا فقد جاءت النصوص تب ّين أن الله تعالى يعطي أكثر من ذلك ،إلى سبعمائة ضعف ،إلى أضعاف كثيرة. \"ومن جاء بالسيئة فجزا ُء سيئة سيئة مثلها أو أغفِ ُر\" الحسنة بعشر إلى ما شاء الله ،والسيئة بواحدةَ { ،ف َل ُي ْج َزى الَّ ِذي َن َع ِملُوا ال َّسي َئا ِت إِ َّلا َما َكا ُنوا َي ْع َملُو َن} [القصص ،]84:وهذا من لطف الله ورحمته بعباده ،ومن كمال عدله أنه يجزي بالسيئة السيئة ،لكنه يتفضل بالحسنة ولذلك العلماء يقولون :ويل لمن غلبت آحاده عشراته ،الآحاد هي السيئات ،سيئة بواحدة ،والعشرات هي الحسنات ،فإذا غلبت الآحاد العشرات فمعنى ذلك أن هذا الإنسان مفلس \" أو أغفِ ُر \" بمعنى أن الله قد يتجاوز عنه ابتدا ًء ،وقد لا يعذب بهذه السيئة ،بسبب مصائب مكفرة ،وقد لا يعذب بسبب شفاعة. \"ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً\" ،والباع من أطراف أصابع اليد إلى أطراف أصابع اليد الأخرى مع الصدر ،أي خمسة أذرع تقريبا
\"ومن أتاني يمشي أتيته هرولة\" ،الهرولة :نوع من المشي فيه إسراع ،يعني أسرع من المشي المعتاد ،لا يصل إلى حد الجري ،وإنما يكون فيه إسراع هذا فيه معنى أن الله ُيقبل على العبد ،وأن الله ُيسارع في ثوابه وفي قبوله \" بقراب الأرض\" ،يعني :بما يقارب امتلءها ،يعني يقرب من ملئ الأرض \" لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة\" وهذا من أحاديث الرجاء ،ولم يذكر فيه التوبة ،ولم يميز فيه بين الصغائر والكبائر ،والمشهور عند أهل العلم أن الكبائر لابد لها من توبة والعبد ينبغي أن يحاسب نفسه ،وأن يراجع ربه ،ويصلح عمله ،ولا يتكل على نصوص الرجاء. والمقصود :أن الإنسان إذا استشعر مثل هذا المعنى فإن ذلك يبعثه على مزيد من الإقبال على ربه ،والعمل الصالح والتوبة والإنابة ،إذا استشعر العبد أنه بمجرد عمل يسير ،بإقبال يسير أن الله ُيقبل عليه أكثر من ذلك، وإن تاب فإن الله يفرح بتوبته وفي الحديث :أن الجزاء على قدر العمل السيئ ،وأن العمل الصالح يضاعف لفاعله
الحديث الرابع عشر بعد الأربعمائة عن جابر رضي الله عنه َقالَ :جاء أعرابي إِلَى ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم َف َقالََ :يا َر ُسول اللهَ ،ما المو ِج َب َتا ِن؟ َقالََ (( :م ْن َما َت لا ُي ْش ِر ُك بالِل َشي ًئا َد َخلَ ال َج َّن َةَ ،و َم ْن َما َت ُي ْش ِر ُك ِب ِه َش ْي ًئا َد َخلَ ال َّنار)) رواه مسلم شرح الحديث كان ال َّصحا َب ُة ر ِضي اللهُ عنهم َيسألون النب َّي ص َلّى الله عليه وسلَّم عن أُمو ِر الدي ِن ،وقد كانوا أَ ْك َث َر ال َّنا ِس َخو ًفا و َو َج ًل من اللهِ مع َرجائهم فيه ُس ْبحا َن ُه وتعالى وفي َر ْحم ِت ِه وفي هذا ال َحدي ِث َيحكي جاب ُر ب ُن عب ِد اللهِ ر ِض َي اللهُ َع ْنهما :أ َّنه \"أَ َتى النب َّي صلَّى اللهُ عليه وس َلّم َر ُجل فقال :يا َرسولَ اللهِ ،ما ال ُمو ِجبتا ِن؟\" أي :ما ال َخ ْصلتا ِن ِمن الخي ِر والشر ال َّلتان إذا فُ ِعلَ ْت إ ْحدا ُهما أَ ْو َجب ْت لصا ِحبِها ال َج َّن َة أو أَ ْو َج َب ْت له ال َّنا َر يعني ما الذي يوجب دخول الجنة ،وما الذي يوجب دخول النار؟ فقال النبي ص َّلى اللهُ عليه وس َّلمَ \" :م ْن ما َت لا ُي ْش ِر ُك بالِلِ شي ًئا َد َخلَ ال َج َّن َة\"
أيَ :من ما َت وهو مؤمن بالِلِ ُموحد له فهذه َخ ْصل ُة الإيما ِن التي ُتو ِج ُب له ال َج َّن َة ف َي ْد ُخلُها ،و َم ْن كان ْت عليه ُذنوب فإ َّما أ ْن َي ْعف َو اللهُ َع ْنه دون ِحساب ،أو ُيحا ِس َب ُه على ما ق َّدم ُث َّم ُي ْد ِخ َل ُه ال َج َّن َة أي :ولو ُعذب ،ولو بقي في النار مدة ،لكنه لا يخلد فيها ،سيكون مآله في يوم من دهره إلى الجنة ولهذا فإن أهل العلم في الأحاديث التي قد يفهم منها أنه يحرم على النار ،أو يفهم منها أنه يدخل الجنة بمجرد الإيمان ،يقولون :الإيمان الثابت الراسخ الذي لا ُيق َّدم فيه شيء على طاعة الله وفي ذلك يقول النبي ص َّلى اللهُ عليه وسلَّم في حدي ِث أَبِي َذرَ \" :ما ِم ْن َع ْبد َقالََ :لا إِلَ َه إ َّلا اللهُُ ،ث َّم ما َت على َذلِ َك إ َّلا َد َخلَ ال َج َّن َة وإ ْن َز َنى وإ ْن َس َر َق َر ْغ َم أَ ْن ِف أَ ِبي َذر\" \"و َمن ما َت ُيش ِر ُك بالِلِ شي ًئا َد َخلَ ال َّنا َر\" أي :وال ُمو ِج َب ُة ال َّثاني ُة :أ َّن َمن ما َت وهو ُمش ِرك بالِلِ بأي نوع من الشر ِك الأَ ْك َب ِر ،كأ ْن َي ْع ُب َد مع اللهِ غي َرهُ ،أو َي ْع َت ِق َد أ َّن أح ًدا َشريك مع الل ِه في ال َخ ْل ِق وال َّتدبي ِر ،فهذه هي َخ ْصل ُة الش ْر ِك التي ُتو ِج ُب لصا ِحبِها ال َّنا َر ف َي ْد ُخلُها وفي الحديث :بشارة للموحدين بدخول الجنة ،ابتداء مع الفائزين أو بعد تمحيصهم بالنار.
الحديث الخامس عشر بعد الأربعمائة عن أنس رضي الله عنه أن ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه َع َلى ال َّر ْحلَ ،قالََ (( :يا ُم َعا ُذ)) َقالََ :لب ْي َك َيا َر ُسول الله َو َس ْع َد ْي َك َقالََ (( :يا ُم َعا ُذ)) َقالَ :لَ َّب ْي َك َيا َر ُسول الله َو َس ْع َد ْي َك َقالََ (( :يا ُم َعا ُذ)) َقالَ :لَب ْي َك َيا َر ُسول الله و َس ْع َد ْي َكَ ،ثل ًثا َقالََ (( :ما ِم ْن َع ْبد َي ْش َه ُد أن لا إل َه إلا اللهَ ،وأ َّن ُم َح َّم ًدا َع ْب ُدهُ َو َر ُسولُ ُه ِص ْد ًقا ِم ْن َق ْل ِب ِه إلا َح َّر َم ُه الله َعلَى ال َّنار)) َقالََ :يا َر ُسول الله ،أ َفل أ ْخ ِب ُر ِب َها ال َّناس َف َي ْس َت ْب ِشروا؟ َقالَ(( :إِ ًذا َي َّت ِكلُوا)) فأخبر بِ َها ُمعاذ ِع ْن َد مو ِته َتأث ًما ُم َّت َفق َع َلي ِه شرح الحديث لا يكو ُن الق ْل ُب َسلي ًما ح َّتى َي ْس َل َم ِمن الشر ِك الذي ُيناقِ ُض ال َّتوحي َد؛ لأ َّن أظ َل َم الظل ِم في الدنيا ُهو الشر ُك بالِلِ؛ فإ َّن ذلك َسبب َيخلُ ُد به صا ِح ُبه في النا ِر وفي هذا الحدي ِث َيحكي أنس َرض َي اللهُ عنه أ َّن النب َّي صلَّى اللهُ عليه وسلَّ َم أخ َب َر ُمعا ًذا َرض َي اللهُ عنه أ َّن َمن مات ُمؤم ًنا لا ُيش ِر ُك بالِلِ شي ًئا بأ ْن ع َب َد اللهَ و ْح َده ،و َعلِ َم أ َّنه لا َمعبو َد بحق ِسواهُ ،معت ِق ًدا ذلك ِمن َق ْلبِه، كما دلَّ ْت على ذلك الروايا ُت
((صد ًقا من قلبه)) ،هذا :القيد لإخراج شهادة اللسان إذا لم يطابقها الجنان ،كالمنافقين. د َخلَ الج َّن َة ب َفض ِل اللهِ ابتدا ًء أ ْو بع َد ِعقاب ،ولا َيش َملُ هذا الجزا ُء ال ُمناف َق ف َطلَ َب ُمعاذ َرض َي اللهُ عنه أ ْن ُيخبِ َر ال َّنا َس ل َيف َرحوا و َيستب ِشروا َخي ًرا، فنهاهُ النبي ص ّلَى اللهُ عليه وسلَّ َم َخشي َة أ ْن َي َّت ِكلوا عليها و َي ِقلَّ َع َملُهم، و َتقِلَّ معها ِعباد ُتهم ((إ ًذا يتكلوا)) ،أي :يتركوا العمل ،ويتكلوا على ذلك ،فيأثموا بترك الواجب ،ويفوتهم أعالي المنازل بترك المستحب ،فأشار إلى معاذ بالترك ،لأنه رأى المصلحة في ذلك أتم من الإعلم فأخ َب َر بهذا الحدي ِث «عن َد َموتِه َتأث ًما» َمخاف َة الوقو ِع في إث ِم ِكتما ِن ال ِعل ِم وفي الحدي ِث َ :ف ْضلُ التوحي ِد ،وخ َط ُر الشر ِك. وفيه :أ َّن ِمن ال ِعل ِم ما ُيع َطى لعا َّم ِة ال َّنا ِس ،ومنه ما ُي ْع َطى للخا َّص ِة فق ْط وفيهَ :منزل ُة ُمعا ِذ ب ِن َجبل َرض َي اللهُ عنه ِمن العل ِم؛ لأ َّن النب َّي ص َّلى اللهُ عليه وس َّل َم خ َّصه ب َشيء ِمن ال ِعل ِم وفيهَ :مشروع َّي ُة استِفسا ِر الطال ِب ع َّما َيتر َّد ُد فيه وفيه :بِشارة َعظيمة لل ُموحدين.
الحديث السادس عشر بعد الأربعمائة عن أَبي هريرة رضي الله عنه أَ ْو أَبي سعيد الخدري رضي الله عنهما- شك الراوي -ولا َي ُضر ال َّشك في َعين ال َّص َحاب ّي؛ لأ َّن ُه ْم ُكل ُه ْم ُع ُدولَ -قالَ: َل َّما َكا َن َغز َوةُ َت ُبو َك ،أ َصا َب ال َّنا َس َم َجا َعة ،فقالواَ :يا َر ُسول اللهَ ،ل ْو أَ ِذ ْن َت َل َنا َف َنح ْر َنا َنوا ِض َح َنا َفأ َك ْل َنا َوا َّد َه َّنا؟ َف َقالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم(( :ا ْف َعلُوا)) َفجاء ُع َم ُر رضي الله عنه َف َقالََ :يا َر ُسول الله ،إ ْن َف َع ْل َت َقلَّ ال َّظ ْه ُرَ ،ولَ ِكن اد ُع ُه ْم ب َفض ِل أ ْز َوا ِد ِه ْمُ ،ث َّم اد ُع الله لَ ُه ْم َعلَ ْي َها بِال َب َر َك ِة ،لَ َعلَّ الله أ ْن َي ْج َعلَ لهم في ذلِ َك ال َب َر َك َةَ .ف َقالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلمَ (( :ن َع ْم)) َف َد َعا ِب َن ْطع َف َب َس َط ُهُ ،ث َّم َد َعا بِفض ِل أ ْز َوا ِد ِه ْمَ ،ف َج َعلَ ال َّر ُجلُ َيجي ُء ب َك ّف ُذ َرة، َو َيجي ُء الآخر بِ َك ّف تمرَ ،ويجي ُء الآخ ُر ِب ِكس َرةَ ،ح َّتى ا ْج َت َم َع َع َلى ال ّنط ِع ِم ْن ذلِ َك َشيء َيسيرَ ،ف َد َعا َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم عليه بِال َب َر َك ِةُ ،ث َّم َقالَُ (( :خ ُذوا في أو ِع َي ِت ُك ْم)) َفأَ َخ ُذوا في أ ْو ِع َيتهم َح َّتى َما َت َر ُكوا في ال َع ْس َك ِر ِو َعاء إلا َملأوهُ َوأَ َكلُوا َح َّتى َشب ُعوا َو َف َضلَ َف ْض َلةَ ،ف َقالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم(( :أَ ْش َه ُد أَ ْن لا إل َه إلا اللهَُ ،وأَ ّني َر ُسولُ الله ،لا َي ْل َقى اللهَ بِ ِه َما َع ْبد َغ ْي َر َشاك َف ُي ْح َج َب َع ِن ال َج َّن ِة)) رواه مسلم شرح الحديث \"لأنهم كلهم عدول\" ،بمعنى أن الصحابة رضوان الله عليهم ،لايختلف أهل السنة والمحققون من أن أصحاب النبي ﷺ لا يطلب لهم تزكية،
ولا يقدح في عدالتهم ،فإذا شك الراوي ،هل راوي هذا الحديث هو أبو هريرة أو أبو سعيد الخدري فإن هذا لا يؤثر شي ًئا في صحة الحديث \" لما كان غزوة تبوك أصاب النا َس مجاعة\" ،هي أصلً كانت في وقت حر شديد ،وضيق من العيش ،وكانت في السنة التاسعة للهجرة ،وتبوك بعيدة عن المدينة ،هي أبعد غزوة غزاها النبي ﷺ \"أصاب النا َس مجاعة ،فقالوا :يا رسول الله ،لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا\" ،النواضح جمع ناضح ،و يقال للبعير الذي ينضح عليه الماء ،يعني للسقي ،هذا أصله ،ولكنه صار بعد ذلك يستعمل ويطلق على البعير ،سواء كان يستعمل للسقي ،أو لا يستعمل للسقي فهنا قالوا للنبي ﷺ لما أصابتهم مجاعة في الطريق\" :يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وا َّدهنا ،فقال رسول الله ﷺ :افعلوا ،قال ذلك ﷺ رفقاً بهم؛ لأنه قد أصابهم الجهد فجاء عمر رضي الله عنه فقال :يا رسول الله إن فعلت ،يعني أذنت لهم بنحر نواضحهم قلَّ ال َّظهر\" قل الظهر ،يعني قلت الرواحل ،وهم في هذا السفر البعيد يحتاجون إلى الرواحل ،وسيلقون عد ًّوا قو ًّيا ،فهم بحاجة إلى الإبقاء على شيء من قوتهم\" ،ولكن اد ُعهم بفضل أزوادهم\" ،بفضل أزوادهم :يعني بقية أزوادهم ،وهو الطعام المتخذ للسفر ،البقايا التي عندهم هذه اجعلهم يحضرونها
\"ثم ادع الله لهم عليها بالبركة\" ،فإذا وجدت البركة في الشيء فإن القليل يكون كثيراً\" ،لعل الله أن يجعل في ذلك البركة\" ،فقال رسول الله ﷺ :نعم ،فدعا بنِ ْطع ،والن ْطع :هو بساط متخذ من الجلد ،مثل السفرة الآن \"فبسطه ،ثم دعا بفضل أزوادهم ،فجعل الرجل يجيء بكف ذرة\" ،ما عنده إلا شيء قليل \"ويجيء الآخر بكف تمر ،ويجيء الآخر بكسرة\" ،يعني من الخبز أو نحو ذلك ،أو قرص \"حتى اجتمع على ال ّن ْطع من ذلك شيء يسير ،فدعا رسول الله ﷺ بالبركة ،ثم قال \":خذوا في أوعيتكم \" (فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملئوه) من هذا القليل الذي في ال ّن ْطع \"وأكلوا حتى شبعوا\" ،يعني الآنية امتلأت ،والموجود أكل منه الجيش حتى شبعوا \" ،وفضلت فضلة ،فقال رسول الله ﷺ \" :أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ،لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة\"
وهذا الشاهد في الحديث في الباب ،لا يلقى الله بهما (بالشهادتين) عبد غير شاك فيحجب عن الجنة ،فهذا فيه فضل التوحيد ،وفضل لا إله إلا الله، وفي الحدي ِث :تقديم الأهم فالأهم ،وارتكاب أخف الضررين دف ًعا لأشدهما، وفيه :أن المؤمن لاب َّد له من دخول الجنة إ َّما ابتداء مع الناجين أو بعد إخراجه من النار.؟
الحديث السابع عشر بعد الأربعمائة عن ِع ْت َبا َن بن مالك رضي الله عنه َو ُه َو ِم َّمن َش ِه َد َبد ًراَ ،قالَ :كن ُت أُ َصلي لِ َق ْو ِمي َبني َسالِمَ ،و َكا َن َي ُحولُ َب ْي ِني و َب ْي َن ُه ْم َواد إِ َذا َجاء ِت الأَ ْم َطارَ ،ف َي ُشق َعلَ َّي ا ْجتِ َيا ُزهُ قِ َبلَ َم ْس ِج ِدهمَ ،ف ِجئ ُت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلت لَ ُه :إ ّني أ ْن َك ْر ُت َب َص ِريَ ،وإ َّن ال َوا ِدي ا َّل ِذي َب ْينِي و َب ْي َن َقو ِمي َيسيلُ إِ َذا َجاء ِت الأ ْم َطا ُرَ ،ف َي ُشق َع َل َّي ا ْج ِت َيا ُزهُ َف َو ِد ْد ُت أ َّن َك َتأتِي َف ُت َصلي في َب ْي ِتي َم َكا ًنا أ َّت ِخ ُذهُ ُم َصلّىَ ،ف َقالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلمَ (( :سأَ ْف َعلُ)). َف َغ َدا عل َّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َوأَ ُبو بكر رضي الله عنه َب ْع َد َما ا ْش َت َّد ال َّن َها ُرَ ،وا ْس َتأ َذ َن َر ُسولُ الله صلى الله عليه وسلمَ ،فأ ِذ ْن ُت لَ ُهَ ،فلَ ْم َي ْجلِ ْس َح َّتى َقالَ(( :أ ْي َن ُت ِحب أَ ْن أُ َصل َي ِم ْن َب ْيتِ َك؟)) َفأَ َش ْر ُت لَ ُه إِلَى ال َم َكا ِن الَّ ِذي أُحب أَ ْن ُي َصل َي ِفي ِهَ ،ف َقا َم َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم َف َك َّب َرَ ،و َص َف ْف َنا َو َرا َءهُ َف َصلَّى َرك َع َتي ِنُ ،ث َّم َس ّلَ َم َو َسلَّ ْم َنا ِحي َن َس ّلَ َم َف َح َب ْس ُت ُه َعلَى َخزي َرة ُت ْص َن ُع َل ُهَ ،ف َس ِم َع أهلُ ال َّدا ِر أ َّن َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم في َب ْيتِي َف َثا َب ِرجال ِم ْن ُه ْم َح َّتى َك ُث َر الر َجالُ فِي ال َب ْي ِت. َف َقالَ َر ُجلَ :ما َف َعلَ َمالِك لاَ أ َراهُ! َف َقالَ َر ُجل :ذلِ َك ُم َنافِق لا ُي ِحب اللهَ ورسو َل ُهَ ،ف َقالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم(( :لاَ َتقُلْ ذلِ َك ،ألا َت َراهُ، َقالَ :لاَ إل َه إلا الله َي ْب َتغي ب َذلِ َك َوج َه الله َت َعا َلى)) َف َقالَ :اللهُ ور ُسولُ ُه أ ْع َل ُم، أ َّما َن ْح ُن َف َواللهِ َما َن َرى ُو َّدهُ َولا َح ِدي َث ُه إلا إِلَى ال ُم َنافِقي َن! َف َقالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم(( :فإ َّن الله َق ْد َح َّر َم َعلَى ال َّنا ِر َم ْن َقالَ :لاَ إل َه إِلاَّ الله َي ْب َت ِغي ب َذلِ َك َو ْج َه الله)) ُم َّت َفق َعلَيه
شرح الحديث النبي صلَّى اللهُ عليه وس َّل َم كان طي َب ال َمع َش ِرَ ،كري َم ال ُخل ِق ،إذا َدعاهُ أحد َل َّبى ما اس َتطا َع إلى ذلك َسبي ًل ،وإذا اس ُتفتِ َي أ ْفتى بما فيه َصل ُح السائ ِل دو َن أ ْن َيل َح َقه َضرر أو َمش َّقة. وفي هذا ال َحدي ِث َي ْحكي ِع ْتبا ُن ب ُن مالِك الأ ْنصاري َرض َي اللهُ عنه -وكان ِم َّمن َش ِه َد َب ْد ًرا مع َرسو ِل الله ص َلّى اللهُ عليه وس َّل َم -أ َّنه كان ُيصلي ل َقو ِمه ِب َبني سالِم ،وهم ب ْطن ِمن الأنصا ِر وكان َيحولُ ب ْين َمنزلِه و َمس ِج ِد َقو ِمه الذي كان ُيصلي فيه إما ًما واد ،إذا جا َءت الأ ْمطا ُر َي ْجري فيه ال َّسيلُ ،ف َيص ُع ُب عليه ا ْجتيا ُزه ِجه َة َمس ِج ِدهم ف َذ َهب إلى َرسو ِل اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّ َم فقال لَه :إني أن َكر ُت َب َصري، ُيري ُد بذلك أنه قد ضعف بصره أو أنه كف بصره وعمى كما في بعض الروايات وإ َّن الواد َي ا َلّذي ب ْيني وب ْي َن َق ْومي َيسيلُ إذا جا َءت الأ ْمطا ُر ،ف َي ُشق علَ َّي عبو ُره إليهم ،فصار ْت عن َده َمش َّقتا ِن إحداهما في َب َص ِره والأُخرى في الم ْشيِ عن َد َج َريا ِن ال َّسي ِل في الوادي وطلَ َب ِمن َرسو ِل اللهِ ص َّلى اللهُ عليه وسلَّ َم أ ْن َيأتِ َيه ،ف ُيصل َي في َموضع في َبيتِه َي َّت ِخ ُذه َمو ِض ًعا لل َّصل ِة ب ْع َد ذلك
فأجا َبه َرسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّ َم ب َتوا ُض ِعه واه ِتما ِمه بأصحابِه و ُحس ِن َمعش ِره ،و َذ َه َب إليه ص ّلَى اللهُ عليه وس َّل َم ومعه أبو َب ْكر َرض َي اللهُ عنه في أ َّو ِل ال َّنها ِر َب ْع َدما ا ْر َت َف َعت ال َّشم ُس فاس َتأْ َذ َن َرسولُ اللهِ ص ّلَى اللهُ عليه وسلَّ َم بالدخو ِل ،فأَ ِذ َن ِع ْتبا ُن َرض َي اللهُ عنه ل َرسو ِل الل ِه ص َّلى اللهُ عليه وسلَّ َم ف َد َخل ،ولم َيجلِ ْس ح َّتى ب َدأَ أ َّو ًلا بالذي جاء ِمن أ ْجلِه ،وهو ال َّصلةُ في ال َبي ِت ف َسأل رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّ َم ِع ْتبا َن \":أي َن ُت ِحب أ ْن أُصل َي ِمن َبي ِتك؟\" فأشا َر ِع ْتبا ُن َرض َي اللهُ عنه إلى ال َمكا ِن الَّذي ُي ِحب أ ْن ُي َصل َي فيه ال َّرسولُ ص َلّى اللهُ عليه وس َلّ َمَ ،فقا َم َرسولُ اللهِ ص َلّى اللهُ عليه وس َّل َم َف َك َّب َر لل َّصل ِة ،و َص َّف الحا ِضرون َورا َءه ص َّلى اللهُ عليه وسلَّ َم ،ف َص َّلى بهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وس ّلَ َم َركع َتي ِن ُث َّم َي ْحكي ِع ْتبا ُن َرض َي اللهُ عنه أ َّنه َطلَ َب ِمن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّ َم الان ِتظا َر ،و َق َّد َم َله َطعا ًما ُي ْدعى َخزيرة َو((ال َخ ِزي َرةُ)) ِه َي َدقيق ُي ْط َب ُخ بِ َشحم ،وقيل يصنع من دقيق وماء مثل العصيدة ف َس ِمع أهلُ الحي أ َّن َرسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّ َم في َبيتِه ،فجا َء ِرجال منهمَ ،ح َّتى َك ُث َر الرجالُ في ال َبي ِت وقولهَ (( :ثا َب ِر َجال)) :أ ْي َجا ُؤوا َوا ْج َت َم ُعوا .فقال ر ُجل ِمن الحاضري َن: ما َف َعلَ مالِ ُك ؟ لا أراه ،ويقصد بمالك هنا مالك بن الدخشن ،فهذا الرجل يسأل عنه ،يقول\" :ما فعل مالك؟ لا أراه!\" ،يقول :أين هو؟ ،لماذا لم
يأ ِت مع هؤلاء الذين فرحوا بمجيء رسول الله ﷺ فثابوا إلى الدار؟، ومالك هو من أهل بدر ،ممن شهد بدراً\" ،فقال رجل :ذلك منافق ،لا يحب الله ورسوله\" ،وأهل بدر لم يكن فيهم منافق ،وهم أفضل أصحاب النبي ﷺ أفضل أصحاب النبي ﷺ الأربعة الخلفاء ،ثم بقية العشرة ،ثم أهل بدر ،ثم أهل بيعة الرضوان ،بهذا الترتيب ،فهذا رجل شهد بدراً. َف َنهاه ْم َرسولُ اللهِ ص ّلَى اللهُ عليه وس َّل َم عن َقو ِل ذلك؛ لأ َّنه َيقولُ :لا إل َه إ َّلا اللهَُ ،ي ْب َتغي بذلك و ْج َه اللهِ تعالَىَ ،ف َر َّد ال َّر ُجلُ :اللهُ و َرسولُه أع َل ُم ،أ َّما َن ْح ُنَ ،فواللهِ لا َن َرى ُو َّده ولا َحدي َثه إ َّلا إلى ال ُمنا ِفقي َن ف َب َّي َن له النبي ص ّلَى اللهُ عليه وس َلّ َم أ َّن اللهَ ُسبحا َنه ق ْد َح َّر َم على ال َّنا ِر َمن قال :لا إلَ َه إ َّلا اللهَُ ،ي ْب َتغي بذلك و ْج َه اللهِ تعالَى وهذه َشهادة منه عليه ال َّصلةُ وال َّسل ُم له بإيمانِه ،ناف ًيا بها ُتهم َة النفا ِق عنه \" فإن الله قد حرم على النار من قال :لا إله إلا الله ،يبتغي بذلك وجه الله\" يعني :الإخلص ،ومن أهل العلم من قال :حرم على النار يعني: الخلود فيها ،لا يخلد فيها ،ولكنه يدخلها بقدر أعماله. وفي الحدي ِثَ :مشروع َّي ُة َصل ِة ال َفريض ِة في البي ِت عن َد ال ُعذ ِر. وفيه :ف ْضلُ َكلم ِة «لا إل َه إ َّلا اللهُ».
الحديث الثامن عشر بعد الأربعمائة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه َقالَ :ق ِدم َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم ب َس ْبيَ ،فإِ َذا ا ْم َرأة ِم َن ال َّس ْبيِ َت ْس َعى ،إِ ْذ َو َج َد ْت َصب ًيا في ال َّس ْبيِ أ َخ َذ ْت ُه َفأ ْل َز َقت ُه ِب َب ْطنِ َها َفأَر َض َع ْت ُهَ ،ف َقالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أ َت َر ْو َن ه ِذ ِه ال َم ْرأ َة َطا ِر َح ًة َولَ َدها في ال َّنا ِر؟)) قُ ْل َنا :لاَ ،واللهِ َف َقالَ(( :لِلُ أ ْر َح ُم ِب ِع َبا ِد ِه ِم ْن ه ِذ ِه ِب َولَ ِد َها)) ُم َّت َفق َعلَي ِه شرح الحديث ينبغي للمؤمن أن يكون حس َن الظن بالِل ،ولا ييأس ،فإنه سبحانه ذو الرحمة الواسعة ،فينبغي للمؤمن ألا ييأس مع تقوى الله والاستقامة على دينه؛ فإ َّن الراغب في الرحمة والراغب في الرجاء يعملَ ،من أراد الخي َر وأراد الرحم َة يعمل بطاعة ربه حتى يحصل له الخير ،فالواجب على المؤمن أن ي َّتقي ر َّبه حتى تناله الرحم ُة َيحكي ُعم ُر ب ُن الخ َّطا ِب رضي الله عنه أ َّنه ق ِدم على ال َّنبي ص َّلى الله عليه وسلَّم ب َس ْبي ،يعني أنه أُتي بسبي ،والسبي هو ما يؤخذ من الكفار من ذراريهم ونسائهم في الحرب فإذا امرأة ِمن ال َّسبيِ أيِ :من الإما ِء
فبايجاتلماَّس ِبعياِللأَّبخ َِنذ ْتفهيوأَثدريهضا َعْ ،تفههليي ِخت َّفحلُ ُعبن َثهاد َياله َلّا َب َت ُن؛سقي ف َق َد ْت صب َّيها و َتض َّررت به ،إذا وج َد ْت َصب ًّيا لكونِها َتض َّررت باجتما ِعه ،فوجد ِت اب َنها بِ َعينِه ،فأخ َذ ْته فألص َق ْته ببطنِها وأَرض َعته بمعنى أنها تفعل ذلك بالصغار ،إذا وجدت أطفالاً من الرضع في السبايا فإنها تأخذهم وترضعهم ،شفقة عليهم وحن ًّوا ،وتفعل ذلك من أجل أن تتخلص مما قد حصل لها من الحليب ،فلبد من إخراجه ،ثم وجدت ولدها الذي كانت تبحث عنه ،فضمته وأرضعته \" أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟\" أي :رامي ًة ول َدها هذا في ال َّنا ِر؟ ،وهذا لا يتصور ،فالمرأة أشد ما تكون حن ًّوا على ولدها قلنا :لا والله ،فقال\" :الله أرحم بعباده من هذه بولدها\" فإن الله -تبارك وتعالى -أرحم بعبده من هذه بولدها فالِل هذه رحمته ،ولكن عقابه شديد ،فالذي هذه رحمته هو الذي أمر بقطع يد السارق في ربع دينار ،وهو الذي أخرج آدم من الجنة في أكلة أكلها من الشجرة
فمن عصى الله تعالى فإن عذابه شديد ،فل يركن الإنسان لمثل هذه الأحاديث فقط ،ويترك أحاديث الوعيد ،وإنما يحصل عنده التوازن، فيكون جامعاً بين الخوف والرجاء ،لا يغتر حتى يرد المهالك والمخاوف ،ولا ُيغلب جانب الخوف فيسيء الظن بالِل تبارك وتعالى وفي الحديث :إشارة إلى أنه ينبغي للمرء أن يجعل تعلقه في جميع أموره بالِل وحده.
الحديث التاسع عشر بعد الأربعمائة عن أَبي هريرة رضي الله عنه َقالََ :قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم: (( َل َّما َخلَ َق الله ال َخ ْل َق َك َت َب في ِك َتابَ ،ف ُه َو ِع ْن َدهُ َفو َق ال َع ْر ِش :إ َّن َر ْح َمتِي َت ْغلِ ُب َغ َضبي)) وفي روايةَ (( :غلَ َب ْت َغ َضبي)) وفي روايةَ (( :س َب َق ْت َغ َضبي)) ُم َّت َفق َع َلي ِه شرح الحديث اللهُ سبحا َنه وتعالى َغفُور َر ِحيم ،ورحم ُته َس َب َق ْت َغ َض َبه؛ و ِمن ِحكم ِته ُسبحا َنه ورحمتِه العا َّم ِة أ ْن َر َزق الكا ِف َر في الدنيا و َن َّعمه و َخ َّوله ُم َّد َة ُعم ِره ،و َم َّك َنه ِمن آمالِه و َم َلذه ،مع أ َّنه لا َيست ِحق ب ُكف ِره و ُمعاندتِه غي َر ُغفرا َنه، و َر َجا ب ُذنو ِبه، آ َم َن به ،واعت َرف رحم ُته ِب َمن فكيف العذا ِب؛ أَلِي ِم تضر ًعا و ُخ ْف َي ًة؟! و َد َعاه وفي هذا الحدي ِث :يقول النبي ص َّلى الله عليه وسلَّم: ((لَ َّما َخلَ َق الله ال َخ ْل َق َك َت َب في ِك َتابَ ،ف ُه َو ِع ْن َدهُ َفو َق ال َع ْر ِش :إ َّن َر ْح َم ِتي َت ْغلِ ُب َغ َضبي)) لما خلق الله الخلق َك َتب سبحانه وتعالى في كتاب وهو عن َده فو َق ال َع ْرش :أ َّن رحم َته تعالى َس َب َق ْت َغ َض َبه
فهو سبحانه وتعالى ال َغفُور ال َّر ِحيم ،فكان ْت رحم ُته أسب َق لعبا ِده ِمن ال َغ َض ِب؛ فهو قد ا ْب َت َدأَ َخ ْل َقه ِمن ال َع َد ِم إلى ال ُو ُجو ِد، بالنع َمة بإخرا ِجهم و َب َس َط لهمِ -من رحمتِه -في الأبنا ِء ِم َن ال َّصب ِر على قلو ِب الأَ َب َو ْي ِن على َت ْربِ َيتِهم ما إذا تد َّبره متدبر أَ ْي َق َن أ َّن ذلك ِمن رحمتِه تعالى و ِمن رحم ِته تعالى السابق ِة أ َّنه َير ُزق ال ُك َّفا َر و ُينعمهم ،و َي ْد َفع عنهم الآلا َمُ ،ث َّم ُر َّبما أَ ْد َخلَهم الإسل َم -رحم ًة منه لهم -وقد َبلَغوا ِمن التمرد عليه وال َخ ْل ِع ل ُربوبِ َّي ِته غايات ُتغ ِض ُبه ،ف َتغلِب رحم ُته و ُيد ِخلهم -بعد إسل ِمهمَ -ج َّن َته و َمن لم َي ُت ْب عليه ح َّتى تو َّفاه فقد َر ِح َمه ُم َّد َة ُعم ِره بِ َت َرا ِخي ُعقوبتِه عنه ،وقد كان له أ َّلا ُي ْم ِه َله بالعقوب ِة ساع َة ُكف ِره به ومعصي ِته له ،لك َّنه أَ ْم َه َله رحم ًة له ،فكل ذلك ِمن َش َوا ِه ِد َس ْب ِق رحم ِته تعالى ل َغ َضبِه ،ومع هذا فإ َّن رحم َة الله السابق َة أكث ُر ِمن أن ُي ِحي َط بها و ْصف قال الطيبي :في سبق الرحمة إشارة أ ّن قسط الخلق منها أكثر من قسطهم من الغضب ،وأنها تنالهم بغير استحقاق ،وأن الغضب لا ينالهم إلا بالاستحقاق .فالرحمة تشمل الشخص جني ًنا ورضي ًعا وفطي ًما، وناش ًئا ،قبل أن يصدر منه شيء من الطاعة ،ولا يلحقه الغضب إلا بعد أن يصدر عنه من الذنوب ما يستحق ذلك. وفي الحديث َ :س َع َة رحم ِة الله ،وكثر َة فضلِه في ِح ْل ِمه قبلَ انتِقا ِمه، و َع ْف ِوه قبلَ ُعقو َب ِته.
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210
- 211
- 212
- 213
- 214
- 215
- 216
- 217
- 218
- 219
- 220
- 221
- 222
- 223
- 224
- 225
- 226
- 227
- 228
- 229
- 230
- 231
- 232