Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore شرح رياض الصالحين المائة الرابعة

شرح رياض الصالحين المائة الرابعة

Published by مكتبة(ورتل) الإلكترونيه, 2021-04-19 18:41:08

Description: شرح رياض الصالحين المائة الرابعة

Search

Read the Text Version

‫الحديث الحادي بعد الثلاثمائة‬ ‫عن عمرو بن شعيب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جد ِه رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ َر ُسول‬ ‫الله صلى الله عليه وسلم‪ُ (( :‬م ُروا أ ْولا َد ُك ْم بِال َّصلا ِة َو ُه ْم أ ْب َنا ُء َس ْب ِع ِسني َن‪،‬‬ ‫َوا ْض ِر ُبو ُه ْم َع َل ْي َها‪َ ،‬و ُه ْم أ ْب َنا ُء َع ْش ٍر‪َ ،‬و َف ِّرقُوا َب ْي َن ُه ْم في الم َضا ِج ِع))‬ ‫حديث حسن رواه أَ ُبو داود بإسناد حسن‬ ‫شرح الحديث‬ ‫وهذا من حقوق الأولاد على آبائهم؛ أن يأمروهم بالصلاة إذا بلغوا سبع‬ ‫سنوات‪ ،‬وأن يضربوهم عليها أي‪ :‬على التفريط فيها وإضاعتها إذا بلغوا‬ ‫ح َّتعىشتركوس َنني َنس‪ْ ،‬هلفةشرعالئي ُعهمال‪ِّ ،‬ديو ُيِنْب َدَيأُْنبمغ َعيه أم ْنف ييت ََعت َلّع َلميه ِماهاالأ َق ْوبلالَ ُدوبقال َّتِتد ُُّرو ِججوبِواهلاَّتسعللي ُسهِلم؛‬ ‫فالطفلُ ُيولَ ُد لا َي ْعقِلُ شيئا‪ُ ،‬ث َّم َي ْك َت ِس ُب َمعا ِر َفه ِمن ال ُملا َحظ ِة وال َّتعلُّ ِم ِم َن‬ ‫الآ َخري َن وخا َّصة الوالِ َدي ِن‪.‬‬ ‫وفي هذا ال َحدي ِث َيقولُ ال َّنب ُّي ص َلّى اللهُ عليه وسلَّم‪:‬‬ ‫‪ُ \" ‬مروا أولا َدكم بال َّصلا ِة وهم أَبنا ُء َس ْب ِع ِسني َن\"‬ ‫أي‪ :‬ا ْطلُبوا ِم ْنهم و َو ِّجهوا لهم الأَ ْم َر بال َّصلا ِة‪ ،‬و َتعلُّ ِم كيف َّيتِها وآدا ِبها‪ ،‬وما‬ ‫َي ْستدعيه َذلِك ِم ْن ِح ْف ِظ بع ِض القرآ ِن الكري ِم وهم في ِس ِّن َس ْب ِع َسنوا ٍت‪،‬‬ ‫وهذا ِس ُّن ال َّسما ِح وال َّتجا ُو ِز وال َّتعلُّ ِم‪.‬‬ ‫‪ \" ‬وا ْض ِربوهم عليها وهم أَ ْبنا ُء َع ْش ٍر\"‬ ‫أي‪ :‬إذا َب َل َغ ال ِّط ْفلُ َع ْش َر ِسني َن أُ ْل ِز َم بال َّصلا ِة ا َّلتي َظلَّ ثلا َث س َنوا ٍت ي َتد َّر ُب‬ ‫عليها‪ ،‬فإذا َق َّصر في ال َّصلا ِة َب ْع َد هذه ال ِّس ِّن ُض ِر َب و ُعوقِ َب ح َّتى يعتا َد على‬

‫أدائِها‪ ،‬فإذا ما َد َخل وق ُت ال َّتكلي ِف يكونو َن قد ا ْعتادوا عليها دو َن أَ ْدنى‬ ‫َتفري ٍط ِم ْنهم في تِ ْل َك ال ِعباد ِة‪.‬‬ ‫‪\" ‬و َف ِّرقوا َب ْي َنهم في ال َمضا ِج ِع\"‬ ‫أي‪ :‬إذا َبلَغوا ِس َّن العا ِشر ِة ُيف َّر ُق بين الأولا ِد ب ِصف ٍة عا َّم ٍة‪ ،‬وبين ال ُّذكو ِر‬ ‫والإنا ِث ب ِصف ٍة خا َّص ٍة في ال َّنو ِم بجان ِب بع ِضهم البع ِض‪ ،‬و ُي ْف َصلُ بي َنهم؛ لأ َّن‬ ‫هذا ال ُعم َر بداي ُة ال ُّدخو ِل في مرحل ِة ال ُبلو ِغ ومعرف ِة ال َّشهو ِة‪ ،‬ح َّتى إذا‬ ‫و َصلوا إلى ِس ِّن ال ُبلو ِغ وال َّشهو ِة َيكونو َن َق ِد ا ْعتادوا على هذا ال َف ْص ِل‪،‬‬ ‫وا ْل ُمرا ُد بال َمضا َج ِع‪ :‬أما ِك ُن ال َّنو ِم‪.‬‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬بيا ُن ِع َظ ِم َق ْد ِر ال َّصلا ِة والاهتما ِم بها‪ ،‬ومشروع َّي ُة َض ْر ِب‬ ‫الأبنا ِء على ال َّتقصي ِر في ال َّصلا ِة ِع ْن َد ُبلو ِغهم ِس َّن العا ِشر ِة‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬الح ُّث على َتعلي ِم الأولا ِد ما َينف ُعهم و ُيصلِ ُحهم‪ ،‬والح ُّث على َس ِّد كلِّ‬ ‫َذرائ ِع الفِتن ِة بي َن ال ُّذكو ِر والإنا ِث‪.‬‬

‫الحديث الثاني بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أَبي ُث َر َّي َة َس ْب َر َة بن معب ٍد ال ُج َهنِ ِّي رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ َر ُسول الله‬ ‫صلى الله عليه وسلم‪َ (( :‬علِّ ُموا ال َّصبِ َّي ال َّصلا َة لِ َس ْب ِع ِسنِي َن‪َ ،‬وا ْض ِر ُبوهُ‬ ‫َعلَ ْي َها ا ْب َن َع ْش ِر ِس ِني َن))‪.‬‬ ‫حديث حسن رواه أَ ُبو داود والترمذي‪َ ،‬وقالَ‪َ ( :‬ح ِدي ٌث َح َس ٌن)‬ ‫ولفظ أَبي داود‪ُ (( :‬م ُروا ال َّصبِ َّي بِال َّصلا ِة إِ َذا َبلَ َغ َس ْب َع ِسنِي َن))‪.‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫تدري ُب الول ِد على ال َّصلا ِة م ْن ُذ ِص َغ ِره أ ْم ٌر ضروري و ُمهم‪ ،‬وفي هذا‬ ‫الحدي ِث يقولُ ال َّنب ُّي ص َّلى اللهُ عليه وس َّلم‪:‬‬ ‫‪ُ \" ‬مروا ال َّصب َّي بال َّصلا ِة إذا ب َل َغ َس ْب َع سني َن\"‬ ‫أي‪ :‬إ َّنه إذا أت َّم َس ْب َع سني َن ُي ْش َر ُع في َح ِّضه على ال َّصلا ِة وتعلي ِمه إ َّياها‪،‬‬ ‫وأ ْم ِره بها م َّرة ترغيبا وم َّرة ترهيبا‪ ،‬والمرا ُد بال َّصب ِّي‪ :‬الول ُد عا َّمة غلاما‬ ‫كان أو بنت‪ ،‬والمرا ُد بالآ ِم ِر ُه ُم الأوليا ُء‪.‬‬ ‫‪\" ‬وإذا بلَ َغ ع ْش َر سني َن فاض ِربوه عليها\"‬ ‫أي‪ُ :‬ي ْض َر ُب عليها ضربا غي َر ُم َب ِّر ٍح إ ْن ت َر َكها‪.‬‬ ‫وأ ْم ُر ال َّنب ِّي صلَّى اللهُ عليه وس َّلم بال َّصلا ِة هنا هو من با ِب تعوي ِده وتدريبِه‬ ‫عليها‪ ،‬لا من با ِب ال َّتكلي ِف‪ ،‬ح َّتى إذا ما أت َّم الولَ ُد بلو َغه كان قد اعتا َد‬ ‫عليها دو َن تفري ٍط منه أو تقصي ٍر‪.‬‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬أه ِّم َّي ُة ال َّصلا ِة‪ ،‬وتخصي ُص ال َّنب ِّي عليه ال َّصلاةُ وال َّسلا ُم لها‬ ‫عن سائ ِر العبادا ِت بأ ْم ِر ال ِّصغا ِر بها‪.‬‬

‫المقدمة‬ ‫باب حق الجار والوصية به‬ ‫الحديث الثالث بعد الثلاثمائة‬ ‫عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قالا‪َ :‬قالَ َر ُسول الله صلى الله‬ ‫عليه وسلم‪َ (( :‬ما َزالَ ِج ْبريلُ ُيو ِصيني بِال َجا ِر َح َّتى َظ َن ْن ُت أ َّن ُه َس ُيو ِّر ُث ُه))‬ ‫ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه‬ ‫شرح الحديث‬ ‫الجار‪ :‬هو الملاصق لك في بيتك والقريب من ذلك‪.‬‬ ‫وقال أهل العلم‪ :‬والجيران ثلاثة‪:‬‬ ‫‪ ‬جار قريب مسلم؛ فله حق الجوار‪ ،‬والقرابة‪ ،‬والإسلام‪.‬‬ ‫‪ ‬وجار مسلم غريب قريب؛ فله حق الجوار‪ ،‬والإسلام‪.‬‬ ‫‪ ‬وجار كافر؛ فله حق الجوار‪ ،‬وإن كان قريبا فله حق القرابة‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫قال الرسول صلى الله عليه وسلم‪(( :‬ما زال جبريل يوصيني بالجار‬ ‫حتى ظننت أنه سيورثه)) حتى ظننت‪ ،‬أي‪ :‬من كثرة ما كان جبريل‬ ‫يوصي النبي بجاره‪ ،‬أن يحسن إليه‪ ،‬أن يعطيه‪ ،‬أن يواسيه‪ ،‬أن‬ ‫يتفقده‪ ،‬حتى ظن أنه سيجعل له نصيبا من الميراث‪ ،‬يجعله من جملة‬ ‫الوارثين‪ ،‬أي سينزل الوحي بتوريث الجار ويكون له نصيب في‬ ‫الميراث‪ ،‬وذلك من شدة إيصاء جبريل به النبي صلى الله عليه وسلم‪.‬‬

‫وهذا يدل على عظم حق الجار‪ ،‬وهو معنى مض ّيع لدى أكثر الناس‪ ،‬حتى‬ ‫بلغ الأمر إلى أن الإنسان لا يعرف من هو جاره‪.‬‬ ‫ويدل على كمال هذه الشريعة‪ ،‬حيث إنها تربط أفراد المجتمع ويحصل بها‬ ‫التكافل‪ ،‬والتآلف‪ ،‬واجتماع القلوب‪ ،‬والمحبة‪ ،‬والترابط‪ ،‬فيكون المجتمع‬ ‫قو ّيا متماسكا منسجما‪ ،‬وهذه من أعظم أسباب السعادة‪ ،‬أن الناس يكونون‬ ‫بهذه المثابة‪ ،‬يحب بعضهم بعضا‪ ،‬يحسن بعضهم إلى بعض‪ ،‬ولو كان ذلك‬ ‫بالشيء اليسير‪.‬‬

‫الحديث الرابع بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أَبي ذر رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم‪َ (( :‬يا‬ ‫أَ َبا َذ ٍّر‪ ،‬إِ َذا َط َب ْخ َت َم َر َقة‪َ ،‬فأكثِ ْر َماء َها‪َ ،‬و َت َعا َه ْد جي َرا َن َك))‬ ‫رواه مسلم‬ ‫وفي رواية لَ ُه عن أَبي ذر‪َ ،‬قالَ‪ :‬إ ّن خليلي صلى الله عليه وسلم أ ْو َصاني‪:‬‬ ‫((إِ َذا َط َب ْخ َت َم َرقا َفأ ْك ِث ْر َماءها‪ُ ،‬ث َّم ا ْن ُظ ْر أ ْهلَ َب ْي ٍت ِم ْن ِجي َرانِ َك‪َ ،‬فأ ِص ْب ُه ْم‬ ‫ِم ْن َها ِبمع ُرو ٍف))‬ ‫شرح الحديث‬ ‫هذا الحديث فيه حث على ملاحظة الجار‪ ،‬والعناية به‪ ،‬وأن يتذكر الجار‬ ‫جاره مما يصنعه لنفسه أو لأهله‪ ،‬ف َطلَب ال َّنب ُّي ص َّلى اللهُ علي ِه وس َّلم ِمن‬ ‫أَبي ذ ٍّر‪ :‬أ َّنه إذا َط َب َخ َم َرقة ف ْل ُيكث ْر ِمن ما ِئها‪ ،‬أي‪َ :‬على ال ُمعتا ِد ل َنف ِسه؛‬ ‫وذل َك ل ُيكث َر الائ ِتدا َم بِها‪.‬‬ ‫أي زدها في الماء لتكثر وتوزع على جيرانك منها‪ ،‬والمرقة عادة تكون‬ ‫من اللحم أو من غيره مما يؤتدم به‪.‬‬ ‫فالشرع جاء بمراعاة قلوب الناس وجبرها‪ ،‬والإحسان إليهم ولو بالشيء‬ ‫اليسير‪ ،‬فإذا بعث إليهم شيئا من هذا الطعام أو من هذا الماء الذي لا‬ ‫يخسر من جرائه شيئا فإن ذلك له أبلغ الأثر في نفوس هؤلاء‪ ،‬ولربما في‬ ‫سد جوعتهم‪ ،‬وقطع تعلق أنظارهم بهذا الصنيع‪ ،‬أو هذا الطعام الذي‬ ‫صنعه‪.‬‬ ‫‪ ‬ول َيتعاه َد ِجيرا َنه‪ ،‬أي‪َ :‬يتف َّق َدهم ب ِزياد ِة َطعا ِمه‪ ،.‬وتعا ُهد الجيران لا‬ ‫يكون بمرة واحدة أن تعطيهم وانتهى‪ ،‬قبل سنة أو سنتين أو نحو‬ ‫ذلك‪ ،‬إنما تعا ُهد الجيران بأن يلاحظهم مرة بعد مرة‪ ،‬لا يكاد يمر به‬

‫أسبوع أو ثلاثة أيام إلا ويعطي أحد الجيران‪ ،‬ولو كانوا أغنياء‪ ،‬فإن‬ ‫ذلك يقوي الروابط والوشائج والصلات‪ ،‬هذه مشاعر‪ ،‬وهذه أخلاق‪،‬‬ ‫وهذه أحاسيس يربيها الإسلام في نفوس الناس؛ ليحصل الترابط في‬ ‫المجتمع والمحبة‪.‬‬ ‫في الحدي ِث‪ :‬ال َح ُّض َعلى َتعا ُه ِد ال ِجيرا ِن َولو بال َقلي ِل‪ ،‬لِ َما َيتر َّت ُب َعلى ذل َك‬ ‫م َن ال َمح َّب ِة والأُل َف ِة‪ ،‬ولِ َما َيح ُصلُ بِه م َن المن َف َع ِة و َدف ِع ال َمفس َد ِة‪.‬‬

‫الحديث الخامس بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أَبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم َقالَ‪:‬‬ ‫((والل ِه لا ُي ْؤ ِم ُن‪َ ،‬واللهِ لا ُي ْؤ ِم ُن‪َ ،‬والل ِه لا ُي ْؤ ِم ُن!)) قِيلَ‪َ :‬م ْن َيا َر ُسول الله؟‬ ‫َقالَ‪(( :‬الَّ ِذي لاَ َيأ َم ُن َجا ُر ُه َب َوا ِئ َق ُه!))‬ ‫ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه‬ ‫وفي رواية لمسلم‪(( :‬لاَ َي ْد ُخلُ ال َج َّن َة َم ْن لاَ َيأ َم ُن َجا ُر ُه َب َوائِ َق ُه))‪.‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫‪ ‬وقول النبي ‪\" :‬والله لا يؤمن\"‬ ‫نف ُي لكمال الإيمان الواجب‪ ،‬بمعنى أنه يكون قد نقص من إيمانه الواجب‬ ‫فيكون مستح ّقا للعقوبة؛ فهو يكون تحت المشيئة‪ ،‬إن شاء الله عذبه وإن‬ ‫شاء غفر له‪.‬‬ ‫‪\" ‬والله لا يؤمن\"‪ ،‬قيل‪ :‬من يا رسول الله؟‬ ‫قال‪\" :‬الذي لا يأمن جاره بوائقه\"‪.‬‬ ‫والبوائق بمعنى‪ :‬الغوائل والشرور‪ ،‬أي‪ :‬أن جاره يتخوف أو يتوقع منه‬ ‫أن يوصل إليه ش ّرا‪ ،‬فهو لا يأمن شره‪ ،‬وغدره وخيانته وظلمه وعدوانه‪،‬‬ ‫فالذي لا يأمن جاره من ذلك ليس بمؤمن كامل الإيمان‪ ،‬وإذا كان يفعل‬ ‫ذلك ويوقعه فعلا فهو أشد‪ ،‬وفي هذا دليل على تحريم العدوان على الجار؛‬ ‫سواء كان ذلك بالقول أو بالفعل‪.‬‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬وعيد شديد لمن أخاف جاره أو خادعه على أهله أو ماله‪.‬‬

‫الحديث السادس بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‪ :‬قال رسول صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫\" يا ِنسا َء ال ُم ْسلِما ِت‪ ،‬لا َت ْحقِ َر َّن جا َرةٌ لِجا َرتِها‪ ،‬ولو فِ ْر ِس َن شا ٍة\"‪.‬‬ ‫(رواه البخار ُّي ومسلِ ٌم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫لا َيفعلُ العب ُد المسل ُم َحسنة أو معروفا إ َّلا جازاه اللهُ به ولو كان يسيرا؛‬ ‫قال تعالى‪َ {:‬ف َم َن َي ْع َملْ ِم ْث َقالَ َذ َّر ٍة َخ ْيرا َي َرهُ} [الزلزلة‪،]7 :‬‬ ‫ولذلك أ َمر النب ُّي ص َّلى الله عليه وس َّلم بع َدم احتقا ِر شي ٍء من المعرو ِف‬ ‫ولو كان صغيرا‪.‬‬ ‫وخا َطب ال ِّنسا َء في هذا الحدي ِث وأ َمر ُه َّن أ َّلا َيحتقِ ْر َن أ َّي شي ٍء ُته ِديه‬ ‫إحدا ُه َّن لجار ِتها ولو كان (فِ ْرس َن شا ٍة)‪ ،‬وهو ما دو َن ال ُّرس ِغ ِمن ي ِدها‪،‬‬ ‫وقيل‪ :‬هو َع ْظم قليلُ ال َّل ْح ِم‬ ‫والمقصو ُد‪ :‬المبالغ ُة في الح ِّث على الإهدا ِء ولو كان شيئا يسيرا‪ ،‬و َخ َّص‬ ‫النسا َء بال ِخطا ِب؛ لأ َّنه َّن َيغلِب عليه َّن استصغا ُر الشي ِء ال َيسي ِر والتباهي‬ ‫بالكثر ِة‪ ،‬ولأنها هي التي في العادة تختص بأمور المنزل وصنع الطعام‪،‬‬ ‫وما أشبه ذلك‪ ،‬وملاحظة الجارة‪.‬‬ ‫يعني أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ في هذا الحديث حث على‬ ‫الهدية للجار ولو شيئا قليلا‪ ،‬قال‪( :‬ولو فرسن شاة) وهو شيء بسيط‬ ‫زهيد كأن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول‪ :‬لا تحقرن من المعروف‬ ‫شيئا ولو قل‪.‬‬

‫وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال‪( :‬إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها‬ ‫وتعاهد جيرانك)‪ .‬حتى المرق إذا أعطيته جيرانك هدية‪ ،‬فإنك تثاب على‬ ‫ذلك‪.‬‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬الحث على فعل المعروف بين الجيران وإن قل‪.‬‬

‫الحديث السابع بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه‪ :‬أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َقالَ‪:‬‬ ‫((لا َي ْم َن ْع َجا ٌر َجا َر ُه أ ْن َي ْغ ِر َز َخ َش َبة في ِج َدا ِر ِه))‬ ‫ُث َّم ي ُقولُ أَ ُبو هريرة‪َ :‬ما لِي أ َرا ُك ْم َع ْن َها ُم ْع ِرضي َن! َوالل ِه لأ ْر ِم َي َّن بِ َها َب ْي َن‬ ‫أ ْك َتافِ ُك ْم‪.‬‬ ‫ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه‬ ‫شرح الحديث‬ ‫‪\" ‬لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره\"‬ ‫أي‪ :‬في جدار الجار‪ ،‬يعني‪ :‬خشبة في ملك غيره‪ ،‬هذا الجدار ملك للجار‪،‬‬ ‫هذا الإنسان يحتاج أن يغرز خشبة لسقف‪ ،‬في السابق كانت الأسقف‬ ‫خشبا‪ ،‬فيحتاج لربما جدار الجار لوضع الخشب عليه ليسقف سقيفة‪،‬‬ ‫ليضع شيئا يعلق به‪ ،‬أو غير ذلك‪ ،‬فالنبي نهاه أن يمنعه من هذا‪.‬‬ ‫هذه المسألة ذكر العلماء قاعدة فقهية تتعلق بها‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫أن من الأشياء ما ُيطلب فيه الإذن ويسقط بالامتناع‪ُ ،‬يطلب فيه الإذن‬ ‫لماذا؟ تطييبا للقلوب‪ ،‬لإزالة أسباب الشحناء‪ ،‬ودفعا لأسباب الخصومة‬ ‫بين الناس‪.‬‬ ‫لماذا تغرز على جداري خشبة دون أن تستأذن؟‪ ،‬فهذا يطلب فيه الإذن‬ ‫ويسقط بالامتناع‪ ،‬بمعنى لو أنه امتنع من هذا الجار‪ ،‬وقال‪ :‬لا تضع‬ ‫خشبك على جداري‪ ،‬فإنه شرعا يسقط إذنه؛ لأنه منهي عن هذا أصلا‪ ،‬لا‬ ‫يمن ْع جار جاره‪.‬‬

‫وفي هذا مسألة وهي‪ :‬أن ما لا يتضرر المكلف من بذله فعليه أن يبذله‪،‬‬ ‫والامتناع من ذلك يدل على ضيق النفس‪ ،‬وقلة المعروف؛ لأنه لا يخسر‬ ‫شيئا‪.‬‬ ‫ولهذا قال أبو هريرة‪ :‬مالي أراكم عنها معرضين‪َ ،‬ي ْعني َع ْن ه ِذ ِه ال ُّس َّنة‪.‬‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬النهي عن المشاحنة بين الجيران وندبهم إلى التساهل‬ ‫والتسامح فيما ينفع الجار من وضع خشب وإجراء ماء‪ ،‬ونحو ذلك مما‬ ‫ينفع الجار‪ ،‬ولا يضر بالمالك‪.‬‬

‫الحديث الثامن بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه‪ :‬أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َقالَ‪:‬‬ ‫(( َم ْن َكا َن ُي ْؤ ِم ُن بالله َوال َيو ِم الآخ ِر‪َ ،‬فلا ُي ْؤ ِذ َجا َرهُ‪َ ،‬و َم ْن َكا َن ُي ْؤ ِم ُن باللهِ‬ ‫َوال َيو ِم الآ ِخ ِر‪َ ،‬ف ْل ُي ْك ِر ْم َض ْي َف ُه‪َ ،‬و َم ْن َكا َن ُي ْؤ ِم ُن باللهِ َوال َيو ِم الآ ِخ ِر‪َ ،‬ف ْل َي ُقلْ‬ ‫َخ ْيرا أَ ْو لِ َي ْس ُك ْت))‬ ‫ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه‪.‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫‪ ‬ير ِش ُدنا ال َّنب ُّي صلَّى ال َّله عليه وس َّلم إلى ال َّت َحلِّي ِبالآدا ِب والأ ْخلا ِق‬ ‫الإسلا ِم َّي ِة‪ ،‬الَّتي َتزي ُد الأُلف َة وال َم َو َّد َة بي َن ال ُمسلِمي َن‪ ،‬ومنها‪َ :‬ع َد ُم‬ ‫إيذا ِء الجا ِر‪ ،‬فهذا الحديث من الأحاديث الجامعة‪ ،‬التي هي من‬ ‫جوامع كلمه ﷺ‪ ،‬فالحقوق منها ما يكون لله تعالى‪ ،‬ومنها ما يكون‬ ‫للخلق‪ ،‬وهذا الحديث قد ب ّين ما يتعلق بكثير من حق المخلوقين‪،‬‬ ‫فقال‪:‬‬ ‫‪\" ‬من كان يؤمن بالله واليوم الآخر\" أي إيمانا كاملا فهذه الصيغة تدل‬ ‫على أن ذلك مما يجب على الإنسان‪ ،‬وأنه من الكمال الواجب‪.‬‬ ‫‪ \" ‬من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤ ِذ جاره\" يدل على أن هذه‬ ‫الأمور المذكورة في هذا الحديث أنها مما يجب على الإنسان‪ ،‬وهي‬ ‫من الإيمان الواجب‪ ،‬وأنه إن أخل بها نقص من إيمانه الواجب وهو‬ ‫مستحق لعقوبة الله ‪-‬تبارك وتعالى‪.‬‬ ‫وقوله‪\" :‬من كان يؤمن بالله واليوم الآخر\"‪ ،‬جمع بين الأمرين الإيمان‬ ‫بالله والإيمان باليوم الآخر‪ ،‬وذلك أن َمن رجا يوما يحا َسب فيه على‬

‫أعماله‪ ،‬ويجازى عليها فإنه يحا ِسب نفسه‪ ،‬ويؤدي الحقوق إلى أصحابها‪،‬‬ ‫ويعلم أنه مجز ٍّي بكل ما يأتي وما يذر‪.‬‬ ‫فالإيمان باليوم الآخر هو المحرك الذي يجعل الإنسان يتهيأ‪ ،‬الذي يجعل‬ ‫الإنسان يستعد‪ ،‬الذي يجعله يحاسب نفسه؛ لأنه يعلم أنه سيصير إلى يوم‬ ‫يجزيه الله على كل ما فعل‪.‬‬ ‫‪ \" ‬من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤ ِذ جاره\" وهذا يدخل فيه‬ ‫جميع أنواع الأذى‪ ،‬إما بالمباشرة وإما بالتسبب‪ ،‬لا يؤذيه بمد يده‬ ‫عليه بالضرب‪ ،‬أو بالسرقة أو غيرها‪ ،‬فكل ما يمكن أن يتصور من‬ ‫الأذى بالمباشرة فهو داخل فيه‪.‬‬ ‫وكذلك الأذى الواصل إليهم بالتسبب‪ ،‬يتسبب في أذيتهم‪ ،‬يدل على‬ ‫عوراتهم‪ ،‬كأن يكون مشاركا لغيره في أي لون من ألوان الأذية التي‬ ‫يمكن أن تحصل لهم‪.‬‬ ‫‪ \" ‬ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكر ْم ضيفه\" إكرام الضيف‬ ‫واجب‪ ،‬وحقه الواجب يجب أن يؤدى إليه‪ ،‬ولا شك أن هذا من‬ ‫محاسن الأخلاق التي دعا إليها الإسلام‪ ،‬وهو يدل على كمال النفس‬ ‫ورفعتها‪ ،‬وسعة الصدر‪ ،‬ويدخل في إكرام الضيف ما يوضع له من‬ ‫طعام وضيافة‪ ،‬ويدخل فيه أيضا طلاقة الوجه‪ ،‬والترحيب به‪،‬‬ ‫وإكرامه بالقول والفعل‪.‬‬ ‫‪ \" ‬ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت\"‬ ‫وهذا من ِح ْف ُظ اللِّسا ِن‪ ،‬فليقل خيرا‪ ،‬يأمر بمعروف‪ ،‬ينهى عن منكر‪.‬‬ ‫إذا تكلم يتكلم بالمعروف‪ ،‬يتكلم بما لا يضر‪ ،‬يتكلم بما فيه نفع‪ ،‬فيدخل في‬ ‫هذا الخير ما استجمع شروطا‪:‬‬

‫‪.1‬أن يريد بهذا الكلام وجه الله‪.‬‬ ‫‪.2‬لا يريد الرياء‪ ،‬ولا السمعة‪.‬‬ ‫‪.3‬وأن يكون هذا الكلام مما يحصل فيه نفع للسامعين‪.‬‬ ‫\"أو ليسكت\" والسكوت عن الشر صدقة‪ ،‬ولهذا كان الحسن وطائفة من‬ ‫السلف كانوا يحاسبون أنفسهم عند الكلمة‪ ،‬ماذا أردت بهذه الكلمة؟‬ ‫وكم من كلمة قالت لصاحبها‪ :‬دعني‪ ،‬وكم من كلمة أذهبت دنيا الإنسان‬ ‫وآخرته‪ ،‬والنبي ﷺ يقول‪\" :‬إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي‬ ‫لها بالا يهوي بها سبعين خريفا في النار\"‪.‬‬ ‫وهذا الحدي ِث‪ :‬من قواعد الإسلام‪ ،‬لأن جميع آداب الخير تتفرع منه‬ ‫وآكدها حق الجوار‪.‬‬

‫الحديث التاسع بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أَبي ُش َر ْيح ال ُخ َزاع ِّي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم‬ ‫َقالَ‪َ (( :‬م ْن َكا َن ُيؤ ِم ُن بِاللهِ َوال َيو ِم الآ ِخ ِر‪َ ،‬ف ْل ُي ْح ِس ْن إِ َلى َجا ِر ِه‪َ ،‬و َم ْن َكا َن‬ ‫ُي ْؤ ِم ُن باللهِ َوال َيو ِم الآ ِخ ِر‪َ ،‬ف ْل ُي ْك ِر ْم َض ْي َف ُه‪َ ،‬و َم ْن َكا َن ُي ْؤ ِم ُن ِباللهِ َوال َيو ِم‬ ‫الآ ِخ ِر‪َ ،‬ف ْل َي ُقلْ َخ ْيرا أَ ْو لِ َي ْس ُك ْت))‪.‬‬ ‫رواه مسلم بهذا اللفظ‪ ،‬وروى البخاري بعضه‪.‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫حديث أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه يشبه الحديث السابق تماما‪ ،‬أن‬ ‫النبي ﷺ قال‪ \" :‬من كان يؤمن بالله واليوم الآخر‪ ،‬فليحسن إلى جاره‪،‬‬ ‫ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر‪ ،‬فليكرم ضيفه‪ ،‬ومن كان يؤمن بالله‬ ‫واليوم الآخر‪ ،‬فليقل خيرا أو ليسكت\"‪.‬‬ ‫هناك قال‪ \" :‬فلا يؤ ِذ جاره\"‪ ،‬هناك في النهي والكف من باب التخلية‪.‬‬ ‫وهنا من باب التحلية‪ ،‬لا يؤ ِذ جاره‪ ،‬فليحسن إلى جاره‪.‬‬ ‫وهذا يدل على أن تحقيق الإيمان بالله واليوم الآخر يقتضي عدم أذية‬ ‫الجار‪ ،‬ويقتضي الإحسان أيضا إلى الجار؛ لأن الإنسان قد لا يؤذي جاره‪،‬‬ ‫لكنه لا يحسن إليه‪.‬‬ ‫قد يكون الإنسان بالنسبة لجاره كالجدار‪ ،‬كالجماد‪ ،‬لا يحصل منه لا خير‬ ‫ولا شر‪ ،‬لكن هل هذا مطلوب؟‬ ‫هذا غير مطلوب‪ ،‬فل ُيسحن إلى جار ِه‪.‬‬ ‫ثم ذكر الأمور الأخرى قال‪ \":‬ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم‬ ‫ضيفه‪ ،‬ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت\" ‪.‬‬

‫الحديث العاشر بعد الثلاثمائة‬ ‫عن عائشة رضي الله عنها َقالَت‪ :‬قُ ْل ُت‪َ :‬يا َر ُسول الله‪ ،‬إ َّن لِي جا َر ْي ِن‪ ،‬فإلى‬ ‫أ ِّي ِه َما أُ ْه ِدي؟ َقالَ‪:‬‬ ‫((إِ َلى أ ْق َر ِب ِه َما ِمن ِك َبابا))‬ ‫رواه البخاري‪.‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫أوصى اللهُ سبحانه وتعالى ِبالجا ِر‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫{ َوا ْل َجا ِر ِذي ا ْلقُ ْر َبى َوا ْل َجا ِر ا ْل ُج ُن ِب َوال َّصا ِح ِب ِبا ْل َج ْن ِب} [النساء‪،]36 :‬‬ ‫وكذلك أوصى ص َّلى اللهُ عليه وس َّلم به وبح ْف ِظ حقوقِه‪ ،‬وح َّذر ِمن إيذائِه‬ ‫وإهدا ِر ح ِّقه وقد مرت بنا النصوص الدالة على حق الجار‪.‬‬ ‫وفي هذا الحديث يبين الأح َّق من الجيران والأولى بالإحسان في حال عدم‬ ‫إمكان الإحسان إلى الجميع‪ ،‬ومعلوم أن القاعدة الشرعية أن المصالح إذا‬ ‫تعارضت فإنه يرجح بينها بالمرجحات المعروفة‪ ،‬ففي باب الجار هنا‬ ‫يرجح بالمرجحات‪ ،‬كأن يكون أحد الجار ْين قريبا‪ ،‬فهذا أولى بالإحسان من‬ ‫الجار الذي ليس بينك وبينه قرابة‪ ،‬وهكذا إذا كان الجار مسلما‪ ،‬فهو أولى‬ ‫من الجار الكافر بالإحسان‪ ،‬وإن كان حق الجوار للجميع‪ ،‬والإحسان إلى‬ ‫الجيران‪.‬‬ ‫فهنا جاء الترجيح بالقرب‪ ،‬يعني‪ :‬في حال التساوي إذا كان هؤلاء كلهم‬ ‫من غير القرابة فمن هو المقدم؟‬ ‫الأقرب منك بابا‪ ،‬إذا كان الإنسان يسكن في عمارة فالذي يسكن معه في‬ ‫نفس الدور أولى من الذي يسكن في الدور الآخر‪ ،‬إذا كان الإنسان يسكن‬

‫في حي‪ ،‬وهذا جار لصيق‪ ،‬وهذا بينه وبينه أرض فضاء‪ ،‬فالذي يلاصقه‬ ‫في الدار أولى من غيره‪ ،‬ويكون مرجحا في الإحسان‪ ،‬وهكذا فيما يتعلق‬ ‫بالقرابات‪ ،‬فإن الدائرة الأولى من الوالدين والأبناء والإخوة والأخوات‬ ‫هؤلاء أقرب من الأعمام والأخوال‪ ،‬والأعمام والأخوال أقرب من أبناء‬ ‫العم وأبناء الخال‪ ،‬وهكذا‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬دليل على تقديم الأقرب من الجيران بابا على الأبعد منهم‪.‬‬

‫الحديث الحادي عشر بعد الثلاثمائة‬ ‫عن عب ِد الله بن عمرو رضي الله عنهما َقالَ‪َ :‬قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه‬ ‫وسلم‪َ (( :‬خ ْي ُر الأَ ْص َحا ِب ِع ْن َد الله َت َعالَى َخ ْي ُر ُه ْم لِ َصا ِح ِب ِه‪َ ،‬و َخي ُر ال ِجي َرا ِن‬ ‫ِع ْن َد الله َت َعا َلى َخ ْي ُر ُه ْم لِ َجا ِر ِه))‬ ‫رواه الترمذي‪َ ،‬وقالَ‪َ ( :‬ح ِدي ٌث َح َس ٌن) صحيح الترمذي‬ ‫شرح الحديث‬ ‫في هذا الحدي ِث يقولُ ال َّنب ُّي ص َّلى اللهُ ع َليه وس َّلم‪َ \" :‬خي ُر الأصحا ِب عند‬ ‫اللهِ\"‪ ،‬أي‪ :‬أكث ُرهم ثوابا وأجرا عند اللهِ‪.‬‬ ‫‪\" ‬خي ُرهم لصاح ِبه\"‪ ،‬أي‪ :‬ب َب ْذ ِل ال َّنصيح ِة و َر ْف ِع ال َك ْر ِب عنه‪ ،‬وكا َّف ِة‬ ‫ُص َو ِر الإحسا ِن وال َّتعاو ِن ِمن ال َّصاح ِب لصاحبِه‪.‬‬ ‫‪\" ‬وخي ُر الجيرا ِن\"‪ ،‬أي‪ :‬المقا ِر ِب لل َمسك ِن \"عن َد اللهِ\" أي‪ :‬أك َث ُرهم‬ ‫َثوابا وأجرا عند اللهِ‪.‬‬ ‫‪\" ‬خي ُرهم لجا ِره\"‪ ،‬أي‪ :‬بالإحسا ِن إليه‪ ،‬وك ِّف الأ َذى عنه‪ ،‬ور ْف ِع ما به‬ ‫ِمن ُكر ٍب‪ ،‬وإهدا ِئه ِمن ال َّطعا ِم‪ ،‬وكا َّف ِة ُصو ِر الإحسا ِن وال َّتعاو ِن ِمن‬ ‫الجا ِر لجا ِره‪.‬‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬الترغي ُب في إحسا ِن المعامل ِة مع الأصحا ِب والجيرا ِن‪،‬‬ ‫وبيا ُن أ َّن خي َر ال َّنا ِس لأصحابِه وجيرانِه ِمن أفض ِل ال َّنا ِس عن َد اللهِ سبحانه‬ ‫وتعالى؛ فهو بمن َفعتِه لأصحا ِبه وجيرا ِنه َيد ُخلُ في أبوا ٍب كثير ٍة ِمن الخي ِر‬ ‫ح َّثنا الإسلا ُم على فِعلِها‪.‬‬

‫المقدمة‬ ‫باب بر الوالدين وصلة الأرحام‬ ‫الحديث الثاني عشر بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أَبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه َقالَ‪ :‬سألت النب َّي‬ ‫صلى الله عليه وسلم‪ :‬أ ُّي ال َع َم ِل أَ َح ُّب إِلَى الل ِه َت َعا َلى؟‬ ‫َقالَ‪(( :‬ال َّصلاَ ُة َعلَى َو ْقتِ َها))‪ ،‬قُ ْل ُت‪ُ :‬ث َّم أي؟‬ ‫َقالَ‪(( :‬بِ ُّر ال َوالِ َد ْي ِن))‪ُ ،‬ق ْل ُت‪ُ :‬ث َّم أَي؟ َقالَ‪:‬‬ ‫((ال ِج َها ُد في سبي ِل الله))‬ ‫ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه‪.‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫يقول ابن مسعود رضي الله عنه \" سألت النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪-‬‬ ‫أي العمل أحب إلى الله؟ \"‪ ،‬قال ابن دقيق العيد‪ :‬الغرض من هذا السؤال‬ ‫معرفة ما ينبغي تقديمه من الأعمال على غيره؛ وذلك لأنه كلما كان ال ْعمل‬ ‫أح َّب إلى الله كان أكثر ثوابا‪ ،‬فإ ّن المحبوب يحظى بما لا يحظى به غيره‪.‬‬ ‫‪ \" ‬قال‪ :‬الصلاة على وقتها \" أي أحب الأعمال إلى الله تعالى‬ ‫المرضية لديه الصلاة في وقتها‪.‬‬ ‫وجاء في بعض الروايات أن النبي قال‪( :‬في أول وقتها)‬ ‫وهذا فيما لا يكون الأفضل فيه التأخير‪ ،‬وذلك فيما يطلب فيه الإبراد‬ ‫كالظهر في شدة الحر‪ ،‬بحيث لا ُيف ِّوت الجماعة‪ ،‬وكذلك أيضا في صلاة‬ ‫العشاء إذا اتفقوا على أن يؤخروها كما فعل النبي ﷺ مرة وأخبر أنه‬

‫وقتها لولا أن يشق على أمته‪ ،‬فالشاهد أن الصلاة في أول الوقت هي‬ ‫أفضل العمل‪.‬‬ ‫\" قال ثم أي؟ \" ثم أي العمل أح ُّب إلى الله تعالى بعد الصلاة‪،‬‬ ‫‪ \" ‬قال بر الوالدين \" أي العمل الثاني بعد الصلاة الاجتهاد في‬ ‫الإِحسان إلى الوالدين‪ ،‬وطاعتهما وإرضاؤهما فيما لا يغضب الله‪.‬‬ ‫‪ \" ‬قال‪ :‬ثم أي؟ قال‪ :‬الجهاد في سبيل الله \"‬ ‫أي الجهاد ِلإعلاء كلمة الله‪ ،‬فإنه يأتي في المرتبة الثالثة‪.‬‬ ‫فصار بر الوالدين أفضل من الجهاد‪ ،‬بل قال بعض السلف كعطاء‪ :‬إن‬ ‫القيام على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله‪.‬‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬أن أفضل الأعمال بعد الإيمان أداء الصلاة في وقتها‬ ‫المختار‪.‬‬

‫الحديث الثالث عشر بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أَبي هريرة رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫((لاَ َي ْج ِزي َو َل ٌد َوالِدا إِلاَّ أَ ْن َي ِج َد ُه َم ْملُوكا‪َ ،‬ف َي ْش َت ِر َي ُه َف ُي ْعتِ َق ُه))‬ ‫رواه مسلم‪.‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫ح ُّق الوال َدي ِن هو أعظ ُم الحقو ِق بع َد ح ِّق اللهِ تعالى‪ ،‬و ِب ُّرهما والإحسا ُن‬ ‫إلي ِهما ِمن الأمو ِر التي ح َّث ْت عليها ال َّشريع ُة ور َّغ َبت فيها ب ِع َظ ِم ال َّثوا ِب‪،‬‬ ‫وأث َنت على َمن ف َعلَها‪ ،‬وفي هذا الحدي ِث َيقولُ ال َّنب ُّي ص َّلى اللهُ ع َليه وس َلّم‪:‬‬ ‫‪\" ‬لا َي ْجزي\"‪ ،‬أي‪ :‬لا ُيكافِ ُئ و ُيساوي‪.‬‬ ‫‪\" ‬ولَ ٌد والِ َده\"؛ بما ق َّدم إليه ِمن َتربي ٍة ورعاي ٍة وإحسا ٍن‪ ،‬وكو ِنه سببا‬ ‫في ُوجو ِده‪ ،‬فالوالد متفضل وصاحب معروف وإحسان للولد‪ ،‬ومهما‬ ‫فعل الولد فإنه لا يكافئ حقه ولا يجزيه في مقابل ما صنع‪.‬‬ ‫‪\" ‬إ َّلا أن َي ِج َده َمملوكا‪ ،‬ف َيش َت ِر َيه ف ُيعتِ َقه\"‬ ‫أي‪َ :‬يج َع َله ُح ّرا بع َد أ ْن أص َبح عبدا بال ِم ْل ِك؛ فتلك هي الحال ُة الوحيدةُ‬ ‫لِ ُيكا َفأَ بها على ما ق َّد َمه له‪ ،‬وهو أن َيج َعلَه ح ّرا إ ْن كان مملوكا‪.‬‬ ‫فلا يمكن للإنسان أن يصل إلى رد الجميل إلا بحالة واحدة هي أن يكون‬ ‫الأب كالمتاع يباع ويشترى‪ ،‬إذا كان رقيقا مملوكا‪ ،‬يباع ويشترى‪،‬‬ ‫مسلوب الحرية‪ ،‬يتصرف به غيره تصرفا كاملا‪ ،‬ولا يملك قليلا ولا كثيرا؛‬ ‫لأن كل ما يملك العبد فهو لسيده‪ ،‬فإذا جاء ولده فأعتقه يكون قد كافأه‬ ‫حقه‪ ،‬هذه فقط‪.‬‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬بيا ٌن ل ِع َظ ِم ح ِّق الوالِ َدي ِن‪.‬‬

‫الحديث الرابع عشر بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أبي هريرة أيضا رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‬ ‫َقالَ‪َ (( :‬م ْن َكا َن ُي ْؤ ِم ُن باللهِ َوال َيو ِم الآ ِخ ِر‪َ ،‬ف ْل ُي ْك ِر ْم َض ْي َف ُه‪َ ،‬و َم ْن َكا َن ُي ْؤ ِم ُن‬ ‫باللهِ َوال َيو ِم الآ ِخ ِر‪َ ،‬ف ْل َي ِصلْ َر ِح َم ُه‪َ ،‬و َم ْن َكا َن ُي ْؤ ِم ُن ِباللهِ َوال َيو ِم الآ ِخ ِر‪،‬‬ ‫َف ْل َي ُقلْ َخ ْيرا أَ ْو لِ َي ْص ُم ْت))‬ ‫ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه‪.‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫سبق الكلام على بعض ما تضمنه هذا الحديث‪ ،‬وقوله ‪:‬‬ ‫‪ \" ‬من كان يؤمن بالله واليوم الآخر\"‬ ‫هذا حث وتحفيز‪ ،‬وذلك أن مثل هذا الأسلوب فيه دفع للمكلف وتحريض‬ ‫على الامتثال‪ ،‬وذكر الإيمان بالله واليوم الآخر وهذا كثيرا ما يقترن؛ لأن‬ ‫الإيمان بالله وباليوم الآخر يدفع المكلف إلى العمل والمحاسبة‪ ،‬فهو يدرك‬ ‫أنه سيقف بين يدي الله تعالى في يوم ُيجزى فيه على القليل والكثير‪،‬‬ ‫فـمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه هذا يدل على وجوب‬ ‫إكرام الضيف‪ ،‬وذلك من جهتين في هذا الحديث‬ ‫‪ ‬الأولى‪ :‬أنه ربطه بهذا الشرط من كان يؤمن بالله واليوم‬ ‫الآخر‪.‬‬ ‫‪ ‬الأمر الثاني‪ :‬أنه جاء بصيغة الأمر صريحة؛ لأن صيغة الأمر‬ ‫\"افعل\" أك ِر ْم ضيفك‪ ،‬أو الفعل المضارع إذا دخلت عليه لام‬ ‫الأمر فليكرم ضيفه‪ ،‬ولا شك أن إكرام الضيف من محاسن‬ ‫الأخلاق ومكارمها التي جاءت بها هذه الشريعة‪.‬‬

‫‪\" ‬ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه\"‬ ‫وهذا هو الشاهد هنا في هذا الباب‪ ،‬وصلة الرحم عرفنا أنها تكون‬ ‫بالمواساة بالمال إن كانوا محتاجين‪ ،‬أو بالتعاهد بالزيارة‪ ،‬وقد يكتفى عن‬ ‫ذلك بالتواصل معهم بوسيلة من وسائل الاتصال‪ ،‬كالهاتف ونحو ذلك‪،‬‬ ‫فيحصل به المقصود‪ ،‬وعرفنا أن الرحم دوائر‪ ،‬فكلما كانت الدائرة أقرب‬ ‫كلما كان الحق أثبت وآكد‪.‬‬ ‫‪\" ‬ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت\"‬ ‫وعرفنا قبلُ أن السكوت عن الباطل وكف الشر صدقة‪ ،‬وأن الرجل قد‬ ‫يتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يهوي بها في‬ ‫النار سبعين خريفا‪ ،‬كما ثبت عن النبي ‪ ،‬فالإنسان لا يتكلم إلا بما‬ ‫يصلح وبما يحسن ويجمل أن يتكلم به‪ ،‬أو يسكت‪.‬‬

‫الحديث الخامس عشر بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫((إ َّن اللهَ َت َعالَى َخ َل َق ال َخ ْل َق َح َّتى إِ َذا َف َر َغ ِم ْن ُه ْم َقا َم ِت ال َّر ِح ُم‪َ ،‬ف َقالَ ْت‪َ :‬ه َذا‬ ‫ُم َقا ُم ال َعا ِئ ِذ بِ َك ِم َن ال َق ِطيع ِة‪َ ،‬قالَ‪َ :‬ن َع ْم‪ ،‬أ َما َت ْر َض ْي َن أ ْن أ ِصلَ َم ْن َو َصلَ ِك‪،‬‬ ‫َوأ ْق َط َع َم ْن َق َط َع ِك؟ َقالَ ْت‪َ :‬بلَى‪َ ،‬قالَ‪َ :‬ف َذلِ َك َل ِك))‬ ‫ُث َّم َقالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم‪(( :‬ا ْق َر ُؤوا إ ْن ِش ْئت ْم‪َ { :‬ف َهلْ َع َس ْي ُت ْم‬ ‫إِ ْن َت َولَّ ْي ُت ْم أَ ْن ُت ْف ِس ُدوا فِي الأَ ْر ِض َو ُت َق ِّط ُعوا أَ ْر َحا َم ُك ْم أُو َل ِئ َك ا َّل ِذي َن َل َع َن ُه ُم اللهُ‬ ‫َفأَ َص َّم ُه ْم َوأَ ْع َمى أَ ْب َصا َر ُه ْم} [محمد‪))]23 ،22 :‬‬ ‫ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه‬ ‫‪ ‬وفي رواية للبخاري‪َ :‬ف َقالَ الله َت َعا َلى‪َ (( :‬م ْن َو َص َل ِك‪َ ،‬و َص ْل ُت ُه‪َ ،‬و َم ْن‬ ‫َق َط َع ِك‪َ ،‬ق َط ْع ُت ُه))‬ ‫شرح الحديث‬ ‫َقط ِعها‬ ‫وما يتر َّت ُب على‬ ‫هصيل ِةالاقلرَّراب ِح ُةِم‪،،‬‬ ‫َضرور ِة‬ ‫الحدي ِث بيا ُن‬ ‫في هذا‬ ‫ال َّرحم ِة‬ ‫وهي ُمشت َّق ٌة ِم َن‬ ‫وال َّرح ُم‬ ‫في حقوقِها‪،‬‬ ‫وال َّتفري ِط‬ ‫قال رسول الله ‪\" :‬إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم\"‬ ‫يعني‪ :‬من خلقهم‪.‬‬ ‫‪\" ‬قامت الرحم فقالت‪ :‬هذا مقام العائذ بك من القطيعة\"‬ ‫قامت بين يدي الله وأنطقها الله تقول‪:‬‬ ‫\"هذا مقام العائذ بك من القطيعة\" يعني‪ :‬قِيامي هذا قِيا ُم المستجي ِر ب َك ِم َن‬ ‫القطيع ِة‪ ،‬أي المستعيذ المعتصم الملتجئ إليك المستجير بك من قطيعتي‬

‫أي تطلب من ربها حمايتها من القطيعة والقطيعة هي الإساءة وقيل هي‬ ‫عدم الإحسان‪.‬‬ ‫فقال‪\" :‬ألا ترضي َن أن أصل َمن وصلك‪ ،‬وأقطع َمن قطعك؟ قالت‪ :‬بلى‪،‬‬ ‫قال‪ :‬فذلك ل ِك\"‬ ‫أي‪ :‬فهذا ا َلّذي َذك ْر ُت هو ما أفعلُه‪ ،‬وهو أ َّنني أ ِصلُ َمن وص َلك وأقط ُع َمن‬ ‫قط َعك‪ ،‬والوصل من الله كناية عن عظيم إحسانه‪ ،‬قال القرطبي‪ :‬ومقصود‬ ‫هذا الكلام الإخبار بتأكيد أمر صلة الرحم وأنه تعالى أنزلها منزلة من‬ ‫استجاره فأجاره فأدخله في حمايته وإذا كان كذلك فجار الله غير مخذول‪.‬‬ ‫وهذا يدل على وجوب الصلة‪ ،‬وأ َّن الصلة من أسباب وصل الله العبد بكل‬ ‫خي ٍر‪ ،‬ومن توفيق الله له‪ ،‬وأ َّن القطيعة من أسباب قطع الله له‪ ،‬فالواجب‬ ‫الحذر من قطيعة الرحم‪ ،‬والحذر من عقوق الوالدين‪.‬‬ ‫‪َ { ‬ف َهلْ َع َس ْي ُت ْم}‬ ‫يعني‪ُ :‬ينتظر منكم‪ُ ،‬يتوقع منكم \"إِن َت َولَّ ْي ُت ْم\" يحتمل معنيين‪:‬‬ ‫‪.1‬الأول‪ :‬وهو تفسير بعض أهل العلم \"إِن َت َولَّ ْي ُت ْم\" يعني‪ :‬صرتم ملوكا‬ ‫وولاة‪ ،‬صارت لكم ولاية‪ ،‬صرتم حكاما تحكمون الناس‬ ‫{أَن ُت ْف ِس ُدوا فِي ا ْلأَ ْر ِض َو ُت َق ِّط ُعوا أَ ْر َحا َم ُك ْم} يعني‪ :‬إذا حصل لكم تسلُّ ٌط أن‬ ‫يكون ذلك حاملا لكم على الإفساد وقطيعة الأرحام‪.‬‬ ‫‪.2‬والمعنى الثاني‪ :‬وهو الأقرب أن المراد‪( :‬إِن َت َولَّ ْي ُت ْم) يعني‪ :‬أعرضتم‬ ‫عن الهدى ودين الحق الذي جاء به الرسول ‪ ،‬فماذا ُينتظر‬ ‫منكم؟‪ ،‬الإفساد وقطيعة الرحم؛ لأن ما جاء به الرسول حث فيه‬ ‫على مكارم الأخلاق‪ ،‬وطاعة الله وطاعة رسول الله ‪ ،‬وصلة‬

‫الأرحام‪ ،‬وكف الأذى عن الناس‪ ،‬والنهي عن الظلم‪ ،‬وما أشبه‬ ‫ذلك‪.‬‬ ‫قال‪( :‬اقرءوا إن شئتم \" َف َهلْ َع َس ْي ُت ْم إِن َت َولَّ ْي ُت ْم أَن ُت ْف ِس ُدوا فِي ا ْلأَ ْر ِض‬ ‫َو ُت َق ِّط ُعوا أَ ْر َحا َم ُك ْم*أُ ْو َل ِئ َك ا َّل ِذي َن َل َع َن ُه ُم ال َّلهُ َفأَ َص َّم ُه ْم َوأَ ْع َمى أَ ْب َصا َر ُه ْم\")‬ ‫[محمد‪]23-22:‬‬ ‫يعني‪ :‬الموصوفين بهذه الأوصاف‪ ،‬الذين يفسدون في الأرض‬ ‫ويقطعون أرحامهم \"أُ ْو َلئِ َك الَّ ِذي َن لَ َع َن ُه ُم ال َّلهُ َفأَ َص َّم ُه ْم َوأَ ْع َمى‬ ‫أَ ْب َصا َر ُه ْم\"‪ :‬يعني‪ :‬صاروا ُص ّما عن سماع الحق‪ ،‬وأعمى أبصارهم فهم‬ ‫لا يرون الحق‪.‬‬ ‫وفي رواية للبخاري‪ :‬فقال الله تعالى‪ \":‬من وصل ِك وصل ُته ومن قطع ِك‬ ‫قطع ُته\"‪.‬‬ ‫ويكفي هذا في بيان أهمية صلة الرحم‪ ،‬فدل ذلك على أن صلة الرحم من‬ ‫الأصول العظيمة التي تكون مناطا لنجاة العبد يوم القيامة‪ ،‬من وصلك‬ ‫وصلته‪ ،‬ومن قطعك قطعته‪ ،‬فيحتاج الإنسان إلى إعادة نظر في حاله‬ ‫وعمله‪ ،‬وتحقيقه لهذا المعنى‪ ،‬هل هو مقصر فيه‪ ،‬هل هو يصل‬ ‫رحمه‪.‬‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬حث وترغيب في صلة الرحم‪ ،‬فإذا أردت أن يصلك الله ـ‬ ‫وكل إنساك يريد أن يصله ربه ـ فصل رحمك‪ ،‬وإذا أردت أن يقطعك الله‬ ‫فاقطع رحمك‪ ،‬جزاء وفاقا‪ ،‬وكلما كان الإنسان لرحمه أوصل؛ كان الله له‬ ‫أوصل‪ ،‬وكلما قصر جاءه من الثوب بقدر ما عمل‪ ،‬لا يظلم الله أحدا‪.‬‬

‫الحديث السادس عشر بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه َقالَ‪ :‬جاء رجل إِ َلى َر ُسو ِل الله صلى الله‬ ‫عليه وسلم َف َقالَ‪َ :‬يا َر ُسول الله َم ْن أَ َح ُّق ال َّنا ِس ِب ُح ْس ِن َص َحا َبتِي؟ َقالَ‪:‬‬ ‫((أُ ُّم َك)) َقالَ‪ُ :‬ث َّم َم ْن؟‬ ‫َقالَ‪(( :‬أُ ُّم َك))‪َ ،‬قالَ‪ُ :‬ث َّم َم ْن؟ َقالَ‪(( :‬أُ ُّم َك))‬ ‫َقالَ‪ُ :‬ث َّم َم ْن؟ َقالَ‪(( :‬أ ُبو َك))‪.‬‬ ‫ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه‬ ‫وفي رواية‪َ :‬يا َر ُسول الله! َم ْن أَ َح ُّق ب ُح ْس ِن ال ُّص ْح َب ِة؟ َقالَ‪:‬‬ ‫((أُ ُّم َك‪ُ ،‬ث َّم أُ ُّم َك‪ُ ،‬ث َّم أُ ُّم َك‪ُ ،‬ث َّم أَ َبا َك‪ُ ،‬ث َّم أ ْد َنا َك أ ْد َنا َك))‪.‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫الأ ُّم هي محلُّ ال ِب ِّر والإكرام‪ ،‬وهي رم ُز ال َّتضحي ِة والفِداء‪ ،‬وال ُّط ْهر وال َّنقاء‪،‬‬ ‫وهي الأصلُ ا َّلذي َيشر ُف به الولَ ُد‪ ،‬وأ َح ُّق الناس ب ُصحبتِه‪ ،‬و َيليها الأ ُب في‬ ‫ح ِّق الب ِّر وال ُّصحبة‪ ،‬يحكي أبو ُه َرير َة رضي الله عنه أ َّن رجلا سأل رسولَ‬ ‫الله ص َّلى الله عليه وسلَّم‪َ :‬من أح ُّق ال َّنا ِس ب ُحس ِن صحابتي؟ أي‪َ :‬من أَ ْولى‬ ‫ال َّناس بالإحسا ِن إليه والبِ ِّر به في مصاحبتِه له؟ والمقصود بحسن‬ ‫الصحبة‪ :‬حسن المعاشرة‪ ،‬والملاطفة‪ ،‬والإحسان والبر‪ ،‬فأجابه ال َّنب ُّي‬ ‫ص َلّى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫‪ \" ‬أ ُّمك\" أي‪ :‬أَ ْولى ال َّنا ِس ب ُحس ِن ال ُمعامل ِة و ِطي ِب المعا َشر ِة‪ :‬الأ ُّم‪.‬‬ ‫ث َّم سأله‪ :‬ث َّم َمن؟ فأجابه بالإجاب ِة نف ِسها‪\" :‬أ ُّمك\"‬ ‫قال‪ :‬ث َّم َمن؟ قال‪ \":‬أ ُّمك\"‪.‬‬

‫وهكذا أوصاه بالأ ِّم وأ َّكد ح َّقها في ُحسن المعامل ِة ثلا َث م َّرا ٍت؛ بيانا‬ ‫لفضلِها على سائ ِر الأقار ِب دون استثنا ٍء‪.‬‬ ‫ث َّم سأله‪ :‬ث َّم َمن؟ قال‪\" :‬أبوك\"‬ ‫فك َّرر ص َّلى الله عليه وس َّلم ح َّق الأ ِّم ثلالا‪ ،‬وذ َكر ح َّق الأ ِب م َّرة واحدة‪،‬‬ ‫ولعلَّ ذلك لكثر ِة أفضالِها على ول ِدها‪ ،‬وكثر ِة ما تح َّم َل ْته ِمن المتاع ِب‬ ‫ال ِجسمي ِة وال َّنفس َّية أثنا َء حملِها به‪ ،‬ووض ِعها وإرضا ِعها له‪ ،‬و ِخدم ِتها‬ ‫وشفقتِها عليه‪.‬‬ ‫فهذا الحدي ِث يب ّين فضل الأم ومنزلتها‪ ،‬وأن الأم لها من حسن الصحبة‬ ‫ثلاثة أضعاف ما للأب‪ ،‬وذلك أن الأم تحملت الحمل وآلام الولادة‪،‬‬ ‫وكذلك أيضا الرضاع والحضانة‪.‬‬

‫الحديث السابع عشر بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم َقالَ‪:‬‬ ‫((ر ِغم أَن ُف‪ُ ،‬ث َّم َر ِغ َم أ ْن ُف‪ُ ،‬ث َّم َر ِغ َم أ ْن ُف َم ْن أ ْد َر َك أ َبوي ِه ِع ْن َد ال ِك َب ِر‪،‬‬ ‫أَ َحد ُهما أَ ْو ِكليه َما َف َل ْم َي ْد ُخ ِل ال َج َّن َة))‬ ‫رواه مسلم‪.‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫يو ِصينا ال َّن ِب ُّي صلَّى اللهُ عليه وس َّلم دائما وأبدا بما َينف ُعنا في ُدنيانا‬ ‫وأُ ْخرانا‪ ،‬و ِمن َوصاياه ص َّلى اللهُ عليه وسلَّ ُم ما في هذا الحدي ِث‪ ،‬وهي‬ ‫الوص َّي ُة ِبالوال َد ْي ِن‪ ،‬حيث يقولُ ص َّلى اللهُ عليه وس َّلم‪:‬‬ ‫‪َ \" ‬ر ِغ َم أَ ْن ُف\"‪ ،‬أي‪ :‬لُ ِص َق أَ ْنفُه بِال َّرغا ِم وهو ال ُّترا ُب المختلِ ُط بِال َّرم ِل‪،‬‬ ‫والمرا ُد به‪ :‬ال ُّذلُّ والخز ُّي‪،‬‬ ‫فقوله ﷺ رغم أنف دعاء عليه بذلك‪ ،‬أي‪ :‬بالذل والصغار والمهانة؛ لأن‬ ‫هذه العبارة يكنى بها عن هذا المعنى‬ ‫وأصلها حينما يقال‪ :‬رغم أنفه أي‪ :‬صار أنفه في الرغام‪ ،‬والرغام‪ :‬هو‬ ‫التراب‪ ،‬وقد يكون هذا من قبيل الإخبار أيضا‪ ،‬رغم أنفه يعني‪ :‬بمعنى‬ ‫أنه يكون ذليلا صاغرا‪.‬‬ ‫وك َّررها ثلاثا؛ َف ُسئِلَ َمن هذا يا رسولَ الله؟ كررها للتأكيد‪ ،‬فأجا َب‪:‬‬ ‫‪َ \" ‬من أدر َك أبويه عند الكبر أح َدهما أ ْو َكل ْي ِهما \" َو ُخ َّص بال ِك َبر؛ لأ َّنه‬ ‫أحو ُج الأوقا ِت إلى حقوقِ ِهما‪.‬‬ ‫‪\" ‬فلم َيد ُخ ِل ال َج َّن َة\" وذل َك ِبسب ِب ُعقوقِهما‪َ ،‬ف ِب ُّرهما ِعن َد ِك َبر ِهما‬ ‫و َضعفِهما بِالخدم ِة وال َّنفق ِة وغي ِر ذلك َسب ٌب لِدخو ِل الج َّن ِة؛ َف َم ْن َق َّص َر‬

‫في ذلك فا َت ُه ُدخولُها‪ ،‬وذلك أن الوالد أوسط أبواب الجنة‪ ،‬كما صح‬ ‫عن النبي ﷺ‪ ،‬فلم يدخل الجنة‪ ،‬هذا سبيل لدخول الجنة‪ ،‬وهذه غنيمة‬ ‫عظيمة ج ّدا‪ ،‬فعلى الإنسان أن يستغلها‪ ،‬لا أن يشعر أن هذا الوالد‬ ‫لربما يكون عبئا وشغلا شاغلا يشغله ويقطعه عن حاجاته‬ ‫ومصالحه‪.‬‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬فضلُ ب ِّر الوال َد ْي ِن وأ َّنه ِمن أسبا ِب ُدخو ِل الج َّن ِة‪.‬‬

‫الحديث الثامن عشر بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا َقالَ‪َ :‬يا َر ُسول الله! إ ّن لِي َقرابة‬ ‫أ ِصلُ ُه ْم َو َي ْق َط ُعوني‪َ ،‬وأُ ْح ِس ُن إ َل ْي ِه ْم َو ُي ِسي ُئو َن إلَ َّي‪َ ،‬وأَ ْح َل ُم َع ْن ُه ْم َو َي ْج َهلُو َن‬ ‫َعلَ َّي‪َ ،‬ف َقالَ‪(( :‬لَئِ ْن ُك ْن َت َك َما قُ ْل َت‪َ ،‬فكأ َّن َما ُت ِس ُّف ُه ْم ا ْل َملَّ‪َ ،‬ولا َي َزالُ َم َع َك ِم َن‬ ‫الل ِه َظ ِهي ٌر َع َل ْي ِه ْم َما ُد ْم َت َع َلى ذلِ َك))‬ ‫رواه مسلم‬ ‫شرح الحديث‬ ‫(إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني‪ ،‬وأحسن إليهم ويسيئون إلي‪ ،‬وأحلم‬ ‫عنهم ويجهلون علي)‬ ‫يعني‪ :‬أتحمل إساءتهم وهم يمعنون في الإساءة والتعدي والجهل‪ ،‬فقال‬ ‫رسول الله صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫‪\" ‬لئن كنت كما قلت فكأنما ُت ِس ُّفهم ال َملّ\"‬ ‫تسفهم المل‪ :‬يعني‪ :‬الرماد الحار‪ ،‬يعني‪ :‬كأنك تطعمهم الرماد الحار‪،‬‬ ‫وذلك باعتبار ما يلحقهم من الإثم؛ لأنهم عصوا الله ‪-‬تبارك وتعالى‪-‬‬ ‫بهذا‪ ،‬حيث قطعوا الرحم‪ ،‬وبسبب ما يقابلون به هذا الإحسان والصلة‪،‬‬ ‫فهم يأثمون بسبب إساءتهم وعدوانهم ابتداء فضلا عن أن يكون ذلك‬ ‫مقابل الصلة والإحسان‪ ،‬فهذا الحديث تطمين لكل من وصل رحمه‬ ‫فقُطعت‪ ،‬قطعوه‪ ،‬فهو لا يبالي؛ لأن أمر المسلم لله‪ ،‬فهو يعمل لله‪،‬‬ ‫ويصل الرحم لله‪ ،‬ويتصدق ويحسن إلى الآخرين لله‪ ،‬لا ينتظر منهم‬ ‫الجزاء ولا العطية ولا الشكور‪ ،‬فإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يضره أن‬ ‫يقا َبل إحسانه بالإساءة‪ ،‬ومن َث ّم فإنه يستمر على الإحسان‪ ،‬ولا ينقطع؛‬ ‫لأن الذي ينقطع من كان أمره لغير الله ؛ لأنه يريد ما عند الآخرين‪،‬‬

‫فحينما لا يقا َبل بما أراد وما ظن وما توقعه من الإحسان فإنه ينقطع‬ ‫ويقابِل لربما الإساءة بالإساءة‪.‬‬ ‫‪ ‬يقول النبي ﷺ‪ \" :‬ولا يزال معك من الله ظهير عليهم\"‬ ‫أي‪ :‬معين ونصير‪ ،‬ما دمت على ذلك‪ ،‬هذا يدل على أن الإنسان الذي‬ ‫يحسن إلى الذين يسيئون إليه أن الله يعينه وينصره ويقويه ويشد‬ ‫أزره‪ ،‬فمن أراد أن يكون له من الله ظهير فعليه أن يكون كذلك‪ ،‬وقد‬ ‫ثبت أنه ليس الواصل بالمكافئ‪ ،‬وإنما الواصل الذي يصل رحمه إذا‬ ‫قطعت‪ ،‬أما الذي يحسن إلى الذين يحسنون إليه فهذا إحسان وبر‪ ،‬لكنه‬ ‫ليس كما ذكر في مثل هذه الصفة‪.‬‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬أ َّن هذه الخصال هي سبب إعانة هذا الواصل وتأييده‬ ‫وتوفيقه‪ ،‬وتسديده‪ ،‬ونصره عليهم‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬الح ُّث على ِصل ِة ال َّرح ِم ولو آ َذ ْو َك‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬الح ُّض على ال َّصب ِر على الإيذا ِء‪ ،‬خصوصا ِم َن الأقار ِب‪ ،‬وأ َّن َمن‬ ‫كان كذلك أعا َنه المولى سبحا َنه وتعالى‪.‬‬ ‫وفيه‪ُ :‬مقاب َل ُة الإساء ِة ِبالإحسا ِن َمع الأقار ِب أ ْو غي ِرهم‪.‬‬

‫الحديث التاسع عشر بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أن ٍس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َقالَ‪(( :‬من‬ ‫أ َح َّب أ ْن ُي ْب َس َط لَ ُه في ِر ْزقِ ِه‪ ،‬و ُي ْنسأَ َل ُه في أ َث ِر ِه‪َ ،‬ف ْل َي ِصلْ َر ِح َم ُه))‪.‬‬ ‫ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه‪.‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫صل ُة ال َّرح ِم ِمن أفض ِل ال َّطاعا ِت ا َّلتي َيتق َّر ُب بها العب ُد إلى ر ِّبه‪ ،‬وق ْد أ َم َر‬ ‫اللهُ بها‪ ،‬وح َّذر ِمن َق ْط ِعها و َجعلَ َقط َعها مو ِجبا لِلعذا ِب‪ ،‬وو ْصلَها ُموجبا‬ ‫لِل َمثوب ِة‪ ،‬وهذا الحديث تضمن قضيتين عليهما عامة مطالب الناس في‬ ‫هذه الحياة الدنيا‪ ،‬الناس ماذا يطلبون؟ وعلى أي شيء يخافون عادة؟‬ ‫يخافون على آجالهم‪ ،‬ويخافون على أرزاقهم؛ ولهذا جاء التطمين عن‬ ‫النبي ‪ :‬لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها‪ ،‬وهذا الحديث‬ ‫تضمن وعدا بالزيادة في هذين الأمرين بعمل تدعو إليه الفطر‬ ‫الصحيحة والعقول المستقيمة‪ ،‬ويدعو إليه الكتاب والسنة‪.‬‬ ‫‪\" ‬من أحب أن يبسط له في رزقه\"‬ ‫البسط في الرزق كثرته ونماؤه وسعته وبركته وزيادته زيادة حقيقية‪.‬‬ ‫واختلفت عبارات العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫‪ُ ( ‬ي ْن َسأَ َل ُه فِي أَ َث ِر ِه)‪.‬‬ ‫‪.1‬فقيل‪ :‬المعنى‪ُ :‬ح ُصولُ ا ْلقُ َّو ِة فِي ا ْل َج َس ِد‪.‬‬ ‫‪.2‬وقيل‪ِ :‬با ْل َب َر َك ِة فِي ُع ْمره‪َ ،‬وال َّت ْوفِيق لِل َّطا َعا ِت‪َ ،‬و ِع َما َرة أَ ْو َقاته بِ َما‬ ‫َي ْن َفع ُه فِي ا ْلآ ِخ َرة‪َ ،‬و ِص َيا َنت َها َع ْن ال َّض َياع فِي َغ ْير َذلِ َك ‪.‬‬ ‫‪.3‬وقيل‪ :‬معناه‪َ :‬ب َقا ُء ِذ ْك ِر ِه ا ْل َج ِمي ِل َب ْع َد ا ْل َم ْو ِت‪.‬‬

‫‪.4‬وقيل‪ُ :‬ي ْك َت ُب ُع ُم ُره ُم َق َّيدا بِ َش ْر ٍط َكأَ ْن ُي َقالَ‪ :‬إِ ْن َو َصلَ َر ِح َم ُه َف َل ُه َك َذا‬ ‫َوإِ َّلا َف َك َذا‪ ،‬ف َت ُكون ال ّز َيا َدة فِي ال ُعم ِر ز َيا َدة َحقِيقِ ّية‪.‬‬ ‫وهذا القول الأخير هو الراجح‪ ،‬فيكون معنى الحديث‪ :‬من أحب أن يبسط‬ ‫له في رزقه فيكثر ويوسع عليه ويبارك له فيه‪ ،‬أو أحب أن يؤخر له في‬ ‫عمره فيطول‪ :‬فليصل رحمه‪ ،‬فتكون صلة الرحم سببا شرعيا لبسط الرزق‬ ‫وسعته‪ ،‬وطول العمر وزيادته‪ ،‬والتي لولاها لما كان هذا رزقه‪ ،‬ولا كان‬ ‫هذا عمره – بتقدير الله تعالى وحكمته‪ ،‬قال الشيخ الألباني رحمه الله في‬ ‫\"صحيح الأدب المفرد\"‪:‬‬ ‫\" الحديث على ظاهره‪ ،‬أي‪ :‬أن الله جعل بحكمته صلة الرحم سببا‬ ‫شرعيا لطول العمر وكذلك حسن الخلق وحسن الجوار كما في بعض‬ ‫الأحاديث الصحيحة‪ ،‬ولا ينافي ذلك ما هو معلوم من الدين بالضرورة‬ ‫أن العمر مقطوع به؛ لأن هذا بالنظر للخاتمة‪ ،‬تماما كالسعادة‬ ‫والشقاوة‪ ،‬فهما مقطوعتان بالنسبة للأفراد فشقي أو سعيد‪ ،‬فمن‬ ‫المقطوع به أن السعادة والشقاوة منوطتان بالأسباب شرعا‪ ،‬وكما أن‬ ‫الإيمان يزيد وينقص‪ ،‬وزيادته الطاعة ونقصانه المعصية‪ ،‬وأن ذلك لا‬ ‫ينافي ما كتب في اللوح المحفوظ‪ ،‬فكذلك العمر يزيد وينقص بالنظر إلى‬ ‫الأسباب فهو لا ينافي ما كتب في اللوح أيضا \"‪.‬‬ ‫وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‪:‬‬ ‫\" ا ْلأَ َجلُ أَ َج َلا ِن \" أَ َجلٌ ُم ْطلَ ٌق \" َي ْع َل ُم ُه ال َّلهُ \" َوأَ َجلٌ ُم َق َّي ٌد \" َوبِ َه َذا َي َت َب َّي ُن‬ ‫َم ْع َنى َق ْولِ ِه َصلَّى ال َّلهُ َع َل ْي ِه َو َس َلّ َم ‪َ ( :‬م ْن َس َّر ُه أَ ْن ُي ْب َس َط لَ ُه فِي ِر ْزقِ ِه‬ ‫َو ُي ْن َسأَ لَ ُه فِي أَ َث ِر ِه َف ْل َي ِصلْ َر ِح َم ُه) َفإِ َّن ال َّلهَ أَ َم َر ا ْل َم َل َك أَ ْن َي ْك ُت َب َل ُه أَ َجلا‬ ‫َو َقالَ ‪ \" :‬إ ْن َو َصلَ َر ِح َم ُه ِز ْد ُت ُه َك َذا َو َك َذا \" َوا ْل َملَ ُك َلا َي ْعلَ ُم أَ َي ْز َدا ُد أَ ْم َلا ؛‬ ‫لَ ِك َّن ال َّل َه َي ْعلَ ُم َما َي ْس َتقِ ُّر َع َل ْي ِه ا ْلأَ ْم ُر َفإِ َذا َجا َء َذلِ َك َلا َي َت َق َّد ُم َو َلا َي َتأَ َّخ ُر \"‪.‬‬

‫وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ‪\" :-‬ليس معنى ذلك أن الإنسان‬ ‫يكون له عمران‪ :‬عمر إذا و َصل َر ِح َمه‪ ،‬وعمر إذا لم يصل‪ ،‬بل العمر‬ ‫واحد‪ ،‬والمق َّدر واحد‪ ،‬والإنسان الذي ق َّدر الله له أن َي ِصل رحمه سوف‬ ‫يصل ر ِحمه‪ ،‬والذي ق َّدر الله أن يقطع رحمه‪ ،‬سوف يقطع رحمه ولا بد‪،‬‬ ‫ولكن الرسول ‪ -‬عليه الصلاة والسلام ‪ -‬أراد أن يح َّث الأمة على فِعل ما‬ ‫فيه الخير‪ ،‬فالرزق مكتوب من الأصل‪ ،‬ومكتوب أنك ستصل رحمك‪،‬‬ ‫لكنك أنت لا تعلم عن هذا‪ ،‬فح َّثك النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬وب َّين‬ ‫لك أنك إذا وصلت الرحم‪ ،‬فإن الله يبسط لك في الرزق‪ ،‬و َينسأ لك في‬ ‫الأثر‪ ،‬وإلاَّ‪ ،‬فكل شيء مكتوب‪ ،‬لكن لَ َّما كانت صلة الرحم أمرا ينبغي‬ ‫للإنسان أن يقوم به‪ ،‬ح َّث النبي ‪ -‬عليه الصلاة والسلام ‪ -‬على ذلك بأن‬ ‫الإنسان إذا أحب أن ُيب َسط له في رزقه‪ ،‬و ُين َسأ له في أثره‪ ،‬فل َيصل‬ ‫رحمه‪ ،‬وإلا‪ ،‬فإن الواصل قد ُكتبت ِصلته‪ ،‬و ُك ِتب أن يكون عمره إلى‬ ‫حيث أراد الله ‪ -‬عز وجل\"‪.‬‬ ‫وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله‪ \" :‬معناه‪ :‬أن الله سبحانه وتعالى‬ ‫وعد من يصل رحمه أن يثيبه وأن يجزيه بأن يطيل في عمره‪ ،‬وأن‬ ‫يوسع له في رزقه جزاء له على إحسانه‪.‬‬ ‫ولا تعارض بين هذا الحديث وبين الحديث الذي فيه أن كل إنسان قد‬ ‫قدر أجله ورزقه وهو في بطن أمه؛ لأن هناك أسبابا جعلها الله أسبابا‬ ‫لطول العمر وأسبابا للرزق‪ ،‬فهذا الحديث يدل على أن الإحسان وصلة‬ ‫الرحم سبب لطول الأجل وسبب لسعة الرزق‪ ،‬والله جل وعلا هو مقدر‬ ‫المقادير ومسبب الأسباب‪ ،‬هناك أشياء قدرها الله سبحانه وتعالى على‬ ‫أسباب ربطها بها ورتبها عليها إذا حصلت مستوفية لشروطها خالية‬ ‫من موانعها ترتبت عليها مسبباتها قضاء وقدرا وجزاء من الله سبحانه‬ ‫وتعالى \"‪.‬‬

‫الحديث العشرون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أنس رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬كا َن أَ ُبو َط ْل َح َة أ ْك َث َر الأ ْن َصا ِر بال َمدي َن ِة َمالا‬ ‫ِم ْن َنخل‪َ ،‬و َكا َن أ َح ُّب أ ْم َواله إِلَ ْي ِه َب ْي َرحاء‪َ ،‬و َكا َن ْت م ْس َت ْق َب َل َة ال َم ْس ِج ِد‪،‬‬ ‫َو َكا َن َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم َي ْد ُخلُ َها‪َ ،‬و َي ْش َر ُب ِم ْن َما ٍء فِي َها‬ ‫َط ِّيب‪َ ،‬ف َل َّما َن َز َل ْت ه ِذ ِه الآي ُة‪{ :‬لَ ْن َت َنالُوا ا ْل ِب َّر َح َّتى ُت ْنفِ ُقوا ِم َّما ُت ِح ُّبو َن} [آل‬ ‫عمران‪َ ،]92 :‬قا َم أَ ُبو َط ْل َح َة إِلَى رسو ِل الله صلى الله عليه وسلم‪َ ،‬ف َقالَ‪:‬‬ ‫َيا َر ُسول الله! إ َّن الله تبارك و َت َعالَى يقول‪{ :‬لَ ْن َت َنالُوا ا ْلبِ َّر َح َّتى ُت ْنفِقُوا‬ ‫ِم َّما ُت ِح ُّبو َن} َوإ َّن أَ َح َّب َمالِي إِ َل َّي َب ْي َر َحا ُء‪َ ،‬وإ َّن َها َص َد َق ٌة لل ِه تعالى‪ ،‬أ ْر ُجو‬ ‫بِ َّر َها َو ُذ ْخ َر َها ِع ْن َد الله َت َعالَى‪َ ،‬ف َض ْع َها َيا َر ُسول الله! َح ْي ُث أ َرا َك الله‪َ .‬ف َقالَ‬ ‫َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم‪َ (( :‬بخ! ذلِ َك َمالٌ َراب ٌح‪ ،‬ذلِ َك َمالٌ َراب ٌح!‬ ‫و َق ْد َس ِم ْع ُت َما قُ ْل َت‪َ ،‬وإ ِّني أ َرى أ ْن َت ْج َع َل َها في الأ ْق َربي َن))‬ ‫َف َقالَ أَ ُبو َط ْل َح َة‪ :‬أ ْف َعلُ َيا َر ُسول الله! َف َق َّس َم َها أَ ُبو َط ْل َح َة في أ َقا ِر ِب ِه و َبنِي‬ ‫َع ِّم ِه‪.‬‬ ‫ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه‪.‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫ينبغي للإنسا ِن أ ْن يكو َن ذا ه َّم ٍة عالية‪ ،‬وأ ْن ُينفِ َق ِمن أطي ِب مالِه‪ ،‬وم َّما‬ ‫يح ُّب ِمن مالِه‪ ،‬وهناك فر ٌق بين الأطي ِب وبين ا َلّذي ُي َح ُّب‪ ،‬الغالب أ َّن‬ ‫الإنسا َن لا ي ِح ُّب إ َّلا أطي َب مالِه‪ ،‬لكن أحيانا يتع َلّ ُق قل ُبه بشي ٍء ِمن مالِه‪،‬‬ ‫وليس أطي َب مالِه‪ ،‬فإذا أن َفق ِمن الط ِّيب ا َّلذي هو محبو ٌب لعا َّم ِة ال َّناس‬ ‫وم َّما يح ُّبه هو بنف ِسه كان ذلك دليلا على أ َّنه صاد ٌق فيما عا َمل الل َه به‪،‬‬ ‫وهو ما ف َعله أبو َطلح َة رضي الله عنه حينما تص َّد َق ببستانِه‪ ،‬وأخبره‬ ‫ال َّنب ُّي ص ّلَى الله عليه وس ّلَم بأ َّن ص َدق َته في أقار ِبه أفضلُ‪ ،‬وأ َّنه بذلك‬ ‫سير َب ُح ما َله في الآخر ِة‪ ،‬فهذا الحديث الشريف يحكي لنا قصة تفاعل‬

‫الصحابة مع القرآن الكريم‪ ،‬وكيف كانوا إذا نزل عليهم الذكر الحكيم؛‬ ‫تتلقاه قلوبهم بالإيمان والتسليم‪ ،‬والعمل والتنفيذ‪ ،‬فيعملون بما فيه‪ ،‬فلما‬ ‫نزلت هذه الآية‪ { :‬لَ ْن َت َنالُوا ا ْل ِب َّر َح َّتى ُت ْنفِ ُقوا ِم َّما ُت ِح ُّبو َن} [آل‬ ‫عمران‪]92:‬علم صحابة النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬أن هذه الدرجة‬ ‫العظيمة‪ ،‬وهي درجة‪ :‬البر‪ ،‬لن تنال إلا بأن ينفق الإنسان أحب الأموال‬ ‫إلى نفسه‪ ،‬ولذلك تفاعلوا معها مباشرة‪ ،‬ولما سمع أبو طلحة رضي الله‬ ‫عنه هذه الآية أتى النبي وقال‪ :‬إني سمع ُت الله يقول‪ {:‬لَ ْن َت َنالُوا ا ْل ِب َّر‬ ‫َح َّتى ُت ْنفِقُوا ِم َّما ُت ِح ُّبو َن}‪ ،‬وإ َّن أح َّب أموالي إل َّي بيرحاء‪.‬‬ ‫بيرحاء‪ :‬قال بعض العلماء أنه بستان فيه بئر في قبالة المسجد النبوي‬ ‫كان النبي يزوره ويشرب من ماء فيه طيب‪ ،‬ثم أعلن إخلاصه فيها‪،‬‬ ‫قائلا‪ :‬إنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله‪.‬‬ ‫قوله‪( :‬بِ ّرها) أي‪ :‬أجرها وثوابها‪ ،‬وقوله‪ُ ( :‬ذ ْخرها) أي‪ :‬أ ّدخرها لانتفع‬ ‫بها وقت حاجتي إليها‪ .‬وهو يوم القيامة وسائر أوقات الشدائد‪ ،‬فضعها‬ ‫يا رسول الله حيث أراك الله‬ ‫فقال له النب ُّي ‪:‬‬ ‫‪َ \" ‬ب ٍخ‪ ،‬ذلك مال رابح‪ ،‬ذلك مال رابح\" فكان ذلك التعليق الجليل من‬ ‫النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬مادحا ذاك الفعل وصاحبه‪ ،‬وقوله صلى‬ ‫الله عليه وسلم‪َ \" :‬ب ٍخ \" كلمة تقال لتفخيم الأمر‪ ،‬والإعجاب به‪.‬‬ ‫وقوله صلى الله عليه وسلم‪\" :‬ذلك مال رابح\" من الربح‪ ،‬أي ذو ربح‪،‬‬ ‫وقيل‪ :‬مال مربوح به سيربحه في الآخرة‪.‬‬ ‫‪\" ‬وإني أرى أن تضعها في الأقربين\" أشار عليه أن ُيوزعها بين‬ ‫أقاربه‪ ،‬فيجمع بين صلة الرحم والنفقة في سبيل‪ ،‬لأن الصدقة على‬

‫القريب صدقة وصلة‪ .‬فو َّزعها بين أقاربه ‪ ،‬فهذا فيه الدلالة على‬ ‫شرعية الإنفاق في وجوه البر والإحسان إلى الأقارب والمساكين‪،‬‬ ‫وأ َّن ذلك مما ينفعه الله به‪ ،‬ويعظم به أجره عند ربه جل وعلا‪ ،‬وإذا‬ ‫صارت الصدق ُة في الأقارب المحتاجين كانت أفضلَ‪ ،‬كما في الحديث‬ ‫الصحيح‪\" :‬الصدقة على المسكين صدقة‪ ،‬وعلى ذي الرحم اثنتان‪:‬‬ ‫صدقة وصلة\"‪.‬‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬الصدقة على الأقارب فيها أجران‪ :‬أجر الصدقة‪ ،‬وأجر‬ ‫القرابة‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬استحباب النفقة مما ُيح ّب الإنسان‪ ،‬وهو الأفضل‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬مشاورة أهل الفضل‪ ،‬والعلم في كيفية الإنفاق والتصرف في‬ ‫المال وغيره‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬أ َّن ال َّرجلَ ال َّصال َح قد يضا ُف إليه ح ُّب الما ِل‪ ،‬وقد ُي ِضيفه هو إلى‬ ‫نف ِسه‪ ،‬وليس في ذلك نقيص ٌة عليه‪.‬‬

‫الحديث الحادي والعشرون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما‪َ ،‬قالَ‪ :‬أقبلَ َر ُجلٌ إِلَى‬ ‫َنب ِّي الله صلى الله عليه وسلم‪َ ،‬ف َقالَ‪ :‬أُ َبا ِي ُع َك َع َلى ال ِه ْج َر ِة َوال ِج َها ِد أَ ْب َتغي‬ ‫الأ ْج َر ِم َن الله َت َعا َلى‪.‬‬ ‫َقالَ‪َ (( :‬ف َهلْ َل َك ِم ْن َوالِ َد ْي َك أ َح ٌد َحي؟)) َقالَ‪َ :‬ن َع ْم‪َ ،‬بلْ ِكلا ُه َما‪.‬‬ ‫َقالَ‪َ (( :‬ف َت ْب َتغي الأ ْج َر ِم َن الله َت َعالَى؟)) َقالَ‪َ :‬ن َع ْم‪.‬‬ ‫َقالَ‪(( :‬فا ْر ِج ْع إِلَى َوالِ َد ْي َك‪َ ،‬فأ ْح ِس ْن ُص ْح َب َت ُه َما))‪.‬‬ ‫ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه‪ ،‬وهذا َل ْف ُظ مسلِم‪.‬‬ ‫وفي رواية لَ ُه َما‪َ :‬جا َء َر ُجلٌ َفا ْس َتأ َذ َن ُه في ال ِج َها ِد‪ ،‬ف َقالَ‪(( :‬أ َحي َوالِدا َك؟))‬ ‫َقالَ‪َ :‬ن َع ْم‪َ ،‬قالَ‪َ (( :‬ففي ِه َما َف َجا ِه ْد))‬ ‫شرح الحديث‬ ‫ب ُّر الوال َد ْي ِن وال ِجها ُد من أع َظ ِم ال ِعبادا ِت والقُ َر ِب ا َلّتي َينالُ بها ال َع ْب ُد رضا‬ ‫اللهِ َتعالى‪ ،‬و َينالُ بها َثوا َبه‪ ،‬ولكن ُيق َّد ُم ِب ُّر الوال َدي ِن على ال ِجها ِد إذا لم َت ُك ِن‬ ‫الحاج ُة َضرور َّية عن َد ال َفر ِد لل ِجها ِد‬ ‫قال‪ :‬أقبل رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال‪ :‬أبايعك على الهجرة‬ ‫يعني‪ :‬الانتقال من بلد الشرك إلى بلاد الإسلام‬ ‫والهجرة‪ :‬هي الانتقال من البلد التي لا يستطيع الإنسان أن يقيم دينه فيها‬ ‫إلى بلد يأمن فيها‪ ،‬ويستطيع إقامة شعائره ودينه‪ ،‬فهنا أراد أن ينتقل من‬ ‫دار الكفر إلى دار الإسلام‪ ،‬إلى المدينة‪ ،‬والهجرة كانت واجبة‪ ،‬وهذا‬ ‫الرجل أراد أن يجاهد ويهاجر‪ ،‬قال‪ :‬أبتغي الأجر من الله تعالى‬

‫‪ ‬فقال‪\" :‬فهل لك من والديك أحد حي؟\" أب أو أم‪ ،‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬بل‬ ‫كلاهما‬ ‫‪ ‬قال‪\" :‬فتبتغي الأجر من الله تعالى؟\"‬ ‫قال‪ :‬نعم‪،‬‬ ‫‪ ‬قال‪\" :‬فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما\"‬ ‫ما سأله هل هذا الوالد مسلم‪ ،‬أو أنه كافر‪ ،‬وإنما أمره أن يرجع إليهما‬ ‫فيحسن صحبتهما‪ ،‬فالأب إذا كان كافرا فإن ذلك لا يمنع من بره‪ ،‬فق َّدمه‬ ‫هنا النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد وعلى الهجرة‪ ،‬مع وجوبهما‬ ‫في ذلك الوقت‪ ،‬وأخذ من هذا أهل العلم أنه لا يجوز أن يجاهد الإنسان إلا‬ ‫بإذن من والديه‪ ،‬إلا إذا كان في الصف‪ ،‬يعني‪ :‬في وقت مواجهة العدو‪،‬‬ ‫فهنا لا يجوز له أن يستأذن‪ ،‬وكذلك أيضا إذا كان هذا الإنسان قد تع ّين‬ ‫عليه الجهاد‪ ،‬مثل إذا داهم العدو بلدا من بلاد المسلمين‪ ،‬فيجب عليهم أن‬ ‫يجاهدوه بكل وسيلة‪،‬‬ ‫لا يحتاج إلى إذن من الوالدين‪.‬‬ ‫‪ ‬وفي رواية لهما‪ :‬جاء رجل فاستأذنه في الجهاد‪ ،‬قال‪\" :‬أحي‬ ‫والداك؟\" قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪\" :‬ففيهما فجاهد\"‬ ‫أي اب ُذلْ َجه َدك في إِرضائِهما و ِب ِّرهما‪ ،‬ف ُيكت َب لك أج ُر ال ِجها ِد في َسبي ِل اللهِ‬ ‫َتعالى‪ ،‬فما تقوم به من البر لهما هو جهاد‬ ‫‪\" ‬ففيهما فجاهد\"‬ ‫وتقديم الجار والمجرور هنا \"ففيهما\" ما قال‪ :‬جاهد فيهما‪ ،‬ففيهما‬ ‫فجاهد يدل على الاختصاص‪.‬‬

‫الحديث الثاني والعشرون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله‬ ‫عليه وسلم َقالَ‪َ ((:‬ل ْي َس ال َوا ِصلُ بِال ُم َكافِئ‪َ ،‬ول ِك َّن ال َوا ِصلَ ا َّل ِذي إِ َذا َق َط َع ْت‬ ‫َر ِح ُم ُه َو َص َل َها))‬ ‫رواه البخاري‬ ‫شرح الحديث‬ ‫‪ ‬قوله صلى الله عليه وسلم‪\" :‬ليس الواصل بالمكافئ\"‬ ‫بمعنى ليس الواصل الوصل الكامل من كان مكافئا يرد صلة من وصله من‬ ‫قراباته‪ ،‬فإن هذا من باب مقابلة الإحسان بالإحسان‪ ،‬وأكمل أنواع الصلة‬ ‫هي التي يصل بها الإنسان من قطعه‪ ،‬أن تصل من قطعك وأن تعطي من‬ ‫حرمك‪ ،‬هذا هو غاية الإحسان‪ ،‬وأعلى درجاته‪ ،‬أما الذي يكون محسنا‬ ‫لمن أحسن إليه‪ ،‬فهذا لا شك أنه من الإحسان‪ ،‬لكن ليست هذه الدرجة‬ ‫العالية‪ ،‬فالواصل ليس المكافئ الذي إذا وصله أقاربه وصلهم‪ ،‬ولكن‬ ‫الواصل هو الذي إذا قطعت رحمه وصلها‪ ،‬فتكون صلته لله لا مكافأة لعباد‬ ‫الله‪ ،‬ولا من أجل أن ينال بذلك مدحا عن الناس‪.‬‬ ‫والناس ثلاثة‪ :‬واصل‪ ،‬ومكافئ‪ ،‬وقاطع‪.‬‬ ‫‪.1‬فالواصل‪ :‬من يبدأ بالفضل‪.‬‬ ‫‪.2‬والمكافئ‪ :‬من يرد مثله‪.‬‬ ‫‪.3‬والقاطع‪ :‬من لا يتفضل ولا يكافئ‪ ،‬فالكامل من يصل من قطعه‪.‬‬ ‫الدرجة الأولى‪ :‬أن يصل من وصله ومن قطعه‪ ،‬ويعطي من حرمه‪،‬‬ ‫ويحسن إلى من أساء إليه‪ ،‬هذه الدرجة الكاملة‪.‬‬

‫الدرجة الثانية‪ :‬أن يكون الإنسان مبادلا للآخرين الإحسان‪ ،‬فالذين‬ ‫يحسنون إليه يرد إليهم الإحسان‪ ،‬هذه على الأقل الدرجة الثانية‪.‬‬ ‫والدرجة الثالثة‪ :‬وهي ألا يحسن لا لمن أحسن إليه ولا لمن قطع‪.‬‬

‫الحديث الثالث والعشرون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن عائشة َقالَ ْت‪َ :‬قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫((ال َّر ِح ُم ُم َع َّل َق ٌة بِال َع ْر ِش َتقُولُ‪َ :‬م ْن َو َصلَنِي‪َ ،‬و َص َل ُه اللهُ‪َ ،‬و َم ْن َق َط َعنِي‪،‬‬ ‫َق َط َع ُه اللهُ))‬ ‫ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه‬ ‫شرح الحديث‬ ‫ح َّث ال َّشر ُع على ِص َل ِة ال َّرح ِم‪ ،‬وج َعلَ لها أ ْجرا كبيرا‪ ،‬وب َّي َن شأْ َنها العظي َم‬ ‫عن َد الل ِه‪ ،‬وفي هذا الحدي ِث أن الرحم متعلقة بالعرش تقول من وصلني‬ ‫وصله الله ومن قطعني قطعه الله‪ ،‬وهذا يحتمل أن يكون خبرا وأن يكون‬ ‫دعاء‪ ،‬أي يحتمل أن الرحم تخبر بهذا أو تدعو الله عز وجل به‪ ،‬فهو دليل‬ ‫على عظم شأن الرحم وصلتها وأنها تحت العرش تدعو بهذا الدعاء أو‬ ‫تخبر بهذا الخبر‪.‬‬ ‫‪ ‬وفي رواية أخرى أنها تقولُ‪\" :‬ال ّلَ ُه َّم ِصلْ َمن َو َصلني\"‬ ‫أي‪ :‬أ ْع ِطه ال َّرحم َة والإحسا َن‬ ‫‪\" ‬واق َط ْع َمن َق َطعني\" وهذا ُدعا ٌء عليه بأ ْن َيق َط َع اللهُ عنه ال َّرحم َة‬ ‫والإحسا َن‬ ‫وال َّر ِح ُم نوعا ِن‪ :‬عا َّم ٌة‪ ،‬وخا َّص ٌة‬ ‫‪ .1‬فالعا َّم ُة‪َ :‬ر ِح ُم ال ِّدي ِن‪ ،‬وت ِج ُب ِص َل ُتها بال َّتوا ِّد وال َّتنا ُص ِح والع ْد ِل‬ ‫والإنصا ِف‪.‬‬

‫‪ .2‬وأ َّما ال َّر ِح ُم الخا َّص ُة‪ :‬تشملُ كل من له صلة رحم‪ ،‬أي قرابة الدم‬ ‫والنسب بالمرء‪ ،‬فذوو القربى هم الأقرب بالمعروف‪ ،‬والأدل على‬ ‫إحسان الصلة‪.‬‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬بيا ُن أهمي ِة صل ِة الأرحا ِم‪ ،‬وال َّتحذي ُر ِمن ق ْط ِعها‪.‬‬

‫الحديث الرابع والعشرون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أم المؤمنين ميمونة بن ِت الحارث رضي الله عنها‪ :‬أ َّن َها أ ْع َت َق ْت‬ ‫َولي َدة َو َل ْم َتس َتأ ِذ ِن ال َّنب َّي صلى الله عليه وسلم‪َ ،‬ف َل َّما َكا َن َي ْو ُم َها ا َلّ ِذي‬ ‫َي ُدو ُر َع َل ْي َها فِي ِه‪َ ،‬قا َل ْت‪ :‬أ َش َع ْر َت َيا َر ُسول الله! أ ِّني أع َت ْق ُت َولي َدتِي؟ َقالَ‪:‬‬ ‫((أَ َو َف َع ْل ِت؟))‬ ‫َقا َل ْت‪َ :‬ن َع ْم‪َ .‬قالَ‪:‬‬ ‫((أما إ َّن ِك لَ ْو أ ْع َط ْي ِت َها أ ْخ َوا َل ِك َكا َن أ ْع َظ َم لأ ْج ِر ِك))‬ ‫ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه‬ ‫شرح الحديث‬ ‫ال َّصدق ُة على الأق َر ِبين أَ ْولَى ال َّصدقا ِت وأعظ ُمها أجرا‪ ،‬وفي هذا الحديث‪،‬‬ ‫أعتقت أم المؤمنين ميمونة ‪-‬رضي الله عنها‪ -‬وليدة‪ :‬أي جارية مملوكة‬ ‫لها؛ وذلك لعلمها بفضل العتق في سبيل الله وكان ذلك دون أن ُتخبر‬ ‫النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬أو تستأذنه في عتقها‪ ،‬فلما كان يومها أي‬ ‫الليل ِة ا َّل ِتي خ َّصصها النب ُّي ص َّلى الله عليه وس َّلم لها كباقي زوجا ِته‪،‬‬ ‫أخبرت النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬بما صنعت‬ ‫‪ ‬فقالت أشعرت يارسول الله أني أعتقت وليدتي؟ أي أعلمت أني‬ ‫أعتقت جاريتي‬ ‫‪ ‬فقال‪\" :‬أو فعلت؟\" قالت‪ :‬نعم‪ ،‬فلم ينكر عليها ما صنعته دون أن‬ ‫تأخذ برأيه إلا أنه قال لها‪:‬‬ ‫\"أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك\" أي حسنا ما فعلت‪ ،‬إلا‬ ‫أنك لو وهبتها لأخوالك من بني هلال لكان ذلك أفضل وأكثر ثوابا لك‬ ‫من عتقها لما فيه من الصدقة على القريب وصلته‬

‫وهذا يدل على أ َّن الصدقة في الأخوال والأعمام أفضل من العتق‪ ،‬فلها‬ ‫فضلٌ عظي ٌم‬ ‫وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم‪\" :‬الصدقة على المسكين‬ ‫صدقة‪ ،‬وعلى ذي الرحم اثنتان‪ :‬صدقة و ِص َلة\"‬ ‫وفي الحدي ِث‪:‬‬ ‫‪ .1‬جواز تصرف الزوجة بمالها بغير إذن زوجها‪.‬‬ ‫‪ .2‬الصدقة على القريب المسكين أفضل من العتق‪ ،‬لما فيه من الصدقة‬ ‫والصلة‪.‬‬ ‫‪ .3‬أن الأعمال تتفاضل في الثواب بحسب ما يترتب عليها من المنفعة‪.‬‬ ‫‪.4‬الح ُّث على ِص َل ِة الأرحا ِم‪ ،‬وما فيها ِمن َعظي ِم الأج ِر وجزي ِل الثوا ِب‪.‬‬

‫الحديث الخامس والعشرون بعد الثلاثمائة‬ ‫عن أسما َء بن ِت أَبي بكر الصديق رضي الله عنهما‪َ ،‬قالَ ْت‪َ :‬ق ِد َم ْت َع َل َّي‬ ‫أُ ِّمي َو ِه َي ُمشرك ٌة في َع ْه ِد رسو ِل الله صلى الله عليه وسلم‪،‬‬ ‫فا ْس َت ْف َت ْي ُت َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم‪ُ ،‬ق ْل ُت‪َ :‬ق ِد َم ْت َع َل َّي أُ ِّمي‬ ‫َو ِه َي َرا ِغ َب ٌة‪ ،‬أ َفأ ِصلُ أُ ِّمي؟ َقالَ‪َ (( :‬ن َع ْم‪ِ ،‬صلِي أُ َّم ِك))‬ ‫ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه‬ ‫شرح الحديث‬ ‫أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما‪ ،‬وهي أخت‬ ‫عائشة رضي الله عنها لأبيها‪ ،‬لم تكن شقيقة‪ ،‬وكانت أكبر من‬ ‫عائشة رضي الله تعالى عنها بعشر سنين‪ ،‬تقول أسماء بنت أبي بكر‬ ‫رضي الله تعالى عنها‪ :‬قدم ْت عل ّي أمي وهي مشركة في عهد رسول‬ ‫الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وأمها قتيلة بنت الحارث‪ ،‬من بني مخزوم‪،‬‬ ‫قدمت في وقت الهدنة التي وقعت بين المسلمين وبين المشركين في‬ ‫السنة السادسة‪ ،‬بعد صلح الحديبية‪ ،‬قدم ْت عل ّي أمي وهي مشركة‬ ‫في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‬ ‫في عهده‪ :‬ليس المقصود في زمانه‪ ،‬وإنما في العهد الذي وقع بينه‬ ‫وبين المشركين‪ ،‬فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت‪:‬‬ ‫قدم ْت عل ّي أمي وهي راغبة أَ َفأَ ِصلُ أمي؟‬ ‫وفي بعض الروايات‪ :‬أنها قدمت ومعها هدايا من زبيب وسمن ونحو‬ ‫هذا‪ ،‬فامتنعت ابنتها أسماء من إدخالها في بيتها‪ ،‬ومن قبول هديتها‪،‬‬ ‫خشية أن يكون ذلك من موالاة المشركين‪ ،‬فسألت عائش َة رضي الله‬ ‫تعالى عنها‪ ،‬فطلبت منها أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فأذن‬

‫لها بأن تصلها‬ ‫فهي تقول‪ :‬قدم ْت عل ّي أمي وهي راغبة‬ ‫يعني راغبة في بر ابنتها وفي الصلة‪ ،‬وفي العطية‪ ،‬في أن أصلها‬ ‫بشيء‪ ،‬أن أعطيها مالا أو متاعا أو نحو هذا‪ ،‬أي َطا ِم َع ٌة فِي َما ِع ْن ِدي‬ ‫َت ْسألُني َش ْيئا‪ ،‬وبعضهم فسر \"راغبة\" أي‪ :‬راغبة عن الإسلام‪ ،‬أو‬ ‫راغبة في الإسلام ولكنه خلاف الظاهر‬ ‫راغبة‪ :‬يعني ترغب في الصلة وفي أن تبرها أسماء رضي الله عنها‬ ‫وتعطيها‪ ،‬ولهذا سألت قالت‪ :‬أَ َفأ ِصلُ أمي؟ قال‪\" :‬نعم‪ ،‬صلي أمك\"‬ ‫فهذه الصلة تكون بالإذن لها بالدخول‪ ،‬وتكون بالإحسان إليها‬ ‫بالقول‪ ،‬والفعل‪ ،‬وبالمال‪ ،‬والمواساة‪ ،‬كل ذلك ولو كانت مشركة‪،‬‬ ‫فالإسلام يأمر بالصلة والإحسان وإيتاء ذي القربى‪ ،‬كل ذلك مما‬ ‫شرعه الله تعالى لنا‪ ،‬فإذا كانت المرأة الأم وهي مشركة نؤمر‬ ‫بصلتها فكيف بالوالدة إذا كانت مسلمة‪ ،‬أو الوالد؟!‪ ،‬فإن ذلك أعظم‬ ‫وأجل‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬جواز صلة القريب المشرك‪ ،‬ويشهد لذلك قوله تعالى‬ ‫{ َو َصا ِح ْب ُه َما فِي ال ُّد ْن َيا َم ْع ُروفا} [لقمان‪.]15 :‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook