Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore في الدلالة الفلسفية للتقابل بين آل عمران 7 وفصلت 53 - أبو يعرب المرزوقي

في الدلالة الفلسفية للتقابل بين آل عمران 7 وفصلت 53 - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2020-12-11 20:01:54

Description: في الدلالة الفلسفية للتقابل بين آل عمران 7 وفصلت 53 - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫وهو ما يعني أن العمل والشرع أعقد من النظر والعقد لأن هذين من أدوات ذينك‪ .‬فالمفهوم‬ ‫الجامع بين النظر والعقد من ادوات المفهوم الجامع بين العمل والشرع أو لنقل إنه أداة تقنية‬ ‫تقيم في ضوء الغايات التي هي قيمية قد تكون خلقية أو جمالية أو وجودية متعالية عليهما لأنها‬ ‫تتعلق بحرية الإنسان وكرامته وبإعالته وبحمايته فردا وجماعة‪ .‬فيكون الجهاز الذي يتحد فيه‬ ‫النظر والعقد والجهاز الذي يتحد فيه العمل والشرع شرطين لتحقيق الرعاية والحماية الماديتين‬ ‫والروحيتين أو شرطي للاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها‪.‬‬ ‫ومثلما وحدنا العقائد الأربعة فأرجعناها إلى النظام المتوقع والنظام المتحقق (علم الإنسان‬ ‫ووعيه) فإنه يمكن أن نوحد الشرائع الأربع (ارادة الإنسان وعمله) فنرجعها إلى غاية النظام‬ ‫القيمية سواء كانت متعلقة بالخير والشر (القدرة وفعله) أو بالجمال والقبح (ذوق الحياة) أو‬ ‫خاصة بالجليل والذليل (رؤية الوجود والحياة) أي بمقومات حرية الإنسان وكرامته وجودا أو‬ ‫عدما وهي إذن متعلقة بالمنشود وراء الموجود‪ :‬فالعمل والقيم متعلقان بالمنشود لأنهما يحددان فعل‬ ‫الإنسان المغير للموجود والمشرئب إلى ما يتعالى عليه‪.‬‬ ‫في ختام تعريف المفهومين المركبين لأنهما كلاهما مؤلفان من مفهومين النظر والعقد بالنسبة إلى‬ ‫الأول والعمل والشرع بالنسبة إلى الثاني ‪-‬وهي رؤية غير مسبوقة بفضلها نتجاوز المقابلة‬ ‫السطحية بين الفلسفي والديني‪-‬يمكن أن نعتبر العلاقة بينهما هي العلاقة بين الأداة والغاية‬ ‫بالقياس إلى استعمالهما وبين الموجود والمنشود بالقياس إلى ما يستعملان من اجله وبين نظرية‬ ‫المعرفة ونظرية القيمة بالقياس إلى دورهما كجهازين‪ .‬فنكون بذلك قد أعددنا ما يساعد على‬ ‫فهم رؤية القرآن للعلاقة بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ وتأصلهما في كيان الإنسان أولا وفي‬ ‫علاقته بالآفاق أو بعالم الشهادة من حيث هو عالم طبيعي وعالم تاريخي كلاهما آية تحيل لما‬ ‫بعدها ولا يستطيع الوعي الإنسان منها فكاكا وهو معنى فطرية الإسلام‪.‬‬ ‫ويبقى أمامنا علاج مسالتي التفاعل بين المفهومين المركبين في الاتجاهين أي من النظر والعقد إلى‬ ‫العمل والشرع ثم من العمل والشرع إلى النظر والعقد‪ :‬والتفاعل الثاني مختلف تماما عن الأول‪.‬‬ ‫وتلك هي علة التخميس واستحالة القبول بالتثليث‪ :‬فما أن ننطلق من الزوجية فإن للعلاقة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪96‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫اتجاهين مختلفين ولا يمكن اعتبارها نفس العلاقة وذلك هو الخطأ الذي وقع فيه هيجل‪ .‬فحتى‬ ‫وعي الإنسان بذاته لا يترتب عليه تثليث الذات بل تخميسها لأن وعي بذاتي غير ذاتي وله تأثير‬ ‫فيها ولها تأثير فيه وهما مختلفان تماما والجامع بينها اربعتها هو ما أسميه أنا‪ .‬ويتضح ذلك أكثر‬ ‫في علاقة وعيي بجسدي‪ :‬التأثير المتبادل بينهما ليس واحدا‪ .‬فأكون جسدا وروحا وتأثر الاول في‬ ‫الثاني والثاني في الأول ثم وحدتي التي هي عقيدة لا شيء يثبتها وإذن فهي ليست حقيقة‬ ‫علمية‪.‬‬ ‫وهذه العلاقة قابلة للتبسيط بالعودة إلى مقومي المفهومين اللذين درسناهما‪ .‬فنبحث علاقة النظر‬ ‫بالعمل وعلاقة العقد بالشرع في الاتجاهين على النحو الذي يفهمنا علاقة المفهومين المؤلفين في‬ ‫الاتجاهين أيضا‪ .‬وحتى أيسر درس التفاعل في الاتجاهين وضعت نظرية الوسيط في التعلق‪ .‬وهذا‬ ‫الوسيط مضاعف فهو أداة التبادل لثمرتهما المادية وهو أداة التواصل حولها أي ثمرتهما الروحية‬ ‫وأعني بذلك دور \"العملة\" ودور \"الكلمة\"‪ .‬فثمرة النظر والعقد تكون موجبة وهي حينئذ التعمير‬ ‫وتكون سالبه وهي حينئذ التدمير‪ .‬وثمرة العمل والشرع هي قيمة العمل الموجبة أو السالبة أي‬ ‫صلاحه أو طلاحه في تحقيق شروط العيش المشترك الذي هو بالجوهر ثمرة نظام التواصل أو‬ ‫الثقافة مثلما أن نظام التبادل هو الاقتصاد‪.‬‬ ‫والثمرات يمثلها التبادل الاقتصادي والتواصل الثقافي في كل جماعة وبين الجماعات في المعمورة‪:‬‬ ‫وهما مستويا المرسل إليه في رسالة الإسلام وضمنهما الفرد لأنه هو الحامل للمسؤولية بوصفه مكلفا‬ ‫بالتعمير والاستخلاف‪ .‬وقد اضطررت لوضع نظرية الوسيطين لأن أثر النظر والعقد في علاقة‬ ‫الإنسان بالطبيعة هو مصدر قيامه المادي وأثر العمل والشرع في علاقة الإنسان بالتاريخ هو مصدر‬ ‫قيامه الروحي‪ .‬ولا يمكن درس القيامين في ذاتهما بل لا بد لهما من تعين يكون أداة للتبادل هو‬ ‫العملة وأداة للتواصل هو الكلمة وهما سرعان ما ينتقلان من دور الأداة بين المتبادلين والمتواصلين‬ ‫إلى دور سلطان صاحبيهما عليهم‪.‬‬ ‫وذلك هو دور العملة ودور الكلمة الأولى للتبادل والثانية للتواصل‪ .‬لكنهما سرعان ما تنقلبان إلى‬ ‫سلطان المسيطرين عليهما سلطانهما على المتبادلين وعلى المتواصلين عندما ننتقل إلى البنية العميقة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪97‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫لأنظمة الحكم الحديين أي الثيوقراطية أو الانثروبوقراطية فنكتشف أن البنية العميقة الواحدة‬ ‫فيهما هي ما سميته الأبيسيوقراطية أو نظام حكم العجل‪ :‬عبادة معدن العجل (ربا الاموال)‬ ‫وخواره (ربا الأقوال)‪ .‬فالعجل معدنه الذهب وهو رمز العملة التي تصبح سلطانا في الثيوقراطيا‬ ‫وفي الانثروبوقراطيا وهي في الأولى باسم الله وفي الثانية باسم الإنسان وهما وجهان لنفس العملة‬ ‫التي تخفي حقيقة الانثروبوقراطيا بوصفها علمنة الثيوقراطيا مع المحافظة على نفس الشيء مع‬ ‫تغيير الاسم‪ :‬الكنيسة تصبح مافية ثقافية مسيطرة والحكم بالحق الإلهي يصبح مافية اقتصادية‬ ‫مسيطرة‪.‬‬ ‫وهذا التحول يحدث في الاتجاهين‪ :‬فهو إما بأثر من ثمرة النظر والعقد أو بأثر من ثمرة العمل‬ ‫والشرع‪ .‬ولذلك فالتحريف له مصدران‪ :‬من ثمرة ربا الأموال ويأتي من ثمرة النظر والعقد إذا‬ ‫حرف وهو الاقتصاد الذي صار غاية سلطانية وليس أداة لقيام الإنسان العضوي ثم من ثمرة ربا‬ ‫الأقوال ويأتي من ثمرة العمل والشرع إذا حرف وهو الثقافة التي صارت غاية سلطانية وليست‬ ‫أداة لقيام الإنسان الروحي‪ .‬لكن الإصلاح لا يأتي إلا من إصلاح ثمرة العمل والشرع لأن الثقافة‬ ‫هي التي تسيطر على الاقتصاد بخلاف ما يتوهم الكثير‪ :‬فهي أصله لأن الاقتصاد ثمرة التعامل مع‬ ‫الطبيعة بعمل على علم وغايته ثمرة التعامل مع التاريخ بعمل على قيمة‪.‬‬ ‫وحتى نفهم ذلك فينبغي أن نعلم أن ثمرة النظر والعقد هي الاقتصاد الذي يمكن أن يكون في‬ ‫خدمة الإنسان غاية أو في استخدام الانسان أداة وثمرة العمل والشرع هي الثقافة ويمكن أن‬ ‫تكون في خدمة الإنسان غاية أو في استخدامه أداة‪ .‬وأبرز مثال فيهما هو منزلة المرأة‪ :‬فهي تكون‬ ‫مجرد أداة اقتصادية عندما تصبح مجرد أداة ثقافية فهي أداة التسويق في الاقتصاد الاستعبادي‬ ‫وأداة الاغراء في الثقافة الاستعبادية‪.‬‬ ‫ولما كان الاقتصاد أساس الشوكة في الحكم والعنف في التربية وكانت الثقافة يمكن أن تكون تبريرا‬ ‫لهما أو ثورة عليهما فإنها هي أصل كل إصلاح وأصل كل توطيد للفساد‪ .‬والفساد والصلاح يبدآن‬ ‫بالثقافة التربوية أي بتكوين جهازي الإنسان أعني الجهاز الموحد للنظر والعقد والجهاز الموحد‬ ‫للعمل والشرع‪ .‬وقد عرفت المفهوم المركب من النظر والعقد وعرفت المفهوم المركب من العمل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪98‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫والشرع وبينت دورهما ثم أساس التفاعل بينهما بتوسط أداة التبادل أو العملة وأداة التواصل أو‬ ‫الكلمة وهما ناقلان للتفاعل من كونه يتوسط أداتين إلى كونه انقلابا إلى سلطتين هما أصل‬ ‫الإفساد أو الاصلاح للاقتصاد والثقافة‪.‬‬ ‫والاقتصاد هو شرط القيام العضوي الإنساني وإذا صار غاية واستعمل للسلطان على الإنسان صار‬ ‫أداة استعباد مادي‪ .‬والثقافة هي شرط القيام الروحي للإنسان وإذا صارت غاية واستعملت‬ ‫للسلطان على الإنسان صارت أداة استعباد روحي‪ .‬وذلك بين الافراد في الجماعة الواحدة أو بين‬ ‫الجماعات في المعمورة‪ .‬والاقتصاد هو العلاقة بين البشر بتوسط العلاقة بينهم وبين الطبيعة‪.‬‬ ‫والثقافة هي العلاقة بين البشر والطبيعة بتوسط العلاقة بينهم وبين التاريخ‪ .‬فتكون رؤية‬ ‫الطبيعة ورؤية التاريخ هي ما وراء السياسة‪ :‬ورؤية الطبيعة والتاريخ من دون الاشرئباب إلى ما‬ ‫ورائهما هو سر الاستعبادين لأنهما من دونه يصنعان بديلا منه هو الأوثان الطبيعية أو التاريخية‪.‬‬ ‫الوثنية الطبيعية معلومة‪ .‬فكل الأديان البدائية كانت وثنية بهذا المعنى‪ .‬لكن الوثنية التاريخية‬ ‫مجهولة وهي ما يغلب على المجتمعات التي نكصت إلى الوثنية الطبيعية ثم جعلتها تاريخية بأن‬ ‫صارت أوثان الطبيعة هي أوثان السياسة أي الطواغيت المسيطرين على رزقي الإنسان المادي‬ ‫والروحي‪ .‬ولذلك فما وراء السياسة العلنية أو الخفية الواعية أو غير الواعية هو دائما موقف‬ ‫متردد بين الإخلاد إلى الارض والطبيعة أو السمو عليهما إلى ما وراء ليس من طبيعتهما بل هو ما‬ ‫يضفي عليهما معنى هو المميز بين التعمير وحرية الإنسان وكرامته والتدمير وعبودية الإنسان‬ ‫وفقدانه للكرامة‪.‬‬ ‫وإذن فالحرية هي ثمرة عن التحرر من نوعي الربا أي معدن العجل وخواره والعبودية هي ثمرة‬ ‫هذين النوعين من الوثنية أي عبادة غير الله وذلك هو تبين الرشد من الغي أو شرط الحرية‬ ‫الدينية‪ :‬الكفر بالطاغوت شرط الإيمان بالله‪ .‬فيكون المشكل كله في تجهيز الإنسان بالنظر والعقد‬ ‫أداة لعلاقته بالطبيعة ليعلم قوانينها ويطبقها في سد حاجاته منها (التسخير) وفي تجهيزه بالعمل‬ ‫والشرع أداة لعلاقته بالتاريخ ليطبق سننه من أجل سد حاجته الروحية والسمو إلى المنشود‬ ‫والتحرر من الإخلاد إلى الارض‪ :‬الإنسان الجدير بالخلافة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪99‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫فيكون سر الجوهر السياسي للإسلام كامنا كله في شروط العلاقة بالطبيعة لسد الحاجات العضوية‬ ‫بتوسط التبادل العادل المشروط في التعاون بين البشر وفي العلاقة بالتاريخ لسد الحاجات الروحية‬ ‫بتوسط التواصل المشروط في التفاهم بين البشر هو اساس فهم علل انقلاب أدوات التبادل‬ ‫والتواصل من مجرد أدوات إلى غايات سلطانية بين البشر‪ .‬تلك هي حبكة القرآن واستراتيجيته‬ ‫في بعدي سياسة عالم الشهادة بمثل من عالم الغيب‪ :‬التربية التي تعد الجهازين والحكم الذي يعد‬ ‫شروط استعمالهما بصورة تحقق حرية الإنسان وكرامته في وئام بين البشر بوصفهم أخوة (النساء‬ ‫‪ )1‬متساوين ولا يتفاضلون عند الله إلا بالتقوى (الحجرات ‪.)13‬‬ ‫والآن فلنحاول فهم السر في انقلاب الأداتين ‪-‬العملة والكلمة‪ -‬من دور الأداة إلى دور السلطان؟‬ ‫فما الذي يجعل العملة تصبح سلطانا على المتبادلين في حين أنها أداة للتبادل بوصفها رمزا للقيم‬ ‫الاقتصادية؟ وما الذي يجعل الكلمة تصبح سلطانا على المتواصلين في حين أنها أداة للتواصل‬ ‫بوصفها رمزا للمعاني الثقافية؟ ذلك هو مفهوم ربا الأموال ومفهوم ربا الأقوال‪ .‬ولنأخذ الربا‬ ‫الاول‪ :‬فمرده إلى ما يجعل العملة تصبح وسيطا يغني عن التبادل بالمقايضة‪ :‬ففي المقايضة‬ ‫البضاعة أو الخدمة حاضرة بذاتها والعملة تغني عن حضورها‪.‬‬ ‫ولو أخذنا الربا الثاني‪ :‬فمرده إلى نفس الظاهرة أي ما جعل الكلمة تصبح وسيطا يغني عن‬ ‫التواصل بالمعاني نفسها‪ .‬المعنى نفسه في التواصل هو الإشارة الحية الغنية عما يرمز إليها بالكلام‬ ‫مثل البضاعة أو مثل خدمة نفسها في التبادل المغنية عما يرمز إليها بالعملة‪ .‬فماذا في دورهما‬ ‫يعطيهما سلطانا؟ إذا فهمنا ذلك تمكنا من فهم ما يجري في المجتمعات البشرية التي تتحول إلى‬ ‫مجتمعات وثنية تعبد طاغوت الطبيعة وطاغوت التاريخ أي نوعي الشرك اللذين يريد الإسلام‬ ‫تحرير الإنسانية منها بالتربية والحكم المتخلصين من ربا الاقوال وربا الأموال وهي ثورة ما تزال‬ ‫غير مفهومة حتى عند كبار علماء الإسلام قديمهم وحديثهم‪.‬‬ ‫أمران مشتركان بين العملة بوصفها مغنية عن تبادل المقايضة والكلمة بوصفها مغنية عن تواصل‬ ‫المشاورة الحية إنهما‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪100‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪ .1‬الاستعداد الآني لأي تبادل ولأي تواصل بسبب كونهما \"ادخار\" قيمة وادخار معنى جاهز‬ ‫للاستعمال مباشرة‬ ‫‪ .2‬استغناء التبادل والتواصل عن الحاجة الآنية التي تعلل التبادل والتواصل عند طرفي‬ ‫التبادل أو التواصل ما ييسر الاحتكار الذي هو تبادل وتواصل مؤجل بسبب تعين الفرص‬ ‫التجارية في الاقتصاد والمقامية في المقال‪ .‬والسياسة هي بالأساس استعمال هذين النوعين من‬ ‫الاحتكار وتحين الفرص للفعل القولي والمادي‪.‬‬ ‫وطبعا هذه من الأمور التي لا تجدها عند الساسة العرب يستعملونها لصالح شعوبهم إما لأنهم \"صم‬ ‫بكم عمي فهم لا يعقلون\" أو لان من يعلم ذلك تابع ويطبق ما يؤمر به‪ .‬والأمر الأول يجعل صاحب‬ ‫العملة أو الكلمة قادرا على الاستفادة من الفرص لأن من يملك المال السائل يمكن أن يهجم على‬ ‫الفرصة متى حانت ومن يحتاج إليه مضطر للقبول بشروطه فتكون العلاقة علاقة بين حر هو مالك‬ ‫المال السائل ومضطر هو المحتاج إليه‪ .‬وهي أصل سلطان الأول على الثاني والربا هذا أصله‪.‬‬ ‫ونفس الشيء في التواصل‪ :‬سيد اللغة أقدر من العيي‪ .‬كل نكبات الحمقى علتها أنهم لا يدرون‬ ‫عيهم فيتصورون مثل رئيسنا أن فتح الاشداق دليل فصاحة‪.‬‬ ‫لكن سيد الكلمة لا يمكن ألا يكون في خدمة سيد العملة‪ :‬وقد اعتبرهم الفارابي خدم السلطان‬ ‫السياسي والمالي وهم كذلك إلا ما ندر‪ .‬ولذلك فالعملة ليست سلطانا اقتصاديا فحسب بل هي‬ ‫سلطان اقتصادي بيده السلطان على ما عداه من كل أنواع السلطان بدءا بالكلمة‪ .‬لذلك فالقرآن‬ ‫يعتبر النفاق الذي هو بالجوهر الكلام المخادع وخدعته افعال التقية وإذن فهو ربا الاقوال أي‬ ‫جوهر الكذب وهو أشد ما يمقته الله وهو حكم أشد من اعلان الحرب على ربا الأموال‪ .‬والسلطان‬ ‫السياسي موظف عند سلطان العملة ويوظف سلطان الكلمة من هنا الكنسية والحق الإلهي في الحكم‬ ‫بداية للدول‪.‬‬ ‫وأعود إلى البنية العميقة الواحدة بين الثيوقراطيا والانثروبوقراطيا‪ -‬ولنا منهما مثالان يجمعان‬ ‫فعليا بينهما في العمق وفي الظاهر أعني إيران وإسرائيل لأبين أن من يتوهم الدولة العلمانية‬ ‫مختلفة عن الثيوقراطية لم يفهم بعد أنها هي نفسها وقد علمنت وهي ليست مستغنية عن كل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪101‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫مكوناتها‪ .‬ولعل ذلك يبرز بوضوح في النظام الذي يبدو أعدى أعداء الثيوقراطيا أعني النظام‬ ‫الشيوعي‪ :‬فالكنيسة صارت حزب البروليتاريا والحق الإلهي في الحكم صار حق الطبقة‬ ‫البروليتارية‪.‬‬ ‫ومن يدرس بتمعن ما يحصل في الخلافات بين المنتسبين إلى الدولة الشيوعية وتفتت الفكر‬ ‫الشيوعي إلى طوائف وفرق يرى أنها لا تختلف عن الفرق الدينية والطوائف بل حتى التسميات‬ ‫واحدة‪ :‬التفسيق والتبديع واللعن والتصفية الجسدية واللعان المتبادل‪ .‬ولما كانت أدوات الصراع‬ ‫متقدمة جدا فالضحايا بالملايين لأن السلاح لم يبق مجرد سيوف وخيول ولان التبادل والتواصل‬ ‫صارا معولمين بخلاف ما دعا إلى الإسلام من عولمة الأخوة البشرية (النساء ‪ )1‬والمساواة بين البشر‬ ‫(الحجرات ‪ :)13‬فصارت البشرية تعيش حربا أهلية كونية في كيان الفرد وبين الذكر والانثى ثم‬ ‫في نفس الجماعة ثم بين الجماعات‪ .‬ولا مفر من سياسة القرآن التي تنبني على حقيقة الإنسان‬ ‫وعلاقته بالرحمن‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪102‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫نبدأ الآن الكلام في الفصل الثامن وفيه نبحث مع التجهيزين ما يناظرهما في الآفاق أي في العالم‬ ‫الطبيعي والعالم التاريخي أي في علاقة الإنسان بالطبيعة وعلاقته بالتاريخ‪ .‬وذلك يعني الإنسان‬ ‫علاج الإنسان لشروط قيامه وبقائه المتضايف مع بقائهما أعني حفظ عالم الشهادة المحيط به لما‬ ‫بينه وبين كيانه الشخصي من تلازم ولما فيهما من آيات دالة على ما ورائهما لكونها مما يرينه الله‬ ‫من آيات في الآفاق وفي لأنفس (فصلت ‪ .)53‬فالتناظر بين التجهيزين والعالمين اللذين يتغيران‬ ‫بالجهازين ويغيران الجهازين‪.‬‬ ‫وهذا هو مضمون الباب الأول من مقدمة ابن خلدون أو هو معادلتها المتحكمة في بقية فصولها‬ ‫الخمسة‪ .‬وبلغة القرآن فإن آيات الله في ثمرة فعل الخلق هي قوانين الطبيعة وآيات الله في ثمرة‬ ‫فعل الأمر هي سنن التاريخ‪ .‬وبهما يستدل القرآن على وجود ما وراء عالم الشهادة ويؤسس‬ ‫العلاقة بين سياستيهما أي بين أفعل الإنسان في عالم الشهادة وأفعال الله في عالم الغيب الذي‬ ‫يجعل عالم الشهادة يكون شاهدا بكيف شهوده رغم أنه لا شيء منه يماثل عالم الغيب‪ .‬فالله خالق‬ ‫للطبائع وآمر للشرائع‪.‬‬ ‫وتجهيز الإنسان بالنظر والعقد يتعلق بثمرة فعل الخلق وتجهيز الإنسان بالعمل والشرع يتعلق‬ ‫بثمرة فعل الامر‪ .‬لكن فعل الحق وفعل الأمر كلاهما من الغيب بمعنى أن الإنسان حتى الملحد‬ ‫\"يؤمن\" بشيء مثلهما‪ .‬وثمرة فعل الخلق لها قوانين رياضية تعلم منها بالتجربة وثمرة فعل الامر‬ ‫لها سنن قيمية تعلم بالتجربة‪ .‬ومن هنا اضطراري لوضع نظرية المقدرات الذهنية القيمية قياسا‬ ‫على المقدرات الذهنية الرياضية (التي وضعها ابن تيمية)‪ .‬وتطبيق الرياضيات على التجربة‬ ‫فيزياء وتطبيق القيميات على التجربة تاريخ‪.‬‬ ‫وموضوع هذا الفصل الثامن هو معنى المقدرات الذهنية النظرية والعقدية أدوات تجهيز الإنسان‬ ‫المعرفي وتطبيقاته لعلاج علاقته بالطبيعة ومعنى المقدرات الذهنية العملية والشرعية أدوات‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪103‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫تجهيز الإنسان القيمي وتطبيقاته لعلاج علاقته بالتاريخ‪ .‬وبهما يحقق الإنسان مهمتيه مستعمرا في‬ ‫الأرض ومستخلفا فيها بالتعامل مع قوانين الخلق الرياضية وبالتعامل مع سنن الأمر القيمية‪ .‬وهما‬ ‫بعدا التسخير القرآني أي مضمون نظرية المعرفة ونظرية القيمة فلسفيا‪.‬‬ ‫ولأكن صريحا من البداية‪ .‬فالمقدرات الذهنية النظرية أدوات لتنظيم التجربة الطبيعية واكتشاف‬ ‫قوانين الطبيعة وتطبيقاتها في استعمار الإنسان للأرض والمقدرات الذهنية العملية التي اضفتها‬ ‫إليها قياسا عليها أدوات لتنظيم التجربة التاريخية واكتشاف سنن التاريخ وتطبيقها في الاستخلاف‬ ‫في الارض هما معنى تجهيز الإنسان بالقدرتين اللتين يمثلهما النظر والعقد في المعرفيات والعمل‬ ‫والشرع في القيميات‪ .‬والإنسان يعلم على معرفة ويعمل على قيمة‪ .‬وهما قدرتان فطريتان فيه‬ ‫وما يكتسبه هو مضمونهما وما يدفع إليه من تطويرهما‪.‬‬ ‫فالمضموني مصدره التجربة التي تتحقق بالإدراك الحسي المباشر أو المجهز بما ينتجه العلم من‬ ‫أدوات تقوية الإدراك الحسي المباشر‪ .‬وإذن فما هو فطري هو القدرة على \"إبداع\" المعاني الكلية‬ ‫التي تمكن من التعامل مع الخلق بالرياضيات وابداع المعاني الكلية التي تمكن من التعامل مع الأمر‬ ‫بالقيميات‪ .‬والرياضيات والقيميات لغتان أولاهما لقول قوانين الطبيعة والثانية لقول سنن‬ ‫التاريخ‪ .‬وابن تيمية اعتبر المعاني الكلية النظرية للعبارة عن قوانين الطبيعة مثل ألفاظ اللسان‬ ‫ورسوم الكتابة‪ .‬وقياسا عليها اعتبرت المعاني الكلية العملية للعبارة عن سنن التاريخ مثلها‪ .‬وهما‬ ‫وباستحالة تعينهما المطابق في \"عالم الشهادة\" رغم ضرورتهما لتصوير تجربتي الإنسان فيه يحيلان‬ ‫إلى عالم من جنس ثان يتعالى عليه‪ :‬عالم الخلق والامر‪.‬‬ ‫وهذان القدرتان المعرفية والقيمية الفطريتان من حيث الشكل دون المضمون الذي هو مكتسب‬ ‫وهو من جنس قيم المتغيرات في الرياضيات وفي القيميات والذي هو تجريب حتما فلا يكون إلا‬ ‫مكتسبا من التجربة في عالم الشهادة الطبيعي والتاريخي‪ .‬وكلاهما متطور بمعنى أن الفطري‬ ‫يتطور أو هو أبداع لا يتوقف إذ قد يقتضي المضمون ابداع لغة نظرية ولغة قيمية أكثر قدرة على‬ ‫ترجمته‪ .‬وعندما نتكلم على ختم الرسالة فالقصد تحديد طبيعة نوعي المقدرات الذهنية الخلقية‬ ‫والأمرية دون حصر أشكالها التي تتطور بلا حصر ولا نهاية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪104‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫ولا بد هنا من تحديد طبيعة اللغة الطبيعية أي الألسن وفهم معنى تعددها‪ .‬فهي أولا لغة من‬ ‫الدرجة ا لثانية أي إنها ما بعد لغة يترجم بها من له القدرة على أبداع اللغتين الأساسيتين أي‬ ‫المقدرات الذهنية النظرية والمقدرات الذهنية العملية هذه المعاني الكلية لغير القادرين على‬ ‫ابداعها‪ .‬اللغة الطبيعية تبدو مباشرة لكنها تصبح كذلك عند من لا يرى ما بينها وبين مرجعاتها‬ ‫من حصور اللغتين الأخريين المتقدمتين عليها‪ .‬ولولا ذلك لاستحال تعليم الألسن للأطفال أعني‬ ‫علاقة الألفاظ بالأشياء التي يتوهم العامة أنها علاقة مباشرة من جنس العلامات العادية التي‬ ‫تكتب على لوحات لتحدد أسماء البضائع أو المواد في الأسواق‪.‬‬ ‫لكنها في الحقيقة هي ما به يمكن للمعلم أن يعلم الطفل اللغة الأعمق التي تنقله من هذه العلاقة‬ ‫المباشرة الوهمية على ما بينها وبين الموجود والمنشود من المعاني الكلية المقدرة ذهنيا والتي هي‬ ‫اللغة الكونية التي من دونها يستحيل التفاهم بين البشر وتصبح اللغات الطبيعة جزرا لا وصلة‬ ‫بنيها‪ .‬فالمعاني الكلية سواء كانت نظرية أو قيمية أو حتى صناعية بالمعنى التقني هي اللغة التي‬ ‫ينتقل المتعلم من لغة التواصل بينه وبين الناطقين إلى لغة التواصل مع كل الأشياء أي غير‬ ‫الناطقين‪ :‬بصوغ القوانين والسنن‪ .‬هذا الفصل الثامن يدرس دور العلاقة بين الإنسان والطبيعة‬ ‫والعلاقة بين الإنسان‪.‬‬ ‫والإنسان بهذا المعنى الذي لا بد منه شرطا في القدرة على التعمير والاستخلاف وفيهما تكون اللغة‬ ‫الطبيعية ما بعد لغة لأنها ترجمة للغتين الأعمق اللذين تمثلهما لغة المعاني الكلية النظرية‬ ‫والقيمية التي وصفنا‪ .‬ويمكن بجملة واحدة أن أصوغ علة التخلف الذي تعاني منه الأمة منذ‬ ‫قرون بعبارة ليس أوضح منها‪ .‬فالفكر في حضارتنا صار أعمى تماما لأنه لم يدرك أن اللغة‬ ‫الطبيعية لا يمكن أن تكون لغة معرفة ولا لغة قيمة لأنها ترمز إلى المعرفة والقيمة في الثقافة رمز‬ ‫العملة لهما في الاقتصاد دون أن تكون لها بهما علاقة في غياب لغة المعرفة ولغة القيمة اللتين هما‬ ‫المعاني الكلية المقدرة ذهنيا نظريا وعمليا‪.‬‬ ‫صار فكرنا يستعمل اللغة الطبيعية من دون اللغة الاصلية التي تمكن من التواصل مع الطبيعة ومع‬ ‫التاريخ أي إنه يتوهم اللغة الطبيعية قادرة على قول قوانين الطبيعة وسنن التاريخ من دون‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪105‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫شرطيهما‪ .‬وهذا هو أصل كل التخريف حول الأعجاز العلمي لتوهم لغة القرآن الطبيعية قولا في‬ ‫المعاني الكلية النظرية والعملية‪ .‬وإذا كان لابن تيمية وابن خلدون فضل فهو أنهما فهما هذه‬ ‫الحقيقة‪ :‬الأول اكتشف أن المعاني الكلية مقدرات ذهنية نظرية ذات وظيفة لتأسيس الطبيعيات‬ ‫والثاني اكتشف ما يناظرها وإن لم يسمه وهي قيمية لتأسيس الإنسانيات واللغة الطبيعية ما بعد‬ ‫لغة في الحالتين تصل المعرفي والقيمي بالعامي‪.‬‬ ‫وعندما قال الله في القرآن كل شيء خلقناه بقدر وكل شيء أمرناه بسنن ثم أضاف في فصلت ‪53‬‬ ‫إننا نعلم أن القرآن حق إذ رأينا ما يرينه من آياته في الآفاق وفي الانفس فهو يدعونا لإبداع‬ ‫اللغة التي هي غير اللغة الطبيعية التي تتكلم على الأشياء وكأنها علامة مثل العملة دون أن كون‬ ‫متضمنة لكيانها المعرفي أو القيمي‪ .‬وإذن فالمقصود بالآيات هو المعنى الرياضي والمعنى القيمي في‬ ‫الآفاق وفي الانفس وهي قوانين الطبيعة وسنن التاريخ حول الإنسان وفيه ناطقة بلغتهما التي على‬ ‫الانسان ابداعها لكونه مجهز بالقدرة عليه‪.‬‬ ‫وهي إذن ليست لغة القرآن بما هي لغة تشير إلى محل اللغتين اللتين على الإنسان رؤيتهما في‬ ‫الآفاق وفي الانفس ليبدع المعاني الكلية التي نكتشفها في الآفاق وفي أنفسنا أي في العالم الشاهد‬ ‫المحيط بنا وفي كياننا العضوي والروحي أي في كيان الطبيعة الفيزيائي وفي كيان التاريخ القيمي‪.‬‬ ‫والآيات فيهما هي المعاني الكلية التي \"تقولهما\" أي اللغة التي تعالج علاقتنا بهما‪ .‬والقرآن عرف‬ ‫نوعي للغة التي يبدعها الإنسان‪ :‬لغة تعبر عما يمكن للإنسان أن يبدعه (الرياضيات) لقول ما‬ ‫يدركه (التجربة الطبيعية) من قوانين شاهد الخلق (كل شيء خلقناه بقدر) وأن يبدعه‬ ‫(السنن) لقول ما يدركه (التجربة التاريخية) من سنن شاهد الأمر (لن تجد لسنة الله تبديلا)‪.‬‬ ‫وما يبدو من تدبير سابق بين نظامي التجهيز الإنسانيين أي النظر والعقد في المعرفيات والعمل‬ ‫والشرع في القيميات إذ يطبقان على على الموجوديات والمنشوديات يعسر أن يقبل العقل أن تكون‬ ‫كلها من الصدف لاستحالة أن تكون الصدفة أصلا للنظام‪ .‬ولذلك فهما يصبحان دافعين للبحث في‬ ‫ماوراء هذا التناسب بين تجهيز الإنسان المعرفي ونظام الطبيعة وتجهيزه القيمي ونظام التاريخ‪.‬‬ ‫فيكون للإنسان منطلقان في البحث الماورائي‪ :‬فإذا انطلق من المعرفي الطبيعي كان فيلسوفا وإذا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪106‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫انطلق من القيمي التاريخي كان نبيا‪ :‬وطبعا فالقصد أن الفيلسوف والنب نموذجان مثاليان وليس‬ ‫المعنى أن كل باحث في الفلسفة فيلسوف وكل باحث في الدين نب‪.‬‬ ‫وهما دافعان للمؤمن والكافر إلى العناية بالإلهيات بنوعيها الفلسفي والديني لأنهما منفصلتان‬ ‫انفصال أمر واقع ودعوى التفاضل بين المتنافسين‪ .‬فالمؤمن بخلاف الملحد لا يفسر النظام باللانظام‬ ‫حتى لو سلم له أن الفوضى مقدمة على النظام بل وخاصة إذا سلم بذلك‪ .‬فالانتقال من الفوضى‬ ‫إلى النظام هو الذي يعني أن للنقلة المنتظمة والثابتة ما يدل على أنها ثمرة عمل قصدي وراءها‬ ‫حتى لمجرد المقابلة بين الحالتين‪ .‬وفي هذه الحالة يبدو المؤمن صاحب الموقف الأقوى منطقيا لأن‬ ‫أثبات حالة واحدة تدحض الكلية السالبة وسلب حالة واحدة لا تثبت الكلية السالبة‪.‬‬ ‫ولذلك فأقصى ما يمكن أن يرد به الملحد على المؤمن ليس نفي الفرق بين العالمين بل يقتصر على‬ ‫نفي المفارقة‪ .‬وتلك هي علة القول بوحدة الوجود سواء كانت طبعانية برد التاريخي إلى الطبيعي‬ ‫توحيدا للنظامين أو روحانية لنفس الغرض‪ .‬ولذلك فالتصوف عندي إلحاد يقول بالمحايثة إما من‬ ‫النوع الأول أو من النوع الثاني ولا فرق فعلا بين الردين الطبيعي للروحي أو الروحي للطبيعي‬ ‫لتحقيق المحايثة‪ .‬وابن عربي يستعمل كلمات تفيد المعنيين لأن القول إن العالم هو عين الله يفيد‬ ‫المعنيين لأن العين يمكن أن كون مادية أو روحية‪.‬‬ ‫والمقدرات الذهنية النظرية والعملية من حيث هما قدرة فطرية دائمة التطور الشكلي لا‬ ‫المضموني ‪-‬إذ لا مضمون لهما ولا يوجد مضمون يمكن أن يكون من جنسهما حتى عندما يكون ما‬ ‫بعد الرياضيات هو بدروه رياضيا وما بعد القيميات هو بدوره قيميا‪ -‬يحققان شروط التكيف مع‬ ‫العالمين الطبيعي والتاريخي في تناسب مع تطور التجربتين الطبيعية والتاريخية المحددتين للمضمون‬ ‫باعتبار المقدرات وكأنها معادلات صورية تبحث عن قيم فيهما فيكون المنطلق شبه تطويع لشكل‬ ‫العبارة الرياضية والقيمية حتى يقرب من المضمون الطبيعي أو التاريخي‪ :‬وفي الحقيقة فذلك هو‬ ‫معنى اخضاع التجربة للمعاني الكلية إذ هي توحي بتعديلات في العبارة كمن يطوح القول للمقول‬ ‫ذهابا من المقام إلى المقال‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪107‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫والظاهرة المعرفية والقيمية التي تحصل من الملاءمة والتدبير بين التقدير الذهني القبلي في‬ ‫الذهن والتضمين الموضوعي البعدي في التجربة يضعنا أمام نظام أسمى منهما هو الذي يعلل‬ ‫التناظم المتبادل بين تجهيزي الإنسان وخاصيتي العالم الطبيعي (الخلق بقدر) والعالم التاريخي‬ ‫(الأمر بسنة) فيكون الإنسان أبلغ دليل على وجود الله‪ .‬ففيه أثر من فعل الخلق ومن فعل الأمر‬ ‫بلغة أرقى من اللغة الطبيعية التي لا تتجاوز التواصل بين البشر على التواصل بلغة المعاني الكلية‬ ‫النظرية والعملية بينهم وبين الكائنات الاخرى غير البشرية‪.‬‬ ‫ولغة المعاني الكلية النظرية والعملية ‪-‬وهذا من المفارقات أقرب إلى لغة الإشارة منها إلى لغة‬ ‫العبارة لأن الإشارة هي عين الشيء الذي يشير بذاته وبهما يعبر البدن بهندسة الرسم ونغم‬ ‫الصوت فيكون بدن الإنسان ظاهرة طبيعية ناطقة بلغة متقدمة على الكلام‪ .‬فيصبح مفهوم‬ ‫الاستخلاف له هذا المعنى الذي يفيد بأن له شيئا من كن الخالقة وكن الآمرة في المعاني الكلية‬ ‫المتقدمة على اللسان الطبيعي‪ .‬إنه خليفة ليس بمعنى القائلين إنه خلق على صورة الله‪-‬وقد‬ ‫حسمها ابن تيمية عندما جعل الضمير يعود على الاسم الاقرب في جملة \"الله خلق آدم على‬ ‫صورته\" أي \"على صورة آدم\" وليس على \"صورة الله\"‪-‬بل بمعنى أن تصوير آدم بالمعنى الذي جعله‬ ‫قادرا على التقدير الذهني‪.‬‬ ‫معنى كونه خليفة هو جعله حاصلا على بعض ما نذهب إليه عندما نتخيل الإنسان خالقا يريد أن‬ ‫يصنع روبا له شيء من فاعلية الخلق المستقل‪ .‬فنسبة الله إلى الإنسان هي نسبة الإنسان إلى مثل‬ ‫هذا الربو المستقل عنه بما يشبه استقلال الإنسان عن الطبيعة‪ .‬وذلك هو معنى حرية الإنسان أي‬ ‫له القدرة على ابداع المقدرات الذهنية والعمل بها في المعرفة تطبيقا على الطبائع وفي القيمة‬ ‫تطبيقا على الشرائع‪ .‬وكل من يعجز عن ذلك يصفه القرآن بأنه من \"الصم البكم العمي الذين لا‬ ‫يعقلون\"‪ .‬بمعنى الذين ليس لهم القدرة الحادسة التي تبدع المعاني الكلية ذهنيا وراء القدرة‬ ‫الحاسة التي لا تتجاوز العموميات اللسانية الطبيعية المستمدة من التشابه الحسي‪.‬‬ ‫وهو ما يجعل الشعوب التي مات فيها هذا الابداع للمعاني الكلية المعرفية والقيمية تتحول السياسة‬ ‫فيها إلى حرب أهلية بسبب الندرة التي تنتج عن غياب إبداع معرفة قوانين الطبيعة وتطبيقها‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪108‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫لإنتاج ما يسد حاجتها فيكونوا قوم العنف والثرثرة لأن الكلام باللسان الطبيعي لا يتجاوز‬ ‫الثرثرة ولا يمكن أن يتضمن علما أو قيما بل هو يحيل إلى ما تتضمنه لغتا المعاني الكلية وهي‬ ‫مقتصرة على التواصل حول المعلوم وليست قادرة على ابداع العلم لأنها لا تبدع ما يعبر عن‬ ‫قوانين الطبيعة ولا ما يعبر عن سنن التاريخ وتطبيقهما التي من دونها لا يوجد ما يتم تبادله‬ ‫وتبادله بعدل شرطا للتعاون الذي يكون فيه الجميع خادما ومخدوما‪.‬‬ ‫والآن سأفتح قوسين لن يرضى عن الاستطراد الذي أضعه بينهما لا كاريكاتور التحديث ولا خاصة‬ ‫كاريكاتور التأصيل ويتعلق بما أعنيه بالواحد بين الديني والفلسفي الذي يلغي ما ظنوه مميزا لهما‬ ‫أحدهما عن الآخر‪ .‬فما يميزهما ما ترتب من تحريف عن توظيفهما وليس من جوهرهما بل هو من‬ ‫أعراضها العامية في المجتمعات الإنسانية‪ .‬وقد بينت أن هذا التوظيف علته أصحاب ربا الأموال‬ ‫(الاقتصاد) المستخدمين لربا الأقوال (الثقافة) أداتي كل حكم استبدادي في تاريخ البشرية‪.‬‬ ‫وأول أمر يستفز كاريكاتور التأصيل هو نفي أن يكون الوحي محويا على العلم بالغيب‪ .‬فشتان بين‬ ‫الاعلام بوجود الغيب وبين علم الغيب خاصة والنص القرآني صريح بأن علم الغيب مقصور على‬ ‫الله صاحب العلم المحيط‪ .‬ولا يمكن أن تكون الرسالة رسالة بأمر لا يمكن أن يعلمه المرسل إليه إذا‬ ‫كان المرسل عاقلا‪ .‬والمعلوم أن المبلغ نفسه محجوب عنه الغيب‪ .‬فكيف سيبلغ ما لا يعلم؟ وكيف‬ ‫ترسل رسالة لا تفهم؟ أما خرافة الكشف الصوفي ووراثة الانبياء فهما من التلاعب بالألفاظ إذا‬ ‫كان ما يدعيه الصوفي وما يرثه العلماء غير ممكن حتى للرسول‪.‬‬ ‫وإذن فليس في الفكر الديني ما لا يدركه العقل ويستسيغه إلا إذا كان مما لا يدركه الفكر‬ ‫الفلسفي ويستسغه‪ .‬وما لا يدركه العقل في الفلسفة انتهت الفلسفة إلى الاعتراف به وهو ما‬ ‫توصل إليه الفكر الديني قبلها أعني استحالة المطابقة في المعرفة واستحالة المطابقة في القيمة‪.‬‬ ‫فمعرفتنا وتقييما كلاهما نسب إلينا ودائم التغير دون أن يطابق الموجود علما والمنشود قيمة‪.‬‬ ‫وعندما أدرك الفكر الفلسفي تحرر من وهمين هما علة الفصل بينه وبين الفلسفي في ما هو‬ ‫جوهري في نظرية المعرفة نظرية القيمة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪109‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫وليس صحيحا أن الفلسفة تتميز عن الدين بكونها لا تنطلق من الإيمان بل تصل إليه وقد تصل‬ ‫لكنها يمكن أن تتوقف دونه‪ .‬وهذان كذبتان‪ .‬فهي مثل الدين تنطلق من عقيدتين وتنتهي إلى‬ ‫عقيدتين في النظر وتنطلق من تشريعين وتنتهي إلى تشريعين في العمل كما بينت في الفصل‬ ‫السابق‪ .‬ففي النظر تنطلق الفلسفة مثل الدين من التسليم بوجود شيء قابل للعلم وبوجود ذات‬ ‫قادرة على علمه‪ .‬وتنتهي إلى التصديق بما علمت أو بما لم تعلم وبدلالته على ما يعلم أو ما‬ ‫يجهل‪ .‬وفي العمل تنطلق الفلسفة مثل الدين من التسليم بتشريعين تقديريين لما تسعى إلى‬ ‫تحقيقه وكلفته وتنتهي إلى تشريعين تقييميين للحصيلة وكلفتها‪.‬‬ ‫ولا يمكن تصور نظر من دون هذه العقائد الأربعة المحيطة به اثنين قبله واثنين بعده‪ .‬ونفس‬ ‫الأمر بالنسبة إلى العمل بمعناه الفلسفي‪ .‬لابد له من تشريعين قبله وتشريعين بعده من الأولين‬ ‫يشرع في عمله وإلى الثانيين ينتهي عمله‪ .‬ومن يتجاهل ذلك اعمى البصيرة ولا يفهم القصد‬ ‫بالعلم الإنساني الذي يعني البحث عن الحقيقة ولا بالعمل الإنساني الذي ليس يعين تحقيق ما‬ ‫يعتقده حقيقيا لأن عمل الإنسان ليس فعلا طبيعيا أو آليا بل هو عمل على علم باستراتيجية‬ ‫أساسها ما يضعه من تشريع بداية وغاية‪ .‬وذلك هو الفرق بين الشرائع والطبائع‪.‬‬ ‫وإلى حد الآن اكتفيت بتلخيص ما برهنت عليه في الفصل السابع وفي بداية هذا الفصل الثامن‪.‬‬ ‫لكني لم أبدا في الاستطراد الذي يتعلق بالقدرتين على التقدير الذهني النظري والعملي أي‬ ‫ابداع المعاني الكلية والقيم الكلية التي لا توجد في الأشياء رغم أن الأشياء لا يمكن أن تكون‬ ‫قابلة للمعرفة والتقييم إلا بفضلها‪ .‬فالرياضيات والقيميات ليست مما له وجود معلوم الطبيعة‬ ‫لأنها من التقدير الذهني لكائنات مفهومية هي التي تبدع ما صدقات مفهومية أيضا لأن ما‬ ‫ماصدقاتها ليست مما له مثيل في الوجود الخارجي إذ من شروطها التمام التصوري الذي يزول‬ ‫بمجرد التعين المادي أيا كانت المادة التي تتعين فيها‪ .‬فلا يمكن تصور مادة من دونها لكنها غنية عن‬ ‫التعين المادي‪.‬‬ ‫عندما كان الناس يجهلون الواحد في الديني وفي الفلسفي جوهريا بعد تحريرهما من العرضي‬ ‫والعامي كانوا يتصورون أن الديني ينشغل بما يمكن أن نعتبره مقصورا على المعاني الكلية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪110‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫القيمية‪ .‬والفلسفة تنشغل بما يمكن أن نعتبره مقصورا على المعاني الكلية المعرفية‪ .‬لما جاء‬ ‫الإسلام بين أن ذلك علته تحريف الديني وتحريف الفلسفي‪ .‬وقد يفهم القارئ معنى التحريف‬ ‫الديني لكنه يستغرب من استعمال مفهوم التحريف للكلام على الفلسفة‪ .‬لكنه لو طبق المعنى‬ ‫الديني للتحريف لفهم أنه ينطبق على الفلسفة كذلك‪ :‬فالأمر في الحالتين متعلق بالتناسق بين‬ ‫المسلمات التأسيسية وما يترتب عليها‪ .‬وهذه المسلمات هي ما عرفناه أي العقائد الأربع المحيطة‬ ‫بالنظر والشرائع الأربع المحيطة بالعمل‪.‬‬ ‫كيف ذلك؟ عندي على ذلك دليلان كلاهما مستمدان من هذه العقائد الاربع والشرائع الاربع‪.‬‬ ‫فالعقائد الأربع تمثل قاعدة هرم الفكر النظري الذي ذروته النظر والشرائع الاربع تمثل قاعدة‬ ‫هرم الإرادة التي ذروتها العمل‪ .‬وذلك ينطبق في الدين وفي الفلسفة على الإنسان وما ينسب إليه‬ ‫من نزر شبيه بمثاله الاعلى الذي يعتبره علة ماورائية للموجود والمنشود‪ .‬فجنسا أفعال الله في‬ ‫القرآن (الخلق بقدر والأمر بسنة) ووظيفتا الإنسان فيه (التعمير شركه الخلق الإنساني‬ ‫والاستخلاف شرطه الأمر الإنساني) وما يناسبهما من تجهيز محدد في الإنسان (النظر والعقد‬ ‫للتعمير والعمل والشرع للاستخلاف) ومن تسخير العالمين الطبيعي والتاريخي لشروط قيام‬ ‫الإنسان من حيث هو مكلف بتلكما الوظيفتين باعتبارهما مقومي العبادة لله وحده لأنه لم يخلق إلا‬ ‫للعبادة‪.‬‬ ‫ولنبدأ بجنسي أفعال الله كما يعرفهما القرآن الكريم وهما من مجال الإيمان بما وراء الطبيعة وبما‬ ‫وراء التاريخ‪ .‬فأولهما هو الخلق والثاني هو الأمر‪ .‬فأما الخلق فالقرآن اعتبره بقدر وهو إذن ذو‬ ‫صلة بمقدرات الإنسان النظرية لمعرفة هذا القدر لعلم القوانين الطبيعية التي هذا شكلها‬ ‫ومضمونها لا يمكن تحديده فعليا إلا التجربة حتى لو أمكن تصوره بالفرض العقلي‪ .‬والثاني هو‬ ‫الأمر وهو ذو صلة بمقدرات الإنسان القيمية للعمل بسنن التاريخ وعلاقتنا بها لا تختلف عن‬ ‫علاقتنا بالطبيعة قيسا للعمل على النظر لإن الإرادة من دون المعرفة بد تكون رماية في عماية‪.‬‬ ‫لكن لو لم تكن قوانين الطبيعة قابلة للعلم بالرياضيات مطبقة على التجربة هل كان الإنسان‬ ‫يستطيع أن يعيش في العالم بعد أن يستنفد كل ما تنتجه حتى بعد الترحال فيها فتنضب ثرواتها‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪111‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫ينتهي وجوده بنضوبها فيكون عبدا للطبيعة وليس لله؟ هنا تأتي قصة نوح التي ينبغي فهمها‬ ‫بالجواب عن هذا السؤال‪ .‬فقصة نوح لها مع قراءتها الوعظية التقليدية دلالة أخرى أعمق وهي‬ ‫شروط التحرر من الخضوع إلى الطبيعة وعبادتها‪ :‬فالحل الذي قدمه يعني شروط تحرير الإنسان‬ ‫من سلطان الطبيعة عليه بالصناعة والزراعة‪ :‬صنع السفينة واستنبات كل ما يستمد منه الإنسان‬ ‫قيامه (أخذ زوجين اثنين من كل شيء)‪.‬‬ ‫وفي ضوء هذا المعنى تم شرح سورة هود كلها في ما تقدم تطبيقا لأعلى التحرر من سلطان الطغيان‬ ‫التاريخي (موسى) بعد الطغيان الطبيعي (نوح) وبينهما التحرر من طغيان المستبدين بالثروة‬ ‫(هود) وبالماء (صالح) وبالجنس (لوط) وبالتبادل (شعيب) والخلاص هو عبادة الله وحده‬ ‫(ابراهيم)‪ .‬والأهم من ذلك الجماعة الإنسانية ورمزها من ركب سفينة نوح لم تبق مبنية على‬ ‫علاقة الدم ولا حتى على علاقة الزواج ‪-‬لان امرأته وابنه‪ -‬لم يصبحاه بل صحبه من آمن بالحل‬ ‫وقبل تطبيقه فركب السفينة وأخذ مع نوح من كل زوجين أثنين ليستعيدا ما كانوا يأخذونه من‬ ‫الطبيعة دون علم فأنتجوه بعلم قوانين الطبيعة وسنن التاريخ‪.‬‬ ‫قوانين الطبيعة بينة من عدم الغرق بفضل السفينة وسنن التاريخ بينة من علاقة وجود الجماعة‬ ‫بالتعاون وليس بالدم‪ .‬وبذلك فالقرآن يثبت أن التقدير الذهني النظري مع تطبيقه على التجربة‬ ‫الطبيعية هو أساس العلاقة بالطبيعة لتحقيق شروط بقاء الإنسان العضوية والتقدير الذهني‬ ‫العملي مع تطبيه على التجربة التاريخية هو اساس العلاقة بالتاريخ لتحقيق شروط بقاء الإنسان‬ ‫الروحية‪ .‬وتلكما هما أصل علاج الإنسان لعلاقته بالعالم الطبيعي وبالعالم التاريخي دون الخضوع‬ ‫لهما خضوع تأليه هو أصل كل الوثنيات وقد جهز التجهيز المناسب لشروط قياميه مستعمرا في‬ ‫الأرض ومستخلفا فيها‪.‬‬ ‫وإذا كان يوجد شعب في عصرنا ليس من العسير عليه فهم ما أشرح هنا فهو عرب الإقليم وخاصة‬ ‫أصحاب الثروات الطبيعية التي لا يدين بها أصحابها لعملهم الصناعي أو الزراعي كما في قصة نوح‬ ‫ولا لعملهم السياسي والخلقي كما في قصة موسى والتي فيها كل العيوب التي تكلمت عليها سورة هود‬ ‫كلاما شيب الرسول الخاتم ثروة وماء وجنسا وتبادلا ووحدانية‪ :‬فهم يعيشون في القرن الحادي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪112‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫والعشرين مثلما كانوا في عصر الجاهلية مع فقدان ما كان لأهلها من قدرة على النهب والسلب‬ ‫لأنهم لم يأخذوا من الحضارة الحديثة على الاستهلاك والميوعة والتخنث إلى حد الاحتماء‬ ‫بغيرهم مكتفين برفاهية من يبيع ما تنتجه الطبيعة وهم يتمطون ويتثاءبون‪.‬‬ ‫تصور حالتين ليستا مستحيلتين‪:‬‬ ‫• نفاذ البترول‬ ‫• وتأميم الغرب اموال العرب واستثماراتهم فيه سواء كانوا من المشرق (دول الخليج‬ ‫والعراق) أو من المغرب (ليبيا والجزائر) فإنهم جميعا سيعودون إلى الجاهلية دون ما لأهلها‬ ‫من قدرة على الإغارة على يغرهم لأنهم جبناء أولا ولأنهم عزل من كل سلاح إذ من يبيعهم‬ ‫اليوم خردته سيضن بها عليهم حتى لا يحاربوه بها‪ .‬كان يمكن بفرس وسيف أن تغزو‬ ‫أجوارك‪.‬‬ ‫اليوم جيرانك لهم كل الاسلحة التي تفنيك وتعتدي على أرضك وعرضك‪ .‬فلا يوجد عربي اليوم‬ ‫يعمل بالأنفال ‪.60‬‬ ‫وبهذا المعنى فما ختمه الإسلام ليس الدين لأنه معنى الديني فيه ليس ما آل إليه عند الحمقى‬ ‫ممن جعلوه نكوصا إلى الخرافة‪ .‬ما ختمه الإسلام هو وهم الفصل بين الديني والفلسفي‪ .‬ما انهاه‬ ‫القرآن هو الدين والفلسفة إذا تصورناهما منفصلين أحدهما عن الآخر بدعوى أن الوحي فيه علم‬ ‫بالغيب وبه يتجاوز العقلي والعقلي فيه مطابقة مع ما يسمونه الواقع وبه تجاوز الديني‪ .‬فالقرآن‬ ‫لا يعتمد على المعجزات التي تخرق العادات حتى وإن امتلأ بقص ما يذكر في الأديان السابقة رواية‬ ‫دون تبن‪ .‬والمشكل ان قراء القرآن يخلطون بين موريات القرآن ومعتقداته‪ .‬فالقرن ليس فيه ما‬ ‫يدل على أنه يعتقد كل ما يرويه‪ .‬فما من معجزة رواها لا تتضمن تفسيرا يردها إلى دلالة‬ ‫تتجاوز الوقوع الفعلي إلى الوقع الرمزي‪.‬‬ ‫ولو كان يعتقد في خرق العادات لكان في أحداث التاريخ الإسلامي في حقبة نزول الوحي ما‬ ‫يجانسها‪ .‬لو كان الرسول يعتقد في خرق العادات لما اجتهد ولما جاهد ولانتظر حدوث المعجزات‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪113‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫مثلما يروى على الأنبياء السابقين‪ .‬فالرسول اجتهد وجاهد وقد من الله عليه بأن أوحى اليه ما‬ ‫يهديه إلى الاجتهاد والجهاد الصائبين‪ .‬والله لا يقصر وحيه على البشر ولا على الأنبياء بل هو‬ ‫يوحي لكل الكائنات وليس للرسل وحدهم أو للعلماء‪ .‬والوحي بهذا المعنى هو هذه القدرة‬ ‫الإبداعية للمعاني الكلية النظرية والعملية التي يتميز بها أصل البصيرة في كل تاريخ الإنسانية‬ ‫وبهذا المعنى فهي شرط كل إبداع طبيعيا كان أو تاريخيا‪ .‬ومعنى الختم هو عين معنى جمع القرآن‬ ‫بين الديني والفلسفي وكونه متضمنا لمعنى التقدير الذهني النظري والعملي تجهيزا للإنسان من‬ ‫حيث هو إنسان‪.‬‬ ‫وما في القرآن منهما هو غاية ما يتصوره العقل الإنساني‪ .‬فأن يقول القرآن إن كل شيء خلقناه‬ ‫بقدر وأن كل شيء مكتوب في سجل مرقوم وأن كل شيء أمرناه بسنة لا تتبدل ولا تتحول يعني أنه‬ ‫بلغ ذروة ما لا يمكن ألا يكون سرمديا فوق الزمان والمكان لأنه لم يحدد نوع العدد ولا نوع السنة‬ ‫بل جعل طلب معرفتهما والعمل بهما عين التكليف‪ .‬فهما لا يوجدان في القرآن بأعيانهما بل‬ ‫بالمفهوم ا لذي يحدد طبيعتهما أي المقدرات الذهنية التي هي أدوات النظر العقلية والمقدرات‬ ‫الذهنية لتي هي أدوات العمل الإرادية والقدرة على تطبيقهما لفهم قدر الخلق وسنة الأمر‬ ‫والأول شرط ا لتعامل مع الطبيعة والثاني شرط التعامل مع التاريخ فيكون الإنسان بعهما مجهزا‬ ‫للتعمير تطبيقا للأولى على التجربة الطبيعية والاستخلاف تطبيقا للثانية على التجربة التاريخية‪.‬‬ ‫فنفهم حينئذ معنى أن الإسلام خاتم ليس بالمعنى المضموني بل بالمعنى الشكلي أي إنه لم يعطنا‬ ‫المضمون العلمي ولا المضمون العملي في أعيانهما بل هو أعطانا المفتاح الموصل إليهما والقدرة على‬ ‫استعماله في التعامل مع الطبيعة للتعمير ومع التاريخ للاستخلاف‪ :‬جهزنا بالنظر والعقد للبحث عن‬ ‫قوانين الطبيعة شرطا لقيامنا العضوي وبالعمل الشرع للبحث عن سنن التاريخ شرطا لقيامنا‬ ‫الروحي ثم دلنا على محل اكتشاف القوانين والسنن فقال جل من قائل‪\" :‬سنريهم آياتنا في الآفاق‬ ‫وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق\"‪ .‬وأتمها بأنه على كل شيء شهيد‪.‬‬ ‫وكل ما في القرآن هو دعوة لاستعمال بالنظر والعقد في التعامل مع الطبيعة ودعوة لاستعمال‬ ‫العمل والشرع في التعامل مع التاريخ وتذكير بأن ذلك له مستويان رؤية الآيات أي إدراك ما في‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪114‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫الطبيعة من نظام قانوني وما في التاريخ من نظام سنني وتطبيق المقدرات الذهنية لصوغ معطيات‬ ‫التجربية المجهزة ليس بالحواس وحدها بل بما تمكن النظرية مت تجهيزها به من قدرات تجعلها‬ ‫تدرك ما لا يدرك بالحواس المجردة‪ .‬وإذن فرؤية الآيات في كل شيء هي رؤية القوانين في‬ ‫الطبيعة ورؤية السنن في التاريخ‪ .‬والقوانين والسنن توجد كذلك في كيان الإنسان العضوي وفي‬ ‫كيانه الروحي الذي ليس هو شيئا آخر غير \"لغز\" الوعي بكيانه العضوي وبما حوله من العالمين‬ ‫الطبيعي والتاريخي‪ .‬فلغز الألغاز في الإنسان هو هذا الوعي الذي لا تفسير له لأنه شرط كل طلب‬ ‫للتفسير‪.‬‬ ‫ومن عجائب المقدرات الذهنية النظرية والعملية أنها خالية مما يقبل التصديق والتكذيب بغير‬ ‫معايير المنطق أي ما لا يعتبر تصديقا أو تكذيبا أو تناسق أو عدم تناسق لأن الأولين يعنيان‬ ‫الاحتكام إلى التجربة وهما لا يحتكمان لغير التناسق المنطق‪ .‬فهما شكل دون مضمون خارجي غير‬ ‫ما وضعاه مضمونا مقدرا ذهنيا مطابقا لتعريفات حدوده البسيطة وقواعد توليفها‪ .‬وعندما نتكلم‬ ‫على التصديق والتكذيب بخصوصهما فالقصد تصديق تطبيقهما أو تكذيبه عندما نعين لهما‬ ‫مضمونا هو قيم بالمعنى الرياضي لمتغيراتها المجردة‪ .‬لكن القول إن الخلق بقدر والأمر بسنن لا‬ ‫يقبل التكذيب ولا التصديق لأنه ليس علما بمضمون محدد بل هو تحديد لشروط امكان علم‬ ‫الموجود وعمل المنشود‪ .‬والقدر والسنن المعينان في الطبيعة وفي التاريخ كلاهما مطلوب من الإنسان‬ ‫البحث عنهما وليسا معطيين محددين‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فلا شيء في القرآن قابل للمحاكمة التجريبية بل هو شرط كل محاكمة لعلم الموجود‬ ‫ولعمل المنشود‪ .‬وهو إذن استراتيجية شكلية للمعرفة واستراتيجية شكلية للقيمة بهما تتحقق أهلية‬ ‫الإنسان للتعمير والاستخلاف إن عمل بها وبعدمهما يتحقق فشل الإنسان في التعمير والاستخلاف‪:‬‬ ‫كذلك فهمته‪ .‬ولأن علماء الملة تصوروه \"صندوق\" ماعون صنعة فإنهم تصوروا أنه يمكن أن يكون‬ ‫مصدر علوم الملة فيكون تفسير ألفاظ القرآن علم العلوم ومنه يستمد النظر ببعديه الكلامي‬ ‫والفلسفي والعمل ببعديه الفقهي والصوفي وإذا بالسبابة التي تشير إلى ما عليهم رؤيته تتحول‬ ‫هي ما لا يرون غيره‪ :‬فكان العقم وبدلا من رؤية القمر لم يروا إلا السبابة التي تشير إليها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪115‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪116‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫زبدة الحصيلة من الفصول الثمانية تعريف الإسلام بكونه \"استراتيجية سياسية لكيان‬ ‫الإنسان العضوي والروحي في عالم الطبيعة والتاريخ بمقتضى ما يصلهما بمثل من عالم‬ ‫الغيب\"‪ .‬وهي حصيلة مشروطة في العمل بعلم الطبائع لسد حاجات الإنسان العضوية وفي‬ ‫العمل بقيم الشرائع لسد حاجاته الروحية بوصفه مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها‪.‬‬ ‫وهذه الحصيلة تبرهن على ما بينت عليه قراءتي الفلسفية للقرآن الكريم إذ عرفت القرآن‬ ‫بكونه \"استراتيجية التوحيد القرآنية (لتوحيد الإنسانية) ومنطق السياسة المحمدية‬ ‫(لتحقيق عينة منها)\"‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فلا يمكن الفصل بين الديني والفلسفي في الرسالة الخاتمة كما يعرضها‬ ‫القرآن الكريم لأن الكلام فيه هو على الإنسان من حيث هو كائن عضوي وروحي وشروط‬ ‫قيامه بهذين المعنيين وعلى عالم الشهادة الطبيعي والتاريخي الذي يحيط به ويحتوي على‬ ‫هذه الشروط التي يحققها الإنسان بما جهز به من نظر وعقد وعمل وشرع‪ .‬فيكون التاريخ‬ ‫الإنساني ثمرة هذه الاستراتيجية التي تنظم علاقات الإنسان بهما تنظيما هو السياسة‬ ‫المشدودة إلى مثل عليا لا مثيل لها فيه وتلك هي علاقة عالم الشهادة بعالم الغيب في‬ ‫الرؤية القرآنية‪.‬‬ ‫وهو معنى أن طبيعة هذه الاستراتيجية من الغيب الذي ليس كمثله شيء‪ .‬فالخالق‬ ‫والآمر أو الله ليس كمثله شيء ومن ثم فهو غيب مطلق‪ .‬وفعلا الخلق والأمر ليس كمثلهما‬ ‫شيء لكن لهما علامات في المخلوق والمأمور هي ما في الأول من نظام رياضي للطبائع وما في‬ ‫الثاني من سنن قيمية للشرائع‪ .‬وتلك هي المعاني الكلية التي يستطيع الإنسان وضع‬ ‫نظريات التقدير الذهني التي تساعده على العبارة المعرفية والقيمية عن التجربة‬ ‫الطبيعية والتاريخية‪ .‬والإنسان المكلف بالتعمير والاستخلاف مشدود إلى ما يترتب على‬ ‫هذه المعاني الكلية في المعرفة وفي القيمة وما هما علامة عليه من آيات الخلق والامر‪ .‬وهذه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪117‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫المعاني هي بدورها لا مثيل لها ولا تقاس على شيء من الموجود والمنشود الحسيين رغم أنه‬ ‫لا شيء منهما يمكن أن ينقال من دونهما مطبقين على التجربة‪.‬‬ ‫ولما كانت افعال الله التي هي من الغيب قد ردت في رؤية القرآن إلى جنسين هما‬ ‫‪ .1‬جنس أفعال الخلق (القضاء)‬ ‫‪ .2‬وجنس أفعال الأمر (القدر)‬ ‫وكان القرآن قد وصف الأول بأنه يكون بقدر والثاني بأنه يكون بسنة فإن القرآن قد‬ ‫أشار بصورة صريحة إلى أن الأول من طبيعة رياضية أساسا للخلق والثاني من طبيعة قيمية‬ ‫أساسا للأمر فحض الإنسان على طلبهما بالنظر والعقد لتحديد ما يعلمه من مقدار كيان‬ ‫الموجود والعمل والشرع لتحديد ما يريده من مقدار كيان المنشود بتطبيق المقدرات‬ ‫الذهنية النظرية والعملية على التجربة الطبيعية والتجربة التاريخية حتى يحقق مهمتيه‬ ‫تعميرا واستخلافا‪ .‬فالخلق متعلق بالطبائع والأمر متعلق بالشرائع‪ .‬لكن الطبائع والشرائع‬ ‫من حيث هي في ذاتها من الغيب وهي مثل عليا تقاس عليهما الطبيعة والتاريخ كما يدركهما‬ ‫الإنسان ولا تقاسان بهما‪ .‬وذلك هو معنى نفي المطابقتين في نظرية المعرفة وفي نظرية‬ ‫القيمة‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فقد قلبت طريقة المتكلمين والفلاسفة الذين يقيسون الغائب على الشاهد‬ ‫ولا يميزون بين الغائب الذي يقبل الشهادة والغيب الذي لا يقبلها أبدا لأنه لا مثيل له في‬ ‫عالم الشهادة حتى وإن كان لا شيء من هذا العالم يمكن تصوره من دونه باعتباره مثالا‬ ‫غير متعين تعينا يقبل الإدراك الحسي‪ .‬فهم إذن يردون المثال إلى الممثول فيصبح ما‬ ‫يسمونه واقعا مجرد رد الأمر الواجب إلى الأمر الواقع من ثم يزول الفرق بين الموجود‬ ‫وإدراكنا وبين المنشود وإرادتنا‪ .‬وتلكما هما علة حصر الموجود والمنشود في الشاهد ونفي‬ ‫ما وراء الشاهد من غيب يكاد الشاهد أن ينطق بعدم استغنائه عنه لتضمنه عدم اكتفائه‬ ‫بذاته‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪118‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫وليس ذلك لأن الإنسان يعوض نقصه كما يزعم فيورباخ فيكون هو خالق ما يستكمل‬ ‫ذاته به‪ :‬فالمشكل ليس في تفسير النتيجة بالتعويض حتى لو سلمنا بحل فيورباخ بل في الوعي‬ ‫بعدم الاكتفاء بالذات‪ .‬وهذه هي خصائص المقدرات الذهنية النظرية شرطا في معرفة‬ ‫الطبائع المحسوسة في التجربة الطبيعية والمقدرات الذهنية العملية شرطا في معرفة الشرائع‬ ‫المحسوسة في التجربة التاريخية‪ .‬ففيها بصنفيها وعي باستحالة أن يكون الموجود موضوعا‬ ‫للإدراك الحسي والمنشود موضوعا للإرادة الحسية ما يمكن أن يطابق المعاني الكلية المعرفية‬ ‫والقيمية المقدرة ذهنيا‪ .‬ولما كان من العسير اعتبار هذه المقدرات من الظاهرات النفسية‬ ‫وكانت غير موجودة خارج الذهن فهي إذن مجهولة الطبيعة أو لنقل إنها تعبر عن حضور‬ ‫الغيب في كيان الإنسان‪.‬‬ ‫وطبعا فهي ليست من الغيب لأنها معلومة‪ .‬لكنها من علامات الغيب لأن معلومتيها ليس لها‬ ‫مثيل في معلومية الظاهرات المنتسبة إلى النفسانيات ولا إلى معلومية الظاهرات المنتسبة‬ ‫إلى عالم الشهادة سواء كان طبيعيا أو تاريخيا‪ .‬وهي ليست من الغيب بمعلوميتها مع ذلك‬ ‫بل بكونها دالة على معلومية لا ترد إلى عالم الشهادة العضوي والطبيعي والنفسي‬ ‫والتاريخي‪ .‬ولما كنا لا نعلم شيئا شاهدا غير العضويات والطبيعيات والنفسانيات‬ ‫والتاريخيات فإذن هي ليست من عالم الشهادة‪ .‬ولا يعنيني غير ذلك‪ :‬يوجد وينشد مما‬ ‫ليس من عالم الشهادة أو مما لا يمكن أن يرد إلى عالم الشهادة رغم كوني أدركه وأريده‬ ‫بل أشعر بأني أبدعه شرطا للمعرفة وأبدعه شرطا للتقييم شرطا تصويريا للمضمون‬ ‫التجريب‪.‬‬ ‫وهي إذن كما عرفها ابن تيمية لغة من درجة أعمق من درجة الفاظ اللسان ورسوم الكتابة‬ ‫(درء التعارض) لأنها ليست مقومة للمضمون بل مصورة للعبارة عنه وأعيان المضمون فيها‬ ‫من جنس قيم المتغيرات في الرياضيات وفي المنطق‪ .‬وإذن فالمقدرات الذهنية النظرية‬ ‫والعملية تعد علامات شاهدة أو آيات من عالم غيب أو هي ما في قدرة الإنسان على ابداعها‬ ‫من انعكاس لعالم الغيب وهو معنى كونه خليفة‪ .‬فالإنسان خليفة بما فيه من قدرة على‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪119‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫التقدير الذهني النظري شرط المعرفة بما يدركه من قوانين الطبيعة والتقدير الذهني‬ ‫العملي شرط القيمة بما يريده من سنن التاريخ المصحوبين بالوعي الحاد بأن المعاني الكلية‬ ‫التي يقدرها الذهن معرفيا وقيميا ليس لا مثيل في عالم الشهادة بأصنافه الأربعة أي كيان‬ ‫الإنسان العضوي والنفسي وكيان العالم الطبيعي والتاريخي‪.‬‬ ‫فالمعاني الكلية المقدرة ذهنيا سواء كانت نظرية (الحقائق وراء الطبائع) أو عملية‬ ‫(القيم وراء الشرائع) ليست ظاهرات نفسية وليست ظاهرات عضوية وإن كانت هذه‬ ‫الظاهرات مصاحبة لها وهي حتما من شروط قدرة الإنسان على أبداعها وليست طبائع‬ ‫محسوسة وليست قيما محسوسة لكن مضمونها المعرفي والقيمي مستمد مما يجربها الإنسان‬ ‫منهما وتبقى دائما متعالية على مضامينها التجريبية المتعينة في كيان الإنسان ببعديه وكيان‬ ‫العالم ببعديه أي ما يرد إليه ما يدركه الإنسان من الموجود وما يريده من المنشود في عالم‬ ‫الشهادة فيه وفي ما حوله‪.‬‬ ‫والمقدرات الذهنية النظرية والعملية ليست دليلا قطعيا بخصوص وجود الغيب لأنها‬ ‫معلومة رغم كونها مجهولة الطبيعة لأننا بينا بالسبر والتقسيم لما نعلمنه من أنواع الموجودات‬ ‫التي يمكن أن ترد إليها أنها ليست منها فلا هي عضوية ولا هي نفسية وإن كان لا بد من‬ ‫العضوي والنفسي لأنها مشروطة بمبدعها الذي هو عضوي ونفسي‪ .‬ولا هي طبيعية ولا‬ ‫هي تاريخية وإن كان لا بد من الطبيعي والتاريخي لأن تعينها المحدد لقيم المقدرات من‬ ‫حيث هي متغيرات هما مصدراه‪ .‬ولذلك اعتبرناها علامة على إمكان عالم آخر لا ينتسب‬ ‫إلى عالم الشهادة لا دليلا قطعيا‪ .‬وهذا كاف لترجيح عدم الاقتناع بوحدة العالم‪ .‬فنحن‬ ‫لم ندع القدرة على إثبات وجود الغيب بل نعتبر التسليم به إيماني وما يكن اعتباره دليلا‬ ‫شبه حاسم هو امتناع المطابقتين‪.‬‬ ‫وكل إلحاد يرد إلى زعم وحدة العالم وتأسيسه على المطابقة في نظرية المعرفة وعلى‬ ‫المطابقة في نظرية القيمة‪ .‬وكون المقدرات الذهنية علامة لإمكان عالم غير عالم الشهادة‬ ‫وكون امتناع المطابقتين مرجح قوي للقول إنها ليست منه لأنها ليست مقومة للموجود ولا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪120‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫للمنشود بل هي فعل قول الموجود وفعل قول المنشود لغة عميقة قبل اللغة الطبيعية التي‬ ‫هي ترجمة لها وصلا بين المعرفة والقيمة وبين من يطلبهما بلغة وسيطة بين العالم والمتعلم‪.‬‬ ‫والمعاني الكلية ليست مقومة لكن لا شيء يمكن أن يعلم أو أن يقيم من دونهما ومن ثم فهي‬ ‫تحيل إلى ما يتعالى على عالم الشهادة بل هي شرط شهود ما فيه من آيات تحيل إلى الغيب‪.‬‬ ‫وما يتعالى على عالم الشهادة فلا يخلد إلى الأرض هو ما يعتبره القرآن علة أهلية‬ ‫الإنسان للاستخلاف‪ .‬فما به يجيب القرآن على تعجب الملائكة من استخلافه هو ما جهلوه من‬ ‫قدرته على التسمية عندما علمه الله الاسماء كلها‪ .‬كل الأسماء لا متناه ولا يمكن تعليم‬ ‫الإنسان اللامتناهي لكن تعليمه ما يجعله يدرك علاقته بالمتناهي هو الكلي وليس الكل‪.‬‬ ‫فالأسماء كلها يقصد بها الكلي وهي تتضمن حتما أسماء الأشياء وأسماء فعلي خلقها وأمرها‬ ‫بقدر وما يترتب على الخلق وعلى الامر في المخلوق وفي المأمور ترتبا يجعله شاهدا ومحتويا‬ ‫على ما يحيل إلى الغيب من علامات الموجود والمنشود الشاهدين‪.‬‬ ‫والآن يمكننا أن نتكلم على القصد من تعريفي الإسلام في محاولة قراءة القرآن الفلسفية‬ ‫بكونه \"استراتيجية التوحيد القرآنية (للإنسانية) ومنطق السياسة المحمدية (لتكوين‬ ‫العينة منها)\" والقصد توحيد الإنسانية بمنطق الأخوة (النساء ‪ )1‬وبمنطق المساواة‬ ‫(الحجرات ‪ )13‬وتكوين عينة من هذا التوحيد في النواة الأولى التي أسسها الرسول‪.‬‬ ‫والآية الأولى من النساء اعتبرت الإنسان ذا رحمين كوني (من نفس واحدة) وجزئي من‬ ‫جماعة من الجماعات المتعددة وفي علاقة بالربوبية في الحالة الأولى وبالألوهية في الحالة‬ ‫الثانية‪ .‬والأولى علاقة مضطرة عضويا وروحيا والثانية علاقة حرة عضويا وروحيا‪.‬‬ ‫فالإنسان ليس حرا في كونه إنسانا وليس حرا في كونه مربوبا‪ .‬لكنه حر في كونه من‬ ‫جماعة معينة وفي كونها آلها‪ .‬وعلاقة العالمين في الأولى مضطرة لكنها في الثانية حرة‪:‬‬ ‫لذلك يمكن للإنسان أن يسمو على الأرض بتذكر العلاقة أو أن يخلد إليها بنسيانها‪ :‬وتلك‬ ‫وظيفة التذكير‪ .‬ومن الطبيعي أن يكون حامل علامة العلاقة بين العالمين عالم الشهادة‬ ‫موضوع السياسة الإسلامية وعالم الغيب مصدر المثل العليا في المعرفة وفي القيمة مناط‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪121‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫التكليف‪ .‬ومن ثم فالفرد هو الذي يحمل المسؤولية المتعلقة بمنا يترتب على هذه العلاقة‪.‬‬ ‫ولا يمكن أن يكون المسؤول من دون شرطين هما‪ :‬حرية الفاعلية الإنسانية وكرامة المنزلة‬ ‫الإنسانية‪.‬‬ ‫لكن حرية الفاعلية وكرامة المنزلة وإن كانتا فرديتين من حيث المسؤولية فهما لا تتحقان‬ ‫فرديا إذا لم تكن في آن محيلة إلى العالمين أي إنها نسبة بين الفرد وشروط قيامه في عالم‬ ‫الشهادة أي الطبيعة والتاريخ وبينهما وبين ما وراء عالم الشهادة‪ .‬وهو في الحالتين فرد‬ ‫من جماعة فتكون مسؤوليته الفردية مصحوبة بمسؤولية مشاركتها فرض عين وفرض كفاية‬ ‫في تحقيق شروط البقاء العضوي والروحي وهو ما يعني أن مسؤوليته ليست على أفعاله‬ ‫الفردية وحدها بل على ما تتضمنه من سهم في أفعال الجماعة وليست مقصورة على مثل‬ ‫عالم الغيب فحسب بل تمتد إلى وقائع عالم الشهادة التي تجمع بين الفردي والجمعي‪.‬‬ ‫ولذلك فهي وقائع تؤدي إلى الخسر الذي تعالجه سورة العصر في وجهيه الفردي‬ ‫والجمعي‪ .‬والخسر هو \"الرد أسفل سافلين بعد أحسن التقويم\" والقصد بالخسر والرد أسفل‬ ‫سافلين هو الاخلاد إلى الارض بمعنى قطع العلاقة التي تصل مثل عالم الشهادة بوقائع‪.‬‬ ‫والعلاج الذي تقدمه سورة العصر للخروج من الخسر الذي يهدد الإنسان بسبب الحاجة‬ ‫المباشرة للطبيعة والتاريخ الحاجة المرسومة في كيانه العضوي والرحي مخمس الأبعاد أصل‬ ‫وأربعة فروع إثنان فرديان بالجوهر واثنان جماعيان بالجوهر ومشروطان بالفرديين‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالأصل هو الوعي بعلل الخسر يتبعه الفرعان الفرديان‬ ‫‪ .2‬الإيمان بعالم الغيب‬ ‫‪ .3‬العمل الصالح يتلوهما الفرعان الجمعيان بدلالة المشاركة‬ ‫‪ .4‬التواصي بالحق‬ ‫‪ .5‬التواصي بالصبر‪.‬‬ ‫وتلك هي صلة المستويين الفردي والجمعي في علاج الخسر مبدأ عام ثم سلوك الفرد‬ ‫وسلوك الجماعة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪122‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫وبهذا المعنى كان المذكر بشيرا بما يترتب على استعادة أحسن التقويم بعلاج الخسر‬ ‫ونذيرا بما يترتب على النسيان وعدم السعي لاستعادة الأول والتحرر من الثاني‪ .‬فهو‬ ‫بشير بما يترتب على الاستثناء من الخسر أي استرداد التقويم الأحسن بعد الرد أسفل‬ ‫سافلين أي التحرر من الاخلاد إلى الارض الذي هو قطع العلاقة بين العالمين وفروع‬ ‫الاستثناء من الخسر للخروج من الخسر اربعة اثنان منها للفرد كفرد هما الإيمان والعمل‬ ‫الصالح واثنان للجماعة كجماعة أي للأمة مؤلفة منهم ولا يمكن حصولهما من دون المطلوب‬ ‫من الفرد في آن‪.‬‬ ‫وتلك هي الرؤية السياسية التي تقود فلسفة الإسلام في سياسة عالم الشهادة بمقتضى‬ ‫قيم الاستخلاف التي يترتب عليها التعالي عليه تعاليا لا يتحقق من دون شرطين‪ :‬التحرر‬ ‫من سلطانه الطبيعي والتاريخي دون نفيهما بل بالتمكن منهما تمكنا يسد حاجات الإنسان‬ ‫ويحرره من طغيانهما عليه وذلك بفضل شده إلى مثل عالم الغيب الذي لنا منه علامة هي‬ ‫المقدرات الذهنية النظرية للتعامل مع الطبيعة والتحرر من سلطانها ووثنيتها والمقدرات‬ ‫الذهنية العملية للتعامل مع التاريخ والتحرر من سلطانه وثنيته وما بينهما كما حددته سورة‬ ‫هود‪ .‬وإذن فهما علامة العالي وأدوات التمكن عند تطبيقهما على التجربتين الطبيعية‬ ‫والتاريخية‪.‬‬ ‫وبداية تمكن الإنسان من السلطان على الطبيعة بالتحرر من طغيانها تلك هي قصة نوح‬ ‫مع قومه والعبودية الطبيعية‪ .‬فالقصة هي وصل بين العالمين هدفه التحرر من طغيان‬ ‫الطبيعة الخارجية وطبيعة كيان الإنسان من حيث هو عبد للاستبداد الطبيعي‪ .‬والغاية هي‬ ‫تمكن الإنسان من السلطان على التاريخ بالتحرر طغيان التاريخ الخارجي وتاريخ كيان‬ ‫الإنساني من حيث هو عبد الاستبداد السياسي من طغيانه وتلك هي قصة موسى مع قومه‬ ‫والعبودية السياسية‪ :‬والحل ابداع نوعي المقدرات النظرية والعقدية لعلاج العلاقة‬ ‫بالطبيعة والعملي والشرعي لعلاج العلاقة بالتاريخ‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪123‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫فنوح نجى الإنسانية من سلطان الطبيعة على رزقها بإبداع ما يمكن من الانتصار على‬ ‫هيمنة الطبيعة في الخارج بالسفينة والزراعة وفي الداخل بعدم ربط الإنسانية بعلاقة‬ ‫الرحم الجزئي بل بالرحم الكلي‪ .‬فابنه وزوجته لم يصحباه بل صحبه باقي البشر لأن الرمز‬ ‫هو انقاذ الإنسانية كلها بصرف النظر عن القرابة العضوية المباشرة لأن البشر كلهم أخوة‬ ‫ومتساوون‪ .‬وعندما أتكلم على ما يغفله المفسرون الذين لا يرون من القصة إلى الموعظة‬ ‫الدينية دون دلالتها العميقة التي هي هذا الوصل بين العالمين الذي يشير إلى الاستخلاف‬ ‫وعلاقة ذلك بالعلاج التقني والزراعي اللذين يشيران إلى التعمير‪.‬‬ ‫لكن موسى يبدو في الظاهر أن مهتم كانت مقصورة على انقاذ قبيلته من استبداد التاريخ‬ ‫بإبداع ما يمكن من الانتصار على هيمنة الدولة في الخارج (فرعون) وفي الداخل (تغيير‬ ‫معتقدات البشر)‪ .‬لكنه مثل نوح لم ينجح لعلة الاقتصار على الرحم الجزئي بحصر العملية‬ ‫في القوم‪ .‬وعدم النجاح هو مآل \"تحرير\" بين إسرائيل إلى الحل الشيطاني الذي عمم‬ ‫العبودية عن طريق دين العجل الذي يجعل البشرية كلها عبيد بعديه أي معدنه وخواره‪.‬‬ ‫فمعدنه أي العملة وربا الأموال صار أداة الاستعباد المادي والخوار وربا الاقوال صار أداة‬ ‫الاستعباد الروحي في العالم كله‪.‬‬ ‫والمغزى العميق الجمع بين التحريرين الذي يمثله نوح والذي يمثله موسى وهما بداية‬ ‫التحرر من طغيان الطبيعة وغاية التحرر من طغيان التاريخ مع ضرورة الكونية التي‬ ‫وجدت في محاولة نوح وغابت في محاولة موسى‪ .‬ولذلك تعليل مضاعف هو ما بين التحريرين‬ ‫من الطغيانين وما كان لا بد من حصوله لتتبين علة الطغيانين أعني البنية العميقة للسلطة‬ ‫التي تغيب فيها العلاقة بين عالما الشهادة وعالم الغيب عندما يصل الاخلاد إلى الأرض‬ ‫ذروته في دين العجل‪ .‬والمعوقات التي توجد مبين نوح وموسى هي وقائع التاريخ العلاقة‬ ‫بين العالمين والحل المستمد من هذه العلاقة‪ :‬والوقائع هي سلسلة القصص الواردة في سورة‬ ‫هود التي شيبت الرسول‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪124‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫فالمعوق الأول هو توزيع الثروة (هود) والمعوق الثاني هو توزيع الماء (صالح) والمعوق‬ ‫الثالث هو توزيع الجنس (لوط) والمعوق الأخير معوق التبادل العادل (شعيب)‪ .‬تلك هي‬ ‫المعوقات التي توجد بين الطغيانين الطبيعي والتاريخي‪ .‬وعندما ننظر إلى الموقع الذي‬ ‫يشغله إبراهيم نجده في النصف بين الثلاثة الأول والثلاثة الأواخر إليه جاءت الملائكة‬ ‫لتعلمه بأمرين هما مآل قوم لوط وبشرى بابن في سن يأس زوجته‪ .‬والحل هو وحدانية‬ ‫ابراهيم لمعضلة ا لعلاقة بين العالمين ومشكلة استئناف الابراهيمية لتحقيقها الفعلي في‬ ‫التاريخ‪ :‬الوحدانية والرسول الخاتم الذي هو الابن المبشر به والذي جاءت رسالته لما بلغت‬ ‫البشرية سن اليأس‪.‬‬ ‫فإذا وصلنا نوح بموسى وجدنا شروط تعالي الإنسان بتحريره من طغيان الطبيعة ومن‬ ‫طغيان التاريخ عليه وذلك هو معنى التحرر من الوثنية الطبيعية ومن الوثنية السياسية‬ ‫بحيث يكون الإنسان كما يعرفه ابن خلدون \"رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق‬ ‫له\" ليس له من معبود غير الله‪ :‬الوحدانية الابراهيمية‪ .‬لكنها وحدانية تحرر الإنسان‬ ‫صراحة من عبادة أسمى ما في الطبيعة أي من الفلك وأسمى ما في التاريخ أي من دين قومه‬ ‫الطبيعي‪ .‬والدين الطبيعي بهذا المعنى هو تحريف الدين بمعناه الفلسفي كما هو بين من‬ ‫نظريته الأرسطية‪ .‬وذلك ما يعني أن الوحدانية الأسمى هي الاستئناف المحمدي الذي‬ ‫كانت رسالته الخاتمة جامعة بين الواحد الفلسفي والواحد الديني المحرر من تحريفيهما‪.‬‬ ‫وإذن فمحمد لم يعد لوحدانية إبراهيم مباشرة بل عاد إليها بما يفيد أنه لم يكتف‬ ‫بمقاومة تحريف الدين كما فعل إبراهيم بل هو عاد إليه بإضافة مقاومة تحريف الفلسفة‬ ‫التي هي قائلة بالدين الطبيعي العائد إلى نوع من الصابئية‪ .‬ذلك أن الوحدانية‬ ‫الابراهيمية وإن تعلقت بهما معا فهي لم تصل إلى فهم علة الفصل بينهما الناتجة عن‬ ‫تحريفهما والراجعة إلى عدم إدراك العلاقة بين العالمين من حيث هي معيار سياسة مهمتي‬ ‫الإنسان ‪-‬الاستعمار في الأرض والاستخلاف‪-‬في عالم الشهادة بقيم عالم الغيب أي بقيم‬ ‫الاستخلاف أي النظر والعقد والعمل والشرع‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪125‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫وهذه العلاقة هي منزلة الإنسان الوجودية بل هي عين كيانه لأن العلاقة بين بدنه‬ ‫ووعيه أو ورحه هي عين العلاقة بين العالمين عالم الشهادة (بدنه) وعالم الغيب (روحه‬ ‫أو وعيه ببدنه بوما حوله وبوعيه)‪ .‬وتلك هي ما فيه من علامات التعالي التي يمكن‬ ‫بتذكرها الخروج من الخسر أو من الرد أسفل سافلين بعد التقويم الأحسن‪ .‬فالوعي‬ ‫المحمدي في الرسالة الخاتمة هو أصل كل شروط الاستثناء من الخسر شروطه المترتبة على‬ ‫أصلها وهو شرط الشروط‪ .‬فالوعي بالخسر هو الوعي بما قد يحول دون هذه العلاقة بين‬ ‫العالمين وهي في آن دينية وفلسفية‪.‬‬ ‫ولها مستويان فردي مؤلف من الإيمان والعمل الصالح وجمعي مؤلف من التواصي بالحق‬ ‫استهدافا لطلبه والتواصي بالصبر جهادا لتحقيقه وكلاهما يشترط المستوى الفردي‬ ‫والأصل‪ .‬والوعي بالخسر كوني وكلي بمعنى أنه لا يوجد إنسان خال منه حتى لما يبلغ غاية‬ ‫الخسر وقاعه فيخلد إلى الأرض نهائيا بمعنى أنه لا بد أن يشعر ولو في لحظات خاطفة من‬ ‫الصحو أنه قد تخل عن حريته ومنزلته الإنسانية ففقد قرامته لما يتخلى عن حرية إرادته‬ ‫وصدق علمه وخير قدرته وجمال حياته وجلال وجوده ففقد إنسانيته‪ .‬ولا يوجد إنسان‬ ‫مهما انحط لا يستيقظ بعد غفواته ليشعر أنه لا يستطيع أن ينظر إلى نفسه في المرآة لفرط‬ ‫ما انحط‪.‬‬ ‫ويتفرع عن الاخلاد إلى الارص وفقدان العلاقة بين العالمين ظاهرة سماها ابن خلدون‬ ‫فساد معاني الإنسانية (المقدمة الباب الاخير الفصل ‪ )40‬بل واعتبر أن هذا الفساد يصل‬ ‫إلى حد الانتحار التدريجي بمجرد الوعي بفقدان الإنسان لرئاسته التي له بطبعه‬ ‫وبمقتضى الاستخلاف الذي خلق له‪ .‬وكل ذلك لأنه فقد العلاقة بين العالمين والغرق في‬ ‫الفاني فلا تبقى له صلة بفرعي المعاني الكلية النظرة المقدرة ذهنيا أي المركوزين في فرعي‬ ‫كثافة الوجود الفردي أي الإيمان والعمل الصالح وفي كثافة الوجود الجمعي أي التواصي‬ ‫بالحق طلبا للحقيقة والتواصي بالصبر سعيا لتحقيقها وصلا بعلامات الغيب في الآيات التي‬ ‫يرينا الله إياها في أعيان الآفاق والأنفس‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪126‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫كل ما أقدمه هنا يمكن اعتباره من نتائج الأكسمة التي حاولت بناءها لتكون عمارة‬ ‫القرآن قابلة للاستنتاج من مجموعة قليلة من الحدود العنصرية ‪-‬وقد سميتها المعادلة‬ ‫الوجودية‪-‬وقواعد التوليف بينها وهي المنطق ذو القيم الخمس‪-‬مع استعمال المنطقين‬ ‫اللذين يعترض علي بهما أي ثنائي القيمة (أرسطو) وثلاثيها (هيجل)‪ -‬لأني أعامل‬ ‫القرآن وكأنه النسق الذي يمكن من فهم عناصر الرسالة الخمسة ‪-‬المرسل والمرسل إليها‬ ‫والرسول وطريقة التبليغ ومضمون الرسالة‪ -‬وكلها ضابطة للعلاقة بين العالمين عالم‬ ‫الشهادة ممثلا لجوهر فلسفة التاريخ وعالم الغيب ممثلا لجوهر فلسفة الدين وما بينهما هو‬ ‫المشتر بين الفلسفي والديين أي استراتيجية سياسية تحقيق فاعلية الإنسان ومنزلته في‬ ‫الموجود والمنشود‪.‬‬ ‫وشرط شروط الفاعلية هو الحرية ويترتب عليها المسؤولية الفردية ‪-‬كل يأتي ربه فردا‪-‬‬ ‫وشرط شروط المنزلة هو الكرامة ‪-‬كرمنا بني آدم‪ .‬والتكريم ليس مقصورا على المؤمنين‬ ‫لأنه أولا من علامات الحرية وثانيا لأنه غاية حاصلة بالقوة لكل البشر وهم بأفعالهم‬ ‫يجعلونها متحققة بالفعل يعني أن تمامها هو المرتهن بالإيمان‪ .‬فالإنسان حتى وهو غير مؤمن‬ ‫يبقى مكرما لأن منزلته هي حرية وصل العالمين أو فصلهما‪ .‬وهو بوصلهما يتعالى على‬ ‫الاخلاد إلى الأرض أو الخسر وبفضلهما ينحط إليها فيقع في الخسر‪ .‬وقد رأينا أن‬ ‫الاستثناء منه مشروط بالوعي به الذي يدفع إلى فروع الفاعلية الأربعة الفردية‬ ‫والجماعية التي حددتها سورة العصر‪.‬‬ ‫ولولا ذلك لما حصر دور الرسول في التذكير بوصفه بشيرا ونذيرا دون أي سلطان على‬ ‫الإنسان‪ .‬فلا هو وسيط بين المرسل إليه والمرسل أي بين الإنسان وربه في التربية ولا هو‬ ‫وصي بينه وبين ربه في الحكم أي في بعدي سياسة دنياه وعلاقتها باخراه‪ .‬وهو ما يعني في‬ ‫الإسلام تحريم الكنسية وتحريم الحكم بالحق الإلهي هما جوهر سياسته التي تترتب على‬ ‫حرية الإنسان ومسؤوليته وهو أمر ينطبق على جميع البشر مؤمنهم وملحدهم لأنهم بالطبع‬ ‫في علاقة مباشرة بربهم وفي علاقة مباشرة بشأنهم‪ .‬وتلك هي القضية التي سأخصص لها‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪127‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫فصل الختام حول مفهوم القضاء والقدر والخطأ الجسيم الذي وقع فيه لايبنتس عندما‬ ‫اعتبر المسلمين \"فاتاليست\" وللأمر علاقة مباشرة بأهم شعارات الثورة أعني بيتي الشابي‬ ‫التي استعادت المعنى القرآني الأصلي للقضاء والقدر‪.‬‬ ‫والوصل بأحداث التاريخ الحي جزء لا يتجزأ من كل محاولاتي لأني عرفت القرآن بكونه‬ ‫جامعا بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ جمعا يترتب على الواحد في الديني والفلسفي‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فحرية الإنسان ومنزلته تقتضي التحرر من الوساطة والوصاية‪ .‬فليس للمعلم‬ ‫سلطة روحية على المتعلم وليس للحاكم سلطة زمانية على المحكوم‪ .‬لأن المتعلم والمعلم كلاهما‬ ‫مسؤول عن التعلم والثاني مستشار عند الأول وهو في خدمته ولا سلطان له عليه والحاكم‬ ‫والمحكوم كلاهما راع ورعية والحاكم نائب المحكوم يعينه بحرية ويعزله بحرية إذا لم يحترم‬ ‫شروط النيابة‪.‬‬ ‫والبشر كلهم أخوة‪ .‬فهم من نفس واحدة (النساء ‪ )1‬وهم متساوون مهما اختلفت‬ ‫أعراقهم وطبقاتهم وأجناسهم‪ .‬وهم لا يتفاضلون عند الله إلا بالتقوى أي باحترام ما‬ ‫حددته سورة العصر من شروط الاستثناء من الخسر وهي تعود كلها إلى الوصل بين العالمين‬ ‫في عالم الشهاد بما يقربهم من هذين الامرين أي من الاخوة والمساواة‪ .‬وما يقربهم منهما‬ ‫هي الموضوعات السبعة في سورة هود وتتعلق بمعوقات هذا الوصل بين العالمين وشروط‬ ‫الاستثناء من الخسر في سورة العصر التي لا تتحقق من دون الوصل بين عالم الشهادة مصدر‬ ‫المعوقات معالم الغيب مصدر التعالي عنها ليس بعدم الإيفاء بها بل إن الإيفاء بها هو‬ ‫الأساس الأول للتحرر منها‪.‬‬ ‫فنفهم حينئذ لماذا كانت نظرية الدولة في سورة الإسراء (والمعراج) التي تشير إلى هذه‬ ‫العلاقة بين عالم الشهادة وعالم الغيب لأن معراج الرسول هو رمز هذه العلاقة الواصلة‬ ‫بين العالمين‪ .‬فخلاله غادر الرسول رمزيا عالم الشهادة وصعد إلى عالم الغيب ولا يعني‬ ‫ذلك أن اطلاعه على الغيب كان مما ينقال وإلا لكان معناه أن الرسول اطلع على ما يستطيع‬ ‫تبليغه ولم يبلغه‪ .‬وما ينسب إليها في تخريف المتصوفة هو من شطحهم ولا علاقة له بما‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪128‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫اطلع عليه الرسول مما يستطيع قوله وإلا لقاله بوحي قرآني ككل ما هو مطالب بقراءته‬ ‫على الناس على مكث مبشرا ونذيرا (الاسراء‪.)206-205‬‬ ‫وقد حددت ا الآية ‪ 38‬من الشورى طبيعة نظام الحكم واسلوب الحكم ووصلته برمزين‬ ‫أولهما ذو علاقة بعالم الغيب (الاستجابة للرب) والثاني ذو علاقة بعالم الشهادة (الإنفاق‬ ‫من الرزق)‪ .‬فالآية تبدأ بالاستجابة للرب التي هي عين العلاقة بالغيب وتنتهي بالأنفاق‬ ‫من الرزق الذي هو عين العلاقة بعالم الشهادة وبينهما طبيعة الحكم وأسلوبه‪ .‬والبداية‬ ‫بالعلاقة بعالم الغيب هو الوجه الأسمى من الدين والنهاية بالعلاقة بعالم الشهادة هو‬ ‫الوجه الأسمى من الفلسفة‪ .‬والجمع بين الوجهين هو جوهر الاستخلاف والتعمير وهما‬ ‫وظيفتا الإنسان وجوهر العبادة في الإسلام‪ .‬ومن يتصور الإسلام من دون سياسة ودولة‬ ‫يخلط بينه وبين الأديان والفلسفات المحرفة‪.‬‬ ‫فالواحد بين الديني من حيث هو ديني والفلسفي من حيث هو فلسفي هو سياسة عالم‬ ‫الشهادة بمثل عالم الغيب أي الواحد في فلسفة الدين وفلسفة التاريخ‪ .‬فأما طبيعة نظام‬ ‫الحكم فهي \"أمرهم\" أي أمر الجماعة التي استجابت لربها‪ .‬وهذا المعنى هو بالاصطلاح‬ ‫الفلسفي في ذلك العصر هو \"أمر=راس‪+‬الجماعة= بوبليكا=راسبوبليكا\"‪ .‬وتلك هي طبيعة‬ ‫نظام الحكم الذي هو \" جمهورية بالعربية=راسبلوليكا باللاتينية\"‪ .‬فأمر تعني الشأن‬ ‫السياسي و\"هم\" تعني الجماعة‪ .‬والآية تضيف الاستجابة‪ .‬وبهذا فالجمهورية بمعناها‬ ‫القرآني ذات مرجعية هي معنى الصلة بالمتعالي على التاريخ‪.‬‬ ‫وهذه الإضافة مهمة جدا لأنها هي التي تجعل سياسة عالم الشهادة متصلة بعالم الغيب‪.‬‬ ‫وإذن فهي جمهورية ذات مرجعية متحررة من الإخلاد إلى الأرض أي إنها ليست جمهورية‬ ‫علمانية بلغتنا الحديثة أو وثنية بلغة عصر نزول القرآن‪ :‬والعلمانية وثنية بمعنى أنها‬ ‫تتصور العالم واحدا وتعتبر ما يتعالى عليه من صنع الإنسان وليس ذي قيام ذاتي بحيث‬ ‫إن الأصل فيها هو ما توثنه من الطبيعة ومن التاريخ‪ .‬الجمهورية التي تحددها الشورى ‪38‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪129‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫جمهورية ذات مرجعية متعالية على عالم الشهادة بمثل قيمية ومعرفية ترمز إليها المقدرات‬ ‫الذهنية النظرية والمقدرات الذهنية العملية‪.‬‬ ‫ووهي ما يعيد الإنسان إلى أحسن التقويم فيحرره من الخسر أي التواصي الإيمان‬ ‫والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر‪ .‬وتلك هي علة أسلوب الحكم الذي‬ ‫يقتضي أن يكون كل فرد من الجماعة مسهما في إدارة عالم الشهادة بمثل عالم ا لغيب‪ .‬فهو‬ ‫\"شورى بينهم\" أي \"تشاور الجماعة\" ومعناه بالمصطلح الفلسفي في ذلك العصر ولكن هذه‬ ‫المرة باليونانية هو ديمقراطيا أي حكم الشعب بالتشاور الجماعي لأن الأمر فرض علين وهو‬ ‫من ثم أمر الجماعة المستجيبة لربها بالإيمان والعمل الصالح وبالتواصي بالحق اجتهادا‬ ‫لمعرفة الحقيقة والتواصي بالصبر جهادا لتحقيقها‪ .‬وأهم موضوعات التشاور تتعلق‬ ‫بالاستجابة للرب بداية (علاقة بعالم الغيب) وبالإنفاق غاية (علاقة بعالم الشهادة)‬ ‫ووصلا بينهما‪.‬‬ ‫وبذلك نثبت أننا نستنتج نظام القرآن من حيث هو استراتيجية سياسية يكون الإنسان‬ ‫بفضلها معمرا للأرض ومستخلفا فيها فدريا وجماعيا بالمعنيين أي الخاص بكل جماعة ثم بكل‬ ‫الجماعات معا أي الإنسانية بوصفهم اخوة ومتساوين‪ .‬ولم يكن يسيرا تطبيق هذه الرؤية‬ ‫السياسية في عصر نزول القرآن لأن تأسيس الدولة يعسر أن يحصل في مجتمع لم يعرف‬ ‫مفهوم الدولة بأي معنى سابق لا عند العرب ولا في الامبراطوريتين اللتين كانتا مسيطرتين‬ ‫على الاقليم ‪-‬فارس وبيزنطة‪-‬قبل أن تهزمهما دولة الإسلام الناشئة خلال بنائها في مرحلتي‬ ‫تطبيقها المتدرج دون أن تسلم من عدوى نظامهما والنظام الجاهلي‪.‬‬ ‫وأختم بإزالة أهم عائق أمام الاستئناف وعلة إساءة فهم ما تلا مرحلة الراشدين لأن‬ ‫الوصل انتهى وأصبح الفصل بين العالمين فصاما في شخصية الفرد المسلم وفي نظام الجماعة‬ ‫السياسي‪ .‬فقد حاولوا تطبيق هذه الرؤية بتدرج إلى أن حدثت الفتنة الكبرى فقلبت الأمر‬ ‫راسا على عقب قلبا لم يفهم المسلمون أنه كان مؤسسا على مبدأ قرآن أصيل أسيء تطبيقه‬ ‫لأن لم يستعمل بمعناه الأصيل أي بوصفه مؤسسا على الضرورة التي تبيح المحظور في حدود‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪130‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫حصولها‪ .‬لذلك فقد صار الحل دائما وأدام معه الحرب الأهلية بأن جعل الضرورة دائمة‬ ‫واباحة المحظور دائما مثلها‪ .‬والعلة هي عدوى نظام الامبراطورتين والتشنيع الشيعي‬ ‫اليهودي للحل القرآن إذ سعت الباطنية أصل التشيع وجنيستها أصل التهود إلى فرض ما‬ ‫حرمه الإسلام لتخريبه من الداخل‪.‬‬ ‫فتبنى المسلمون الوساطة في التربية (وقد صارت مضاعفة فقهية وصوفية معللة كلاميا‬ ‫وفلسفيا) والوصاية في الحكم بالحق الإلهي وبالعنف الطبيعي مثل امبراطوريتي فارس‬ ‫وبيزنطة‪ .‬وعبقرية معاوية ومن تلاه من خلفاء بني أمية وخاصة عبد ا لملك بن مروان‬ ‫الذي انهى الحرب الأهلية في العراق وفي مكة‪-‬بوعي أو بغير وعي لا أدري‪-‬طبقوا مبدأ‬ ‫قرآنيا شهيرا الذي حاول عمر بن عبد العزيز ختمه لفهمه طبيعته وهو مبدأ \"الضرورات‬ ‫تبيح المحظورات\" أو حالة الطوارئ في الحكم‪ .‬فالسياسة في الحرب الاهلية كانت تقتضيه‬ ‫لتخلص من ها ومواصلة بناء الدولة الإسلامية مع المحافظة على الدستور القرآني‪ :‬لم يلغ‬ ‫حكام بني أمية البيعة ولا سلطة الشريعة حتى وإن صارت كلتاهما شكلية‪.‬‬ ‫ووقع أهم تحريف في طبيعة الحكم وفي أسلوبه لأن مفهوم الشورى العام بوصفه فرض‬ ‫عين ألغي وتحول إلى فرض كفاية إذ أصبحت الشورى خاصة بمن يختاره الحاكم من‬ ‫\"العلماء\" وهي شورى نصح سري وليست شورى ملزمة وعلنية‪ .‬وإذن فالمشكل ليس في هذه‬ ‫السياسة التي كانت تكون مفهومة لو اعتبرت مؤقتة للتغلب على الحرب الاهلية‪ .‬لكن‬ ‫ديمومتها وخاصة شيطنتها والحرب على دولة الإسلام من كل حدب وصوب والتخريب‬ ‫الباطني والقرمطي وخاصة فساد الدولة العباسية التي هي من جنس الدولة العربية‬ ‫الحالية التابعة للصفوية والصهيونية ولم تكن دولة في خدمة الإسلام‪ :‬فقد أسسها ثأر‬ ‫الفرس من الإسلام ولم يكن فيها العباسيون إلا مثل حكام ا لعرب الحاليين مجرد صورة‪.‬‬ ‫ولو لم ييسر الله غيرهم من المسلمين لضاع الإسلام ولعادت دولة الأكاسرة والحاخامات منذ‬ ‫ذلك الحين‪ .‬يسر الله جندا لم يتوقعهم أحد وهم الأتراك والاكراد والأمازيغ وغيرهم‬ ‫من شعوب الأمة فحموا البيضة والإسلام‪ :‬من التشيع والتهود والصليبيين والمغول‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪131‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫والاسترداد وسيحمونهما مع بعض العرب المخلصين من الصفوية والصهيونية في العصر‬ ‫الحديث‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪132‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫قبل أن أتكلم في المسألة العاشرة التي كنت أنوي بها ختم البحث في دلالة العلاقة بين آل عمران ‪7‬‬ ‫وفصلت ‪ 53‬سأقدم عليها مسالة أخرى تكون هي العاشرة لتبقى الخاتمة كما هي بعد أن تصبح‬ ‫الحادية عشرة‪ .‬والمسألة التي أضيفها في هذا الفصل العاشر هي نظرية الرموز الخمسة التي تمكن‬ ‫من فهم البنية العميقة للعلاقة بين الآيتين آل عمران ‪ 7‬وفصلت ‪ 53‬وقلب الأولى إلى نقيضها هو‬ ‫علة تحريف علوم الملة كلها وقلب الثانية إلى نقيضها هو علة فشل المسلمين في تعمير الأرض في‬ ‫الاستخلاف عليها‪..‬‬ ‫سبق أن درست رمزين من الخمسة هما‪ :‬رمز التبادل أو العملة ورمز التواصل أو الكلمة‪ .‬درستهما‬ ‫بوصفهما أداتين ودرست سر تحولهما إلى سلطانين فيصبحان حينها أصلا لدين العجل الذي يعتمد‬ ‫ربا الأموال (سلطان العلمة) وربا الأقوال (سلطان الكلمة) لأن دين العجل هو سلطان معدنه أو‬ ‫الذهب وسلطان لسانه أو الخوار وهما علة التحريف الديني وخاصة في الدولة الثيوقراطية‬ ‫(الحكم باسما الرب) والفلسفي وخاصة في الدولة الانثروبوقراطية (الحكم باسم الإنسان)‬ ‫ولما كان التحريف هو قطع الصلة بين سياسة عالم الشاهدة وسياسة عالم الغيب فإن فلسفة التاريخ‬ ‫تصبح عديمة الصلة بفلسفة الدين‪ .‬فعالم الشهادة يصبح مثال ذاته الاعلى ولا يعلو عليه مثال‪.‬‬ ‫فيكون ما يسمونه واقعا واجبا‪ .‬وهو ما تفيده عبارة هيجل القائلة إن التاريخ هو الحكم النهائي‪.‬‬ ‫والقصد نفي الغيب أو اثبات العلم المطلق (موضوع فينومينولوجيا الروح) والاستغناء عن فرضيات‬ ‫كنط لتأسيس الأخلاق على رؤية دينية فيها الإيمان بما يتجاوز قدرات العقل الإنساني‪ .‬وإذن فكل‬ ‫المعاني الدينية المترتبة على مسلمات كنط الثلاث الصريحة والاثنتين الضمنية أي البعث والحساب‬ ‫تصبح مجرد أوهام إنسانية لتعويض ما يشعر بنقائصه إذا لم يقل بنظرية المصالحة الهيجلية أي‬ ‫بالدين المطلق (موضوع دروس فلسفة الدين)‪ .‬فيكون الله من خلق الإنسان (فيورباخ)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪133‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫لكن رمز ا لتبادل ورمز التواصل يترتب عليهما حتى لو نفينا الأديان رمزين آخرين وهما رمز‬ ‫استعمار الإنسان في الدنيا ورمز سلطانه عليها فلا يبقى الاستعمار بمعنى التعمير بل يتحول إلى‬ ‫معنى التدمير إذا كان هذا السلطان ليس بمعنى الاستخلاف الذي يضفي عليه قيم التعمير الموجبة‬ ‫ويحرره من قيم التدمير السالبة وهي طغيان العلم المطلق والدين المطلق وهما مدلول الاستبداد‬ ‫الطبيعي والاستبداد السياسي وهو ما يعنيه رمزيا وصف الملائكة الإنسان بكونه ليس أهلا‬ ‫للاستخلاف لأنه مفسد في الارض وسافك للدماء‪.‬‬ ‫وهو معنى رؤية التاريخ الهيجلية بوصفه صراع أرواح الشعوب والماركسية بوصفه صراع الطبقات‪.‬‬ ‫وذلك هو جوهر العولمة التي تعتمد على الرمزين الأولين بجعلهما أداتي سلطان بعد تجاوز دورهما‬ ‫أداتي تبادل وتواصل وذلك هو ربا الأموال وربا الاقوال والتي تسمي تعميرا ما هو تدمير‬ ‫واستخلافا ما هو استعباد‪ .‬ولذلك فهما النقيض التام لرؤية القرآن الذي ينفي صراع أرواح‬ ‫الشعوب معنى الأخوة البشرية (النساء ‪ )1‬وصراع الطبقات وهو معنى المساواة بين البشر‬ ‫(الحجرات ‪ )13‬فيحرر الإنسانية من العولمة المادية الخالية من العولمة الخلقية التي تكون تعميرا‬ ‫واستخلافا فتحقيق هذين القيميتين‪ :‬وذلك هو معنى استراتيجية القرآن التوحيدية للإنسانية‪.‬‬ ‫والرمزان الثانيان المتعلقان بالتعمير والاستخلاف هما ما سميته تجهيزي الإنسان وهما‪:‬‬ ‫‪ .1‬جهاز المعرفة شرط التعمير أي النظر والعقد الاجتهاديين‬ ‫‪ .2‬وجهاز القيمة شرط الاستخلاف أي العمل والشرع الجهاديين‪ .‬وهذان الرمزان يفيدان إن‬ ‫صغناهما سلبا التحرر من وهمي المطابقة في نظرية المعرفة والمطابقة في نظرية القيمة‪.‬‬ ‫والتحرر من وهمي المطابقة في المعرفة وفي القيمة اعتراف بما يتجاوز معرفة الإنسان وقيمته‬ ‫وذلك هو الرمز الخامس أي الاعتراف بأن العالم الطبيعي والعالم التاريخي وعلاقة كيان‬ ‫الإنسان العضوي وكيانه الروحي بهما تحيل إلى أنظمة فيها أربعتها وفي علاقتهما إلى‬ ‫ماوراء يتعالى عليهما بمعاييره يتحدد الصلاح والطلاح في تاريخ الإنسانية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪134‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫والرمز الثالثان أولهما هو المقدرات الذهنية النظرية التي تؤسس للنظر والعقد عندما تطبق على‬ ‫التجربة الطبيعية وثانيهما هو المقدرات الذهنية العملية التي تؤسس للعمل والشرع عندما تطبق‬ ‫على التجربة التاريخية‪ .‬وهما بطبيعتهما المجهولة وبعدم وجود اعيان مطابقة لها تحيلان إلى‬ ‫الرمز الخامس كذلك أي إلى نفس التعالي وعالم الغيب‪ .‬فتكون الإحالة الأولى في الأربعة رموز‬ ‫السابقة متعلقة بالقدرة المعرفية والقدرة القيمية وتكون الإحالة الثانية متعلقة بالقدرة على‬ ‫إبداع الأدوات الرمزية أي المقدرات الذهنية النظرية التي تحقق القدرة المعرفية وإبداع‬ ‫الأدوات الرمزية أي المقدرات الذهنية العملية التي تحقق القدرة القيمية‪.‬‬ ‫وبذلك تكون الرموز الخمسة هي‪:‬‬ ‫‪ .1‬الكلمة‬ ‫‪ .2‬العملة‬ ‫‪ .3‬المقدرات الذهنية النظرية‬ ‫‪ .4‬المقدرات الذهنية العملية‬ ‫‪ .5‬عالم الغيب الذي ليس كمثله شيء وهو الله وفعله الخالق وفعله الآمر اللذان منهما يأتي‬ ‫مفهوم القضاء (فعل الخلق) والقدر (فعل الامر) وهما موضوع النظر والعقد للحقيقة‬ ‫والعمل والشرع للقيم‪.‬‬ ‫وهذه الرموز الخمسة لا يمكن فهم القرآن من دون وجهيها السوي والمحرف‪ .‬فكل مضمون الرسالة‬ ‫القرآنية يرد إلى مجالين بعد تعريف المقومات الخمسة للرسالة أي المرسل والمرسل إليه والرسول‬ ‫وطريقة التبليغ ومضمون الرسالة‪:‬‬ ‫‪ .1‬العرض النقدي لتحريف الرموز الخمسة‪.‬‬ ‫‪ .2‬تقديم البديل السوي الذي هو الديني عند الله وهو واحد وهو الفلسفي عنده كذلك وهما‬ ‫العلاقة الواحدة بين عالم الشهادة وعالم الغيب المتعالي عليه والمحيط به‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪135‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫ويمكن للإنسان أن يصل اليه بذاته أو بتذكير غيره ممن وصل قبله سواء كان رسولا أو فيلسوفا‪.‬‬ ‫وما أسميه فيلسوفا هو من يصل بتدبره الشخصي من خلال الغوص في هذه الرموز‪ .‬وبهذا المعنى‬ ‫فالرسل فلاسفة أولا ثم مكلفين بإيقاظ غيرهم ثانيا ويصح في الحالتين اعتبار النوعين ممن يوحى‬ ‫إليهم بالمعنى العام للوحي الذي هو تلقي دلالة ال رموز وهو المعنى القرآني الذي لا يقتصر حتى‬ ‫على البشر‪ .‬والعجيب أن علماء الملة يتجاهلون ظاهرة ملازمة لكل الرسل في القرآن الكريم وهي‬ ‫أنه ما من رسول جاء في أمة إلا وكان فيها من قبلوا رسالته مباشرة وأعانوه لأنهم وصلوا بذواتهم‬ ‫إلى ما يذكر به الرسول وهم قد أمنوا به لأنهم لم ينسوه‪ .‬فالرجل الذي جاء من أقصى المدينة في‬ ‫يس أو الشاهد من اهلها في يوسف أو خديجة في المدثر أو الصديق إلخ‪...‬‬ ‫وقصة حي بن يقظان عيبها أنها تخيلت المحال عندما تصورت من يصل باجتهاده متوحد وخارج عن‬ ‫الحياة الجماعية‪ .‬وهو محض خيال لا حاجة إليه لأن الإنسان لا يمكن أن يتوحد لا عضويا ولا‬ ‫روحيا‪ .‬ولنلخص الآن الرموز الخمسة‪:‬‬ ‫‪ .1‬الله وتجليه في فعليه خلقا وأمرا‬ ‫‪ .2‬والإنسان وتجليه في فعليه للتعامل مع الله إيمانا أو كفرانا‬ ‫‪ .3‬والإنسان وتجليه في فعليه للتعامل مع مفعولي فعلي الله في الطبيعة والتاريخ أي النظر‬ ‫والعقد والعمل والشرع‬ ‫‪ .4‬ثم تجليه في كيانه من حيث هو كائن عضوي وروحي تعميرا واستخلافا أو العكس‬ ‫‪ .5‬وأخيرا تعامل البشر في ما بينهم طلبا للعدل في التبادل والصدق في التواصل أو العكس‬ ‫برمزي التبادل أو العملة والتواصل أو الكلمة‪.‬‬ ‫والتجهيزان هما جهازا تلق قبل أن يصبحا جاهزي بث يحتاج إلى القدرة على التعبير اللساني‪.‬‬ ‫وهذا يحسم قضية جوهرية في فلسفة اللغة بت الآن متأكدا من أن حلولها السابقة تخلط بين هذين‬ ‫الوظيفتين‪ .‬فالتلقي سابق على البث والإدراك الحسي للذات وللأشياء سابق على العبارة اللسانية‬ ‫ومن ثم فهو غني عنها وهي تأتي متأخرة في التواصل تماما كالعملة في التبادل‪ .‬فالتواصل مع الذات‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪136‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫وبينها وبين غيرها يجري بالإشارة قبل أن يصبح جاريا بالعبارة‪ .‬والإشارة من جنس المقايضة وهي‬ ‫مثلها لا تصبح لفظية وغير مباشرة بتوسط الكلمة إلا كما يصبح التبادل نقديا وغير مباشر بتوسط‬ ‫العملة‪.‬‬ ‫لذلك فاللغتان المتقدمتان على اللسان هما لغة الرسم في المكان ولغة الموسيقى في الزمان‪ .‬وهذه‬ ‫أمور تأكدت منها من خلال ملاحظتي حفيدي في مرحلة الانتقال من التواصل بالإشارة قبل النطق‬ ‫وتعلم أسماء الأشياء إلى التواصل بالعبارة بعد النطق وتعلم الأسماء‪ .‬وإذن فالنطق واللغة‬ ‫اللسانية ترجمة للغتين المتقدمتين اللتين هما أصل المقدرات الذهنية النظرية التي من دونها لا‬ ‫يمكن تصور القدرة على تلقي نظام المكان أو الرسم والمقدرات الذهنية العملية التي من دونها لا‬ ‫يمكن تصور القدرة على تلقي نظام الزمان أو الموسيقى‪.‬‬ ‫وفي خلال تلقي نظام المكان بالإدراك البصري وتلقي نظام الزمان بالإدراك السمعي وكلاهما‬ ‫يشبها التبادل بالمقايضة العينية بالإشارة إلى الأشياء ذاتها أي مع العالم في محاولة التواصل مع‬ ‫الذات ومع الآخرين دون التسمية التي تمكن من التبادل بالعملة والتواصل بالكلمة‪ .‬وهذا التلقي‬ ‫الثاني يلي الأول وهو ترجمة لسانية للمعاني المعرفية في التواصل مثل العملة التي هي ترجمة‬ ‫\"لسانية\" للقيم المادية في التبادل‪ .‬وكلتا الترجمتين لا تتضممان معرفة ولا قيمة بل تحيلان إلى‬ ‫المعرفة القيمة التي هي من جنس التلقي الأول‪ .‬ومن التلقي الأول والتلقي الثاني يأتي فعل‬ ‫الفكر وفعل الكلام المعبر عنه‪ .‬والأول هو أصل ابداع لغة المعاني الكلية النظرية المستقلة تماما‬ ‫عن الأشياء لأنها تتعلق بنظام الأشياء عامة دون تعيين والثاني هو أصل ابداع لغة المعاني الكلية‬ ‫العملية المستقلة تماما عن القيم لأنها تتعلق بنظام القيم عامة دون تعيين‪.‬‬ ‫وهذا المعنى هو التحقيق الفعلي لمضمون فصلت ‪ :53‬فالإنسان يرى في ما يرينه الله من آيات الآفاق‬ ‫(الطبيعة والتاريخ) ومن آيات الأنفس (كيان الإنسان العضوي وكيانه الروحي) ما يجعله يتبين‬ ‫أن القرآن حق لأنه يصف ما يحصل فعلا في فعل الجهازين جهاز النظر والعقد الذي يرى تلقيا في‬ ‫نظام العالم وفي العضوي من الإنسان وجهاز العمل والشرع الذي يرى تلقيا نظام تاريخ العالم‬ ‫والروحي من الإنسان يراهما احداثا جارية ويراهما حديثا حولهما جاريا في جماعته‪ .‬فيتلقى‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪137‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫الاحداث مباشرة من أشياء العالم وكيانه ا العضوي وصيرورتهما التاريخية في مجراهما حضوريا‬ ‫ويتلقاها بصورة غير مباشرة في أحاديث جماعته عن أشياء العالم وكيانه الروحي وصيرورتهما في‬ ‫مجرى الحديث‪ :‬وبذلك يصبح مترجما للأحداث بالأحاديث‪.‬‬ ‫والأحاديث تخبر بالأسماء عن المسميات دون أن تكون الأسماء متضمنة لمضمون عدى ما يعلم من‬ ‫غيرها لأنها تشير إلى ما حصل في المستوى الأول أي في ما تم تلقيه من الأحداث نفسها سواء‬ ‫تعلقت بالعالم أو بالذات‪ .‬وأول من قدم هذه الرؤية هو ابن تيمية الذي استنتج أن دلالة‬ ‫الألفاظ استعمالية ولا علاقة لها بمضمون يأتي منها بل هي تشير إلى مضمون يأتي من فعل ترجمة‬ ‫لما يأتي من غيرها أي من علاقة مباشرة بالمرجعيات التي تتكلم فيها اللغة دون أن يكون بين اللسان‬ ‫والاشياء أدنى علاقة طبيعية بل هي كلها مواضعات تشير إلى المعاني الثقافية (معرفة وقيما) من‬ ‫جنس العملة التي تشير إلى القيم الاقتصادية (بضائع وخدمات)‪.‬‬ ‫وقد أخصص لهذه المسألة أي العلاقة بين اللغتين اللسانية والمتقدمة عليها رسما وموسيقي وما‬ ‫يترتب عليهما من اعتبار الأولى ترجمة والثانيتين أصلا للمقدرات الذهنية في مكان وزمان‬ ‫تصوريين للبحث في نظام يوصف بما عرف به ديكارت الرياضيات بكونها نظام القيس والترتيب‬ ‫عامة‪ .‬والقيس دون تحديد المقيس والترتيب دون تحديد المرتب هو الذي يميز المقدرات الذهنية‬ ‫النظرية والعملية لأنه لا يتكلم على المضامين المقيسة والمرتبة بل على ما يقتضيه النظام بينها إذا‬ ‫تكلمنا عليها بوصفها قيما لمتغيرات لا تعنينا لأنها تتحدد عندما نريد تطبيق المقدرات الذهنية‬ ‫النظرية على الطبيعة وكيان الإنسان العضوي والمقدرات العملية على التاريخ وكيان الإنسان‬ ‫الروحي‪.‬‬ ‫والقصد بالروحي فعله الذي ننسب إليه التلقي والترجمة رغم أنه لا شيء ينفي قطيعا أنهما ربما‬ ‫من أفعال البدن‪ .‬المهم أني لا أدعي العلم بطبيعة الروحي لأني اعتقد أن الروح من الغيب لأنها‬ ‫من امر ربي‪ .‬وإذن فالقصد هو الوعي بالذات وبالعالم وبما يتعالى عليهما وبالحاج وصلهما به‪.‬‬ ‫ولذلك فالمستوى الثالث من الرموز هو الأساس في كل الإشكالية لأنه هو الذي يلتفت إلى المستويين‬ ‫المتقدمين عليه وصلا مع المثل التي يتضمنها عالم الغيب وإلى المستويين المتأخرين عنه بحثا عما‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪138‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫يمكن أن يقاس عليها في عالم الشهادة‪ .‬وهو يكون بالأولين في صلة بما يتعالى عليه وبالأخيرين في‬ ‫علاقة بما يحاول التعالي عليه في اشرئبابه للمثل‪ .‬والتلخيص ليس تلخيصا للرموز فحسب بل هو‬ ‫تلخيص لمضمون الرسالة الخاتمة لأن كل ما لا يرد إليهما من القرآن هو تعريفات مفهومية لعناصر‬ ‫الرسالة‪.‬‬ ‫وعناصر الرسالة الخمسة هي كما بينا‪:‬‬ ‫‪ .1‬المرسل أو الله‬ ‫‪ .2‬والمرسل إليه أو الإنسان‬ ‫‪ .3‬والرسول أو مبلغ الرسالة‬ ‫‪ .4‬وطريقة التبليغ أو التبشير والنذير في التربية والحكم‬ ‫‪ .5‬واخيرا تعريف هذا المضمون الملخص‪ .‬وذلك هو القرآن‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فالرمز الثالث أي التعامل مع فعلي الله في الطبيعة وفي التاريخ وفي كيان الإنسان‬ ‫العضوي وفي كيانه الروحي هو الذي يصل أو يفصل بين التعاملين اللذين يأتيان قبله أي الأول‬ ‫والثاني والفعلين اللذين يأتيان بعده أي التعمير والاستخلاف وتعامل البشر في ما بينهم‪ .‬ففيه‬ ‫يمكن للإنسان أن يخلد إلى الأرض أو أن يصل عالم الشهادة بعالم الغيب‪ .‬وهذا المستوى الثالث‬ ‫من هو تجهيز الإنسان بالنظر والعقد للمعرفة وتجهيزه بالعمل والشرع للقيمة‬ ‫والنظر والعقد هو أداة التعمير والعمل والشرع هو أداة الاستخلاف‪ .‬وإذن فالتجهيزان هما ما‬ ‫يناسب مهمتي الإنسان بمعنى أن الإنسان لم يكلف بما لا يستطيع لأنه جهز التجهيز الضروري‬ ‫والكافي لتحقيقهما‪ .‬والتجهيز الأول هو أصل القدرة على ابداع المعاني الكلية المقدرة ذهنيا للنظر‬ ‫الذي يحقق العلم بالتطبيق على التجربة الطبيعية والثاني هو أصل القدرة على ابداع المعاني‬ ‫الكلية المقدرة ذهنيا للعمل الذي يحقق القيمة بالتطبيق على التجربة التاريخية‪ .‬وهذه الرؤية هي‬ ‫التي يعتبرها القرآن جوهر الديني عند الله وهي التي لا يمكن ألا تعتبرها الفلسفة جوهر‬ ‫الفلسفي عند الإنسان‪ .‬فيكون الفلسفي غير المحرف هو الذي يدرك هذه العلاقة وصلا وفصلا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪139‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫فيختار بتناسق عقلي الحل الذي يكون إما بمنطق الأولين والأخيرين من منظور الوصل أو من‬ ‫منظور الفصل‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فالقول بالمطابقة المعرفية في العلاقة بالموجود والقول بالمطابقة القيمية في العلاقة‬ ‫بالمنشود هي التي تنتهي إلى نفي ما وراء العالم واعتبار العالم واحدا والتاريخ حكما نهائيا بلغة‬ ‫هيجل مع تأسيس يقول بوحدة الوجود التي حاول فيها إصلاح الطبعانية السبينوزية بتذويت‬ ‫الجوهر‪ .‬وذلك يفترض ما أسس عليه هيجل كل فلسفته أي الصلح بين العلم المطلق والدين المطلق‬ ‫من مدخل نظرية العلم في فينومينولوجية الروح ومن مدخل الدين في دروسه في فلسفة الدين‪.‬‬ ‫وقد ترجمت الثانية‪ .‬ولم أترجم الأولى لأن بعض العرب ترجموا بعضها وترجمها العونلي ورغم‬ ‫أني لست راضيا عن ترجمة صفوان (بعض فينومنولوجية الروح وأظنها عن الفرنسية) وترجمة‬ ‫العونلي (وأظنها عن الفرنسية كذلك أو بالاستعانة بترجمة هيبوليت الركيكة جدا رغم معرفة‬ ‫العونلي بالألمانية) فقد أحجمت على إعادة الترجمة‪.‬‬ ‫وإذن فنقد هيجل لنقد كنط وخاصة لتمييزه بين الظاهرات والحقائق التي لا يدركها العقل)‬ ‫يتأسس على وهمين‪:‬‬ ‫‪ .1‬وهم العلم المطلق (فينومينولوجيا الروح الذي ينبني رفض القول بمحدودية العلم التي‬ ‫توصل إليها كنط أو نفي العلم الإنساني المطلق)‬ ‫‪ .2‬وهم الدين المطلق مؤسسا إياه دينيا على الصلح بين الربوبي والطبيعي برمز المسيح ابن‬ ‫الله‪.‬‬ ‫وبذلك ينفي الغيب ويحيث الربوبي في الطبيعي والتاريخي بتوسط الحلول في الإنسان الغيب ليكون‬ ‫علمه مطلقا‪ .‬فيكون المنطلق هو تحريف المسيحية وقولها بالتثليث وببنوة عيسى للرب‪ .‬والتمييز‬ ‫بين العقل والروح ‪-‬أو العقل الاستريائي أو الحصاة والعقل التأملي أو النهى وتغيير القضية‬ ‫الحملية إلى قضية تأملية واعتبار الموضوع متحققا في محولاته ونفي الفصل بين المنطقي‬ ‫والوجودي‪ -‬مخادعة لأن حصر الوجود في عالم الشهادة ونفي عالم الغيب‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪140‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫وهو ما يعني أن الروحي ليس شيئا آخر غير العقلي الوحيد الممكن في عالم الشهادة التي هو عنده‬ ‫الوحيد وفيه يكون التاريخ الحكم النهائي‪ .‬وهي مادية خالصة لا تختلف عن وحدة الوجود‬ ‫السبينوزية حتى وإن زعم تذويت الجوهر‪ .‬أسماء الرموز عند تحريفها‪:‬‬ ‫‪ .1‬تحريف أداتي التبادل والتواصل هو دين العجل إذ جعلهما أداتي سلطان على المتبادلين‬ ‫والمتواصلين‬ ‫‪ .2‬تحريف علاقة الإنسان بالطبيعة والتاريخ وبكيانه العضوي والروحي هو الاخلاد إلى‬ ‫الأرض‬ ‫‪ .3‬تحريف الفصل بين العالمين هو وحدة الوجود بشكليها الطبعاني والتاريخاني‪ .‬ولذلك‬ ‫فطبيعي جدا أن يستنتج ماركس أن حلول هيجل هي عين حلوله لأن الروحي والديني‬ ‫والتعالي كلها خداع أو تقية هيجلية ولا تعبر عن إيمان صادق بما يتعالى على الطبيعة‬ ‫والإنسان‪.‬‬ ‫ثم سميت‪:‬‬ ‫‪ .4‬تحريف تجهيز الإنسان بقدرة التقدير الذهني في النظر والعقد وبقدرة التقدير الذهني في‬ ‫العمل والشرع بالقول بالمطابقتين لأن إطلاق العلم بالموجود والقيمة بالمنشود يعني نفي‬ ‫الفرق بين الإدراك وموضوعه وهو ما سماه ابن خلدون وهم رد الوجود إلى الإدراك‬ ‫‪ .5‬وأخيرا فقد سميت تحريف تجاوزهما بتحييثه وجعله موضوع علم مطلق متطابق مع دين‬ ‫مطلق نفيا للغيب وهو غاية المعنى الذي يترتب على القول بالمطابقتين‪ .‬فنفي الغيب هو‬ ‫دعوى العلم المطلق ودعوى الدين المطلق هو دعوى العمل التام رغم أننا لا نعلم علة‬ ‫الموجود والمنشود بدل نقيضيهما ولا كيفهما بدل غيره‪.‬‬ ‫وإذن فالرموز الخمسة تقبل الاستعمالين الحدين الموجب والسالب وتقبل الاستعمالات الوسطى‬ ‫بينهما أي الاستعمال السوي والاستعمال المحرف وما بينهما هو درجات ثلاثة قريبة من الموجب‬ ‫وقريبة من السالب والدرجة صفر بينهما‪ .‬ومن ثم فيمكن ردها الاستعمالات الخمسة إلى أحكام‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪141‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫الفعل الإنساني في الفقه الإسلامي لتصنيف أحكام أفعال العباد في القرآن الكريم‪ .‬فإذا اعتبرنا‬ ‫السوي هو الواجب والمحرف هو الممنوع كان ما بينهما قابلا للرد إما إلى درجة المندوب إليه أو إلى‬ ‫درجة المكروه أو إلى الدرجة صفر المباح‪ .‬وأكثر من ذلك فإن مبدأ الضرورة التي تبيح المحظور‬ ‫والتي يكون فيها الفاعل هم شارع نفسه بمعنى تقدير الضرورة وإباحة الفعل سواء المتخلي عن‬ ‫الواجب (مثل الإفطار في رمضان بسبب المرض) أو القائم بالسالب (اكل الميتة في حالة فقدان‬ ‫الغذاء السليم)‪.‬‬ ‫ذلك أن فعل الفصل أو الوصل بين العالمين عالم الغيب أصل مثل النظر والحقيقة واصل العمل‬ ‫والقيمة في الدين وفي الفلسفة وعالم الشهادة الذي يكون فيه فعل الإنسان ذا صلة بالمثل عند‬ ‫الوصل أو نافيا لما يتعالى عليه وعلى أفعاله عند الفصل‪ .‬وبذلك يتحدد التعمير أوالتدمير‬ ‫والاستخلاف أو الطاغوت‪ .‬لكن ما يتحدد أمر أعمق وهو علاقة فلسفة الدين بفلسفة التاريخ‪:‬‬ ‫فسياسة عالم الشهادة من فلسفة التاريخ وسياسة عالم الغيب من فلسفة الدين والعلاقة بين‬ ‫العالمين هي العلاقة بين الفلسفتين وهي جوهر الإسلام الذي هو فلسفة العلاقة بين العالمين وبين‬ ‫السياستين ومن ثم بين الفلسفتين‪ .‬وتلك هي علة عسر فهم الإسلام في الرؤى المحرفة للدين‬ ‫والفلسفة بالفصل بين المجالين وليس بالوصل بينهما‪ :‬فالديني لا يقبل الفصل عن التاريخي‬ ‫والتاريخي لا يقبل الفصل عن الديني‪.‬‬ ‫وإذن فالتعمير والتدمير حدان اقصيان بينهما أحكام فعل الإنسان في علاقته بالطبيعة وبكيانه‬ ‫العضوي والاستخلاف والطغيان وحدان اقصيان بينهما احكام فعل الإنسان في علاقته بالتاريخ‬ ‫وبكيانه الروحي‪ .‬والعلاقتان هما موضوع التذكير القرآني‪ .‬ولذلك فكل الأمثلة التي يناقشها‬ ‫القرآن في كلامه على مآل التحريف في الرسالات السابقة تدور حول هذه المسائل الأربعة وأصلها‬ ‫أعني مسألة علاقة سياسة عالم الشهادة بسياسة عالم الغيب سواء على مستوى سياسة الفرد لكيانه‬ ‫العضوي والروحي أو على مستوى سياسة جماعة من الإنسانية أو الإنسانية كلها سياسة شأنها‬ ‫الاقتصادي (الإنتاج المادي بضائع وخدمات) وسياسة شأنها الثقافي (الإنتاج الرمزي بكل أنواعه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪142‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫علما وقيما وتطبيقاتهما) وتأثير تلك السياسة الموجب إذا كانت العلاقة بما يتعالى الدنيا أو‬ ‫السالب إذا أخلدت إلى الأرض‪.‬‬ ‫وهذا العرض النقدي لمآل التحريف في الرسالات السابقة يقدمه القرآن في شكل العلاقة التي‬ ‫تصل فلسفة الدين بفلسفة التاريخ في عرض نسقي هو مضمون سورة هود خاصة (مع أخواتها‬ ‫الأربع طبعا) التي قال عنها الرسول الخاتم إنها شيبته‪ .‬ولما حاولت فهم علة تشييبها له أمكن‬ ‫تحديد طبيعة الرسالة الخاتمة وكونيتها سواء في تعريفاتها لعناصر الرسالة أو لمهمتيها في نقد‬ ‫التحريف والمعوقات التي أدت إليه وفي تقديم البديل الذي هو استراتيجية توحيد الإنسانية‬ ‫بعلاج المعوقات التي تعرضها هود وأخواتها عرضا نسقيا هو مهمة الرسالة الخاتمة من حيث هي‬ ‫سياسة عالم الشهادة بمثل عالم الغيب‪ .‬وهو قياس مقابل تماما لطريقة الكلام والفلسفة المحرفين‪:‬‬ ‫لا يقاس عالم الغيب على عالم الشهادة لا يقاس أمر عالم الشهادة الواقع على مثال عالم الغيب‬ ‫الواجب‪.‬‬ ‫والعرض النقدي جاء في سبع نماذج حدان وبينهما خمس معوقات محرفة لهما‪ :‬الحد الاول يمثله‬ ‫تحرير نوح الإنسانية من طغيان الطبيعة بالتقنية (السفينة) والزراعة (أخذ زوجين من كل شيء‬ ‫لاستنباتهما) على أعين الله الذي أوحى لنوح بالحل‪ .‬وحرر الحل من علاقة الدم لأن ابنه وزوجته‬ ‫استثنيا نفسيهما منه‪ .‬والحد الثاني يمثله تحرير موسى أهله من طغيان التاريخ بعد الفشل في‬ ‫اقناع فرعون وآله وذلك بالهجرة على أعين الله الذي أوحى لموسى‪ .‬فحدث التحريف الأهم وعمت‬ ‫العبودية والطغيان بدين العجل أي بتحريف آداة التبادل والتواصل فصارت العملة ربا الأموال‬ ‫وصارت الكلمة الاقوال أداتي العبودية العامة‪.‬‬ ‫أما المعوقات الخمسة فهي سيطرة محرفي توزيع الثروة (هود) وسيطرة محرفي توزيع الماء (صالح)‬ ‫وسيطرة محرفي وظيفة الجنس (لوط) وسيطرة محرفي معايير التبادل (شعيب)‪ .‬فقصة قوم هود‬ ‫كما هو معلوم تتعلق بسلطة أصحاب الثروة وطغيانهم على البقية‪ .‬وقصة قوم صالح كما هو معلوم‬ ‫تتلق بتوزيع الماء في بلد يشح فيه الماء لأنهم يجمعونهم في قلت فكانوا يحرمون الحيوانات من حظها‬ ‫فيه واختير الناقة التي تمثل نوعا من \"آلة\" خزن الماء‪ .‬وقصة قوم لوط كما هو معلوم تتعلق بالمثلية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪143‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫الجنسية‪ .‬وقصة قوم شعيب كما هو معلوم تتلق بأدوات الكيل والتعيير أي بالتطفيف ومنع التبادل‬ ‫العادل‪.‬‬ ‫وبين العائقين الأولين (قصة قوم هود وقوم صالح) والعائقين الأخيرين (قصة قوم لوط وقوم‬ ‫شعيب) نجد قصة إبراهيم وزوجته وقدوم الملائكة لإعلامه بأمري هما مآل قوم لوط والبشرى‬ ‫بالحل الذي أعلم به ابراهيم الذي بشرته الملائكة بابن في لحظة بلوغ زوجته سن اليأس‪ .‬وهذه‬ ‫البشرى هي التي تشير إلى الرسول الخاتم الذي سيعالج كل هذه الأمراض التي تتعلق بها‬ ‫القصص‪ .‬والملاحظ أن الاقتصاد جمع مع مقوم الحياة الأول أي الماء ثم جمع مع مقومها الثاني أي‬ ‫الجنس‪ .‬وهذه المقومات الأربعة ضرورية لكنها فسدت لأن أصحابها لم يصلوها بما يتعالى عليها أي‬ ‫بما يرمز إليه إبراهيم (الوحدانية) والابن الذي بشر به أي محمد (سياسة عالم الشهادة بمثل‬ ‫عالم الغيب) في التاريخ الفعلي وهو معنى تكوين دولة الإسلام الكونية‪.‬‬ ‫وبين أن هذا الابن الذي بشر به ابراهيم لا يمكن أن يكون ابنا عضويا بل هو ابن روحي لأن‬ ‫القصة لا يمكن أ ن تنطبق لا على اسماعيل ولا على اسحق‪ .‬فإسماعيل ولده وهو شاب من زوجة‬ ‫مصرية شابة‪ .‬واسحاق جاء مباشرة بعده وإبراهيم لم يشخ وسارة ما زالت شابة ولم تصل إلى سن‬ ‫الياس بدليل طردها اسماعيل وهو طفل مع أمه‪ .‬وإذن فالبشرى تتعلق بابن روحي وليس بابن‬ ‫بايولوجي‪ .‬وذلك الابن هو طبعا الرسول في لحظة يأس الإنسانية‪ .‬ولو لم يفهم الرسول الخاتم‬ ‫الدلالة الرمزية لما اعتبر هود وأخواتها مشيبة لرأسه‪ :‬فقد فهم القصد من سلسلة السورة ومن‬ ‫كونه هو موضوع البشارة والمكلف بتحقيق ما لم يتحقق سابقا بسبب عدم تذليل هذه المعوقات‪.‬‬ ‫وإذن فما شيب الرسول هو فهم القصد من الرسالة في هود وأخواتها وما يترتب عليها من مهام‬ ‫منتظرة منه لتحقيقها بالتصدي للمعوقات الخمسة التي حرفت دور الثروة والماء والجنس والمعايير‬ ‫التبادلية وطبعا معها المعايير التوصلية التي لها صلة مباشرة بالحدين الاقصيين لأن التواصل لا‬ ‫يكون حقيقيا بين من ليسوا أحرارا من العلاقة بطغيان الطبيعة (قصة قوم نوح) ومن العلاقة‬ ‫بطغيان التاريخ (قصة قوم موسى) بسبب عدم فهم رسالة التوحيد الأولى التي بعث هو خاتما‬ ‫لتحقيقها في التاريخ الفعلي بمنطق النساء ‪(1‬الاخوة البشرية) والحجرات ‪( 13‬المساواة بين‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪144‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫البشر)‪ :‬فهم محمد أنه ابراهيم الثاني موحد الإنسانية بالوحدانية وعلاقة سياسة عالم الشهادة‬ ‫بمثل سياسة عالم الغيب‪.‬‬ ‫ولا يكون ذلك إلا بما ورد في هود من حيث المعوقات في سياسة عالم الشهادة وفي أخواتها بما يترتب‬ ‫على الوصل بين سياسة العالمين سياسة الإنسان معمرا وخليفة في عالم الشهادة بالانشداد إلى المثل‬ ‫العليا المستمدة من سياسة الله لعالم الغيب‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالواقعة كما هو معلوم مدارها التذكير بالآخرة‪.‬‬ ‫‪ .2‬والمرسلات كما هو معلوم مدارها التذكير بمآل المكذبين بيوم الدين‪.‬‬ ‫‪ .3‬والنبأ كما هو معلوم اعلام وتذكير بالبعث والحساب‪.‬‬ ‫‪ .4‬والتكوير كما هو معلوم تقدم علامات نهاية عالم الشهادة وبداية البعث‪ .‬وهذه الأخوات‬ ‫تتعلق بما يشد الإنسان إلى عالم الغيب‪ .‬أما المعوقات التي وردت في سورة هود فهي التي‬ ‫تشد الإنسان إلى عالم الشهادة وقد تلهيه عن عالم الغيب إذا أخلد إلى الأرض فصارت‬ ‫الدنيا مبتغاه والفاني هواه فنجد بعدي دين العجل أي ربا الأموال وربا الأقوال‪.‬‬ ‫وبذلك تكون هود هي الأصل العارض للأمراض التي تحول دون الإنسانية وأن تطبق النساء ‪1‬‬ ‫والحجرات ‪ .13‬وهذا الأدواء تمثل عرضا للتحريفات الأربعة وعلاج الحدين الأقصيين (علاج نوح‬ ‫لطغيان الطبيعة وعلاج موسى لطغيان التاريخ) والحل المؤسس لحليهما (علاج إبراهيم) ومن دون‬ ‫هذه الحلول التي تؤسس لسياسة عالم الشهادة بمثل عالم الغيب الذي حددته أخوات هود اي‬ ‫السور الأربعة‪ .‬ذلك هو الأمر الذي شيب الرسول الخاتم‪ .‬وما كان يمكن فهم هذه البنية من دون‬ ‫اكتشاف نظرية الرموز الخمسة أساسا لأكسمة القرآن الكريم‪.‬‬ ‫وإذن فالتحريفان الاقصيان الموصلان إلى طغيان الطبيعة (قصة قوم نوح) ورفض الثورة عليه‬ ‫وطغيان التاريخ ورفض الثورة عليه (قصة قوم موسى) وهما عين التحريف الذي تعيشه الأمة‬ ‫الإسلامية منذ بداية الانحطاط بسبب ما سماه ابن خلدون فساد معاني الإنساني هما عين ما‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪145‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook