Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore في الدلالة الفلسفية للتقابل بين آل عمران 7 وفصلت 53 - أبو يعرب المرزوقي

في الدلالة الفلسفية للتقابل بين آل عمران 7 وفصلت 53 - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2020-12-11 20:01:54

Description: في الدلالة الفلسفية للتقابل بين آل عمران 7 وفصلت 53 - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫إلى العلاجين معا مع تقديم التربية أولا‪ .‬واسم العلق واضح الدلالة لأنه يشير إلى خلق‬ ‫الإنسان من علق وهو التخلق الذي يتم صورة الإنسان ليكون قادرا على القراءة باسم ربه‬ ‫الذي علمه ما لم يعلم (إحالة إلى تعليمه الأسماء كلها)‪ :‬فيكون التبليغ أيقاظ الفطرة‬ ‫واخراجها من النسيان‪.‬‬ ‫وتعليل هذه العقبات هو بدروه جاء في سورة تلخص القرآن كله من حيث هو استراتيجية‬ ‫سياسية لعلاج أدواء الإنسانية التي هي جوهر العلاقة بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ‬ ‫في القرآن بالتربية والحكم‪ .‬وتلك هي مهمة سورة القلم‪ .‬والعلاج ليس مقصورا على علاقة‬ ‫الرسول بالمرسل إليهم مباشرة في سعيه لتحقيق العينة في المكان والزمان المحددين في حياته‬ ‫بل هي تشمل كل الإنسانية ماضيا ومستقبلا‪ .‬فالماضي تراجعه لبيان ما أفشل التجربة وتلك‬ ‫وظيفة النذير والمستقيل لبيان ما ينجح التجربة وتلك وظيفة البشير‪.‬‬ ‫فما يتعلق بالماضي من القرآن يكاد يساوي نصفه أو ربما أكثر‪ .‬إنه القصص القرآني‬ ‫الذي هو عرض نقدي للأحداث والأحاديث المتعلقة بما أدى إلى تحريف الرسالات السابقة‬ ‫ومحاولة علاجه بمنهج التصديق والهيمنة‪ .‬ومستقبلا حديثا وأحداثا مقبلة بوصفه بشيرا‬ ‫ونذيرا بما يمكن أن يكون عليه مآل الإنسانية‪ :‬ومثال القلم عظيم‪ .‬وبهذا المعنى ففلسفة‬ ‫الدين لا تفهم من دون المعيقات التي يمثل درسها جوهر فلسفة التاريخ‪ .‬والحصيلة هي‬ ‫علاقة الأحداث التاريخية بالمعاني القيمية التي تعتبر مثلا عليا ذات تأسيس غيب‪.‬‬ ‫فنحن اليوم نعيش حالة جنيسة‪ .‬كل البشرية اليوم تعيش ما عاشه أصحاب الجنة (أي‬ ‫الضيعة التي تثمر ما يقتات به البشر) في سورة القلم‪ .‬فقد أصبحت البشرية على ما أصبح‬ ‫عليه أصحابها لما نسوا ربهم والمثل العليا التي تضفي المعنى على الأحداث التاريخية‪ .‬فكل‬ ‫ما كان الاقوياء في العالم يتصورونه دالا على سلطانهم وقوتهم تبخر في لمح البصر بفعل‬ ‫فيروس لا يرى حتى بأقوى أدوات الرؤية الأكثر حداثة‪ .‬ولعل ذلك يجعلهم يتبينوا الرشد‬ ‫من الغي فيكفرون بالطاغوت ويؤمنون بالله‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪46‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫ولهذه العلة اعتبرت جائحة كورونا تمثل درسا للإنسانية كلها وخاصة للمتجبرين والطغاة‬ ‫منها أفرادا أو طبقات أو اجناسا أو دولا يدعوهم إلى التواضع وإلى التساؤل عن المآل إذا‬ ‫تواصلت العولمة المادية التي أدت بالتلويث المادي والتلويث الثقافي إلى نفي كل ما يتعالى‬ ‫على الأمر الواقع الذي صار وكأنه هو الأمر الواجب وأهملت المثل التي بها يكون الإنسان‬ ‫خليفة‪ .‬لكن ما قد يترتب على الجائحة من أزمة اقتصادية قد يعيد البشر إلى الاقتتال‬ ‫على مصادر العيش والثروة‪.‬‬ ‫وهو ما جعلني أعبر عن تفاؤل لا يخلوا من امكانية التشاؤم‪ .‬لكني غلبت التفاؤل فظنه‬ ‫الكثير من القراء ناتجا عن عقيدتي فحسب حكما بأن الإسلام يمثل مستقبل الإنسانية‪.‬‬ ‫نعم لعقيدتي دور في حكمي‪ .‬لكن التاريخ بين خطأ هيجل وماركس وفساد حلهما‪ .‬فشل‬ ‫الحل الهيجلي الليبرالي المؤسس فلسفيا لنظرية القوة من حيث هي فعل طبيعي والحل‬ ‫الماركسي المغالي في نفس الحل‪ .‬وفي خصوص حكم هيجل على خروج الإسلام من التاريخ‬ ‫وحكمه على نهاية التاريخ لا يحتاج إلى تعليق‪ :‬فالحاضر يثبت العكس تماما‪.‬‬ ‫درس كورونا وما يترتب عليه من الوعي بالحاجة إلى التواضع هو الذي سيحرر البشرية‬ ‫من عولمة دين العجل أي سلطان ربا الأموال (معدن العجل) وربا الأقوال (خوار العجل)‬ ‫والعودة إلى اعتبار العملة أداة تبادل ينبغي ألا تتحول إلى سطلان على المتبادلين وهو‬ ‫معنى ربا الأموال والكلمة أداة تواصل ينبغي ألا تتحول إلى سلطان على المتواصلين وهو‬ ‫معنى ربا الأقوال‪ .‬وربا الأموال هو جوهر العولمة المادية وربا الأقوال هو جوهر العولمة‬ ‫الثقافية‪ .‬الاول يمثله البنوك والبورصات‪ .‬والثاني تمثله الملاهي والإعلام المزيف للوعي‬ ‫الإنساني‪.‬‬ ‫وبذلك نفهم السياسة المحمدية في التربية وفي الحكم بوصفهما أداتي التبليغ التذكيري‬ ‫الذي لا يكون فيه للمذكر سلطان على المرسل إليهم لأن الله قال للرسول {فذكر إنما أنت‬ ‫مذكر لست عليهم بمسيطر}‪ .‬وهو إذن تبليغ لا سلطان للمبلغ فيه‪ .‬فهو ليس محكوما بواجب‬ ‫النتيجة بل هو مقصور على واجب الوسيلة بالمعنى القانوني‪ .‬عليه أن يبلغ الرسالة والتذكير‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪47‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫الموقظ لما في كيان الإنسان مما هو مفطور عليه من حيث هو إنسان وأنساه إياه الاخلاد إلى‬ ‫الأرض لكنه لا يفرض عليه شيئا‪.‬‬ ‫لم يكن مع الرسول كنيسة أو سلطة روحية تتوسط بين المؤمنين والله وشأنه الأخروي ولا‬ ‫وصي أو سلطة مادية تتوسط بين المؤمن ورزقه وشأنه الدنيوي‪ .‬كان كل مسلم مشارك في‬ ‫المسجد في تدبير الشأن العام الروحي والمادي بممارسة الشورى والأمر بالمعروف والنهي عن‬ ‫المنكر اجتهادا معرفيا هو التواصي بالحق وجهادا خلقيا هو التواصي بالصبر‪ .‬وتلكما هما‬ ‫طريقة التذكير في التربية وفي الحكم‪ .‬ومع ذلك فلا بد من وجود مؤسسات الرعاية للتربية‬ ‫ومؤسسات الحماية للحكم رغم أن الجميع مشارك فيهما‪.‬‬ ‫وكان ذلك دليل على أن نظرية هيجل في توباوية الرؤية الإسلامية ورؤية ماركس في‬ ‫الرؤية البديل التي تجعل تاريخ الإنسان خاليا مما يتعالى على التاريخ حكما نهائيا لأنه‬ ‫تاريخ طبيعي خال من البعد الروحي ومحكوم بدعوى مقاومة دين العجل أي سلطة أصحاب‬ ‫راس المال وأصحاب الإيديولوجيا في حين أنه الطريقة المثلى لجعلهما ينطبقان بعنف دولة‬ ‫مستبدة هي في آن كنيسة وحق إلهي وإن بشكل طبيعي هو القوة العرقية أو الطبقية‪.‬‬ ‫والرمز الحالي الذي يبين أن هذين الرأيين الهيجلي في الليبرالية والماركسي في‬ ‫الشيوعية يوجدان فعليا وهما قطبا العولمة الحالية أي غاية الغرب الأقصى (أمريكا) وغاية‬ ‫الشرق الأقصى (الصين) لا يختلفان إلا في الظاهر‪ .‬وهما يعتبران بداية التاريخ الإنساني‬ ‫ونهايته في فلسفة التاريخ وفلسفة الدين الهيجلية والماركسية‪ .‬لكن مآزق العولمة التي هي‬ ‫واحدة في النظامين لأن ما يزعم في الرأسمالية خداع وهو عين ما يوجد في الشيوعية‪ :‬من‬ ‫يسيطر على الثورة والسلطة المادية والروحية قلة تستبعد الأغلبية دائما‪ .‬لذلك فالإسلام‬ ‫هو المنقذ الوحيد منهما‪.‬‬ ‫ولا أعني أنه سيكون قوة من جنسهما تقضي عليهما‪ .‬إنه سيكون الرؤية التي سيضطرون‬ ‫لتبنيها حتى لا يكونوا مثل ما جاء في كلام الله على أصحاب الجنة التي رأوها مصبحين وقد‬ ‫صارت قاعا صفصفا في طرفة عين‪ .‬الإسلام ليس المنقذ بالتهديم بل بالإصلاح‪ .‬فلا أحد له‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪48‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫ذرة من عقل يفكر في القضاء على الصين وأمريكا فضلا عن أن ذلك ليس في متناول أحد‬ ‫وإذا صار في متناوله فهو لن يتحقق بدون فناء الكل في حرب مدمرة للبشر والشجر والحجر‪.‬‬ ‫ففضلا عن عدم القدرة المادية على ذلك فإن أخلاق القرآن لا تعتمد على التهديم بل‬ ‫على التعمير والشرط هو السياسة الإصلاحية بالتربية والحكم الراشدين‪ .‬فلا يمكن أن‬ ‫ننتصر الصيني أو الامريكي سيتشبث بالرؤية التي كانت له قبل كورونا وقبل الطرق‬ ‫المسدودة التي ادى إليها التلويثان المادي والروحي‪ .‬فالتلويث المادي ليس إلا نتيجة سلطان‬ ‫معدن العجل أو ربا الاموال‪ .‬والتلويث الروحي ليس إلا نتيجة خوار العجل أو ربا الاقوال‪.‬‬ ‫لا أحد له بعض العلم يمكن أن ينكر أن فاعلية كورونا تقاس بنقصان فاعلية المناعة‬ ‫الإنسانية العضوية والروحية‪ .‬فلو كان الإنسان عضويا وروحيا ليس مقصورا على ضحية‬ ‫التلويث الناتج عن الاقتصاد المتوحش والثقافة المتعجرفة وأن الهواء والماء والغذاء وما‬ ‫يناظرها في شروط الحياة الروحية هدمت مناعة الإنسان‪ .‬ولذلك فاحتمال العودة إلى‬ ‫حرب حول ثروات العالم مستبعدة لأن كلفتها أكثر من ربحها‪ .‬ولذلك فتغليب التفاؤل هو‬ ‫الراجح في تحليلي‪.‬‬ ‫وقد لا يرى الناس أن العلة هي ربا الأموال وربا الأقوال أي دين العجل‪-‬الابيسيولوجي‪-‬‬ ‫الذي صار أساس نظام التربية ونظام الحكم في العالم كله ‪-‬الابيسيوقراطيا نظام حكم‬ ‫وتربية‪-‬بحيث إن الإنسانية التي يزعمونها تحررت صارت كلها مستعبدة لشكل معلمن من‬ ‫كنيسة وسيطة بين الإنسان والسلطان الأعلى وحكم وصي بين الإنسان ورزقه سلطتين على‬ ‫البشر عبيد العنف والاستغلال والاعلام والملاهي والبنك والبورصة‪.‬‬ ‫تلك هي طريقة التبليغ التي كلف بها الرسول والتي أسعى لتكوين عينة منها عينة بدأت‬ ‫بالتربية في المرحلة الملكية وانتهت بالحكم في المرحلة المدنية‪ .‬وجمعت بينهما في الرؤية‬ ‫الشاملة لأن بداية الحكم لا تعني نهاية التربية بل هما يتواصلان معا إلى الغاية التي هي‬ ‫وحدة الإنسانية هدفا لاستراتيجية الرسالة‪ .‬وأعتقد أننا في فجر هذه العولمة التي سيكون‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪49‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫الدليل الهادي لها الإسلام ورؤيته‪ .‬لكن ذلك يبقى رهن الاستئناف الإسلامي الذي بدأت‬ ‫أرى ارهاصاته ولعل عودة تركيا لذاتها من علامات الاستئناف الأشد وضوحا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪50‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫وصلنا الآن إلى المسألة الأخيرة وفيها زبدة القول أي الجواب عن السؤال التالي‪ :‬ما مضمون‬ ‫الرسالة؟ فالمسائل الأربع الأولى كانت ركائز المضمون وأسسه أعني أنها شروط تحقيق الهدف من‬ ‫رسالة التذكير بطبيعة المرسل (الله) وبطبيعة المرسل إليه (الإنسان) وبطبيعة الرسول (محمد)‬ ‫وبطبيعة المنهج (مقوما التبليغ أي رؤية الإسلام السياسية تربية وحكما)‪ .‬وبقي الآن تحديد‬ ‫طبيعة الغاية أعني مساعدة الرسالة الإنسان تعميرا واستخلافا لأن المسائل الأربع الأولى هي‬ ‫مقدمات هذه المساعدة‪.‬‬ ‫وما قد يعجب له القارئ هو أن هذه المساعدة قد لا تعتبر دينية بالمعنى التقليدي للأديان بل هي‬ ‫قد تعتبر فلسفية حتى بالمعنى التقليدي للفلسفة‪ .‬إنها علاج للمعضلات الخمس التي تعتبر الفلسفة‬ ‫الحديثة قد تصدت لها وقدمت لها حلولا‪:‬‬ ‫• ديكارت بداية‪.‬‬ ‫• وهوسرل غاية وبينهما كنط وهيجل وماركس‪.‬‬ ‫ما هذا؟ هل هو مزاح؟‬ ‫طبعا قد يبدو وكأني امزح بمثل هذه الرؤية في نظر القائلين بالطلاق البائن بين الديني‬ ‫والفلسفي‪.‬‬ ‫لو كان مزاحا لما ضيعت وقتي في كتابة العناوين التالية‪ :‬ففي ديكارت كتبت مقالا يجيب عن سؤال‬ ‫هل تأملاته ميتافيزيقية أم هي ميتاإيثيقية؟‬ ‫وفي هوسرل ترجمت أهم كتاب له في الفينومولوجيا لأن مشكله الأساسي هو التأسيس‬ ‫الفينومينولوجي والسيميوتكي لأهم إشكالية في المنطق‪ :‬كيف نخلصه من الرؤية النفسانية ونثبت‬ ‫أن المعاني الكلية ذات وجود فعلي لأن للإنسان حدس الماهيات‪ .‬وفي كنط كان أول نص نقلته إلى‬ ‫العربية مقاله عن التنوير‪ .‬وفي هيجل ترجمت دروسه في فلسفة الدين‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪51‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫ولم أترجم لماركس إلا نتفا من آرائه في فلسفة هيجل وخرافة جعله يمشي على رجليه بعد أن كان‬ ‫يمشي على رأسه‪ .‬ولم يكن ذلك تعبيرا عن نفور من \"فلسفته\" فحسب بل كان خاصة احتقارا‬ ‫للقائلين بها من المتخلفين من نخب العرب لأن الماركسيين الغربيين متطورون وليسوا مثلهم لم‬ ‫تتجاوز معرفتهم بماركس الكتاب الاحمر لتعليم العامة‪ .‬ولا يمكن أن أدخل في مسألة العلاقة بين‬ ‫الفلسفي والديني من يخلط بين توظيفهما الإيديولوجي وطبيعة رؤيتهما المعرفية والقيمية‪.‬‬ ‫وحتى لا أطيل سأكتفي بقمتي المسائل في ما عالجته الفلسفة الغربية الحديثة وربذتها حتى لا يبقى‬ ‫عدم الفهم عند مدرسي الفلسفة من لا ينفذون إلى جوهر مسائلها فيخبطون خبط عشواء وتغريهم‬ ‫ما صارت عليه \"فلسفة\" نيتشة التي تعبر عن العدمية التي آل إليها حال النخب الغربية كما يحصل‬ ‫في كل حضارة شاخت وأصابتها أمراض الترف‪ .‬فما يعنيني هو هذان القمتان لما لهما من علاقة‬ ‫مباشرة بمعضلتي النظر والعقد وبمعضلتي العمل والشرع من حيث هما جوهر ما بين الفلسفة‬ ‫والدين من صلة وثيقة لا انفصام لها‪ .‬وكلتاهما ماثلتان في أهم ما كتب ديكارت وكنط وأهم ما كتب‬ ‫هيجل وهوسارل‪ .‬وطبعا سأعتبر كنط غاية فلسفة ديكارت وهوسارل غاية ما حصل من رد فعل‬ ‫هيجل على كنط‪ .‬وتلك هي الزبدة التي تعنيني‪:‬‬ ‫• فغاية تأسيس ديكارت الفلسفة على ضمانة إلهية هي ما صار أساسا للفصل بين ما يعمله‬ ‫الإنسان من الوجود وما يعلم أنه لا يعلمه منه‪ .‬وذلك هو معنى الفصل الإبستمولوجي ذو‬ ‫الدلالة الوجودية فلسفيا ودينيا الفصل بين الظاهرات والحقائق العقلية في ذاتها‪.‬‬ ‫• وغاية تأسيس هوسارل لفلسفته على الشك الديكارتي هي عكس ما وصل إليه كنط ما يعلم‬ ‫الإنسان أنه لا يعلمه هو هذا العالم وهو المتعالي الحقيقي بالقياس إلى ما يعلمه العقل‬ ‫الإنساني‪ .‬والمعلوم أن فينومينولوجيا الروح هي الشك في الشك لدحض الكنطية وتأسيس‬ ‫العلم المطلق الزعوم‪:‬‬ ‫• فيبدو كنط وكأنه يواصل ديكارت لكنه أنشا قطيعة معه عندما فصل بين العلمي والعقدي‬ ‫ولطف المقابلة بتأسيس الثاني على الحد من الأول أولا وعلى أحد مبادي الرياضيات أي‬ ‫المسلمات في غياب اليقينيات في فلسفة النظر لتأسيس الإيمانيات‪ .‬في فلسفة العمل‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪52‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫• ويبدو هوسرل وكأنه يواصل هيجل بالعودة إلى يبدو قولا بما يقول به من نفي للفصل‬ ‫الكنطي بين الظاهرات والعقليات فإذا به ينفي أساس الحل الهيجلي والحل الكنطي في آن‬ ‫من أصلهما لأن المتعالي على النظري لم يعد ما يدركه العقل بل ما يدركه الحس فيكونه‬ ‫تعالي الموجود في النظري وتعالي المنشود في العملي هو العالم الطبيعي والعالم التاريخي‬ ‫الخارجيين‪ .‬لكن من أين يأتي الحزم بالمطابقتين والفينومينولوجيا تثبت استحالة تحقيقهما‪.‬‬ ‫• وطبعا بقي حل هوسارل معلقا على عقد وشرع ليس لهما تعليل فلسفي مقبول عقلا‪ :‬فمن‬ ‫أين لهوسرل أن العالم واحد وأن ما يدركه الإنسان من المعاني الكلية علم بهذا العالم الذي‬ ‫يعتقد أنه موجود ويعمل فيه معتقدا أن المنشود فيه ممكن؟‬ ‫والمطابقة مستحيلة في الحالتين لتعالي الموجود والمنشود الخارجيين على المعقول والمأمول في‬ ‫حدس الماهيات المتجاوزة لحس العينيات؟‬ ‫وفي ذلك كله لا أنسى أني أعالج مسألة دينية بالجوهر علاجا فلسفيا لأني وصلت معضلات الفلسفة‬ ‫بمحيرات الدين‪ .‬وهي الغاية من الرسالة الخاتمة أو بصورة أدق المضمون الغاية من التذكير‬ ‫القرآني الذي هو ليس مسألة خطاب وعظي بل هو استراتيجية سياسية لتوحيد الإنسانية بالاعتماد‬ ‫على ما في الإنسان من تجهيز النظر والعقد لمعرفة الحقيقة والعمل والشرع لتحديد القيمة حتى‬ ‫يكون مسؤولا عن قوامه المادي تعميرا والروحي استخلافا‪ .‬فكل الإشكال في القرآن الكريم هو‬ ‫كونه خطابا للنظر والعقد لمعرفة الحقيقة وللعمل والشرع لتحقيق القيمة تجهيزين للإنسان في‬ ‫علاقة بالتعمير والاستخلاف مهمتيه في هذا العالم من حيث متأسس على ما وراء يتعالى عليه بداية‬ ‫وغاية بمقتضى الخلق المحكوم بالمعاني الرياضية والأمر المحكوم بالمعاني القيمية‪.‬‬ ‫وهذا هو \"الشيء\" الواحد المشترك بين الديني من حيث هو ديني والفلسفي من حيث هو فلسفي‬ ‫من منظور القرآن‪ :‬أي شروط قيام الإنسان العضوي والروحي في عالم شاهد غير مكتف بنفسه‬ ‫ويحتاج إلى عالم رديف غيب من دونه لا يمكن‪:‬‬ ‫• فهم العالم الشاهد وإدراك قوانينه‬ ‫• استمداد شروط البقاء و\"ابداع\" ذاته في التاريخ‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪53‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫• فمعضلة القرآن الجوهرية هي البحث عن شروط فهم الإنسان لموجوده ومنشوده‪.‬‬ ‫• في عالم ذي مستويين تاريخي وراءه الطبيعي‪.‬‬ ‫• وفي كيانه ذي مستويين متصل بالتاريخي ماثلا في وعيه وبالطبيعي ماثلا في بدنه‪.‬‬ ‫وقد جمعت ذلك كله تحت عنوانين‪ :‬الأول يصح على معضلة هوسرل وما ترتب على استكمال نقد‬ ‫هيجل لكنط بحل يعتبره صاحبه استكمالا للشك الديكارتي‪ .‬والثاني يصح على معضلة كنط وما‬ ‫ترتب على استكمال حل ديكارت بالفصل بين النظري والعقدي‪ .‬والغاية هي بيان فساد الحلين‬ ‫الهوسرلي والكنطي بالقياس إلى الحل القرآني كما فهمه ابن تيمية وابن خلدون رغم أن‬ ‫الإشكالية واحدة قرآنيا‪ .‬وهو ما يجعل حلهما متجاوزا لأهم ما جاء في الفلسفة الحديثة بعدهما‬ ‫ليس بتقديم حل بديل بل ببيان عدم كفاية الحل الفلسفي الحالي إذا عمقنا النظر فيهما‬ ‫واستنتجنا لوازمهما‪.‬‬ ‫فما هو المشكل الذي كان حل هوسرل له حلا فاسدا؟‬ ‫ولماذا هو استكمال لنقد هيجل لكنط بقلبه لأن ما كان يعتبره كنط ظاهرات (فينومان) صار عنده‬ ‫هو المتعالي على ما يعتبره كنط حقائق في ذاتها أو عقليات (نومان)؟‬ ‫وما هو المشكل الذي كان حل كنط له حلا فاسدا؟‬ ‫ولماذا هو استكمال لحل ديكارت بشرط الفصل بين الظاهرات والعقليات؟‬ ‫أزعم أن من غابت عنه دلالة فساد الحلين لا يمكن أن يدرك البنية العميقة لنظام القرآن ولغاية‬ ‫رسالة التذكير أعني مسألة هذه المحاولة الأخيرة‪.‬‬ ‫ولست غافلا عن كوني اعكس العلاج الفلسفي التقليدي‪ .‬فكما اقلب حل الكلام الذي يقيس الغائب‬ ‫الغيب على الشاهد الحسي فاجعله قيس الشاهد على الغيب أقلب البحث عن حل المعضلات‬ ‫الدينية في ما يتوهم حلا فلسفيا بالبحث عن حل المعضلات الفلسفية في ما أعتقد أنه محيرات‬ ‫الديني‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪54‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫• فالمشكل الأول الذي كان حله الهوسرلي فاسدا عنونته بما يبدو خلطا بين فلسفة النظر‬ ‫وفلسفة الديني فسميته‪\" :‬النظر والعقد\"‪.‬‬ ‫• والمشكل الثاني الذي كان حله الكنطي فاسدا عنونته بما يبدو خلطا بين فلسفة العمل‬ ‫وفلسفة الديني فسميته‪\" :‬العمل والشرع\"‪.‬‬ ‫• وهذا هو موضوع هذه المسألة الأخيرة من بحثنا‪ .‬ويكفي شرح التسميتين أي القصد من‬ ‫الجمع بين النظر والعقد في فلسفة النظر ونظرية المعرفة وبين العمل والشرع في فلسفة‬ ‫العمل ونظرية القيمة‪.‬‬ ‫فهوسرل كتب محاولاته في المنطق قبل كتابه في الفينومينولوجيا الذي نقلته إلى العربية‪ .‬وكل‬ ‫الاشكال في بحوثه المنطقية يرد إلى مشكل وحيد هو علاج شروط التمييز بين النفسي وما ليس‬ ‫بنفسي في المعاني والتصورات العلمية التي هي أصل أحكام المنطق وكل معرفة علمية‪ .‬وكتب‬ ‫محاولاته في الفينومينولوجيا وكل الإشكال هو التمييز بين إدراك العيني حسيا وإدراك المعاني‬ ‫الكلية حدسيا‪ .‬وفي المرتين غاب عن ذهنه اساس حليه‪ :‬فما اساس الفرق بين العيني المدرك حسيا‬ ‫والكلي المدرك حدسيا (ما يسميه حدس الماهيات)؟‬ ‫وكيف انقلبت العلاقة فصار المدرك حسيا من المعاني العينية هو المتعالي على المدرك حدسيا من‬ ‫المعاني الكلية؟‬ ‫ثم من أين جاء الاعتقاد في أن الثانية مطابقة للأولى حتى وإن لم تستوعبها كليا؟‬ ‫فما علة غياب الجواب عن سؤل اساس التفريق وادعاء المطابقة؟ إنها وهمه الذي أكد عليه في‬ ‫الفينومينولوجيا‪ :‬وحدة العالم التي هي أساس نقد هيجل لكنط رغم أن كنط لم يزعم تعدد‬ ‫العوالم حتى وإن كان استثناء الإنسان من الضرورة لتأسيس الحرية فيه على الاقل ثنائية العالمين‬ ‫الشاهد والغيب (موضوع الإيمان المؤسس على المسلمات)‪ .‬فعبارة هيجل \"لا وجود لما هناك بالمقابل‬ ‫مع ما هنا\" أو بلغة أخرى \"الواقع عقل والعقل واقع\" هي اساس ادعائه الوصول إلى العلم المطلق‬ ‫فلسفيا (فينومينولوجيا الروح) والمصالحة دينيا (دروس فلسفة الدين وخاصة أدلة وجود الله في‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪55‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫الضميمة)‪ .‬لكأن المفهومين عقل وواقع معلومان‪ .‬كل أخطاء الفكر الفلسفي مصدرها هذان‬ ‫الوهمان‪ :‬لا نعلم ما العقل ولا خاصة ما الواقع‪:‬‬ ‫• وقد رد ابن خلدون كل أوهام الكلام والفلسفة إلى زعم المطابقة بين ما ندركه منا لوجود‬ ‫والوجود في النظر ورغم المطابقة بين ما نريده من ا لمنشود والمنشود في العمل‪.‬‬ ‫• وقبله رد ابن تيمية كل أوهام الكلام والفلسفة والتصوف الذي هو مزيج منهما إلى زعم‬ ‫العلم محيطا والإرادة شاملة‪ .‬فوضع نظرية امتناع المطابقة فيهما معا‪.‬‬ ‫• لأن الأولى تشترط المستحيل إذ العلم المحيط بالعيني يقتضي الإحاطة بكل الوجود للترابط‬ ‫بين الموجودات‪.‬‬ ‫• والعمل الشامل مستحيل لأنه يقتضي الإحاطة بكل الفواعل في العالم الطبيعي والتاريخي‬ ‫والعضوي والروحي‪.‬‬ ‫فإذا ميزنا المعاني الكلية عن المعاني النفسية أي ما ندركه مما لا يحس عما ندركه مما يحس أو‬ ‫الفرق بين الإدراك العقلي والإدراك الحسي فلا بد من أساس لهذا الفرق وخاصة للتوحيد بين‬ ‫الإدراكين شرطا لحقيقة العلم في النظر وشرطا لتحققها في العمل‪ .‬فمن أين نأتي به؟‬ ‫من أين يأتي الفرق بين الإدراكين الحسي والعقلي؟ وكيف نعلل المطابقتين؟‬ ‫بصورة اوضح‪ :‬ما حقيقة المعاني الرياضية بالمقارنة مع الحقائق الطبيعية؟ وما حقيقة المعاني‬ ‫القيمية بالمقارنة مع الأحداث التاريخية؟‬ ‫وبصورة أكثر وضوحا في المسألة الدينية التي تهتم بعلاقة المعاني القيمية بالمعاني التاريخية‬ ‫المقدمة على المسألة الفلسفية التي تهتم خاصة بعلاقة المعاني الرياضية بالمعاني الطبيعية وسؤالها‬ ‫هو‪ :‬ما حقيقة المعاني القيمية الخلقية خاصة بالمقارنة مع المعاني التاريخية السياسية خاصة؟‬ ‫والقرآن يجمع بين المسألتين لأنه يقدم حلا للأولى بالقول إن كل شيء خلق بقدر وإن عمل‬ ‫الإنسان في التاريخ ضبط بأمر فجمع بين الفلسفي والديني‪ .‬ولما تكلم ابن تيمية على الفرق بين‬ ‫علم المعاني المقدرة ذهنيا في النظر وعلم الأعيان الوجودية في خارج الأذهان فاعتبر الأول برهانيا‬ ‫وكليا ومحضا ونفي عن الثاني هذه الصفات‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪56‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫• فهل يمكن عندئذ التفريق بين الذهني والنفسي إذا حصرنا وجودها على كونها مقدرات‬ ‫ذهنية؟‬ ‫• أم إن للمقدرات الذهنية معنى متجاوز للنفسي؟ وما طبيعته إن كان فعلا متجاوزا للنفسي‪.‬‬ ‫• وقياسا عليه بالنسبة على القيم فيم هي لا ترد إلى النفسي؟‬ ‫ولما قست على معاني ابن تيمية المقدرة ذهنيا في النظر ووضعت نظائر لها في العمل معتبرا‬ ‫القيميات في العمل وتطبيقها على التاريخ مثل الرياضيات في النظر وتطبيقها في الطبيعيات‬ ‫تساءلت عن طبيعة وجود النوعين أي المقدرات الذهنية النظرية والمقدرات الذهنية العملية‪ :‬لو‬ ‫كانت نفسية لفسدت نهائيا ولاستحال الكلام على النظر والعقد وعلى العمل والشرع كلاما يفيد‬ ‫أنهما لا يردان إلى النفسي من الإدراك بل لهما شيء من \"الموضوعية\" ومن الموضوعية المتجاوز لما‬ ‫يسمى المشترك بين الذوات\"‪ \"Intersubjectif‬مع العلم باستحالة تبين ذلك بالمطابقة لاستحالة‬ ‫أن تجد في الطبيعة ما يطابق المعاني الرياضية وفي التاريخ ما يطابق المعاني القيمية‪.‬‬ ‫هوسرل يزعم أن إدراك الماهيات الجوهرية الكلية‪-‬الايدوس‪-‬ليس نفسيا وأنها ذات وجود معياري‬ ‫في ذاتها ليؤسس المنطق والعلم‪ .‬ويقول بوحدة العالم فيبقى لغز طبيعتها لأنها إذا لم تكن نفسية‬ ‫ولم تكن مستمدة من التجربة كما يقول التجريبيون ‪-‬وهو حاسم في رفض التجريبية‪-‬فلابد من‬ ‫تعليل مقبول عقلا يعين أصلها‪ .‬وإذن فهو قد قبل الحل الهيجلي \"قطوس في شكارة\" الحل الذي هو‬ ‫القول البارمينيدي \"الواقع هو العقلي\" \"والعقلي هو الواقعي\" دون أن نعلم حقيقة الواقع وحقيقة‬ ‫العقل ما هما‪ .‬وهو ما يرده ابن تيمية إلى القول بـ\"الإنسان هو مقياس كل شيء\" موجوده‬ ‫ومعدومه أي جوهر القول السوفسطائي بل هو دونه لان السوفسطائيين لا يستنتجون المطابقة من‬ ‫هذا الرأي بل يجزمون بأن ما يتجاوز ذلك لا يمكن علمه‪ .‬وهم أذن أكثر تواضع من أفلاطون‬ ‫وارسطو الذين كانوا يتصورن العقل مرآة عاكسة‪.‬‬ ‫الواقع والعقل كلاهما مجهول والتوحيد بينهما مصادرة على المطلوب في إشكالية نظرية المعرفة‪.‬‬ ‫وإذن فحل هوسرل أساسه نفي الثنائية الكنطية بدون دليل لأن العقل والواقع كلاهما مجهول‬ ‫ناهيك عن التوحيد بينهما‪ .‬واساس التوحيد هو وهم وحدة العالم ورده إلى العالم المدرك حسيا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪57‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫بإضفاء التمام عليه عقليا لأن كل معنى ندركه عقليا يقابله معنى حسي لا ندرك منه إلا بعض‬ ‫وجوهه ونستكمله بالمعنى العقلي استحضارا لما ليس حاضرا في الإدراك الحسي‪ .‬وإذن فالنظر‬ ‫عنده لا يؤدي إلى العقد فحسب بل هو مستحيل من دون عقد سابق عليه دون تعليل العقد‪ :‬العقد‬ ‫الهيجلي بوحدة العالم وبنفي وجود عالم آخر وراءه متعال عليه وتوهم التاريخ الحكم النهائي أي‬ ‫نفي مسلمات كنط الثلاث التي تضمر اثنتين اخريين‪ .‬فلسفة هوسرل مستحيلة الفهم دون هذين‬ ‫الضميرين الهيجليين‪.‬‬ ‫فيتبين حل هوسرل تحقيقا لفكرة هيجل في نقد حل كنط‪ .‬ويتبين فساده لاعتقاده في فساد الحذر‬ ‫الكنطي القائل بالمسلمات وعدم تعريفها الحقيقي بكونها موقفا دينيا‪ .‬وفي الحقيقة كانت اعترف‬ ‫بذلك ضمنيا لما استعمل كلمة الإيمان إذ قال في مقدمة الطبعة الثانية من نقد العقل الخالص‪\":‬‬ ‫اضطررت للحد من قدرات العقل للإبقاء على محل للإيمان\" وكان يعني أن لجوؤه إلى المسلمات‬ ‫بالمعنى الرياضي للكلمة أي وضع مقدمات لا دليل عليها من شروط بناء النسق الإيماني لتأسيس‬ ‫الفلسفة العملية والأخلاق وشرطها استثناء الإنسان من الضرورة الطبيعية‪.‬‬ ‫ولا يظنن أحد أن حل كنط ينسب الإيماني بتأسيسه على مسلمات ليطلق العلمي بل هو نسب‬ ‫ألعلمي تنسيبه للإيماني بل وأكثر لأن الحد منه جعله مقصورا على الظاهرات دون العقليات أو‬ ‫دون ما هو في ذاته‪ .‬والمسلمات مفهوم رياضي من جنس المسلمة الخامسة وهي تعني ما يعتبر بدهيا‬ ‫ويقبل دون حاجة للبرهان عليه إما لبداهته واستغنائه عن الدليل أو لاستحالة البرهان عليه‬ ‫وتبين لاحقا أنه شرط نظام أقليديس الهندسي (مفهوم المتوازيات) وأن تعدد الهندسات ممكن‬ ‫ويترتب عليه تعدد الأنساق الرياضية كما حصل في الهندسات غير الاقليدية‪.‬‬ ‫فيكون تعدد الأديان من جنس تعدد الهندسات بسبب تعدد المسلمات التي تؤسسها‪ .‬والفرق هو‬ ‫طبيعة المسلمات فهي رياضية كما في العلوم الطبيعية وهي قيمية كما في العلوم الدينية‪ .‬ولما كانت‬ ‫العلوم الإنسانية جامعة بينهما فهي بحاجة إلى نوعي المسلمات لإن الإنسان كائن طبيعي ببدنه وما‬ ‫بعد طبيعي أو \"مستقل\" عن الضرورة الطبيعية بروحه شرطا في تأسيس ا لأخلاق‪ .‬والمسلمات‬ ‫الكنطية الثلاث‪-‬الإنسان حر والنفس خالدة والله موجود‪-‬تقتضي وجود مسلمتين اخريين‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪58‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫فالخلود اخروي وهو إذن تضمر مسلمة رابعة هي البعث لتحقيق العدل التام‪ .‬وفي ذلك اضمار‬ ‫لمسلمة خامسة هي الحساب الذي يحقق العدل التام‪ .‬وبذلك يتبين أن تأسيس كنط للأخلاق ديني‬ ‫بإطلاق بخلاف تخريف البعض ممن يدرسون الفلسفة بمنطق \"ويل للمصلين\" لعشقهم الكذب على‬ ‫أنسفهم قبل غيرهم بدعوى نقد النقد الكنطي دون فهمه‪.‬‬ ‫ففيم يتمثل فساد الحل الكنطي؟ في المقابلة بين الظاهرات الإضافية إلى الإنسان (الفينومان)‬ ‫والعقليات \"الموضوعية\"(النومان)‪ .‬وهي مقابلة تضمر الوحدة بين الأمرين مستنتجة من الاعتقاد‬ ‫في وحدة العالم الذي لا يتعدد في ذاته بل بالإضافة إلى الإنسان وبحجة ينفيها نسقه إذ هو جعل‬ ‫العلية مستثناة من رؤيته النقدية لما زعم انه لا يمكن أن يظهر ما ليس له ما يظهر وراءه‪.‬‬ ‫والفساد هو في التمييز بين الذاتي والموضوعي بخدعة لا معنى لها‪ .‬لأن ذلك يستثني العلم بالعلم‬ ‫أي النقد الكنطي نفسه من كونه ذاتيا وليس موضوعيا مثل معارفنا الأخرى‪ .‬فعلمنا بعقلنا‬ ‫وبحدوده ذاتي أيضا‪.‬‬ ‫كل الجهد الكنطي لحل مشكل المعرفة ببيان امتناع المطابقة والانتهاء إلى أن المعرفة الإنسانية‬ ‫ذاتية بإطلاق وأن حقيقة الأشياء في ذاتها محجوبة عن الإنسان الذي يؤمن بوجودها ويعلم أنه لا‬ ‫يعلمها حل مفيد فلسفيا ودينيا‪ .‬لكنه حل فاسد فلسفيا فضلا عن ضرره الديني‪ .‬ففعل النقد هو‬ ‫بدوره من جنس علم الأشياء إذ لا علة لاستثناء علمنا بعقلنا وحدوده من علمنا بالأشياء فهو شي‬ ‫وهو أيضا فينومان وليس نومان‪ .‬فهو علم \"شيء\" هو \"قدرات العقل\" في ظاهرها وليس في حقيقتها‬ ‫في ذاتها‪ .‬فحكمه فيها ذاتي كذلك بمعنى أن علم العقل بذاته ليس علما به في ذاته‪ .‬وهو إذن‬ ‫مجهول مثله مثل كل الأشياء‪ .‬ومعنى ذلك أن علمنا بذواتنا هو بدروه علم ذاتي وليس موضوعيا‪.‬‬ ‫وكل ما يظنه هيجل ذكاء في دحض التمييز الكنطي بين الظاهرات والعقليات أو الشيء في ذاته‬ ‫من معتقدات هيجل التي هي وهم لأن الوجود يرد إلى الإدراك بما في ذلك وجود الذات وجودها‬ ‫الذي لا يرد إلى إدراكها لذاتها‪ .‬واعتقاد المطابقة بينهما هو ما اعتبره ابن خلدون وهم الفلاسفة‬ ‫والمتكلمين الاكبر‪ .‬ومن هنا جاء تلاعب هيجل على معنى الذي في ذاته والذي بذاته والذي‬ ‫بغيره‪ .‬فعلمي بذاتي ليس في ذاته ولا بذاته‪ .‬بل إضافي إلى إدراكي لذاتي الذي هو ليس محيطا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪59‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫بذاتي ولا مستوعب لكل كياني‪ .‬وهي مداورة لتاسيس خرافة العلم المطلق التي بنى عليها هيجل‬ ‫فينومينولوجيا الروح الذي يرد إليه روح الله الحالة في المسيح‪ :‬هيجل اعتبر الثيولوجيا المسيحية‬ ‫حلا لإشكالية فلسفية بالمصادرة على المطلوب‪ .‬فرد العلم إلى العقد دون الاعتراف بأن المسألة‬ ‫صارت عقدية ولم تبق فلسفية بمعنى أن التسليم بالحل صار تحيلا للوعي بأنها لا حل لها‪ :‬وإلى‬ ‫ذلك ترد كل حيل هيجل التي كان لا بد من وضع منطق يجيزها وهو منطق الجدل الذي هو‬ ‫ميتافيزيقاه جمعا بين بارمينيدس وهرقاليطس‪ .‬وهو في الحقيقة لاهوته‪.‬‬ ‫وهذا العلم المطلق في فينومينولوجيا الروح هو عينه الدين المطلق في دروس فلسفة الدين كما بينت‬ ‫في مقدمة ترجمتي لدروسه وخاصة للضميمة التي اعتبرتها جزءا من القسم الأول الذي أسس به‬ ‫هيجل فلسفته في الدين وضممتها إليه‪ .‬ذلك أن القول إن الإلهي تصالح مع الواقع الطبيعي ومع‬ ‫روح الإنسان فحل في الطبيعة وفي المسيح رمزا للإنسان لا يبعد عن اساطير الأولين لأنه لا يحل‬ ‫مشكل كنط الذي هو مشكل حقيقي لا شك فيه حتى وإن شابه خطأ الاضمار القائل بوحدة العالم‬ ‫بمعنى أن الظاهرات هي ظاهرات الباطنات من نفس العالم‪ .‬وهذا هو المشكل في حل كنط‪ :‬كيف‬ ‫نعلم أن الظاهرات هي ظاهرات نفس الشيء الذي نفترضه ظاهرا فيها وأنهما من نفس العالم؟‬ ‫فلو اعتبرت بدني هو ظاهر روحي فما يدريني أنهما من نفس العالم وأني لست منتسبا إلى عالمين‬ ‫مختلفين جوهريا؟‬ ‫وما يتجاهله المتعجلون في قراءة تاريخ الفلسفة هو أن هيجل لم يقدم جديدا في الحقيقة‪ .‬فحله‬ ‫هو عين حل بارميندس ممزوج بالهرقليطية‪-‬أي التوحيد بين مضمون الشذرة الخامسة كما شرحت‬ ‫ذلك في كلامي على الارشيتاكتونك في إحدى محاضراتي في بيت الحكمة وبين التناقض المعلل‬ ‫للصيرورة‪ .‬فهو يزعم أن النفاذ الوحيد إلى الوجود هو العقل مثل بارمينيدس ولكن بالمعنى‬ ‫الهيجلي (شرحت ذلك في بيان المقابلة الهيجلية بين الفرشتند والفارنونفت وأثرها على المقابلة‬ ‫بين القضية الحملية والقضية التأميلة عنده‪-‬ومن ثم فهما شيء واحد عنده وكل ما عدى العقل‬ ‫بهذا المعنى هو طريق الضلالة (الشذرة الخامسة) دون أن يحدد أي عقل مع اضمار أن هذا العقل‬ ‫هو عقل الرب لأن المتكلم في قصيده التعليمي عقل إلاهة بخطاب يتلقاه عقل الإنسان‪ :‬ولذلك‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪60‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫استعمل هيجل مفهوم الروح بدل العقل في فينومينولوجيا الروح وهو مفهوم ديني وليس فلسفي‪:‬‬ ‫وتلك هي العلة في كون حله يرد إلى روحنة حل سبينوزا بتذويت الجوهر‪.‬‬ ‫وبذلك نعود إلى ديكارت‪ .‬فهو لم يعد لحل كنط ولم يقدم له حقا ولم يؤسس لحل هيجل ناقدا‬ ‫لكنط حقا لأنه وضع حل المعاني الفطرية التي يمكن اعتبار حل هوسرل عودة إليها‪-‬بمعنى حدس‬ ‫الماهيات الذي يقول به أرسطو في الفصل الأخير من التحليلات الأواخر‪ -‬رغم ادعائه ذلك في‬ ‫محاضراته \"الديكارتية\" في السوربون بل يبقى المشكل بلا حل في إطار هذا المربع وتبقى‬ ‫اعتراضات يعقوبي وتلعثمات الحلول لما يسمى مشكل سبينوزا قائمة باعتبارها جوهر الصراع بين‬ ‫علم الكلام العقلي الذي دحضه كنط والنقد الكنطي الذي صار مركز الاعتراضات على المسألة‬ ‫السيبنوزية ومحاولات دفاع ابن مندل عنها‪ .‬لذلك فقد لا يكون لها من حل غير الاعتراف بأنه‬ ‫مشكل ليس له حل إلا بالمعنى الذي مال إليه ديكارت‪ :‬اعتبار المسألة مسألة اعتقاد في خيار إلهي‬ ‫فيكون حلا دينيا حتى وإن لم يصرح ديكارت بذلك لأنه في الحقيقة جوهر العقيدة الجنسينية التي‬ ‫تواصلت حتى عند باسكا (وحتى نيوتن كان ميالا إلى هذا الحل)‪.‬‬ ‫ودون إحالة إلى خرافة تأثر ديكارت بالغزالي ‪-‬وهي خرافة لا أصدقها حتى لو صح أنه اطلع على‬ ‫المنقذ من الضلال للفرق الجوهري بين التوجهين‪ :‬الغزالي يعالج إشكالية شك وجودي فعلي يمكن‬ ‫أن تكون دافع البحث وليست موضوع البحث وديكارت يعالج إشكالية الشك وشروط الخروج منه‬ ‫ليس بوصفه مشكلا وجوديا لتأسيس المعرفة العلمية‪ .‬فالحل الذي قدمه ديكارت مبني على نظرية‬ ‫المعاني الفطرية‪-Idées innées-‬وهو يعتبرها إيمانية لكنه لا يهتم بها إلا لعلاج مشكل‬ ‫تأسيس العلم والقول بالفطري ليست مسألة عقلية بل هي مسألة عقدية كما هو بين من أجوبته‬ ‫على المعترضين إذ اعتبرها خيارات إلهية حرة لنظام الوجود كله‪.‬‬ ‫حل الغزالي بفكرة \"عادت الثقة في الأوليات بنور قذفه الله في القلب\" في المنقذ من الضلال حل‬ ‫صوفي (نور القلب) يعتمد على معنى أرسطي (أوليات) وهو جمع سينوي مزيج بين الكلام والفلسفة‬ ‫وليس حلا فلسفيا بالمعنى الحديث في تأسيس نظرية المعرفة الديكارتي‪ .‬فالقصد بالنور هو الكشف‬ ‫وليس ذلك قصد ديكارت بل قصده ما جعله اساسا لكل فلسفته أي المعاني الرياضية التي بنى عليها‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪61‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫نسقه الفلسفي بديلا من الميتافيزيقا والمنطق الأرسطي ولذلك سميتها\"‪ \"Meta-éthique‬في‬ ‫مقالتي حول ديكارت وهي منشورة بالفرنسة واعتد أني ترجمتها إلى العربية ونشرت منذ عقود في‬ ‫مجلة مطاع صفدي (ليس لي معلومات دقيقة حول تاريخ النشر)‪.‬‬ ‫فالمعاني الرياضية والمعاني القيمية التي هي مقدرات ذهنية في الحالتين معرفية في الاولى وقيمية‬ ‫في الثانية لا تقبل الوصف بالذاتية ولا بالموضوعية إذا قابلنا بين المعنيين لأننا لا نعلم معناهما أولا‬ ‫إذ الموضوعي يعني الشيء في ذاته أو \"الواقع\" والذاتي يعني ما يعود إلى عقل الإنسان ولا نعلم‬ ‫ما يعود إليه إلا توهما وسلبيا بالمقابلة بين الحسي والعقلي‪ .‬ولا نعلم حقيقة الحسي ولا حقيقة‬ ‫العقلي إلا كما نعلم غيرهما من الأشياء ومن ثم فكل المعنى الكنطي علته أن توهم أن علمنا بهما‬ ‫يختلف عن علمنا بغيرهما من الأشياء‪ .‬علمنا بعلمنا حسيا كان أو عقليا لا يختلف عن علمنا بغيرهما‬ ‫من الأشياء‪ .‬وهم المطابقة بين الذات وعلمها بذاتها نفي لما يسميه القرآن السرائر‪.‬‬ ‫فحتى المقابلة بين الحسي والعقلي من الحمق عدم الاعتراف بأننا نجهل طرفيها ونجهل خاصة‬ ‫طبيعة العلاقة بين كياننا البدني وكياننا الذي يعي به والذي نسميه عقلا أو روحا أو ما شئت من‬ ‫الأسماء‪ :‬فما الحسي وهو في علاقة مباشرة بكياننا البدني؟ وما العقلي وهو في علاقة مباشرة‬ ‫بوعينا أو بما نسميه روحا من كياننا؟ كلاهما إدراك لذواتها ولغيرها من الموجودات لكن لا شيء‬ ‫يبين أن الثاني أكثر \"كثافة\" وجودية من الأول‪ .‬فالثابت أننا نشك في الوجود العقلي وقلما نشك‬ ‫في الوجود الحسي ونحاول دائما الاحتكام إلى الثاني في علمنا الذي نصل إليه بالأول‪ :‬وهو معنى‬ ‫اللجوء إلى التجربة في تعيير الفرضيات العقلية‪.‬‬ ‫فما مصدر توهمنا أن العقلي أكثر \"موضوعية\" ونحن لا نعلم معنى الموضوعية دون ردها إلى شهادة‬ ‫التجربة الحسية؟ ولذلك انتهت نظرية المعرفة إلى اعتبار الموضوعي هو المشترك بين‬ ‫الذوات‪ Intersubjectif‬أي شهادة حسية لكثير من الأشخاص فيكون الامر وكأنه خبر يعير‬ ‫بتعدد الشهود‪ .‬لكن كيف يحصل المشترك بين الذوات؟ هو مفهوم قريب من مفهوم الاجماع في‬ ‫اصول الفقه‪ .‬والمعلوم أن الاجماع لا يحصل فعليا أبدا‪ .‬لا يوجد شيء تجمع عليه الذوات إلا إذا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪62‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫كان القصد نوعا من الذوات التي لها سلطان القرار والتحديد‪ .‬فننتقل من العلم إلى سطلة‬ ‫العلماء‪.‬‬ ‫فيصبح الموضوعي مفهوما سلطانيا وليس مفهوما معرفيا أو بصورة أدق تأسيسا لسلطة العلماء وهي‬ ‫كنسية العلماء‪ .‬ومعنى ذلك أنه في لحظة من لحظات تاريخ المعرفة الإنسانية يوجد من يؤدون دور‬ ‫\"الكنسية\" المعرفية يعتبرون وسطاء بين الإدراك الإنساني العادي وإدراك من هم في صلة مباشرة‬ ‫مع \"الموضوعي\" يعينونه لغيرهم تماما كما تفعل الكنيسة كسلطة روحية‪ .‬وهذه الكنسية هي التي‬ ‫تؤسس نظرية أفلاطون في ضرورة أن يكون الحاكم فيلسوفا‪ :‬والاساس ليس معرفيا فحسب بل هو‬ ‫قيمي كذلك بمعنى أن الفيلسوف يحدد الحقيقة والقيمة بدعوى نفاذه إليهما نفاذا مطابقا‪.‬‬ ‫شارف الفصل الخامس على النهاية ولم اتطرق بعد للمشكل في الرسالة الخاتمة لأني اسهبت في‬ ‫الكلام على المشكل في وجهه الفلسفي الحديث‪ .‬والاسهاب لم يكن استطرادا بغير قصد بل هو‬ ‫لتحرير فكر الشباب المسلم من خرافات باعة الفريب الغربية في الفكر الفلسفي الذي لا أميز فيه‬ ‫بن غربي وشرقي‪ .‬لا فيه ولا في الدين‪ :‬لأفكر إلى كوني وإنساني مهمتا تعدد التلوينات‬ ‫الاسلوبية‪ .‬وما كنت لأفعل لو لم يكون ضروريا لفهم القصد من الواحد بين الديني والفلسفي في‬ ‫كل تاريخ الإنسانية كلما تعلق الأمر بغاية الرسالة التي وظيفتها تذكير الإنسان بجهازيه اللذين‬ ‫يحقق بهما مهمتيه قرآنيا‪ :‬النظر والعقد لأن الخلق بقدر(رياضيات أداتية) والعمل والشرع لأن‬ ‫الأمر بحكمة (قيميات غائية)‪.‬‬ ‫فالمهمة الأولى هي ما يترتب على استعمار الإنسان في الارض أي تحقيق التعمير بما جهز به فطريا‬ ‫من جهاز يمكنه من النظر والعقد شرط العمل على علم‪ .‬والمهمة الثانية هي ما يترتب على‬ ‫استخلافه في الأرض أي تحقيق قيم الاستخلاف بما جهز به فطريا من جهاز يمكنه من العمل‬ ‫والشرع شرط العمل بقيم‪ .‬والأول اجتهاد لطلب الحقيقة والثاني جهاد لتحقيقها‪ .‬وسواء كان‬ ‫الإنسان مؤمنا أو ملحدا صالحا أو طالحا فإن أدواته تعود إلى النظر والعقد وغايته إلى العمل‬ ‫والشرع سواء كان صادقا أو منافقا‪ .‬ولذلك فالقرآن ليس خطابا للمؤمنين بل لكل البشر من آمن‬ ‫ومن ألحد‪ :‬وكل ذلك ضمن العلاقة بين الضرورة الشرطية والحرية الشرطية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪63‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫فيكون مضمون الرسالة من حيث هي تذكير هو عين ما جعل الشافعي يعتبر سورة العصر تتضمن‬ ‫القرآن كله‪:‬‬ ‫‪ .1‬الوعي بالخسر‬ ‫‪ .2‬الإيمان‬ ‫‪ .3‬العمل الصالح‬ ‫‪ .4‬التواصي بالحق‬ ‫‪ .5‬التواصي بالصبر‪.‬‬ ‫وتلك هي شروط الاستثناء من الخسر أي شروط تحقيق المهمتين تعميرا واستخلافا في التاريخ‬ ‫الفعلي‪ :‬إنه جوهر مضمون الرسالة‪ .‬وبذلك فالقرآن جواب عن الأسئلة الخمسة التالية‪:‬‬ ‫• ما الوعي بالخسر ولم هو شرط الشروع في تحقيق الإنسانية؟‬ ‫• ما معنى الإيمان بالإيجاب أو بالسلب لأن الملحد مؤمن سلبا أي إنه يؤمن بعدم وجود الله؟‬ ‫• ما معنى العمل بالإيجاب وبالسلب أي العمل الصالح والعمل الطالح؟‬ ‫• ما معنى التواصي بالحق وعكسه التواصي بالباطل لتحقيق غاية التواصي في الحالتين؟‬ ‫• وأخيرا ما معنى التواصي بالصبر لتحقيق الحق أو لتحقيق الباطل؟‬ ‫وهذه الشروط الخمسة للاستثناء من الخسر هي التي تحررنا من‪:‬‬ ‫• القول بالمطابقة في نظرية المعرفة‬ ‫• القول بالمطابقة في نظرية القيمة‬ ‫• القول بالنظام الطبيعي الاتفاقي دون تعليل لقابليته للعلم بالمقدرات النظرية والتجربة‬ ‫• القول بالنظام التاريخي الاتفافي دون تعليل لقابليته للعلم بمثيلها‪.‬‬ ‫• القول بوحدة العالم الشاهد واكتفائه بنفسه‪.‬‬ ‫والمسألة الأخيرة هي الأهم‪ .‬فالقول بوحدة العالم وحصرها في عالم الشهادة ونفي ما يتعالى عليه‬ ‫حاول ديكارت وكنط التحرر منه وفشلا وجاء هيجل وهوسارل ليدعيا أن العلم المطلق والدين‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪64‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫المطلق يردان في الغاية إلى القول بوحدة الوجود الطبعانية سبينوزيا وماركسيا أو وحدة الوجود‬ ‫المذوتة هيجليا وهوسارليا‪ .‬وهذا يتبين أن ما ظن استطرادا فلسفيا لم يكن مطلوبا لذاته بل‬ ‫الهدف منه مضاعف‪ :‬تحرير الشباب من باعة الفريب الفلسفي واعادة الفكر إلى جوهره الكوني‬ ‫بحثا عن فهم الموجود والمنشود ليس في كيان الإنسان وحده بل في كل ما يحيط به كذلك‪.‬‬ ‫سنضطر إذن إلى المزيد من الفصول ولا أدري كم سيكون عددها‪ .‬كنت أظن هذا الخامس هو‬ ‫الاخير فتبين أنه فاتحة لما قد يكون بعدد ما تقدم‪ .‬لن يكفينا فصل واحد ولا اثنين لذلك فلن‬ ‫نتوقف حتى نفي الإشكالية حقها مهما طالت لأن الإسلام ظلمه أهله عندما حرفوه بقصد أو بغير‬ ‫قصد وبظلمه حرمت الإنسانية من نعم الله عليها إذ أنزل القرآن فيه دواء وشفاء لكل أدوائها‪.‬‬ ‫ولا يمكنني بيان ذلك من دون اعادة النظر في تاريخ العلاقة بين الفكرين الفلسفي والديني وبيان‬ ‫ما يمثل جوهرهما الواحد طلبا لعلاج نفس المعضلات المعرفية والقيمية‪ .‬وقد سبق فكتبت في‬ ‫وحدتهما لكن البحث كان شديد الوجازة وعديم التأسيس الذي يرضيني حقا‪.‬‬ ‫فهو تأسيس غير كاف ولا شف لأنه لم يبين علل فشل الحضارة الإسلامية في استثمار ما تضمنه‬ ‫القرآن مما كان يعسر ألا يراه حتى العميان لفرط وضوحه وبينونته للسامعين‪ .‬وهذا الوجه‬ ‫الخفي مما حيك للإسلام وللأمة من فخاخ وقعت فيها وما تزال خطاها تتعثر في ما هو دونها حبكة‬ ‫أعني الفتنة الصغرى بعد الكبرى‪ .‬وقد آليت على نفسي علاجها بما من الله علي به من \"غرام\"‬ ‫بمحاولة فهم القرآن بوصفه هو هذا الواحد بين الديني والفلسفي شكلا وبين فلسفة الدين‬ ‫وفلسفة التاريخ مضمونا‪.‬‬ ‫والفتنة الصغرى ‪-‬العلمنة والقومجية‪-‬ذات حبكة أدنى ليس بإطلاق من حبكة الفتنة الكبرى بل‬ ‫بالإضافة إلى العصر الحالي وإلى المسلمين الحاليين خاصة‪ .‬ففي الكبرى ‪-‬البطننة والتشيع ‪-‬لم‬ ‫يكن للمسلمين دراية كافية بأعدائهم الذين اخترقوا صفوفهم وحرفوا قيم الاسلام ومعانيه‪ .‬أما‬ ‫اليوم فإن بين المسلمين من لهم دراية بالأعداء‪ .‬وهما كان عددهم قليلا فإن كفاءتهم كافية‬ ‫لتفكيك الاستراتيجية المحاربة للإسلام ليس من باب رد الفعل بل بالفعل الموجب والراشد الذي لا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪65‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫يعتبر العدو هو غير مطلق بل هو نفسه ضحية لما يحارب به الاسلام من سلوب المعاني الإيجابية‬ ‫الخمسة في سورة العصر‪.‬‬ ‫وصلة‬ ‫توقعت أن فصلا واحدا يمكن أن يفي بالغرض لختم هذه المحاولة‪ .‬لكن كتابته وتعقيده جعلاه‬ ‫يتحول إلى خمسة فصول اقتضى الانتقال إليها هذه الوصلة التي تربط بين الفصول العشرة التي‬ ‫تم انجازها والفصول الخمسة التي اضطررت لإضافتها حتى تكون المحاولة موفية بغرضها‪ .‬وتلك‬ ‫علة التراخي في نشر شيء منه فضلا عن الاحداث المتسارعة التي حالت دون اتمامه‪ .‬لذلك‬ ‫فالخاتمة ما تزال بعيدة لأن المحاولة تحتاج إلى خمسة فصول حتى تفي بغرضها‬ ‫‪ .1‬فصل تمهيدي أحسم فيه مسألة المقدرات الذهنية وعلاقتها بإشكاليتي نظرية المعرفة‬ ‫ونظرية القيمة‬ ‫‪ .2‬إشكالية الموقف من الإسلام في فكر حركة الإصلاح الديني والسياسي في الحداثة الغربية‬ ‫وسأعنونها بقضية الإصلاح‬ ‫‪ .3‬إشكالية الموقف من القضاء والقدر في فكر لايبنتس ورد محمد اقبال عليه‬ ‫‪ .4‬إشكالية فلسفة كنط بوصفها التأسيس الابستمولوجي والاكسيولوجي للإصلاح اللوثري‬ ‫‪ .5‬اشكالية النكوص الهيجلي إلى علم الكلام الوسيط والفلسفة القديمة القائلين بالمطابقتين‬ ‫وبوحدة العالم المردود إلى عالم الشهادة وسأسميه بنظرية ا لمصالحة الهيجلية بين عالم‬ ‫الشاهدة وما ورائه‪.‬‬ ‫فتكون المحاولة مؤلفة من خمسة عشر فصلا ونحن قد وصلنا في الفصول العشرة السابقة إلى‬ ‫تحديد بيت القصيد منه والمتعلقة بإشكالية ترتبت على تحريف علوم الملة كلها بسبب قلب آل‬ ‫عمران ‪ 7‬وفصلت ‪ 53‬بجعل الأولى تأسيسا لحصر العلوم في تأويل نصوص القرآن والثانية حصر‬ ‫دلالة الآية في الموعظة بما يجري في الظواهر الطبيعية والوقائع التاريخية بمنطق القضاء والقدر‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪66‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫المفهومين فهما يحول دون فهم العلاقة بين حرية الخالق وحرية المخلوق أي القضية المركزية في‬ ‫الفكر الديني الإسلامي كما تعين في صراع الاعتزال والأشعرية حول أفعال العباد‪.‬‬ ‫لذلك فهذه المحاولة لا تفي بغرضها ما لم أعالج قضية القضاء والقدر بعد أن بينت فيها دلالة‬ ‫التقابل بين آل عمران ‪ 7‬وفصلت ‪ 53‬وبنظرية الواحد بين الفلسفي والديني في القرآن فتكون‬ ‫الخاتمة فلسفية بالجوهر ومن ثم فهي ذات طابع تقني‪ .‬لكن المسألة لا تكون فلسفية ودينية في آن‬ ‫إلا إذا أعدت صوغها بصورة تجعل اشكالية القضاء والقدر أو اشكالية افعال العباد من حيث هي‬ ‫جوهر علاقة فلسفة الدين بفلسفة التاريخ‬ ‫أي عين ما سميته مسألة العلاقة بين سياسة عالم الشهادة وصلتها برؤية أصحابها لما يمكن ان نسميه‬ ‫سياسة عالم الغيب التي تستمد منها المثل العليا علة لما بين الموجود والمنشود في حياة البشر من‬ ‫تفاضل لا متناه يجعل الإنسان ساعيا دائما إلى استكمال ذاته إذا تحرر من الإخلاد إلى الأرض‬ ‫ومن القول بالمطابقتين وبوحدة العالم المقصور على عالم الشهادة‪.‬‬ ‫وهي القضية التي يتحدد فيها تأويل رؤية المسلمين للقضاء والقدر رؤيتهم التي بنى عليها‬ ‫لايبنتس نقده لتصور المسلمين لها دفاعا عن نظريته في أفضل العوالم الممكنة والساعة التي تعدل‬ ‫مرة واحدة ثم تعمل بذاتها دون تدخل إلهي وردا عن اعتراضات بعض المدافعين عن رؤية نيوتن‬ ‫لها (كلارك)‪ .‬ولكن قبل الخصومة اللابنتسية النيوتونية في المسألة كانت حركة الإصلاح الديني‬ ‫قد هاجمت رؤية الإسلام واعتبرتها دالة على عقلانية شيطانية وقابلتها فسلفة التنوير فالتي‬ ‫توهمتها دالة على كون الإسلام دينا طبيعيا بدعوى أنه لا يتضمن ما ينسب إلى المسيحية من‬ ‫وساطة في التربية ووصاية في الحكم‪.‬‬ ‫وقبل الدخول في العلاج لا بد من الكلام على الدافع الراهن في الفاعلية التاريخية الإسلامية التي‬ ‫بدأت فكريا في حوار مع الفكر الغربي الحديث من منطلق مسالة القضاء والقدر عند محمد اقبال‬ ‫في رده على نظرية لايبنتس في \"الفاطوم الإسلامي\" والإشكالية التي بلغت الذروة في شعار الثورة‬ ‫المستمد من بيتي الشابي حول القضاء والقدر وقدرة الإرادة الإنسانية في التغيير التاريخي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪67‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫ويمكن القول إن الإشكالية الأصلية الأولى مدارها‪:‬‬ ‫‪ .1‬الموقف الذي كانت بدايته حركة الإصلاح وغايته حركة التنوير أي موقف لوثر من العقل‬ ‫وموقف كنط منه‪ .‬في علاقة بنظرية المعرفة وبنظرية القيمة وعلاقتهما بالموقف من الإسلام‬ ‫‪ .2‬الموقف الذي كانت بدايته حركة الصلح التي ترد على عليهما ردا من موقف لوثر في تعريف‬ ‫العقل وموقف كنط منه في علاقة بنظرية المعرفة وبنظرية القيمة وعلاقتهما بالموقف من‬ ‫الإسلام كذلك‪.‬‬ ‫كما يمكن القول إن الإشكالية الأصلية الثانية مدارها‪:‬‬ ‫‪ .1‬موقف لايبنتس من إشكالية أفعال العباد مع وصلها بإشكالية أفعال الله أو العلاقة بين‬ ‫الحريتين حرية الله وحرية الإنسان والنظامين الطبيعي والتاريخي أو قضية أفضل العوالم‬ ‫الممكنة وخصومته مع نيوتن ممثلا بممثله كلارك‪.‬‬ ‫‪ .2‬قصور رد محمد اقبال عليه لأنه يرد من منطق نظرية أرواح الشعوب الهيجلية دون فهم‬ ‫للعائق الذي يوجد في حل علم الكلام سواء اختار الاعتزال وهو أميل إليه أو الأشعرية‬ ‫وهي التي توصلت إلى نصف الحل‪.‬‬ ‫لكن الفصل التمهيدي وفصل الختام كلاهما من مجال آخر يتجاوز الخصومتين إلى المنظور الذي‬ ‫استنتجته من قراءتي للقرآن الكريم ومن نقدي للنكوص الهيجلي الذي حرف الفلسفة والدين في‬ ‫آن وانتهى إلى خرافة المصالحة التي تجعل الإنسان والله حبيسين في عالم الشهادة اعتمادا على‬ ‫كذبتي العلم المطلق (فينومينولوجيا الروح) والدين المطلق (فلسفة الدين)‪.‬‬ ‫أما القضايا الثلاث الوسيطة بين الفصل التمهيدي والفصل الخاتم فهي تهدف إلى الحسم في قضية‬ ‫جامعة يهملها كل من يريد أن يعتبر الغرب الحديث في قطيعة مع ما حدث في الحقبة الإسلامية من‬ ‫تاريخ الإنسانية لوصله المباشر بما قبل الإسلام كذبا وتزييفا للتاريخ تزييفا ما كان ليعنيني لو لم‬ ‫يصبح محددا لآفاق المستقبل‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪68‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫فقد صار الكثير من المنتسبين إلى حضارة الإسلام يعتبرونه مقتضيا القطع مع الإسلام والاعتماد‬ ‫على خرافتي العلم المطلق والدين المطلق بالمعنى الهيجلي صراحة والماركسي ضمنا وخاصة في ما‬ ‫يسمى بما بعد الحداثة التي هي غاية العلاج الهيجلي والماركسي رغم أن الكثير يتصور في قطيعة‬ ‫معهما لاعتماد على أكبر كذبة هي قطيعة نيتشة معهما‬ ‫سأعتمد النقيض التام لكل تاريخ الفلسفة وتاريخ الدين كما يعرضهما الفكر الغربي الحديث في‬ ‫تصوره لذاته بوصفها في قطيعة مع الإسلام لوصل ذاته مباشرة بالفكر المتقدم عليه وسيكون‬ ‫مسعاي مستندا إلى ما برهنت عليه في محاولات سابقة من نتائج مدارها الموقف من القول‬ ‫بالمطابقتين وبوحدة العالم حصرا إياها في عالم الشهادة ورد كل ما يتعالى عليه إليه‬ ‫وهي كلها متنافية مع الرؤيتين النقديتين للإسلام في فكر الغرب الحديث من بداية الإصلاح في‬ ‫قضيتي الوساطة (الكنيسة) والوصاية (الحكم بالحق الإلهي) إلى مآله في رؤية هيجل وماركس‬ ‫(نفس القضيتين) وكلها نتائج تلغيها ببيان استنادها إلى نظرية في المعرفة وفي القيمة تتسمان‬ ‫بالسذاجة مع ما يترتب عليهما من قول بوحدة العالم وحصره في عالم الشهادة‪:‬‬ ‫‪ .1‬سذاجة القول بالمطابقة المعرفية‪ :‬اثبتناها‬ ‫‪ .2‬سذاجة القول بالمطابقة القيمية‪ :‬اثبتناها‪.‬‬ ‫‪ .3‬سذاجة القول بوحدة العالم‪ :‬تترتب عليهم وقد أثبتناها‪.‬‬ ‫‪ .4‬سذاجة القول باكتفاء عالم الشهادة بنفسه‪ :‬تترتب على الاثباتات الثلاثة المتقدمة‬ ‫‪ .5‬سذاجة القول بوحدة أنظمة العوالم المتعددة وعلى الأقل عالم الشهادة وعالم الغيب‬ ‫تترتب على الأربعة التي هي فروع عنها وهو معنى \"ليس كمثله\" شيء رغم إمكانية الكلام‬ ‫عليها وكأن بينها تناسبات‪.‬‬ ‫فما يصح من قوانين الطبيعة ومن سنن التاريخ في العالم الشاهد لا شيء يثبت صحته في غيره من‬ ‫العوالم الممكنة‪ .‬فإذا قلنا بوجود إله فلا يمكن الزعم بأن ما يصح على الإنسان يصح عليه‪ :‬يترتب‬ ‫على الأربعة السابقة وهو أصلها كلها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪69‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫وسأسمي هذه السذاجات الخمس باسم قد يبدو غريبا‪ :‬الموقف القضوي الأصلي المتقدم على فعل‬ ‫القضاء نفسه في كل أحكام الإنسان وهي سابقة على مضمون الحكم الذي هو المضمون القضوي ولا‬ ‫يتقدم علم الحقائق في عمل الإدراك المعرفي ولا تتقدم إرادة القيم في عمل الإرادة من إلا‬ ‫بمراجعته النقدية بما يشبه التفنيد المتدرج لهذا الموقف القضوي في الإدراك المعرفي وفي الإدراك‬ ‫القيم للوصول إلى عكس العلاقة بحيث يصبح الموقف القضوي فيهما هو بدوره موضوع تحديد من‬ ‫منطلق إدراك المضمون المعرفي والقيمي‪ .‬فيكون مفهوم الموقف القضوي على نوعين‪:‬‬ ‫المعنى التقليدي وهو موقف الناظر من حقيقة مضمون القضية‬ ‫والمعنى الأعم منه وهو موقف المدرك من الإدراك الموجودي والإدراك المنشودي‪.‬‬ ‫وهذا المعنى الثاني يتعلق بما يستطيعه الإدراك المعرفي وبما يستطيعه الإدراك القيمي‪ .‬وهما ما‬ ‫تضعه الفينومينولوجيا بين قوسين بالنسبة إلى العقد القائل إن موضوع الفكر ذو وجود خارج‬ ‫الفكر أو وضعه وكأنه موجود خارج الذهن وليس مجرد معنى ذهني يمكن أن يكون موجودا أو‬ ‫مجرد فكرة ذهنية قد لا تكون إلى وهما أو خيالا‪.‬‬ ‫وهذا الموقف القضوي الأصلي ديني وفلسفي في آن وهو أصل القول بالمطابقتين وأصل الكثافة‬ ‫الوجودية للإدراك الحسي الكثافة التي تجعله عصيا على التشكيك فيه وغالبا ما يتصوره الناس‬ ‫عين الواقع ومن يشكك فيه يرد عليه بالرؤية الماركسية ضد المثالية الغالية بالدعوة إلى الوقوف‬ ‫أمام القطار إذا تصوره مجرد فكرة للدلالة على أنه معتوه‪.‬‬ ‫لكن الفلسفة والدين لا يبدآن حقا إلا بالتشكيك فيه واعتبار ما فوقه مقدما عليه وتلك هي علة‬ ‫تقديم العقل على الحس في كل معرفة وتقييم وكل المعاني العقلية أقرب إلى نفي تقديم الإدراك‬ ‫العقلي على الإدراك الحسي‪ .‬وتلك هي العلة التي تعتبر الفلسفة تمشي على راسها أي إنها تقلب‬ ‫ترتيب الأشياء راسا على عقب‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪70‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫وسنرى أن كل ما يقوله لايبنتس حول القضاء والقدر سواء لتبرير رؤيته في الثيودوسيا (العدل‬ ‫الإلهي) أو لنقد رؤية الإسلام وحتى ردود محمد اقبال عليه علته قولهما بالمطابقتين وبوحدة‬ ‫العالم‪:‬‬ ‫‪ .1‬فكل ما يقوله الأول عن الإنسان متناف مع القول بنظرية المسيح لأن ما ينسبه من نقص إلى‬ ‫الإنسان ليعلل الشر ينبغي أن ينطبق على الله ولو جزئيا لأن المسيح ابنه من وجه وإنسان‬ ‫من وجه‪.‬‬ ‫‪ .2‬وما يقوله الثاني لا يحل المشكل لأن الجدل بين القدرية والجهمية لا يختلف عن حل لايبنتز‬ ‫لأنه جامع بينهما ففيه قول بما تشترك فيه المعتزلة مع الأشعرية في نظرية المعرفة وفيه ما‬ ‫تختلف به الأشعرية في نظرية القيم‪.‬‬ ‫ولما كانت كل النظريات الفلسفية تؤول إلى رد الخلق الإلهي إلى تأويله بمقتضى ما يعلمه‬ ‫الفلاسفة عن الصنع الإنساني فإن استحالة المطابقة بينهما تلغي كل إمكانية لرد الأول إلى الثاني‬ ‫فالصنع فعل إنساني ليس مثل الخلق الإلهي‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالخلق الإلهي يجيب عن سؤال لماذا الوجود بدلا من العدم في حين ان الصنع لا يجيب عن‬ ‫مثل هذا السؤال الفلسفي العميق فوجود المخلوق بدلا من عده لا جواب عنه أو ليس لنا علة‬ ‫ترجيحه أي علته الكافية‪.‬‬ ‫‪ .2‬والتشريع الإلهي يجيب عن سؤال لماذا يكون المخلوق بذلك الكيف بدلا من غيره والتشريع‬ ‫الإنساني لا يجيب عن هذا السؤال الفلسفي العميق فكيف المخلوق لا تفسير لاختياره من‬ ‫الممكنات اللامتناهية‪.‬‬ ‫فالقول مثلا إن الخلق بـ\"كن\" الخالقة والأمر بـ\"كن\" المصورة الإلهيين لا يمكن من اعتبار الكنين‬ ‫مماثلان للصنع والتكييف الإنسانيين فكلا الكنين الإلهيين لا يحيط بهما مثال الصنع والتكييف‬ ‫الإنسانيين وإذا اعتبرناهما من الأوهام فينبغي أن نثبت أن الصنع والتصور الإنسانيين خالقان‬ ‫ومصوران أو أن ننفي تكوينية العالم ونظامها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪71‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫ومن ثم فالخلق والأمر لا يعطياننا شيئا معلوم الطبيعة ونفيهما لا يحل المشكل لأنه لم يعد أحد‬ ‫ينفي أن العالم الشاهد ليس سرمديا بل له تاريخ تكويني وله نظام لا تكفي الصدفة لتعليله‬ ‫ولذلك فالخلق والأمر البديلان من الصنع والتصوير من الغيب الذي لا يقبل القيس عليهما‪.‬‬ ‫صحيح أننا نستطيع تسميته بقيسه عليهما وحتى الكلام عليه بالمماثلة معهما‪ .‬لكننا نعلم أن ذلك لا‬ ‫يعني أننا نتجاوز التقريب إلى المعرفة اليقينية بمسماه ‪.‬‬ ‫فنحن نعلم أننا نؤمن بوجوده دون علة مرجحة لاختياره بدل العدم ونسلم بكيفه دون أن علة‬ ‫مرجحه لاختياره مما لا يتناهى من الإمكانات التصويرية‪ .‬وما نعلمه هو أن علمنا يبقى دون العلم‬ ‫المحيط وأن عملنا يبقى دون العمل التام والفرق ليس كميا بل هو كيفي‪.‬‬ ‫ولا يمكن أن نزعم أن تفضيل الوجود عن العدم وتفضيل كيف الوجود المخلوق عن غيره من‬ ‫الكيفيات اللامتناهية والزعم مثل لايبنتس أنه الأفضل الممكن بلغة لايبنتس وأن ذلك ليس‬ ‫لصفات ذاتية له بل لأنه اختيار إلهي دون بيان علة ترجيح أو بلغته العلة الكافية‪.‬‬ ‫فهذا الرأي مناف لكلتا الخليتين الممكنتين عقلا بمنطق الثالث المرفوع الذي يقول به لايبنتس‪ :‬فإما‬ ‫أن الفضل كان اختيارا بإرادة الرب الحرة وإما هو كذلك لصفات ذاتية في ترجح الكيف المعين‬ ‫المنتخب فيكون معلولا بما فيه من ذاتي وليس باختيار الرب الحر‪.‬‬ ‫والمعلوم أن كل نقده لما يسميه \"الفاطوم المحمدي\" في رؤية لايبنتس يستند إلى الخلية الأولى وهي‬ ‫لا تستقيم من دون رد الخلق والتكييف الصوري الإلهيين إلى الصنع والتكييف الصوري الإنسانيين‬ ‫المؤسسين للمطابقتين ولوحدة العالم المردود إلى عالم الشهادة وقيس كل ما يتعالى عليه‪.‬‬ ‫وما كنت لأزعم اثبات سذاجة المعاني التي يتأسس عليها نقد رؤية الإسلام للقضاء والقدر لو كنت‬ ‫أعني بالإثبات أكثر من بيان سذاجة التأسيس المضمر وإظهار الضمائر فيه وذلك بعد أن حددت‬ ‫علاقة التناسب العكسي بين الموقف القضوي والعلم بمضمون القضية‪ .‬فلكما زاد علم الإنسان‬ ‫بمضمون القضية قل يقينه في الموقف القضوي لأنه يكتشف النسبة بين العلم والجهل في فعل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪72‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫المعرفة‪ :‬فكلما زاد علم الإنسان في أي مجال اكتشف أن نسبة علمه إلى جهله هي عين نسبة‬ ‫المتناهي إلى اللامتناهي فأدرك الفارق بين إدراكه للموجود والموجود وإرادته للمنشود والمنشود‪.‬‬ ‫وعلى هذا الأساس اعتبرت ابن تيمية وابن خلدون متقدمين جدا في رؤيتهما لنظرية المعرفة‬ ‫ونظرية القيمة لتعذر رد ما يتعالى على عالم الشهادة إليه‪ .‬فقد كان ابن خلدون وقبله ابن تيمية‬ ‫سباقين إلى ما يؤسس هذه القاعدة التي صغتها‪ .‬فابن خلدون اعتبر رد الوجود إلى الإدراك سر‬ ‫وهم الأوهام الفلسفية أي الإحاطة فهي عنده‪:‬‬ ‫‪ .1‬وهم المتكلمين والفلاسفة ورده إلى ظاهرة كونية سماها \"حب التأله\" عندهم وعند المتصوفة‬ ‫فثلاثتهم يتصورون إدراكهم محيط بموضوعه ولا شيء فيه يتعالى عليه فيدعون من ثم‬ ‫قيس الغيب على الشهادة‪.‬‬ ‫‪ .2‬وقياسا عليه رد المنشود إلى الإرادة عند الحكام وكل الطغاة الذين يتصورون إرادتهم من‬ ‫جنس إرادة الله البالغة بلوغا تاما‪ .‬وقصة إبراهيم مع الملك الذي قال إنه يحيي ويميت‬ ‫معروفة‪.‬‬ ‫وابن تيمية اعتبر العلم المحيط يقتضي أن يكون علم أي شيء علما بكل شيء وهو علة استحالته‬ ‫ويعتبر نظرية المتصوفة في المعرفة وفي الحكم‪.‬‬ ‫فهي رد المنشود إلى الموجود الذي يحكمه حسب رأيهم القضاء والقدر ودعواهم العلم المحيط به‬ ‫ومن ثم فكل ما يحدث في العالم من ظلم وطغيان مراد من الله والحاكم ظل الله في الأرض وهم‬ ‫نوره‪ .‬وبهذا نفهم قضية القضاء والقدر الذي تحول إلى فاتاليسم بسبب المطابقتين المعرفية‬ ‫والقيمية لكأن الإنسان صار علمه محيطا وإرادته مطلقة النفاذ مثل الله‪.‬‬ ‫ولا يعني هذا الكلام أني أدعي أكثر من أثبات إمكان ما يترتب على نفي العلم المحيط والعمل‬ ‫التام لأن القرآن لا يفرض ذلك وهو معنى الحرية الدينية التي تتأسس على تبين الرشد من الغي‬ ‫أي على اليقين بالاستحالات الخمسة دون اليقين بما يترتب عليها إذ يمكن لمن يسلم بها أن يرفض‬ ‫مع ذلك الإيمان بالممكن وراءها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪73‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫ولهذه العلة فإن القرآن لم يرهن العلاقة بالله بالإيمان بدين معين في أمر الأديان الواقع بل رهنا‬ ‫بثمراتها التي هي جوهر الديني فيها وهو الأديان الواجب أي‪ :‬من آمن بالله واليوم الآخر وعمل‬ ‫صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (البقرة ‪ 62‬والمائدة ‪ )69‬واعتبر العلم اجتهادا والعمل‬ ‫جهادا وكلاهما مثاب بمقتضى واجب الوسيلة وليس واجب النتيجة بمعنى أن الإنسان إذا لم يصب‬ ‫في اجتهاده ولم ينجح في جهاده فلا جناح عليه بشرط أن يكون صادقا في طلبه الحقيقة وفي العمل‬ ‫على تحقيقها‪.‬‬ ‫وبذلك فالثلاثة لم تذكر من شروط العصر إلا الأصل وفرعين منه يتعلقان بالفرد المدرك‬ ‫والمريد‪ .‬لكن الفرعين الآخرين مضمران وهما التواصي بالحق والتواصي بالصبر لأنه لا يمكن‬ ‫للإنسان أن يؤمن ويعمل صالحا إذا لم يكن مؤمنا باليوم الآخر حيث يمتنع على الأنسان أن يكذب‬ ‫لأن كل جوارحه تصبح شهودا عليه‪.‬‬ ‫فتكون هذه الشروط الثلاثة هي عين مضمون سورة العصر لأن الأصل الذي تتفرع عنه هذه‬ ‫الشروط صار في الآيتين الإيمان باليوم الآخر أي بعالم الغيب المتعالي على عالم الشهادة‪ .‬فهذا‬ ‫الشرط هو عين الوعي الذي يخرج الإنسان من الخسر بما يترتب عليه من محاولة العودة إلى‬ ‫التقويم الاحسن‪.‬‬ ‫ومن لم يفهم هذه المعاني لا يمكن أن يفهم ما جرته فلسفة هيجل وماركس القائلة بالمطابقتين‬ ‫وبوحدة العالم ‪-‬وهي جوهر وحدة ا لوجود طبعانية (سبينوزية‪-‬ماركسية) كانت أو روحانية‬ ‫(هيجلية‪-‬فيورباخية) على الإنسانية وقبلهم تأثير سطحية المادية الفرنسية التي تتجلى في المقابلة‬ ‫بين روسو وفولتار وينبغي ألا نخلطها مع التنوير في صيغته الألمانية وحتى الإنجليزية في تقابله مع‬ ‫الرومانسية الكاثوليكية التي بين هاينه ميلها إلى الهندوسية التي تعتبرها أصل فكرتها الدينية‪.‬‬ ‫فتكون خطة الفصول الخمسة التي علينا انجازها كالتالي‪:‬‬ ‫‪ .1‬فصل تمهيدي أحسم فيه مسألة المقدرات الذهنية وعلاقتها بإشكاليتي نظرية المعرفة‬ ‫ونظرية القيمة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪74‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪ .2‬إشكالية الموقف من الإسلام في فكر حركة الإصلاح الديني والسياسي في الحداثة الغربية‬ ‫وسأعنونها بنظرية الإصلاح الديني‬ ‫‪ .3‬إشكالية الموقف من القضاء والقدر في فكر لايبنتس ورد محمد اقبال عليه‬ ‫‪ .4‬إشكالية فلسفة كنط بوصفها التأسيس الابستمولوجي والاكسيولوجي للإصلاح اللوثري‬ ‫اشكالية النكوص الهيجلي إلى علم الكلام الوسيط والفلسفة القديمة القائلين بالمطابقتين وبوحدة‬ ‫العالم المردود إلى عالم الشهادة وسأسميه بنظرية المصالحة الفلسفية الدينية الهيجلية بين عالم‬ ‫الشهادة وما ورائه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪75‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫والدراية بالأعداء قد تحد من عداوتك لهم حتى وإن بقيت عداوتهم لك بنفس الحدة‪ .‬لأن‬ ‫درايتك بعلل العداوة عامة قد تجعلك مساعدا لنفسك ولهم في المسعى الاجتهادي للعلاج وإزالة‬ ‫علة سوء التفاهم بين البشر بسبب سوء فهمهم لما يفرق بينهم وكان يمكن أن يوحدهم‪ .‬فما انتهى‬ ‫إليه الفكر الغربي من طرق مسدودة علتها الاعتقاد الجازم بالمطابقتين نفيا لما يتعالى على علم‬ ‫الإنسان وعمله وبوحدة العالم نفيا لما ورائه‪ .‬فسر طغيان البشر يرد إلى ظنهم علمهم محيطا‬ ‫وإرادتهم قضاء وقدرا‪ .‬لكن صمود المسلمين وصبرهم جعلهم ينتصرون روحيا إذ إن غاية القوة‬ ‫الغربية الحالية(أمريكا) فشلت في حروبها ضدنا وسيكتشفون أن نظام العالم الجديد لن يستطيع‬ ‫الاستغناء عنا‪.‬‬ ‫ومن ينكر منهم هذه الحقائق يكون بذلك عدو نفسه قبل أن يكون عدو كل أنه عدو الإنسانية‬ ‫السوية‪ .‬فكما أسلفت ما أعلمه علمي وقيمي هو بدوره علم بشيء وتقييم لشيء‪ .‬وإذا كنت لا‬ ‫أعلم شيئا ولا أقيم شيئا في ذاته فلا يمكن أن ادعي أن علمي بعلمي وتقييمي لقيمي علم وتقييم‬ ‫لهما في ذاتهما خاصة إذا زعمت كما زعم كنط أنه لا يمكن أن يكون علمي للظاهرات ممكنا وهو‬ ‫حاصل من دون أن يوجد شيء يظهر وهو ثغرة كل نسقه‪ .‬إذ لا يمكن أن تستنتج ما وراء للظهور‬ ‫ما دام علمك بعملك هو بنفسه ظاهر‪ .‬وهو ما يلغي كل النقد‪ .‬ولست ألجأ لحجة هيجل‪ :‬ذلك أن‬ ‫بيان تناقض كنط لا يعني أن نقيض قوله صحيح وفيه هيجل نفسه يستعمل مبدأ لا يمكن قبوله‬ ‫منه لأن فسلفته تتأسس على نفيه‪.‬‬ ‫فبالنسبة إلى كنط إذا كانت العلية لا تصلح إلا بشروط التجربة الممكنة فهي إذن لا تصلح في هذه‬ ‫الحالة لإثبات ما يتجاوز التجربة‪ .‬فالقول إنه لا يعقل الظهور من دون شيء يظهر يعني ان‬ ‫الشيء الذي يظهر هو علة الظهور‪ .‬وهذا تجاوز لظهور الشيء إلى الشيء في ذاته بوصفه علة‬ ‫الظهور‪ .‬فيكون كنط فيه مصادرا على المطلوب أو متناقضا أو كليهما معا‪ .‬ومع ذلك فهيجل ليس‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪76‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫محقا في رفض النتيجة التي وصل إليها كنط‪ :‬فهو يرفض الثالث المرفوع‪ .‬وهذا الثالث المرفوع هو‬ ‫أن الحل موجود رغم نفينا للمتناقضين معا‪.‬‬ ‫وكما قال الغزالي في تهافت الفلاسفة فنحن في هذه المحاولة لا ندخل مدخل من يريد أن يثبت‬ ‫شيئا موجبا بل الهدف هو بيان أمرين‪ :‬الأول هو القول بالمطابقتين لا دليل عليه ولم ندع أننا نعلم‬ ‫علة عدمهما لأننا سميناها الغيب أي اللامعلوم‪ .‬الثاني القول بوحدة العالم وعدم وجود ما ورائه‬ ‫لا دليل عليه ولم ندع أننا نعلم غيره‪ .‬والقرآن لا يعتبر الغيب قابلا للعلم من الإنسان وينفي كل‬ ‫تماثل بين عالمنا وعالم الغيب‪ .‬والنتيجة أن ما يسمى علما لما يسمى واقعا ليس يقينيا بل هو ترجيح‬ ‫فرضيات بالاحتكام إلى شواهد تجريبية نسبية جدا‪.‬‬ ‫وما يعتبر يقينيا فيها لا يتجاوز نوعين ليس لهما علاقة بما يسمونه واقعا بل هما في علاقة إما بما‬ ‫يسمى مقدرات ذهنية نظرية أو عملية أو بما يفترض مطابقا لها عند رد أمر موجود أو منشود‬ ‫فرضيا إلى ما نتسلمه في تعريفه على أنه مطابق لحقيقته أو لقيمته فيكون ترجيحا فرضيا حتى لو‬ ‫قاربت نتائج التجربة الطبيعية أو التاريخية ما توقعه في النظام الفرضي الاستنتاجي في علوم‬ ‫الطبيعة أو في علوم الإنسان‪ .‬ولهذه العلة فلا يمكن تجاوز المعرفة النسبية والحسم في معضلات‬ ‫الوجود فلسفيا بخلاف الدين الذي يعتبر الحسم خيارا عقديا وليس حقيقة علمية‪ .‬العلم ليس فيه‬ ‫يقين فيه ترجيح بين فرضيات تفسيرية بشواهد تجريبية متغيرة بتطور النظرية وأدوات الإدراك‬ ‫التجريب‪.‬‬ ‫فيكون لدينا خمسة مستويات في ما نسميه معرفة‪:‬‬ ‫‪ .1‬إدراك حسي مباشر‬ ‫‪ .2‬تجارب متواطئة مشتركة بين الناس‬ ‫‪ .3‬تجربة مؤطرة بنظرية علمية تكون هي فيها من الشواهد على ترجيحها‬ ‫‪ .4‬معرفة فرضية استنتاجية معلقة على حصول المؤيدات التجريبية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪77‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪ .5‬أنساق رياضية أو قيمية لا تهمها التجربة الطبيعية والتاريخية أصلا بل التناسق المنطقي‬ ‫كاف فيها كما في أي لعبة رمزية وهي المعرفة البرهانية والكلية والمحضة والبديهية الوحيدة‬ ‫(ابن تيمية)‪.‬‬ ‫فإذا حللنا هذا المخمس من مستويات المعرفة والتقييم وجدنا أن القلب منه هو النوع الثالث‪ .‬وقبله‬ ‫مستويان يعسر أن يعتبرهما عاقل علميين بل هما أدراك إما فردي غفل أو جمعي غفل‪ .‬وبعده‬ ‫مستويان كلاهما فرضي استنتاجي إما مطبق في الغاية وهو الرابع أو غير معني بالتطبيق أصلا رغم‬ ‫أنه شرط في المعرفة العلمية وفي التقييم العملي وهو الأخير‪ .‬وهما درجتا العلم والتقييم‬ ‫الأرقيان‪ .‬والأوسط الذي هو القلب هو العلم والتقييم بمعناهما العادي أي إن العلم والتقييم‬ ‫يمثلان حدا أو سكا بين المدارك التابعة للموجد والمنشود الغفل بإطلاق والمدارك المتعالية على‬ ‫الموجود الغفل بإطلاق لكأنها الحل الوسط بين نوعين من الإدراك الإنساني‪.‬‬ ‫فإذا طبقنا هذا السلم وجدنا أن العلم والتقييم اللذين يسميان عقليين في هذه المستويات الخمسة‬ ‫هما مصدر ما يتهم لأجله ما يسمى بعلوم الدين بالطابع الخرافي رغم أنه من جنسهما بل هو أقرب‬ ‫إلى النوعين الارقى مما يسمى علما‪ .‬وحتى كلام العامة على عالم الشهادة فيه لا يختلف عن‬ ‫الأولين وكلام العلماء فيه لا يختلف عن الأوسط‪ .‬فما علة التنافي إذن بين الديني والفلسفي؟‬ ‫فما يسمى برهان باسكال ‪-‬وهو في الحقيقة رهان الغزالي‪ -‬فيه تعليق الحكم حتى تحصل التجربة‬ ‫التي تجعل الأنسان يحكم على خياره‪:‬‬ ‫• فيكون الإيمان فرضية إن وجد يوم آخر وجزاء ربح وإن لم يوجد لن يخسر شيئا بل يكون‬ ‫ربح ما يترتب على الإيمان به الفضيلة والتحرر من الإخلاد إلى الأرض‪.‬‬ ‫• أو يكون الإيمان من جنس إيمان الرياضي بنتائج استدلاله الذي لا تعنيه التجربة أصلا‪.‬‬ ‫لكن نسبته إلى حياة الإنسان من جنس نسبة الرياضيات والقيميات إلى نظره وعمله‪ :‬غير‬ ‫ممكنين من دونهما‪.‬‬ ‫والجواب عن مسألة التنافي بين الدين والفلسفة من المفارقات‪ .‬فالعلة هي تعصب من يزعمون أنهم‬ ‫فلاسفة لأن ما يؤسسون عليه ما يتصورونه يقينا علميا وقيميا أي المطابقتين ووحدة العالم مجرد‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪78‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫عقائد ولا علاقة لهما باليقين ولا حتى بالترجيح العلمي الدائم فضلا عن كون العلم والعمل‬ ‫كلاهما غني عن اليقين‪ .‬فاليقين اعتقاد ذاتي وليس حقيقة موضوعية‪ .‬وهو غاية الموقف القضوي‬ ‫الذي يعتقد صاحبه أنه يملك الحقيقة المطلقة وليس مضمونا قضويا مبني على احتكام فعلي للعقل‬ ‫أو للتجربة لسبب بسيط وهو أن بداية البحث العلمي والتطبيق العملي مشروطة بموقف قضوي من‬ ‫حكم مضمر مفاده ما سميته العقائد الخمس التي لا دليل عليها قبل استعمالها‪.‬‬ ‫ومن ثم فهذه المعتقدات التي ينطلق منها البحث العلمي دليلها بعدي وليس قبليا أي إنها من جنس‬ ‫الإيمان بمبدأ بيرس أي ما يسميه ما يثبت في الغاية البعيدة من تطور المعرفة أي بالنتائج المثبتة‬ ‫لصحة الفرضيات‪:‬‬ ‫‪ .1‬العالم فيه الموجود والمنشود‬ ‫‪ .2‬العالم قابل للعلم والتقييم‬ ‫‪ .3‬الإنسان يعلم ويقيم‬ ‫‪ .4‬علمه وتقييه موضوعي‬ ‫‪ .5‬ولا يمكن للإنسان أن يعيش في العالم من ذلك‪ .‬ومن المفارقات أن اليقين بهذا المعنى من‬ ‫حيث هو غاية الموقف القضوي هو بالأحرى صفة للإدراك الحسي أكثر مما هو صفة للإدراك‬ ‫العقلي‪.‬‬ ‫وذلك سواء تكلمنا على العقد العام المشترك بين كل البشر أو تكلمنا على العقد العلمي والعملي‪.‬‬ ‫والدليل أن كل النظريات والعمليات لا يعترف بعلميتها وعمليتها ما لم تؤيدها التجربة الحسية‬ ‫بالفعل‪ .‬في الحقيقة فهي التي تجعل الناس يتوهمون حصول المطابقتين ووحدة العالم‪ :‬فاعتبار‬ ‫التجربة‪-‬فالتجربة العلمية مهما تجهزت الحكم النهائي فيها هو للإدراك الحسي أو ما يوحي به‪-‬‬ ‫شهادة بصحة النظرية في أي علم عدا المستوى الخامس دليل قاطع على أن الإنسان يعتقد أن‬ ‫إدراكه الحسي هو \"الواقع\" الموضوعي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪79‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫فيكون الموضوعي في الغاية هو الذاتي في الغاية حتى لو شهدت له أدوات الإدراك المجهز و\"اجماع\"‬ ‫العلماء المؤولين للمعطيات التجريبية المخبرية وغالبا ما تكون نتائجها نسبا احصائية وليست يقينية‬ ‫لأن معيار \"الدلالة\" من اختيار المجربين أو من معايير الدلالة الإحصائية في درس العينات الدالة‪.‬‬ ‫والدلالة العملية والقيمية للمعطيات التجريبية التي يحتكم إليها الباحثون لترجيح أحد التأويلات‬ ‫ليست أمرا ثابتا ونهائيا لأن تقدم النظرية أولا وأدوات الإدراك التجريب ثانيا قد تغيرها بين‬ ‫عشية وضحاها‪.‬‬ ‫والمستوى الخامس الغني عن التجربة‪ -‬أي الرياضيات في النظر والقيميات في العمل أي المقدرات‬ ‫الذهنية النظرية (ابن تيمية) والعملية التي قستها عليها ‪-‬مختلف تماما ولا ندري حقيقة‬ ‫\"الكائنات\" اللتين يدرسانها ما طبيعتهما لأنها لو كانت نفسية لاختلفت ليس من شخص لشخص بل‬ ‫وكذلك من حال لحال عند نفس الشخص‪ .‬والثابت أنها ليست كائنات خارجية لأنها وإن قبلت‬ ‫التعين في أمثلة فهي لا تطابقها أبدا بل كل ما يضرب مثالا لها يبقى دونها مطابقة لمفهومها العقلي‬ ‫كما يضعه حدها‪ .‬هي في الأذهان لكنها ليست نفسية وهي في آن ليست خارجية ومن ثم فوجودها‬ ‫من طبيعة لا نعلمها‪.‬‬ ‫وإذن فلا بد من الاعتراف بأمور \"موجودة\" وجودا لا نعلم حقيقة طبيعته لا هو ذاتي بمعنى‬ ‫الموجود في النفس ولا هو موضوعي بمعنى الموجود خارج النفس‪ .‬فلو افترضنا أنه من إبداع‬ ‫الإنسان مثل القيم الجمالية والمعاني الرياضية فإننا عندئذ ينبغي أن نستنتج أن الإنسان له قدرة‬ ‫على التعالي على \"الواقع\" وإبداع ما ليس منه وما لا يرد إليه‪ .‬فنعترف بما يوجد دون أن يكون‬ ‫من الواقع المحسوس سواء بمعنى ما يدركه الحس الباطني أو ما يدركه الحس الخارجي‪ .‬وعندئذ‬ ‫يعسر أن نواصل الاعتقاد بأن هذا العالم الشاهد هو العالم الوحيد‪.‬‬ ‫لكن الأهم من ذلك هو أن هذا الموجود المستغني عن شهادة الحواس والتجربة الحسية الباطنية‬ ‫والخارجية لا يمكن تصور المدركات الحسية والتجربة المعرفية والقيمية ممكنتين من دون هذا الذي‬ ‫لا يقبل أن يكون محسوسا وعندما نعينه ليصير ما صغناه به محسوسا فإنه لا يكون مطابقا له أبدا‪.‬‬ ‫فلا توجد دائرة مهما أجدنا رسما مطابقة لمفهومها‪ .‬كل دائرة نرسمها هي مثال تقريب وهي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪80‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫متعينة من حيث محدداتها الكمية في حين أن الدائرة ليست محدد بمقوماتها الحمية (مثلا الشعاع‬ ‫يشترط فيه الوحدة دون تحديد كمي)‪.‬‬ ‫فليس لمفهوم الدائرة مقدار محدد لشعاعها ولا سمك معين لمحيطها ولا خاصة قيام في مادة معينة‬ ‫ترسم عليها بل هي معنى مطلق التجريد‪ .‬ونفس الكلام يصح على النقطة وعلى المستقيم وخاصة‬ ‫على المماس الذي لا يماسها إلا في نقطة واحدة مع العلم أنه بلا سمك ومحيطها مثله بلا سمك‬ ‫ولاتتعين النقطة في محيط الدائرة‪ .‬وكل الكائنات الرياضية والقيمية المقدرة ذهنيا هي من هذا‬ ‫الجنس وبهذه الخاصيات التي تجعلها وكأنها عدم إذا حصرنا الوجود في التعين المتمدد والمتحيز في‬ ‫المكان والزمان تحيزا مقوما له‪.‬‬ ‫وما قلناه عن المعاني الرياضية يقال مثله عن المعاني القيمية‪ .‬فالخير والشر والحقيقة والباطل‬ ‫والجمال والقبح والذليل والجليل كلها معان قيمية لا يمكن أن تتعين وكل الأمثلة التي تشير إليها‬ ‫تبقى دونها كمالا وجوديا وتماما مفهوميا‪ .‬ومع ذلك فلا يمكن وصف أي شيء وصفا قيميا من دون‬ ‫هذين النوعين من المعاني التي هي ليست عدما بل هي موجودة وجود لا نعلم طبيعته ما هي وهي‬ ‫لا تتعين تعينا محدد الكيفية القابلة للمطابقة مع كيف قيمي معين في الوجود الخارجي لأنها ليست‬ ‫محسوسة‪.‬‬ ‫وإذن فعندنا نوعان من الصفات المتناقضة لهذين المعنيين‪ .‬فهما مما لا يقبل الإدراك الحسي‬ ‫لكنهما في آن مما لا يمكن أن يدرك المحسوس بدونه‪ .‬وهي قابلة لأن تعتبر شبه إشارة إلى معان‬ ‫أرفع من كل وجود محسوس لكأنها من جنس الغيب الذي لا يتعين في المشهود لأنها هي التي تصوره‬ ‫لما يتعين بها صورة له معرفية أو قيمية‪ .‬فنحن ندرك شيئا ما \"ليس كمثله شيء\" ولا ندركه ولا‬ ‫نقيمه إلا به دون أن نعلم طبيعة وجوده ومنشوده ما هي رغم أننا لا ندرك أي موجود وأي منشود‬ ‫من دونهما‪ .‬لكن الغيب له رتبة أعلى منهما لأننا لا نستطيع تصوره مفهوميا مثلهما‪ .‬ومن ثم فهو‬ ‫بريء حتى من التعريف المفهومي وقابلية التصور الذي تتميز به \"الكائنات\" الرياضية والكائنات‬ ‫القيمية‪.‬‬ ‫وأهم المعاني التي نعتبرها من الغيب هي الله وأفعاله التي تنقسم إلى جنسين‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪81‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪ .1‬أفعال الخلق بكن الخالقة‬ ‫‪ .2‬وأفعال الأمر بكن الآمرة‪.‬‬ ‫والأولى تجيب عن سؤال‪ :‬لماذا يوجد شيء بدلا من لا شيء؟ والثانية تجيب عن سؤال‪ :‬لماذا يكون‬ ‫الموجود على الكيف الذي هو عليه بدلا من كيف آخر من الكيفيات اللامتناهية الممكنة؟ وكلتا‬ ‫المعضلتين كونية والجواب فيها هو التسليم بهما بوصفهما \"واقعة\" أوفاكتوم‪ .‬والتسليم إيمان كوني‬ ‫لا مفر منه‪ .‬وحتى من يبالغ في التشكيك فلا يفصل بين \"الواقعة\" والخيال مثلا فهو يعلم أن‬ ‫المفهومين متضايفان‪ :‬لا يمكن الكلام على خيال أو وهم دون متضايف معهما هو \"الواقعة\" التي‬ ‫أولها هي وجود الذات نفسها وذلك هو جوهر الكوجيتو الديكارتي‪.‬‬ ‫بلغة فلسفية‪ :‬فاكتا (جمع فاكتوم) تعني أنها معطيات تفرض نفسها أمرا واقعا لا يمكن نفيه وهي‬ ‫أساس كل العقائد الإيمانية التي لا تفسير لها ولا تعليل وأولها ايمان الذات بوجودها ووعيها به‬ ‫وكونها في عالم يحيط بها مختلف عما تتخيله أو تتوهمه أو عن الاحلام وحتى عن المعتقدات في‬ ‫الغيبيات‪ .‬فكهل هذه يمكن التشكيك فيها إلا في وجود الذات وكونها متحيزة في المكان والزمان‪.‬‬ ‫وهي تسد ثغرة تنتج عن غياب المعقول وليس دليلا على حضوره‪ .‬فالمعقول هو أن يوجد تفسير‬ ‫لاختيار الوجود بدل العدم وأن يوجد تعليل لاختيار إحدى كيفيات الوجود من الممكن اللامتناهي‬ ‫منها‪ .‬لماذا نعتقد أنهما خيار؟‬ ‫والكائنات الرياضية والقيمية التي لا ترد إليها ولا ترد إلى النفسانيات هي التي تجعل التفكير في‬ ‫ما وراء وجودنا ووجود عالمنا وقيمهما محيلا ضرورة إلى شيء غيرنا أي غير الذاتي وعالمها‬ ‫الموضوعي ننسب إليه الخلق والامر أي الوجود بدل العدم وكيفه الحاصل من اللامتناهي الممكن‪.‬‬ ‫والعلة هي أننا لا نستطيع تعليل الوجود وكيفه وإذن فوعينا بغياب التعليل دليل الوعي بثغرة في‬ ‫الموجود الذي ليس متكيفا بذاته‪ .‬فنشعر بالحاجة إلى ما يسد الثغرة بأمر مكتف بذاته‪ .‬وغيابه في‬ ‫محل ضرورته هو علة تفسيره بخيار لمختار‪ .‬وكل أدلة وجود الله ترد إلى الوعي بهذه الثغرة في‬ ‫الوجود وكيفه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪82‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫والجواب هو مفهوم الإله الخالق والإله الآمر‪ .‬وهذه البنية مقومة لما يمكن أن نسميه الوعي‬ ‫الإنساني بذاته وبكل ما يدركه حتى لو نفاها كما يفعل الملحد لأن الوعي بالحاجة سابق على‬ ‫دعوى الاستغناء عنها‪ .‬فلا يدرك شيئا بخلاف ذلك‪ .‬والقرآن تذكير بهذا المعنى‪ :‬أي بهذه البنية‬ ‫العميقة في كيان الإنسان والتي بها يكون قادرا على تحقيق مهمتيه وشرطي بقائه‪:‬‬ ‫‪ .1‬بها يستطيع أن يعمر الأرض التي يتعامل ومعها بجهازه المعرفي تعاملا مستحيلا لو لم تكن‬ ‫قابلة لمفعوله‬ ‫‪ .2‬وبها يستطيع ان يعمرها بقيم الاستخلاف تعميرا قيميا بجهازه القيمي تعاملا مستحيلا لو لم‬ ‫تكن قابله لمفعوله‪.‬‬ ‫ولما كان مختارا فهو يمكن‪:‬‬ ‫‪ .1‬أن يعمر أو أن يدمر‬ ‫‪ .2‬وأن يقيم كخليفة أن يرفض التقييم كخليفة‪.‬‬ ‫في الحالة الأولى التعمير بقيم الاستخلاف يكون التذكير مبشرا‪ .‬وفي الحالة الثانية يكون التدمير‬ ‫وبعكس قيم الاستخلاف يكون التذكير منذرا‪ .‬وهو يجمع بين الوجهين لأن الإنسان مكلف وحر له ما‬ ‫يشبه \"كن\" الخالقة التي هي أصل الإنية و\"كن\" الآمرة التي هي أصل الماهية‪ .‬والإنية والماهية هما‬ ‫اللتين لا يمكن أن ينظر أو أن يعمل من دون الاختيار والتردد بينهما‪ .‬والأول خيار لأن الإنسان‬ ‫له قدرة التوجيه في كن الأولى بمعنى أنه يعتبر الوجود أحد الممكنين فيسأل لماذا وقع هو بدل‬ ‫العدم‪ .‬وله نفس القدرة في كن الثانية بمعنى أنه يعتبر كيف الوجود ممكن حاصل من ممكنات‬ ‫لامتناهية فلماذا هو بدل غيره‪.‬‬ ‫وهذا هو معنى الفطرة في القرآن التي يمكن ردها إلى التجهيزين أولا وإلى الخيارتين ثانيا‬ ‫فالإنسان فطر على الفعل الحر أي على الاختيار بين التعمير بقيم الاستخلاف والتدمير بعكسها‪.‬‬ ‫وهو في الغالب متردد بينهما لأنه يعي عندما يختار التدمير بدل التعمير ونفي قيم الاستخلاف بدل‬ ‫قيم الاستخلاف لا يفعل عن جهل بل هو يعلم‪ :‬فمن ُيظلم يدرك حقيقة الظلم عندما َي ِظلم فيكون‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪83‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫ظالما بوعي وهو إذن يقدم على جريمتين أولاهما التعدي على المظلوم والثانية التعدي على العدل‬ ‫في ذاته‪ .‬وبهذا المعنى فالتمييز بين القانون المدني والقانون الجنائي ليس مشروعا لأن العدوان‬ ‫على القانون موجود في الحالتين والجريمة مضاعفة دائما‪ :‬من المظلوم والحق‪.‬‬ ‫والمس بالمدني لا يقل ضررا بالمصلحة العامة مثل التحيل في العقود والالتزامات لأنه يفسد شرط‬ ‫التعامل النزيه الذي هو أصل العيش السلمي المشترك والجنائي علته الأساسية هي عدم العدل في‬ ‫المدني‪ :‬فالسرقة التي تقابلها أغلظ عقوبة في الشريعة يمكن أن تكون بصورة بتحريف القانون‬ ‫المدني بدعوى أن التعاقد شريعة المتعاقدين‪ .‬ولذلك فالإنسان بحاجة إلى التذكير بهذه المعاني‬ ‫التي تجعل الإنسان قاضي نفسه‪ .‬لأنه الذي يَظلم ينسى أنه قد يُظلم‪ .‬والمطفف إذ يستوفي لما‬ ‫يكتال ينسى أنه يخسر إذا كالوه أو وزنوه‪.‬‬ ‫وكل القيم هي بهذا المعنى‪ .‬كل ما يحضر منها يلازمه نقيضه المنسي‪ .‬فيكون التذكير ليس إعلاما‬ ‫بمجهول بل تذكير بمنسي‪ .‬وهذا هو سر كل ما يقترفه الإنسان من سيئات‪ .‬وهذا هو معنى‬ ‫التفاضل بالتقوى أي بما يسميه ابن خلدون بمجاهدة التقوى أي بالعمل بقيم الاستخلاف أو‬ ‫الشريعة‪ .‬وفوقها مجاهدة الاستقامة وهي مراقبة النفس حتى لا تخسر ولا تستوفي في كل أعمالها‬ ‫وليس في التجارة بمعناها المعتاد لأن كل أعمال الإنسان تجارة بمعنى أنها أفعال تجازى يوم الدين‪.‬‬ ‫حان الآن أوان تحديد ما تذكر الرسالة الإنسان به من شروط تحقيق مهمتيه‪-‬التعمير‬ ‫والاستخلاف‪-‬شروطهما المباشرة المؤسسة على ما قدمناه في مسائلها الأربعة التي عالجناها أي المرسل‬ ‫(الله) والمرسل اليه (الإنسان) والرسول (محمد) وطريقة التبليغ (السياسة بوظيفتيها تربية‬ ‫وحكما وبعلاقتهما بما يؤسسها من مثل عليا هي علاقة عالم الشهادة وبعالم الغيب)‪ .‬والخامسة‬ ‫تتضمنها جميعا لكننا قدمنا الأربعة الأولى ولم يبق إلا ما يتعلق بالمهمتين هذين وتجهيز الإنسان‬ ‫لهما وتخسير الدنيا ببعدها المادي والعضوي للاستجابة إلى حاجات الإنسان في قيامه العضوي‬ ‫وببعدها التاريخي للاستجابة إلى حاجاته في قيامه الروحي‪.‬‬ ‫وإذن فما بقي علينا علاجه هو العناصر التالية‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪84‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪1‬و‪-2‬بعدا تجهيز الإنسان ليكون قادرا على تحقيق مهمتيه وذلك بجهاز النظر والعقد في التعامل‬ ‫مع علاقته بالعالم من حيث هو مصدر قيامه العضوي وبجهاز العمل والشرع في التعامل مع علاقته‬ ‫بالعالم من حيث هو مصدر قيامه الروحي‪.‬‬ ‫‪3‬و‪-4‬بعدا تسخير الطبيعة والتاريخ المناسبين لعمل الجهازين ‪-5‬وكل ذلك هو معنى سياسة عالم‬ ‫الشهادة بمثل عالم الغيب تربية للإنسان وحكما كلاهما فرض عين على الجميع وفرض الكفاية‬ ‫فيه يجعلان الإنسان خادما للكل ومخدوما من الكل‪.‬‬ ‫بقي علينا أن نبحث في خمس قضايا‪:‬‬ ‫‪ .1‬النظر والعقد أو جهاز المعرفة‬ ‫‪ .2‬العمل والشرع أو جهاز القيمة‬ ‫‪ .3‬تسخير الطبيعة أو العمل الذي يسد حاجات الإنسان المادية ويسيمه ابن خلدون العمران‬ ‫البشري‬ ‫‪ .4‬تسخير التاريخ أو التنظيم السياسي لكل الوظائف لسد حاجات الحقوق والواجبات الروحية‬ ‫والتشريعية ويسمه ابن خلدون الاجتماع الإنساني‬ ‫‪ .5‬والمجمع هو سياسة العالم بتربية الإنسان وحكمه حتى يؤهل لرعاية ذاته وحمايتها فرديا‬ ‫وجماعيا وتلك هي وظيفة السلطة السياسية القيمة بإدارة الجماعة لأمرها إدارة الاحرار‬ ‫بأسلوب الشورى لتنظيم التبادل والتواصل داخليا وخارجيا‪.‬‬ ‫سأحاول الإيجاز لأن كل هذه القضايا سبقت دراستها في محاولات أخرى وخاصة تلك التي تعلقت‬ ‫بالمعادلة الوجودية‪ .‬وقد أطنبت في دراستها لتحديد مفهوم الدولة خاصة ببعديها البنيوي من حيث‬ ‫هي جهاز لا تخلو منه جماعة وهي مصفوفة خاوية تملأ بالقيمين عليها وهم نواب الجماعة في تسيير‬ ‫وظائف الدولة بملء تلك الخانات أو المؤسسات‪ .‬لكن لا بأس من التذكير بالأساسيات لأنها تمثل ما‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪85‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫أهملته علوم الملة واهمالها إياها هو علة وصفي لهذه العلوم بكونها محرفة ومحرفة للقرآن والسنة‬ ‫وللعبادة التي خلق الإنسان حصرا لها‪.‬‬ ‫ولا يمكن أن أتجاوز حدا معقولا في علاج هذه القضايا بل سأـوجز‪ .‬والطريقة الوحيدة هي جمع‬ ‫التجهيزين المضاعفي في كيان الإنسان بوصفهما أداتي التعمير والاستخلاف‪ .‬فمن دون النظر‬ ‫والعقد لا يمكن للإنسان أن يعالج علاقته بالشروط الطبيعية لقيامه وطبعا فهي في علاقة مباشرة‬ ‫بالتسخير أي التناسب بين حاجات الإنسان وما توفره الطبيعة من شروط قيامه بشرط العمل على‬ ‫علم‪ .‬لكن العمل على علم يمكن أن يتحول إلى تدمير بدل التعمير من ثم فلا بد من العمل‬ ‫والشرع الذي يعالج علاقته بالشروط التاريخية لجعل قيامه يجري بمقتضى العمل بقيم تحمي‬ ‫التعمير وتحول دونه والتحول إلى تدمير‪.‬‬ ‫وإذن فسأخصص للأولى والثانية فصلا وللثالثة والرابعة فصلا وللأخيرة فصلا وفصلا أخيرا خاتمة‬ ‫للمحاولة فتكون الفصول عشرة خمسة قبل هذا الذي هو السادس مع أربعة هي ما ذكرته الآن‪.‬‬ ‫والسادس أحاول فيه تعليل حصر القضايا في هذه الخمسة التي ذكرتها حيني هذا‪ :‬اثنتين لبعدي‬ ‫التجهيز أدرسهما في فصل واحدة واثنتين لبعدي التسخير أدرسهما في فصل واحد ومسألة للسياسة‬ ‫التي هي رعاية وظائف الجماعة وحمايتها بدولة الاحرار الذين هم رعاة أنفسهم ومرعيتها‬ ‫(الشورى ‪.)38‬‬ ‫وكل هذه القضايا هي مما ليس له تعليل لأنها مما هو كما هو دون تعليل لوجوده ولا لكيف‬ ‫وجوده‪ .‬وهو كذلك بما يشبه القرار الإلهي مطلق الحرية في الخلق وفي الأمر بمعنى أننا لا‬ ‫نستطيع تقديم تفسير لوجودها أولا ولكيف وجودها ثانيا‪ .‬فلا تعليل لكون الإنسان موجودا ولا‬ ‫لكونه على ما هو عليه تجهيزا وعلاقة بمحيطه الطبيعي وبمحيطه التاريخي مع تقديم الثاني على‬ ‫الأول كلما تقدم في الحضارة إذ يتحرر من العلاقة المباشرة بالطبيعة بتوسط العلاقة المباشرة‬ ‫بالتاريخ‪ .‬وكذلك لكونه مجهزا بالقدرة على النظر والعقد والعمل والشرع‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪86‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫وليس لنا تعليل لوجود الطبيعة ولا كيف وجودها ولا لوجود التاريخ ولا كيف وجوده ولا للمنشود‬ ‫الإنساني منهما ولا لكونهما مسخرين أو فيهما ما يناسب شروط عيش الإنسان‪ .‬وكان يمكن ألا‬ ‫تكون الأرض بمناخها وبنباتها وحيوانها مناسقة لعيشه ولنموه ومن ثم فهذا الأمر واقع ليس له‬ ‫تفسير بل هو كما هو رغم غيره ممكن الحصول ولا مرجح له‪ .‬وكونها تمكن من ذلك ليس له تعليل‬ ‫إلا عند المؤمن الذي يعتبر ذلك تفضلا من خالقها‪ .‬لكن الملحد ليس له تفسير عدى اعتبار ذلك‬ ‫من الصدف‪ :‬وهو ما لا يعقل لأن الانتظام في الصدف ينفي عنها الطابع الاتفاقي‪.‬‬ ‫ثم لا شيء يعلل أن يكون البشر لهم القدرة على التواصل فيكونوا قادرين على التعبير بالإشارة‬ ‫وبالعبارة ولا على التبادل فيكونوا قادرين على التعاون بالمقايضة أو بالعملة ما يجعل حياتهم مبينة‬ ‫على التواصل والتبادل شرطي للتعاون من أجل تحقيق ما يسد حاجاتهم المادية والروحية بما يشبه‬ ‫توزيع العمل بصورة تجل كل فرد خادما للكل ومخدوما من الكل ليس بين الأحياء وحدهم بينهم‬ ‫وبين السلف والخلف وبينهم وبين الجماعات الأخرى‪ .‬فلا توجد جماعة إنسانية مهما كانت بدائية‬ ‫ليس فيها كل هذه الوظائف وهي عين وظائف السياسة من حيث هي سياسة وتعينها في مؤسسات‬ ‫لتصبح ذات كيان اعتباري هو الدولة من حيث هي دولة‬ ‫لكن الأهم من ذلك كله أو أن البشرية كلها الحي منها والميت الموجود ماضيا وحاضرا وما سيوجد‬ ‫مستقبلا تمثل وحدة في كل الزمان وفي كل المكان مهما جرى بينهم من حروب وعداوات لأنهم جميعا‬ ‫يستمدون قيامهم مما يمده به العالم الطبيعي والعالم التاريخي ويحصلون عليه بما جهزوا به للنظر‬ ‫والعقد وللعمل والشرع بالتواصل والتبادل‪ .‬ومن ثم فطبيعي ان تكون الرسالة الخاتمة من علامات‬ ‫ختمها أنها خطاب ليس لجماعة بعينها بل لكل البشرية عرضا لكل ماضيها وتخطيطا لكل مستقبلها‬ ‫وشروعا لبناء عينة منها في حاضرها تمكن من التعايش السلمي‪.‬‬ ‫وتلك هي علة كون قيمها لا تفصل بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية لأن الفواصل بين‬ ‫الجماعات لا تمنع التواصل بينها في ما يتعلق بكل شروط القيام العضوي (الثورة) والروحي‬ ‫(التراث) وبين العمل بقيم الاستخلاف زمن السلم وزمن الحرب فلا يكون من الصدف أن تكون‬ ‫الرسالة الخاتمة أول رسالة حددت قانون الحرب وجعلته أكثر إنسانية من كل رؤى الشعوب‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪87‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫الأخرى لأنها تحول دون حروب الإبادة للبشر والشجر والحضارات واللغات وجعلت قوانين العدل‬ ‫والامن فيه جنيسة للقوانين الداخلية‪.‬‬ ‫فتكون سياستها في الداخل وفي الخارج مبنية على مبدأين هما الأخوة البشرية (النسا ‪ )1‬والمساواة‬ ‫بين البشر (الحجرات ‪ )13‬نفيا للتمايز بين الاعراق والطبقات والجنسين ولا تبقي للمفاضلة بينهم‬ ‫إلى مبدأ واحدا شرطا في التعارف معرفة ومعروفا وهو مبدأ التفاضل عند الله بالتقوى أي‬ ‫باحترام القانون المحقق للسلم‪ .‬وطبعا ليس بالضرورة أن يكون ذلك هو ما حصل في التاريخ‬ ‫الفعلي‪ .‬فالمسافة بين المبادئ وتطبيقها أو بين \"الواقع\" والمثال تبقى دائما مسيطرة مهما حرص‬ ‫الإنسان على الكمال‪.‬‬ ‫بقيت إذن ثلاثة فصول واحد للتجهيزين وواحد للتسخيرين وواحد لسياسة الإنسان فردا وجماعة‬ ‫وإنسانية والاخير خاتمة تلخص المحاولة كلها وتختم بمزيد التحديد لما هو واحد بين الفلسفة‬ ‫والدين أي للعودة إلى شرح سورة العصر وما تعنيه بخصوص العلاقة بين فلسفة الدين وفلسفة‬ ‫التاريخ في القرآن الكريم‪ .‬وهذا الفصل الأخير سيكون من جنس مختلف لأنه شبيه بالسادس وهو‬ ‫مناقشة لمفهوم الفاتاليسم لدحض فهم لايبنتس لمفهوم القضاء والقدر القرآنيين ولأن القضية ذات‬ ‫علاقة مباشرة بأهم شعار من شعارات الثورة أعني بيتي الشابي حول القدر‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪88‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫الفصل السابع من هذه المحاولة \"في الدلالة الفلسفية للتقابل بين آل عمران‪ 7‬وفصلت ‪ \"53‬أخصصه‬ ‫لتجهيزي الإنسان اللذين من دونهما لا يمكنه تحقيق مهمتيه كما يحددهما القرآن أي التعمير‬ ‫والاستخلاف‪:‬‬ ‫‪ .1‬جهاز النظر والعقد شرطا ضروريا غير كاف في التعمير‬ ‫‪ .2‬وجهاز العمل والشرع شرطا ضروريا غير كاف للاستخلاف‪ .‬والكفاية تحصل من دورهما‬ ‫المشترك‪ .‬فاجتماعهما يحقق الضرورة والكفاية معا فيمكن الإنسان من تحقيق مهمتيه أي‬ ‫علاقته بالطبية وعلاقته بالتاريخ فيدرك ما وراءهما المتعالي عليهما ويفهم علاقة عالم‬ ‫الشهادة بعالم الغيب وتلك هي استراتيجية استخلاف الله للإنسان في القرآن‪.‬‬ ‫وخطة الفصل كالتالي‪:‬‬ ‫‪ .1‬تعريف جهاز النظر والعقد‬ ‫‪ .2‬تعريف جهاز العمل والشرع‬ ‫‪ .3‬أثر الأول في الثاني بتوسط العملة والكلمة سلبا إذا ظن الاول كافيا‬ ‫‪ .4‬تأثير الثاني في الاول بالتصدي الإيجابي لأثرهما السلب إذا لم يظن كافيا فلم يستغن عن‬ ‫الاول‬ ‫‪ .5‬مقومات السياسة التربوية وتكوين الإنسان ليكون بفضل الجمع بينهما الذي ينتج الإيمان‬ ‫بالمتعالي مستقلا عن الطبيعة وعن التاريخ فلا يخلد إلى الأرض بل يسمو إلى ما له منه‬ ‫آيات المعاني الكلية النظرية معيار قوانين الطبيعية والمعاني الكلية العملية معيار سنن‬ ‫التاريخ‪.‬‬ ‫ويوجد في هذه الخطة اشكالان مضاعفان يشترك فيهما العنصران الأولان أي النظر والعقد‬ ‫واشكالان مضاعفان يشترك فيهما العنصران الثانيان أي العمل والشرع والإشكالات الأربعة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪89‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫يوحدها إشكال خامس هو علاقة عالم الشهادة بعالم الغيب الذي من دونه يصبح الإنسان كائنا‬ ‫أرضيا حصرا فيخلد إلى الأرض‪ .‬وتلك هي العلاقة التي يحددها القرآن بين فلسفة التاريخ‬ ‫وفلسفة الدين وبها نكتشف وحدة الفلسفي والديني أو معنى أن جوهر الإسلام هو سياسة عالم‬ ‫الشهادة بنماذج عالم الغيب التي مكن الله الإنسان من القدرة على ابداعها لما علمه الأسماء كلها‬ ‫وهي المعاني الكلية النظرية أداة المعرفة والمعاني الكلية العملية أداة القيمة‪.‬‬ ‫فالإشكالان الأولان هما‬ ‫‪ .1‬علاقة النظر بالعقد‬ ‫‪ .2‬وعلاقة العقد بالنظر‪ .‬والإشكالان الثانيان هما‬ ‫‪ .3‬علاقة العمل بالشرع‬ ‫‪ .4‬وعلاقة الشرع بالعمل‬ ‫‪ .5‬والاشكال الخامس هو الذي يؤسس للإشكالات الأربعة‪ :‬إنه علاقة عالم الشهادة بعالم الغيب‬ ‫سواء كان الإنسان متدينا أو ملحدا‪.‬‬ ‫فلا يوجد إنسان يمكن أن يكتفي بعالم الشهادة مهما ألحد لأنه يبحث عن علل النظام فيه‬ ‫بمستوييه الطبيعي والتاريخي وحتى بمستويي كيانه من حيث هو جسد وروح أو لنقل ‪-‬حتى لا‬ ‫نغضب الماديون‪-‬من حيث هو وعي بجسده لا يرده لجسده ولما حوله من العالم الطبيعي‬ ‫والتاريخي‪.‬‬ ‫والآن نبدأ البحث في مفهوم \"النظر والعقد\" لنفهم أولا علة كونه مفهوما مؤلفا من مفهومين يبدوان‬ ‫متناقضين عند الفاصلين بين الديني والفلسفي أو ما الذي يجعل هذين المفهومين مقومين لمفهوم‬ ‫واحد حتى لو حاولنا الفصل بينهما كما يتوهم الكثير ممن يذهبون إلى حد توهم التناقض بينهما؟‬ ‫فلولا وجود هذا المفهوم الواحد الذي يجعل أيا منهما متضمنا للثاني حتى عندما نفصل بينهما لكنت‬ ‫أول القائلين بالفصل بين الديني والفلسفي الذي هو علة تنازعهما‪ .‬فما آل بي إلى نفي الفصل‬ ‫بين الديني والفلسفي هو استحالة الفصل بين النظري والعقدي‪ .‬وهو توحيد مقابل تماما للتوحيد‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪90‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫الهيجلي‪ :‬فهو يوحد بينهما على أساس الصلح بين الربوبي والطبيعي وبين العلم المطلق والدين‬ ‫المطلق‪ .‬والتوحيد هنا علته نفي معن الصلح المغشوش والمطابقة الكاذبة المؤسسة للعلم المطلق‬ ‫والدين المطلق؟‬ ‫ومعنى ذلك أن كل من يقول بالتنازع بين الفلسفي والديني ليس ممن يعتد برأيه في الفلسفة أو في‬ ‫الدين وهو عندي ممن يكتفي بسطح المعاني فيقول بمنطق \"ويل للمصلين\" أو يبالغ مثل هيجل‬ ‫فيدعي أنه لا شيء وراء العالم وأن التاريخ هو الحكم النهائي‪ .‬فلو لم توجد العلاقة بين النظر‬ ‫والعقد أصلا لهذا الترابط بينهما لكان القائلون بالتنازع بينهما وكأنه تناف يبدون محقين‪ .‬وهم‬ ‫يبدون كذلك للغفلة عنها مقوما لهما‪ .‬ذلك أن النظر مجرد اعتباره نظرا يجعله نظرا في غيره‬ ‫منظورا إليه وفي ذاته ناظرة إليه وإلى ذاتها بل وأكثر من ذلك فإنه يتضمن التسليم بأنه يوجد‬ ‫غيره من الناظرين وتوجد شركة بينه وبينهم في موضوع النظر‪.‬‬ ‫وحتى نفهم الترابط بين النظر والعقد فلنفرض نظرا دون عقد‪ .‬كيف يمكن أن يكون نظرا؟ هل‬ ‫هو لا شيء؟ وهل هو نظر في لا شيء؟ وبلا شيء؟ ولا يطلب شيئا؟ وليس له علامة على البلوغ إلى‬ ‫ذلك الشيء ليعلم أن بحثه وصل إلى غايته أم هو يرمي في عماية؟ كلمة \"شيء\" لا أكررها عبثا بل‬ ‫هي على الأقل مفروضة حتى لو قلنا إنها موضوعة فرضيا لا وجوديا‪ .‬فمن يمكنه أن يزعم‬ ‫الاستغناء عنها أولا والاستغناء عن التسليم بوجود ذات ناظرة؟ وكل هذه الأمور مشروطة في‬ ‫النظر حتى لو وقع التشكيك لاحقا ليس في وجودها بل في كيف العقد فيه‪ .‬وهو تشكيك ملازم‬ ‫للدين ملازمته للفلسفة‪.‬‬ ‫والوضع الأضعف هو الوجود الفرضي‪ .‬لكن لماذا اختير من بين ما لا يتناهى من الفرضيات‬ ‫الممكنة؟ أليس لترجيح معين؟ هل الترجيح بلا مرجح؟ المرجح هو ما يسند الفرضية من القرائن‬ ‫التي يترتب عليها \"اعتقاد ما\" هو الموقف القضوي الذي وضع المضمون المطلوب في البحث النظري‬ ‫لأنه المحتمل الأرجح في عملية النظر‪ :‬والموقف القضوي هو ال ُسّلم المحددة لدرجات الاعتقاد في‬ ‫وجود المضمون القضوي وصحة تصوره‪ .‬وإذن فحضور العقد في النظر هو حضور المواقف القضوية‬ ‫التي ينطلق منها وينتهي إليها ببيان الفرق بين موقف البداية وموقف الغاية لأن النظر هو اختبار‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪91‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫الموقفين بالاحتكام إلى المضمون القضوي منطقيا وتجريبيا‪ :‬وذلك هو جوهر البحث العلمي وجوهر‬ ‫منهجه‪.‬‬ ‫فينتج من ثم أنه لا يمكن أن يوجد نظر منفصل عن عقد ما‪ .‬والعقد هذا متعدد الأبعاد‪ :‬فهو‬ ‫اعتقاد يعلل ترجيح موقف قضوي من موضوع محتمل بقدر معين من العلم بمضمونه‪ .‬لكن ليس‬ ‫ذلك فحسب بل هو ترجيح أن علمه ممكن وترجيح أن الباحث عنه قادر عليه أو غير قادر عليه‬ ‫وأنه توجد أدلة على الوصول إليه أو عدمه وأن ذلك مشترك بين العقول‪ .‬وكل هذه العقائد‬ ‫شروط لا بد منها للشروع في البحث العلمي ولمواصلته بل هي شروط حتى للوجود العادي لأنها من‬ ‫شروط البقاء‪ .‬وغالبا ما تتولد عن الوعي بثغرة في الرصيد الحاصل من المعرفة أو من التقييم في‬ ‫مجال من مجالات البحث العلمي لأن مجالات البحث متضامنة ومتكاملة وبعضها قد يوحي لغيره ما‬ ‫يوقظ اهتمامه بأمر لم يكن مما يخطر على بال الباحثين‪ .‬ثم هي تتولد حتى عند العامي للوعي‬ ‫بحاجة حاضرة بغياب ما يسدها فيكون الوعي بغيابه علة طلبه‪.‬‬ ‫وليس صحيحا ما يقوله ارسطو في المقالة الاولى من الميتافيزيقا بأن العلم النظري يبدأ بعد سد‬ ‫الحاجات اولا لأن سدها النهائي مستحيل وثانيا لأن طلب ما يسدها يبقى دائما المحرك الأول‬ ‫للأسئلة إذ إن الحاجة المعرفية حاجة روحية وليست أهم من الحاجة العضوية لما بينهما من علاقة‬ ‫هي علاقة الغاية بالوسيلة في الاتجاهين‪ .‬كل هذه من باب الاعتقاد ولها درجات هي التي تحدد‬ ‫المواقف القضوية التي تقود البحث العلمي دائما‪ .‬فهي مواقف من حلول موضوعة فرضيا لأشياء‬ ‫موجودة فرضيا بأدوات نظرية صالحة فرضيا لحل المشكل‪ .‬ولنا عن حصول الحل علامات فرضية‬ ‫نحتكم إليها في ترجيح المطلوب‪ .‬وكل ذلك من العقائد المقومة لفعل النظر‪ :‬فيكون البحث العلمي‬ ‫في الحقيقة اختبار لعقائد ومحاولة لتأييدها أو لدحضها للانتقال من العقد الفرضي إلى العقد‬ ‫الذي يعتقد أنه صار مؤسسا على نسقية منطقية وعلى شهادة تجريبية بمعايير الثقة في الشهادة‬ ‫التي يتواضع عليها اهل الاختصاص عادة‪.‬‬ ‫والنتيجة هي بخلاف الفهم السطحي لمعنى النظر فإنه لا يوجد نظر من دون أن يتقدم العقد عليه‬ ‫مرتين وأن يتأخر عنه مرتين‪ :‬فقبل النظر لا بد من الاعتقاد في وجود الموضوع القابل للعلم ولو‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪92‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫فرضيا وفي وجود القدرة على علمه عند الإنسان‪ .‬وبعد النظر لا بد من العقد غاية إما لتأكيد‬ ‫عقد الانطلاق أو لدحضه أو لتصويب وتجويده لأن البحث يهدف إلى اثبات حقيقة موجودة وعلم‬ ‫موثوق أو إلى نقد رؤية لدحضها إذا كانت كاذبة أو تعديلها إذا كانت بحاجة إلى التصويب‪.‬‬ ‫فيكون النظر محاطا بالعقد قبله وبعده ولا يعتبر نظرا إذا غاب أحد هذه العناصر الاربعة وإلا‬ ‫فهو لا يبقى بحثا عليما بل يمكن اعتباره إما ابداعا ادبيا خياليا أو أوهاما ناتجة عن أمراض‬ ‫نفسية‪ .‬فالنظر لا يعتبر نظرا علميا ما لم يكن منطلقا من عقيدتين ولو فرضيا وساعيا إلى‬ ‫عقيدتين ولو بمجرد الترجيح وطبعا فمضمونا لعقد متغير لكن الخانات العقدية ثابتة بمعنى أنه لا‬ ‫بد من عقد ما دون تعيين العقد الذي يتغير بحسب حال المعرفة ومراحل اقترابها من الغاية‪.‬‬ ‫وهذا ما يتمسك به الفاصلون بين الفلسفي والديني‪ .‬فهم يميزون بين العقد الذي ذكرت أصنافه‬ ‫الأربعة والعقد الذي يعتبرونه دينيا وينسبونه إلى الخرافة أي العقد في ما وراء هذه الاصناف‪.‬‬ ‫فهم يعتقدون أن الدين ليس عقده متعلقا بما يجانس هذه الاربعة بل بعقد يعللها بما يسميه ما‬ ‫وراءها‪ .‬فيوهمونك بأنهم العلم يعتقد في ما هو \"واقع\" وليس في ما هو خيال مفترض وراء هذا‬ ‫الواقع الذي يقبل الإدراك الحسي إما مباشرة أو مجهزا بوسائل مخبرية‪.‬‬ ‫فإذا سألتهم ما معنى \"الواقع\" مطبقا على الموضوع القابل للعلم والذات القادرة على العلم قبلهما ثم‬ ‫مطبقا على الحقيقة الناتجة عن النظر في \"واقع\" المنظور و\"واقع\" الناظر ما الواصل بينهما بحيث‬ ‫نميز بين الصدق والكذب المعرفيين؟ فلن يستطيعوا جوابا‪ .‬ذلك أن الأمر لا يتعلق بمضامين عينية‬ ‫يمكن الإشارة إليها بل بشروط مبدئية لا يمكن الاستغناء عنها وهي أقرب إلى ما يوصف‬ ‫باللاواقعي عند الكلام على العقد الديني‪ .‬فالمبدأ العام المتعلق بالعلية وبالنظام وبقابلية الأشياء‬ ‫للمعرفة وللتقييم وقدرة الإنسان على فهم الطبيعة والتاريخ والإمساك بنظامهما ليكون تعامله‬ ‫معهما عملا على علم كل ذلك لا شيء يثبته فعليا إذا طبقناه على ما لم يحصل بعد‪ .‬فمن أين لنا‬ ‫أن غدا يشبه أمس؟‬ ‫فتكون المقابلة بين الواقع الحقيقي والواقع غير الحقيقي وبين الحقيقة والخرافة مقابلة ليست‬ ‫نسبية إلى الذات العارفة إلا إذا قلنا أن الوجود كله هو ما في إدراك الإنسان ولا شيء يوجد‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪93‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫خارجه‪ .‬فيكون ما يوجد خارجه ليس له ما يجعله موجودا أولا وعلى تلك الكيفية ثانيا وهما ما‬ ‫نسميه ما وراءه‪ .‬فهل ما وراء الموجود وجوديا وما وراء المنشود منشوديا كلاهما يقتصر على‬ ‫الأماني الإنسانية أم إن لهما اساس موضوعي هو الذي يبقي على الأماني الإنسانية بل ويزيدها‬ ‫تدعيما كلما تقدمت الإنسانية في المعرفة والتقييم؟‬ ‫وإذن فالفرق بين الفلسفي والديني ليس متعلقا بضرورة الماوراء بل بطبيعته‪ .‬لكن وجوده وكونه‬ ‫شيئا آخر غير ما به نفسر \"الواقع\" أعني ما نعتبره موضوع نظام \"الواقع\" وتعليله حتى لو سلمنا‬ ‫بأنه يمكن أن يكون حالا فيه فيؤله \"الواقع\" ليس لأنه تمظهره بل لأنه نظام تمظهره وهو دين‬ ‫طبيعي وليس منزلا بالضرورة‪ .‬ولا فرق عندي بين الدين الطبيعي والدين المنزل‪ .‬فالتمييز‬ ‫بينهما ينتسب إلى \"كثافة الاعتقاد\" أو تخريجه المختلف بين الثقافات لكن كونه ضروريا في كل‬ ‫الثقافات هو ما يعنيني‪ .‬ولهذه العلة فابن خلدون عندما رد على ابن سينا وقع في خطأ فادح‪ :‬فهو‬ ‫يعتقد أن غالبية الشعوب ليس لها عقائد دينية تؤسس الدولة لظنه أن الأديان الطبيعية ليس‬ ‫أديان‪ .‬والإسلام من خاصياته أنه يعتبر الاديان المنزلة أديان طبيعية ما دامت فطرية أي إنها‬ ‫مقوم من مقومات طبيعة الإنسان‪.‬‬ ‫فخاصية الإسلام هو اعتبار الدين حتى المنزل فطريا أي إنه يضيف إلى ما تعريف الفلسفة لإنسان‬ ‫(الحيوانية والناطقية) الإيمانية بما ذكرت من المعتقدات التي لا يمكن للنظر ولا للتقييم‬ ‫الضروريين لمهمتي الإنسان معمرا ومستخلفا أن يحصلا من دونها‪ .‬وإذن فهو بنحو ما دين طبيعي‬ ‫وان اختلف اسلوب خطابه ونسبة الرسالة إلى الله مباشرة وجعل الرسول مجرد مبلغ أو ناقل‬ ‫للرسالة أي إنه لا يمكن تصور الإنسان من دون دين بهذا المعنى أي الاعتقاد الفطري في وجود‬ ‫شيء على كيفية ما قابل للعلم ووجود ذات بكيفية ما قادرة على علمه والعيش بما تستخرجه منه‬ ‫بعملها على علم بقوانينه وبتطبيق علومها مع نظام قيمي هو شريعة العمل الإنساني‪.‬‬ ‫وهذه الخصائص في الإسلام هي التي كانت محيرة للفكر المسيحي واليهودي منذ نزول القرآن إلى‬ ‫الآن حتى إن فلاسفة الأنوار عدوا الإسلام إيجابا ما أعدته الكنيسة سلبا دينا عقلانيا بإطلاق‪:‬‬ ‫فكان موقفها من لاعقلانية الديني في الكنيسة وليس من الديني عامة إلى حد جعل هيجل يعتبر‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪94‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫كنط والتنوير أميل إلى الإسلام منهما إلى المسيحية‪ .‬وبذلك فالعقائد الأربعة حول النظر تعود‬ ‫إلى معنيين للنظام المفترض بداية والمثبت غاية‪ .‬وذلك هو المفهوم الواحد المؤلف من المفهومين‬ ‫\"نظر وعقد\"‪ .‬وهو تجهيز الإنسان المعرفي المتضايف مع استعداد العالم الطبيعي والتاريخي ليكونا‬ ‫مصدر قيام الإنسان المادي والروحي عن طريق العلم وتطبيقاته‪.‬‬ ‫وهذه الحقيقة دينية وفلسفية في آن‪ .‬وهي نظرية وعقدية فيهما معا رغم أنها تبدو نظرية في‬ ‫الفلسفة وعقدية في الدين‪ .‬ولكنها فيهما معا تتصف بهذين الوجهين حتما‪ .‬ولا يمكن الفصل‬ ‫بينهما‪ .‬والفصل بين الدين والفلسفة علته توهم الديني عقديا دون نظر والفلسفي نظريا دون‬ ‫عقد‪ .‬وهما من الأوهام العامية‪ .‬وحتى إذا قبلنا بانطباق هذه الرؤية على الأديان التي يقصها‬ ‫القرآن فهي لا تنطبق على الإسلام لأنه يعتبر ذلك ناتجا عن تحريفها وليس عن كونها أديانا سوية‬ ‫كما عرضها الرسل الذين بلغوها‪ .‬ولما كان لا ينفي أن فيها ما هو صادق فهو يمتحنها بمنهج‬ ‫التصديق والهيمنة وهو معنى الموقف النقدي في كل معرفة خالفة لمعرفة سالفة‪.‬‬ ‫أمر الآن إلى \"العمل والشرع\"‪ .‬ولن أطيل في بيان المفهوم الواحد المؤلف من المفهومين لأن ما قمنا‬ ‫به في النظر والعقد يساعد على فهم أسرع في العمل والشرع إذ إن على المفهوم الجامع بين المقومين‬ ‫واحدة في الحالتين‪ .‬فالعمل لا بد له من شرعين قبله ومن شرعين بعده مثل النظر والعقد الذي‬ ‫يحتاج إلى عقدين قبله وعقلين بعده‪ .‬ففي حالة المعرفة تعتبر هذه المقتضيات ضرورية إلى‬ ‫الانطلاق من عقد فرضي حول نظام الطبيعة والوصول إلى عقد يقرب من الحقيقة اثباتا للنظام‪.‬‬ ‫فالعمل مسبوق بشرعين ينطلق منهما ومتبوع بشرعين ينتهي إليهما بنفس منطق النظر المحتاج إلى‬ ‫العقد قبله وبعده‪ .‬فكل عمل لا بد له من تشريع سابق حول مجريات العمل المطلوب انجازه ومن‬ ‫تشريع سابق هو حسابات الكلفة التي يتطلبها انجازه‪ .‬ثم يليه تشريع مضاعف يقيم مجريات‬ ‫العمل المنجز ومطابقته للخطة ويقيم حسابات الكلفة التي ترتبت على تحقيقه ومطابقة الكلفة‬ ‫الحاصلة للكلفة المتوقعة‪ .‬والتشريعات الاربعة تقييمية في ضوء المعتقدات المعرفية بداية وغاية‬ ‫بينهما النظر الناقل من الاولى إلى الثانية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪95‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook