فالصبر حقيقة أن الإنسان إذا صدم أول ما يصدم يصبر ويحتسب ،ويحسن ان يقول(( :إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها)). فالواجب البدار بالصبر والاحتساب ،وذلك بأن يكف لسانه عما لا ينبغي وجوارحه عما لا ينبغي هذا الصبر ،وقلبه يكون مسل ًما لله راض ًيا محتس ًبا لا جز ًعا ،يعلم أن ما أصابه إلا ماقدر له ،هذا هو الصبر طمأنينة القلب وعدم جزعه وكف اللسان عما لا ينبغي ،وكف الجوارح عما لا ينبغي؛ ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم \" :ليس منا من ضرب الخدود ،أو شق الجيوب ،أو دعا بدعوى الجاهلية \" ففي هذا الحديث: أولاً :حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته إلى الحق وإلى الخير ،فإنه لما رأي هذه المرأة تبكي عند القبر أمرها بتقوى الله والصبر ،ولما قالت: ((إليك عني)) لم ينتقم لنفسه ،ولم يقمها بالقوة ،لأنه عرف أنه أصابها من الحزن ما لا تستطيع أن تملك نفسها معه.
ثانياً :أن الإنسان يعذر بالجهل ،سواء أكان جهلاً بالحكم الشرعي أم جهلاً بالحال ،فإن هذه المرأة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم :إليك عني ،أي :ابعد عني ،مع أنه يأمرها بالخير والتقوي والصبر .ولكنها لم تعرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلهذا عذرها الرسول صلى الله عليه وسلم . ثالثاً :أنه لا ينبغي للإنسان المسؤول عن حوائج المسلمين أن يجعل على بيته بواباً يمنع الناس إذا كان الناس يحتاجون إليه. رابعاً :أن الصبر الذي يحمد فاعله هو الصبر الذي يكون عند الصدمة الأولى فيصبر الإنسان ويحتسب ،ويعلم أن لله ما أخذ وله ما أعطي ،وأن كل شيء عنده بأجل مسمي خامساً :أن البكاء عند القبر ينافي الصبر؛ ولهذا قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم (( :اتقي الله واصبري)).
الحديث الثاني والثلاثون عن أبي هريرة رضي الله عنه :أ َّن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم َقالََ (( :يقُولُ اللهُ َت َعالَىَ :ما ل َعب ِدي ال ُم ْؤ ِم ِن ِع ْن ِدي َج َزا ٌء إِ َذا َق َب ْض ُت َصفِ َّي ُه ِم ْن أ ْه ِل ال ُّد ْن َيا ُث َّم ا ْح َت َس َب ُه إلا ال َج َّن َة)) (رواه البخاري) شرح الحديث هذا الحديث يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن الله، ويسمي العلماء هذا القسم من الحديث :الحديث القدسي؛ لأن االرسول صلى الله عليه وسلم رواه عن الله تعالى. قوله( :صفيه) :الصفي :من يصطفيه الإنسان ويختاره كالﻮلﺪ والأب والأم والزوجة والأخ وكﻞ مﺤﺒﻮب مﺆثﺮ. قال الﺤافﻆ ابﻦ حﺠﺮ :قﻮله( :إذا قﺒﻀﺖ صفﻴه) هﻮ الﺤﺒﻴﺐ الﻤﺼافي؛ كالﻮلﺪ والأخ ،وكﻞ مﻦ يﺤﺒه الإنﺴان ،والﻤﺮاد بالقﺒﺾ :قﺒﺾ روحه وهﻮ الﻤﻮت.
والﻤﺮاد بـ\" :احﺘﺴﺒه\" :صﺒﺮ على فقﺪه ،راج ًيا الأجﺮ مﻦ الله على ذلﻚ إذا أخذه الله عز وجل ثم احتسبه الإنسان فليس له جزاء إلا الجنة. ففي هذا دليل على فضيلة الصبر على قبض الصفي من الدنيا ،وأن الله عز وجل يجازي الإنسان إذا صبر و احتسب ،يجازيه الجنة. وفيه :دليل على فضل الله سبحانه وتعالي وكرمه على عباده ،فإن الملك ملكه ،والأمر أمره ،وأنت وصفيك كلاكما لله عز وجل ،ومع ذلك فإذا قبض الله صفي الإنسان واحتسب ،فإن له هذا الجزاء العظيم. وفيه :الإشارة إلى أفعال الله ،من قوله(( :إذا قبضت صفيه)) ولا شك أن الله سبحانه وتعالي فعال لما يريد ،ولكن يجب علينا أن نعلم أن فعل الله تعالى كله خير ،لا ينسب الشر إلى الله أبداً .فإذا قدر الله على الإنسان ما يكره ،فلا شك أن ما يكرهه الإنسان بالنسبة إليه شر .لكن الشر في هذا المقدر لا في تقدير الله ،لأن الله تعالى لا يقدره إلا لحكمة عظيمة ،إما للمقدر عليه وإما لعامة الخلق.
الحديث الثالث والثلاثون عن عائش َة رض َي الله عنها :أَ َّن َها َسألَ ْت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم َع ِن ال ّطا ُعو ِنَ ،فأَ ْخ َب َر َها \" أ َّن ُه َكا َن َع َذا ًبا َي ْب َع ُث ُه اللهُ َت َعا َلى َع َلى َم ْن ي َشا ُءَ ،ف َج َع َل ُه اللهُ تعالى َر ْح َم ًة ل ْل ُم ْؤ ِمني َن، َف َل ْي َس ِم ْن َع ْب ٍد َي َق ُع في ال َّطا ُعو ِن فيمك ُث في بل ِد ِه َصاب ًرا ُم ْح َت ِس ًبا َي ْعلَ ُم أ َّن ُه لا يصي ُب ُه إلا َما َك َت َب اللهُ َل ُه إلا َكا َن لَ ُه ِم ْثلُ أ ْج ِر ال ّشهي ِد \" (رواه البخاري) شرح الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون ،فأخبرها أن الطاعون عذاب أرسله الله سبحانه وتعالي على من يشاء من عباده. والطاعون :مرض معروف وهو يعد من الأمراض الوبائية التي تنتشر وتعدي ،فهو مرض َو َرم ٌّي ،من الأمراض الورمية ،ويظهر غالباً بشكل بثور تحت الإبط ،ويميل ذلك إلى السواد ،ويكون فيه شيء من التوهج والحرارة،
وترتفع معه حرارة الجسم ،ويكون معه خفقان في القلب سريع ،فهذا هو الطاعون. وهو نوع خاص من الوباء ،إذ إن الوباء هو المرض العام الذي ينتشر كالكوليرا مثلاً أو الجدري ،أو غير ذلك من الأمراض التي تنتشر في الناس ،فهذه كلها من الأوبئة العامة التى تحل بالأرض فتصيب اهلها ويموت الناس منه. وسواء كان هو وباءا معيناً أم كل وباء عام يصيب الناس مثل الكوليرا وغيرها؛ فإن هذا الطاعون عذاب ارسله الله عز وجل. ولكنه رحمة للمؤمنين إذا نزل بأرضه وبقي فيها صابراً محتسباً ،يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له ،فإن الله تعالى يكتب له مثل أجر الشهيد. فقوله(( :فليس من عبد يقع في الطاعون)) أي :أنه يبتلى به ويصاب به ،أو يقع في أرض يظهر فيها الطاعون ،يقع فيها البلاء والوباء ،فيمكث في بلده صابراً محتسباً بهذا الشرط ،لأنه يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه،
وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ،وأنه لا يمكن أن يقع شيء إلا بتقدير الله. ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ،وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه)) فإذا وقع الطاعون بأرض فإننا لا نقدم عليها ،لأن الإقدام عليها إلقاء بالنفس إلى التهلكة ،ولكنه إذا وقع في أرض فإننا لا نخرج منها فراراً منه ،لأنك مهما فررت من قدر الله إذا نزل بالأرض فإن هذا الفرار لن يغني عنك من الله شيئاً. ففيه :دليل على فضل الصبر والاحتساب ،وأن الإنسان إذا صبر نفسه في الأرض التي نزل فيها الطاعون واحتسب الأجر وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له ،ثم مات به، فإنه يكتب له مثل أجر الشهيد.
الحديث الرابع والثلاثون عن أنس رضي الله عنه َقالَ :سمع ُت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول(( :إ َّن الله عز وجلَ ،قالَ :إِ َذا ا ْب َتلَ ْي ُت عبدي ب َحبيب َتيه َف َصب َر َع َّوض ُت ُه ِم ْن ُه َما ال َج َّن َة)) يريد عينيه (رواه البخاري) شرح الحديث في هذا الحديث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى أنه قال(( :إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه)) يعني عينيه فيعمى ،ثم صبر ،إلا عوضه الله بهما الجنة .لأن العين محبوبة للإنسان ،فإذا أخذهما الله سبحانه وتعالى وصبر الإنسان واحتسب ،فإن الله يعوضه بهما الجنة. فالمقصود أن مصيبته عظيمة ف َع ُظم الجزاء عليها ،قال: (فصبر عوضته منهما الجنة) والجنة تساوي كل الدنيا ،بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم (( :لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها)) أي مقدار متر في
الجنة خير من الدنيا وما فيها؛ لأن ما في الآخرة باق لا يفني ولا يزول ،والدنيا كلها فانية زائلة ،فلهذا كانت هذه المساحة القليلة من الجنة خيراً من الدنيا وما فيها. واعلم أن الله سبحانه وتعالى إذا قبض من الإنسان حاسه من حواسه ،فإن الغالب أن الله يعوضه في الحواس الأخرى ما يخفف عليه ألم فقد هذه الحاسة الني فقدها. فالأعمى يمن الله عليه بقوة الإحساس والإدراك
الحديث الخامس والثلاثون عن ع َطاء بن أبي َربا ٍح َقالََ :قالَ لي اب ُن َعبا ٍس رضي اللهُ عنهما :ألا أُري َك ا ْم َرأ ًة ِم ْن أَ ْه ِل ال َج َّنة؟ َفقُ ْل ُتَ :بلَىَ ،قالَ :ه ِذ ِه ال َم ْرأةُ ال َّسودا ُء أت ِت ال َّنب َّي صلى الله عليه وسلمَ ،ف َقالَ ْت :إ ّني أُ ْص َر ُع ،وإِ ِّني أ َت َك َّش ُف ،فا ْد ُع الله َت َعالَى لي ،قال(( :إ ْن ش ْئ ِت َص َبر ِت َو َل ِك ال َج َّن ُةَ ،وإ ْن ش ْئ ِت َد َعو ُت الله َت َعا َلى أ ْن ُي َعا ِفي ِك)) َف َقالَ ْت :أَ ْصبِ ُرَ ،ف َقالَ ْت :إ ِّني أ َت َك َّش ُف َفاد ُع الله أ ْن لا أَ َت َك َّشف، َف َد َعا َل َها ( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه) شرح الحديث ((ألا أريك امرأة من أهل الجنة)) يعرض عليه أن يريه امرأة من أهل الجنة .وذلك لأن أهل الجنة ينقسمون على قسمين: ▪️قسم نشهد لهم بالجنة بأوصافهم. ▪️وقسم نشهد لهم بالجنة بأعيانهم.
أما الذين نشهد لهم بالجنة بأوصافهم فكل مؤمن ،كل متق، فإننا نشهد بأنه من أهل الجنة .كما قال الله سبحانه وتعالى في الجنة (:أُ ِع َّد ْت لِ ْل ُم َّت ِقي َن) (آل عمران)1٣٣ : وقال(:إِ َّن الَّ ِذي َن آ َم ُنوا َو َع ِملُوا ال َّصالِ َحا ِت أُو َلئِ َك ُه ْم َخ ْي ُر ا ْل َب ِر َّي ِة) ( َج َزا ُؤ ُه ْم ِع ْن َد َر ِّب ِه ْم َج َّنا ُت َع ْد ٍن َت ْج ِري ِم ْن َت ْحتِ َها ا ْلأَ ْن َها ُر َخالِ ِدي َن فِي َها أَ َبداً َر ِض َي ال َّلهُ َع ْن ُه ْم َو َر ُضوا َع ْن ُه َذلِ َك لِ َم ْن َخ ِش َي َر َّب ُه) (البينة)8/7 : فكل مؤمن متق يعمل الصالحات فإننا نشهد بأنه من أهل الجنة ،ولكن لا نقول هو فلان وفلان ،لأننا لا ندري ما يختم له ،ولا ندري هل باطنه كظاهره ،فلذلك لا نشهد له بعينه. فإذا مات رجل مشهود له بالخير قلنا :نرجو أن يكون من أهل الجنة ،لكن لا نشهد أنه من أهل الجنة. قسم آخر نشهد له بعينه ،وهم الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم في الجنة ،مثل العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم ،رضي الله عنهم ،ممن عينهم الرسول صلى الله عليه وسلم فهؤلاء نشهد لهم بأعيانهم بأنهم في الجنة.
ومن ذلك هذه المرأة التي قال ابن عباس لتلميذه عطاء بن أبي رباح( :ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت :بلي! قال: هذه المرأة السوداء) امرأة سوداء لا يؤبه لها في المجتمع ،كانت تصرع وتنكشف ،فأخبرت النبي ️ وسألته أن يدعو الله لها ،فقال لها ((:إن شئت دعوت الله لك ،وإن شئت صبرت ولك الجنة ،قالت :اصبر)) وإن كانت تتألم وتتأذي من الصرع، لكنها صبرت من أجل أن تكون من أهل الجنة ولكنها قالت: يا رسول الله إني أتكشف ،فأدع الله أن لا أتكشف .فدعا الله أن لا تتكشف ،فصارت تصرع ولا تتكشف. والصرع نوعان: صرع بسبب تشنج الأعصاب :وهذا مرض عضوي يمكن أن يعالج من قبل الأطباء بإعطاء العقاقير التي تسكنه أو تزيله تماماً. وقسم آخر بسبب الشياطين والجن ،يتسلط الجني على الإنسي فيصرعه ويدخل فيه ،ويضرب به على الأرض ،ويغمي عليه من شدة الصرع ولا يحس.
ويتلبس الشيطان أو الجنى بنفس الإنسان ويبدأ يتكلم على لسانه ،وهذا النوع من الصرع علاجه بالقراءة من أهل العلم والخير ،يقرأون على هذا المصروع وقد ثبت صرع الجنى للإنسي بالقرآن ،والسنة ،والواقع ففي القرآن :قال الله سبحانه (:الَّ ِذي َن َيأْ ُكلُو َن ال ِّربا لا َيقُو ُمو َن إِ َّلا َك َما َيقُو ُم ا َّل ِذي َي َت َخ َّب ُط ُه ال َّش ْي َطا ُن ِم َن ا ْل َم ِّس) (البقرة :من الآية )275وهذا دليل على أن الشيطان يتخبط من المس وهو الصرع. وفي السنة :روي الإمام أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر من أسفاره ،فمر بامرأة معها صبي يصرع ،فأتت به إلي النبي عليه الصلاة والسلام ،وخاطب الجنى وتكلم معه وخرج الجنى .فأعطت أم الصبي الرسول صلي الله عليه وسلم هدية على ذلك. وكذلك أيضاً كان أهل العلم يخاطبون الجني في المصروع ويتكلمون معه ،ومنهم شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله، ذكر ذلك ابن القيم.
وهذا النوع من الصرع له علاج يدفعه ،وله علاج برفعه. فهو نوعان: أما دفعه :فبأن يحرص الإنسان على الأوراد الشرعية الصباحية والمسائية. و منها :آية الكرسي ،فإن من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ،ولا يقربه شيطان حتى يصبح. ومنها سورة الإخلاص والفلق والناس ،فليحرص الإنسان عليها صباحاً ومساء ،فإن ذلك من أسباب دفع أذية الجن. وأما الرفع :فهو إذا وقع بالإنسان فإنه يقرأ عليه آيات من القرآن فيها تخويف وتحذير وتذكير واستعاذة بالله عز وجل حتى يخرج. الشاهد من هذا الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المرأة(( :إن شئت صبرت ولك الجنة ،فقالت :اصبر)) ففي هذا دليل على فضيلة الصبر ،وأنه سبب لدخول الجنة .
الحديث السادس والثلاثون عن أبي عبد الرحم ِن عب ِد الله ب ِن مسعو ٍد رضي الله عنه َقالََ :كأَ ِّني أ ْن ُظ ُر إِلَى رسو ِل الله صلى الله عليه وسلم َي ْح ِكي َنبِ ًّيا ِم َن الأَ ْنبِيا ِءَ ،صلَوا ُت الله َو َسلا ُم ُه َعلَ ْيه ْمَ ،ض َربه َق ْو ُم ُه َفأ ْد َموهَُ ،و ُه َو َي ْم َس ُح ال َّد َم َع ْن َو ْج ِه ِهَ ،يقُولُ(( :اللَّ ُه َّم ا ْغ ِف ْر لِ َقوميَ ،فإِ َّن ُه ْم لا َي ْعلَمو َن)) ( ُم َّت َف ٌق ع َلي ِه) شرح الحديث في هذا الحديث يحكي النبي صلى الله عليه وسلم شيئا مما جري للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ،والأنبياء كلفهم الله تعالى بالرسالة لأنهم اهل لها ،كما قال الله تعالى { :ال َّلهُ أَ ْعلَ ُم َح ْي ُث َي ْج َعلُ ِر َسالَ َت ُه (الأنعام :من الآية.)124 فهم أهل لها في التحمل والتبليغ والدعوة والصبر على ذلك، وكان الرسل -عليهم الصلاة والسلام -يؤذنون بالقول وبالفعل ،وربما بلغ الأمر إلى قتلهم.
حكي نبينا صلى الله عليه وسلم عن نبي من الأنبياء أن قومه ضربوه ،ولم يضربوه إلا حيث كذبوه حتى أدموا وجهه ،فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول(( :اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) \"ضربه قومه فأدموه\" يعني :ضربوه ضرباً سال منه الدم ،خرج منه الدم ،وهذا يدل على أنه مبرح ،ضرب شديد مد ٍم. \"وهو يمسح الدم عن وجهه\" وأن هذا الضرب وقع بأشرف الأشياء ،وهو وجهه ورأسه ،يمسح الدم عن وجهه ،وأن هذا الدم الذي خرج دم كثير ،فكان يمسحه عن وجهه. ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) دعا لهم بالمغفرة التي تتضمن الستر ،والتجاوز عن الإساءة، بمعنى أنهم لا يؤاخذون عليها ،دعا لهم بهذا وهذا، بقوله((:اللهم اغفر لقومي)). واعتذر لهم أيضاً على هذه الإساءة فإنهم لا يعلمون فالفاء للتعليل ،أنهم فعلوا ذلك لجهلهم ،لعدم علمهم ،فلو علموا
منزلته عند الله لم يجترئوا عليه هذا الإجراء وهذا غاية ما يكون من الصبر فالمقصود إذا كان الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام -بهذه المثابة من احتمال الأذى ،وأنه يقع عليهم هذا الأذى العظيم ،ومع ذلك يدعون لهؤلاء بالمغفرة ،وهم كفار من المعاندين الأشرار ،ويعتذرون لهم أيضاً بأنهم لا يعلمون. فهذا فيه عبرة لنا أن نصبر على ما نؤذي به من قول أو فعل في سبيل الدعوة إلى الله. وفي قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه(( :كأني انظر إلي النبي صلي الله عليه وسلم وهو يحكي لنا)) فيه دليل على أن المحدث أو المخبر يخبر بما يؤيد ضبطه للخبر والحديث. في هذا الحديث :فضلُ الصبر على الأَذى ،ومقابلة الإِساءة والجهل بالإحسان وال ِح ْلم.
الحديث السابع والثلاثون عن أبي سعي ٍد وأبي هرير َة رض َي الله عنهما ،عن ال َّنب ِّي صلى الله عليه وسلمَ ،قالََ (( :ما ُيصي ُب ال ُم ْسلِ َم ِم ْن َن َص ٍب، َولا َو َص ٍبَ ،ولا َه ٍّمَ ،ولا َح َز ٍنَ ،ولا أ َذ ًىَ ،ولا َغ ٍّمَ ،ح َّتى ال َّشو َك ُة ُي َشا ُك َها إلا َك َّف َر اللهُ بِ َها ِم ْن َخ َطاياهُ)) ( ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه) شرح الحديث هذا الحديث أورده الإمام النووي -رحمه الله -في باب الصبر ،وذلك أن فيه سلوة للمؤمن ،فهو مهما عظم عليه البلاء والأذى والمرض فإذا تذكر هذا فإن ذلك يه ّون عليه مصيبته ،ومعلوم أن المصيبة تهون إذا عرف الإنسان الجزاء عليها. ن ّوع االنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ألوان الأضرار والآلام التي تلحق المسلم ،ما كان منها معنوياً، وما كان حسياً ،كل شيء يصيب الإنسان مما يؤلمه فإنه يؤجر على ذلكُ ،تك َّفر عنه الخطايا.
((ما يصيب المسلم من نصب)) وخص المسلم؛ لأن ذلك لا يكون لغيره ،فهو الذي يحتسب ،وهو الذي يرجو ما عند الله عز وجل. ((ما يصيب المسلم من َن َصب)) النصب هو التعب ،أي ما يصيبه من الإرهاق والتعب ،ولو كان ذلك في أمور دنياه، أي أياً كان سبب التعب ،إلا التعب في المعصية. ((ولا َو َصب)) الفرق بين الن َصب والو َصب هو أن: النصب :هو التعب ،والوصب :هو الوجع الدائم أو المرض. ((ولا هم ولا ح َزن)) فالوصب والنصب يصيب غالباً البدن، وأما الهم والحزن فهو يصيب النفس ،و اعتلال النفس ،قد يكون عارضاً وقد يدوم فيكون مرضاً وهو الاكتئاب. ((ولا هم ولا حزن)) الفرق بين الهم والح َزن هو: أن الهم هو :الاغتمام من أمر المستقبل. والحزن هو :الاغتمام من أمر فائت فالمقصود أن الإنسان يؤجر على الهم ،ويؤجر على الحزن.
((ولا أذى)) هذا أعم من كل ما سبق ،الأذى يدخل فيه الهم والغم والنصب والوصب ،وأنواع أخرى. ((ولا غم)) الفرق بين الغم والح َزن هو :أن الغم من شدته كأنه يغمى على الإنسان بسببه ،فكأنه يغطيه الغم ،فهذا هو الغم ،أشد الحزن ،أو الهم الشديد جداً الذي يكاد يذهب معه صواب الإنسان. ((حتى الشوكة يشاكها)) صعد به إلى أعلى ،ووصل به إلى القمة ،فذكر الغم الذي يكاد يغطي عقل الإنسان ،ثم نزل فيه إلى أدنى شيء ممكن أنه يقع للإنسان الشوكة ،فالشوكة تصيب الإنسان ويدفع أثر ذلك ،ثم يواصل سيره. ((إلا ك ّفر الله بها من خطاياه)) قوله :من خطاياه تحتمل أن تكون تبعيضية ،وهو الأرجح ،بمعنى :أن الشوكة أو غير الشوكة لا تكفر جميع الذنوب ،وإنما يكفر ذلك بع َض الذنوب. لكن هناك ذنوب لا تكفرها لا الشوكة وهي حقوق الخلق، هذه لابد أن ترد إليهم سواء كانت حقوقاً معنوية أو حسية.
وإذا زاد الإنسان على ذلك الصبر والاحتساب ،يعني: احتساب الأجر ،كان له مع هذا أجر. فالمصائب تكون على وجهين: تارة إذا أصيب الإنسان تذكر الأجر واحتسب هذه المصيبة على الله ،فيكون فيها فائدتان :تكفير الذنوب؛ وزيادة الحسنات. وتارة يغفل عن هذا فيضيق صدره ،ويصيبه ضجر، ويغفل عن نية احتساب الأجر والثواب على الله ،فيكون في ذلك تكفير لسيئاته. إذا هو رابح على كل حال في هذه المصائب التي تأتيه .فإما أن يربح تكفير السيئات وحط الذنوب بدون أن يحصل له أجر؛ لأنه لم ينو شيئا ولم يصبر ولم يحتسب الأجر. وإما أن يربح شيئين :تكفير السيئات ،وحصول الثواب من الله عز وجل. فيه :دليل على أن الإنسان يكفر عنه بما يصيبه من الهم والنصب والغم وغير ذلك ،وهذا من نعمة الله سبحانه
وتعالى ،يبتلي سبحانه وتعالى عبده بالمصائب وتكون تكفيراً لسيئاته وحطا لذنوبه. وفيه :انه ينبغي للإنسان إذا اصيب ولو بشوكة ،أن يتذكر احتساب الأجر من الله على هذه المصيبة ،حتى يؤجر عليها ،مع تكفيرها للذنوب.
الحديث الثامن والثلاثون عن اب ِن مسعو ٍد رضي الله عنه َقالَ :دخل ُت َعلَى ال َّنب ِّي صلى الله عليه وسلم وهو ُيو َع ُك ،فقلتَ :يا ر ُسولَ الله ،إ َّن َك ُت ْو َع ُك َو ْع ًكا َش ِدي ًداَ ،قالَ(( :أ َجلْ ،إ ِّني أو َع ُك ك َما ُيو َع ُك َر ُجلا ِن ِمن ُك ْم)) .ق ْل ُت :ذلِ َك أن لَ َك أ ْجري ِن؟ َقالَ(( :أَ َجلْ ،ذلِ َك َكذلِ َكَ ،ما ِم ْن ُم ْسلِ ٍم ُيصي ُب ُه أذ ًىَ ،ش ْو َك ٌة َف َما َفو َق َها إلا َك َّف َر اللهُ ب َها َس ِّي َئا ِت ِهَ ،و ُح َّط ْت َع ْن ُه ُذ ُنو ُب ُه َك َما َت ُح ُّط ال َّش َج َرةُ َو َر َق َها)) ( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه) شرح الحديث علاقة هذا الحديث بباب الصبر واضحة ،وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ،وهو أفضل من وطئ على الأرض، كان يصيبه من ألم الحمى ما يقع على ر ُجلين اثنين. وهو يدل دلالة واضحة على أن شدة البلاء ،وأن شدة المرض لا تعني أن الله يمقت العبد ،وإنما ُيش َّدد عليه في هذا ،ويصبر ،فهو مأمور بالصبر ،فيكون ذلك أعظم في أجره ،فإ ّن عظم الجزاء على عظم البلاء.
(فقال له :يا رسول الله ،إنك توعك وعكاً شديداً) يعني: أن الحمى تصيبك إصابة بليغة ،وال َو ْعك :هو الحمى وحرارتها وشدتها. (قال :أجل) وهذه الكلمة أبلغ في الإجابة ،كأنه قال: نعم ،لكنه جاء في لفظة أبلغ في أداء المعنى وتحقيق الجواب قال :أجل ،يعني :أن الأمر كذلك ،إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم وهو أشرف الخلق. قال ابن مسعود :ذلك أن لك أجرين؟ ،قال( :أجل ،ذلك كذلك) أي يصيبه المرض مضاعفاً ،فيكون له الأجر مضاعفاً. ثم ب ّين النبي صلى الله عليه وسلم أن البلاء العظيم إذا نزل بالمؤمن فإن ذلك يكون أعظم في جزائه ،فقال صلى الله عليه وسلم (( :ما من مسلم يصيبه أذى ،شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته ،و ُحطت عنه ذنوبه ،كما َتح ُّط الشجرة ورقها)) ولفظة \"فوقها\" ،تحتمل معنيين: ▪️الأول :ما هو أدق منها ،وأدنى منها ،وهذا لا يتصور - أقل من الشوكة ،أي أقل منها في الدقة والصغر.
▪️الثاني :فما فوقها يعني ما هو أكبر وأعظم منها ،وهذا هو الأقرب المتبادر ،لأن الإنسان عادة يعبر بالشوكة عن الأدنى. ((إلا كفر الله بها سيئاته)) والتعبير بالحصر ،بالنفي والاستثناء ،مثل لا إله إلا الله ،أقوى صيغة في الحصر. ((و ُحطت عنه ذنوبه)) توضع عن ظهره ،كأنها أحمال على ظهره تثقله وترهقه فتوضع هذه الأحمال والذنوب كما تحط الشجرة ورقها. وفيه :أن هذه الأعراض التي تصيب الإنسان حتى الشوكة من جملة ما ُي َح ُّت به عنه الخطايا ،ويرفع درجاته في الجنة ،فلا ينبغي له أن ينزعج ،أو يتضجر.
الحديث التاسع والثلاثون عن أبي هريرة رضي الله عنه َقالََ :قالَ َر ُسولُ الله صلى الله عليه وسلمَ (( :م ْن ُي ِر ِد اللهُ بِ ِه َخ ْي ًرا ُي ِص ْب ِم ْن ُه)) (رواه البخاري) شرح الحديث قوله(( :يصب)) قرئت بوجهين: بفتح الصاد (ي َصب) وكسرها (ي ِصب) وكلاهما صحيح. ▪️أما ((يصب منه)) فالمعني أن الله يقدر عليه المصائب حتى يبتليه بها :أيصبر أم يضجر. ▪️وأما ((يصب منه)) فهي أعم ،أي :يصاب من الله ومن غيره. ولكن هذا الحديث المطلق مقيد بالأحاديث الأخرى التي تدل على أن المراد :من يرد الله به خيراً فيصبر ويحتسب، فيصيب الله منه حتى يبلوه.
أما إذا لم يصبر ،فإنه قد يصاب الإنسان ببلايا كثيرة وليس فيه خير ،ولم يرد الله به خيراً. لكن المراد :من يرد الله به خيراً فيصيب منه فيصبر على هذه المصائب ،فإن ذلك من الخير له. فالمصائب يكفر الله بها الذنوب ويحط بها الخطايا ،ومن المعلوم أن تكفير الذنوب والسيئات وحط الخطايا لا شك أنه خير للإنسان لأن المصائب غاية ما فيها أنها مصائب دنيوية تزول بالأيام ،لكن عذاب الآخرة باق ،فإذا كفر الله عنك بهذه المصائب صار ذلك خيراً لك.
الحديث الأربعون َقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا َي َت َم َّن َي َّن أَ َح ُد ُك ُم ال َمو َت ل ُض ٍّر أَ َصا َب ُهَ ،فإِ ْن َكا َن لا ُب َّد فاع ًلا، َفل َيقُلْ :ال ّلَ ُه َّم أ ْحيني َما َكا َن ِت ال َح َياةُ َخي ًرا لِيَ ،و َتو ّف ِني إِ َذا َكا َن ِت ال َو َفاةُ َخي ًرا لي)) ( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه) شرح الحديث في هذا الحديث نهى النبي صلى الله عليه وسلم الإنسان أن يتمني الموت لضر نزل به .وذلك أن الإنسان ربما ينزل به ضر يعجز عن تحمله فيتمني الموت ،فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ،فقال: ((لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به)) ولكن إذا أصبت بضر فقل :اللهم أعني على الصبر عليه ،حتى يعنيك الله فتصبر ،ويكون ذلك لك خيراً. أما أن تتمنى الموت فأنت لا تدري ،ربما يكون الموت شراً عليك لا يحصل به راحة .فالإنسان ربما يموت فينتقل إلى
عقوبة وإلي عذاب قبر ،وإذا بقي في الدنيا فربما يستعتب ويتوب ويرجع إلي الله فيكون خيراً له. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتمنى الإنسان الموت للضر الذي نزل به ،فإن أعظم من ذلك أن يقتل الإنسان نفسه إذا نزل به الضر. ((لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ،فإن كان لابد فاعلاً فليقل :اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي ،وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي)) لأن تمني الموت يدل على ضجر الإنسان وعدم صبره عل قضاء الله ،لكن هذا الدعاء ((اللهم أحيني ما كنت الحياة خيراً وتوفني إذا علمت الوفاة خير لي)) هذا الدعاء و ّكل الإنسان فيه أمره إلى الله ،لأن الإنسان لا يعلم الغيب ،فيكل الأمر إلى عالمه عز وجل ((أحيني ما علمت الحياة خير لي ،وتوفني إذا علمت الوفاة خير لي)). فتمني الموت استعجال من الإنسان بأن يقطع الله حياته، وربما يحرمه من خير كثير ،ربما يحرمه من التوبة وزيادة الأعمال الصالحة ،ولهذا جاء في الحديث:
((ما من ميت يموت إلا ندم ،فإن كان محسناً ندم أن لا يكون ازداد ،وإن كان مسيئاً ندم أن لا يكون استعتب)) أي :استعتب من ذنبه وطلب العتبى وهي المعذرة.
الحديث الحادي والأربعون عن َخ َّباب ب ِن الأَر ِّت رضي الله عنه َقالََ :ش َك ْو َنا إِ َلى رسو ِل الله صلى الله عليه وسلم َو ُه َو م َت َو ِّس ٌد ُب ْر َد ًة لَ ُه في ظلِّ ال َك ْع َب ِة ،فقُ ْل َنا :أَلا َت ْس َت ْن ِص ُر َل َنا ألا َت ْد ُعو لَنا؟ َف َقالََ (( :ق ْد َكا َن َم ْن َق ْبلَ ُك ْم ُي ْؤ َخ ُذ ال َّر ُجلُ َف ُي ْح َف ُر َل ُه في الأر ِض َف ُي ْج َعلُ فِي َهاُ ،ث َّم ُي ْؤ َتى بِال ِم ْن َشا ِر َف ُيو َض ُع َع َلى َرأ ِس ِه َف ُي ْج َعلُ نص َفي ِنَ ،و ُي ْم َش ُط بأ ْم َشا ِط ال َحدي ِد َما ُدو َن َل ْح ِمه َو َع ْظ ِم ِهَ ،ما َي ُص ُّدهُ ذلِ َك َع ْن ِدي ِن ِهَ ،واللهِ لَ ُي ِت َّم َّن الله َه َذا الأَ ْمر َح َّتى َيسي َر ال َّراك ُب ِم ْن َص ْن َعا َء إِ َلى َح ْض َرمو َت لا َي َخا ُف إلا الل َه وال ِّذ ْئب َع َلى َغ َن ِم ِه ،ولكنكم َت ْس َتع ِجلُو َن)) (رواه البخاري) وفي روايةَ (( :و ُه َو ُم َت َو ِّس ٌد ُب ْر َد ًة َو َق ْد لَقِينا ِم َن ال ُم ْش ِر ِكي َن ش َّد ًة)) شرح الحديث يحكي هذا الحديث ما وجده المسلمون من الأذية من كفار قريش في مكة ،فجاؤوا يشكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ((وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة)) كان النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم في مكة قبل الهجرة مضطج ًعا متوس ًدا بردة له في ظل الكعبة
بردة أي :كساء مخطط ،قد جعله وسادة له في ظل الكعبة (فقالوا :ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟) يعني ألا تستنصر الله لنا؟ لأنه لا يوجد من البشر من ينصرهم ،فهم قلة مستضعفة ،ألا تدعو لنا؟ لأنه ضاقت بهم الحال ،واشتدت بهم ال ُك َرب ،حتى تعجلوا النصر هم يريدون أن يكون النصر ،والبطش ،وإهلاك هؤلاء الظالمين بما ينزله الله عليهم من آفة ،أو عقوبة سماوية، أو غير ذلك مما يفعله بأعدائه ،ولكن الله كان يقيض لهم أم ًرا آخر ،وذلك أن يكون عذاب هؤلاء المشركين على أيدي هؤلاء المستضعفين من المؤمنين ،وهو أبلغ في التشفي فقال صلى الله عليه وسلم كان من كان قبلكم يحفر للواحد منهم ثم يوضع في الحفرة ثم ينشر بالمناشير ويمشط بأمشاط الحديد ما يصده عن دينه فبين النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن من كان قبلنا ابتلي في دينه أعظم مما ابتلي به هؤلاء ،يحفر له حفرة ثم يلقى فيها ،ثم يؤتي بالمنشار على مفرق رأسه ويشق ،و يمشط بأمشاط الحديد ما بين جلده وعظمه ،وهذا تعذيب عظيم وأذية عظيمة .ومع ذلك كان في غاية الثبات ما يصده ذلك عن دينه انظر إلى اليقين الثابت عند النبي صلى الله عليه وسلم ،في البداية ذكر لهم ما أصاب من قبلهم ،كأنه يريد أن يقول: لستم أول من يؤذى في سبيل الله ،فهذه سنة الله الماضية
الجارية على الأولين والآخرين ،فالله -تبارك وتعالى -قد فتن الذين كانوا من قبلنا ،وهكذا سنته فينا : {أَلا إِ َّن َن ْص َر ال ّلهِ َق ِري ٌب [البقرة ]214 :فالمقصود أن من كان قبلكم أصيبوا وصبروا من الأنبياء والأخيار فهكذا أنتم اصبروا لا ب ّد من الابتلاء والامتحان ثم أقسم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن الله سبحانه سيتم هذا الأمر ،يعنى سيتم ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام من دعوة الإسلام ،حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه (ولكنكم تستعجلون) أي :فاصبروا وانتظروا الفرج من الله، فإن الله سيتم هذا الأمر .وقد صار الأمر كما أقسم النبي عليه الصلاة والسلام. ففي هذا الحديث آية من آيات الله ،حيث وقع الأمر مطابقا لما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام وآية من آيات الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ حيث صدقه الله بما أخبر به ،وهذه شهادة له من الله بالرسالة وفيه:أيضا دليل على وجوب الصبر على أذية أعداء المسلمين .وإذا صبر الإنسان ظفر!! فالواجب على الإنسان أن يقابل ما يحصل من أذية الكفار بالصبر والاحتساب وانتظار الفرج
الحديث الثاني والأربعون عن ابن مسعو ٍد رضي الله عنه َقالََ :ل َّما َكا َن َيو ُم ُح َني ٍن آ َث َر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َنا ًسا في الق ْس َم ِةَ ،فأ ْع َطى الأ ْق َر َع ْب َن َحاب ٍس ما َئ ًة ِم َن الإِبِ ِلَ ،وأَ ْع َطى ُع َي ْي َنة ْب َن حصن ِم ْثلَ ذلِ َكَ ،وأَع َطى َنا ًسا ِم ْن أ ْشرا ِف ال َع َر ِب وآ َث َر ُه ْم َي ْو َم ِئ ٍذ في الق ْس َم ِةَ .ف َقالَ َر ُجلٌ :والل ِه إ َّن ه ِذ ِه قِ ْس َم ٌة َما ُع ِدلَ ِفي َهاَ ،و َما أُري َد في َها َو ْج ُه اللهَِ ،فقُ ْل ُتَ :واللهِ لأُ ْخبِ َر َّن رسولَ الله صلى الله عليه وسلمَ ،فأَ َت ْي ُت ُه َفأ ْخ َبر ُت ُه ب َما َقالََ ،ف َت َغ َّي َر َو ْج ُه ُه َح َّتى َكا َن كال ِّص ْر ِفُ .ث َّم َقالََ (( :ف َم ْن َي ْع ِدلُ إِ َذا لم َي ْع ِد ِل اللهُ َورسولُ ُه؟)) ُث َّم َقالََ (( :ي ْر َح ُم اللهُ ُمو َسى َق ْد أُو ِذ َي بأ ْك َث َر ِم ْن َه َذا َف َصبر)) َفقُ ْل ُت :لا َج َر َم لا أ ْر َف ُع إِلَ ْيه َبع َد َها َح ِدي ًثا ( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه) شرح الحديث هذا الحديث عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه أنه قال ((لما كان غزوة حنين)) وهي غزوة الطائف التي كانت بعد فتح مكة ،غزاهم الرسول صلي الله عليه وسلم وغنم منهم غنائم كثيرة جداً ،ثم إن النبي صلي الله عليه وسلم نزل بالجعرانة ،وهي محل من جهة الطائف ،نزل بها وقسم الغنائم
فقسم عليه الصلاة والسلام الغنائم في المؤلفة قلوبهم -أي في كبائر القبائل -يؤلفهم على الإسلام ،وأعطاهم عطاء كثيراً حتى كان يعطي الواحد منهم مائة من الإبل. فقال رجل من القوم(( :والله إن هذه قسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله)) يقول هذا القول في قسمة قسمها رسول الله صلي الله عليه وسلم لكن حب الدنيا والشيطان يوقع الإنسان في الهلكة. هذه الكلمة كلمة كفر ،أن ينسب الله ورسوله إلي عدم العدل، وإلي أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يرد بها وجه الله والنبي صلي الله عليه وسلم أراد بهذه القسمة وجه الله، أراد أن يؤلف كبار القبائل والعشائر من أجل أن يتقوى الإسلام ،لأن أسياد القوم إذا ألفوا الإسلام وقوي إيمانهم بذلك حصل منهم خير كثير ،وتبعهم على ذلك قبائل وعشائر ،واعتز الإسلام بهذا ،ولكن الجهل يوقع صاحبه في الهلكة. عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لما سمع هذه الكلمة تقال في رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم ورفعها إليه .فتغير وجه الرسول صلى الله عليه وسلم حتى كان كالصرف أي أصبح أحمر خالص من شدة الضيق ،ثم قال: ((فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله))
وصدق النبي عليه الصلاة والسلام! إذا كانت قسمة الله ليست عدلا ،وقسمة رسوله ليست عدلا ،فمن يعدل إذا! ثم قال ((يرحم الله موسى ،لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)) والشاهد من الحديث هذه الكلمة ،وهي أن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ يؤذون ويصبرون ففي هذا الحديث :دليل على أن للإمام أن يعطى من يرى في عطيته المصلحة ولو أكثر من غيره ،إذا رأى في ذلك مصلحة للإسلام وليس مصلحة شخصية وفيه :أن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعتبر بمن مضى من الرسل ،ولهذا قال :لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر وهكذا ينبغي لنا نحن أن نقتدي بالأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ في الصبر على الأذى ،وأن نحتسب الأجر على الله
الحديث الثالث والأربعون َقالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِ َذا أَ َرا َد الله بعب ِد ِه ال َخي َر َع َّجلَ لَ ُه ال ُعقُو َب َة في ال ُّد ْنياَ ،وإِ َذا أَ َرا َد اللهُ ِب َعب ِد ِه ال َّش َّر أ ْم َس َك َع ْن ُه ب َذ ْنبِ ِه َح َّتى ُي َوا ِف َي ِب ِه يو َم ال ِق َيا َم ِة)) َوقالَ ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم(( :إ َّن ِع َظ َم ال َج َزا ِء َم َع ِع َظ ِم ال َبلاَ ِءَ ،وإ َّن اللهَ َت َعالَى إِ َذا أَ َح َّب َق ْو ًما ا ْب َتلاَ ُه ْمَ ،ف َم ْن َر ِض َي َف َل ُه ال ِّر َضاَ ،و َم ْن َس ِخ َط َف َل ُه ال ُّس ْخ ُط)) رواه الترمذي (صححه الألباني) شرح الحديث الأمور كلها بيد الله عز وجل وبإرادته ،لأن الله تعالى يقول عن نفسهَ ( :ف َّعالٌ لِ َما ُي ِري ُد) (البروج )16 :فكل الأمور بيد الله والإنسان لا يخلو من خطأ ومعصية وتقصير في الواجب؛ فإذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا :إما بماله ،أو بأهله ،أو بنفسه ،أو بأحد ممن يتصل به؛ لأن العقوبة تكفر السيئات ،فإذا تعجلت العقوبة وكفر الله بها عن العبد ،فإنه يوافي الله وليس عليه ذنب ،قد طهرته المصائب والبلايا ،حتى إنه ليشدد على الإنسان موته لبقاء سيئات
عليه ،حتى يخرج من الدنيا نقيا من الذنوب ،وهذه نعمة لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. لكن إذا أراد الله بعبده الشر أمهل له واستدرجه وأدر عليه النعم ودفع عنه النقم حتى يبطر ويفرح فرحا مذموما بما أنعم الله به عليه ،وحينئذ يلاقي ربه وهو مغمور بسيئاته فيعاقب بها في الآخرة فإذا رأيت شخصا يبارز الله بالعصيان وقد وقاه الله البلاء وأدر عليه النعم ،فاعلم إنما أراد به شرا؛ لأن الله أخر عنه العقوبة حتى يوافى بها يوم القيامة. ثم ذكر في هذا الحديث(( :إن عظم الجزاء من عظم البلاء)) يعنى أنه كلما عظم البلاء عظم الجزاء فالبلاء السهل له أجر يسير ،والبلاء الشديد له أجر كبير، لأن الله عز وجل ذو فضل على الناس ،إذا ابتلاهم بالشدائد أعطاهم عليها الأجر الكبير ،وإذا هانت المصائب هان الأجر ((وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم ،فمن رضي فله الرضى ومن سخطا فله السخط)) وهذه أيضا بشرى للمؤمن ،إذا ابتلى بالمصيبة فلا يظن أن الله سبحانه يبغضه ،بل قد يكون هذا من علامة محبة الله للعبد ،يبتليه سبحانه بالمصائب ،فإذا رضي الإنسان وصبر واحتسب فله الرضى ،وإن سخط فله السخط.
في هذا الحديث :الح ُّث على الصبر على ما تجري به الأَقدار ،وأَنه خي ٌر للناس في الحال والمآل ،فمن صبر فاز، ومن سخط فاته الأَجر وثبت عليه ال ِو ْزر ،ومضى فيه القدر، وفيه :هذا حث على أن الإنسان يصبر على المصائب حتى يكتب له الرضى من الله عز وجل
الحديث الرابع والأربعون عن أن ٍس رضي الله عنه َقالََ :كا َن اب ٌن لأبي َط ْل َح َة رضي الله عنه َيش َت ِكيَ ،ف َخ َر َج أ ُبو َط ْل َح َةَ ،فقُبِ َض ال َّصب ُّيَ ،ف َل َّما َر َج َع أَ ُبو َط ْل َح َةَ ،قالََ :ما َف َعلَ ا ْبنِي؟ َقالَ ْت أ ُّم ُس َليم َو ِه َي أ ُّم ال َّصب ِّيُ :ه َو أَ ْس َك ُن َما َكا َنَ ،ف َق َّر َب ْت إليه ال َع َشا َء َف َت َع َّشىُ ،ث َّم أَ َصا َب م ْن َها، َف َل َّما َف َر َغَ ،قالَ ْتَ :وا ُروا ال َّصب َّي َف َل َّما أَ ْصب َح أَ ُبو َط ْل َح َة أَ َتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم َفأ ْخ َب َرهَُ ،ف َقالَ(( :أ َع َّر ْس ُت ُم اللَّي َل َة؟)) َقالََ :ن َع ْم َقالَ(( :اللَّ ُه َّم َبا ِر ْك لَ ُه َما)) َف َولَ َد ْت ُغلا ًماَ ،ف َقالَ لي أَ ُبو َط ْل َح َة :ا ْح ِم ْل ُه َح َّتى َتأْتِ َي ِب ِه ال َّنب َّي صلى الله عليه وسلمَ ،و َب َع َث َم َع ُه ِب َت َمرا ٍتَ ،ف َقالَ(( :أَ َم َع ُه َشي ٌء؟)) َقالََ :ن َع ْمَ ،ت َمرا ٌتَ ،فأ َخ َذ َها ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم َف َم َض َغ َهاُ ،ث َّم أَ َخ َذ َها ِم ْن فِي ِه َف َج َع َل َها في ِف ِّي ال َّصب ِّيُ ،ث َّم َح َّن َك ُه َو َس َّماهُ َعب َد الله ( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه) وفي رواية لل ُب َخا ِر ِّيَ :قالَ اب ُن ُع َي ْي َن َةَ :ف َقالَ َر ُجلٌ ِم َن الأَ ْنصا ِرَ :ف َرأ ْي ُت ِتس َع َة أ ْولا ٍد ُكلُّ ُه ْم َق ْد َق َر ُؤوا القُ ْرآ َنَ ،ي ْع ِني: ِم ْن أ ْولا ِد َعب ِد الله ال َمولُو ِد أُ ُسَحَل ِّدي ُثٍم ُهَ ،،ف ََفقا َلَجا ْ َتء أ ِّم لَأَوفْهلِي َهار:ولاايةُت َلح ِّدم ُثسولا ٍمأََ:با َما َط ْلَت َحا َبة ٌنبا ْلبأنِب ِهي َح َّتَط ْلى َحأَ َةُكوِم َ ْنن أَ َنا َف َق َّر َب ْت إِلَ ْيه َع َشا ًء َفأَ َكلَ َو َش ِر َبُ ،ث َّم َت َص َّن َع ْت َل ُه أَ ْح َس َن َما
َكا َن ْت َت َص َّن ُع َق ْبلَ ذلِ َكَ ،ف َو َق َع بِ َهاَ .ف َل َّما أَ ْن َرأَ ْت أَ َّن ُه َق ْد َش ِب َع وأَ َصا َب ِم ْن َهاَ ،قالَ ْتَ :يا أَ َبا َط ْل َح َة ،أَ َرأَي َت لو أ َّن َقو ًما أعا ُروا َعا ِر َي َت ُه ْم أَ ْهلَ َبي ٍت َف َطلَ ُبوا َعا ِر َي َت ُه ْم ،أَلَ ُه ْم أن َي ْم َن ُعو ُه ْم؟ َقالَ: لاَ ،ف َقالَ ْتَ :فا ْح َت ِس ْب ا ْب َن َكَ ،قالََ :ف َغ ِض َبُ ،ث َّم َقالََ :ت َر ْك ِتني َح َّتى إِ َذا َتل َّط ْخ ُتُ ،ث َّم أ ْخ َبرتني بِا ْبنِي؟! فا ْن َطلَ َق َح َّتى أَ َتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم َفأ ْخ َب َرهُ ِب َما َكا َن َف َقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلمَ (( :با َر َك اللهُ في َل ْيلَ ِت ُك َما))َ ،قالََ :ف َح َملَ ْتَ .قالََ :وكا َن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في َس َف ٍر َوه َي َم َع ُهَ ،و َكا َن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِ َذا أَ َتى ال َم ِدي َن َة ِم ْن َس َف ٍر لا َي ْط ُرقُ َها ُط ُرو ًقا َف َد َنوا ِم َن ال َم ِدي َنةَ ،ف َض َر َب َها ال َم َخا ُضَ ،فا ْح َت َب َس َعلَ ْي َها أَ ُبو َط ْل َح َة، وا ْن َط َل َق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. َقالََ :يقُولَ أَ ُبو َط ْل َح َة :إ َّن َك َل َت ْع َل ُم َيا َر ِّب أَ َّن ُه ُي ْع ِج ُبنِي أ ْن أ ْخ ُر َج َم َع رسو ِل الله صلى الله عليه وسلم إِ َذا َخ َر َج َوأَ ْد ُخلَ َم َع ُه إِ َذا َد َخلَ َو َق ِد ا ْح َت َب ْس ُت بِ َما َت َرىَ ،تقُولُ أُ ُّم ُسلَ ْي ٍمَ :يا أَ َبا َط ْل َح َةَ ،ما أَ ِج ُد الَّ ِذي ُك ْن ُت أج ُد ا ْن َطلِ ْقَ ،فا ْن َط َل ْق َنا َو َض َر َب َها ال َم َخا ُض ِحي َن َق ِد َما َف َول َدت ُغلا ًماَ .ف َقالَ ْت لِي أ ِّميَ :يا أ َن ُس ،لا ُي ْر ِض ْع ُه أ َح ٌد َح َّتى َت ْغ ُدو بِ ِه َعلَى رسو ِل الله صلى الله عليه وسلمَ ،فلَ َّما أ ْص َب َح ا ْح َت َم ْل ُت ُه َفا ْن َطلَ ْق ُت ِب ِه إِلَى رسو ِل الله صلى الله عليه وسلمَ .و َذ َك َر َت َما َم ال َح ِدي ِث...
شرح الحديث عن انس بن مالك رضي الله عنه أن أبي طلحة رضي الله عنه كان له ابن مريض ،وأبو طلحة كان زوج أم أنس بن مالك رضي الله عنهم .وكان هذا الصبي يشتكي ،فخرج أبو طلحة لبعض حاجاته ،فقبض الصبي .يعني مات فلما رجع سأل أمه عنه فقال :كيف ابني؟ قالت(( :هو أسكن ما يكون)) وصدقت في قولها ،هو أسكن ما يكون؛ لأنه مات ،ولا سكون أعظم من الموت .وأبو طلحة ـ رضي الله عنه ـ فهم أنه اسكن ما يكون من المرض ،وأنه في عافية فقدمت له العشاء فتعشى على أن أبنه برئ وطيب .ثم أصاب منها ،يعني جامعها ،فلما انتهى قالت له(( :واروا الصبي)) أي :ادفنوا الصبي؛ فإنه قد مات فلما أصبح أبو طلحة رضي الله عنه ووارى الصبي أعلم بذلك النبي صلي الله عليه وسلم ،فسأله (( :هل أعرستم الليلة)) كنايه عن الجماع ،فقال :نعم فدعا لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالبركه أن يبارك الله لهم ويرزقهم الذرية الصالحة فولدت غلاما سماه عبد الله ،وكان لهذا الولد تسعة من الولد كلهم يقرأون القرآن ببركة دعاء النبي صلي الله عليه وسلم.
وفي رواية مسلم قالت أم سليم ـ رضي الله عنها ـ ((أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت ثم طلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال :لا ،فقالت فاحتسب ابنك)) يعني أن الأولاد عندنا عارية ،وهم ملك لله ـ عز وجل ـ متى شاء أخذهم ،فضربت له هذا المثل من أجل أن يقتنع ويحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى وكان النبي صلي الله عليه وسلم(( :لا يحب أن يطرق أهله طروقا)) أي :لا يحب أن يدخل عليهم ليلا دون أن يخبرهم بالقدوم. فدعا أبو طلحة ـ رضي الله عنه ـ ربه وقال :اللهم إنك تعلم أنني أحب أن لا يخرج النبي صلي الله عليه وسلم مخرجا إلا وأنا معه ولا يرجع مرجعا إلا وأنا معه ،وقد أصابني ما ترى ـ يناجي ربه سبحانه وتعالى ـ تقول أم سليم(( :فما وجدت الذي كنت أجده من قبل)) يعني هان عليها الطلق ،ولا كأنها تطلق. قالت أم سليم لزوجها أبي طلحة :انطلق ،فانطلق ،ودخل المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولما وصلوا إلى المدينة وضعت .ففي هذا كرامة لأبي طلحة ـ رضي الله عنه ـ حيث خفف الله الطلق على امرأته بدعائه ولما جاء أنس بن مالك بأخيه من أمه إلى النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ جاء به ومعه تمرات ،فأخذه النبي صلي الله عليه وسلم ومضغ التمرات ،ثم جعلها في فم الصبي،
يعني أدخلها فمه وحنكه ،أي :أدخل أصبعه وداره في حنكه؛ وذلك تبركا بريق النبي عليه الصلاة والسلام ليكون أول ما يصل إلى بطن الصبي ريق الرسول عليه الصلاة والسلام وفي ذلك فائدتين: ▪الفائدة الأولى :بركة ريق النبي صلي الله عليه وسلم وكان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يتبركون بريق النبي صلي الله عليه وسلم وبعرقه ▪الفائدة الثانية :من التمر الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحنكه الصبيان :فإن التمر فيه خير وبركة ،وفيه فائدة للمعدة ،فإذا كان أول ما يصل إلى معدته من التمر كان ذلك خيرا للمعدة فحنكه الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ودعا له بالبركة ففي هذا الحديث :دليل على قوة صبر أم سليم ـ رضي الله عنها رغم موت ابنها ،فقد بلغ بها الصبر إلى أن تقول لزوجها هذا القول وتوري هذه التورية ،وقدمت له العشاء، ونال منها ،ثم قالت :ادفنوا الولد وفي هذا دليل على جواز التورية ،يعني أن يتكلم الإنسان بكلام تخالف نيته ما في ظاهرة هذا الكلام .فله ظاهر هو المتبادر إلى ذهن المخاطب ،وله معنى آخر مرجوح ،لكن هو المراد في نية المتكلم ،فيظهر خلاف ما يريد .وهذا
جائز ،ولكنه لا ينبغي إلا للحاجة ،إذا احتاج الإنسان إليه لمصلحة أو دفع مضرة فليور ،وأما مع عدم الحاجة فلا ينبغي أن يوري وفي هذا الحديث :آية من آيات النبي صلي الله عليه وسلم حيث دعا لهذا الصبي فبارك الله فيه وفي عقبه ،وكان له كما ذكرنا تسعة من الولد ،كلهم يقرأون القرآن ببركة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام. وفيه :أنه يستحب تسمية بعبد الله ،فإن التسمية بهذا وبعبد الرحمن أفضل ما يكون ،قال النبي صلي الله عليه وسلم ((إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن)) . والشاهد من هذا الحديث :أن أم سليم قالت لأبي طلحة: احتسب ابنك ،يعنى :أصبر على ما أصابك من فقده، واحتسب الأجر على الله
الحديث الخامس والأربعون عن أبي هرير َة رضي الله عنه أ ّن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم َقالَ((:لَ ْي َس ال َّش ِدي ُد بال ُّص َر َع ِة ،إ َّن َما ال َش ِدي ُد الَّ ِذي َيمل ُك َن ْف َس ُه ِع ْن َد ال َغ َض ِب)) ( ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه) شرح الحديث الغضب :جماع الشر ،والتحرز منه جماع الخير قال الله تعالىَ { :وا ْل َكا ِظ ِمي َن ا ْل َغ ْي َظ َوا ْل َعا ِفي َن َع ِن ال َّنا ِس َواللهُ ُي ِح ُّب ا ْل ُم ْح ِسنِي َن [آل عمران]1٣4 : فالغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم ،فيستشيط غضبا ،ويحتمي جسده ،وتنتفح أوداجه ،ويحمر وجهه، ويتكلم بكلام لا يعقله أحيانا ،ويتصرف تصرفا لا يعقله أيضا. ولهذا جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أوصني قال(( :لا تغضب)) وبين النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أن الشديد ليس بالصرعة فقال: ((ليس الشديد بالصرعة))
(( َوال ُّص َر َع ُة)) :ب َض ِّم ال َّصا ِد َو َف ْت ِح ال َّرا ِء وأَ ْصلُ ُه ِع ْن َد ال َع َر ِب َم ْن َي ْص َر ُع ال َّنا َس َكثي ًرا أي :ليس القوي في الصرعة الذي يكثر صرع الناس فيطرحهم ويغلبهم في المصارعة ،هذا يقال عنه عند الناس إنه شديد وقوي ،لكن النبي صلي الله عليه وسلم يقول: ليس هذا الشديد حقيقة ((إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) أي :القوي حقيقة هو الذي يصرع نفسه إذا صارعته وإذا غضب ملكها وتحكم فيها ،لأن هذه هي القوة الحقيقة ،قوة داخلية معنوية يتغلب بها الإنسان على الشيطان ،لأن الشيطان هو الذي يلقي الجمرة في قلبك من أجل أن تغضب ففي هذا الحديث :الحث على أن يملك الإنسان نفسه عند الغضب ،وأن لا يسترسل فيه ،لأنه يندم بعده
الحديث السادس والأربعون عن ُسلَ ْي َما َن بن ُص َر ٍد رضي الله عنه َقالَُ :ك ْن ُت جالِ ًسا َم َع ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلمَ ،و َر ُجلا ِن َي ْس َت َّبا ِنَ ،وأَ َح ُد ُه َما ق ِد ا ْح َم َّر َو ْج ُه ُه ،وا ْن َت َف َخ ْت أ ْو َدا ُج ُهَ ،ف َقالَ َر ُسول الل ِه صلى الله عليه وسلم(( :إ ِّني لأَ ْعلَ ُم َكلِ َم ًة لَ ْو َقالَ َها لَ َذ َه َب َع ْن ُه َما َي ِج ُد، لَ ْو َقالَ :أ ُعوذ باللهِ م َن ال َّشي َطا ِن ال َّر ِجي ِمَ ،ذ َه َب ع ْن ُه َما َي ِج ُد))َ .ف َقالُوا لَ ُه :إ َّن ال َّنب َّي صلى الله عليه وسلم َقالَ: (( َت َع ّو ْذ باللهِ ِم َن ال َّشي َطا ِن ال َّر ِجي ِم)) ( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه) شرح الحديث يقول سليمان بن صرد رضي الله عنه كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان أي :أن كل واحد منهما يوجه قبيح القول إلى الآخر ،هذا هو السباب ،بمعنى الشتم وأحدهما قد احمر وجهه وانتفخت أوداجه الأوداج :هي العروق الغليظة المحيطة بالعنق عن يمينه وشماله ،وهي معروفة ،فإذا غضب الإنسان ظهرت بارزة ويحمر الوجه ،وذلك مصداقاً لما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أن الغضب جمرة من الشيطان يلقيها في قلب ابن آدم ،فإذا ألقاها في قلبه ظهرت آثارها حمر ًة في الوجه، وانتفاخاً في الأوداج ،وحمر ًة في العينين ،وغلياناً يجده
الإنسان في قلبه ،حتى إن عروقه توشك أن تتفطر بدمائه من شدة ما يضخ القلب فهذا لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال ( :إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد) بعض أهل العلم يقول :لربما كان ذلك مختصاً بذلك الرجل بعينه ،أنه إن قالها انطفأ غضبه ،والأقرب -والله تعالى أعلم -أن ذلك عام يشمل هذا الرجل ويشمل غيره (لو قال :أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) وذلك أنه ل ّما كان الغضب من الشيطان كان الشيطان إنما ينطفئ ويندحر بالاستعاذة بالله منه أعوذ بالله أي :ألتجئ ،وأعتصم بالله من الشيطان؛ لأن الشيطان إذا انفرد به فإنه يستخفه ،فيحمله على كل خلق كريه ،وعلى كل عمل سيئ ،وبالتالي فإن العبد بحاجة إلى أن يركن إلى ركن عظيم منيع ،يعتمد عليه ويلتجئ إليه. فأعتصم بالله من الشيطان الرجيم :لأن ما أصابه من الشيطان وعلى هذا فالمشروع للإنسان إذا غضب أن يحبس نفسه وأن يصبر ،وأن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ،يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالىَ { :وإِ َّما َين َز َغ َّن َك ِم َن ال َّش ْي َطا ِن َن ْز ٌغ َفا ْس َت ِع ْذ بِاللهِ إِ َّن ُه َس ِمي ٌع َعلِي ٌم [الأعراف.]200 :
الحديث السابع والأربعون عن معا ِذ ب ِن أَن ٍس رضي الله عنه أ َّن ال َّنب َّي صلى الله عليه وسلمَ ،قالََ (( :م ْن َك َظ َم َغي ًظاَ ،و ُه َو َقا ِد ٌر َع َلى أ ْن ُي ْنفِ َذهُ، َد َعاهُ اللهُ ُسب َحا َن ُه َو َت َعالى َعلَى ُر ُؤو ِس ال َخلائِ ِق َيو َم ال ِقيا َم ِة َح َّتى ُي َخ ِّي َرهُ ِم َن ال ُحو ِر ال ِعي ِن َما َشا َء)) رواه أَبو داود والترمذي ( حسنه الألباني) شرح الحديث ((من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله سبحانه وتعالى على رؤوس الخلائق يوم القيامة)) الغيظ :هو الغضب الشديد ،فالغيظ المقصود به الحنق والغضب ،إذا تحركت النفس واحتدمت بوجود ما يهيجها ويحرك دواعي الغضب فإن الإنسان يكون بهذا الاعتبار مغتاظا والغيظ هنا نكرة يدخل فيه كل غيظ ،فلم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم درجة من درجاته ،كأن يقول :من كظم غيظاً شديداً ،فهذا يدل على أن الإنسان إذا كظم الغيظ ولو كان ذلك غيظاً دون غيظ فإنه موعود بهذا الأجر (من كظم غيظاً) ومعنى ذلك أنه احتمله وتجرعه وصبر على مرارته دون أن ين ّفس عن نفسه بتفريغ هذا الغضب بالتشفي بالقول أو بالفعل ،كأن يشتم من أغضبه ،أو أن
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210
- 211
- 212
- 213
- 214
- 215
- 216
- 217
- 218
- 219
- 220
- 221
- 222
- 223
- 224
- 225
- 226
- 227
- 228
- 229
- 230
- 231
- 232
- 233
- 234
- 235
- 236
- 237
- 238
- 239
- 240
- 241
- 242
- 243
- 244
- 245
- 246
- 247
- 248
- 249
- 250
- 251
- 252
- 253
- 254
- 255
- 256
- 257
- 258
- 259
- 260
- 261
- 262
- 263
- 264
- 265
- 266
- 267
- 268
- 269
- 270
- 271
- 272
- 273
- 274
- 275
- 276
- 277
- 278
- 279
- 280
- 281
- 282
- 283
- 284
- 285
- 286
- 287
- 288
- 289
- 290
- 291
- 292
- 293
- 294
- 295
- 296
- 297
- 298
- 299
- 300
- 301
- 302
- 303
- 304
- 305
- 306
- 307