Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore المائة الأولي رياض الصالحين

المائة الأولي رياض الصالحين

Published by مكتبة(ورتل) الإلكترونيه, 2021-04-19 18:17:06

Description: المائة الأولي رياض الصالحين

Search

Read the Text Version

‫فالصبر حقيقة أن الإنسان إذا صدم أول ما يصدم يصبر‬ ‫ويحتسب‪ ،‬ويحسن ان يقول‪(( :‬إنا لله وإنا إليه راجعون‪،‬‬ ‫اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها))‪.‬‬ ‫فالواجب البدار بالصبر والاحتساب‪ ،‬وذلك بأن يكف لسانه‬ ‫عما لا ينبغي وجوارحه عما لا ينبغي هذا الصبر‪ ،‬وقلبه‬ ‫يكون مسل ًما لله راض ًيا محتس ًبا لا جز ًعا‪ ،‬يعلم أن ما أصابه‬ ‫إلا ماقدر له‪ ،‬هذا هو الصبر طمأنينة القلب وعدم جزعه‬ ‫وكف اللسان عما لا ينبغي‪ ،‬وكف الجوارح عما لا ينبغي؛‬ ‫ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ‪ \" :‬ليس منا من‬ ‫ضرب الخدود‪ ،‬أو شق الجيوب‪ ،‬أو دعا بدعوى الجاهلية \"‬ ‫ففي هذا الحديث‪:‬‬ ‫أولاً‪ :‬حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته‬ ‫إلى الحق وإلى الخير‪ ،‬فإنه لما رأي هذه المرأة تبكي‬ ‫عند القبر أمرها بتقوى الله والصبر ‪ ،‬ولما قالت‪:‬‬ ‫((إليك عني)) لم ينتقم لنفسه‪ ،‬ولم يقمها بالقوة‪ ،‬لأنه‬ ‫عرف أنه أصابها من الحزن ما لا تستطيع أن تملك‬ ‫نفسها معه‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬أن الإنسان يعذر بالجهل‪ ،‬سواء أكان جهلاً‬ ‫بالحكم الشرعي أم جهلاً بالحال‪ ،‬فإن هذه المرأة قالت‬ ‫للنبي صلى الله عليه وسلم ‪ :‬إليك عني‪ ،‬أي‪ :‬ابعد‬ ‫عني‪ ،‬مع أنه يأمرها بالخير والتقوي والصبر‪ .‬ولكنها‬ ‫لم تعرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلهذا‬ ‫عذرها الرسول صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬أنه لا ينبغي للإنسان المسؤول عن حوائج‬ ‫المسلمين أن يجعل على بيته بواباً يمنع الناس إذا كان‬ ‫الناس يحتاجون إليه‪.‬‬ ‫رابعاً‪ :‬أن الصبر الذي يحمد فاعله هو الصبر الذي يكون‬ ‫عند الصدمة الأولى فيصبر الإنسان ويحتسب‪ ،‬ويعلم أن‬ ‫لله ما أخذ وله ما أعطي‪ ،‬وأن كل شيء عنده بأجل‬ ‫مسمي‬ ‫خامساً‪ :‬أن البكاء عند القبر ينافي الصبر؛ ولهذا قال لها‬ ‫الرسول صلى الله عليه وسلم ‪(( :‬اتقي الله واصبري))‪.‬‬

‫الحديث الثاني والثلاثون‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه‪ :‬أ َّن رسولَ الله صلى الله عليه‬ ‫وسلم َقالَ‪َ (( :‬يقُولُ اللهُ َت َعالَى‪َ :‬ما ل َعب ِدي ال ُم ْؤ ِم ِن ِع ْن ِدي َج َزا ٌء‬ ‫إِ َذا َق َب ْض ُت َصفِ َّي ُه ِم ْن أ ْه ِل ال ُّد ْن َيا ُث َّم ا ْح َت َس َب ُه إلا ال َج َّن َة))‬ ‫(رواه البخاري)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫هذا الحديث يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن الله‪،‬‬ ‫ويسمي العلماء هذا القسم من الحديث‪ :‬الحديث القدسي؛‬ ‫لأن االرسول صلى الله عليه وسلم رواه عن الله تعالى‪.‬‬ ‫قوله‪( :‬صفيه)‪ :‬الصفي‪ :‬من يصطفيه الإنسان ويختاره‬ ‫كالﻮلﺪ والأب والأم والزوجة والأخ وكﻞ مﺤﺒﻮب مﺆثﺮ‪.‬‬ ‫قال الﺤافﻆ ابﻦ حﺠﺮ‪ :‬قﻮله‪( :‬إذا قﺒﻀﺖ صفﻴه) هﻮ الﺤﺒﻴﺐ‬ ‫الﻤﺼافي؛ كالﻮلﺪ والأخ‪ ،‬وكﻞ مﻦ يﺤﺒه الإنﺴان‪ ،‬والﻤﺮاد‬ ‫بالقﺒﺾ‪ :‬قﺒﺾ روحه وهﻮ الﻤﻮت‪.‬‬

‫والﻤﺮاد بـ‪\" :‬احﺘﺴﺒه\"‪ :‬صﺒﺮ على فقﺪه‪ ،‬راج ًيا الأجﺮ مﻦ‬ ‫الله على ذلﻚ إذا أخذه الله عز وجل ثم احتسبه الإنسان‬ ‫فليس له جزاء إلا الجنة‪.‬‬ ‫ففي هذا دليل على فضيلة الصبر على قبض الصفي من‬ ‫الدنيا‪ ،‬وأن الله عز وجل يجازي الإنسان إذا صبر و‬ ‫احتسب‪ ،‬يجازيه الجنة‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬دليل على فضل الله سبحانه وتعالي وكرمه على‬ ‫عباده‪ ،‬فإن الملك ملكه‪ ،‬والأمر أمره‪ ،‬وأنت وصفيك كلاكما‬ ‫لله عز وجل‪ ،‬ومع ذلك فإذا قبض الله صفي الإنسان‬ ‫واحتسب‪ ،‬فإن له هذا الجزاء العظيم‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬الإشارة إلى أفعال الله‪ ،‬من قوله‪(( :‬إذا قبضت‬ ‫صفيه)) ولا شك أن الله سبحانه وتعالي فعال لما يريد‪ ،‬ولكن‬ ‫يجب علينا أن نعلم أن فعل الله تعالى كله خير‪ ،‬لا ينسب‬ ‫الشر إلى الله أبداً‪ .‬فإذا قدر الله على الإنسان ما يكره‪ ،‬فلا‬ ‫شك أن ما يكرهه الإنسان بالنسبة إليه شر‪ .‬لكن الشر في‬ ‫هذا المقدر لا في تقدير الله‪ ،‬لأن الله تعالى لا يقدره إلا‬ ‫لحكمة عظيمة‪ ،‬إما للمقدر عليه وإما لعامة الخلق‪.‬‬

‫الحديث الثالث والثلاثون‬ ‫عن عائش َة رض َي الله عنها‪ :‬أَ َّن َها َسألَ ْت رسولَ الله صلى الله‬ ‫عليه وسلم َع ِن ال ّطا ُعو ِن‪َ ،‬فأَ ْخ َب َر َها \" أ َّن ُه َكا َن َع َذا ًبا َي ْب َع ُث ُه‬ ‫اللهُ َت َعا َلى َع َلى َم ْن ي َشا ُء‪َ ،‬ف َج َع َل ُه اللهُ تعالى َر ْح َم ًة ل ْل ُم ْؤ ِمني َن‪،‬‬ ‫َف َل ْي َس ِم ْن َع ْب ٍد َي َق ُع في ال َّطا ُعو ِن فيمك ُث في بل ِد ِه َصاب ًرا‬ ‫ُم ْح َت ِس ًبا َي ْعلَ ُم أ َّن ُه لا يصي ُب ُه إلا َما َك َت َب اللهُ َل ُه إلا َكا َن لَ ُه ِم ْثلُ‬ ‫أ ْج ِر ال ّشهي ِد \"‬ ‫(رواه البخاري)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله‬ ‫عليه وسلم عن الطاعون‪ ،‬فأخبرها أن الطاعون عذاب‬ ‫أرسله الله سبحانه وتعالي على من يشاء من عباده‪.‬‬ ‫والطاعون‪ :‬مرض معروف وهو يعد من الأمراض الوبائية‬ ‫التي تنتشر وتعدي‪ ،‬فهو مرض َو َرم ٌّي‪ ،‬من الأمراض‬ ‫الورمية‪ ،‬ويظهر غالباً بشكل بثور تحت الإبط‪ ،‬ويميل ذلك‬ ‫إلى السواد‪ ،‬ويكون فيه شيء من التوهج والحرارة‪،‬‬

‫وترتفع معه حرارة الجسم‪ ،‬ويكون معه خفقان في القلب‬ ‫سريع‪ ،‬فهذا هو الطاعون‪.‬‬ ‫وهو نوع خاص من الوباء‪ ،‬إذ إن الوباء هو المرض العام‬ ‫الذي ينتشر كالكوليرا مثلاً أو الجدري‪ ،‬أو غير ذلك من‬ ‫الأمراض التي تنتشر في الناس‪ ،‬فهذه كلها من الأوبئة‬ ‫العامة التى تحل بالأرض فتصيب اهلها ويموت الناس منه‪.‬‬ ‫وسواء كان هو وباءا معيناً أم كل وباء عام يصيب الناس‬ ‫مثل الكوليرا وغيرها؛ فإن هذا الطاعون عذاب ارسله الله‬ ‫عز وجل‪.‬‬ ‫ولكنه رحمة للمؤمنين إذا نزل بأرضه وبقي فيها صابراً‬ ‫محتسباً‪ ،‬يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له‪ ،‬فإن الله تعالى‬ ‫يكتب له مثل أجر الشهيد‪.‬‬ ‫فقوله‪(( :‬فليس من عبد يقع في الطاعون))‬ ‫أي‪ :‬أنه يبتلى به ويصاب به‪ ،‬أو يقع في أرض يظهر فيها‬ ‫الطاعون‪ ،‬يقع فيها البلاء والوباء‪ ،‬فيمكث في بلده صابراً‬ ‫محتسباً بهذا الشرط‪ ،‬لأنه يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه‪،‬‬

‫وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه‪ ،‬وأنه لا يمكن أن يقع شيء‬ ‫إلا بتقدير الله‪.‬‬ ‫ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن عبد الرحمن بن عوف‬ ‫رضي الله عنه أنه قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫((إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه‪ ،‬وإذا وقع بأرض‬ ‫وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه))‬ ‫فإذا وقع الطاعون بأرض فإننا لا نقدم عليها‪ ،‬لأن الإقدام‬ ‫عليها إلقاء بالنفس إلى التهلكة‪ ،‬ولكنه إذا وقع في أرض‬ ‫فإننا لا نخرج منها فراراً منه‪ ،‬لأنك مهما فررت من قدر الله‬ ‫إذا نزل بالأرض فإن هذا الفرار لن يغني عنك من الله شيئاً‪.‬‬ ‫ففيه‪ :‬دليل على فضل الصبر والاحتساب‪ ،‬وأن الإنسان إذا‬ ‫صبر نفسه في الأرض التي نزل فيها الطاعون واحتسب‬ ‫الأجر وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له‪ ،‬ثم مات به‪،‬‬ ‫فإنه يكتب له مثل أجر الشهيد‪.‬‬

‫الحديث الرابع والثلاثون‬ ‫عن أنس رضي الله عنه َقالَ‪ :‬سمع ُت رسولَ الله صلى الله‬ ‫عليه وسلم يقول‪(( :‬إ َّن الله عز وجل‪َ ،‬قالَ‪ :‬إِ َذا ا ْب َتلَ ْي ُت عبدي‬ ‫ب َحبيب َتيه َف َصب َر َع َّوض ُت ُه ِم ْن ُه َما ال َج َّن َة))‬ ‫‪ ‬يريد عينيه‬ ‫(رواه البخاري)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫في هذا الحديث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه‬ ‫تبارك وتعالى أنه قال‪(( :‬إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه)) يعني‬ ‫عينيه فيعمى‪ ،‬ثم صبر‪ ،‬إلا عوضه الله بهما الجنة‪ .‬لأن‬ ‫العين محبوبة للإنسان‪ ،‬فإذا أخذهما الله سبحانه وتعالى‬ ‫وصبر الإنسان واحتسب‪ ،‬فإن الله يعوضه بهما الجنة‪.‬‬ ‫فالمقصود أن مصيبته عظيمة ف َع ُظم الجزاء عليها‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫(فصبر عوضته منهما الجنة) والجنة تساوي كل الدنيا‪ ،‬بل‬ ‫قد قال النبي صلى الله عليه وسلم ‪(( :‬لموضع سوط أحدكم‬ ‫في الجنة خير من الدنيا وما عليها)) أي مقدار متر في‬

‫الجنة خير من الدنيا وما فيها؛ لأن ما في الآخرة باق لا‬ ‫يفني ولا يزول‪ ،‬والدنيا كلها فانية زائلة‪ ،‬فلهذا كانت هذه‬ ‫المساحة القليلة من الجنة خيراً من الدنيا وما فيها‪.‬‬ ‫واعلم أن الله سبحانه وتعالى إذا قبض من الإنسان حاسه‬ ‫من حواسه‪ ،‬فإن الغالب أن الله يعوضه في الحواس الأخرى‬ ‫ما يخفف عليه ألم فقد هذه الحاسة الني فقدها‪.‬‬ ‫فالأعمى يمن الله عليه بقوة الإحساس والإدراك‬

‫الحديث الخامس والثلاثون‬ ‫عن ع َطاء بن أبي َربا ٍح َقالَ‪َ :‬قالَ لي اب ُن َعبا ٍس رضي اللهُ‬ ‫عنهما‪ :‬ألا أُري َك ا ْم َرأ ًة ِم ْن أَ ْه ِل ال َج َّنة؟ َفقُ ْل ُت‪َ :‬بلَى‪َ ،‬قالَ‪ :‬ه ِذ ِه‬ ‫ال َم ْرأةُ ال َّسودا ُء أت ِت ال َّنب َّي صلى الله عليه وسلم‪َ ،‬ف َقالَ ْت‪ :‬إ ّني‬ ‫أُ ْص َر ُع‪ ،‬وإِ ِّني أ َت َك َّش ُف‪ ،‬فا ْد ُع الله َت َعالَى لي‪ ،‬قال‪(( :‬إ ْن ش ْئ ِت‬ ‫َص َبر ِت َو َل ِك ال َج َّن ُة‪َ ،‬وإ ْن ش ْئ ِت َد َعو ُت الله َت َعا َلى أ ْن ُي َعا ِفي ِك))‬ ‫َف َقالَ ْت‪ :‬أَ ْصبِ ُر‪َ ،‬ف َقالَ ْت‪ :‬إ ِّني أ َت َك َّش ُف َفاد ُع الله أ ْن لا أَ َت َك َّشف‪،‬‬ ‫َف َد َعا َل َها‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫((ألا أريك امرأة من أهل الجنة)) يعرض عليه أن‬ ‫يريه امرأة من أهل الجنة‪ .‬وذلك لأن أهل الجنة‬ ‫ينقسمون على قسمين‪:‬‬ ‫▪️قسم نشهد لهم بالجنة بأوصافهم‪.‬‬ ‫▪️وقسم نشهد لهم بالجنة بأعيانهم‪.‬‬

‫أما الذين نشهد لهم بالجنة بأوصافهم فكل مؤمن‪ ،‬كل متق‪،‬‬ ‫فإننا نشهد بأنه من أهل الجنة‪ .‬كما قال الله سبحانه وتعالى‬ ‫في الجنة ‪ (:‬أُ ِع َّد ْت لِ ْل ُم َّت ِقي َن) (آل عمران‪)1٣٣ :‬‬ ‫وقال‪(:‬إِ َّن الَّ ِذي َن آ َم ُنوا َو َع ِملُوا ال َّصالِ َحا ِت أُو َلئِ َك ُه ْم َخ ْي ُر‬ ‫ا ْل َب ِر َّي ِة) ( َج َزا ُؤ ُه ْم ِع ْن َد َر ِّب ِه ْم َج َّنا ُت َع ْد ٍن َت ْج ِري ِم ْن َت ْحتِ َها‬ ‫ا ْلأَ ْن َها ُر َخالِ ِدي َن فِي َها أَ َبداً َر ِض َي ال َّلهُ َع ْن ُه ْم َو َر ُضوا َع ْن ُه َذلِ َك‬ ‫لِ َم ْن َخ ِش َي َر َّب ُه) (البينة‪)8/7 :‬‬ ‫فكل مؤمن متق يعمل الصالحات فإننا نشهد بأنه من أهل‬ ‫الجنة ‪ ،‬ولكن لا نقول هو فلان وفلان‪ ،‬لأننا لا ندري ما يختم‬ ‫له‪ ،‬ولا ندري هل باطنه كظاهره‪ ،‬فلذلك لا نشهد له بعينه‪.‬‬ ‫فإذا مات رجل مشهود له بالخير قلنا‪ :‬نرجو أن يكون من‬ ‫أهل الجنة‪ ،‬لكن لا نشهد أنه من أهل الجنة‪.‬‬ ‫قسم آخر نشهد له بعينه‪ ،‬وهم الذين شهد لهم النبي صلى‬ ‫الله عليه وسلم بأنهم في الجنة‪ ،‬مثل العشرة المبشرين‬ ‫بالجنة وغيرهم‪ ،‬رضي الله عنهم‪ ،‬ممن عينهم الرسول صلى‬ ‫الله عليه وسلم فهؤلاء نشهد لهم بأعيانهم بأنهم في الجنة‪.‬‬

‫ومن ذلك هذه المرأة التي قال ابن عباس لتلميذه عطاء بن‬ ‫أبي رباح‪( :‬ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت‪ :‬بلي! قال‪:‬‬ ‫هذه المرأة السوداء)‬ ‫امرأة سوداء لا يؤبه لها في المجتمع‪ ،‬كانت تصرع‬ ‫وتنكشف‪ ،‬فأخبرت النبي ️ وسألته أن يدعو الله لها‪ ،‬فقال‬ ‫لها ‪((:‬إن شئت دعوت الله لك‪ ،‬وإن شئت صبرت ولك‬ ‫الجنة‪ ،‬قالت‪ :‬اصبر)) وإن كانت تتألم وتتأذي من الصرع‪،‬‬ ‫لكنها صبرت من أجل أن تكون من أهل الجنة ولكنها قالت‪:‬‬ ‫يا رسول الله إني أتكشف‪ ،‬فأدع الله أن لا أتكشف‪ .‬فدعا الله‬ ‫أن لا تتكشف‪ ،‬فصارت تصرع ولا تتكشف‪.‬‬ ‫والصرع نوعان‪:‬‬ ‫‪ ‬صرع بسبب تشنج الأعصاب‪ :‬وهذا مرض عضوي‬ ‫يمكن أن يعالج من قبل الأطباء بإعطاء العقاقير التي‬ ‫تسكنه أو تزيله تماماً‪.‬‬ ‫‪ ‬وقسم آخر بسبب الشياطين والجن‪ ،‬يتسلط الجني على‬ ‫الإنسي فيصرعه ويدخل فيه‪ ،‬ويضرب به على‬ ‫الأرض‪ ،‬ويغمي عليه من شدة الصرع ولا يحس‪.‬‬

‫ويتلبس الشيطان أو الجنى بنفس الإنسان ويبدأ يتكلم على‬ ‫لسانه‪ ،‬وهذا النوع من الصرع علاجه بالقراءة من أهل‬ ‫العلم والخير‪ ،‬يقرأون على هذا المصروع‬ ‫وقد ثبت صرع الجنى للإنسي بالقرآن‪ ،‬والسنة‪ ،‬والواقع‬ ‫‪ ‬ففي القرآن‪ :‬قال الله سبحانه‪ (:‬الَّ ِذي َن َيأْ ُكلُو َن ال ِّربا لا‬ ‫َيقُو ُمو َن إِ َّلا َك َما َيقُو ُم ا َّل ِذي َي َت َخ َّب ُط ُه ال َّش ْي َطا ُن ِم َن ا ْل َم ِّس)‬ ‫(البقرة‪ :‬من الآية‪ )275‬وهذا دليل على أن الشيطان‬ ‫يتخبط من المس وهو الصرع‪.‬‬ ‫‪ ‬وفي السنة‪ :‬روي الإمام أحمد في مسنده أن النبي‬ ‫صلى الله عليه وسلم كان في سفر من أسفاره‪ ،‬فمر‬ ‫بامرأة معها صبي يصرع‪ ،‬فأتت به إلي النبي عليه‬ ‫الصلاة والسلام‪ ،‬وخاطب الجنى وتكلم معه وخرج‬ ‫الجنى‪ .‬فأعطت أم الصبي الرسول صلي الله عليه وسلم‬ ‫هدية على ذلك‪.‬‬ ‫وكذلك أيضاً كان أهل العلم يخاطبون الجني في المصروع‬ ‫ويتكلمون معه‪ ،‬ومنهم شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله‪،‬‬ ‫ذكر ذلك ابن القيم‪.‬‬

‫وهذا النوع من الصرع له علاج يدفعه‪ ،‬وله علاج برفعه‪.‬‬ ‫فهو نوعان‪:‬‬ ‫‪ ‬أما دفعه‪ :‬فبأن يحرص الإنسان على الأوراد الشرعية‬ ‫الصباحية والمسائية‪.‬‬ ‫و منها‪ :‬آية الكرسي‪ ،‬فإن من قرأها في ليلة لم يزل عليه‬ ‫من الله حافظ‪ ،‬ولا يقربه شيطان حتى يصبح‪.‬‬ ‫ومنها سورة الإخلاص والفلق والناس‪ ،‬فليحرص الإنسان‬ ‫عليها صباحاً ومساء‪ ،‬فإن ذلك من أسباب دفع أذية الجن‪.‬‬ ‫‪ ‬وأما الرفع‪ :‬فهو إذا وقع بالإنسان فإنه يقرأ عليه آيات‬ ‫من القرآن فيها تخويف وتحذير وتذكير واستعاذة بالله‬ ‫عز وجل حتى يخرج‪.‬‬ ‫الشاهد من هذا الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم لهذه‬ ‫المرأة‪(( :‬إن شئت صبرت ولك الجنة‪ ،‬فقالت‪ :‬اصبر))‬ ‫ففي هذا دليل على فضيلة الصبر‪ ،‬وأنه سبب لدخول الجنة ‪.‬‬

‫الحديث السادس والثلاثون‬ ‫عن أبي عبد الرحم ِن عب ِد الله ب ِن مسعو ٍد رضي الله عنه‬ ‫َقالَ‪َ :‬كأَ ِّني أ ْن ُظ ُر إِلَى رسو ِل الله صلى الله عليه وسلم َي ْح ِكي‬ ‫َنبِ ًّيا ِم َن الأَ ْنبِيا ِء‪َ ،‬صلَوا ُت الله َو َسلا ُم ُه َعلَ ْيه ْم‪َ ،‬ض َربه َق ْو ُم ُه‬ ‫َفأ ْد َموهُ‪َ ،‬و ُه َو َي ْم َس ُح ال َّد َم َع ْن َو ْج ِه ِه‪َ ،‬يقُولُ‪(( :‬اللَّ ُه َّم ا ْغ ِف ْر‬ ‫لِ َقومي‪َ ،‬فإِ َّن ُه ْم لا َي ْعلَمو َن))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق ع َلي ِه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫في هذا الحديث يحكي النبي صلى الله عليه وسلم شيئا مما‬ ‫جري للأنبياء عليهم الصلاة والسلام‪ ،‬والأنبياء كلفهم الله‬ ‫تعالى بالرسالة لأنهم اهل لها‪ ،‬كما قال الله تعالى‪ { :‬ال َّلهُ أَ ْعلَ ُم‬ ‫َح ْي ُث َي ْج َعلُ ِر َسالَ َت ُه (الأنعام‪ :‬من الآية‪.)124‬‬ ‫فهم أهل لها في التحمل والتبليغ والدعوة والصبر على ذلك‪،‬‬ ‫وكان الرسل ‪ -‬عليهم الصلاة والسلام‪ -‬يؤذنون بالقول‬ ‫وبالفعل‪ ،‬وربما بلغ الأمر إلى قتلهم‪.‬‬

‫حكي نبينا صلى الله عليه وسلم عن نبي من الأنبياء أن‬ ‫قومه ضربوه‪ ،‬ولم يضربوه إلا حيث كذبوه حتى أدموا‬ ‫وجهه‪ ،‬فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول‪(( :‬اللهم اغفر‬ ‫لقومي فإنهم لا يعلمون))‬ ‫\"ضربه قومه فأدموه\" يعني‪ :‬ضربوه ضرباً سال منه‬ ‫الدم‪ ،‬خرج منه الدم‪ ،‬وهذا يدل على أنه مبرح‪ ،‬ضرب‬ ‫شديد مد ٍم‪.‬‬ ‫\"وهو يمسح الدم عن وجهه\" وأن هذا الضرب وقع‬ ‫بأشرف الأشياء‪ ،‬وهو وجهه ورأسه‪ ،‬يمسح الدم عن‬ ‫وجهه‪ ،‬وأن هذا الدم الذي خرج دم كثير‪ ،‬فكان يمسحه‬ ‫عن وجهه‪.‬‬ ‫((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) دعا لهم‬ ‫بالمغفرة التي تتضمن الستر‪ ،‬والتجاوز عن الإساءة‪،‬‬ ‫بمعنى أنهم لا يؤاخذون عليها‪ ،‬دعا لهم بهذا وهذا‪،‬‬ ‫بقوله‪((:‬اللهم اغفر لقومي))‪.‬‬ ‫واعتذر لهم أيضاً على هذه الإساءة فإنهم لا يعلمون فالفاء‬ ‫للتعليل‪ ،‬أنهم فعلوا ذلك لجهلهم‪ ،‬لعدم علمهم‪ ،‬فلو علموا‬

‫منزلته عند الله لم يجترئوا عليه هذا الإجراء وهذا غاية ما‬ ‫يكون من الصبر‬ ‫فالمقصود إذا كان الأنبياء ‪-‬عليهم الصلاة والسلام‪ -‬بهذه‬ ‫المثابة من احتمال الأذى‪ ،‬وأنه يقع عليهم هذا الأذى‬ ‫العظيم‪ ،‬ومع ذلك يدعون لهؤلاء بالمغفرة‪ ،‬وهم كفار من‬ ‫المعاندين الأشرار‪ ،‬ويعتذرون لهم أيضاً بأنهم لا يعلمون‪.‬‬ ‫فهذا فيه عبرة لنا أن نصبر على ما نؤذي به من قول أو‬ ‫فعل في سبيل الدعوة إلى الله‪.‬‬ ‫وفي قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه‪(( :‬كأني انظر‬ ‫إلي النبي صلي الله عليه وسلم وهو يحكي لنا))‬ ‫فيه دليل على أن المحدث أو المخبر يخبر بما يؤيد ضبطه‬ ‫للخبر والحديث‪.‬‬ ‫في هذا الحديث‪ :‬فضلُ الصبر على الأَذى‪ ،‬ومقابلة الإِساءة‬ ‫والجهل بالإحسان وال ِح ْلم‪.‬‬

‫الحديث السابع والثلاثون‬ ‫عن أبي سعي ٍد وأبي هرير َة رض َي الله عنهما‪ ،‬عن ال َّنب ِّي‬ ‫صلى الله عليه وسلم‪َ ،‬قالَ‪َ (( :‬ما ُيصي ُب ال ُم ْسلِ َم ِم ْن َن َص ٍب‪،‬‬ ‫َولا َو َص ٍب‪َ ،‬ولا َه ٍّم‪َ ،‬ولا َح َز ٍن‪َ ،‬ولا أ َذ ًى‪َ ،‬ولا َغ ٍّم‪َ ،‬ح َّتى‬ ‫ال َّشو َك ُة ُي َشا ُك َها إلا َك َّف َر اللهُ بِ َها ِم ْن َخ َطاياهُ))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫هذا الحديث أورده الإمام النووي ‪-‬رحمه الله‪ -‬في باب‬ ‫الصبر‪ ،‬وذلك أن فيه سلوة للمؤمن‪ ،‬فهو مهما عظم عليه‬ ‫البلاء والأذى والمرض فإذا تذكر هذا فإن ذلك يه ّون عليه‬ ‫مصيبته‪ ،‬ومعلوم أن المصيبة تهون إذا عرف الإنسان‬ ‫الجزاء عليها‪.‬‬ ‫ن ّوع االنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ألوان‬ ‫الأضرار والآلام التي تلحق المسلم‪ ،‬ما كان منها معنوياً‪،‬‬ ‫وما كان حسياً‪ ،‬كل شيء يصيب الإنسان مما يؤلمه فإنه‬ ‫يؤجر على ذلك‪ُ ،‬تك َّفر عنه الخطايا‪.‬‬

‫((ما يصيب المسلم من نصب)) وخص المسلم؛ لأن ذلك لا‬ ‫يكون لغيره‪ ،‬فهو الذي يحتسب‪ ،‬وهو الذي يرجو ما عند الله‬ ‫عز وجل‪.‬‬ ‫((ما يصيب المسلم من َن َصب)) النصب هو التعب‪ ،‬أي ما‬ ‫يصيبه من الإرهاق والتعب‪ ،‬ولو كان ذلك في أمور دنياه‪،‬‬ ‫أي أياً كان سبب التعب‪ ،‬إلا التعب في المعصية‪.‬‬ ‫((ولا َو َصب)) الفرق بين الن َصب والو َصب هو أن‪:‬‬ ‫النصب‪ :‬هو التعب‪ ،‬والوصب‪ :‬هو الوجع الدائم أو المرض‪.‬‬ ‫((ولا هم ولا ح َزن)) فالوصب والنصب يصيب غالباً البدن‪،‬‬ ‫وأما الهم والحزن فهو يصيب النفس‪ ،‬و اعتلال النفس‪ ،‬قد‬ ‫يكون عارضاً وقد يدوم فيكون مرضاً وهو الاكتئاب‪.‬‬ ‫((ولا هم ولا حزن)) الفرق بين الهم والح َزن هو‪:‬‬ ‫أن الهم هو‪ :‬الاغتمام من أمر المستقبل‪.‬‬ ‫والحزن هو‪ :‬الاغتمام من أمر فائت‬ ‫فالمقصود أن الإنسان يؤجر على الهم‪ ،‬ويؤجر على الحزن‪.‬‬

‫((ولا أذى)) هذا أعم من كل ما سبق‪ ،‬الأذى يدخل فيه الهم‬ ‫والغم والنصب والوصب‪ ،‬وأنواع أخرى‪.‬‬ ‫((ولا غم)) الفرق بين الغم والح َزن هو‪ :‬أن الغم من شدته‬ ‫كأنه يغمى على الإنسان بسببه‪ ،‬فكأنه يغطيه الغم‪ ،‬فهذا هو‬ ‫الغم‪ ،‬أشد الحزن‪ ،‬أو الهم الشديد جداً الذي يكاد يذهب معه‬ ‫صواب الإنسان‪.‬‬ ‫((حتى الشوكة يشاكها)) صعد به إلى أعلى‪ ،‬ووصل به إلى‬ ‫القمة‪ ،‬فذكر الغم الذي يكاد يغطي عقل الإنسان‪ ،‬ثم نزل فيه‬ ‫إلى أدنى شيء ممكن أنه يقع للإنسان الشوكة‪ ،‬فالشوكة‬ ‫تصيب الإنسان ويدفع أثر ذلك‪ ،‬ثم يواصل سيره‪.‬‬ ‫((إلا ك ّفر الله بها من خطاياه)) قوله‪ :‬من خطاياه‬ ‫تحتمل أن تكون تبعيضية‪ ،‬وهو الأرجح‪ ،‬بمعنى‪ :‬أن الشوكة‬ ‫أو غير الشوكة لا تكفر جميع الذنوب‪ ،‬وإنما يكفر ذلك بع َض‬ ‫الذنوب‪.‬‬ ‫لكن هناك ذنوب لا تكفرها لا الشوكة وهي حقوق الخلق‪،‬‬ ‫هذه لابد أن ترد إليهم سواء كانت حقوقاً معنوية أو حسية‪.‬‬

‫وإذا زاد الإنسان على ذلك الصبر والاحتساب‪ ،‬يعني‪:‬‬ ‫احتساب الأجر‪ ،‬كان له مع هذا أجر‪.‬‬ ‫فالمصائب تكون على وجهين‪:‬‬ ‫‪ ‬تارة إذا أصيب الإنسان تذكر الأجر واحتسب هذه‬ ‫المصيبة على الله‪ ،‬فيكون فيها فائدتان‪ :‬تكفير الذنوب؛‬ ‫وزيادة الحسنات‪.‬‬ ‫‪ ‬وتارة يغفل عن هذا فيضيق صدره‪ ،‬ويصيبه ضجر‪،‬‬ ‫ويغفل عن نية احتساب الأجر والثواب على الله‪ ،‬فيكون‬ ‫في ذلك تكفير لسيئاته‪.‬‬ ‫إذا هو رابح على كل حال في هذه المصائب التي تأتيه‪ .‬فإما‬ ‫أن يربح تكفير السيئات وحط الذنوب بدون أن يحصل له‬ ‫أجر؛ لأنه لم ينو شيئا ولم يصبر ولم يحتسب الأجر‪.‬‬ ‫وإما أن يربح شيئين‪ :‬تكفير السيئات‪ ،‬وحصول الثواب من‬ ‫الله عز وجل‪.‬‬ ‫فيه‪ :‬دليل على أن الإنسان يكفر عنه بما يصيبه من الهم‬ ‫والنصب والغم وغير ذلك‪ ،‬وهذا من نعمة الله سبحانه‬

‫وتعالى‪ ،‬يبتلي سبحانه وتعالى عبده بالمصائب وتكون‬ ‫تكفيراً لسيئاته وحطا لذنوبه‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬انه ينبغي للإنسان إذا اصيب ولو بشوكة‪ ،‬أن يتذكر‬ ‫احتساب الأجر من الله على هذه المصيبة‪ ،‬حتى يؤجر‬ ‫عليها‪ ،‬مع تكفيرها للذنوب‪.‬‬

‫الحديث الثامن والثلاثون‬ ‫عن اب ِن مسعو ٍد رضي الله عنه َقالَ‪ :‬دخل ُت َعلَى ال َّنب ِّي صلى‬ ‫الله عليه وسلم وهو ُيو َع ُك‪ ،‬فقلت‪َ :‬يا ر ُسولَ الله‪ ،‬إ َّن َك ُت ْو َع ُك‬ ‫َو ْع ًكا َش ِدي ًدا‪َ ،‬قالَ‪(( :‬أ َجلْ‪ ،‬إ ِّني أو َع ُك ك َما ُيو َع ُك َر ُجلا ِن‬ ‫ِمن ُك ْم))‪ .‬ق ْل ُت‪ :‬ذلِ َك أن لَ َك أ ْجري ِن؟ َقالَ‪(( :‬أَ َجلْ‪ ،‬ذلِ َك َكذلِ َك‪َ ،‬ما‬ ‫ِم ْن ُم ْسلِ ٍم ُيصي ُب ُه أذ ًى‪َ ،‬ش ْو َك ٌة َف َما َفو َق َها إلا َك َّف َر اللهُ ب َها‬ ‫َس ِّي َئا ِت ِه‪َ ،‬و ُح َّط ْت َع ْن ُه ُذ ُنو ُب ُه َك َما َت ُح ُّط ال َّش َج َرةُ َو َر َق َها))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫علاقة هذا الحديث بباب الصبر واضحة‪ ،‬وذلك أن النبي‬ ‫صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وهو أفضل من وطئ على الأرض‪،‬‬ ‫كان يصيبه من ألم الحمى ما يقع على ر ُجلين اثنين‪.‬‬ ‫وهو يدل دلالة واضحة على أن شدة البلاء‪ ،‬وأن شدة‬ ‫المرض لا تعني أن الله يمقت العبد‪ ،‬وإنما ُيش َّدد عليه في‬ ‫هذا‪ ،‬ويصبر‪ ،‬فهو مأمور بالصبر‪ ،‬فيكون ذلك أعظم في‬ ‫أجره‪ ،‬فإ ّن عظم الجزاء على عظم البلاء‪.‬‬

‫(فقال له‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬إنك توعك وعكاً شديداً) يعني‪:‬‬ ‫أن الحمى تصيبك إصابة بليغة‪ ،‬وال َو ْعك‪ :‬هو الحمى‬ ‫وحرارتها وشدتها‪.‬‬ ‫(قال‪ :‬أجل) وهذه الكلمة أبلغ في الإجابة‪ ،‬كأنه قال‪:‬‬ ‫نعم‪ ،‬لكنه جاء في لفظة أبلغ في أداء المعنى وتحقيق‬ ‫الجواب قال‪ :‬أجل‪ ،‬يعني‪ :‬أن الأمر كذلك‪ ،‬إني أوعك‬ ‫كما يوعك الرجلان منكم وهو أشرف الخلق‪.‬‬ ‫قال ابن مسعود‪ :‬ذلك أن لك أجرين؟‪ ،‬قال‪( :‬أجل‪ ،‬ذلك كذلك)‬ ‫أي يصيبه المرض مضاعفاً‪ ،‬فيكون له الأجر مضاعفاً‪.‬‬ ‫ثم ب ّين النبي صلى الله عليه وسلم أن البلاء العظيم إذا نزل‬ ‫بالمؤمن فإن ذلك يكون أعظم في جزائه‪ ،‬فقال صلى الله‬ ‫عليه وسلم ‪(( :‬ما من مسلم يصيبه أذى‪ ،‬شوكة فما فوقها‬ ‫إلا كفر الله بها سيئاته‪ ،‬و ُحطت عنه ذنوبه‪ ،‬كما َتح ُّط‬ ‫الشجرة ورقها))‬ ‫ولفظة \"فوقها\"‪ ،‬تحتمل معنيين‪:‬‬ ‫▪️الأول‪ :‬ما هو أدق منها‪ ،‬وأدنى منها‪ ،‬وهذا لا يتصور ‪-‬‬ ‫أقل من الشوكة‪ ،‬أي أقل منها في الدقة والصغر‪.‬‬

‫▪️الثاني‪ :‬فما فوقها يعني ما هو أكبر وأعظم منها‪ ،‬وهذا‬ ‫هو الأقرب المتبادر‪ ،‬لأن الإنسان عادة يعبر بالشوكة عن‬ ‫الأدنى‪.‬‬ ‫((إلا كفر الله بها سيئاته)) والتعبير بالحصر‪ ،‬بالنفي‬ ‫والاستثناء‪ ،‬مثل لا إله إلا الله‪ ،‬أقوى صيغة في الحصر‪.‬‬ ‫((و ُحطت عنه ذنوبه)) توضع عن ظهره‪ ،‬كأنها أحمال على‬ ‫ظهره تثقله وترهقه فتوضع هذه الأحمال والذنوب كما تحط‬ ‫الشجرة ورقها‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬أن هذه الأعراض التي تصيب الإنسان حتى الشوكة‬ ‫من جملة ما ُي َح ُّت به عنه الخطايا‪ ،‬ويرفع درجاته في‬ ‫الجنة‪ ،‬فلا ينبغي له أن ينزعج‪ ،‬أو يتضجر‪.‬‬

‫الحديث التاسع والثلاثون‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ َر ُسولُ الله صلى الله‬ ‫عليه وسلم‪َ (( :‬م ْن ُي ِر ِد اللهُ بِ ِه َخ ْي ًرا ُي ِص ْب ِم ْن ُه))‬ ‫(رواه البخاري)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫قوله‪(( :‬يصب)) قرئت بوجهين‪:‬‬ ‫بفتح الصاد (ي َصب) وكسرها (ي ِصب) وكلاهما صحيح‪.‬‬ ‫▪️أما ((يصب منه)) فالمعني أن الله يقدر عليه المصائب‬ ‫حتى يبتليه بها‪ :‬أيصبر أم يضجر‪.‬‬ ‫▪️وأما ((يصب منه)) فهي أعم‪ ،‬أي‪ :‬يصاب من الله ومن‬ ‫غيره‪.‬‬ ‫ولكن هذا الحديث المطلق مقيد بالأحاديث الأخرى التي تدل‬ ‫على أن المراد‪ :‬من يرد الله به خيراً فيصبر ويحتسب‪،‬‬ ‫فيصيب الله منه حتى يبلوه‪.‬‬

‫أما إذا لم يصبر‪ ،‬فإنه قد يصاب الإنسان ببلايا كثيرة وليس‬ ‫فيه خير‪ ،‬ولم يرد الله به خيراً‪.‬‬ ‫لكن المراد‪ :‬من يرد الله به خيراً فيصيب منه فيصبر على‬ ‫هذه المصائب‪ ،‬فإن ذلك من الخير له‪.‬‬ ‫فالمصائب يكفر الله بها الذنوب ويحط بها الخطايا‪ ،‬ومن‬ ‫المعلوم أن تكفير الذنوب والسيئات وحط الخطايا لا شك أنه‬ ‫خير للإنسان لأن المصائب غاية ما فيها أنها مصائب‬ ‫دنيوية تزول بالأيام‪ ،‬لكن عذاب الآخرة باق‪ ،‬فإذا كفر الله‬ ‫عنك بهذه المصائب صار ذلك خيراً لك‪.‬‬

‫الحديث الأربعون‬ ‫َقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫((لا َي َت َم َّن َي َّن أَ َح ُد ُك ُم ال َمو َت ل ُض ٍّر أَ َصا َب ُه‪َ ،‬فإِ ْن َكا َن لا ُب َّد فاع ًلا‪،‬‬ ‫َفل َيقُلْ‪ :‬ال ّلَ ُه َّم أ ْحيني َما َكا َن ِت ال َح َياةُ َخي ًرا لِي‪َ ،‬و َتو ّف ِني إِ َذا‬ ‫َكا َن ِت ال َو َفاةُ َخي ًرا لي))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫في هذا الحديث نهى النبي صلى الله عليه وسلم الإنسان أن‬ ‫يتمني الموت لضر نزل به‪ .‬وذلك أن الإنسان ربما ينزل به‬ ‫ضر يعجز عن تحمله فيتمني الموت‪ ،‬فنهى النبي صلى الله‬ ‫عليه وسلم عن ذلك‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫((لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به)) ولكن إذا أصبت‬ ‫بضر فقل‪ :‬اللهم أعني على الصبر عليه‪ ،‬حتى يعنيك الله‬ ‫فتصبر‪ ،‬ويكون ذلك لك خيراً‪.‬‬ ‫أما أن تتمنى الموت فأنت لا تدري‪ ،‬ربما يكون الموت شراً‬ ‫عليك لا يحصل به راحة‪ .‬فالإنسان ربما يموت فينتقل إلى‬

‫عقوبة وإلي عذاب قبر‪ ،‬وإذا بقي في الدنيا فربما يستعتب‬ ‫ويتوب ويرجع إلي الله فيكون خيراً له‪.‬‬ ‫وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتمنى الإنسان‬ ‫الموت للضر الذي نزل به‪ ،‬فإن أعظم من ذلك أن يقتل‬ ‫الإنسان نفسه إذا نزل به الضر‪.‬‬ ‫((لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به‪ ،‬فإن كان لابد فاعلاً‬ ‫فليقل‪ :‬اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي‪ ،‬وتوفني إذا‬ ‫علمت الوفاة خيراً لي))‬ ‫لأن تمني الموت يدل على ضجر الإنسان وعدم صبره عل‬ ‫قضاء الله‪ ،‬لكن هذا الدعاء ((اللهم أحيني ما كنت الحياة‬ ‫خيراً وتوفني إذا علمت الوفاة خير لي))‬ ‫هذا الدعاء و ّكل الإنسان فيه أمره إلى الله‪ ،‬لأن الإنسان لا‬ ‫يعلم الغيب‪ ،‬فيكل الأمر إلى عالمه عز وجل ((أحيني ما‬ ‫علمت الحياة خير لي‪ ،‬وتوفني إذا علمت الوفاة خير لي))‪.‬‬ ‫فتمني الموت استعجال من الإنسان بأن يقطع الله حياته‪،‬‬ ‫وربما يحرمه من خير كثير‪ ،‬ربما يحرمه من التوبة وزيادة‬ ‫الأعمال الصالحة‪ ،‬ولهذا جاء في الحديث‪:‬‬

‫((ما من ميت يموت إلا ندم‪ ،‬فإن كان محسناً ندم أن لا يكون‬ ‫ازداد‪ ،‬وإن كان مسيئاً ندم أن لا يكون استعتب))‬ ‫أي‪ :‬استعتب من ذنبه وطلب العتبى وهي المعذرة‪.‬‬

‫الحديث الحادي والأربعون‬ ‫عن َخ َّباب ب ِن الأَر ِّت رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬ش َك ْو َنا إِ َلى رسو ِل‬ ‫الله صلى الله عليه وسلم َو ُه َو م َت َو ِّس ٌد ُب ْر َد ًة لَ ُه في ظلِّ‬ ‫ال َك ْع َب ِة‪ ،‬فقُ ْل َنا‪ :‬أَلا َت ْس َت ْن ِص ُر َل َنا ألا َت ْد ُعو لَنا؟‬ ‫َف َقالَ‪َ (( :‬ق ْد َكا َن َم ْن َق ْبلَ ُك ْم ُي ْؤ َخ ُذ ال َّر ُجلُ َف ُي ْح َف ُر َل ُه في الأر ِض‬ ‫َف ُي ْج َعلُ فِي َها‪ُ ،‬ث َّم ُي ْؤ َتى بِال ِم ْن َشا ِر َف ُيو َض ُع َع َلى َرأ ِس ِه َف ُي ْج َعلُ‬ ‫نص َفي ِن‪َ ،‬و ُي ْم َش ُط بأ ْم َشا ِط ال َحدي ِد َما ُدو َن َل ْح ِمه َو َع ْظ ِم ِه‪َ ،‬ما‬ ‫َي ُص ُّدهُ ذلِ َك َع ْن ِدي ِن ِه‪َ ،‬واللهِ لَ ُي ِت َّم َّن الله َه َذا الأَ ْمر َح َّتى َيسي َر‬ ‫ال َّراك ُب ِم ْن َص ْن َعا َء إِ َلى َح ْض َرمو َت لا َي َخا ُف إلا الل َه وال ِّذ ْئب‬ ‫َع َلى َغ َن ِم ِه‪ ،‬ولكنكم َت ْس َتع ِجلُو َن))‬ ‫(رواه البخاري)‬ ‫وفي رواية‪َ (( :‬و ُه َو ُم َت َو ِّس ٌد ُب ْر َد ًة َو َق ْد لَقِينا ِم َن ال ُم ْش ِر ِكي َن‬ ‫ش َّد ًة))‬ ‫شرح الحديث‬ ‫يحكي هذا الحديث ما وجده المسلمون من الأذية من كفار‬ ‫قريش في مكة‪ ،‬فجاؤوا يشكون إلى النبي صلى الله عليه‬ ‫وسلم‬ ‫((وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة))‬ ‫كان النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم في مكة قبل‬ ‫الهجرة مضطج ًعا متوس ًدا بردة له في ظل الكعبة‬

‫بردة أي‪ :‬كساء مخطط‪ ،‬قد جعله وسادة له في ظل الكعبة‬ ‫(فقالوا‪ :‬ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟) يعني ألا تستنصر‬ ‫الله لنا؟ لأنه لا يوجد من البشر من ينصرهم‪ ،‬فهم قلة‬ ‫مستضعفة‪ ،‬ألا تدعو لنا؟ لأنه ضاقت بهم الحال‪ ،‬واشتدت‬ ‫بهم ال ُك َرب‪ ،‬حتى تعجلوا النصر‬ ‫هم يريدون أن يكون النصر‪ ،‬والبطش‪ ،‬وإهلاك هؤلاء‬ ‫الظالمين بما ينزله الله عليهم من آفة‪ ،‬أو عقوبة سماوية‪،‬‬ ‫أو غير ذلك مما يفعله بأعدائه‪ ،‬ولكن الله كان يقيض لهم‬ ‫أم ًرا آخر‪ ،‬وذلك أن يكون عذاب هؤلاء المشركين على أيدي‬ ‫هؤلاء المستضعفين من المؤمنين‪ ،‬وهو أبلغ في التشفي‬ ‫فقال صلى الله عليه وسلم كان من كان قبلكم يحفر للواحد‬ ‫منهم ثم يوضع في الحفرة ثم ينشر بالمناشير ويمشط‬ ‫بأمشاط الحديد ما يصده عن دينه‬ ‫فبين النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن من كان قبلنا ابتلي‬ ‫في دينه أعظم مما ابتلي به هؤلاء‪ ،‬يحفر له حفرة ثم يلقى‬ ‫فيها‪ ،‬ثم يؤتي بالمنشار على مفرق رأسه ويشق‪ ،‬و يمشط‬ ‫بأمشاط الحديد ما بين جلده وعظمه‪ ،‬وهذا تعذيب عظيم‬ ‫وأذية عظيمة‪ .‬ومع ذلك كان في غاية الثبات ما يصده ذلك‬ ‫عن دينه‬ ‫انظر إلى اليقين الثابت عند النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬في‬ ‫البداية ذكر لهم ما أصاب من قبلهم‪ ،‬كأنه يريد أن يقول‪:‬‬ ‫لستم أول من يؤذى في سبيل الله ‪ ،‬فهذه سنة الله الماضية‬

‫الجارية على الأولين والآخرين‪ ،‬فالله ‪-‬تبارك وتعالى‪ -‬قد‬ ‫فتن الذين كانوا من قبلنا‪ ،‬وهكذا سنته فينا ‪:‬‬ ‫{أَلا إِ َّن َن ْص َر ال ّلهِ َق ِري ٌب [البقرة‪ ]214 :‬فالمقصود أن من‬ ‫كان قبلكم أصيبوا وصبروا من الأنبياء والأخيار فهكذا أنتم‬ ‫اصبروا لا ب ّد من الابتلاء والامتحان‬ ‫ثم أقسم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن الله سبحانه سيتم هذا‬ ‫الأمر‪ ،‬يعنى سيتم ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام‬ ‫من دعوة الإسلام‪ ،‬حتى يسير الراكب من صنعاء إلى‬ ‫حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه‬ ‫(ولكنكم تستعجلون) أي‪ :‬فاصبروا وانتظروا الفرج من الله‪،‬‬ ‫فإن الله سيتم هذا الأمر‪ .‬وقد صار الأمر كما أقسم النبي‬ ‫عليه الصلاة والسلام‪.‬‬ ‫ففي هذا الحديث آية من آيات الله‪ ،‬حيث وقع الأمر مطابقا‬ ‫لما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام‬ ‫وآية من آيات الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ حيث صدقه‬ ‫الله بما أخبر به‪ ،‬وهذه شهادة له من الله بالرسالة‬ ‫وفيه‪:‬أيضا دليل على وجوب الصبر على أذية أعداء‬ ‫المسلمين‪ .‬وإذا صبر الإنسان ظفر!!‬ ‫فالواجب على الإنسان أن يقابل ما يحصل من أذية الكفار‬ ‫بالصبر والاحتساب وانتظار الفرج‬

‫الحديث الثاني والأربعون‬ ‫عن ابن مسعو ٍد رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬ل َّما َكا َن َيو ُم ُح َني ٍن آ َث َر‬ ‫رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َنا ًسا في الق ْس َم ِة‪َ ،‬فأ ْع َطى‬ ‫الأ ْق َر َع ْب َن َحاب ٍس ما َئ ًة ِم َن الإِبِ ِل‪َ ،‬وأَ ْع َطى ُع َي ْي َنة ْب َن حصن‬ ‫ِم ْثلَ ذلِ َك‪َ ،‬وأَع َطى َنا ًسا ِم ْن أ ْشرا ِف ال َع َر ِب وآ َث َر ُه ْم َي ْو َم ِئ ٍذ في‬ ‫الق ْس َم ِة‪َ .‬ف َقالَ َر ُجلٌ‪ :‬والل ِه إ َّن ه ِذ ِه قِ ْس َم ٌة َما ُع ِدلَ ِفي َها‪َ ،‬و َما‬ ‫أُري َد في َها َو ْج ُه اللهِ‪َ ،‬فقُ ْل ُت‪َ :‬واللهِ لأُ ْخبِ َر َّن رسولَ الله صلى الله‬ ‫عليه وسلم‪َ ،‬فأَ َت ْي ُت ُه َفأ ْخ َبر ُت ُه ب َما َقالَ‪َ ،‬ف َت َغ َّي َر َو ْج ُه ُه َح َّتى َكا َن‬ ‫كال ِّص ْر ِف‪ُ .‬ث َّم َقالَ‪َ (( :‬ف َم ْن َي ْع ِدلُ إِ َذا لم َي ْع ِد ِل اللهُ َورسولُ ُه؟))‬ ‫ُث َّم َقالَ‪َ (( :‬ي ْر َح ُم اللهُ ُمو َسى َق ْد أُو ِذ َي بأ ْك َث َر ِم ْن َه َذا َف َصبر))‬ ‫َفقُ ْل ُت‪ :‬لا َج َر َم لا أ ْر َف ُع إِلَ ْيه َبع َد َها َح ِدي ًثا‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫هذا الحديث عن عبد الله بن مسعود‪ -‬رضي الله عنه أنه قال‬ ‫((لما كان غزوة حنين)) وهي غزوة الطائف التي كانت بعد‬ ‫فتح مكة‪ ،‬غزاهم الرسول صلي الله عليه وسلم وغنم منهم‬ ‫غنائم كثيرة جداً ‪ ،‬ثم إن النبي صلي الله عليه وسلم نزل‬ ‫بالجعرانة‪ ،‬وهي محل من جهة الطائف‪ ،‬نزل بها وقسم‬ ‫الغنائم‬

‫فقسم عليه الصلاة والسلام الغنائم في المؤلفة قلوبهم ‪-‬أي‬ ‫في كبائر القبائل‪ -‬يؤلفهم على الإسلام‪ ،‬وأعطاهم عطاء‬ ‫كثيراً حتى كان يعطي الواحد منهم مائة من الإبل‪.‬‬ ‫فقال رجل من القوم‪(( :‬والله إن هذه قسمة ما عدل فيها وما‬ ‫أريد فيها وجه الله))‬ ‫يقول هذا القول في قسمة قسمها رسول الله صلي الله عليه‬ ‫وسلم لكن حب الدنيا والشيطان يوقع الإنسان في الهلكة‪.‬‬ ‫هذه الكلمة كلمة كفر‪ ،‬أن ينسب الله ورسوله إلي عدم العدل‪،‬‬ ‫وإلي أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يرد بها وجه الله‬ ‫والنبي صلي الله عليه وسلم أراد بهذه القسمة وجه الله‪،‬‬ ‫أراد أن يؤلف كبار القبائل والعشائر من أجل أن يتقوى‬ ‫الإسلام‪ ،‬لأن أسياد القوم إذا ألفوا الإسلام وقوي إيمانهم‬ ‫بذلك حصل منهم خير كثير‪ ،‬وتبعهم على ذلك قبائل‬ ‫وعشائر‪ ،‬واعتز الإسلام بهذا‪ ،‬ولكن الجهل يوقع صاحبه في‬ ‫الهلكة‪.‬‬ ‫عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لما سمع هذه الكلمة تقال‬ ‫في رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بها النبي صلى الله‬ ‫عليه وسلم ورفعها إليه‪ .‬فتغير وجه الرسول صلى الله عليه‬ ‫وسلم حتى كان كالصرف أي أصبح أحمر خالص من شدة‬ ‫الضيق‪ ،‬ثم قال‪:‬‬ ‫((فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله))‬

‫وصدق النبي عليه الصلاة والسلام! إذا كانت قسمة الله‬ ‫ليست عدلا‪ ،‬وقسمة رسوله ليست عدلا‪ ،‬فمن يعدل إذا!‬ ‫ثم قال ((يرحم الله موسى‪ ،‬لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر))‬ ‫والشاهد من الحديث هذه الكلمة‪ ،‬وهي أن الأنبياء ـ عليهم‬ ‫الصلاة والسلام ـ يؤذون ويصبرون‬ ‫ففي هذا الحديث‪ :‬دليل على أن للإمام أن يعطى من يرى في‬ ‫عطيته المصلحة ولو أكثر من غيره‪ ،‬إذا رأى في ذلك‬ ‫مصلحة للإسلام وليس مصلحة شخصية‬ ‫وفيه‪ :‬أن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعتبر بمن مضى‬ ‫من الرسل‪ ،‬ولهذا قال‪ :‬لقد أوذي موسى بأكثر من هذا‬ ‫فصبر‬ ‫وهكذا ينبغي لنا نحن أن نقتدي بالأنبياء ـ عليهم الصلاة‬ ‫والسلام ـ في الصبر على الأذى‪ ،‬وأن نحتسب الأجر على‬ ‫الله‬

‫الحديث الثالث والأربعون‬ ‫َقالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫((إِ َذا أَ َرا َد الله بعب ِد ِه ال َخي َر َع َّجلَ لَ ُه ال ُعقُو َب َة في ال ُّد ْنيا‪َ ،‬وإِ َذا‬ ‫أَ َرا َد اللهُ ِب َعب ِد ِه ال َّش َّر أ ْم َس َك َع ْن ُه ب َذ ْنبِ ِه َح َّتى ُي َوا ِف َي ِب ِه يو َم‬ ‫ال ِق َيا َم ِة))‬ ‫َوقالَ ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم‪(( :‬إ َّن ِع َظ َم ال َج َزا ِء َم َع‬ ‫ِع َظ ِم ال َبلاَ ِء‪َ ،‬وإ َّن اللهَ َت َعالَى إِ َذا أَ َح َّب َق ْو ًما ا ْب َتلاَ ُه ْم‪َ ،‬ف َم ْن‬ ‫َر ِض َي َف َل ُه ال ِّر َضا‪َ ،‬و َم ْن َس ِخ َط َف َل ُه ال ُّس ْخ ُط))‬ ‫رواه الترمذي (صححه الألباني)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫الأمور كلها بيد الله عز وجل وبإرادته‪ ،‬لأن الله تعالى يقول‬ ‫عن نفسه‪َ ( :‬ف َّعالٌ لِ َما ُي ِري ُد) (البروج‪ )16 :‬فكل الأمور بيد‬ ‫الله‬ ‫والإنسان لا يخلو من خطأ ومعصية وتقصير في الواجب؛‬ ‫فإذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا‪ :‬إما‬ ‫بماله‪ ،‬أو بأهله‪ ،‬أو بنفسه‪ ،‬أو بأحد ممن يتصل به؛ لأن‬ ‫العقوبة تكفر السيئات‪ ،‬فإذا تعجلت العقوبة وكفر الله بها عن‬ ‫العبد‪ ،‬فإنه يوافي الله وليس عليه ذنب‪ ،‬قد طهرته المصائب‬ ‫والبلايا‪ ،‬حتى إنه ليشدد على الإنسان موته لبقاء سيئات‬

‫عليه‪ ،‬حتى يخرج من الدنيا نقيا من الذنوب‪ ،‬وهذه نعمة‬ ‫لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة‪.‬‬ ‫لكن إذا أراد الله بعبده الشر أمهل له واستدرجه وأدر عليه‬ ‫النعم ودفع عنه النقم حتى يبطر ويفرح فرحا مذموما بما‬ ‫أنعم الله به عليه‪ ،‬وحينئذ يلاقي ربه وهو مغمور بسيئاته‬ ‫فيعاقب بها في الآخرة‬ ‫فإذا رأيت شخصا يبارز الله بالعصيان وقد وقاه الله البلاء‬ ‫وأدر عليه النعم‪ ،‬فاعلم إنما أراد به شرا؛ لأن الله أخر عنه‬ ‫العقوبة حتى يوافى بها يوم القيامة‪.‬‬ ‫ثم ذكر في هذا الحديث‪(( :‬إن عظم الجزاء من عظم البلاء))‬ ‫يعنى أنه كلما عظم البلاء عظم الجزاء‬ ‫فالبلاء السهل له أجر يسير‪ ،‬والبلاء الشديد له أجر كبير‪،‬‬ ‫لأن الله عز وجل ذو فضل على الناس‪ ،‬إذا ابتلاهم بالشدائد‬ ‫أعطاهم عليها الأجر الكبير‪ ،‬وإذا هانت المصائب هان الأجر‬ ‫((وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم‪ ،‬فمن رضي فله الرضى‬ ‫ومن سخطا فله السخط))‬ ‫وهذه أيضا بشرى للمؤمن‪ ،‬إذا ابتلى بالمصيبة فلا يظن أن‬ ‫الله سبحانه يبغضه‪ ،‬بل قد يكون هذا من علامة محبة الله‬ ‫للعبد‪ ،‬يبتليه سبحانه بالمصائب‪ ،‬فإذا رضي الإنسان وصبر‬ ‫واحتسب فله الرضى‪ ،‬وإن سخط فله السخط‪.‬‬

‫في هذا الحديث‪ :‬الح ُّث على الصبر على ما تجري به‬ ‫الأَقدار‪ ،‬وأَنه خي ٌر للناس في الحال والمآل‪ ،‬فمن صبر فاز‪،‬‬ ‫ومن سخط فاته الأَجر وثبت عليه ال ِو ْزر‪ ،‬ومضى فيه القدر‪،‬‬ ‫وفيه‪ :‬هذا حث على أن الإنسان يصبر على المصائب حتى‬ ‫يكتب له الرضى من الله عز وجل‬

‫الحديث الرابع والأربعون‬ ‫عن أن ٍس رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬كا َن اب ٌن لأبي َط ْل َح َة رضي الله‬ ‫عنه َيش َت ِكي‪َ ،‬ف َخ َر َج أ ُبو َط ْل َح َة‪َ ،‬فقُبِ َض ال َّصب ُّي‪َ ،‬ف َل َّما َر َج َع أَ ُبو‬ ‫َط ْل َح َة‪َ ،‬قالَ‪َ :‬ما َف َعلَ ا ْبنِي؟ َقالَ ْت أ ُّم ُس َليم َو ِه َي أ ُّم ال َّصب ِّي‪ُ :‬ه َو‬ ‫أَ ْس َك ُن َما َكا َن‪َ ،‬ف َق َّر َب ْت إليه ال َع َشا َء َف َت َع َّشى‪ُ ،‬ث َّم أَ َصا َب م ْن َها‪،‬‬ ‫َف َل َّما َف َر َغ‪َ ،‬قالَ ْت‪َ :‬وا ُروا ال َّصب َّي َف َل َّما أَ ْصب َح أَ ُبو َط ْل َح َة أَ َتى‬ ‫رسولَ الله صلى الله عليه وسلم َفأ ْخ َب َرهُ‪َ ،‬ف َقالَ‪(( :‬أ َع َّر ْس ُت ُم‬ ‫اللَّي َل َة؟)) َقالَ‪َ :‬ن َع ْم‬ ‫َقالَ‪(( :‬اللَّ ُه َّم َبا ِر ْك لَ ُه َما))‬ ‫َف َولَ َد ْت ُغلا ًما‪َ ،‬ف َقالَ لي أَ ُبو َط ْل َح َة‪ :‬ا ْح ِم ْل ُه َح َّتى َتأْتِ َي ِب ِه ال َّنب َّي‬ ‫صلى الله عليه وسلم‪َ ،‬و َب َع َث َم َع ُه ِب َت َمرا ٍت‪َ ،‬ف َقالَ‪(( :‬أَ َم َع ُه‬ ‫َشي ٌء؟)) َقالَ‪َ :‬ن َع ْم‪َ ،‬ت َمرا ٌت‪َ ،‬فأ َخ َذ َها ال َّنب ُّي صلى الله عليه‬ ‫وسلم َف َم َض َغ َها‪ُ ،‬ث َّم أَ َخ َذ َها ِم ْن فِي ِه َف َج َع َل َها في ِف ِّي ال َّصب ِّي‪ُ ،‬ث َّم‬ ‫َح َّن َك ُه َو َس َّماهُ َعب َد الله‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه)‬ ‫وفي رواية لل ُب َخا ِر ِّي‪َ :‬قالَ اب ُن ُع َي ْي َن َة‪َ :‬ف َقالَ َر ُجلٌ ِم َن‬ ‫الأَ ْنصا ِر‪َ :‬ف َرأ ْي ُت ِتس َع َة أ ْولا ٍد ُكلُّ ُه ْم َق ْد َق َر ُؤوا القُ ْرآ َن‪َ ،‬ي ْع ِني‪:‬‬ ‫ِم ْن أ ْولا ِد َعب ِد الله ال َمولُو ِد‬ ‫أُ ُسَحَل ِّدي ُثٍم ُه‪َ ،،‬ف ََفقا َلَجا ْ َتء‬ ‫أ ِّم‬ ‫لَأَوفْهلِي َهار‪:‬ولاايةُت َلح ِّدم ُثسولا ٍمأَ‪َ:‬با َما َط ْلَت َحا َبة ٌنبا ْلبأنِب ِهي َح َّتَط ْلى َحأَ َةُكوِم َ ْنن‬ ‫أَ َنا‬ ‫َف َق َّر َب ْت إِلَ ْيه َع َشا ًء َفأَ َكلَ َو َش ِر َب‪ُ ،‬ث َّم َت َص َّن َع ْت َل ُه أَ ْح َس َن َما‬

‫َكا َن ْت َت َص َّن ُع َق ْبلَ ذلِ َك‪َ ،‬ف َو َق َع بِ َها‪َ .‬ف َل َّما أَ ْن َرأَ ْت أَ َّن ُه َق ْد َش ِب َع‬ ‫وأَ َصا َب ِم ْن َها‪َ ،‬قالَ ْت‪َ :‬يا أَ َبا َط ْل َح َة‪ ،‬أَ َرأَي َت لو أ َّن َقو ًما أعا ُروا‬ ‫َعا ِر َي َت ُه ْم أَ ْهلَ َبي ٍت َف َطلَ ُبوا َعا ِر َي َت ُه ْم‪ ،‬أَلَ ُه ْم أن َي ْم َن ُعو ُه ْم؟ َقالَ‪:‬‬ ‫لا‪َ ،‬ف َقالَ ْت‪َ :‬فا ْح َت ِس ْب ا ْب َن َك‪َ ،‬قالَ‪َ :‬ف َغ ِض َب‪ُ ،‬ث َّم َقالَ‪َ :‬ت َر ْك ِتني َح َّتى‬ ‫إِ َذا َتل َّط ْخ ُت‪ُ ،‬ث َّم أ ْخ َبرتني بِا ْبنِي؟!‬ ‫فا ْن َطلَ َق َح َّتى أَ َتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم َفأ ْخ َب َرهُ ِب َما‬ ‫َكا َن َف َقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‪َ (( :‬با َر َك اللهُ في‬ ‫َل ْيلَ ِت ُك َما))‪َ ،‬قالَ‪َ :‬ف َح َملَ ْت‪َ .‬قالَ‪َ :‬وكا َن رسولُ الله صلى الله عليه‬ ‫وسلم في َس َف ٍر َوه َي َم َع ُه‪َ ،‬و َكا َن رسولُ الله صلى الله عليه‬ ‫وسلم إِ َذا أَ َتى ال َم ِدي َن َة ِم ْن َس َف ٍر لا َي ْط ُرقُ َها ُط ُرو ًقا َف َد َنوا ِم َن‬ ‫ال َم ِدي َنة‪َ ،‬ف َض َر َب َها ال َم َخا ُض‪َ ،‬فا ْح َت َب َس َعلَ ْي َها أَ ُبو َط ْل َح َة‪،‬‬ ‫وا ْن َط َل َق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‪.‬‬ ‫َقالَ‪َ :‬يقُولَ أَ ُبو َط ْل َح َة‪ :‬إ َّن َك َل َت ْع َل ُم َيا َر ِّب أَ َّن ُه ُي ْع ِج ُبنِي أ ْن أ ْخ ُر َج‬ ‫َم َع رسو ِل الله صلى الله عليه وسلم إِ َذا َخ َر َج َوأَ ْد ُخلَ َم َع ُه إِ َذا‬ ‫َد َخلَ َو َق ِد ا ْح َت َب ْس ُت بِ َما َت َرى‪َ ،‬تقُولُ أُ ُّم ُسلَ ْي ٍم‪َ :‬يا أَ َبا َط ْل َح َة‪َ ،‬ما‬ ‫أَ ِج ُد الَّ ِذي ُك ْن ُت أج ُد ا ْن َطلِ ْق‪َ ،‬فا ْن َط َل ْق َنا َو َض َر َب َها ال َم َخا ُض ِحي َن‬ ‫َق ِد َما َف َول َدت ُغلا ًما‪َ .‬ف َقالَ ْت لِي أ ِّمي‪َ :‬يا أ َن ُس‪ ،‬لا ُي ْر ِض ْع ُه أ َح ٌد‬ ‫َح َّتى َت ْغ ُدو بِ ِه َعلَى رسو ِل الله صلى الله عليه وسلم‪َ ،‬فلَ َّما‬ ‫أ ْص َب َح ا ْح َت َم ْل ُت ُه َفا ْن َطلَ ْق ُت ِب ِه إِلَى رسو ِل الله صلى الله عليه‬ ‫وسلم‪َ .‬و َذ َك َر َت َما َم ال َح ِدي ِث‪...‬‬

‫شرح الحديث‬ ‫عن انس بن مالك رضي الله عنه أن أبي طلحة رضي الله‬ ‫عنه كان له ابن مريض ‪ ،‬وأبو طلحة كان زوج أم أنس بن‬ ‫مالك رضي الله عنهم‪ .‬وكان هذا الصبي يشتكي‪ ،‬فخرج أبو‬ ‫طلحة لبعض حاجاته‪ ،‬فقبض الصبي‪ .‬يعني مات‬ ‫فلما رجع سأل أمه عنه فقال‪ :‬كيف ابني؟ قالت‪(( :‬هو أسكن‬ ‫ما يكون)) وصدقت في قولها‪ ،‬هو أسكن ما يكون؛ لأنه‬ ‫مات‪ ،‬ولا سكون أعظم من الموت‪ .‬وأبو طلحة ـ رضي الله‬ ‫عنه ـ فهم أنه اسكن ما يكون من المرض‪ ،‬وأنه في عافية‬ ‫فقدمت له العشاء فتعشى على أن أبنه برئ وطيب‪ .‬ثم‬ ‫أصاب منها‪ ،‬يعني جامعها‪ ،‬فلما انتهى قالت له‪(( :‬واروا‬ ‫الصبي)) أي‪ :‬ادفنوا الصبي؛ فإنه قد مات‬ ‫فلما أصبح أبو طلحة رضي الله عنه ووارى الصبي أعلم‬ ‫بذلك النبي صلي الله عليه وسلم‪ ،‬فسأله ‪(( :‬هل أعرستم‬ ‫الليلة)) كنايه عن الجماع‪ ،‬فقال ‪ :‬نعم‬ ‫فدعا لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالبركه أن يبارك الله‬ ‫لهم ويرزقهم الذرية الصالحة‬ ‫فولدت غلاما سماه عبد الله‪ ،‬وكان لهذا الولد تسعة من الولد‬ ‫كلهم يقرأون القرآن ببركة دعاء النبي صلي الله عليه وسلم‪.‬‬

‫وفي رواية مسلم قالت أم سليم ـ رضي الله عنها ـ ((أرأيت‬ ‫لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت ثم طلبوا عاريتهم ألهم‬ ‫أن يمنعوهم؟ قال‪ :‬لا‪ ،‬فقالت فاحتسب ابنك))‬ ‫يعني أن الأولاد عندنا عارية‪ ،‬وهم ملك لله ـ عز وجل ـ متى‬ ‫شاء أخذهم‪ ،‬فضربت له هذا المثل من أجل أن يقتنع‬ ‫ويحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى‬ ‫وكان النبي صلي الله عليه وسلم‪(( :‬لا يحب أن يطرق أهله‬ ‫طروقا)) أي‪ :‬لا يحب أن يدخل عليهم ليلا دون أن يخبرهم‬ ‫بالقدوم‪.‬‬ ‫فدعا أبو طلحة ـ رضي الله عنه ـ ربه وقال‪ :‬اللهم إنك تعلم‬ ‫أنني أحب أن لا يخرج النبي صلي الله عليه وسلم مخرجا إلا‬ ‫وأنا معه ولا يرجع مرجعا إلا وأنا معه‪ ،‬وقد أصابني ما ترى‬ ‫ـ يناجي ربه سبحانه وتعالى ـ تقول أم سليم‪(( :‬فما وجدت‬ ‫الذي كنت أجده من قبل)) يعني هان عليها الطلق‪ ،‬ولا كأنها‬ ‫تطلق‪.‬‬ ‫قالت أم سليم لزوجها أبي طلحة‪ :‬انطلق‪ ،‬فانطلق‪ ،‬ودخل‬ ‫المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬ولما وصلوا‬ ‫إلى المدينة وضعت‪ .‬ففي هذا كرامة لأبي طلحة ـ رضي الله‬ ‫عنه ـ حيث خفف الله الطلق على امرأته بدعائه‬ ‫ولما جاء أنس بن مالك بأخيه من أمه إلى النبي ـ عليه‬ ‫الصلاة والسلام ـ جاء به ومعه تمرات‪ ،‬فأخذه النبي صلي‬ ‫الله عليه وسلم ومضغ التمرات‪ ،‬ثم جعلها في فم الصبي‪،‬‬

‫يعني أدخلها فمه وحنكه‪ ،‬أي‪ :‬أدخل أصبعه وداره في حنكه؛‬ ‫وذلك تبركا بريق النبي عليه الصلاة والسلام‬ ‫ليكون أول ما يصل إلى بطن الصبي ريق الرسول عليه‬ ‫الصلاة والسلام وفي ذلك فائدتين‪:‬‬ ‫▪الفائدة الأولى‪ :‬بركة ريق النبي صلي الله عليه وسلم وكان‬ ‫الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يتبركون بريق النبي صلي الله‬ ‫عليه وسلم وبعرقه‬ ‫▪الفائدة الثانية‪ :‬من التمر الذي كان الرسول صلى الله عليه‬ ‫وسلم يحنكه الصبيان‪ :‬فإن التمر فيه خير وبركة‪ ،‬وفيه‬ ‫فائدة للمعدة‪ ،‬فإذا كان أول ما يصل إلى معدته من التمر كان‬ ‫ذلك خيرا للمعدة‬ ‫فحنكه الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ودعا له بالبركة‬ ‫ففي هذا الحديث‪ :‬دليل على قوة صبر أم سليم ـ رضي الله‬ ‫عنها رغم موت ابنها ‪ ،‬فقد بلغ بها الصبر إلى أن تقول‬ ‫لزوجها هذا القول وتوري هذه التورية‪ ،‬وقدمت له العشاء‪،‬‬ ‫ونال منها‪ ،‬ثم قالت‪ :‬ادفنوا الولد‬ ‫وفي هذا دليل على جواز التورية‪ ،‬يعني أن يتكلم الإنسان‬ ‫بكلام تخالف نيته ما في ظاهرة هذا الكلام‪ .‬فله ظاهر هو‬ ‫المتبادر إلى ذهن المخاطب‪ ،‬وله معنى آخر مرجوح‪ ،‬لكن‬ ‫هو المراد في نية المتكلم‪ ،‬فيظهر خلاف ما يريد‪ .‬وهذا‬

‫جائز‪ ،‬ولكنه لا ينبغي إلا للحاجة‪ ،‬إذا احتاج الإنسان إليه‬ ‫لمصلحة أو دفع مضرة فليور‪ ،‬وأما مع عدم الحاجة فلا‬ ‫ينبغي أن يوري‬ ‫وفي هذا الحديث‪ :‬آية من آيات النبي صلي الله عليه وسلم‬ ‫حيث دعا لهذا الصبي فبارك الله فيه وفي عقبه‪ ،‬وكان له‬ ‫كما ذكرنا تسعة من الولد‪ ،‬كلهم يقرأون القرآن ببركة دعاء‬ ‫النبي عليه الصلاة والسلام‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬أنه يستحب تسمية بعبد الله‪ ،‬فإن التسمية بهذا وبعبد‬ ‫الرحمن أفضل ما يكون‪ ،‬قال النبي صلي الله عليه وسلم‬ ‫((إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن)) ‪.‬‬ ‫والشاهد من هذا الحديث‪ :‬أن أم سليم قالت لأبي طلحة‪:‬‬ ‫احتسب ابنك‪ ،‬يعنى‪ :‬أصبر على ما أصابك من فقده‪،‬‬ ‫واحتسب الأجر على الله‬

‫الحديث الخامس والأربعون‬ ‫عن أبي هرير َة رضي الله عنه أ ّن رسولَ الله صلى الله عليه‬ ‫وسلم َقالَ‪((:‬لَ ْي َس ال َّش ِدي ُد بال ُّص َر َع ِة‪ ،‬إ َّن َما ال َش ِدي ُد الَّ ِذي َيمل ُك‬ ‫َن ْف َس ُه ِع ْن َد ال َغ َض ِب))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫الغضب‪ :‬جماع الشر‪ ،‬والتحرز منه جماع الخير‬ ‫قال الله تعالى‪َ { :‬وا ْل َكا ِظ ِمي َن ا ْل َغ ْي َظ َوا ْل َعا ِفي َن َع ِن ال َّنا ِس َواللهُ‬ ‫ُي ِح ُّب ا ْل ُم ْح ِسنِي َن [آل عمران‪]1٣4 :‬‬ ‫فالغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم‪ ،‬فيستشيط‬ ‫غضبا‪ ،‬ويحتمي جسده‪ ،‬وتنتفح أوداجه‪ ،‬ويحمر وجهه‪،‬‬ ‫ويتكلم بكلام لا يعقله أحيانا‪ ،‬ويتصرف تصرفا لا يعقله‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫ولهذا جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‪:‬‬ ‫أوصني قال‪(( :‬لا تغضب))‬ ‫وبين النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أن الشديد‬ ‫ليس بالصرعة فقال‪:‬‬ ‫((ليس الشديد بالصرعة))‬

‫(( َوال ُّص َر َع ُة))‪ :‬ب َض ِّم ال َّصا ِد َو َف ْت ِح ال َّرا ِء وأَ ْصلُ ُه ِع ْن َد ال َع َر ِب‬ ‫َم ْن َي ْص َر ُع ال َّنا َس َكثي ًرا‬ ‫أي‪ :‬ليس القوي في الصرعة الذي يكثر صرع الناس‬ ‫فيطرحهم ويغلبهم في المصارعة‪ ،‬هذا يقال عنه عند الناس‬ ‫إنه شديد وقوي‪ ،‬لكن النبي صلي الله عليه وسلم يقول‪:‬‬ ‫ليس هذا الشديد حقيقة‬ ‫((إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب))‬ ‫أي‪ :‬القوي حقيقة هو الذي يصرع نفسه إذا صارعته وإذا‬ ‫غضب ملكها وتحكم فيها‪ ،‬لأن هذه هي القوة الحقيقة‪ ،‬قوة‬ ‫داخلية معنوية يتغلب بها الإنسان على الشيطان‪ ،‬لأن‬ ‫الشيطان هو الذي يلقي الجمرة في قلبك من أجل أن تغضب‬ ‫ففي هذا الحديث‪ :‬الحث على أن يملك الإنسان نفسه عند‬ ‫الغضب‪ ،‬وأن لا يسترسل فيه‪ ،‬لأنه يندم بعده‬

‫الحديث السادس والأربعون‬ ‫عن ُسلَ ْي َما َن بن ُص َر ٍد رضي الله عنه َقالَ‪ُ :‬ك ْن ُت جالِ ًسا َم َع‬ ‫ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم‪َ ،‬و َر ُجلا ِن َي ْس َت َّبا ِن‪َ ،‬وأَ َح ُد ُه َما ق ِد‬ ‫ا ْح َم َّر َو ْج ُه ُه‪ ،‬وا ْن َت َف َخ ْت أ ْو َدا ُج ُه‪َ ،‬ف َقالَ َر ُسول الل ِه صلى الله‬ ‫عليه وسلم‪(( :‬إ ِّني لأَ ْعلَ ُم َكلِ َم ًة لَ ْو َقالَ َها لَ َذ َه َب َع ْن ُه َما َي ِج ُد‪،‬‬ ‫لَ ْو َقالَ‪ :‬أ ُعوذ باللهِ م َن ال َّشي َطا ِن ال َّر ِجي ِم‪َ ،‬ذ َه َب ع ْن ُه َما‬ ‫َي ِج ُد))‪َ .‬ف َقالُوا لَ ُه‪ :‬إ َّن ال َّنب َّي صلى الله عليه وسلم َقالَ‪:‬‬ ‫(( َت َع ّو ْذ باللهِ ِم َن ال َّشي َطا ِن ال َّر ِجي ِم))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫يقول سليمان بن صرد رضي الله عنه كنت جالساً مع النبي‬ ‫صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان‬ ‫أي‪ :‬أن كل واحد منهما يوجه قبيح القول إلى الآخر‪ ،‬هذا هو‬ ‫السباب‪ ،‬بمعنى الشتم‬ ‫وأحدهما قد احمر وجهه وانتفخت أوداجه‬ ‫الأوداج‪ :‬هي العروق الغليظة المحيطة بالعنق عن يمينه‬ ‫وشماله‪ ،‬وهي معروفة‪ ،‬فإذا غضب الإنسان ظهرت بارزة‬ ‫ويحمر الوجه‪ ،‬وذلك مصداقاً لما أخبر عنه النبي صلى الله‬ ‫عليه وسلم أن الغضب جمرة من الشيطان يلقيها في قلب‬ ‫ابن آدم‪ ،‬فإذا ألقاها في قلبه ظهرت آثارها حمر ًة في الوجه‪،‬‬ ‫وانتفاخاً في الأوداج‪ ،‬وحمر ًة في العينين‪ ،‬وغلياناً يجده‬

‫الإنسان في قلبه‪ ،‬حتى إن عروقه توشك أن تتفطر بدمائه‬ ‫من شدة ما يضخ القلب‬ ‫فهذا لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال‪ ( :‬إني لأعلم‬ ‫كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد)‬ ‫بعض أهل العلم يقول‪ :‬لربما كان ذلك مختصاً بذلك الرجل‬ ‫بعينه‪ ،‬أنه إن قالها انطفأ غضبه‪ ،‬والأقرب ‪-‬والله تعالى‬ ‫أعلم‪ -‬أن ذلك عام يشمل هذا الرجل ويشمل غيره‬ ‫(لو قال‪ :‬أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)‬ ‫وذلك أنه ل ّما كان الغضب من الشيطان كان الشيطان إنما‬ ‫ينطفئ ويندحر بالاستعاذة بالله منه‬ ‫أعوذ بالله أي‪ :‬ألتجئ‪ ،‬وأعتصم بالله من الشيطان؛ لأن‬ ‫الشيطان إذا انفرد به فإنه يستخفه‪ ،‬فيحمله على كل خلق‬ ‫كريه‪ ،‬وعلى كل عمل سيئ ‪ ،‬وبالتالي فإن العبد بحاجة إلى‬ ‫أن يركن إلى ركن عظيم منيع‪ ،‬يعتمد عليه ويلتجئ إليه‪.‬‬ ‫فأعتصم بالله من الشيطان الرجيم‪ :‬لأن ما أصابه من‬ ‫الشيطان‬ ‫وعلى هذا فالمشروع للإنسان إذا غضب أن يحبس نفسه‬ ‫وأن يصبر‪ ،‬وأن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫أعوذ بالله من الشيطان الرجيم‬ ‫قال الله تعالى‪َ { :‬وإِ َّما َين َز َغ َّن َك ِم َن ال َّش ْي َطا ِن َن ْز ٌغ َفا ْس َت ِع ْذ بِاللهِ‬ ‫إِ َّن ُه َس ِمي ٌع َعلِي ٌم [الأعراف‪.]200 :‬‬

‫الحديث السابع والأربعون‬ ‫عن معا ِذ ب ِن أَن ٍس رضي الله عنه أ َّن ال َّنب َّي صلى الله عليه‬ ‫وسلم‪َ ،‬قالَ‪َ (( :‬م ْن َك َظ َم َغي ًظا‪َ ،‬و ُه َو َقا ِد ٌر َع َلى أ ْن ُي ْنفِ َذهُ‪،‬‬ ‫َد َعاهُ اللهُ ُسب َحا َن ُه َو َت َعالى َعلَى ُر ُؤو ِس ال َخلائِ ِق َيو َم ال ِقيا َم ِة‬ ‫َح َّتى ُي َخ ِّي َرهُ ِم َن ال ُحو ِر ال ِعي ِن َما َشا َء))‬ ‫رواه أَبو داود والترمذي ( حسنه الألباني)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫((من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله سبحانه‬ ‫وتعالى على رؤوس الخلائق يوم القيامة))‬ ‫الغيظ‪ :‬هو الغضب الشديد‪ ،‬فالغيظ المقصود به الحنق‬ ‫والغضب‪ ،‬إذا تحركت النفس واحتدمت بوجود ما يهيجها‬ ‫ويحرك دواعي الغضب فإن الإنسان يكون بهذا الاعتبار‬ ‫مغتاظا‬ ‫والغيظ هنا نكرة يدخل فيه كل غيظ‪ ،‬فلم يذكر النبي صلى الله‬ ‫عليه وسلم درجة من درجاته‪ ،‬كأن يقول‪ :‬من كظم غيظاً‬ ‫شديداً‪ ،‬فهذا يدل على أن الإنسان إذا كظم الغيظ ولو كان‬ ‫ذلك غيظاً دون غيظ فإنه موعود بهذا الأجر‬ ‫(من كظم غيظاً) ومعنى ذلك أنه احتمله وتجرعه وصبر‬ ‫على مرارته دون أن ين ّفس عن نفسه بتفريغ هذا الغضب‬ ‫بالتشفي بالقول أو بالفعل‪ ،‬كأن يشتم من أغضبه‪ ،‬أو أن‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook