Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore المائة الأولي رياض الصالحين

المائة الأولي رياض الصالحين

Published by مكتبة(ورتل) الإلكترونيه, 2021-04-19 18:17:06

Description: المائة الأولي رياض الصالحين

Search

Read the Text Version

‫و من فوائد الحديث ‪ :‬إثبات أن الله تعالي له يدان جل وعلا‬ ‫كما قال تعالى‪َ ( :‬و َقا َل ِت ا ْل َي ُهو ُد َي ُد ال َّلهِ َم ْغلُو َل ٌة ُغ َلّ ْت أَ ْي ِدي ِه ْم‬ ‫َولُ ِع ُنوا ِب َما َقالُوا َبلْ َي َداهُ َم ْب ُسو َط َتا ِن) (المائدة‪ :‬من الآية‪)64‬‬ ‫وهذه اليد التي أثبتها الله لنفسه‪ -‬بل اليدان‪ -‬يجب علينا أن‬ ‫نؤمن بهما؛ وأنهما ثابتتان لله‪ .‬ولكن بدون أن نمثلها‬ ‫بصفات المخلوقين؛ لأن الله ليس كمثله شيء؛ لا في ذاته‪،‬‬ ‫ولا في صفاته عز وجل‪.‬‬ ‫و في الحديث‪ :‬أن الله‪ -‬سبحانه وتعالى‪ -‬يقبل توبة العبد وإن‬ ‫تأخرت‪ ،‬لكن المبادرة بالتوبة هي الواجب؛ لأن الإنسان لا‬ ‫يدري‪ ،‬فقد يفجأه الموت فيموت قبل أن يتوب‪ .‬فالواجب‬ ‫المبادرة‪ ،‬لكن مع ذلك‪ ،‬لو تأخرت تاب الله على العبد‪.‬‬ ‫و فيه‪ :‬دليل على أ ّن ال ّشمس إذا طلعت من مغربها‪ ،‬انتهى‬ ‫قبول التوبة‪.‬‬

‫الحديث السابع عشر‬ ‫عن أبي ُهرير َة رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ َر ُسولُ اللهِ صلى الله‬ ‫عليه وسلم‪:‬‬ ‫(( َم ْن َتا َب َق ْبلَ أ ْن َت ْطلُ َع ال َّش ْم ُس ِم ْن َم ْغ ِربِها َتا َب اللهُ َعلَي ِه ))‬ ‫( رواه مسلم )‬ ‫شرح الحديث‬ ‫إن الله يقبل توبة العبد ما لم تطلع الشمس من مغربها ‪،‬‬ ‫وهذا مثل قوله جل وعلا‪َ { :‬ي ْو َم َيأْتِي َب ْع ُض آ َيا ِت َر ِّب َك َلا‬ ‫َي ْن َف ُع َن ْف ًسا إِي َما ُن َها َل ْم َت ُك ْن آ َم َن ْت ِم ْن َق ْبلُ أَ ْو َك َس َب ْت فِي إِي َما ِن َها‬ ‫َخ ْي ًرا [الأنعام‪]158:‬‬ ‫و بعض آيات ربك يعني طلوع الشمس من مغربها‪ ،‬إذا‬ ‫طلعت من المغرب انتهى كل شيء وختم على الأعمال فلا‬ ‫تقبل توبة العبد بعد ذلك إنما تقبل قبل طلوع الشمس من‬ ‫مغربها‪ ،‬فإذا طلعت من مغربها فالكافر يبقى على كفره‪،‬‬ ‫والمؤمن على إيمانه ولا تقبل توبة الكافر ولا العاصي بعد‬ ‫ذلك‬ ‫فباب التوبة مفتوح‪ ،‬و الفرصة مواتية لكل من أراد أن ينيب‬ ‫إلى ربه ‪-‬تبارك وتعالى‪ ،‬حتى تطلع الشمس من مغربها‬ ‫وهنا تنقطع التوبة‪ ،‬فإن التوبة تنقطع بأحد أمرين‪:‬‬

‫هذا أولهما‪ ،‬و الثاني ( مالم يغرغر )‪ ،‬فإذا طلعت الشمس‬ ‫من مغربها ‪ ،‬فعندئ ٍذ لا تنفع التوبة‪ ،‬هذا حد لقبول التوبة‬ ‫على وجه العموم‪ ،‬يعني بالنسبة لعموم الخلق‪ ،‬وهو توقيت‬ ‫زماني لآية من الآيات الكونية‪ ،‬وذلك في آخر الزمان‪.‬‬ ‫قال العلماء ‪ :‬هذا حد لقبول التوبة ‪ ،‬وقد جاء في الحديث‬ ‫الصحيح ‪(( :‬إن للتوبة باباً مفتوحاً ‪ ،‬فلا تزال مقبولة حتى‬ ‫يغلق ‪ ،‬فإذا طلعت الشمس من مغربها أغلق ‪ ،‬وامتنعت‬ ‫التوبة على من لم يكن تاب قبل ذلك ))‬ ‫فإذا طلعت الشمس من مغربها فإنه لا يقبل الإيمان ممن لم‬ ‫يكن قبل ذلك مؤمناً‪ ،‬كما لا تقبل توبة العاصي‪ ،‬وذلك لأن‬ ‫طلوع الشمس من مغربها آية عظيمة يراها كل من كان في‬ ‫ذلك الزمان‪ ،‬فتنكشف لهم الحقائق‬ ‫قال القرطبي‪( :‬قال العلماء‪ :‬وإنما لا ينفع نفساً إيمانها عند‬ ‫طلوع الشمس من مغربها لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع‬ ‫ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس‪ ،‬وتفتر كل قوة‬ ‫من قوى البدن‪ ،‬فيصير الناس كلهم لإيقانهم بدنو القيامة‪،‬‬ ‫في حال من حضرهُ الموت في انقطاع الدواعي إلى أنواع‬ ‫المعاصي عنهم وبطلانها من أبدانهم‪ ،‬فمن تاب في مثل هذه‬ ‫الحال لم تقبل توبته كما لا تقبل توبة من حضره الموت)‬

‫وقال ابن كثير‪( :‬إذا أنشأ الكافر إيماناً يومئذ لا يقبل منه‪،‬‬ ‫فأما من كان مؤمناً قبل ذلك فإن كان مصلحاً في عمله فهو‬ ‫بخير عظيم‪ ،‬وإن كان مخلطاً فأحدث توبة حينئ ٍذ لم تقبل منه‬ ‫توبة)‬ ‫ومعنى (( تاب الله عليه)) ‪ :‬قبل توبته ‪ ،‬ورضي بها ‪.‬‬ ‫وللتوبة شرط آخر كما ذكرنا وهو ‪ :‬أن يتوب قبل الغرغرة ‪،‬‬ ‫كما سيأتي في الحديث التالي‬ ‫وفي هذا الحديث‪ :‬دليل على أن الشمس إذا طلعت من‬ ‫مغربها‪ ،‬انتهي قبول التوبة‬

‫الحديث الثامن عشر‬ ‫عن عبد الله ب ِن ع َم َر ِ رض َي اللهُ عنهما عن ال َّنبي صلى الله‬ ‫عليه وسلم‪َ ،‬قالَ‪:‬‬ ‫((إِ َّن الله عز وجل َي ْق َبلُ َتو َب َة ال َع ْب ِد َما لَ ْم ُي َغ ْر ِغ ْر))‬ ‫رواه الترمذي (صححه الألباني)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫قال المناوي ‪(( :‬إن الله عز وجل يقبل توبة العبد)) أي‬ ‫رجوعه إليه من المخالفة إلى الطاعة ((ما لم يغرغر)) أي‬ ‫تصل روحه حلقومه لأنه لم ييأس من الحياة فإن وصلت‬ ‫لذلك لم يعت ّد بها ليأسه ولأ ّن من شرط التوبة العزم على‬ ‫عدم المعاودة وقد فات ذلك‪.‬‬ ‫((إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر)) أي‪ :‬ما لم تصل‬ ‫الروح الحلقوم‪ ،‬فإذا وصلت الروح الحلقوم فلا توبة‪ ،‬وقد‬ ‫بينت النصوص الأخرى أنه إذا حضر الموت لم تقبل التوبة؛‬ ‫لقوله تعالي‪َ ( :‬و َل ْي َس ِت ال َّت ْو َب ُة لِلَّ ِذي َن َي ْع َملُو َن ال َّس ِّي َئا ِت َح َّتى إِ َذا‬ ‫َح َض َر أَ َح َد ُه ُم ا ْل َم ْو ُت َقالَ إِ ِّني ُت ْب ُت ا ْلآن) (النساء‪ :‬من‬ ‫الآية‪. )18‬‬ ‫و هذا الأمر الثاني الذي تقف دونه التوبة‪ ،‬لا تقبل معه‬ ‫التوبة‪ ،‬وهو خاص بالأفراد‪ ،‬الأول عام وهو طلوع الشمس‬

‫من مغربها ‪،‬والثاني خاص وذلك أن العبد تقبل توبته في‬ ‫خاصة نفسه ما لم يغرغر‬ ‫((يغرغر)) يعني‪ :‬تبلغ الروح الحلقوم‪ ،‬بمعنى‪ :‬أنه يكون‬ ‫لها صوت عند خروجها عندما تصل إلى هذا الموضع‬ ‫والغرغرة‪ :‬هي تردد الماء في الحلق دون أن ينزل إلى‬ ‫الجوف‪ ،‬فهذا التردد لهذا الماء يصدر صوتاً‪ ،‬وذلك هو‬ ‫الغرغرة‪ ،‬وروح الإنسان تخرج من جسده حتى تبلغ‬ ‫الحلقوم‪ ،‬فإذا بلغت الحلقوم فعندئ ٍذ لا تنفع التوبة‬ ‫و في الحديث ‪ :‬الدلالة على أن العبد متى تاب ولو أنه‬ ‫مريض ما لم يغرغر‪ ،‬ما لم تبلغ الروح الحلقوم‪ ،‬يعني ما‬ ‫دام يعقل ويفهم‪ ،‬فالتوبة مقبولة‪ ،‬فإذا بلغت الروح الحلقوم‬ ‫حينئذ تغيرت الأحوال وصار ممن لا يعقل ما يقوله ولا يفهم‬ ‫ما يقوله‬ ‫فينبغي على المؤمن‪ ،‬بل يجب عليه أن يسارع وأن يبادر‬ ‫بالتوبة متى وقع الذنب‪ ،‬فالواجب البدار بالتوبة والاستغفار‬ ‫والندم والإقلاع‪ ،‬وشروط التوبة ثلاثة‪:‬‬ ‫▪ الندم على الماضي‪.‬‬ ‫▪ و الإقلاع من الذنب‪.‬‬ ‫▪ والعزم الصادق ألا يعود فيه رغبة فيما عند الله وتعظي ًما‬ ‫له‪.‬‬

‫وهناك شرط رابع فيما يتعلق بحق المخلوق لا ب ّد من‬ ‫استحلاله أو إعطائه حقه‪ ،‬فلا تتم التوبة إلا أن يعطى حقه‬ ‫أو يستميحه فيسمح إذا كان مكل ًفا رشي ًدا وسمح من مال أو‬ ‫ضرب أو جرح أو غيبة‪ ،‬لا ب ّد من استسماحه‪ ،‬فإن لم يتيسر‬ ‫من أجل غيبة ولم يقدر على استسماحه يدعو له ويذكره في‬ ‫المواضع التي اغتابه فيها يذكره فيها بمحاسن أعماله تكون‬ ‫هذه بهذه‪.‬‬ ‫قال القرطبي‪(( :‬إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)) أي‬ ‫تبلغ روحه رأس حلقه‪ ،‬وذلك وقت المعاينة الذي يرى فيه‬ ‫مقعده من الج ّنة ومقعده من النار‪ ،‬فتوبته مردودة لأن علمه‬ ‫بالله تعالى وبنب ّيه صلى الله عليه وسلم وبوعده قد صار‬ ‫ضرورة‪.‬‬ ‫فعليك أن تبادر بالتوبة إلى الله ‪-‬عز وجل‪ -‬من الذنوب‪ ،‬وأن‬ ‫ُتقلع عما كنت متلبساً به من المعاصي‪ ،‬وأن تقوم بما ف ّرطت‬ ‫به من الواجبات‪ ،‬وتسأل الله قبول توبتك‪.‬‬

‫الحديث التاسع عشر‬ ‫عن ِز ِّر بن ُح َب ْي ٍش‪َ ،‬قالَ‪ :‬أَ َت ْي ُت َص ْف َوا َن ْب َن َع َّسا ٍل رضي الله‬ ‫ما جا َء ب َك َيا‬ ‫ا َبع ِت َنغاا ْلء َمال ْسِع ْل ِحِم‪َ ،‬عفلَقاىلَال‪ُ :‬إخ َّفَّ ْني اِنل‪َ ،‬ملَفاقئا َكلَ َة‪:‬‬ ‫أ ْسألُ ُه‬ ‫عنه‬ ‫َت َض ُع أ ْجنِ َح َت َها‬ ‫فقُ ْل ُت‪:‬‬ ‫ِز ُّر؟‬ ‫ل َطال ِب ال ِع ْل ِم ِرض ًى ِب َما ي ْطلُ ُب‪ .‬فقل ُت‪ :‬إ َّن ُه َق ْد َح َّك في َص ْدري‬ ‫ال َم ْس ُح َع َلى ال ُخ َّفي ِن َب ْع َد ال َغائِ ِط وال َبو ِل‪ ،‬و ُك ْن َت ا ْم َر ًءا ِم ْن‬ ‫أَ ْص َحا ِب ال َّنب ِّي صلى الله عليه وسلم َفجئ ُت أَ ْسأَلُ َك َهلْ َس ِم ْع َت ُه‬ ‫َيذ ُك ُر في ذلِ َك َشي ًئا؟‬ ‫َقالَ‪َ :‬ن َع ْم‪َ ،‬كا َن َيأْ ُم ُرنا إِ َذا ُك َّنا َسف ًرا‪ -‬أَ ْو ُم َسافِري َن‪ -‬أ ْن لا َن ْنز َع‬ ‫ِخ َفا َف َنا َثلا َث َة أَ َّيا ٍم َو َليالِيه َّن إلا ِم ْن َج َنا َب ٍة‪ ،‬لك ْن ِم ْن َغائ ٍط‬ ‫َو َبو ٍل و َن ْو ٍم‬ ‫فقُ ْل ُت‪َ :‬هلْ َس ِم ْع َت ُه َي ْذك ُر في ال َه َوى َشي ًئا؟ َقالَ‪َ :‬ن َع ْم‪ُ ،‬ك ّنا َم َع‬ ‫رسو ِل اللهِ صلى الله عليه وسلم في َس َف ٍر‪ ،‬ف َب ْي َنا َن ْح ُن ِعن َدهُ إِ ْذ‬ ‫َنا َداه أَعراب ٌّي ب َص ْو ٍت لَ ُه َج ْه َو ِر ٍّي‪َ :‬يا ُم َح َّم ُد‪ ،‬فأجاب ُه رسولُ‬ ‫الله صلى الله عليه وسلم َن ْح ًوا ِم ْن َص ْو ِته‪َ (( :‬ها ُؤ ْم)) فقُ ْل ُت‬ ‫َل ُه‪َ :‬و ْي َح َك! ا ْغ ُض ْض ِم ْن َصوتِ َك َفإِ َّن َك ِع ْن َد ال َّنبي صلى الله‬ ‫عليه وسلم ‪َ ،‬و َق ْد ُن ِهي َت َع ْن ه َذا! فقالَ‪ :‬والله لا أ ْغ ُض ُض‪.‬‬ ‫َقالَ الأع َراب ُّي‪ :‬ال َم ْر ُء ُيح ُّب ال َق ْو َم َولَ َّما ي ْل َح ْق بِ ِه ْم؟ َقالَ ال َّنب ُّي‬ ‫صلى الله عليه وسلم ‪(( :‬ال َم ْر ُء َم َع َم ْن أَ َح َّب َيو َم القِ َيا َم ِة))‬ ‫َف َما َزالَ ُي َح ِّد ُث َنا َح َّتى َذ َك َر َبا ًبا ِم َن ال َم ْغ ِر ِب َمسي َرةُ َع ْر ِض ِه أَ ْو‬ ‫َي ِسي ُر ال َّراك ُب في َع ْر ِض ِه أ ْر َبعي َن أَ ْو َسبعي َن عا ًما‪َ -‬قالَ ُس ْفيا ُن‬

‫َخ َل َق ال َّس َماوا ِت‬ ‫َت َعا َلى َي ْو َم‬ ‫أَوحا ُدلأَاْرل ُّروَضا ِة َم‪ْ :‬فتِق َبولًَحاالللَّشَّتا ْ ِوم َب‪ِ -‬ة َخل َلا َق ُيُه ْغلَاللُقه‬ ‫ال َّش ْم ُس ِم ْن ُه))‬ ‫َح َّتى َت ْطلُ َع‬ ‫رواه الترمذي وغيره‪َ ،‬وقالَ‪(( :‬حديث حسن صحيح)) (وحسنه‬ ‫الألباني)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫وفي هذا الحديث حديث زر بن حبيش أنه أتى صفوان بن‬ ‫عسال رضي الله عنه يسأله‪ ،‬وصفوان من الصحابة‪ ،‬وزر‬ ‫من كبار التابعين ‪ ،‬واشتمل حديث زر رضي الله عنه على‬ ‫عدة أحاديث‪:‬‬ ‫الأول مايتعلق بطلب العلم و فضل طلب العلم‪.‬‬ ‫و الثاني المسح على الخفين‪.‬‬ ‫و الثالث الهوى سأله صفوان عن المحبة‪.‬‬ ‫و الرابع باب التوبة وأنه لايزال مفتوحاً إلى طلوع الشمس‬ ‫من مغربها‬ ‫فقال له صفوان‪ :‬ما جاء بك؟ قال‪ :‬طلب العلم‪ ،‬جئت أطلب‬ ‫العلم‬ ‫فقال له صفوان‪ :‬إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم‬ ‫يقول‪(( :‬إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما‬ ‫يطلب)) أي بما يصنع ‪،‬و ((تضع أجنحتها)) يعني ترحيباً به‬ ‫وترغيباً و احتراماً له وتشجيعاً ‪ ،‬فطلب العلم الشرعي من‬ ‫أفضل القربات و من أفضل الطاعات‪.‬‬

‫((قال‪ :‬جئت أسأل عن المسح على الخفين‪ ،‬حك في نفسي))‬ ‫(صار في نفسي شك) المسح على الخفين بعد البول والغائط‬ ‫هل يمسح أو ما يمسح؟‬ ‫جاء زر ليسأل عن المسح على الخفين فقد شك في المسح‬ ‫على الخفين بعد البول أو الغائط هل هو جائز أم لا ؟‬ ‫فقال له صفوان‪« :‬إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم‬ ‫أن يمسحوا إذا كانوا مسافرين ثلاثة أيام ولياليهن»‬ ‫فبين له صفوان رضي الله عنه أن ذلك جائز لأن النبي‬ ‫صلى الله عليه وسلم أمرهم إذا كانوا مسافرين أن لا‬ ‫ينزعوا خفافهم إلا من جنابة ‪ ،‬ولكن لاينزعوه من غائط‬ ‫وبول ونوم ‪ ،‬فدلّ ذلك على جواز المسح على الخفين ‪ ،‬بل‬ ‫إ ّن المسح على الخفين أفضل إذا كان الإنسان لابساً لهما‪.‬‬ ‫وقت لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام و‬ ‫لياليهن للمسافر والمقيم يوم وليلة كما في الرواية الأخرى‬ ‫‪ ،‬فالمسافر يمسح ثلاثة أيام بلياليها بعد الحدث‪ ،‬والمقيم يوم‬ ‫وليلة بعد الحدث إذا لبسهما على طهارة‪.‬‬ ‫ولكن لابد من شروط لجواز المسح علي الخفين‪:‬‬ ‫الشرط الأول‪ :‬أن يلبسهما على طهارة‬ ‫الشرط الثاني‪ :‬أن يكون المسح عليهما في الحدث الأصغر‪،‬‬ ‫فإذا صار علي الإنسان جنابة؛ فإنه لا يجزئ أن يمسح على‬ ‫الجوربين أو الخفين‪ ،‬بل لابد من نزعهما وغسل القدمين؛‬

‫وذلك لأن الطهارة الكبرى ليس فيها مسح إلا للضرورة في‬ ‫الجبيرة‬ ‫الشرط الثالث‪ :‬أن يكون المسح في المدة التي حددها النبي‬ ‫صلي الله عليه وسلم وهي يوم وليلة للمقيم‪ ،‬وثلاثة أيام‬ ‫بلياليها للمسافر‬ ‫ثم إن زر بن حبيش سأل صفوان بن عسال‪ :‬هل سمع من‬ ‫النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الهوى شيئاً؟‬ ‫((الهوى))‪ :‬المحبة والميل‪ ،‬فقال‪ :‬نعم‪ ،‬ثم ذكر قصة‬ ‫الأعرابي الذي كان جهور ّي الصوت فجاء ينادي‪ :‬يا محمد؛‬ ‫بصوت مرتفع‪.‬‬ ‫فقيل له‪ :‬ويحك أتنادي رسول الله صلي الله عليه وسلم‬ ‫بصوت مرتفع؟ ومن عادة الأعراب إذا جاؤوا يسألون‬ ‫يرفعون الصوت‪ ،‬فالغالب على البادية الجفاء وعدم معرفة‬ ‫الآداب‪ .‬قيل له ‪ :‬لا ترفع صوتك‪ ،‬فقال‪ :‬بل أرفع صوتي‪ ،‬هو‬ ‫قصده يسمع الناس حتى يستفيدوا‪ ،‬هذا أحسن ما يحمل‬ ‫عليه قصده حتى يسمع الناس وحتى يستفيدوا من الجواب‪.‬‬ ‫فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بصوت مرتفع كما سأل‬ ‫الأعرابي‪ ،‬لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم أكمل الناس‬ ‫هدياً‪ ،‬يعطي كل إنسان بقدر ما يتحمله عقله‪ ،‬فخاطبه النبي‬ ‫صلي الله عليه وسلم بمثل ما خاطبه به‬

‫فقال‪(( :‬هاؤم)) ‪ ،‬يعنى ها أنا ذا ‪ ،‬ماذا تريد ؟ قال الأعرابي‪:‬‬ ‫((المرء يحب القوم ولما يلحق بهم)) يعني‪ :‬يحب القوم‬ ‫ولكن عمله دون علمهم؛ لا يساويهم في العمل‪ ،‬مع من‬ ‫يكون؟ أيكون معهم أو لا؟‬ ‫فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‪(( :‬المرء مع من أحب يوم‬ ‫القيامة))‪ .‬نعمة عظيمة ولله الحمد فرح الصحابة بهذا فرحا‬ ‫عظي ًما‪ ،‬كون الإنسان مع من أحب قال أنس رضي الله عنه‬ ‫‪(( :‬إني أحب رسول الله‪ ،‬وأح ّب أبا بكر‪ ،‬وأحب وعمر‪،‬‬ ‫فأرجو أن أكون معهم يوم القيامة))‪ ،‬فمن أح ّب الرسل‬ ‫والأنبياء وأهل الخير صار معهم‪ ،‬ومن أح َّب الكفرة والفسقة‬ ‫كان معهم‪ ،‬المرء مع من أح ّب‪.‬‬ ‫ثم أخبره صفوان أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول‪:‬‬ ‫إن هناك باباً للتوبة عظيماً مسيرته أربعين أو سبعين عاماً‬ ‫‪ ،‬أي يسير فيه الراكب في عرضه أربعين أو سبعين عاماً ‪،‬‬ ‫لايزال مفتوحاً ولا تزال ترفع فيه أعمال التائبين فإذا طلعت‬ ‫الشمس من مغربها أغلق‬ ‫وفي الحديث‪ :‬أنه ينبغي إذا أشكل على الإنسان شيء أن‬ ‫يسأل ويبحث عمن هو أعلم بهذا الشيء؛ حتى لا ُيبقي في‬ ‫قلبه حرج مما سمع ‪،‬فهذا زر بن حبيش ‪-‬رحمه الله‪ -‬سأل‬ ‫صفوان بن عسال رضي الله عنه‪ -‬عن المسح على الخفين‪.‬‬

‫و فيه دليل علي ثبوت المسح على الخفين‪ ،‬وقد تواترت‬ ‫الأحاديث عن الرسول صلي الله عليه وسلم في ذلك‪ ،‬وأخذ‬ ‫بهذا أهل السنة‪.‬‬ ‫و فيه ‪ :‬أن ((المر ُء مع من أح ّب)) فمن أح َّب الصالحين‬ ‫صار معهم‪ ،‬ومن أحب الكفرة والفسقة كان معهم‪.‬‬ ‫و فيه‪ :‬الح ّث والتحريض على التوبة‪ ،‬وأنه يجب على كل‬ ‫مؤمن وعلى كل مؤمنة أن يبادر بالتوبة‪ ،‬وأن يكون على‬ ‫التوبة دائماً حتى َيلقى ربه‪ ،‬ما دامت التوبة ممكنة قبل أن‬ ‫تطلع الشمس من مغربها‪.‬‬

‫الحديث العشرون‬ ‫عن َس ْع ِد ب ِن مال ِك الخدر ِّي رضي الله عنه أ ّن َن ِب َّي الله صلى‬ ‫الله عليه وسلم َقالَ‪:‬‬ ‫(( َكا َن فِي َم ْن َكا َن َق ْب َلك ْم َر ُجلٌ َق َتلَ تِ ْس َع ًة وتِ ْسعي َن َن ْف ًسا‪َ ،‬ف َسأَلَ‬ ‫َع ْن أ ْع َل ِم أَ ْه ِل الأر ِض‪َ ،‬ف ُدلَّ َع َلى َرا ِه ٍب‪َ ،‬فأَ َتاهُ‪ .‬فقال‪ :‬إ َّن ُه َق َتلَ‬ ‫تِس َع ًة و ِت ْس ِعي َن َن ْف ًسا َف َهلْ لَ ُه ِم ْن َتو َب ٍة؟ فقالَ‪ :‬لا‪َ ،‬ف َق َتل ُه َف َك َّملَ‬ ‫ب ِه ما َئ ًة‪ُ ،‬ث َّم َسأَلَ َع ْن أَ ْعلَ ِم أَ ْه ِل الأَر ِض‪َ ،‬ف ُدلَّ َع َلى َر ُج ٍل‬ ‫َعالِ ٍم‪ .‬ف َقالَ‪ :‬إِ َّن ُه َق َتلَ ِما َئ َة َن ْف ٍس َف َهلْ َل ُه ِم ْن َت ْو َب ٍة؟ فقالَ‪َ :‬ن َع ْم‪،‬‬ ‫و َم ْن َي ُحولُ َب ْي َن ُه و َب ْي َن ال َّت ْو َب ِة؟ ا ْن َطلِ ْق إِلى أر ِض َك َذا و َك َذا فإِ َّن‬ ‫بِ َها أُنا ًسا َي ْع ُب ُدو َن الله َت َعا َلى فا ْع ُب ِد الله َم َع ُه ْم‪ ،‬ولا َت ْر ِج ْع إِلى‬ ‫أَ ْر ِض َك َفإِ َّن َها أر ُض ُسو ٍء‪ ،‬فا ْن َطلَ َق َح َّتى إِ َذا َن َص َف ال َّط ِري َق‬ ‫أَ َتاهُ ا ْل َم ْو ُت‪ ،‬فا ْخ َت َص َم ْت ِفي ِه َملا ِئ َك ُة ال َّر ْح َم ِة و َملائِ َك ُة ال َع َذا ِب‪.‬‬ ‫َف َقال ْت َملائِ َك ُة ال َّر ْح َم ِة‪َ :‬جا َء َتائِ ًبا‪ُ ،‬م ْق ِب ًلا بِ َقل ِب ِه إِلى اللهِ َت َعا َلى‪،‬‬ ‫وقال ْت َملا ِئ َك ُة ال َع َذا ِب‪ :‬إ َّن ُه ل ْم َي ْع َملْ َخي ًرا َق ُّط‪َ ،‬فأَ َتا ُه ْم َملَ ٌك في‬ ‫صو َر ِة آ َد ِم ٍّي َف َج َعلُوهُ َب ْي َن ُه ْم‪ -‬أ ْي َح َك ًما‪ -‬فقالَ‪ِ :‬قي ُسوا ما بي َن‬ ‫الأر َضي ِن َفإلَى أ ّيتهما َكا َن أد َنى َفهُ َو لَ ُه‪َ .‬ف َقا ُسوا َف َو َج ُدوهُ‬ ‫أ ْدنى إِلى الأ ْر ِض التي أ َرا َد‪َ ،‬ف َق َب َض ْت ُه َملائِ َك ُة ال َّرحم ِة))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق عليه )‬ ‫و في رواية في الصحيح‪َ (( :‬ف َكا َن إلى ال َقر َي ِة ال َّصالِ َح ِة أ ْق َر َب‬ ‫بِ ِش ْب ٍر َف ُج ِعلَ ِم ْن أهلِ َها))‪.‬‬ ‫و في رواية في الصحيح‪َ (( :‬فأَو َحى الله َت َعالَى إِلى ه ِذ ِه أَ ْن‬ ‫َت َبا َع ِدي‪ ،‬وإِ َلى ه ِذ ِه أَ ْن َت َق َّر ِبي‪ ،‬و َقالَ‪ :‬قِي ُسوا َما ب ْي َن ُهما‪،‬‬

‫َف َو َج ُدوهُ إِلى ه ِذ ِه أَ ْق َر َب ِب ِش ْب ٍر َف ُغفِ َر لَ ُه))‪ .‬و في رواية‪:‬‬ ‫(( َف َنأى ب َص ْد ِر ِه َن ْح َو َها))‬ ‫شرح الحديث‬ ‫وفي الحديث قصة رج ٍل كان فيمن قبلنا‪ ،‬كان ظالماً قتل‬ ‫تسعة وتسعين نفساً بغير حق‪ ،‬فألقى الله في قلبه التوبة‬ ‫وجاء يسألُ عن أعلم أهل الأرض ‪ ،‬فدلّوه على راه ٍب‪ ،‬يعني‬ ‫عابدا ‪ ،‬ولكن ليس عنده علم‪ ،‬فسأله‪ :‬هل لي من توبة؟‬ ‫فاستعظم الراهب هذا الذنب وقال‪ :‬ليس لك توبة ! فغضب‬ ‫ال ّرجلَ وقتل الراهب ‪ ،‬فأتم مائة نفس ‪ ،‬وهذا من عقوبة‬ ‫الجهل والفتوى بغير علم‪.‬‬ ‫ثم إ ّنه سأل عن أعلم أهل الأرض‪ ،‬فدلّ على رج ٍل عال ٍم‬ ‫صاح ِب بصيرة فقال له‪ :‬إنه قتل مائة نفس فهل له من‬ ‫توبة؟ قال‪ :‬نعم! ومن الذي يحول بينه وبين التوبة؟ باب‬ ‫التوبة مفتوح‪.‬‬ ‫ولكن اذهب إلى قرية كذا ؛ فإن فيها قوماً صالحين يعبدون‬ ‫الله فتع ّبد معهم ‪ ،‬واترك بلدك لأنها بلد سوء فيها أشرار‬ ‫وهو يتابعهم في ال ّشر‪.‬‬ ‫فبادر بال ّتوبة وخرج تائباً نادماً مهاجراً بدينه إلي الأرض‬ ‫التي فيها القوم الذين يعبدون الله عز وجل‪ .‬وفي منتصف‬ ‫الطريق أتاه الموت‪ ،‬فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة‬ ‫العذاب‪ ،‬ملائكة الرحمة تقول‪ :‬جاء تائباً نادماً ُمقلعاً نحن‬

‫أولى به‪ ،‬و ملائكة العذاب تقول‪ :‬إ َّن فيه وفيه وصاحب شر‪،‬‬ ‫ما عمل خيراً نحن أولى به أرسل الله إليهم َملَكاً يحكم بينهم‪،‬‬ ‫فقال‪ :‬قيسوا ما بين البلدين‪ ،‬بلدته التي خرج منها وبلدته‬ ‫التي توجه إليها الصالحة ‪ ،‬فإلى أيتها كان أقرب فهو له ‪.‬‬ ‫يعني‪ :‬فهو من أهلها ‪،‬إن كانت أرض الكفر أقرب إليه‬ ‫فملائكة العذاب تقبض روحه‪ ،‬وإن كان إلي بلد الإيمان‬ ‫أقرب فملائكة الرحمة تقبض روحه‪.‬‬ ‫فقاسوا ما بينهما؛ فإذا البلد التي اتجه إليها‪ -‬وهي بلد‬ ‫الإيمان ‪-‬أقرب من البلد التي هاجر منها بنحو شبر ‪ -‬مسافة‬ ‫قريبة ‪ -‬فصار من أهلها وقبضته ملائكة الرحمة‪.‬‬ ‫و المهم أنه تاب ومن توبته أن الله جعل هذا الشيء اليسير‬ ‫ينفعه‪ ،‬لما قيس ما بينهما‪ ،‬لما حكم بينهما ال َم َلك‪ ،‬وفي‬ ‫بعض الروايات أنه جعل ينوء بصدره من شدة ما في قلبه‪،‬‬ ‫ينوء بصدره إلى القرية التي ذهب إليها لعله يقرب إليها‬ ‫و المقصود من هذا أن التوبة َي ِج ُّب الله بها ما قبلها ويمحو‬ ‫بها ما قبلها‪ ،‬والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ‪ ،‬وإذا‬ ‫ص ّحت التوبة أرضى الله أصحاب الحقوق عن حقوقهم ‪،‬‬ ‫فالله يرضيهم جلّ وعلا عن حقوقهم بسبب توبة هذا القاتل‬ ‫التوبة الصادقة‪.‬‬ ‫ففي هذا الحديث ‪ :‬أن القاتل إذا قتل إنساناً عمداً ثم تاب فإن‬ ‫الله ‪ -‬تعالى‪ -‬يقبل توبته‪ ،‬ودليل ذلك في كتاب الله قوله‬

‫تعالى‪ {:‬إِ َّن ال َّل َه لا َي ْغفِ ُر أَ ْن ُي ْش َر َك بِ ِه َو َي ْغفِ ُر َما ُدو َن َذلِ َك لِ َم ْن‬ ‫َي َشا ُء (النساء‪ )48 :‬يعني ما دون الشرك‪ ،‬فإن الله تعالى‬ ‫يغفره إذا شاء‪.‬وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم‪.‬‬ ‫و فيه‪ :‬الحث والتحريض على التوبة من كل ذنب‪ ،‬وإن َع ُظم‬ ‫الذنب أعظم الذنوب الشرك‪ ،‬والتوبة تجب الشرك‪ ،‬فالقتل‬ ‫دون الشرك‪.‬‬ ‫و فيه‪ :‬فضل العلم على العبادة‪.‬‬ ‫و فيه‪ :‬الهجرة من دار العصيان‪ ،‬ومقاطعة إخوان السوء‪،‬‬ ‫واستبدالهم بصحبة أهل الخير والصلاح‪.‬‬ ‫و فيه‪ :‬أن الذنوب وإن عظمت‪ ،‬فعفو الله أعظم منها‪ .‬وأن‬ ‫من صدق في توبته‪ ،‬تاب الله عليه‪ ،‬ولو لم يعمل خي ًرا إذا‬ ‫عزم على فعله‪.‬‬

‫الحديث الحادي والعشرون‬ ‫في الحديث الطويل لكعب بن مالك رضي الله عنه عن قصة‬ ‫تخلفه عن غزوة تبوك قال كعب بن مالك رضي الله عنه ‪:‬‬ ‫\" لَ ْم أ َت َخ َّل ْف َع ْن رسو ِل الله صلى الله عليه وسلم في َغ ْز َو ٍة‬ ‫غزاها قط إلا في غزوة َت ُبو َك‪َ ........ ،‬قالَ َك ْع ٌب‪َ :‬فلَ َّما َسلَّ ْم ُت‬ ‫َع َلى َر ُسو ِل الله صلى الله عليه وسلم َقالَ َو ُه َو َي ْب ُر ُق َو ْج ُه ُه‬ ‫ِم َن ال ُّس ُرور‪(( :‬أ ْب ِش ْر ِب َخ ْي ِر َيو ٍم َم َّر َعلَ ْي َك ُم ْذ َولَ َد ْت َك أُ ُّم َك))‬ ‫َفقُ ْل ُت‪ :‬أ ِم ْن ِع ْن ِد َك َيا َر ُسول الله أَ ْم ِم ْن ِعن ِد الله؟ َقالَ‪(( :‬لا‪َ ،‬بلْ‬ ‫ِم ْن ِع ْن ِد الله‪ -‬عز وجل))‪َ ،‬و َكا َن رسولُ الله صلى الله عليه‬ ‫وسلم إِ َذا ُس َّر ا ْس َت َنا َر َو ْج ُه ُه َح َّتى َكأَ َّن َو ْج َه ُه ِق ْط َع ُة َق َم ٍر َو ُك َّنا‬ ‫َن ْع ِر ُف ذلِ َك ِم ْن ُه‪َ ،‬ف َل َّما َج َل ْس ُت َب ْي َن َي َد ْي ِه قُ ْل ُت‪َ :‬يا رسولَ الله‪،‬‬ ‫إ َّن ِم ْن َت ْو َبتِي أ ْن أ ْن َخلِ َع ِم ْن َمالِي َص َد َق ًة إِ َلى الل ِه َوإِلَى‬ ‫َر ُسول ِه‪َ .‬ف َقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‪(( :‬أَ ْم ِس َك‬ ‫َع َل ْي َك َب ْع َض َمالِ َك َف ُه َو َخ ْي ٌر َل َك))‪ .‬فقل ُت‪ :‬إِ ِّني أُ ْم ِس ُك َس ْه ِمي‬ ‫ا َّل ِذي بِ َخي َبر‪َ .‬وقُ ْل ُت‪َ :‬يا رسولَ الله‪ ،‬إ َّن الله َت َعا َلى إِ َّن َما أ ْن َجانِي‬ ‫بال ِّص ْد ِق‪ ،‬وإ َّن ِم ْن َت ْو َبتِي أ ْن لا أُ َح ِّد َث إلا ِص ْد ًقا َما َبقِيت ‪،‬‬ ‫ف َوالله َما َعلِ ْم ُت أَ َح ًدا ِم َن ال ُم ْسلِمي َن أ ْبلاهُ الله َت َعالَى في ِص ْد ِق‬ ‫ال َح ِدي ِث ُم ْن ُذ َذ َك ْر ُت ذلِ َك لِرسو ِل الله صلى الله عليه وسلم‬ ‫أ ْح َس َن ِم َّما أ ْبلا ِني الله َت َعالَى‪ ،‬والل ِه َما َت َع َّم ْد ُت ِك ْذ َب ًة ُم ْن ُذ قُ ْل ُت‬ ‫ذلِ َك لِرسو ِل الله صلى الله عليه وسلم إِلَى َيو ِم َي َه َذا‪ ،‬وإ ِّني‬ ‫لأ ْر ُجو أ ْن َي ْح َف َظ ِني الله َت َعا َلى فيما َبقِ َي‪\" ......‬‬ ‫(متفق عليه )‬

‫شرح الحديث‬ ‫فهذه قصة كعب بن مالك الأنصاري وصاحبيه هلال بن أمية‬ ‫ومرارة بن الربيع رضي الله عنهم في تخلفهم عن غزوة‬ ‫تبوك بغير عذر شرعي‪ ،‬وكان النبي صلى الله عليه وسلم‬ ‫في سنة تسع من الهجرة أعلن للناس غزوه للروم وأنه‬ ‫سوف يتوجه إلى الروم‬ ‫وكان ذلك في حر شديد في القيظ‪ ،‬يعني حين طابت الثمار‬ ‫وطاب الظلال‪ ،‬فأعلن للناس أمرهم وجلى للناس أمرهم‬ ‫فتجهز للغزو معه جم غفير يبلغون ثلاثين أل ًفا أو أكثر‬ ‫يريدون غزو الروم في الشام‪ ،‬وكان كعب بن مالك وصاحباه‬ ‫قد تخلفوا عن الغزو بدون عذر شرعي‬ ‫وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلن الغزو فعلى الجميع‬ ‫النفير العام‪ ،‬فلم يزل التمادي بكعب وصاحبيه حتى تخلفوا‬ ‫عن الغزو ‪ ،‬وجلس الرسول صلى الله عليه وسلم في تبوك‬ ‫عشرين يوما ورجع ولم يباشر الروم‬ ‫وكان كعب وصاحباه قد تخلفوا ‪ ،‬فلما بلغه أن النبي صلى‬ ‫الله عليه وسلم سوف يقدم أصابه من الشدة والحرج الشيء‬ ‫الكبير بماذا يعتذر ماذا يقول هو وصاحباه ثم وفقهم الله‬ ‫للصدق‪ ،‬أما الأعراب الذين تخلفوا تعذروا بالكذب فعذرهم‬ ‫الرسول صلى الله عليه وسلم على ظاهرهم وأنزل الله فيهم‬ ‫‪َ { :‬ي ْحلِفُو َن لَ ُك ْم لِ َت ْر َض ْوا َع ْن ُه ْم َفإِ ْن َت ْر َض ْوا َع ْن ُه ْم َفإِ َّن ال َّلهَ لا‬ ‫َي ْر َضى َع ِن ا ْل َق ْو ِم ا ْل َفا ِسقِين َ [التوبة‪]96:‬‬

‫أما هؤلاء الثلاثة فصدقوا‪ ،‬فأمر النبي صلى الله عليه وسلم‬ ‫بهجرهم فهجروا‪ ،‬هجرهم الصحابة ‪ ،‬هجروا خمسين ليلة‬ ‫وضاقت عليهم الأرض بما رحبت‪ ،‬واشتد عليهم الأمر لا‬ ‫يكلمهم أحد لا الرسول عليه الصلاة والسلام ولا غيره‬ ‫ثم إن الله جل وعلا علم صدق توبتهم وندمهم فأنزل الله‬ ‫توبتهم من فوق سبع سماوات فأنزل فيهم جل وعلا‪:‬‬ ‫{ َو َعلَى ال َّثلا َث ِة الَّ ِذي َن ُخلِّفُوا َح َّتى إِ َذا َضا َق ْت َع َل ْي ِه ُم الأَ ْر ُض‬ ‫بِ َما َر ُح َب ْت َو َضا َق ْت َعلَ ْي ِه ْم أَنفُ ُس ُه ْم َو َظ ُّنوا أَ ْن لا َم ْل َجأَ ِم َن ال َّلهِ‬ ‫إِ َّلا إِلَ ْي ِه ُث َّم َتا َب َع َل ْي ِه ْم لِ َي ُتو ُبوا إِ َّن ال َّل َه ُه َو ال َّت َّوا ُب ال َّر ِحي ُم َ‬ ‫[التوبة ‪ .]118 :‬فتاب عليهم بسبب صدقهم في توبتهم‬ ‫وصدقهم في عذرهم الذي أبدوا‪.‬‬ ‫وفي الحديث أن الإنسان لا ينبغي له أن يتأخر عن فعل‬ ‫الخير‪ ،‬بل لابد أن يتقدم ولا يتهاون أو يتكاسل‪ .‬لأنه إذا عود‬ ‫الإنسان نفسه على التأخير آخره الله عز وجل‬ ‫وفيه‪ :‬جواز هجران المذنب أكثر من ثلاث إذا ظهرت فائدته‬ ‫ولم يترتب عليه مفسدة‬ ‫وفيه‪ :‬فضيلة الصدق وأن الصدق عاقبته حميدة والكذب‬ ‫عاقبته وخيمة‪ ،‬فعلى من فعل الذنب أن يصدق الله وأن يبادر‬ ‫بالتوبة والإصلاح والله يتوب على التائبين‬ ‫وفيه‪ :‬استحباب الصدقة عند التوبة‬

‫الحديث الثاني والعشرون‬ ‫َع ْن ِع ْم َرا َن ب ِن ال ُح َص ْي ِن ال ُخ َزا ِع ِّي رضي الله عنهما‪ :‬أ َّن‬ ‫ا ْم َرأ ًة ِم ْن ُج َه ْي َن َة أ َت ْت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم َو ِه َي‬ ‫ُح ْبلَى ِم َن ال ِّز َنى‪ ،‬فقال ْت‪َ :‬يا رسولَ الله‪ ،‬أ َص ْب ُت َح ًّدا َفأَ ِق ْم ُه‬ ‫َع َل َّي‪َ ،‬ف َد َعا َنب ُّي الله صلى الله عليه وسلم َول َّيها‪ ،‬فقالَ‪:‬‬ ‫((أَ ْح ِس ْن إِلَ ْي َها‪ ،‬فإذا َو َض َع ْت َفأْتِني))‬ ‫َف َف َعلَ َفأَ َم َر ب َها نب ُّي الله صلى الله عليه وسلم‪َ ،‬ف ُش َّد ْت َعلَ ْي َها‬ ‫ثِ َيا ُب َها‪ُ ،‬ث َّم أَ َم َر بِ َها َف ُر ِج َم ْت‪ُ ،‬ث َّم َصلَّى َع َل ْي َها‪ .‬فقالَ لَ ُه ُع َم ُر‪:‬‬ ‫ُت َصلِّي َعلَ ْي َها َيا َر ُسول الله َو َق ْد َز َن ْت؟ َقالَ‪(( :‬لَ َق ْد َتا َب ْت َت ْو َب ًة‬ ‫لَ ْو قُ ِس َم ْت َب ْي َن َس ْب ِعي َن ِم ْن أ ْه ِل ال َم ِدي َن ِة لَ َو ِس َع ْت ُه ْم‪َ ،‬و َهلْ‬ ‫َو َج ْد َت أَف َضلَ ِم ْن أ ْن َجا َد ْت بن ْف ِسها لله‪ -‬عز وجل‪-‬؟!))‬ ‫(رواه مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫وفي رواية‪(( :‬ثم أمر بها‪ ،‬فحفر لها إلى صدرها وأمر‬ ‫الناس فرجموها‪ ،‬فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها‪،‬‬ ‫فتن َّضح الدم على وجه خالد فس َّبها‪ ،‬فسمع النبي صلى الله‬ ‫عليه وسلم س ّبه إياها‪ ،‬فقال‪ \" :‬مه ًلا يا خالد‪ ،‬فوالذي نفسي‬ ‫بيده‪ ،‬لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس ل ُغفر له \"‪ ،‬ثم‬ ‫أمر بها فصلى عليها و ُدفنت )) مسلم‬

‫وفي هذا الحديث عن عمران بن حصين رضي الله تعالي‬ ‫عنه‪:‬إن امرأة جاءت إلي النبي صلي الله عليه وسلم ((وهي‬ ‫حبلي من الزنا)) يعني حاملاً قد زنت‪ ،‬رضي الله عنها‬ ‫((فقالت‪ :‬يا رسول الله إني قد أصبت حدا فاقمه علي))‬ ‫أي‪ :‬أصبت شيئاً يوجب الحد فأقمه علي‪ ،‬وفي رواية ‪( :‬إني‬ ‫زنيت فأقم علي الحد)‬ ‫فدعا النبي صلي الله عليه وسلم وليها وأمره أن يحسن‬ ‫إليها فإذا وضعت فليأت بها إلي رسول الله صلي الله عليه‬ ‫وسلم‪ ،‬فلما وضعت أتي بها وليها إلي النبي صلي الله عليه‬ ‫وسلم‬ ‫وفي رواية أنها لما وضعت وفطمت جنينها أمر رسول الله‬ ‫صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليها برجمها ‪ ،‬لأنها كانت‬ ‫محصنة فرجمت كما رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا‬ ‫لما جاءه تائبا‬ ‫((فأمر بها فشدت عليها ثيابها)) أي‪ :‬لفت ثيابها وربطت‬ ‫لئلا تنكشف ((ثم أمر بها فرجمت)) أي‪ :‬بالحجارة وهي‬ ‫ليست كبيرة ولا صغيرة‪ ،‬حتى ماتت‪ ،‬ثم صلي عليها النبي‬ ‫صلي الله عليه وسلم ودعا لها دعاء الميت‬ ‫((فقال له عمر‪ :‬تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت)) أي‪:‬‬ ‫والزنى من كبائر الذنوب‬

‫فقال‪(( :‬لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل‬ ‫المدينة لوسعتهم)) يعنى‪ :‬توبة واسعة لو قسمت علي‬ ‫سبعين كلهم مذنب لوسعتهم ونفعتهم‬ ‫((وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل))‬ ‫أي‪ :‬هل وجدت أفضل من هذه الحال‪ ،‬امرأة جاءت فجادت‬ ‫بنفسها؛ يعني‪ :‬سلمت نفسها من أجل التقرب إلي الله عز‬ ‫وجل والخلوص من إثم الزنى‪ .‬ما هناك أفضل من هذا؟!‬ ‫وفي الحديث ‪ :‬دليل على أ َّن الحد يكفر الذنب‪ ،‬وأنه يصلي‬ ‫على المرجوم‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬بيان عظم التوبة‪ ،‬وأنها َت ُج ُّب الذنب وإن عظم‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬أن من تاب من الذنب وجاء يطلب إقامة الحد يقام‬ ‫عليه الحد ‪ ،‬ومن تاب بينه وبين الله وستره الله فلا حاجة‬ ‫للحد يكفيه التوبة‬ ‫وفيه‪ :‬أن الزاني إذا زني وهو محصن‪ -‬يعني قد تزوج‪-‬‬ ‫فإنه يجب أن يرجم حتى يموت‪ .‬يوقف في مكان واسع‪،‬‬ ‫ويجتمع الناس‪ ،‬ويأخذون من الحصي يرمونه به حتى‬ ‫يموت‬ ‫وفيه‪ :‬جواز إقرار الإنسان على نفسه بالزنى‪ ،‬من أجل‬ ‫تطهيره بالحد لا من أجل فضحه نفسه‬

‫الحديث الثالث والعشرون‬ ‫عن اب ِن عبا ٍس رضي الله عنهما أ َّن َر ُسولَ الله صلى الله عليه‬ ‫وسلم‪َ ،‬قالَ‪((:‬لَ ْو أ َّن لاب ِن آ َد َم َوا ِد ًيا ِم ْن َذ َه ٍب أ َح َّب أ ْن ي ُكو َن لَ ُه‬ ‫َوا ِديا ِن‪َ ،‬ولَ ْن َي ْملأَ َفاهُ إلا ال ُّت َرا ُب‪َ ،‬و َي ْتو ُب اللهُ َعلَى َم ْن َتا َب))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق عليه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫معنى الحديث أن ابن آدم لن يشبع من المال‪ ،‬ولو كان له وادياً‬ ‫من ذهب أحب أن يكون له واديان ((لا بتغي)) أي طلب أن‬ ‫يكون له واديان فمن طبيعة ابن آدم محبة المال والحرص على‬ ‫المال كما قال جل وعلا‪َ { :‬و ُت ِح ُّبو َن ا ْل َمالَ ُح ًّبا َج ًّما [الفجر‪]20:‬‬ ‫(ولن يملأ فاه إلا التراب) أي في القبر ‪ ،‬إلى أن يموت أي أنه‬ ‫لا يزال الإنسان يتطلع إلى المزيد من حطام الدنيا‪ ،‬ومن المال‬ ‫الذي لا يشبع منه مهما أعطي‪ ،‬فهو لا يتوقف‪ ،‬إلى أن يموت ‪،‬‬ ‫فإذا مات ودفن وترك الدنيا وما فيها؛ حينئذ يقتنع؛ لأن الدنيا‬ ‫فاتنة ‪ .‬ولهذا جاء عن حذيفة أنه استعاذ من تفرق القلب‪،‬‬ ‫وسئل عن هذا فقال‪ :‬أن يكون له في كل وا ٍد مال‬ ‫ولكن مع ذلك حث الرسول صلي الله عليه وسلم على التوبة؛‬ ‫لأن الغالب أن الذي يكون عنده طمع في المال؛ أنه لا يحترز‬

‫من الأشياء المحرمة من الكسب المحرم‪ .‬ولكن دواء ذلك‬ ‫بالتوبة إلي الله ولهذا قال‪(( :‬ويتوب الله علي من تاب)) فمن‬ ‫تاب من سيئاته فإن الله يتوب عليه‪ .‬فمن تاب تاب الله عليه‪،‬‬ ‫من تاب من طمعه وحرصه على الدنيا تاب الله عليه‪ ،‬كما أن‬ ‫من تاب من جميع المعاصي حتى الشرك تاب الله عليه‪،‬‬ ‫فالواجب على المؤمن أن يحرص على التوبة أولا‪ ،‬والحذر من‬ ‫السيئات‪ ،‬والبعد عنها وعن أسبابها‪ ،‬ثم متى وقعت وجب‬ ‫البدار بالتوبة والندم والإقلاع والعمل الصالح‪ ،‬والله يتوب على‬ ‫التائبين ‪.‬‬ ‫في هذا الحديث‪ :‬دليل على أ َّن الإِنسان لا يزال حري ًصا على‬ ‫الدنيا حتى يموت‪ ،‬ويمتلئ جوفه من تراب قبره‪ ،‬إلا من لطف‬ ‫الله به‬ ‫وفيه‪ :‬أنه على المؤمن أن يحرص ويحذر شر الذنوب ويبادر‬ ‫إلى التوبة منها ومن تاب تاب الله عليه‪.‬‬

‫الحديث الرابع والعشرون‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه أ َّن رسولَ الله صلى الله عليه‬ ‫وسلم‪َ ،‬قالَ‪َ \" :‬ي ْض َح ُك اللهُ ُس ْب َحا َن ُه َو َت َعا َلى إِلَى َر ُجلَ ْي ِن ي ْق ُتلُ‬ ‫أَ َحد ُه َما الآ َخ َر َي ْد ُخلا ِن ال َج َّن َة‪ُ ،‬ي َقاتِلُ َه َذا في َسبي ِل الل ِه َف ُي ْق َتلُ‪ُ ،‬ث َّم‬ ‫ي ُتو ُب اللهُ َعلَى ال َقات ِل َف ُي ْسلِم َف ُي ْس َت ْش َه ُد \"‬ ‫( ُم َّت َف ٌق عليه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫عن أبي هريرة‪ -‬رضي الله عنه‪ -‬أن النبي صلي الله عليه وسلم‬ ‫قال‪(( :‬يضحك الله إلي رجلين‪ )) ..‬يضحك الله إلى رجلين يقتل‬ ‫أحدهما الآخر يعني في سبيل الله‪ ،‬ثم يسلم الكافر ويموت على‬ ‫الإيمان كلاهما يدخل الجنة القاتل والمقتول‪ ،‬فالمقتول في‬ ‫سبيل الله شهيد يدخل الجنة‪ ،‬ثم الكافر يسلم فيموت مسل ًما أو‬ ‫يقاتل ويستشهد فيدخل الجنة كما دخلها مقتوله السابق‬ ‫كلاهما يجتمعان في الجنة القاتل والمقتول‪ ،‬فالأول قتل في‬ ‫سبيل الله‪ ،‬والثاني أسلم ومات وقتل في سبيل الله بعد العداوات‬ ‫الشديدة بينهما‪ ،‬تاب الثاني وهداه الله ثم قتل شهي ًدا أو مات‬ ‫على فراشه فدخل الجنة ‪ .‬فضحك الله إلي هذين الرجلين؛ لأنه‬ ‫كان بينهما تمام العداوة في الدنيا؛ حتى إن أحدهما قتل الآخر‪،‬‬ ‫فقلب الله هذه العدواة التي في قلب كل واحد منهم‪ ،‬وأزال ما‬ ‫في نفوسهما من الغل‪ ،‬لأن أهل الجنة يطهرون من الغل‬

‫والحقد؛ كما قال الله‪-‬تعالي‪ -‬في وصفهم ‪َ ( :‬و َن َز ْع َنا َما فِي‬ ‫ُص ُدو ِر ِه ْم ِم ْن ِغلٍّ إِ ْخ َواناً َع َلى ُس ُر ٍر ُم َت َقابِلِي َن) (الحجر‪)47 :‬‬ ‫فهذه وجه العجب من الله‪ -‬عز وجل‪ -‬لهذين الرجلين أنه كان‬ ‫بينهما تمام العداوة‪ ،‬ثم إن الله‪-‬تعالي‪ -‬من على هذا القاتل الذي‬ ‫كان كافراً فتاب‪ ،‬فتاب الله عليه‪.‬‬ ‫في الحديث‪ :‬دليل على أن الكافر إذا تاب من كفره ‪ ،‬ولو كان‬ ‫قد قتل أحداً من المسلمين ‪ ،‬فإن الله‪ -‬تعالي‪ -‬يتوب عليه؛ لأن‬ ‫الإسلام يهدم ما قبله ‪ ،‬فمن تاب توبة صادقة من ذنوبه حتى‬ ‫من الشرك أدخله الله الجنة‬ ‫وفيه‪ :‬وصف الله بالضحك‪ ،‬وهو يضحك لا كضحكنا‪ ،‬سبحانه‬ ‫وتعالى يضحك ويرضى ويغضب على الوجه اللائق به سبحانه‬ ‫لا يشابه الخلق في شيء من صفاته جل وعلا كما قال‬ ‫سبحانه‪َ {:‬ل ْي َس َك ِم ْثلِ ِه َش ْي ٌء َو ُه َو ال َّس ِمي ُع ا ْل َب ِصير‬ ‫[الشورى‪]11:‬‬ ‫وفيه‪ :‬عظم شأن التوبة وأن الله جل وعلا يمحو بها السيئات‬ ‫كبيرها وصغيرها حتى الشرك الذي هو أعظم الذنوب من تاب‬ ‫منه تاب الله عليه‬

‫المقدمة‬ ‫باب الصبر‬ ‫الحديث الخامس والعشرون‬ ‫عن أبي مال ٍك الحارث بن عاصم الأشعر ِّي رضي الله عنه َقالَ‪:‬‬ ‫َقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‪ \" :‬ال ُّط ُهو ُر َش ْط ُر الإِيمان‪،‬‬ ‫َوال َحم ُد لله َت ْملأُ المي َزا َن‪َ ،‬و ُس ْب َحا َن الله وال َحم ُد لله َتملآن‪ -‬أَ ْو‬ ‫َت ْملأُ‪َ -‬ما َبي َن ال َّسماوات َوالأَ ْر ِض‪ ،‬وال َّصلاةُ ُنو ٌر‪ ،‬وال َّصدق ُة‬ ‫ُبر َها ٌن‪ ،‬وال َّص ْب ُر ِضيا ٌء‪ ،‬والقُ ْرآ ُن ُحج ٌة َل َك أَ ْو َع َل ْي َك‪ُ .‬كلُّ ال َّنا ِس‬ ‫َي ْغ ُدو َف َبائ ٌع َنف َس ُه َف ُم ْع ِتقُ َها أَ ْو ُمو ِبقُها \"‬ ‫( رواه مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫قوله‪(( :‬ال ُّط ُهور َش ْط ُر الإِيمان)) أي‪ :‬الطهارة نصف الإيمان؛‬ ‫لأَن ِخصال الإيمان قسمان‪ :‬ظاهرة‪ ،‬وباطنة‬ ‫فالطهور من الخصال الظاهرة‪ ،‬والتوحيد من الخصال الباطنة‬ ‫قال صلى الله عليه وسلم‪ \" :‬ما منكم من أَحد يتوضأ فيسبغ‬ ‫الوضوء‪ ،‬ثم يقول‪ :‬أشهد أَن لا إِله إِلا الله‪ ،‬وأَشهد أَن محم ًدا‬

‫عبده ورسوله‪ ،‬إِلا فتحت له أَبواب الجنة الثمانية يدخل في‬ ‫أَ ِّيها شاء \"‬ ‫((والحمد لله تملأ الميزان)) أي‪ :‬أجرها يملأ ميزان الحامد لله‬ ‫تعالى وفي الحديث الآخر‪(( :‬التسبيح نصف الميزان‪ ،‬والحمد‬ ‫لله تملؤه‪ ،‬ولا إِله إِلا الله ليس لها دون الله حجا ٌب حتى تصل‬ ‫إِليه))‬ ‫((وسبحان الله)) معناها‪ :‬تنزيه الله عز وجل عما لا يليق به‬ ‫فالله‪ -‬عز وجل‪ -‬منزه عن كل عيب في أسمائه‪ ،‬وصفاته‪،‬‬ ‫وأفعاله‪ ،‬وأحكامه‪ (( .‬وسبحان الله والحمد لله تملآن‪ -‬أو قال‬ ‫تملأ‪ -‬ما بين السماوات والأرض)) شك من الرواي‪ :‬هل قال‬ ‫النبي صلي الله عليه وسلم‪ :‬تملآن ما بين السموات والأرض‪،‬‬ ‫أو قال تملأ ما بين السموات والأرض والمعني لا يختلف يعني‬ ‫أن سبحان الله والحمد لله تملأ ما بين السماوات والأرض‪،‬‬ ‫وذلك لأن هاتين الكلمتين مشتملتان على تنزيه الله عن كل‬ ‫نقص في قوله ((سبحان الله)) وعلى وصف الله بكل كمال في‬ ‫قوله‪(( :‬والحمد لله)) فقد جمعت هاتان الكلمتان بين التخلية‬ ‫والتحلية ؛ أي بين نفي كل عيب ونقص‪ ،‬وإثبات كل كمال‪،‬‬ ‫فسبحان الله فيها نفي النقائص‪ ،‬والحمد لله فيها إثبات الكمالات‬ ‫وسب ُب عظم فضل هذه الكلمات‪ :‬ما اشتملت عليه من التنزيه‬ ‫لله تعالى‪ ،‬وتوحيده‪ ،‬والافتقار إِليه ‪.‬‬

‫((والصلاة نو ٌر)) أي‪ :‬لصاحبها في الدنيا‪ ،‬وفي القبر‪ ،‬ويوم‬ ‫القيامة‪ .‬فالصلاة نور‪ :‬نور للعبد في قلبه‪ ،‬وفي وجهه‪ ،‬وفي‬ ‫قبره‪ ،‬وفي حشره‪ ،‬كما أخبر بذلك الرسول صلي الله عليه‬ ‫وسلم‪(( :‬أن من حافظ عليه كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم‬ ‫القيامة‪ ،‬ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا‬ ‫نجاة يوم القيامة‪ ،‬وحشر مع فرعون وهامان وقارون وابي‬ ‫بن خلف)) فهي نور للإنسان في جميع أحواله‪ ،‬وهذا يقتضي‬ ‫أن يحافظ الإنسان عليها‪ ،‬وأن يحرص عليها‪ ،‬وأن يكثر منها‬ ‫حتى يكثر نوره وعلمه وإيمانه‪.‬‬ ‫((والصدقة برهان)) أي‪ :‬دليلٌ واضح على صحة الإِيمان‬ ‫الصدقة برهاناً على إيمان العبد‪ ،‬وذلك أن المال محبوب إلي‬ ‫النفوس‪ ،‬والنفوس شحيحة به‪ ،‬فإذا بذله الإنسان لله‪ ،‬فإن‬ ‫الإنسان لا يبذل ما يحب إلا لما هو أحب إليه منه‪ .‬فيكون في‬ ‫بذل المال لله‪ -‬عز وجل‪ -‬دليل على صدق الإيمان وصحته‪.‬‬ ‫((والصبر ضياء)) وهو النور الذي يحصل فيه نو ُع حرارة؛‬ ‫لأَ َّن الصبر لا يحصل إِلا بمجاهدة النفس‪ .‬كما قال الله تعالي ‪:‬‬ ‫( ُه َو الَّ ِذي َج َعلَ ال َّش ْم َس ِض َيا ًء َوا ْل َق َم َر ُنوراً) (يونس‪. )5:‬‬ ‫فالضوء لابد فيه من حرارة‪ ،‬وهكذا الصبر‪ ،‬لابد فيه من‬ ‫حرارة وتعب‪ ،‬لأن فيه مشقة كبيرة‪ ،‬ولهذا كان أجره بغير‬ ‫حساب‪.‬‬

‫فالفرق بين النور في الصلاة والضياء في الصبر‪ ،‬أن الضياء‬ ‫في الصبر مصحوب بحرارة؛ لما في ذلك من التعب القلبي‬ ‫والبدني في بعض الأحيان‪.‬‬ ‫((والقرآن حج ٌة لك أَو عليك)) أي‪ :‬إِن عملت به فهو حجة لك‪،‬‬ ‫وإلا فهو حجة عليك ‪.‬لأن القرآن هو حبل الله المتين‪ ،‬وهو‬ ‫حجة الله على خلقه‪ ،‬فإما أن يكون لك‪ ،‬وذلك فيما إذا توصلت‬ ‫به إلي الله‪ ،‬وقمت بواجب هذا القرآن العظيم من التصديق‬ ‫بالأخبار‪ ،‬وامتثال الأوامر‪ ،‬واجتناب النواهي‪ ،‬وتعظيم هذا‬ ‫القرآن الكريم واحترامه‪ .‬ففي هذه الحال يكون حجة لك أما إن‬ ‫كان الأمر بالعكس‪ ،‬هجرت القرآن لفظاً ومعني وعملاً‪ ،‬ولم تقم‬ ‫بواجبه؛ فإنه يكون شاهداً عليك يوم القيامة‪ .‬ولم يذكر الرسول‬ ‫صلي الله عليه وسلم مرتبة بين هاتين المرتبتين! يعني‪ :‬لم‬ ‫يذكر أن القرآن لا لك‪ ،‬ولا عليك؛ لأنه لابد أن يكون إما لك‬ ‫وإما عليك على كل حال‪.‬‬ ‫((كل الناس يغدو فبائ ٌع نفسه فمعتقها أو موبقُها)) أي‪ :‬كل‬ ‫إِنسان يسعى‪ ،‬فمنهم من يبيع نفسه لله بطاعته فيعتقها من‬ ‫النار‪ ،‬ومنهم َم ْن يبيعها للشيطان والهوى فيهلكها قال الحسن‪:‬‬ ‫( يا ابن آدم إنك تغدو وتروح في طلب الأَرباح‪ ،‬فليكن َه ُّمك‬ ‫نفسك‪ ،‬فإِنك لن تربح مثلها أَب ًدا )‬

‫الحديث السادس والعشرون‬ ‫عن أبي َسعيد الخدري رضي الله عنهما‪ :‬أَ َّن َنا ًسا ِم َن الأَ ْن َصا ِر‬ ‫َسألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم َفأ ْع َطا ُه ْم‪ُ ،‬ث َّم َسألوهُ‬ ‫َفأ ْع َطا ُه ْم‪َ ،‬ح َّتى َنفِ َد َما ِعن َدهُ‪َ ،‬ف َقالَ لَ ُه ْم ِحي َن أ ْن ْف َق ُكلَّ َشي ٍء‬ ‫ِب َي ِد ِه‪َ (( :‬ما َي ُك ْن ِع ْندي ِم ْن َخ ْير َف َل ْن أ َّد ِخ َرهُ َع ْن ُك ْم‪َ ،‬و َم ْن َي ْس َت ْعفِ ْف‬ ‫ُي ِعف ُه اللهُ‪َ ،‬و َم ْن َي ْس َت ْغ ِن ُي ْغ ِن ِه اللهُ‪َ ،‬و َم ْن َي َت َص َّب ْر ُي َص ِّب ْرهُ اللهُ‪َ .‬و َما‬ ‫أُ ْع ِط َي أَ َح ٌد َع َطا ًء َخ ْي ًرا َوأ ْو َس َع ِم َن ال َّص ْبر))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق عليه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫كان من خلق الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يسأل شيئاً‬ ‫يجده إلا أعطاه‪ ،‬وما عهد عنه أنه منع سائلاً‪ ،‬بل كان يعطي‬ ‫عطاء من لا يخشى الفقر‪ ،‬فهو عليه الصلاة والسلام أكرم‬ ‫الناس واشجع الناس‪.‬‬ ‫ففي الحديث أن جماعة من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله‬ ‫عليه وسلم فأعطاهم حتى نفد ما في يده فأخبرهم أنه ما من‬ ‫خير يكون عنده فلن يدخره عنهم؛ أي‪ :‬لا يمكن أن يدخر شيئا‬ ‫عنهم فيمنعهم‪ ،‬ولكن ليس عنده شيء‪.‬‬

‫ثم حث النبي صلي الله عليه وسلم على الاستعفاف والاستغناء‬ ‫والصبر‪ ،‬فقال‪(( :‬ومن يستعفف يعفه الله‪ ،‬ومن يستغن الله‪،‬‬ ‫ومن يتصبر يصبره الله)) هذه ثلاثة أمور‪:‬‬ ‫أولا‪( :‬من يستغن يغنه الله) أي‪ :‬من يستغن بما عند الله عما‬ ‫في أيدي الناس؛ يغنه الله عز وجل‪ .‬وأما من يسأل الناس‬ ‫ويحتاج لما عندهم؛ فإنه سيبقي قلبه فقيراً ولا يستغني والغني‬ ‫غني القلب‪ ،‬فإذا استغني الإنسان بما عند الله عما في أيدي‬ ‫الناس؛ أغناه الله عن الناس‪ ،‬وجعله عزيز النفس بعيداً عن‬ ‫السؤال‪.‬‬ ‫ثانياً‪ ( :‬ومن يستعفف يعفه الله) ‪ ،‬فمن يستعف عما حرم الله‬ ‫عليه يعفه الله عز وجل‪ .‬والإنسان الذي يتبع نفسه هواها فيما‬ ‫يتعلق بالعفة فإنه يهلك ‪ ،‬فإذا استعف الإنسان عن هذا المحرم‬ ‫أعفه الله‪ -‬عز وجل‪ -‬وحماه‬ ‫ثالثاً‪( :‬ومن يتصبر يصبره الله)‪ ،‬أي يعطيه الله الصبر فإذا‬ ‫تصبرت‪ ،‬وحبست نفسك عما حرم الله عليك‪ ،‬وصبرت على ما‬ ‫عندك من الحاجة والفقر ولم تلح على الناس بالسؤال فإن الله‪-‬‬ ‫تعالي‪ -‬يصبرك ويعينك على الصبر‪ .‬وهذا هو الشاهد من‬ ‫الحديث؛ لأنه في باب الصبر‪.‬‬ ‫ثم قال النبي صلي الله عليه وسلم ((وما أعطي أحد عطاء‬ ‫خيراً وأوسع من الصبر)) أي‪ :‬ما من الله على أحد بعطاء من‬ ‫رزق‪ ،‬أو غيره؛ خيراً وأوسع من الصبر؛ لأن الإنسان إذا كان‬

‫صبوراً تحمل كل شيء‪ .‬إن أصابته الضراء صبر‪ ،‬وإن أعرض‬ ‫له الشيطان بفعل المحرم صبر ‪ ،‬فإذا من الله عليه بالصبر؛‬ ‫فهذا خير ما يعطاه وأوسع ما يعطاه‪.‬‬ ‫وفي الحديث‪ :‬الح ُّث على الاستعفاف‪ ،‬وأَ َّن َم ْن رزقه الله الصبر‬ ‫على ضيق العيش وغيره من مكاره الدنيا‪ ،‬فقد أعطاه خي ًرا‬ ‫كثي ًر‪.‬‬

‫الحديث السابع والعشرون‬ ‫عن صهيب بن سنا ٍن رضي الله عنه‪َ ،‬قالَ‪َ :‬قالَ رسولُ الله‬ ‫صلى الله عليه وسلم‪َ (( :‬ع َج ًبا لأ ْم ِر ال ُمؤم ِن إ َّن أ ْم َرهُ ُك ّلَ ُه لَ ُه‬ ‫خي ٌر و َلي َس ذلِ َك لأَ َح ٍد إلا لل ُم ْؤ ِمن‪ :‬إ ْن أَ َصا َب ْت ُه َس َّرا ُء َش َك َر‬ ‫َفكا َن َخي ًرا َل ُه‪ ،‬وإ ْن أ َصا َب ْت ُه ض َرا ُء َص َب َر َفكا َن َخ ْي ًرا لَ ُه))‬ ‫(رواه مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير)) أي‪ :‬إن الرسول‬ ‫عليه الصلاة والسلام أظهر العجب على وجه الاستحسان‬ ‫((لأمر المؤمن)) أي‪ :‬لشأنه‪ ،‬فإن شأنه كله خير‪(( ،‬وليس‬ ‫ذلك لأحد إلا للمؤمن))‪.‬ثم فصل عليه الصلاة والسلام هذا‬ ‫الأمر فقال‪(( :‬إن أصابته سراء شكر فكان خير له‪ ،‬وإن‬ ‫أصابته ضراء صبر فكان خير له)) هذه حال المؤمن‪.‬‬ ‫والإنسان في قضاء الله وقدره بين أمرين‪ :‬مؤمن وغير‬ ‫مؤمن‬ ‫فالمؤمن على كل حال قدره الله له فهو خير له‪ ،‬إن أصابته‬ ‫الضراء صبر على أقدار الله‪ ،‬وانتظر الفرج من الله‪،‬‬ ‫واحتسب الأجر ؛ فكان ذلك خيراً له‪ ،‬فنال بهذا أجر‬ ‫الصابرين‪.‬‬

‫وإن اصابته سراء من نعمة دينية؛ كالعلم والعمل الصالح‪،‬‬ ‫ونعمة دنيوية؛ كالمال والبنين والأهل شكر الله‪ ،‬وذلك بالقيام‬ ‫بطاعة الله ‪ -‬عز وجل‪ .‬فيكون خيرا له‪ ،‬ويكون عليه‬ ‫نعمتان‪ :‬نعمة الدين‪ ،‬ونعمة الدنيا‪ .‬نعمة الدنيا بالسراء‪،‬‬ ‫ونعمة الدين بالشكر‪ ،‬هذه حال المؤمن‪ ،‬فهو علي خير‪،‬‬ ‫سواء أصيب بضراء أو سراء‪.‬‬ ‫وأما الكافر فهو على شر إن اصابته الضراء لم يصبر ‪،‬‬ ‫وإن اصابته سراء لم يشكر الله فالكافر شر‪ ،‬سواء أصابته‬ ‫الضراء أم السراء‪ ،‬بخلاف المؤمن فإنه على خير‪.‬‬ ‫وفي الحديث‪ :‬الحث على الإيمان وأن المؤمن دائماً في خير‬ ‫ونعمة‪.‬‬ ‫فيه أيضاً‪ :‬الحث على الصبر على الضراء‪ ،‬وأن ذلك من‬ ‫خصال المؤمنين‪.‬‬ ‫وفي الحديث أيضاً‪ :‬الحث على الشكر عند السراء‪ ،‬لأن‬ ‫الإنسان إذا شكر ربه على نعمه فهذا من توفيق الله له‪ ،‬وهو‬ ‫من أسباب زيادة النعم‪ ،‬وإذا وفق الله الإنسان للشكر؛ فهذه‬ ‫نعمة أخرى تحتاج إلي شكرها ‪ ،‬لأن الله إذا وفقك للشكر‬ ‫فهذه نعمة تحتاج إلي شكر جديد‪.‬‬ ‫وفيه‪َ :‬ف ْضلُ الشكر على ال ّس ّراء والصبر على الض ّراء‪ ،‬فمن‬ ‫فعل ذلك حصل له خي ُر الدارين‪ ،‬و َم ْن لم يشكر على النعمة‪،‬‬ ‫ولم يصبر على المصيبة‪ ،‬فاته الأَجر‪ ،‬وحصل له ال ِو ْزر‪.‬‬

‫الحديث الثامن والعشرون‬ ‫عن أ َن ٍس رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬ل َّما َثقُلَ ال َّنب ُّي صلى الله عليه‬ ‫وسلم َجعلَ َي َت َغ َّشاهُ ال َك ْر ُب‪َ ،‬ف َقالَ ْت َفا ِط َم ُة رضي الله عنها‪:‬‬ ‫َوا َكر َب أَ َب َتاهُ‪ .‬ف َقالَ‪َ (( :‬ل ْي َس َع َلى أَبي ِك َك ْر ٌب َب ْع َد ال َي ْو ِم)) َفلَ َّما‬ ‫َما َت َقا َل ْت‪َ :‬يا أَ َب َتاهُ‪ ،‬أَ َجا َب َر ًّبا َد َعاهُ! َيا أَب َتاهُ‪َ ،‬ج َّن ُة ال ِفر َدو ِس‬ ‫َمأْ َواهُ! َيا أَ َب َتاهُ‪ ،‬إِلَى ج ْبريلَ َن ْن َعاهُ! َفلَ َّما ُدفِ َن َقا َل ْت َفا ِط َم ُة‬ ‫َرضي الله عنها‪ :‬أَ َطا َب ْت أ ْنفُ ُس ُك ْم أ ْن َت ْح ُثوا َعلَى َر ُسول الله‬ ‫صلى الله عليه وسلم ال ُّت َرا َب؟!‬ ‫(رواه البخاري)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن فاطمة بنت رسول الله‬ ‫صلي الله عليه وسلم لما اشتد المرض على رسول الله صلي‬ ‫الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه ‪.‬‬ ‫(( ثقل النبي صلى الله عليه وسلم)) أي اشتد عليه وطأة‬ ‫المرض‪ ،‬وسكرات الموت‪ ،‬أي‪ :‬كان في حال الاحتضار‪ ،‬وما‬ ‫يعانيه الإنسان من سكرات الموت‪.‬‬ ‫((جعل يتغشاه الكرب)) والكرب هو الشدة ‪ ،‬أي جعل يشتد‬ ‫عليه الوجع والألم ‪،‬لأنه عليه الصلاة والسلام يشدد عليه‬ ‫الوعك والمرض‪ ،‬فكان يوعك كما يوعك الرجلان من الناس‬

‫‪،‬والحكمة في هذا‪ ،‬من أجل أن ينال صلي الله عليه وسلم‬ ‫أعلي درجات الصبر‪.‬‬ ‫والشاهد من إيراد هذا الحديث في باب الصبر أن النبي‬ ‫صلى الله عليه وهو أكرم الخلق على الله‪ ،‬ومع ذلك كان‬ ‫ينزل به من الشدة‪ ،‬والبلاء‪ ،‬والمرض ما يزيد على غيره‬ ‫من الناس‪ ،‬حتى إنه لما قيل له‪ :‬إنك ل ُتو َعك‪ ،‬أخبرهم أنه‬ ‫يضاعف له ذلك‪ ،‬فيصيبه من الألم والشدة ضعف ما يصيب‬ ‫غيره من الناس ولهذا قال صلى الله عليه وسلم ‪\" :‬أشد‬ ‫الناس بلاء الأنبياء‪ ،‬ثم الأمثل فالأمثل‪ ،‬يبتلى الرجل على‬ ‫قدر دينه‪ ،‬فإن كان في دينه صلابة ُشدد عليه‪ ،‬وإن كان في‬ ‫دينه رقة خفف عنه\" البخاري‬ ‫(فجعل يتغشاه الكرب) ‪ ،‬فتقول فاطمة رضي الله‬ ‫عنها((وأكرب أبتاه)) تتوجع له من كربه وهذا ليس من‬ ‫الضجر‪ ،‬إنما هي كلمة قالتها في مثل ذلك الموقف دون رفع‬ ‫صوت‪ ،‬ولا نياحة‪ ،‬ولا إظهار للضجر والتسخط ‪ ،‬قالتها لما‬ ‫رأته حل به فتألم قلبها وباح بما فيه لسانها مع كمال‬ ‫صبرها ورضاها‬ ‫فقال النبي عليه الصلاة والسلام‪(( :‬لا كرب على أبيك بعد‬ ‫اليوم)) أي‪ :‬لا يصيب أباك نصب ولا كرب بعد اليوم لأنه‬ ‫ينتقل من دار الأكدار إلى دار الآخرة والسلامة الدائمة‪،‬‬ ‫ينتقل من الدنيا إلي الرفيق الأعلى ‪ ،‬فلما توفي الرسول‬ ‫عليه الصلاة والسلام‪ ،‬فجعلت‪ ،‬رضي الله عنها تندبه‪ ،‬لكنه‬ ‫ندب خفيف‪ ،‬لا يدل على التسخط من قضاء الله وقدره‬

‫((أجاب ربا دعاه)) لأن الله‪ -‬سبحانه وتعالي‪ -‬هو الذي بيده‬ ‫ملكوت كل شيء‪ ،‬آجال الخلق بيده‪ ،‬تصريف الخلق بيده‪،‬‬ ‫كل شيء إلي الله‪ ،‬إلي الله المنهى وإليه الرجعى‬ ‫فأجاب داعي الله‪ ،‬وهو انه صلي الله عليه وسلم إذا توفي‬ ‫صار كغيره من المؤمنين‪ ،‬يصعد بروحه حتى توقف بين‬ ‫يدي الله‪ -‬عز وجل‪ -‬فوق السماء السابعة‪ .‬فقالت‪ :‬واأبتاه‪،‬‬ ‫أجاب ربا دعاه‪.‬‬ ‫((وا ابتاه جنة الفردوس مأواه)) صلي الله عليه وسلم لأنه‬ ‫عليه الصلاة والسلام أعلى الخلق منزلة في الجنة‪ ،‬كما قال‬ ‫النبي صلي الله عليه وسلم ((اسألوا الله لي الوسيلة؛ فإنها‬ ‫منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله‪ ،‬وأرجو أن‬ ‫أكون أنا هو))‬ ‫ولا شك ان النبي صلي الله عليه وسلم مأواه جنة الفردوس‪،‬‬ ‫وجنة الفردوس هي أعلي درجات الجنة‪ ،‬وسقفها الذي‬ ‫فوقها عرش الرب جل جلاله‪ ،‬والنبي عليه الصلاة والسلام‬ ‫في أعلى الدرجات منها‪.‬‬ ‫((يا أبتاه إلي جبريل ننعاه)) النعي‪ :‬هو الإخبار بموت الميت‬ ‫أي‪ :‬نرفع خبر موته عليه الصلاة والسلام إلى جبريل عليه‬ ‫السلام ‪ ،‬لأن جبريل هو الذي كان يأتيه بالوحي صباحاً‬ ‫ومساء‪.‬‬

‫فإذا فقد النبي عليه الصلاة والسلام؛ فقد نزول جبريل عليه‬ ‫الصلاة والسلام إلي الأرض بالوحي؛ لأن الوحي انقطع‬ ‫بموت النبي صلي الله عليه وسلم‪.‬‬ ‫ثم لما حمل ودفن عليه الصلاة والسلام قالت ‪(( :‬أطابت‬ ‫أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلي الله عليه وسلم‬ ‫التراب؟)) وذلك من شدة وجدها عليه‪ ،‬وحزنها‪ ،‬ومعرفتها‬ ‫بأن الصحابة‪ -‬رضي الله عنهم‪ -‬قد ملأ قلوبهم محبة الرسول‬ ‫عليه الصلاة والسلام فهل طابت؟ نعم طابت لأن هذا أمر الله‬ ‫تعالى والصحابة يعلمون ذلك‬ ‫في هذا الحديث‪ :‬بيان أن رسول الله صلي الله عليه وسلم‬ ‫كغيرة من البشر‪ ،‬يمرض ويجوع‪ ،‬ويعطش‪ ،‬وجميع الأمور‬ ‫البشرية تعتري النبي صلي الله عليه وسلم‬ ‫وفيه‪ :‬أن شدة البلاء وشدة المرض‪ ،‬وشدة المصيبة لا تعني‬ ‫هوان العبد على ربه تبارك وتعالى‪ ،‬وإنما الله يشدد عليه في‬ ‫البلاء ليرفعه في الدرجات العالية في الجنة‪ ،‬وليحط عنه‬ ‫الخطايا‬ ‫وفيه‪:‬أنه ينبغي للإنسان إذا أصابه المرض أن لا يجزع ولا‬ ‫يتسخط ولا يضجر‪ ،‬ولا يرى منه ربه شيئاً يكرهه‪ ،‬وإنما‬ ‫يكون حامداً ذاكراً شاكراً‪ ،‬يحتسب ذلك عند الله‪ ،‬والله يجزيه‬ ‫عليه أفضل الجزاء‪.‬‬

‫وفيه‪ :‬دليل على أنه لا باس بالندب اليسير إذا لم يكن مؤذيا‬ ‫بالتسخط على الله عز وجل‪ ،‬لأن فاطمة ندبت النبي عليه‬ ‫الصلاة والسلام‪ ،‬لكنه ندب يسير‪ ،‬وليس ينم عن اعتراض‬ ‫على قدر الله عز وجل‪.‬‬ ‫وفيه ‪ :‬جوا ُز التوجع للم ِّيت عند احتضاره‪ ،‬وأَنه ليس من‬ ‫النياحة‬

‫الحديث التاسع والعشرون‬ ‫عن أُ َسا َم َة ب ِن زي ِد رضي اللهُ عنهما‪َ ،‬قالَ‪ :‬أ ْر َسلَ ْت ب ْن ُت ال َّنب ِّي‬ ‫صلى الله عليه وسلم إ َّن ا ْبني َقد ا ْح ُت ِض َر َفا ْش َهد َنا‪َ ،‬فأَ ْر َسلَ‬ ‫ُي ْقر ُئ ال َّسلا َم‪ ،‬ويقُولُ‪(( :‬إ َّن لله َما أ َخ َذ َو َل ُه َما أع َطى َو ُكلُّ‬ ‫َشي ٍء ِعن َدهُ بِأ َج ٍل ُم َس ًّمى َفل َت ْصبِ ْر َو ْل َت ْح َت ِس ْب)) َفأَر َسلَ ْت إِ َل ْي ِه‬ ‫ُت ْق ِس ُم َع َلي ِه لَ َيأتِي َّن َها‪ .‬فقا َم َو َم َع ُه َس ْع ُد ْب ُن ُع َبا َد َة‪َ ،‬و ُم َعا ُذ ْب ُن‬ ‫َج َب ٍل‪َ ،‬وأُ َب ُّي ْب ُن َك ْع ٍب‪َ ،‬و َز ْي ُد ْب ُن َثاب ٍت‪َ ،‬ور َجالٌ رضي الله‬ ‫عنهم‪َ ،‬ف ُرف َع إِ َلى َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم ال َّصب ُّي‪،‬‬ ‫َفأ ْق َع َدهُ في ِح ْج ِر ِه َو َن ْف ُس ُه َت َق ْع َق ُع‪َ ،‬ف َفا َض ْت َعي َناهُ َفقالَ َسع ٌد‪َ :‬يا‬ ‫رسولَ الله‪َ ،‬ما َه َذا؟ َفقالَ‪(( :‬ه ِذ ِه َرح َم ٌة َج َعلَها اللهُ َت َعالَى في‬ ‫قُلُو ِب ِع َبا ِد ِه)) وفي رواية‪ِ (( :‬في قُلُو ِب َم ْن َشا َء ِم ْن ِع َبا ِد ِه‪،‬‬ ‫َوإِ َّنما َي ْر َح ُم اللهُ ِم ْن ِعبا ِد ِه ال ُّر َحما َء))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن إحدي بنات الرسول‬ ‫صلي الله عليه وسلم أرسلت إليه رسولا‪ ،‬تقول له إن ابنها‬ ‫قد احتضر‪ ،‬أي‪ :‬حضره الموت‪ .‬وأنها تطلب من النبي صلي‬ ‫الله عليه وسلم أن يحضر‪ ،‬فقال له النبي صلي الله عليه‬ ‫وسلم ((إ َّن لله َما أ َخ َذ َو َل ُه َما أع َطى َو ُكلُّ َشي ٍء ِعن َدهُ بِأ َج ٍل‬ ‫ُم َس ًّمى َفل َت ْص ِب ْر َو ْل َت ْح َت ِس ْب)) أمرها أن تصبر وتحتسب‪ ،‬فإن‬ ‫لله ما أخذ وله ما أعطي‪ ،‬وكل شيء عنده بأجل مسمي‬

‫((إن لله ما أخذ وله ما أعطي)) إذا كان الشيء كله لله‪ ،‬إن‬ ‫أخذ منك شيئاً فهو ملكه‪ ،‬وإن اعطاك شيئاً فهو ملكه‪ ،‬فكيف‬ ‫تسخط إذا أخذ منك ما يملكه هو سبحانه؟عليك إذا أخذ لله‬ ‫منك شيئا محبوباً لك؛ أن تقول‪ :‬هذا لله‪ ،‬له أن يأخذ ما شاء‬ ‫‪ ،‬وله أن يعطي ما شاء‪.‬‬ ‫ولهذا يسن للإنسان إذا أصيب بمصيبة أن يقول ((إِ َّنا لِ َّلهِ‬ ‫َوإِ َّنا إِ َل ْي ِه َرا ِج ُعو َن)) يعني‪ :‬نحن ملك لله يفعل بنا ما يشاء‪،‬‬ ‫وكذلك ما نحبه إذا أخذه من بين أيدينا فهو له‪ -‬عز وجل‪ -‬له‬ ‫ما أخذ وله أعطي فإذا كان لله ما أخذ‪ ،‬فكيف نجزع ؟ كيف‬ ‫نتسخط أن يأخذ المالك ما ملك سبحانه وتعالي؟‬ ‫((بأجل مسمي)) أي‪ :‬معين‪ ،‬فإذا أيقنت بهذا؛ إن لله ما أخذ‬ ‫وله ما أعطي‪ ،‬وكل شيء عنده بأجل مسمي؛ اقتنعت‬ ‫فالإنسان لا يمكن أن يغير المكتوب المقدر لا بتقديم ولا‬ ‫بتأخير‪ ،‬فإذا كان الشيء مقدراً لا يتقدم ولا يتأخر؛ فلا فائدة‬ ‫من الجزع والتسخط؛ لأنه وإن جزعت أو تسخطت لن تغير‬ ‫شيئاً من المقدور‪.‬‬ ‫((فلتصبر)) على هذه المصيبة ‪(( ،‬ولتحتسب )) أي‪:‬‬ ‫تحتسب الأجر على الله بصبرها؛ لأن من الناس من يصبر‬ ‫ولا يحتسب‪ ،‬فيفوته بذلك خير كثير‪ ،‬لكن إذا صبر واحتسب‬ ‫الأجر على الله يعني‪ :‬أراد بصبره أن يثيبه الله ويأجره‪ ،‬فهذا‬ ‫هو الاحتساب‬

‫ثم إن الرسول أبلغ بنت النبي صلي الله عليه وسلم ما أمره‬ ‫أن يبلغه إياها‪ ،‬ولكنها أرسلت إليه تلح عليه أن يحضر‪،‬‬ ‫فقام عليه الصلاة والسلام هو وجماعة من أصحابه‪ ،‬فوصل‬ ‫إليها‪ ،‬فرفع إليه الصبي ونفسه تتقعقع؛ أي تضطرب‪ ،‬تصعد‬ ‫وتنزل‪ ،‬فبكي الرسول عليه الصلاة والسلام ودمعت عيناه‬ ‫فقال سعد بن عباده وكان معه ‪ :‬ما هذا؟ ظن أن الرسول‬ ‫صلي الله عليه وسلم بكي جزعاً‪ ،‬فقال النبي عليه الصلاة‬ ‫والسلام‪(( :‬هذه رحمة)) أي بكى رحمة بالصبي لا جزعاً‬ ‫ثم قال عليه الصلاة والسلام‪(( :‬ه ِذ ِه َرح َم ٌة َج َعلَها اللهُ َت َعا َلى‬ ‫في قُلُو ِب ِع َبا ِد ِه))‬ ‫وفي رواية‪ِ (( :‬في قُلُو ِب َم ْن َشا َء ِم ْن ِع َبا ِد ِه‪َ ،‬وإِ َّنما َي ْر َح ُم اللهُ‬ ‫ِم ْن ِعبا ِد ِه ال ُّر َحما َء)) ففي هذا دليل على جواز البكاء رحمة‬ ‫بالمصاب‬ ‫ففي هذا الحديث‪ :‬دليل على وجوب الصبر؛ لأن الرسول‬ ‫صلي الله عليه وسلم قال‪(( :‬فلتصبر ولتحتسب))‬ ‫وفيه ‪ :‬جوا ُز استحضار أهل الفضل للمحتضر لرجاء بركتهم‬ ‫ودعائهم‪ ،‬واستحباب إبرار القسم‪ ،‬وأمر صاحب المصيبة‬ ‫بالصبر قبل وقوع الموت ليقع وهو مستشعر بالرضا مقاو ًّما‬ ‫للحزن بالصبر‪ ،‬وفيه‪ :‬جواز البكاء من غير نوح ونحوه‬

‫الحديث الثلاثون‬ ‫عن صهيب رضي الله عنه‪ :‬أ َّن رسولَ الله صلى الله عليه‬ ‫وسلم‪َ ،‬قالَ‪َ (( :‬كا َن َملِ ٌك في َم ْن َكا َن َقب َلك ْم َو َكا َن لَ ُه َسا ِح ٌر َفلَ َّما‬ ‫َك ِب َر َقالَ لل َملِ ِك‪ :‬إ ِّني َق ْد َك ِب ْر ُت َفا ْب َع ْث إلَ َّي ُغلا ًما أُ َعلِّ ْم ُه‬ ‫ال ِّس ْح َر؛ َف َبع َث إِلَ ْي ِه ُغلا ًما ُي َع ّلِ ُم ُه‪َ ..... ،‬فأُتِ َي ال َملِ ُك فقيلَ لَ ُه‪:‬‬ ‫أَ َرأَ ْي َت َما ُك ْن َت َت ْح َذ ُر َق ْد والله َن َزلَ ب َك َح َذ ُر َك‪َ .‬ق ْد آ َم َن ال َّنا ُس‪.‬‬ ‫َفأَ َم َر ِبالأُ ْخ ُدو ِد بأ ْفوا ِه ال ِّس َك ِك َف ُخ َّد ْت وأُ ْض ِر َم في َها ال ِّنيرا ُن‬ ‫َو َقالَ‪َ :‬م ْن َل ْم َي ْرج ْع َع ْن ِدين ِه َفأ ْقحموهُ في َها‪ ،‬أَ ْو قيلَ َل ُه‪:‬‬ ‫اق َت ِح ْم َف َف َعلُوا َح َّتى َجاءت ا ْم َرأةٌ َو َم َع َها َصب ٌّي لَ َها‪َ ،‬ف َت َقا َع َس ْت‬ ‫أ ْن َت َق َع في َها‪َ ،‬ف َقالَ لَ َها ال ُغلا ُم‪َ :‬يا أُم ْه ا ْصبِري َفإِ َّن ِك َعلَى‬ ‫ال َح ِّق ))‬ ‫(رواه مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫هذا الحديث العظيم في أخبار من قبلنا يخبر به النبي عليه‬ ‫الصلاة والسلام للعبرة والعظة وأن المؤمن لا ب ّد أن يبتلى‬ ‫بهذه الدار فالواجب عليه الصبر‪ ،‬قد يبتلى بمرض‪ ،‬قد يبتلى‬ ‫بالفقر‪ ،‬قد يبتلى بالأعداء‪ ،‬قد يبتلى بغير ذلك فالواجب‬ ‫الصبر على طاعة الله‪ ،‬والكف عن محارم الله‬ ‫وهذه قصة هذا الملك الجائر فيمن قبلنا كان عنده ساحر‬ ‫يخبره ببعض المغيبات التي يسترقها من الشياطين التي‬

‫تسترق السمع ‪ ،‬فلما كبرت سنه وقرب أجله‪ ،‬قال للملك‪:‬‬ ‫أريد شا ًبا أعلمه حتى يحل محلي إذا مت يعلمه السحر‬ ‫‪،‬فجيء له بهذا الشاب ليعلمه‪ ،‬فكان الشاب يأتي إليه وفي‬ ‫طريقه راهب عابد من العباد‪ ،‬فمر عليه يستمع له فأرشده‬ ‫الراهب إلى أن ربه الله‪ ،‬وأن هذا الملك وهذا الساحر كلاهما‬ ‫ضال كافر‪ ،‬وأن ربه هو الله وحده فعلمه‪ ،‬وقال له الراهب‪:‬‬ ‫إذا قال لك الساحر لماذا تأخرت؟ فقل‪:‬أخرني أهلني‪ ،‬وإذا‬ ‫قال لك أهلك‪ :‬لم تأخرت؟ فقل‪ :‬أخرني الساحر‬ ‫فلم يزل هكذا في طريقه للساحر يمر على الراهب‪ ،‬ويتعبد‬ ‫‪،‬وفي احد الأيام شاهد الغلام دابة عظيمة تمنع الناس من‬ ‫المرور وهم خائفون منها فاخذ الغلام حجرا وقذف الدابة به‬ ‫وهو يقول ‪ :‬اللهم ان كان كلام الراهب حقا فاقتل الدابة‬ ‫فماتت ‪ ،‬وسار الناس مسرورين انتشرت قصة هذا الغلام‬ ‫بين الناس حتي وصلت الي الملك‬ ‫وكان من بين رجال الملك رجل اعمي فذهب الرجل الي‬ ‫الغلام وقال له اشفني فنفث عليه فأبرأه الله‪ ،‬وكان الله جل‬ ‫وعلا قد نفع به ويبرئ الأكمة والأبرص ويشفي المريض‬ ‫من أمراض كثيرة بسبب ما تعلم من الراهب‪ ،‬ويقول للناس‪:‬‬ ‫إني لا أشفي إنما يشفي الله‪ ،‬فلم يزل هذا دأبه حتى جرى ما‬ ‫جرى لجليس الملك وعالجه الشاب ورد الله عليه عينيه‬ ‫وبصره‪.‬‬ ‫فلما جلس عند الملك أخبره سأله‪ :‬من رد عليك بصرك‪،‬‬ ‫قال‪ :‬الله‪ ،‬فقال‪ :‬وهل لك رب غيري؟! قال‪ :‬نعم‪ ،‬ربي وربك‬

‫الله! فلم يزل به يعذبه حتى دل على الغلام‪ ،‬فلما جيء‬ ‫بالغلام عذب حتى دل على الراهب‪ ،‬ثم جاء بالراهب فأمر‬ ‫الملك بنشر جليسه بالمنشار‪ ،‬وهكذا الراهب إن لم يرجعا‬ ‫عن دينهما وقتلهما‬ ‫وقال للغلام‪ :‬ارجع عن دينك فأبى أن يرجع عن دينه‪ ،‬فأمر‬ ‫أن يذهب به إلى جبل فيلقى من رأسه إذا لم يرجع‪ ،‬فرجف‬ ‫الجبل بأصحابه فسقطوا وسلم هو‪ ،‬وجاء إلى الملك وخبره‪،‬‬ ‫فأمر أن يذهبوا به في قرقور (سفينة صغيرة) إلى البحر‬ ‫فإن رجع وإلا يلقوه في البحر‪ ،‬فانكفأت به السفينة؛ لأنه‬ ‫قال‪ :‬اللهم اكفنيهم بما شئت فكفاه الله شرهم‬ ‫وكان قصد الغلام أن يظهر الدعوة بين الناس‪ ،‬فقال له‪ :‬إنك‬ ‫لن تستطيع قتلي‪ ،‬حتى تجمع الناس في صعيد وتأخذ سه ًما‬ ‫من كنانتي‪ ،‬ثم تصلبني وترميني بالسهم‪ ،‬وتقول‪ :‬بسم الله‬ ‫رب الغلام؛ حتى يسمع الناس؛ فإذا سمعوا حصل المقصود‪،‬‬ ‫هذا مقصود الغلام حتى يؤمنوا بالله وحده‪.‬‬ ‫فلما فعل ذلك وقال‪ :‬بسم الله رب الغلام وأصابه‪ ،‬قال الناس‪:‬‬ ‫آمنا برب الغلام! فوقع ما خافه الملك وجنوده‪ ،‬ودخل الناس‬ ‫في دين الله وآمنوا برب الغلام‪ ،‬وأمر الخبيث بخد الأخاديد‬ ‫في الأرض وأوقد فيها النيران‪ ،‬وأمر من لم يرجع عن دينه‬ ‫يلقى فيها كما قال الله تعالى في قصته وأمثاله‪{ :‬قُتِلَ‬ ‫أَ ْص َحا ُب الأُ ْخ ُدو ِد * ال َّنا ِر َذا ِت ا ْل َوقُو ِد [البروج‪]5-4:‬‬

‫والمقصود من هذا أن الواجب الصبر حتى جاءت امرأة‬ ‫ومعها صبي فقيل لها‪ :‬إما أن ترجعي‪ ،‬وإما ان تلقي في هذه‬ ‫الأخدود‪ ،‬فكأنها تقاعست وتوقفت فقال لها ولدها‪ :‬اصبري‪،‬‬ ‫فإنك على الحق!‬ ‫وفي الحديث‪ :‬أن الواجب على المؤمن عند الابتلاء الصبر‬ ‫والاحتساب والثبات على الحق‬ ‫وفيه‪ :‬إِثبات كرامة الأَولياء‬ ‫وفيه‪ :‬نص ُر َم ْن توكل على الله سبحانه‪ ،‬وانتصر وخرج عن‬ ‫َح ْول نفسه وقواها‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬أَ َّن أَعمى القلب لا يبصر الحق‬ ‫وفيه‪ :‬بيان شرف الصبر والثبات على ال ِّدين‬

‫الحديث الحادي والثلاثون‬ ‫عن أنس رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬م َّر ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم‬ ‫بامرأ ٍة َتبكي ِع ْن َد َق ْب ٍر‪َ ،‬ف َقالَ‪(( :‬ا ّتقِي الله وا ْصبِري)) ‪َ ،‬ف َقالَ ْت‪:‬‬ ‫إِل ْي َك َع ِّني؛ فإِ َّن َك لم ُت َص ْب ب ُم ِصي َبتي َولَ ْم َتع ِر ْف ُه‪َ ،‬فقيلَ َل َها‪:‬‬ ‫إ َّنه ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم َفأَ َت ْت َبا َب ال َّنب ِّي صلى الله‬ ‫عليه وسلم‪َ ،‬ف َل ْم َت ِج ْد ِع ْن َدهُ َب َّوابي َن‪ ،‬فقال ْت‪َ :‬ل ْم أ ْع ِرف َك‪َ ،‬ف َقالَ‪:‬‬ ‫((إ َّن َما ال َّص ْب ُر ِع ْن َد ال َّص ْد َم ِة الأُولى))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه)‬ ‫وفي رواية لمسلم‪(( :‬تبكي َعلَى َصب ٍّي لَ َها))‬ ‫شرح الحديث‬ ‫عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله‬ ‫عليه وسلم مر بامرأة وهي عند قبر صبي لها قد‬ ‫مات‪ ،‬وكانت تحبه حباً شديداً‪ ،‬فلم تملك نفسها أن‬ ‫تخرج إلي قبره لتبكي عنده‪ .‬فلما رآها النبي صلى الله‬ ‫عليه وسلم أمرها بتقوى الله والصبر‪.‬‬

‫قال لها‪(( :‬اتقي الله واصبري))‪ ،‬فقالت له‪ :‬إليك عني فإنك‬ ‫لم تصب بمصيبتي‪.‬‬ ‫إليك عني أي‪ :‬ابعد عني فإنك لم تصب بمثل مصيبتي ‪ ،‬أي‬ ‫أسأت الأدب من شدة المصيبة التى أصابتها ولم تعرف الذي‬ ‫أمرها بالتقوى والصبر‪.‬‬ ‫وهذا يدل على أن المصيبة قد بلغت منها مبلغاً عظيماً‪،‬‬ ‫فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم عنها‪.‬‬ ‫ثم قيل لها‪ :‬إن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فندمت‬ ‫وجاءت إلى رسول الله‪ ،‬إلى بابه‪ ،‬وليس على الباب بوابون‬ ‫أي‪ :‬ليس عنده أحد يمنع الناس من الدخول عليه‪ .‬فأخبرته‬ ‫وقالت‪ :‬إنني لم أعرفك‪ ،‬فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬ ‫((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) الصبر الذي يثاب‬ ‫عليه الإنسان هو أن يصبر عند الصدمة الأولى عندما‬ ‫تقع المصيبة‪ ،‬هذا هو الصبر‬ ‫أما الصبر فيما بعد ذلك‪ ،‬فإن هذا قد يكون تسليا‪ ،‬فالإنسان‬ ‫يسلو كما يسلو غيره بعد طول المدة‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook