Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore المائة الأولي رياض الصالحين

المائة الأولي رياض الصالحين

Published by مكتبة(ورتل) الإلكترونيه, 2021-04-19 18:17:06

Description: المائة الأولي رياض الصالحين

Search

Read the Text Version

‫قلت مبالاته‪ ،‬فلم يعد يلتفت إلى شيء‪ ،‬حتى إنه يصير إلى‬ ‫حال يستوي عنده فيها الإحسان والإساءة‪ ،‬فلا يرعوي‪.‬‬ ‫يدل الحديث على وجوب المراقبة والحذر‪ ،‬وأن ينظر‬ ‫الإنسان ماذا يفعل حتى لا يقدم على معصية تغضب الله عليه‬ ‫و فيه‪ :‬كمال مراقبة الصحابة رضي الله عنهم لله تعالى‪،‬‬ ‫وكمال استحيائهم منه‪.‬‬ ‫و فيه‪ :‬أ َّن الإنسان ينبغي له أن يحذر من صغار الذنوب‪،‬‬ ‫فلعلها تكون المهلكة له في دينه‬

‫الحديث الرابع و الستون‬ ‫عن أبي هرير َة رضي الله عنه عن اال َّنب ّي صلى الله عليه‬ ‫وسلم َقالَ‪:‬‬ ‫((إ َّن الله َت َعا َلى َي َغا ُر‪َ ،‬و َغي َرةُ الله َت َعا َلى‪ ،‬أ ْن َيأتِ َي ال َم ْر ُء َما‬ ‫َح َّر َم الله َع َلي ِه))‬ ‫(متفق َعلَي ِه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫(( إ ّن الله تعالى يغار وغيرة الله تعالى أن يأتي المرء ما‬ ‫حرم الله ))‬ ‫الله سبحانه يغار‪ ،‬لا أحد أغير من الله جل وعلا‪ ،‬وغيرته إذا‬ ‫انتهكت محارمه‪ ،‬يغار بمعنى يغضب على من أقدم على ما‬ ‫ح ّرم الله‪.‬‬ ‫والغيرة على أنوا ٍع متع ّددة‪ :‬فمنها غيرة الله تعالى إذا‬ ‫انتهكت محارمه‪ ،‬فالله ‪-‬تبارك وتعالى‪ -‬قد أمر عباده‬ ‫بالتوحيد‪ ،‬ونهاهم عن أعظم جرم وهو الإشراك بالله ‪-‬تبارك‬ ‫وتعالى‪ ،‬لأن ذلك يحصل فيه شكر غير المنعم وعبادة غير‬ ‫المنعم‪.‬‬ ‫فالله يغار على عبده أن يعبد غيره‪ ،‬وأن يتوجه إلى غيره‬ ‫بتذليل نفسه وتعبيدها إلى هذا الغير‪ ،‬سواء كان ذلك بعبادته‬

‫عبادة مباشرة‪ ،‬أو كان ذلك بتعلق القلب‪ ،‬فإن الله يغار على‬ ‫قلب عبده المؤمن أن يتوجه إلى غيره‪ ،‬وأن يشتغل بغيره‪،‬‬ ‫وأن يمتلئ بحب غيره محبة تزاحم محبة الله في هذا القلب‪.‬‬ ‫كما أ َّن الله يغار على عبده المؤمن أن يواقع شيئاً من‬ ‫الفواحش والموبقات‪ ،‬وما إلى ذلك من ألوان الذنوب‬ ‫والمعاصي‪.‬‬ ‫و لذلك في الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬ ‫(( ما أحد أغير من الله سبحانه أن يزني عبده‪ ،‬أو تزني‬ ‫أَ َم ُته ))‬ ‫فالواجب على المؤمن الحذر من السيئات‪ ،‬والحرص على‬ ‫البعد منها‪ ،‬والتوبة إلى الله مما سلف‪ ،‬لأنه ربما أقدم على‬ ‫معصية فيغضب الله عليه ويهلك بسبب ذلك‪.‬‬

‫الحديث الخامس و الستون‬ ‫عن أبي هرير َة رضي الله عنه‪ :‬أ َّنه َس ِم َع ال َّنب َّي صلى الله‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬يقُولُ‪ (( :‬إ َّن َثلا َث ًة ِم ْن َبني إِ ْس َرا ِئيلَ‪ :‬أ ْب َر َص‪،‬‬ ‫َوأَ ْق َر َع‪َ ،‬وأَ ْع َمى‪ ،‬أَ َرا َد اللهُ أ ْن َي ْب َتل َي ُه ْم َف َب َع َث إِل ْيه ْم َملَ ًكا‪َ ،‬فأَ َتى‬ ‫الأَ ْب َر َص‪َ ،‬ف َقالَ‪ :‬أَ ُّي َشي ٍء أَ َح ُّب إ َل ْي َك؟ َقالَ‪َ :‬ل ْو ٌن َحس ٌن‪َ ،‬و ِجل ٌد‬ ‫َح َس ٌن‪َ ،‬و َي ْذه ُب َع ِّني الَّ ِذي َق ْد َق ِذ َر ِني ال َّنا ُس؛ َف َم َس َح ُه َف َذ َه َب‬ ‫َع ْن ُه َق َذ ُرهُ َوأُ ْع ِط َي َلو ًنا َحس ًنا و ِج ْل ًدا َح َس ًنا‪َ .‬ف َقالَ‪َ :‬فأ ُّي ال َما ِل‬ ‫أَ َح ُّب إِلي َك؟ َقالَ‪ :‬الإِبلُ ‪-‬أَ ْو قالَ‪ :‬ال َب َق ُر ش َّك ال َّراوي‪َ -‬فأُع ِط َي‬ ‫َنا َق ًة ُع َش َرا َء‪َ ،‬ف َقالَ‪َ :‬بار َك الله لَ َك ِفي َها‪َ .‬فأَ َتى الأَ ْق َر َع‪َ ،‬ف َقالَ‪:‬‬ ‫أَ ُّي َشي ٍء أَ َح ُّب إ َل ْي َك؟ َقالَ‪َ :‬ش ْع ٌر َح َس ٌن‪َ ،‬و َي ْذ َه ُب َع ِّني َه َذا‬ ‫الَّ ِذي َق ِذ َرني ال َّنا ُس؛ َف َم َس َح ُه َف َذه َب َع ْن ُه وأُ ْع ِط َي َشع ًرا َح َس ًنا‪.‬‬ ‫قالَ‪َ :‬فأَ ُّي ال َما ِل أَ َح ُّب إِل ْي َك؟ َقالَ‪ :‬ال َب َق ُر‪َ ،‬فأُ ْع ِط َي َب َق َر ًة َحا ِم ًلا‪،‬‬ ‫َوقالَ‪َ :‬با َر َك الله َل َك ِفي َها‪.‬‬ ‫َفأَ َتى الأَ ْع َمى‪َ ،‬ف َقالَ‪ :‬أَ ُّي َشي ٍء أَ َح ُّب إِ َل ْي َك؟ َقالَ‪ :‬أَ ْن َي ُر َّد الله‬ ‫إِلَ َّي َب َص ِري َفأُ ْب ِص ُر ِب ِه ال َّنا َس؛ َف َم َس َح ُه َف َر َّد اللهُ إِلَ ْي ِه َب َصرهُ‪.‬‬ ‫َقالَ‪َ :‬فأَ ُّي ال َما ِل أَ َح ُّب إِل ْي َك؟ َقالَ‪ :‬ال َغ َن ُم‪َ ،‬فأُ ْع ِط َي َشا ًة وال ًدا‪،‬‬ ‫َفأَ ْن َت َج ه َذا ِن َو َو ّلَ َد َه َذا‪َ ،‬فكا َن لِه َذا َوا ٍد ِم َن الإِب ِل‪َ ،‬ولِه َذا َوا ٍد‬ ‫ِم َن ال َب َق ِر‪َ ،‬ولِ َه َذا َوا ٍد ِم َن ال َغ َن ِم‪.‬‬ ‫ُث َّم إ َّن ُه أَ َتى الأَ ْب َر َص في ُصو َرتِ ِه َو َهي َئ ِت ِه‪َ ،‬ف َقالَ‪َ :‬رجلٌ ِم ْسكي ٌن‬ ‫َق ِد ان َق َط َع ْت بِ َي ال ِح َبالُ في َس َفري َفلا َبلا َغ لِ َي ال َيو َم إلا باللهِ‬ ‫ُث َّم ِب َك‪ ،‬أَ ْسأَلُ َك بِالَّذي أ ْع َطا َك اللَّو َن ال َح َس َن‪ ،‬وال ِج ْل َد ال َح َس َن‪،‬‬ ‫َوال َمالَ‪َ ،‬ب ِعي ًرا أَ َت َبلَّ ُغ بِ ِه في َس َفري‪َ ،‬ف َقالَ‪ :‬ال ُحقُو ُق ك ِثيرةٌ‪.‬‬

‫َف َقالَ‪ :‬كأ ِّني ا ْع ِرفُ َك‪ ،‬أَلَ ْم َت ُك ْن أَ ْب َر َص َي ْق َذ ُر َك ال َّنا ُس فقي ًرا‬ ‫فأ ْع َطا َك اللهُ !؟ َف َقالَ‪ :‬إِ َّن َما َو ِر ْث ُت َه َذا المالَ َكابِ ًرا َع ْن َكابِ ٍر‪،‬‬ ‫َف َقالَ‪ :‬إ ْن ُك ْن َت َكا ِذ ًبا َف َص َّي َر َك الله إِ َلى َما ُك ْن َت‪.‬‬ ‫َوأَ َتى الأَ ْق َر َع في ُصو َر ِت ِه َو َه ْي َئ ِت ِه‪َ ،‬ف َقالَ َل ُه ِم ْثلَ َما َقالَ لِ َهذا‪،‬‬ ‫َو َر َّد َع َلي ِه ِم ْثلَ َما َر َّد َه َذا‪َ ،‬ف َقالَ‪ :‬إ ْن ُك ْن َت َكا ِذ ًبا َف َص َّي َر َك اللهُ‬ ‫إِلَى َما ُك ْن َت‪.‬‬ ‫َوأَ َتى الأَ ْع َمى في ُصو َر ِت ِه َو َه ْي َئ ِت ِه‪َ ،‬ف َقالَ‪َ :‬ر ُجلٌ ِم ْسكي ٌن واب ُن‬ ‫َسبي ٍل ا ْن َق َطع ْت بِ َي ال ِح َبالُ في َس َف ِري‪َ ،‬فلا َبلاَ َغ لِ َي ال َيو َم إلا‬ ‫ِباللهِ ُث َّم بِ َك‪ ،‬أَسأَلُ َك با َّل ِذي َر َّد َع َل ْي َك َب َصر َك َشا ًة أَ َت َب ّلَ ُغ بِ َها في‬ ‫َسفري؟ َف َقالَ‪َ :‬ق ْد ُك ْن ُت أع َمى َف َر َّد اللهُ إِ َل َّي َب َص ِري َف ُخ ْذ َما‬ ‫ِش ْئ َت َو َد ْع َما ِش ْئ َت َف َواللهِ لا أ ْج َه ُد َك ال َيو َم بِ َشي ٍء أ َخ ْذ َت ُه لل ِه ‪-‬‬ ‫عز وجل‪َ . -‬ف َقالَ‪ :‬أ ْم ِس ْك مالَ َك ِفإ َّن َما ا ْب ُتلِي ُت ْم‪َ .‬ف َق ْد رضي الله‬ ‫عنك‪َ ،‬و َس ِخ َط َعلَى َصا ِح َبي َك ))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه )‬ ‫شرح الحديث‬ ‫ذكر المؤلف خبر الأبرص والأقرع والأعمى ‪ ،‬هؤلاء ثلاثة‬ ‫فيمن كانوا قبلنا ق ّص النب ّي صلى الله عليه وسلم علينا‬ ‫قصتهم للحذر والمراقبة والبعد عن أسباب غضب الله‬ ‫ثلاثة فيمن قبلنا‪ :‬واح ٌد أبرص‪ ،‬البرص بياض في جسم‬ ‫الإنسان معروف‪ ،‬و القرع عدم وجود الشعر في الرأس‪ ،‬و‬

‫أعمى قد ذهب بصره‪ ،‬فجاءهم َملَ ٌك بأمر الله اختبار وابتلاء‪،‬‬ ‫ابتلاهم سبحانه بالسراء والضراء‪ ،‬ابتلاهم بالضراء‬ ‫بالبرص والقرع والعمى‪ ،‬ثم ابتلاهم بالنعمة والعافية‬ ‫والمال‪.‬‬ ‫جاء ال َملَ ُك إلى الأبرص في صورة إنسان فقال‪ :‬أ ّي شيء‬ ‫أح ّب إليك؟‬ ‫قال‪ :‬أن يذهب عني هذا البرص الذي قد قذرني الناس به‪،‬‬ ‫هذا أحب شيء إليه أن الله يعافيني من البرص‪ ،‬فمسحه‬ ‫ال َملَ ُك وصار في أحسن حاله‪ ،‬ذهب عنه البرص‪ ،‬فقال‪ :‬أي‬ ‫المال أح ّب إليك؟ قال‪ :‬الإبل‪ ،‬فأُع ِط َي ناقة عشراء في بطنها‬ ‫ولد‪ ،‬وقال له ال َم َلك‪ :‬بارك الله لك فيها ‪ -‬وهو في صورة‬ ‫إنسان‪.‬‬ ‫ثم أتى الأقرع فقال‪ :‬أ ّي شيء أحب إليك؟ قال‪ :‬أن يذهب‬ ‫عني هذا القرع‪ ،‬وأن يحصل لي شعراً حسناً‪ ،‬لأ ّن هذا قد‬ ‫ق ّذرني الناس به وعابني الناس به‪ ،‬فمسح رأسه فأعطاه الله‬ ‫شعراً حسناً‪ ،‬ثم قال له‪ :‬أ ّي المال أح ّب إليك؟ قال‪ :‬البقر‪،‬‬ ‫فأعطي بقرة حاملاً‪.‬‬ ‫ثم أتى الأعمى فقال‪ :‬أي شيء أحب إليك؟ قال‪ :‬أن يرد الله‬ ‫إلي بصري‪ ،‬فأبصر به الناس‪ ،‬هذا أحب شيء إلي‪ ،‬فمسح‬ ‫على عينيه فر ّد الله عليه بصره بأمر الله‪ ،‬فقال‪ :‬أي المال‬ ‫أحب إليك؟ قال‪ :‬الغنم‪ ،‬فأعطي شاة والداً‪ ،‬يعني ولود تنتج‪.‬‬

‫ثم ذهب عنهم ما شاء الله من ال ّزمان‪ ،‬ثم أرسله الله إليهم‬ ‫بعد مدة‪ ،‬بعدما كثرت أموالهم جاءهم‪ ،‬جاء الأبرص في‬ ‫صورة أبرص‪ ،‬وجاء الأقرع في صورة أقرع‪ ،‬وجاء الأعمى‬ ‫في صورة أعمى‪ ،‬يذكرهم بحالهم الأولى‪.‬‬ ‫فجاء إلى الأبرص في صورة أبرص فقال‪ :‬رجلٌ مسكي ٌن‬ ‫وابن سبيل‪ ،‬يعني‪ :‬أنا فقير وعلى الطريق ابن طريق‪ ،‬قد‬ ‫انقطعت بي الحبال‪ ،‬يعني‪ :‬الأسباب في سفري هذا‪ ،‬أسألك‬ ‫بالذي أعطاك الجلد الحسن واللون الحسن‪ ،‬يذكره بحاله‬ ‫الأولى‪ ،‬يذكره ببرصه وفقره‪ ،‬أسألك بالذي أعطاك الجلد‬ ‫الحسن واللون الحسن والمال بعير واحد أتبلغ به في سفري‬ ‫فقال الرجل الأبرص‪ :‬الحقوق كثيرة‪ ،‬يعني ما أنا معطيك‪،‬‬ ‫علي واردات كثيرة وعلي حقوق كثيرة‪ ،‬ما أقدر أن أعطيك‪.‬‬ ‫قال‪ :‬ألم تكن أبرص فقير‪ ،‬كأني أعرفك‪ ،‬قال‪ :‬إنما ورثت هذا‬ ‫المال َجداً عن َج ْد‪ ،‬وأنكر نعمة الله عليه بالمال‪ ،‬فقال الملك‪:‬‬ ‫إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت‪ ،‬أجاب الله دعوة الملك‬ ‫فرجع أبرص فقيراً‬ ‫ثم أتى الأقرع فقال له مثل ماقال للأبرص ورد عليه بمثل‬ ‫مارد عليه الأبرص‪ ،‬فقال‪ :‬إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما‬ ‫كنت‪ ،‬دعا عليه‪.‬‬ ‫ثم أتى الأعمى في صورته كفيف فقال‪ :‬أنا رجل مسكين‬ ‫وابن سبيل‪ ،‬انقطعت بي الحبال في سفري هذا‪ ،‬أسألك‬

‫بالذي رد عليك بصرك وأعطاك المال شاة واحدة أتبلغ بها‬ ‫في سفري؟‬ ‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬قد كنت أعمى فرد الله إل ّي بصري‪ ،‬وفقير‬ ‫فأعطاني الله المال‪ ،‬فخذ ما شئت ودع ما شئت‪ ،‬هذا السخاء‬ ‫العظيم‪.‬‬ ‫فوالله لا أجهدك في شيء أخذته لله‪ ،‬ما أمنعك ولا أش ّق‬ ‫عليك‪ ،‬هذا المال بين يديك خذ ما تشاء ودع ما تشاء‪ ،‬يقوله‬ ‫الأعمى لهذا الملك الذي جاء في صورة فقير أعمى‪.‬‬ ‫فقال له ال َملَك‪ :‬أمسك عليك مالك‪ ،‬مالك لك ما أنا آخذ شيء‪،‬‬ ‫إنما هو ابتلاء من الله لكم‪ ،‬أنت والأبرص والأقرع‪ ،‬فإنما‬ ‫ابتليتم فقد رضي الله عنك‪ ،‬وسخط على صاحبيك‪ ،‬رضي‬ ‫عنه لأنه أقر بالمال‪ ،‬وأقر بالنعمة‪ ،‬وجاد وتفضل وأحسن‪،‬‬ ‫وسخط على صاحبيك لإنكارهما النعمة‪ ،‬وبخلهم بالحق‬ ‫فالقصة فيها الح ّث على الجود والكرم والإحسان‪ ،‬وتذكر نعم‬ ‫الله على الإنسان الذي تفضل عليه في بدنه‪ ،‬في ماله‪،‬‬ ‫فلاينسي ويتصدق على الفقراء ‪ ،‬ويشكر الله‪ ،‬لا يبخل‪ ،‬فالله‬ ‫عنده الخلف وعنده الأجر‪ ،‬فهذه القصة فيها العبر‪.‬‬ ‫الأعمى راق َب الله واتقى الله فلم يض ّره شيء‪ ،‬ماله بقي له‪،‬‬ ‫وكل شيء بقي له‪ ،‬والأبرص والأقرع لم يراقبا الله بل كذبا‬ ‫وافتريا وجحدا الحق‪ ،‬فر ّد الله حالهم إلى حالهم الأولى‬ ‫أبرص أقرع فقير‪ ،‬هذه عقوبا ِت الذنوب العاجلة غير الآجلة‬

‫الحديث السادس و الستون‬ ‫عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن ال َّنب ّي صلى‬ ‫الله عليه وسلم َقالَ‪(( :‬ال َك ِّي ُس َم ْن َدا َن َن ْف َس ُه‪َ ،‬و َع ِملَ لِ َما بع َد‬ ‫ال َمو ِت‪ ،‬وال َعا ِج ُز َم ْن أ ْت َب َع َن ْف َس ُه َهوا َها َو َتم َّنى َعلَى اللهِ))‬ ‫( رواه الترمذي )‬ ‫ضعيف ( ضعفه الألباني )‬ ‫( تحقيق رياض الصالحين للألباني )‬ ‫تخريج الحديث ‪:‬‬ ‫[ أخرجه الترمذي ‪ ،‬وهو حديث ضعيف في إسناده ابن أبي‬ ‫مريم الغساني وهو في عداد الضعفاء ‪ ،‬قال عنه أحمد بن‬ ‫حنبل ‪ :‬ضعيف ليس بشيء ‪ ،‬وقال أبو زرعة الرازي ‪:‬‬ ‫ضعيف منكر الحديث ‪ ،‬واستنكر هذا الحديث ابن عدي‬ ‫الجرجاني ]‬ ‫شرح الحديث‬ ‫قال الترمذي وغيره من العلماء‪ :‬معنى‪ (( :‬دان نفسه ))‬ ‫أي‪ :‬حاسبها‪ (( .‬الكيس )) معناه الإنسان الحازم الذي يغتنم‬ ‫الفرص ويتخذ لنفسه الحيطة حتى لا تفوت عليه الأيام‬ ‫والليالي فيضيع‪.‬‬ ‫((من دان نفسه)) أي‪ :‬من حاسبها ونظر ما فعل من‬ ‫المأمورات وماذا ترك من المهينات‪ :‬هل قام بما أمر به‪،‬‬

‫وهل ترك ما نهي عنه‪ ،‬فإذا رأي من نفسه تفريطا في‬ ‫الواجب استدركه إذا أمكن استدراكه‪ ،‬وقام به أو بدله‪ ،‬وإذا‬ ‫راء من نفسه انتهاكا لمحرم اقلع عنه وندم وتاب واستغفر‪.‬‬ ‫(( وعمل لما بعد الموت )) يعني عمل للآخرة‪ ،‬لان كل ما‬ ‫بعد الموت فانه من الآخرة‪ ،‬وهذا هو الحق والحزم‪ ،‬إن‬ ‫الإنسان يعمل لما بعد الموت‪ ،‬لأنه في هذه الدنيا مارا بها‬ ‫مرورا ‪ ،‬فاذا فرط ومضت عليه الأيام وأضاعها في غير ما‬ ‫ينفعه في الآخرة فليس بكيس‪ ،‬الكيس هو الذي يعمل لما‬ ‫بعد الموت‪.‬‬ ‫و العاجز من اتبع نفسه هواها وصار لا يهتم إلا بأمور‬ ‫الدنيا‪ ،‬فيتبع نفسه هواها في التفريط في الأوامر‪ ،‬ويتبع‬ ‫نفسه هواها في فعل النواهي‪ ،‬ثم يتمنى على الله الأماني‬ ‫فيقول‪ :‬الله غفور رحيم‪ ،‬وسوف أتوب إلى الله في المستقبل‪،‬‬ ‫وسوف أُصلح من حالي إذا كبرت‪ ،‬وما أشبه من الأماني‬ ‫الكاذبة التي يمليها الشيطان عليه‪ ،‬فربما يدركها وربما لا‬ ‫يدركها‪.‬‬ ‫ففي هذا الحديث‪ :‬الح ّث على انتهاز الفرص‪ ،‬وعلى أن لا‬ ‫يضيع الإنسان من وقته فرصة إلا فيما يرضي الله ‪-‬عز‬ ‫وجل‪ -‬و أن يدع الكسل والتهاون والتمني‪ ،‬فإ ّن التمني لا‬ ‫يفيد شيئاً‪ ،‬كما قال الحسن البصري رحمه الله‪ (( :‬ليس‬ ‫الإيمان بالتمني ولا بالتحلي‪ ،‬ولكن الإيمان ما وقر في القلب‬ ‫وصدقته الأعمال ))‬

‫الحديث السابع و الستون‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ َر ُسول الله صلي الله‬ ‫عليه وسلم‪ِ (( :‬م ْن ُح ْس ِن إ ْسلا ِم ال َم ْر ِء َت ْر ُك ُه َما لا َي ْع ِني ِه))‬ ‫رواه الترمذي ( و صححه الألبان ّي )‬ ‫شرح الحديث‬ ‫إسلام المرء هو استسلامه لله ‪-‬عز وجل‪ -‬ظاهراً وباطناً‪.‬‬ ‫فأما باطناً فاستسلام العبد لربه بإصلاح عقيدته وإصلاح‬ ‫قلبه‪ ،‬وذلك بأن يكون مؤمناً بكلّ ما يجب الإيمان به‪.‬‬ ‫و أما الاستسلام ظاهراً فهو إصلاح عمله الظاهر‪ ،‬كأقواله‬ ‫بلسانه وأفعاله بجوارحه‪ .‬والناس يختلفون في الإسلام‬ ‫اختلافاً ظاهراً كثيراً‪.‬‬ ‫و إذا كان الناس يختلفون في الإسلام‪ ،‬فإن مما يزيد في‬ ‫حسن إسلام المرء أن يدع ما لا يعنيه ولا يهمه لا في دينه‬ ‫ولا في دنياه‪.‬‬ ‫فالإنسان المسلم إذا أراد إن يجعل إسلامه حسناً فليدع ما لا‬ ‫يعنيه‪ ،‬فالشيء الذي ليس له أهم ّية في دينه ودنياه الأفضل‬ ‫تركه‪.‬‬ ‫كذلك أيضاً أن لا تتدخل في شؤون الناس إذا كان هذا لا‬ ‫يهمك‪ ،‬وهذا خلاف ما يفعله بعض الناس اليوم‪ ،‬من حرصه‬

‫على اطلاعه على أعراض الناس وأحوالهم‪ ،‬فالأمور التي لا‬ ‫تعنيك اتركها‪ ،‬فإن هذا من حسن إسلامك‪ ،‬وهو أيضا فيه‬ ‫راحة للإنسان‪.‬‬ ‫فاجعل ه ّمك ه ّم نفسك‪ ،‬و انظر إلى ما ينفعك فافعله‪ ،‬والذي‬ ‫لا ينفعك اتركه‪ ،‬فليس من حسن إسلامك أن تبحث عن‬ ‫أشياء لا تهمك‪ .‬و لو أننا فعلنا ذلك لحصل خيراً كثيراً‪.‬‬ ‫هذا الحديث أصل عظي ٌم من أصول الأدب‪.‬‬ ‫قيل للقمان‪ :‬ما بلغ بك ما نرى؟ قال‪ِ :‬ص ْد ُق الحديث‪ ،‬وأداء‬ ‫الأمانة‪ ،‬وت ْر ُك ما لا يعنيني‪.‬‬ ‫وقال سهل بن عبد الله ال ُّت ْس َتري‪َ :‬من تك َّلم فيما لا يعنيه ُحرم‬ ‫الصدق‪.‬‬ ‫قال الغزالي‪ :‬ح ُّد ما لا يعنيك في الكلام‪ :‬أ ْن تتكلَّم بما لو‬ ‫َس َك َّت عنه لم تأثم‪ ،‬ولم تتضرر حا ًلا ولا مآ ًلا‬

‫الحديث الثامن و الستون‬ ‫عن ُع َم َر رضي الله عنه َع ِن ال َّنب ّي صلي الله عليه وسلم َقالَ‪:‬‬ ‫((لا ُي ْسأَلُ ال َّر ُجلُ فِي َم َض َر َب ا ْم َرأَ َت ُه))‬ ‫رواه أبو داود وغيره‬ ‫ضعيف (ضعفه الألباني)‬ ‫(تحقيق رياض الصالحين للألباني)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫أن الرجل المتقي لله ‪-‬عز وجل‪ -‬الذي انتهي به الأمر إلى‬ ‫آخر المراتب الثلاث التي أشار الله إليها في قوله تعالى‪:‬‬ ‫{ َوال َّلاتِي َت َخافُو َن ُن ُشو َز ُه َّن َف ِع ُظو ُه َّن َوا ْه ُج ُرو ُه َّن ِفي‬ ‫ا ْل َم َضا ِج ِاعل َّلَهَوا َكاْض َ ِنر ُب َعولِ ُّهياًَّن َك َفِبإِي ْرناًأَ َط(ْعا َنلنُك ْمسا َفلءا‪:‬‬ ‫إِ َّن‬ ‫َت ْب ُغوا َعلَ ْي ِه َّن َسبِيلاً‬ ‫من الآية‪)٣4‬‬ ‫فالضرب آخر المراتب‪ ،‬فقد يضرب الرجل زوجته على أمر‬ ‫ُيستحيا من ذكره‪ ،‬فإذا ُعلِ َم تقوى الرجل لله ‪-‬عز وجل‪-‬‬ ‫وضرب امرأته فإنه لا ُيسأل‪ ،‬هذا إن ص ّح الحديث‪ ،‬ولك ّن‬ ‫الحديث ضعيف‪.‬‬ ‫أما من كان سيئ العشرة فهذا ُيسال فيم ضرب امرأته‪ ،‬لأ ّنه‬ ‫ليس عنده من تقوى الله تعالى ما يردعه عن ظلمها‬ ‫وضربها‪ ،‬حيث لا تستحق أن ُتضرب‬

‫المقدمه‬ ‫باب التقوى‬ ‫الحديث التاسع و الستون‬ ‫عن أبي هرير َة رضي الله عنه َقالَ‪ِ (( :‬قيلَ‪َ :‬يا رسولَ الله‪،‬‬ ‫َم ْن أكر ُم ال َّناس؟ َقالَ‪(( :‬أَ ْت َقا ُه ْم))‪ .‬فقالوا‪ :‬لَ ْي َس عن َه َذا‬ ‫نسألُ َك‪َ ،‬قالَ‪ُ َ :‬يو ُس ُف َنبِ ُّي اللهِ اب ُن َنبِ ِّي اللهِ اب ِن َنب ِّي اللهِ اب ِن‬ ‫خلي ِل الل ِه‪ ،‬قالوا‪ :‬لَ ْي َس عن َه َذا نسألُ َك‪َ ،‬قالَ‪َ :‬ف َع ْن َم َعا ِد ِن‬ ‫ال َع َر ِب َت ْسأَلوني؟ ِخ َيا ُر ُه ْم في ال َجا ِهل َّي ِة ِخ َيا ُر ُه ْم في الإِ ْسلا ِم‬ ‫إِ َذا فقُ ُهوا))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه )‬ ‫شرح الحديث‬ ‫فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوه (( من أكرم‬ ‫الناس؟ ))‬ ‫وهذا السؤال ُي ْح َتمل أن يكون السائل مريداً به الكرم الذي‬ ‫بمعنى البذل‪ ،‬والجود و ُي ْح َتمل أن يكون المراد به شرف‬ ‫النسب و ُي ْح َتمل أن يكون المراد به أن يكون الإنسان ماجداً‬ ‫نبيلاً‪ ،‬من خيار الناس معدناً‪.‬‬ ‫فسألوا ذلك لحرصهم‪ ،‬واهتمامهم بالأمور التي يحصل بها‬ ‫الارتقاء‪ ،‬وتحصيل المراتب العالية‪ ،‬فكانت ه ّمتهم منصرف ٌة‬

‫إلى هذه المعاني‪ ،‬كانوا يبحثون عن الأمور التي يحصل بها‬ ‫النبل‪ ،‬ويحصل بها الرقي للنفس‪.‬‬ ‫فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة بقوله‪:‬‬ ‫((اتقاهم)) يعني أن أكرم الناس أتقاهم لله عز وجل وهذا‬ ‫الجواب مطاب ٌق تماماً لقوله تعالى‪( :‬إِ َّن أَ ْك َر َم ُك ْم ِع ْن َد ال َّلهِ‬ ‫أَ ْت َقا ُك ْم) (الحجرات‪ :‬من الآية‪)1٣‬‬ ‫فالله ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬لا ينظر إلى الناس من حيث النسب ‪،‬‬ ‫ولا من حيث المال‪ ،‬ولا من حيث الجمال‪ ،‬و إنما ينظر‬ ‫سبحانه إلى الأعمال‪ ،‬فأكرم الناس عنده أتقاهم له‪ ،‬ففي هذا‬ ‫حث على تقوى الله عز وجل‪ ،‬وإ ّنه كلّما كان الإنسان اتقى‬ ‫لله فهو أكرم عنده‪.‬‬ ‫و لكن الصحابة لا يريدون بهذا السؤال الأكرم عند الله!‬ ‫((قالوا‪ :‬لسنا عن هذا نسألك))‪.‬‬ ‫فذكر لهم جواباً على أحد احتمالات السؤال‪ ،‬وهو أنهم سألوا‬ ‫عن كرم النسب‪ ،‬فقال إن أكرم الخلق يوسف ابن نبي الله‬ ‫ابن نبي الله ابن خليل الله‪ ،‬فهو يوسف بن يعقوب بن‬ ‫إسحاق بن إبراهيم‪ ،‬فانه ‪-‬عليه السلام‪ -‬كان نبياً من سلالة‬ ‫الأنبياء‪ ،‬فكان من أكرم الخلق‪.‬‬ ‫قالوا‪ :‬لسنا عن هذا نسألك‬ ‫قال‪ (( :‬فعن معادن العرب تسألوني؟ )) معادن العرب يعني‬ ‫أصولهم وأنسابهم!‬

‫فقهوا‪ ،‬بمعنى إذا علموا من الدين‪ ،‬وصار لهم فقه فيه‪،‬‬ ‫وتهذبت نفوسهم وأرواحهم‪ ،‬فإن الإسلام لا يزيد تلك‬ ‫المعادن الجيدة التي كانت في الجاهلية إلا زكا ًء ونقا ًء‬ ‫وتطهيراً وتهذيباً‪.‬‬ ‫فإن لم يكونوا فقهاء فإنه و إن كانوا من خيار العرب معدناً‬ ‫فإنهم ليسوا أكرم الخلق عند الله‪ ،‬وليسو خيار الخلق‪.‬‬ ‫ففي هذا دليل على أن الإنسان يشرف بنسبه‪ ،‬لكن بشرط أن‬ ‫يكون له فقه في دينه‪.‬‬ ‫و الشاهد من هذا الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم‬ ‫أن أكرم الخلق أتقاهم لله‪ .‬فكلما كان الإنسان لله أتقى كان‬ ‫عنده أكرم‪.‬‬

‫الحديث السبعون‬ ‫عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن ال َّنب ّي صلى الله‬ ‫عليه وسلم َقالَ‪ (( :‬إ َّن ال ُّد ْن َيا ُح ْل َوةٌ َخ ِضرةٌ‪ ،‬وإ َّن اللهَ‬ ‫ُم ْس َت ْخلِفُ ُك ْم ِفي َها َف َي ْن ُظ َر َكي َف َت ْع َملُو َن‪َ ،‬فا َّتقُوا ال ُّد ْن َيا َوا َّتقُوا‬ ‫ال ِّن َساء؛ فإ َّن أَ َّولَ فِ ْت َن ِة َبنِي إسرائيلَ َكا َن ْت في ال ِّن َسا ِء ))‬ ‫(رواه مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫هذا الحديث ساقه المؤلف ‪-‬رحمه الله‪ -‬لما فيه من أمر‬ ‫النبي صلى الله عليه وسلم بالتقوى‪ ،‬بعد أن ذكر حال الدنيا‬ ‫فقال‪:‬‬ ‫(( إن الدنيا حلوة خضرة ))‬ ‫حلوة في المذاق خضرة في المرأى‪ ،‬والشيء إذا كان خضراً‬ ‫حلواً فإن العين تطلبه أولاً‪ ،‬ثم تطلبه النفس ثانياً‪ ،‬والشيء‬ ‫إذا اجتمع فيه طلب العين وطلب النفس‪ ،‬فإنه يوشك للإنسان‬ ‫أن يقع فيه‪.‬‬ ‫فالدنيا حلوة في مذاقها‪ ،‬خضرة في مرأها‪ ،‬فيغت ّر الإنسان‬ ‫بها وينهمك فيها ويجعلها أكبر ه ّمه‪ ،‬ولكن النبي صلى الله‬ ‫عليه وسلم ب ّين أن الله – تعالى‪ -‬مستخلفنا فيها فينظر كيف‬ ‫نعمل‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫(( وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون )) هل‬ ‫تقومون بطاعته‪ ،‬وتنهون النفس عن الهوى‪ ،‬وتقومون بما‬ ‫أوجب الله عليكم‪ ،‬ولا تغترون بالدنيا‪ ،‬أو إن الأمر بالعكس؟‬ ‫ولهذا قال‪:‬‬ ‫(( فاتقوا الدنيا )) أي‪ :‬قوموا بما أمركم به الله ‪ ،‬واتركوا ما‬ ‫نهاكم عنه‪ ،‬ولا تغرنكم حلاوة الدنيا ونضرتها‪ .‬كما قال‬ ‫تعالى‪َ ( :‬فلا َت ُغ َّر َّن ُك ُم ا ْل َح َياةُ ال ُّد ْن َيا َولا َي ُغ َّر َّن ُك ْم بِال َّل ِه ا ْل َغ ُرو ُر)‬ ‫(لقمان‪ :‬من الآية‪. )٣٣‬‬ ‫فاتقوا الدنيا ليس معنى ذلك أن يتخلى الإنسان عنها ولا‬ ‫يعمرها‪ ،‬و إنما يأخذ المال من حله‪ ،‬ويتصرف فيه بحله‪،‬‬ ‫وينفق في حله في وجوه النفقات المشروعة والمباحة فقط‪،‬‬ ‫ويؤدي حق الله فيه‪.‬‬ ‫ثم قال‪ (( :‬واتقوا النساء )) أي‪ :‬احذروا النساء وفتنتهن‬ ‫فالنساء من الدنيا‪ ،‬وذكرها بعد الدنيا؛ لأنها من أعظم الفتنة‬ ‫التي في الدنيا‪ ،‬وإذا فسدت المرأة‪ ،‬فسد المجتمع‪.‬‬ ‫و لهذا قال‪(( :‬فان أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء))‬ ‫فافتتنوا في النساء‪ ،‬فضلوا وأضلوا‪ ،‬ولذلك نجد أعداءنا‬ ‫وأعداء ديننا يركزون اليوم على مسالة النساء‪ ،‬وتبرجهن‪،‬‬ ‫واختلاطهن بالرجال‪.‬‬ ‫و قد جاء في الحديث الصحيح‪(( :‬ما تركت بعدي فتنة هي‬ ‫أض ّر على الرجال من النساء)) متفق عليه‬

‫الحديث الحادي والسبعون‬ ‫عن ابن مسعو ٍد رضي الله عنه‪ :‬أ َّن ال َّنب ّي صلى الله عليه‬ ‫وسلم َكا َن يقول‪(( :‬اللَّ ُه َّم إ ِّني أَسألُ َك ال ُه َدى‪َ ،‬وال ُّت َقى‪،‬‬ ‫َوال َع َفا َف‪َ ،‬وال ِغ َنى))‬ ‫(رواه مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫هذا الدعاء العظيم‪ ،‬شامل لأربعة مطالب عظيمة‪ ،‬وجليلة‪ ،‬لا‬ ‫غنى عنها لأي عبد سائر إلى ال َّله عز وجل لما فيها من‬ ‫أهم مطالب الدنيا والآخرة‪.‬‬ ‫فبدأ بسؤال (الهدى) وهو أعظم مطلوب للعباد‪ ،‬لا غنى لهم‬ ‫عنه في هذه الدار؛ لأن الهدى‪ :‬هو طلب الهداية‪ ،‬وهي كلمة‬ ‫شاملة تتناول كل ما ينبغي أن ُيهتدى إليه من أمر الدنيا‬ ‫والآخرة من حسن الاعتقاد‪ ،‬وصلاح الأعمال‪ ،‬والأقوال‪،‬‬ ‫والأخلاق‪.‬‬ ‫(ال ُّت َقى) أي التقوى‪ :‬وهو اسم جامع لفعل ما أمر ال َّله به‪،‬‬ ‫وترك ما نهى عنه‪ ،‬قال الطيبي‪ :‬أطلق الهدى والتقى؛‬ ‫ليتناول كل ما ينبغي أن يهتدي إليه من أمر المعاش والمعاد‬ ‫ومكارم الأخلاق‪ ،‬وكل ما يجب أن يتقي منه من الشرك‪،‬‬ ‫والمعاصي‪ ،‬ورذائل الأخلاق‪ ،‬وطلب العفاف وأصل الكلمة‬

‫من التوقي‪ ،‬وهو أن تجعل بينك وبين عقوبة ال َّله تعالى‬ ‫وقاية‪ ،‬ويكون بفعل الطاعات‪ ،‬واجتناب المحرمات‪.‬‬ ‫(العفاف) هو التن ُّزه عما لا ُيباح‪ ،‬والصيانة عن مطامع‬ ‫الدنيا‪ ،‬فيشمل العفاف بكل أنواعه ((العفاف عن الزنا كله‬ ‫بأنواعه‪ :‬زنى النظر‪ ،‬وزنى اللمس‪ ،‬وزنى الاستماع‪ ،‬وزنى‬ ‫الفرج)) والتع ّفُف عن الكسب‪ ،‬والرزق الحرام‪.‬‬ ‫(الغنى) وهو غنى النفس بأن يستغني العبد عن الناس‪،‬‬ ‫وع ّما في أيديهم‪ ،‬فيستغني العبد بما أعطاه ال َّله‪ ،‬سواء‬ ‫أُعطي قليلاً أو كثيراً‪ ،‬وهذه الصفة يحبها ال َّله عز وجل ‪،‬‬ ‫قال النبي صلى الله عليه وسلم‪(( :‬إِ َّن ال َّلهَ ُي ِح ُّب ا ْل َع ْب َد ال َّتقِ َّي‪،‬‬ ‫ا ْل َغ ِن َّي‪ ،‬ا ْل َخفِ َّي)) مسلم‬ ‫وسؤال ال َّله (العفاف والغنى)‪ ،‬وهما داخلان في الهدى‬ ‫والتقى من باب التخصيص بعد التعميم‪ ،‬وذلك لعظم شأنهما‪،‬‬ ‫وشدة احتياج الخلائق لهما‪.‬‬ ‫قال السعدي رحمه ال َّله ‪(( :‬هذا الدعاء من أجمع الأدعية‬ ‫وأنفعها‪ ،‬وهو يتضمن سؤال خير الدين وخير الدنيا‪ ،‬فإن‬ ‫الهدى هو‪ :‬العلم النافع‪ ،‬والتقى‪ :‬العمل الصالح‪ ،‬وترك ما‬ ‫نهى عنه ال َّله ورسوله‪ ،‬وبذلك يصلح الدين‪ ،‬فإن الدين علوم‬ ‫نافعة ومعارف صادقة فهو (ال ُه َدى)‪ ،‬وقيام بطاعة ال َّله‬ ‫ورسوله‪ ،‬فهو (التقى) ‪ ،‬والعفاف‪ ،‬والغنى يتض ّمن العفاف‬ ‫عن الخلق‪ ،‬وعدم تعليق القلب بهم‪ ،‬والغنى بال َّله وبرزقه‪،‬‬

‫والقناعة بما فيه‪ ،‬وحصول ما يطمئن به القلب من الكفاية‪،‬‬ ‫وبذلك تتم سعادة الحياة الدنيا‪ ،‬والراحة القلبية‪ ،‬وهي الحياة‬ ‫الطيبة‪ ،‬فمن ُر ِز َق ال ُهدى‪ ،‬والتقى‪ ،‬والعفاف‪ ،‬والغنى نال‬ ‫السعادتين‪ ،‬وحصل على كل مطلوب‪ ،‬ونجا من كل‬ ‫مرهوب))‬ ‫وهذا الدعاء المبارك من جوامع الكلم التي أوتيها النبي‬ ‫صلى الله عليه وسلم التي تجمع فيها قلة الألفاظ ‪ ،‬وكثرة‬ ‫المعاني‪ ،‬وسعة مدلولاتها‪ ،‬ومقاصدها في الدارين‬

‫الحديث الثاني والسبعون‬ ‫عن ع ِد ِّي بن حات ٍم الطائ ِّي رضي الله عنه‪َ ،‬قالَ‪ :‬سمع ُت‬ ‫رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول‪َ ((:‬م ْن َحلَ َف َع َلى َي ِمي ٍن‬ ‫ُث َّم َرأَى أ ْت َقى للهِ ِم ْن َها َفل َيأ ِت ال َّت ْق َوى))‬ ‫(رواه مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫(من حلف على يمين) اليمين هي الحلف بالله عز وجل‪ ،‬أو‬ ‫باسم من أسمائه‪ ،‬أو صفة من صفاته‪ ،‬ولا يجوز الحلف‬ ‫بغير الله‪ ،‬لا بالنبي صلي الله عليه وسلم‪ ،‬ولا بأي أحد من‬ ‫الخلق‪ ،‬لقول النبي صلى الله عليه وسلم‪(( :‬من كان حالفا‬ ‫فليحلف بالله أو ليصمت)) وقال‪(( :‬من حلف بغير الله فقد‬ ‫كفر أو أشرك)) فمن حلف بغير الله فهو آثم ولا ينبغي‬ ‫للإنسان إن يكثر من اليمين‪ ،‬فان هذا هو معني قوله تعالى‪:‬‬ ‫( َوا ْح َف ُظوا أَ ْي َما َن ُك ْم) (المائدة‪ :‬من الآية‪ ، )89‬علي رأي‬ ‫بعض المفسرين‪ ،‬قالوا‪ :‬واحفظوا إيمانكم‪ :‬أي لا تكثروا‬ ‫الحلف بالله‬ ‫وإذا حلفت ينبغي أن تقيد اليمين بالمشيئة‪ ،‬فتقول‪ :‬إن شاء‬ ‫الله‪ ،‬لتستفيد بذلك فائدتين عظيمتين‪:‬‬ ‫الفائدة الأولى‪ :‬أن يتيسر لك ما حلفت عليه‬ ‫والفائدة الثانية‪ :‬انك لو حنثت فلا كفارة عليك‪ ،‬فمن حلف‬ ‫علي يمين وقال إن شاء الله لم يحنث‪ ،‬ولو خالف ما حلف‬

‫عليه‪ ،‬لأن هذه المشيئة تجعل له فرجا ومخرج قال رسول‬ ‫الله صلى الله عليه وسلم \" من قال في يمينه ‪ :‬إن شاء الله‪،‬‬ ‫فلا حنث عليه\"‬ ‫واليمين التي توجب الكفارة هي اليمين علي شئ مستقبل‪،‬‬ ‫أما اليمين علي شئ ماضي فلا كفارة فيها‪ ،‬ولكن إن كان‬ ‫الحالف كاذبا فهو آثم وأما اليمين التي فيها الكفارة فهي‬ ‫اليمين علي شئ مستقبل‪ ،‬فإذا حلفت علي شئ مستقبل‬ ‫فقلت‪ :‬والله لا افعل كذا‪ ،‬فهذه يمين منعقدة‪ ،‬فان فعلته وجبت‬ ‫عليك الكفارة‪ ،‬وان لم تفعله فلا كفارة عليك‬ ‫ولكن‪ :‬هل الأفضل أن افعل ما حلفت علي تركه‪ ،‬أو الأفضل‬ ‫أن لا افعل؟ في هذا الحديث بين النبي عليه الصلاة والسلام‪:‬‬ ‫انك إذا حلفت علي يمين‪ ،‬ورأيت غيرها اتقي لله منها‪ ،‬فكفر‬ ‫عن يمينك‪ ،‬وات الذي هو اتقي‪ .‬فإذا قال قائل ‪ :‬والله لا ازور‬ ‫قريبي‪ ،‬فهنا نقول‪ :‬زيارة القريب صلة رحم‪ ،‬وصلة الرحم‬ ‫واجبة‪ ،‬فصل قريبك‪ ،‬وكفر عن يمينك‪ ،‬لان النبي عليه‬ ‫الصلاة والسلام يقول‪( :‬إِ ِّني َوال َّل ِه إِ ْن َشا َء ال َّلهُ ‪َ ،‬لا أَ ْحلِ ُف‬ ‫َع َلى َي ِمي ٍن ُث َّم أَ َرى َخ ْي ًرا ِم ْن َها إِ َّلا َك َّف ْر ُت َع ْن َي ِمينِي ‪َ ،‬وأَ َت ْي ُت‬ ‫ا َلّ ِذي ُه َو َخ ْي ٌر) رواه البخاري ومسلم‬

‫الحديث الثالث والسبعون‬ ‫عن أبي أُ َما َم َة البا ِهلِ ِّي رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬س ِمع ُت رسولَ الله‬ ‫َف َقالَ‪(( :‬ا َّتقُوا‬ ‫َ َوي ْخ ُص ُطو ُُمبوافي َش ْهح َرج ُك ِةْم‪،‬ال َووأَد ُّاد ِوعا‪،‬‬ ‫َزكا َة أَ ْم َوالِ ُك ْم‪،‬‬ ‫صلى الله عليه وسلم‬ ‫الله َوصلُّوا َخ ْم َس ُك ْم‪،‬‬ ‫َوأَ ِطي ُعوا أُ َم َراء ُك ْم َت ْد ُخلُوا َج َّن َة َر ِّب ُك ْم))‬ ‫(رواه الترمذي وصححه الألباني)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫في حجة الوداع خطب النبي صلي الله عليه وسلم يوم‬ ‫عرفة‪ ،‬وخطب يوم النحر‪ ،‬ووعظ الناس وذكرهم‪ ،‬وكان من‬ ‫جملة ما ذكر في خطبته في حجة الوداع‪ ،‬انه قال‪:‬‬ ‫((يا أيها الناس اتقوا ربكم)) فأمر الرسول صلي الله عليه‬ ‫وسلم الناس جميعا أن يتقوا ربهم الذي خلقهم‪ ،‬وأمدهم‬ ‫بنعمه‬ ‫((وصلوا خمسكم)) أي‪ :‬صلوا الصلوات الخمس التي‬ ‫فرضها الله‪-‬عز وجل‪-‬عليكم‬ ‫((وصوموا شهركم)) أي‪ :‬شهر رمضان‬ ‫((وأدوا زكاة أموالكم)) أي‪ :‬أعطوها مستحقيها ولا تبخلوا‬ ‫بها‬

‫((أطيعوا أمراءكم)) أي‪ :‬من جعلهم الله أمراء عليكم‪ ،‬فان‬ ‫الواجب علي الرعية طاعتهم في غير معصية الله‪ ،‬أما في‬ ‫معصية الله فلا تجوز طاعتهم ولو أمروا بذلك‪ ،‬لان طاعة‬ ‫المخلوق لا تقدم علي طاعة الخالق جل وعلا ولهذا قال الله‪:‬‬ ‫( َيا أَ ُّي َها الَّ ِذي َن آ َم ُنوا أَ ِطي ُعوا ال َّلهَ َوأَ ِطي ُعوا ال َّر ُسولَ َوأُولِي‬ ‫ا ْلأَ ْم ِر ِم ْن ُك ْم) (النساء‪ :‬من الآية‪ )59‬فعطف طاعة ولاة‬ ‫الأمور علي طاعة الله تعالى ورسوله صلي الله عليه وسلم‬ ‫وهذا يدل علي إنها تابعة‪ ،‬لان المعطوف تابع للمعطوف‬ ‫عليه ‪ ،‬ولهذا قال الله جل وعلا ‪( :‬أَ ِطي ُعوا ال َّلهَ َوأَ ِطي ُعوا‬ ‫ال َّر ُسولَ) (النساء‪ :‬من الآية‪ ، )59‬فأتى بالفعل ليتبن بذلك‬ ‫أن طاعة النبي صلي الله عليه وسلم طاعة مستقلة أي‪:‬‬ ‫تجب طاعته استقلالا كما تجب طاعة الله ومع هذا فان‬ ‫طاعته من طاعة الله واجبة‪ ،‬فان النبي صلي الله عليه وسلم‬ ‫لا يأمر إلا بما يرضي الله أما ولاة الأمور فانهم قد يأمرون‬ ‫بغير ما يرضي الله‪ ،‬ولهذا جعل طاعتهم تابعة لطاعة الله‬ ‫ورسوله‬ ‫فهذه الأمور التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم في‬ ‫حجه الوداع ‪:‬‬ ‫تقوي الله‪ ،‬والصلوات الخمس‪ ،‬والزكاة‪ ،‬والصيام‪ ،‬وطاعة‬ ‫ولاة الأمور‪ ،‬هذه من الأمور الهامة التي يجب علي الإنسان‬ ‫إن يعتني بها‪ ،‬وان يمتثل أمر رسول الله صلي الله عليه‬ ‫وسلم فيها‪ ،‬ومن يلتزم بها يدخل الجنة‬

‫المقدمة‬ ‫باب في اليقين والتوكل‬ ‫الحديث الرابع والسبعون‬ ‫عن ابن عباس رضي الله عنهما‪َ ،‬قالَ‪َ :‬قالَ رسولُ الله صلى‬ ‫الله عليه وسلم‪ُ (( :‬ع ِر َض ْت َعلَ َّي الأُ َم ُم‪َ ،‬ف َرأ ْي ُت ال َّنب ّي و َم َع ُه‬ ‫ال ُّر َهي ُط‪ ،‬والنبي َو َم َع ُه ال َّر ُجلُ َوال َّر ُجلا ِن‪ ،‬والنب َّي ولَ ْي َس َم َع ُه‬ ‫أَ َح ٌد إِ ْذ ُرفِ َع لي َس َوا ٌد َعظي ٌم َف َظ َن ْن ُت أَ َّن ُه ْم أُ َّمتِي فقيلَ لِي‪َ :‬ه َذا‬ ‫ُمو َسى َو َقو ُم ُه‪ ،‬ولك ِن ا ْن ُظ ْر إِلَى الأُفُ ِق‪َ ،‬ف َن َظر ُت َفإِذا َسوا ٌد‬ ‫َع ِظي ٌم‪ ،‬فقيلَ لي‪ :‬ا ْن ُظ ْر إِ َلى الأفُ ِق الآ َخ ِر‪َ ،‬فإِ َذا َس َوا ٌد َعظي ٌم‪،‬‬ ‫فقيلَ لِي‪ :‬ه ِذ ِه أُ َّم ُت َك َو َم َع ُه ْم َس ْب ُعو َن أل ًفا َي ْد ُخلُو َن ال َج َّن َة بِ َغي ِر‬ ‫ِح َسا ٍب ولا َع َذا ٍب))‪ُ ،‬ث َّم َن َه َض َفد َخلَ َم ْن ِزلَ ُه َف َخا َض ال َّنا ُس في‬ ‫أُولئ َك الَّ ِذي َن َي ْد ُخلُو َن ال َج َّن َة ِب َغ ْي ِر ِح َسا ٍب ولا َع َذا ٍب‪َ ،‬ف َقالَ‬ ‫َب ْع ُض ُه ْم‪َ :‬فلَ َعلَّ ُه ْم الَّذي َن َص ِحبوا رسولَ الله صلى الله عليه‬ ‫وسلم‪َ ،‬وقالَ ب ْع ُض ُه ْم‪َ :‬فلَ َعلَّ ُه ْم الَّ ِذي َن ُولِ ُدوا في الإِ ْسلا ِم َفلَ ْم‬ ‫ُي ْش ِر ُكوا بِالله َشي ًئا‪ -‬و َذ َك ُروا أش َيا َء‪َ -‬ف َخر َج َع َل ْي ِه ْم رسولُ الله‬ ‫صلى الله عليه وسلم‪َ ،‬ف َقالَ‪َ (( :‬ما الَّ ِذي َت ُخو ُضو َن ِفي ِه؟))‬ ‫َفأَ ْخ َب ُروهُ فقالَ‪ُ (( :‬ه ُم ا َّل ِذي َن لا َي ْرقُو َن‪َ ،‬ولا َي ْس َترقُو َن‪َ ،‬ولا‬ ‫َي َت َط َّي ُرو َن؛ و َعلَى َر ِّب ِه ْم َي َتو َّكلُون)) فقا َم ُع َّكا َش ُة ب ُن محص ٍن‪،‬‬ ‫َف َقالَ‪ :‬ا ْد ُع الله أ ْن َي ْج َعلني ِم ْن ُه ْم‪َ ،‬ف َقالَ‪((:‬أ ْن َت ِم ْن ُه ْم))‪ُ .‬ث َّم َقا َم‬ ‫َر ُجلٌ آ َخ ُر‪َ ،‬ف َقالَ‪ :‬ا ْد ُع الل َه أ ْن َي ْج َعلنِي ِم ْن ُه ْم‪َ ،‬ف َقالَ‪َ (( :‬س َب َق َك‬ ‫ِب َها ُع َّكا َش ُة))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه والرواية لمسلم)‬

‫شرح الحديث‬ ‫هذا الحديث العظيم ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم فضل‬ ‫هذه الأمة وشرفها على الأمم السابقة‪ ،‬وهو متضمن لفضله‬ ‫وشرفه صلى الله عليه وسلم ومتضمن لبشرى عظيمة‪،‬‬ ‫كذلك يتضمن بيان بعض حقائق هذا الدين‪.‬‬ ‫يخبر النبي صلي الله عليه وسلم أن الأمم عرضت عليه‪،‬‬ ‫أي‪ :‬أري الأمم وأنبياءهم فيقول‪:‬‬ ‫((فرأيت النبي ومعه الرهيط)) والرهيط تصغير للرهط‪،‬‬ ‫وهي لفظة تطلق على عشيرة الرجل وقومه‪ ،‬وتطلق على‬ ‫العدد القليل أي‪ :‬معه الرهط القليل‪ ،‬ما بين الثلاثة إلى‬ ‫العشرة‬ ‫ومن هذا نأخذ فائدة مهمة‪ ،‬وهي‪ :‬أن الهداية بيد الله ‪ ،‬وأن‬ ‫القلوب بيده‬ ‫((والنبي ومعه الرجل والرجلان‪ ،‬والنبي وليس معه‬ ‫أحد))أي‪ :‬أن الأنبياء عليهم السلام ليسوا كلهم قد أطاعهم‬ ‫قوهم‪ ،‬بل بعضهم لم يطعه أحد من قومه‪ ،‬وبعضهم أطاعه‬ ‫الرهط‪ ،‬وبعضهم أطاعه الرجل والرجلان‬ ‫((إذ رفع لي سواد عظيم )) والمقصود بالسواد هنا‬ ‫الأشخاص‪ ،‬أي‪ :‬بشر كثير‪(،‬فظننت أنهم أمتي فقيل لي هذا‬ ‫موسى وقومه) لأن موسى عليه السلام من أكثر الأنبياء‬ ‫اتباعا‬

‫((ولكن انظر إلى الأفق)) والمقصود بالأفق الناحية والجهة‪،‬‬ ‫(فنظرت فإذا سواد عظيم‪ ،‬فقيل لي‪ :‬انظر إلى الأفق الآخر‬ ‫فإذا سواد عظيم‪ ،‬فقيل لي‪ :‬هذه أمتك) معنى ذلك أنهم قد‬ ‫ملئوا الناحيتين من كثرتهم‪ ،‬فهم أكثر من قوم موسى عليه‬ ‫السلام‪ ،‬فالرسول صلي الله عليه وسلم اكثر الأنبياء تابعا‬ ‫((ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا‬ ‫عذاب)) أي‪ :‬مع هذه الأمة سبعون ألفا يدخلون الجنة‪ ،‬لا‬ ‫يحاسبون‪ ،‬ولا يعذبون‪ ،‬من الموقف إلى الجنة بدون حساب‬ ‫ولا عذاب! وقد ورد إن مع كل واحد من السبعين ألف‬ ‫سبعين ألفا أيضا‬ ‫((ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك ‪ ...‬قال‬ ‫بعضهم‪ :‬فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلي الله عليه‬ ‫وسلم)) يعني لعلهم الصحابة رضي الله عنهم ثم نهض‬ ‫فدخل منزله‪ ،‬ولم يبين لهم من هم الذين يستحقون هذه‬ ‫المرتبة العظيمة جداً‪ ،‬فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون‬ ‫الجنة بغير حساب‪ ،‬يعني‪ :‬أنهم جلسوا يتحدثون‪ ،‬ويتناقشون‬ ‫ويتحاورون‪ ،‬يا ترى من هؤلاء؟ وذلك لحرص أصحاب‬ ‫النبي صلى الله عليه وسلم على الخير‪ ،‬وحرصهم على‬ ‫المراتب العالية عند الله ‪ ،‬فهذه الأمور تلفت أنظارهم وقال‬ ‫آخرون‪(( :‬لعلهم الذين ولدوا في الإسلام‪ ،‬فلم يشركوا بالله‬

‫شيئا وذكروا أشياء)) وكل أتى بما يظن‪ ،‬فخرج عليهم النبي‬ ‫صلي الله عليه وسلم فسألهم عما يخوضون فيه فاخبروه‬ ‫فقال صلي الله عليه وسلم ((هم الذين لا يرقون ولا‬ ‫يسترقون ولا يتطيرون وعلي ربهم يتوكلون)) هذا لفظ‬ ‫مسلم‬ ‫فهذه الأمور المذكورة في هذا الحديث‪ ،‬وهذه الأوصاف‬ ‫ترجع إلى أصل واحد‪ ،‬وهو قوة الاعتماد على الله ‪-‬تبارك‬ ‫وتعالى‪ ،‬وعظم الركون إليه‪ ،‬وشدة التوكل عليه‬ ‫((لا يرقون)) فقوله‪ :‬هم الذين لا يرقون‪ ،‬ولا يسترقون‬ ‫الرقية معروفة‪ ،‬وهنا في هذه الرواية جمع بين الأمرين‪ ،‬لا‬ ‫يرقون‪ ،‬ولا يسترقون‬ ‫ومن أهل العلم من ضعف هذه اللفظة‪ ،‬وهي قوله‪( :‬لا‬ ‫يرقون) ‪ ،‬وقالوا‪ :‬المحفوظ هو‪( :‬لا يسترقون) ‪ ،‬والفرق‬ ‫بينهما ظاهر‪ ،‬وهو أن قوله‪ :‬يرقون يحتمل أنهم يرقون‬ ‫غيرهم‪ ،‬أو أنهم يرقون أنفسهم‪ ،‬أو أن الرقية تقع عليهم من‬ ‫غير طلب منهم‬ ‫((ولا يسترقون)) أي‪ :‬لا يطلبون من أحد إن يقرا عليهم إذا‬ ‫أصابهم شئ‪ ،‬لانهم معتمدون علي الله‪ ،‬ولان الطلب فيه شئ‬ ‫من الذل‪ ،‬والاعتماد على الغير فطلب الرقية نقص في‬ ‫المرتبة‪ ،‬لا أنه محرم‪ ،‬فإذا رقى الإنسان نفسه فلا إشكال‪،‬‬ ‫وإذا رقى غيره يؤجر‪ ،‬وإذا رقاه غيره من غير طلب لا‬ ‫حرج‪ ،‬فقد ُرقي النبي ‪ ،‬رقاه جبريل وميكال‬

‫بقي طلب الرقية من الآخرين‪ :‬هذا يجوز‪ ،‬ولكن الأكمل‬ ‫تركه؛ لأن فيه نوع افتقار إلى المخلوقين‪ ،‬وإذا أراد العبد أن‬ ‫يكمل العبودية فعليه أن يستغني عن المخلوقين‪ ،‬ويكون‬ ‫فقره وحاجته إلى الله ‪ ،‬فإذا جاء أحد يرقيه من غير طلب‬ ‫فلا بأس‪.‬‬ ‫وينبغي للإنسان إذا رأى بأخيه شيئاً أن يبادر هو إلى رقيته‬ ‫من غير أن يحوجه إلى أن يطلب الرقية من غيره‬ ‫وفي روايه (ولايكتوون ) يعني لايطلبون من أحد أن يكويهم‬ ‫إذا مرضوا‪ ،‬لأن الكي عذاب بالنار لا يلجأ إليه إلا عند‬ ‫الحاجه‬ ‫((ولا يتطيرون)) يعني‪ :‬لا يتشاءمون لا بمرئي‪ ،‬ولا‬ ‫بمسموع‪ ،‬يعني‪ :‬لا يتطيرون أبدا والتطير أصله مما كان‬ ‫يفعله أهل الجاهلية من التشاؤم أو التفاؤل بالطير‪.‬‬ ‫فقد كان العرب في الجاهلية يتطيرون‪ ،‬فإذا طار الطير‬ ‫وذهب نحو اليسار تشاءموا‪ ،‬وإذا رجع تشاءموا‪ ،‬وإذا تقدم‬ ‫نحو الإمام صار لهم نظر آخر‪ ،‬وكذلك نحو اليمين‬ ‫وهكذاوالطيرة محرمة‪ ،‬لا يجوز لاحد إن يتطير لا بطيور‪،‬‬ ‫ولا بأيام‪ ،‬ولا بشهور‪ ،‬ولا بغيرها‪ ،‬والتشاؤم‪ ،‬كما انه شرك‬ ‫اصغر‪ ،‬فهو حسرة علي الإنسان‪ ،‬فيتألم من كل شئ يراه‪،‬‬ ‫لكن لو اعتمد علي الله وترك هذه الخرافات‪ ،‬لسلم‪ ،‬ولصار‬ ‫عيشه صافيا سعيدا‬

‫( َو َعلَى َر ِّب ِه ْم َي َت َو َّكلُو َن) فمعناه‪ :‬انهم يعتمدون علي الله وحده‬ ‫في كل شئ‪ ،‬لا يعتمدون علي غيره‪ ،‬لأنه جل وعلا قال في‬ ‫كتابه‪َ ( :‬و َم ْن َي َت َو َّكلْ َعلَى ال َّلهِ َف ُه َو َح ْس ُب ُه) (الطلاق‪ :‬من‬ ‫الآية‪ ، )٣‬ومن كان الله حسبه فقد كفي كل شئ‬ ‫وق ّدم \"على\"‪ ،‬ولم يقل‪ :‬ويتوكلون على الله‪ ،‬قال‪ :‬وعلى‬ ‫ربهم‪ ،‬يعني‪ :‬لا يتوكلون على أحد غير الله‪ ،‬فهؤلاء قد كمل‬ ‫توكلهم‪ ،‬فهم ليسوا فقط لا يرقون‪ ،‬ولا يسترقون‪ ،‬ولا‬ ‫يتطيرون‪ ،‬وإنما هم قد ك ّملوا التوكل‬ ‫هذا الحديث العظيم فيه صفات من يدخل الجنة بلا حساب‬ ‫ولا عذاب‪ .‬فهذه أربع صفات‪ :‬لا يسترقون‪ ،‬ولا يكتوون‪ ،‬ولا‬ ‫يتطيرون‪ ،‬وعلي ربهم يتوكلون‬ ‫فقام عكاشة بن محصن رضي الله عنه‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول الله‬ ‫((ادع الله إن يجعلني منهم)) ‪ ،‬بادر إلى الخير وسبق إليه‪،‬‬ ‫فقال النبي صلي الله عليه وسلم‪(( :‬أنت منهم))‬ ‫((فقام رجل آخر فقال‪ :‬ادع الله أن يجعلني منهم! قال‪:‬‬ ‫((سبقك بها عكاشة)) فرده النبي عليه الصلاة والسلام‪،‬‬ ‫لكنه رد لطيف‪ ،‬لم يقل لست منهم‪ ،‬بل قال‪(( :‬سبقك بها‬ ‫عكاشة))‬

‫الحديث الخامس والسبعون‬ ‫عن ابن عباس رضي الله عنهما أي ًضا‪ :‬أ َّن َر ُسول الله صلى‬ ‫الله عليه وسلم َكا َن يقول‪(( :‬اللَّ ُه َّم لَ َك أَ ْس َل ْم ُت‪َ ،‬وبِ َك آ َم ْن ُت‪،‬‬ ‫َو َعل ْيك َت َو َّك ْل ُت‪َ ،‬وإِلَ ْي َك أ َن ْب ُت‪َ ،‬وبِ َك َخا َص ْم ُت‪ .‬اللَّ ُه َّم إِ ِّني أ ُعو ُذ‬ ‫بع َّزتِ َك؛ لا إل َه إلا أَ ْن َت أ ْن ُتض َّلني‪ ،‬أَ ْن َت ال َح ُّي الَّ ِذي لا َي ُمو ُت‪،‬‬ ‫َوال ِج ُّن والإ ْن ُس َي ُمو ُتو َن))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه‪ ،‬وهذا لفظ مسلم واختصره البخاري)‬ ‫المفردات‬ ‫((لك أسلمت وبك آمنت)) أي لك انقدت‪ ،‬واستسلمت‪،‬‬ ‫لحكمك وأمرك‪ ،‬وبك آمنت ‪ ،‬وفيه إشارة إلى الفرق بين‬ ‫الإيمان والإسلام‪ ،‬وفي تقديم الجار والمجرور ((لك)) دلالة‬ ‫على الاختصاص‪ ،‬أي أخ ّصك بالانقياد والاستسلام دون أحد‬ ‫غيرك‪.‬‬ ‫((وعليك توكلت))‪ :‬ف ّوضت أموري ك ّلها إليك‪.‬‬ ‫((وإليك أنبت))‪ :‬أي أقبلت بعباداتي وطاعتي لك‪ ،‬وأعرضت‬ ‫عما سواك‪.‬‬ ‫((وبك خاصمت))‪ :‬أي بك أحاج وأدافع‪ ،‬وأقاتل أعداءك‬ ‫بالحجة والبيان والسيف‬

‫((اللَّهم إني أعوذ بعزتك))‪ :‬استعاذ بعزته‪ ،‬وهي صفة من‬ ‫صفات ال َّله تعالى الجليلة‪ ،‬وهي مشتقة من اسمه تعالى‬ ‫العزيز‪ ،‬والع ّزة ُيراد بها ثلاثة معا ٍن‪:‬‬ ‫‪ ‬عزة القوة والقدرة‬ ‫‪ ‬وعزة الامتناع‬ ‫‪ ‬وعزة القهر والغلبة‬ ‫والرب تبارك وتعالى له العزة التا ّمة بالاعتبارات الثلاثة‬ ‫شرح الحديث‬ ‫قدم النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي دعائه‪ ،‬جملة من‬ ‫أجلّ العبادات القلبية ومقامات العبودية ل َّله تعالى ‪:‬من‬ ‫تخصيص العبودية له تعالى ‪ ،‬فبدأ بالإقرار الكامل له تعالى‬ ‫بالإسلام‪ ،‬والإيمان‪ ،‬والتوكل‪ ،‬والرجوع إليه في كل مهامه‬ ‫وشؤونه الدنيوية‪ ،‬والدينية‪ ،‬والدفاع والمجاهدة لدينه‬ ‫بالحجة والقوة فقدم كل هذا قبل سؤاله؛ ليكون أرجى في‬ ‫القبول‬ ‫((اللهم إني أعوذ بعزتك)) استعاذ بصفة من صفاته العظيمة‬ ‫وهي العزة الكاملة‪ ،‬فمن أراد العزة فليطلبها منه تعالى‪ ،‬قال‬ ‫عز وجل ‪َ \" :‬م ْن َكا َن ُي ِري ُد ا ْل ِع َّز َة َفلِلَّ ِه ا ْل ِع َّزةُ َج ِمي ًعا\" ولا تنال‬ ‫العزة إلا بالإيمان بالله تعالى‪ ،‬والخضوع له والتوكل عليه‬

‫في كل الأمور‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬ولِ َّلهِ ا ْل ِع َّزةُ َولِ َر ُسولِ ِه َولِ ْل ُم ْؤ ِم ِني َن‬ ‫َو َل ِك َّن ا ْل ُم َنافِقِي َن َلا َي ْعلَ ُمو َن وقرن هذه الاستعاذة بـ(لا إله‬ ‫إلا أنت) أي لا معبود بحق إلا أنت مبالغ ًة في تحقيق‬ ‫العبودية‪ ،‬وطمعاً في الاستجابة‬ ‫((أن تض ّلني)) أي أن تغويني وتضلّني بعد الهداية‪ ،‬ولا‬ ‫يخفى في تقديم هذه التوسلات من الأعمال الصالحات‪،‬‬ ‫وإثبات الوحدانية لر ّب الأرض والسموات‪ ،‬والتو ّسل بكمال‬ ‫الصفات في الاستعاذة من الضلالات أن ذلك يدلّ على أهمية‬ ‫هذا المطلب‪ ،‬وأنه مطلب خطير‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬و َم ْن ُي ْضلِ ِل ال َّلهُ‬ ‫َف َما َل ُه ِم ْن َها ٍد وقال عز شأنه‪َ { :‬م ْن َي َشإِ ال َّلهُ ُي ْضلِ ْل ُه َو َم ْن‬ ‫َي َشأْ َي ْج َع ْل ُه َعلَى ِص َرا ٍط ُم ْس َتقِي ٍم فدلّ على أن الهداية‬ ‫والضلال بيد الله تعالى رب العالمين‪ .‬فينبغي للعبد أن يسأل‬ ‫الله تعالى دائماً أن يعصمه من الضلالة‪ ،‬وأن ُيديم عليه‬ ‫الهداية إلى أن يلقاه يوم القيامة‪ ،‬وفيه دليل على جواز‬ ‫الاستعاذة بصفة من صفات الله تعالى الجليلة‬ ‫((أنت الح ّي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون)) تأكيد‬ ‫لانفراد الله تعالى بالحياة‪ :‬أي أنت الح ّي لك الحياة الكاملة‬ ‫التي لا يعتريها أي نقص المتصفة بكل كمال‪ ،‬المستلزمة‬ ‫لكل صفات الذات‪ ،‬فحياته تعالى لا يعتريها نوم‪ ،‬ولا نعاس‪،‬‬ ‫ولا تبيد‪ ،‬ولا تفنى‪ ،‬والخلق كلهم‪ ،‬ميتون ومنتهون‪ ،‬قال‬

‫تعالى‪َ { :‬و َت َو َّكلْ َعلَى ا ْل َح ِّي الَّ ِذي َلا َي ُمو ُت ‪ ،‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫{ ُكلُّ َش ْي ٍء َهالِ ٌك إِ َّلا َو ْج َهه‬ ‫ففي هذا الدعاء المبارك جمع في بداياته‪ ،‬وطياته ونهاياته‪،‬‬ ‫توسلين من التو ّسلات العظيمة إلى الله تعالى‪:‬‬ ‫التو ّسل بالعمل الصالح [كقوله‪(( :‬ال َّله ّم لك أسلمت‪ ،‬وبك‬ ‫آمنت‪ ،‬وعليك توكلت‪]))...‬‬ ‫والتوسل بأسمائه الحسنى وصفاته ال ُعلا [كقوله‪((:‬أنت الحي‬ ‫الذي لا يموت‪ ]))...‬لبيان أهمية الاستعاذة من الضلالة‪،‬‬ ‫فإنها تورد الموارد المهلكة‪ ،‬وتضيع الدين والدنيا والآخرة‬ ‫وفي العصمة منها‪ ،‬النجاة من كل مرهوب‪ ،‬وحصول كل‬ ‫مرغوب‬

‫الحديث السادس والسبعون‬ ‫عن ابن عباس رضي الله عنهما‪َ ،‬قالَ‪َ :‬ح ْس ُب َنا اللهُ َو ِن ْع َم‬ ‫ال َو ِكيلُ‪َ ،‬قالَ َها إِب َراهي ُم صلى الله عليه وسلم ِحي َن أُلقِ َي في‬ ‫ال َّنا ِر‪َ ،‬و َقا َلها ُم َح َّم ٌد صلى الله عليه وسلم ِحي َن َقالُوا‪ :‬إ َّن‬ ‫ال َّنا َس َق ْد َج َمعوا َل ُك ْم َفا ْخ َش ْو ُه ْم َف َزا َد ُه ْم إ ْيما ًنا َو َقالُوا‪َ :‬ح ْس ُب َنا‬ ‫الله ون ْع َم ال َوكيلُ‬ ‫(رواه البخاري)‬ ‫وفي رواية َل ُه عن ابن َع َّبا ٍس رضي الله عنهما‪َ ،‬قالَ‪َ :‬كا َن‬ ‫آخر َقول إ ْب َرا ِهي َم صلى الله عليه وسلم ِحي َن أُ ْل ِق َي في ال َّنا ِر‪:‬‬ ‫َح ْسبِي الله ونِ ْع َم ال َو ِكيلُ‪.‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫{حسبنا الله أي‪ :‬هو كافينا‬ ‫{ونعم الوكيل أي‪ :‬الموكول إليه الأمور‪.‬‬ ‫هذه الكلمة((حسبنا الله ونعم الوكيل)) قالها إبراهيم عليه‬ ‫السلام حينما القي في النار‪ ،‬وذلك أن إبراهيم عليه الصلاة‬ ‫والسلام دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له‪ ،‬فأبوا‪،‬‬ ‫وأصروا علي الكفر ‪ .‬فقام ذات يوم علي أصنامهم فكسرها‪،‬‬ ‫وجعلهم جذاذا‪ ،‬إلا كبيرا لهم‪ ،‬فلما رجعوا وجدوا آلهتهم‬ ‫كسرت‪ ،‬فانتقموا لأنفسهم‪ .‬فقالوا ما نصنع يا إبراهيم؟‬

‫َقالُوا ‪َ :‬ح ِّرقُوهُ‬ ‫فأوقدوا نار عظيمة ‪ ،‬ثم رموا إبراهيم عليه السلام في هذه‬ ‫النار‪ .‬ويقال انهم لعظم النار لم يتمكنوا من القرب منها‪،‬‬ ‫وانهم رموا إبراهيم فيها بالمنجنيق من بعد‪ ،‬فلما رموه قال‪:‬‬ ‫((حسبنا الله ونعم الوكيل)) فما الذي حدث؟ قال الله تعالى‪:‬‬ ‫(قُ ْل َنا َيا َنا ُر ُكونِي َب ْرداً َو َسلاماً َعلَى إِ ْب َرا ِهي َم) (الأنبياء‪)69 :‬‬ ‫بردا‪ :‬ضد حر ‪ ،‬وسلاما‪ :‬ضد هلاكا‪ ،‬لان النار حارة ومحرقة‬ ‫ومهلكة‪ ،‬فأمر الله هذه النار أن تكون بردا وسلاما عليه‪،‬‬ ‫فكانت بردا وسلاما‪ .‬وقال العلماء ‪ :‬ولما قال الله ( ُكونِي‬ ‫َب ْرداً) قرن ذلك بقوله‪َ ( :‬و َسلاماً) لأنه لو اكتفي بقوله‪:‬‬ ‫( َب ْرداً) لكانت بردا حتى تهلكه‪ ،‬لان كل شئ يمتثل لامر الله‬ ‫عز وجل‬ ‫أما الخليل الثاني للرحمن الذي قال‪َ ( :‬ح ْس ُب َنا ال َّلهُ َونِ ْع َم‬ ‫ا ْل َو ِكيلُ) فهو النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه‪ ،‬حين‬ ‫رجعوا من أحد‪ ،‬قيل لهم‪ :‬إن الناس قد جمعوا لكم‪ ،‬يريدون‬ ‫إن يأتوا إلى المدينة ويقضوا عليكم فقالوا‪َ ( :‬ح ْس ُب َنا ال َّلهُ َونِ ْع َم‬ ‫ا ْل َو ِكيلُ) قال الله تعالى‪َ ( :‬فا ْن َق َل ُبوا بِ ِن ْع َم ٍة ِم َن ال َّلهِ َو َف ْض ٍل َل ْم‬ ‫َي ْم َس ْس ُه ْم ُسو ٌء َوا َّت َب ُعوا ِر ْض َوا َن ال َّل ِه َوال َّلهُ ُذو َف ْض ٍل َع ِظي ٍم)‬ ‫(آل عمران‪)174 :‬‬ ‫فينبغي لكل إنسان رأى من الناس جمعا له‪ ،‬أو عدوانا عليه‪،‬‬ ‫إن يقول‪(( :‬حسبنا الله ونعم الوكيل)) فإذا قالها كفاه الله‬ ‫شرهم‪ ،‬كما كفي إبراهيم ومحمدا عليهما الصلاة والسلام‬

‫الحديث السابع والسبعون‬ ‫عن أبي هرير َة رضي الله عنه عن ال َّنب ّي صلى الله عليه‬ ‫وسلم َقالَ‪َ (( :‬ي ْد ُخلُ ال َج َّن َة أَ ْقوا ٌم أ ْفئِ َد ُت ُه ْم ِمثلُ أ ْفئِ َد ِة ال َّطي ِر))‬ ‫(رواه مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫هذا الحديث أصلٌ عظيم في التوكل‪ .‬وحقيقته‪ :‬هو الاعتماد‬ ‫على الله ع َّز وجلّ في استجلاب المصالح ودفع المضار‬ ‫قال سعيد بن جبير‪ :‬التو ُّكل جماع الإِيمان‪ .‬وال َج َّن ُة دا ُر ال َّنعي ِم‬ ‫الَّتي لا َيف َنى‪ ،‬وهي رجا ُء كلِّ ُمؤم ٍن َيس َعى إليها؛ ف َيعملُ‬ ‫ال َّطاعا ِت في ال ُّدنيا ُث َّم َيرجو تل َك الج َّن َة ب َرحم ِة اللهِ تعالى‬ ‫وفي هذا ال َحدي ِث ُيخبِ ُر ال َّنب ُّي ص ّلَى اللهُ علي ِه وس َّلم بأَح ِد‬ ‫ال َّطوائ ِف والأَصنا ِف الَّتي ستد ُخلُ الج َّن َة‪،‬‬ ‫ف َيقولُ‪َ ( :‬يدخلُ الج َّن َة أَقوا ٌم أَفئد ُتهم ِمثلُ أَفئد ِة ال َّطي ِر) قيل‪:‬‬ ‫معناه متوكلون‪ ،‬وقيل‪ :‬قلوبهم َرقي َق ٌة ‪،‬فقيل َيعني‪ِ :‬مثلُها في‬ ‫ِر َّقتِها و َضعفِها‪َ .‬وقيلَ‪ :‬في ال َخو ِف وال َهيب ِة ‪ ،‬وقيل ال ُمرا ُد‬ ‫أنهم ُمتو ِّكلو َن على الله كال َّطي ِر؛ َتغدو ِخما ًصا و َترو ُح بِطا ًنا‪،‬‬ ‫وفي ذل َك َمد ٌح لأَه ِل َهذه ال ِّصفا ِت‬

‫واعلم أ َّن التو ُّكل لا ينافي السعي في الأسباب‪ ،‬فإ َّن الطير‬ ‫تغدو في طلب رزقها‪ .‬وقد قال الله تعالى‪َ { :‬و َما ِمن َدآ َّب ٍة فِي‬ ‫الأَ ْر ِض إِلا َعلَى اللهِ ِر ْزقُ َها [هود‪]6 :‬‬ ‫قال يوسف بن أسباط‪ :‬كان يقال‪ :‬اعمل عمل رجل لا ينجيه‬ ‫إلا عمله‪ ،‬وتو َّكل تو ُّكل رجل لا يصيبه إلا ما ُكتب له‬ ‫وفي حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم‪(( :‬لن‬ ‫تمو َت نفس حتى تستكمل رزقها‪ ،‬فاتقوا الله وأجملوا في‬ ‫الطلب‪ ،‬خذوا ما حلَّ ودعوا ما حرم))‬

‫الحديث الثامن والسبعون‬ ‫عن جابر رضي الله عنه‪ :‬أَ َّن ُه َغ َزا َم َع النبي صلى الله عليه‬ ‫وسلم قِبلَ َن ْج ٍد‪َ ،‬فلَ َّما َق َفلَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم َق َفلَ‬ ‫م َع ُه ْم‪َ ،‬فأَ ْد َر َك ْت ُه ُم ال َقائِ َل ُة في َوا ٍد كثير ال ِع َضاه‪َ ،‬ف َن َزلَ َر ُسول‬ ‫الله صلى الله عليه وسلم َو َت َف َّر َق ال َّنا ُس َي ْس َت ِظلُّو َن بال َّش َج ِر‪،‬‬ ‫َو َن َزلَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم َتح َت َس ُم َرة َف َع َلّ َق بِ َها‬ ‫َسي َف ُه َو ِن ْم َنا َن ْو َم ًة‪َ ،‬فإِ َذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‬ ‫َي ْدعو َنا َوإِ َذا ِع ْن َدهُ أ ْع َرا ِب ٌّي‪َ ،‬ف َقالَ‪(( :‬إ َّن َه َذا ا ْخ َت َر َط َعلَ َّي‬ ‫َسي ِفي َوأ َنا َنائ ٌم َفا ْس َتي َق ْظ ُت َو ُه َو في َي ِد ِه َصل ًتا‪َ ،‬قالَ‪َ :‬م ْن‬ ‫َي ْم َن ُع َك ِم ِّني؟ قُ ْل ُت‪ :‬الله‪ -‬ثلا ًثا‪َ ))-‬و َل ْم ُيعا ِق ْب ُه َو َجلَ َس‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه)‬ ‫وفي رواية َقالَ َجاب ٌر‪ُ :‬ك َّنا َم َع َر ُسو ِل الله صلى الله عليه‬ ‫وسلم ب َذا ِت ال ِّر َقا ِع‪َ ،‬فإِ َذا أَ َت ْي َنا َعلَى َش َج َر ٍة َظلِي َل ٍة َت َر ْك َنا َها‬ ‫لرسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فجاء َر ُجلٌ ِم َن ال ُم ْشركي َن‬ ‫َو َسي ُف َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم م َع َلّ ٌق بال َّش َج َر ِة‬ ‫َفا ْخ َتر َط ُه‪َ ،‬ف َقالَ‪َ :‬ت َخافُنِي؟ َقالَ‪(( :‬لا))‪َ .‬ف َقالَ‪َ :‬ف َم ْن َي ْم َن ُع َك‬ ‫ِم ِّني؟ َقالَ‪(( :‬الله))‬ ‫وفي رواية َقالَ‪َ :‬م ْن َي ْم َن ُع َك ِم ِّني؟ َقالَ‪(( :‬اللهُ))‪َ .‬قالَ‪َ :‬ف َس َق َط‬ ‫السي ُف ِم ْن َيد ِه‪َ ،‬فأ َخ َذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‬ ‫ال َّس ْي َف‪َ ،‬ف َقالَ‪َ (( :‬م ْن َي ْم َن ُع َك مني؟))‪َ .‬ف َقالَ‪ُ :‬ك ْن َخي َر آ ِخ ٍذ‪.‬‬ ‫َف َقالَ‪َ (( :‬ت ْش َه ُد أ ْن لا إل َه إلا الله َوأَ ِّني َر ُسول الله؟)) َقالَ‪ :‬لا‪،‬‬ ‫َولَك ِّني أُ َعا ِه ُد َك أ ْن لاَ أُ َقاتِ َل َك‪َ ،‬ولا أَ ُكو َن َم َع َقو ٍم ُي َقاتِلُو َن َك‪،‬‬

‫َف َخ َّلى َسبيلَ ُه‪َ ،‬فأَ َتى أ ْص َحا َب ُه‪َ ،‬ف َقالَ‪ :‬جئ ُت ُك ْم ِم ْن ع ْند َخ ْي ِر‬ ‫ال َّنا ِس‪.‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫غزا جابر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم قِ َبل‬ ‫نجد‪ ،‬و هي غزوة ذات الرقاع كما في الروايه الأخرى ‪،‬‬ ‫وقيل لها ذات الرقاع؛ لأن أقدامهم تن ّقبت‪ -‬وهم في ضعف‬ ‫وحاجة ‪ -‬فصاروا يلفون الخرق على أرجلهم‪ ،‬ليتقوا بها‬ ‫الأرض‬ ‫\"فلما قفل\" يعني‪ :‬فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم‬ ‫يقول جابر رضي الله عنه ‪\" :‬فأدركتهم القائلة في واد كثير‬ ‫ال ِعضاه\"‪ ،‬أدركهم منتصف النهار‪ ،‬وقت القيلولة في واد‬ ‫كثيرة العضاه‪ ،‬والعضاه هو الشجر الذي له شوك‪.‬‬ ‫\"فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس‬ ‫يستظلون بالشجر‪ ،‬ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم‬ ‫تحت َس ُمرة\" وال َّس ُمرة هي شجرة كبيرة من العضاه‪ ،‬فكانوا‬ ‫يتركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم الشجرة التي تكون‬ ‫وافرة الظل‪ ،‬فعلق بها سيفه عليه الصلاة والسلام ‪،‬فنمنا‬ ‫نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا‪ ،‬وإذا‬ ‫عنده أعرابي‪ ،‬والأعرابي المقصود هو من سكن البادية‪.‬‬ ‫فقال‪ \" :‬إن هذا ا ْخ َت َر َط عل ّي سيفي وأنا نائم\" قيل‪ :‬اسمه‬ ‫غورث بن الحارث‪ ،‬جاء فوجد النبي صلى الله عليه وسلم‬ ‫تحت هذه الشجرة نائماً‪ ،‬فأخذ السيف فاستله‪ ،‬ثم استيقظ‬

‫النبي صلى الله عليه وسلم وهو في يده َص ْلتاً‪ ،‬يعني‪ :‬أخرجه‬ ‫من غمده‬ ‫((ا ْخ َت َر َط ال َّس ْيف)) أي س ّله َو ُه َو في يد ِه‪َ (( .‬ص ْل ًتا)) أي‬ ‫مسلو ًلا‬ ‫قال‪ :‬من يمنعك مني؟‪ ،‬قلت‪ \" :‬الله‪ ،‬ثلاثاً \" يحتمل أنه سأل‬ ‫النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات‪ ،‬من يمنعك مني؟‪،‬‬ ‫فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول‪ :‬الله‪ ،‬ثلاث مرات‪،‬‬ ‫ويحتمل أن يكون قال‪ :‬من يمنعك مني؟‪ ،‬فقال النبي صلى‬ ‫الله عليه وسلم ‪ :‬الله‪ ،‬الله‪ ،‬الله‪ ،‬تأكيداً‬ ‫وهذا هو الشاهد في الحديث‪ ،‬قوة يقين النبي صلى الله عليه‬ ‫وسلم بكفاية الله ‪-‬تبارك وتعالى‪ ،-‬وفيه كمال اليقين مع كمال‬ ‫التوكل والتفويض إلى الله ‪-‬تبارك وتعالى‬ ‫يقول‪ :‬ولم يعاقبه‪ ،‬فجلس‪.‬‬ ‫وفي رواية أخرى قال‪ :‬فجاء رجل من المشركين وسيف‬ ‫رسول الله صلى الله عليه وسلم معلقا بالشجرة‪ ،‬فاخترطه‪،‬‬ ‫فقال‪ :‬تخافني؟‪ ،‬قال‪ :‬لا‪ ،‬فقال‪ :‬فمن يمنعك مني؟‪ ،‬قال‪ :‬الله‬ ‫وفي رواية قال‪ :‬من يمنعك مني؟ قال‪ :‬الله‪ ،‬فسقط السيف‬ ‫من يده‪ ،‬فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‪ :‬من‬ ‫يمنعك مني؟ فقال‪ :‬كن خير آخذ فقال‪ :‬تشهد أن لا إله إلا‬ ‫الله‪ ،‬وأني رسول الله؟ قال‪ :‬لا‪ ،‬ولكني أعاهدك ألا أقاتلك‪ ،‬ولا‬ ‫أكون مع قوم يقاتلونك‪ ،‬فخلى سبيله‪ ،‬فأتى أصحابه فقال‪:‬‬ ‫جئتكم من عند خير الناس‬

‫الحديث يدل على كمال يقين رسول الله صلى الله عليه وسلم‬ ‫وثقته بكفاية ربه ‪-‬تبارك وتعالى‪ -‬له‪ ،‬مع شدة توكله على‬ ‫الله‬

‫الحديث التاسع والسبعون‬ ‫عن ُع َمر رضي الله عنه َقالَ‪ :‬سمع ُت َر ُسول الله صلى الله‬ ‫عليه وسلم يقول‪(( :‬لَ ْو أَ َّن ُك ْم َت َت َو َّكلُو َن َعلَى اللهِ َح َّق َت َو ُّكلِ ِه‬ ‫َل َر َز َق ُك ْم َك َما َي ْر ُز ُق ال َّط ْي َر‪َ ،‬ت ْغ ُدو ِخ َما ًصا َو َت ُرو ُح ِب َطا ًنا))‬ ‫رواه الترمذي‪َ ،‬وقالَ‪( :‬حديث حسن)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫أي تذهب أول النهار خماصا‪ :‬أي‪ :‬ضامرة (خاليه) البطون‬ ‫من شدة الجوع وترجع آخر النهار بطانا‪ :‬أي‪ :‬ممتلئة‬ ‫البطون لأنها قد شبعت‬ ‫يقول الإمام ابن رجب الحنبلي ‪ :‬هذا الحديث أصل في‬ ‫التوكل‪ ،‬إذ هو من الأمور التي يستجلب بها الرزق‬ ‫يقول النبي عليه الصلاة والسلام حاثا أمته علي التوكل ((لو‬ ‫إنكم تتوكلون علي الله حق توكله)) أي‪ :‬توكلا حقيقيا‪،‬‬ ‫فتعتمدون علي الله عز وجل اعتمادا تاما في طلب رزقكم‬ ‫وفي غيره‬ ‫((لرزقكم كما يرزق الطير)) الطير رزقها علي الله عز وجل‪،‬‬ ‫لانها ليس لها مالك‪ ،‬فتطير في الجو‪ ،‬وتغدوا إلى أوكارها‪،‬‬ ‫وتستجلب رزق الله عز وجل‬

‫((تغدوا خماصا)) تغدوا‪ :‬أي تذهب أول النهار‪ ،‬لان الغدوة‬ ‫هي أول النهار‪ ،‬وخماصا يعني‪ :‬جائعة كما قال الله تعالى‪:‬‬ ‫( َف َم ِن ا ْض ُط َّر ِفي َم ْخ َم َص ٍة َغ ْي َر ُم َت َجا ِن ٍف لإِ ْث ٍم َفإِ َّن ال َّل َه َغفُو ٌر‬ ‫َر ِحي ٌم) (المائدة‪ :‬من الآية‪ ، )٣‬مخمصة‪ :‬يعني مجاعة‬ ‫((تغدوا خماصا)) يعني جائعة‪ :‬ليس في بطونها شئ‪ ،‬لكنها‬ ‫متوكلة علي ربها عز وجل‬ ‫((وتروح)) أي ترجع في آخر النهار‪ ،‬لان الرواح هو آخر‬ ‫النهار‬ ‫((بطانا)) أي ممتلئة البطون‪ ،‬من رزق الله عز وجل‬ ‫ففي هذا دليل على مسائل ‪:‬‬ ‫أولا ‪ :‬انه ينبغي للإنسان إن يعتمد علي الله تعالى حق‬ ‫الاعتماد‬ ‫ثانيا‪ :‬انه ما من دابة في الأرض إلا علي الله رزقها‬ ‫وفي هذا الحديث‪ :‬دليل علي إن الإنسان إذا توكل علي الله‬ ‫حق التوكل فليفعل الأسباب‪ .‬ولقد ضل من قال لا افعل‬ ‫السبب‪ ،‬وأنا متوكل‪ ،‬فهذا غير صحيح‬ ‫المتوكل‪ :‬هو الذي يفعل الأسباب متوكلا علي الله عز وجل‪،‬‬ ‫ولهذا قال عليه الصلاة والسلام‪(( :‬كما يرزق الطير تغدوا‬

‫خماصا)) تذهب لتطلب الرزق‪ ،‬لا تبقي في أوكارها‪ ،‬لكنها‬ ‫تغدوا وتطلب الرزق‪.‬‬ ‫فأنت إذا توكلت علي الله حق التوكل‪ ،‬فلا بد أن تفعل‬ ‫الأسباب التي شرعها الله لك من طلب الرزق من وجه‬ ‫حلال‪ ،‬اطلب الرزق معتمدا علي الله‪ ،‬ييسر الله لك الرزق‬ ‫فالإنسان الذي يتوكل على الله حق التوكل هو الإنسان الذي‬ ‫يرتبط قلبه بالله‪ ،‬ويعلم أن الله هو مسبب الأسباب‪ ،‬وأن‬ ‫أز ّمة الأمور في يده‪ ،‬وأن ما شاء كان‪ ،‬وما لم يشأ لم يكن‪،‬‬ ‫والله قد أجرى سنته بأن يتوكل الإنسان‪ ،‬وأن يتسبب والله ‪-‬‬ ‫تبارك وتعالى‪ -‬يقدر لمن شاء ما شاء‪.‬‬

‫الحديث الثمانون‬ ‫عن البرا ِء رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ لي َر ُسول الله صلى الله‬ ‫عليه وسلم ‪« :‬إِ َذا أَ َتي َت َم ْض َج َع َك َف َتو َّضأْ و ُضو َء َك لِل َّصلا ِة ‪،‬‬ ‫ُث َّم ا ْض َط ِج ْع َعلى ِش ِّق َك الأَي َم ِن ‪ ،‬وقلْ ‪ :‬ال َّل ُه َّم أَ ْس َل ْم ُت نفِسي‬ ‫إِلَي َك َو َو َّج ْه ُت َو ْج ِهي إِ َل ْي َك ‪َ .‬و َف َّوض ُت أَمري إِ َل ْي َك ‪َ ،‬وأَلَ َجأْ ُت‬ ‫َظه ِري إِلَ ْي َك ‪ ،‬رغب ًة ور ْه َب ًة إِ َل ْي َك ‪ ،‬لا َملجأَ ولا َمنجي ِم ْن َك إِلاَّ‬ ‫إِلي َك ‪ ،‬آمن ُت بِ ِك َتابِ َك ال ِذي أَن َز ْلت ‪َ ،‬وبِ َن ِب ِّي َك ال ِذي أَر َسل َت ‪ ،‬فإِ ْن‬ ‫ِم َّت ‪ِ .‬م َّت على الفِطر ِة ‪ ،‬وا ْج َعلهُ َّن آ ِخ َر ما َتقُولُ »‬ ‫(متفق عليه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫وفي رواية أخري في الصحيحين عن البرا ِء رضي الله عنه‬ ‫(( َيا فُلا ُن‪ ،‬إِ َذا أَ َو ْي َت إِ َلى فرا ِش َك‪َ ،‬فقُل‪ :‬اللَّ ُه َّم أ ْسلَم ُت َن ْفسي‬ ‫إلَ ْي َك‪َ ،‬و َو َّجه ُت َو ْج ِهي إ َل ْي َك‪َ ،‬و َف َّوض ُت أَ ْمري إ َل ْي َك‪َ ،‬وأَلجأْ ُت‬ ‫َظهري إلَ ْي َك َرغ َب ًة َو َره َب ًة إلَ ْي َك‪ ،‬لا َم ْل َجأ َولا َم ْن َجا ِم ْن َك إلا‬ ‫إلَ ْي َك‪ ،‬آم ْن ُت بِ ِك َتا ِب َك الَّ ِذي أ ْن َز ْل َت؛ َو َنبِ ِّي َك ا َلّ ِذي أَ ْر َس ْل َت‪َ .‬فإِ َّن‬ ‫ِم َّت ِم ْن لَيلَتِ َك ِم َّت َعلَى الفِ ْط َر ِة‪َ ،‬وإِ ْن أ ْص َب ْح َت أَ َص ْب َت َخي ًرا))‬ ‫\" اللَّه َّم أسلمت نفسي إليك \" أي‪ :‬إنني يا الله قد رضي ُت‬ ‫َتمام ال ِّرضا أن تكون نفسي تحت مشيئتك‪َ ،‬ت َتص َّرف فيها بما‬ ‫شئ َت وتقضي فيها بما أرد َت من إمساكها أو إرسالها‪ ،‬فأنت‬

‫الذي بيده مقاليد السموات والأرض‪ ،‬ونواصي العباد‬ ‫جميعهم معقودةٌ بقضائك وقدرك تقضي فيهم بما أرد َت‪،‬‬ ‫وتحكم فيهم بما تشاء‪ ،‬لا را َّد لقضائك ولا مع ِّقب لحكمك‪.‬‬ ‫\"وف َّوض ُت أمري إليك\" أي ‪ :‬جعل ُت شأنِي ك َلّه إليك‪ ،‬وفي‬ ‫هذا الاعتما ُد على الله عز وجل والتوكل التام عليه‪ ،‬إذ لا‬ ‫حول للعبد ولا ق َّوة إلاَّ به سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫\"وألجأ ُت ظهري إليك\" أي‪:‬أسند ُته إلى حفظك ورعايتك لما‬ ‫علم ُت أ َّنه لا سند ُيتقوى به سواك‪ ،‬ولا ينفع أحداً إلاَّ حماك‪،‬‬ ‫وفي هذا إشارةٌ إلى افتقار العبد إلى الله جل وعلا في شأنه‬ ‫ك ِّله في نومه ويقظته وحركته وسكونه وسائر أحواله‪.‬‬ ‫\"رغب ًة ورهبة إليك\" أي‪:‬إ َّنني أقول ما سبق ك َّله وأنا راغ ٌب‬ ‫راهب‪ ،‬أي‪ :‬راغ ٌب تمام الرغبة في فضلك الواسع وإنعامك‬ ‫العظيم‪ ،‬وراه ٌب منك ومن كلِّ أمر يوقع في سخطك‪ ،‬وهذا‬ ‫هو شأن الأنبياء والصالحين من عباد الله يجمعون في‬ ‫دعائهم بين ال َّر َغب وال َّر َهب‪ ،‬كما قال الله تعالى‪{ :‬إِ َّن ُه ْم َكا ُنوا‬ ‫ُي َسا ِر ُعو َن فِي ا ْل َخ ْي َرا ِت َو َي ْد ُعو َن َنا َر َغباً َو َر َهباً َو َكا ُنوا لَ َنا‬ ‫َخا ِش ِعي َن [الأنبياء‪]90 :‬‬

‫\"لا ملجأ ولا منجى منك إلاَّ إليك\" أي‪:‬لا ملاذ ولا مه َر َب ولا‬ ‫َم ْخ َل َص من عقوبتك إلاَّ بالفزع إليك والاعتماد عليك‬ ‫\"آمن ُت بكتابك الذي أنزلت وبنب ِّيك الذي أرسلت\" أي‪ :‬آمن ُت‬ ‫بكتابك العظيم القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين‬ ‫يديه ولا من خلفه َت ْنزيلٌ من حكيم حميد‪ ،‬آمنت وأقرر ٌت أ َّنه‬ ‫وحيك و َت ْنزيلك على عبدك ورسولك نب ِّينا محمد صلى الله‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬وأ َّنه مشتملٌ على الحق والهدى والنور‪.‬‬ ‫وآمنت كذلك بنب ِّيك الذي أرسل َت وهو محمد صلى الله عليه‬ ‫وسلم عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه‪ ،‬المبعوث رحم ًة‬ ‫للعالمين‪ ،‬آمنت به وبكلِّ ما جاء به‪ ،‬فهو صلى الله عليه‬ ‫وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلاَّ وح ٌي يوحى‪ ،‬فكلُّ ما‬ ‫جاء به فهو صد ٌق وح ٌّق‬

‫الحديث الحادي والثمانون‬ ‫عن أبي بك ٍر ال ِّصديق رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬ن َظر ُت إِ َلى أَ ْق َدا ِم‬ ‫ال ُم ْش ِركي َن َو َنح ُن في ال َغا ِر َو ُه ْم َعلَى ُر ُؤو ِسنا‪ ،‬فقل ُت‪َ :‬يا‬ ‫رسولَ الله‪ ،‬لَ ْو أَ َّن أَ َح َد ُه ْم َن َظ َر َت ْح َت َق َد َمي ِه لأَ ْب َص َر َنا‪َ .‬ف َقالَ‪:‬‬ ‫(( َما َظ ُّن َك َيا أَبا َبك ٍر باث َن ْي ِن الله َثالِ ُثهُ َما))‬ ‫(متفق عليه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫م ِن اع َتص َم بِاللهِ تعالى كفاه ع َّمن سواه؛ فهو ِنعم ال َّناص ُر‬ ‫و ِنعم المعي ُن‪ ،‬و َمع َّي ُته تعالى هي المع َّي ُة الحقيق َّية‪ ،‬وما سواها‬ ‫مع َّي ٌة كاذب ٌة زائف ٌة‪ .‬وكان صلي الله عليه وسلم إما َم‬ ‫المتو ِّكلي َن على الله تعالى‪َ ،‬يعل ُم أ َّنه نا ِص ٌر عب َده‪ ،‬وأ َّنه معه‬ ‫ب َنص ِره وقُدرتِه وحماي ِته في كلِّ وق ٍت وحي ٍن‪.‬‬ ‫وفي هذا الحدي ِث أ َّنه َل َّما اقتر َب المش ِركون من النبي صلي‬ ‫الله عليه وسلم وأبي بك ٍر ر ِضي اللهُ عنه وهما في غا ِر ثو ٍر‬ ‫في أثنا ِء ِهجر ِتهما إلى المدين ِة‪ ،‬وخش َي أبو بكر ر ِضي اللهُ‬ ‫عنه ِمن ُرؤيتِهما لهما لِقربِهما ال َّشدي ِد‪.‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook