قلت مبالاته ،فلم يعد يلتفت إلى شيء ،حتى إنه يصير إلى حال يستوي عنده فيها الإحسان والإساءة ،فلا يرعوي. يدل الحديث على وجوب المراقبة والحذر ،وأن ينظر الإنسان ماذا يفعل حتى لا يقدم على معصية تغضب الله عليه و فيه :كمال مراقبة الصحابة رضي الله عنهم لله تعالى، وكمال استحيائهم منه. و فيه :أ َّن الإنسان ينبغي له أن يحذر من صغار الذنوب، فلعلها تكون المهلكة له في دينه
الحديث الرابع و الستون عن أبي هرير َة رضي الله عنه عن اال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم َقالَ: ((إ َّن الله َت َعا َلى َي َغا ُرَ ،و َغي َرةُ الله َت َعا َلى ،أ ْن َيأتِ َي ال َم ْر ُء َما َح َّر َم الله َع َلي ِه)) (متفق َعلَي ِه) شرح الحديث (( إ ّن الله تعالى يغار وغيرة الله تعالى أن يأتي المرء ما حرم الله )) الله سبحانه يغار ،لا أحد أغير من الله جل وعلا ،وغيرته إذا انتهكت محارمه ،يغار بمعنى يغضب على من أقدم على ما ح ّرم الله. والغيرة على أنوا ٍع متع ّددة :فمنها غيرة الله تعالى إذا انتهكت محارمه ،فالله -تبارك وتعالى -قد أمر عباده بالتوحيد ،ونهاهم عن أعظم جرم وهو الإشراك بالله -تبارك وتعالى ،لأن ذلك يحصل فيه شكر غير المنعم وعبادة غير المنعم. فالله يغار على عبده أن يعبد غيره ،وأن يتوجه إلى غيره بتذليل نفسه وتعبيدها إلى هذا الغير ،سواء كان ذلك بعبادته
عبادة مباشرة ،أو كان ذلك بتعلق القلب ،فإن الله يغار على قلب عبده المؤمن أن يتوجه إلى غيره ،وأن يشتغل بغيره، وأن يمتلئ بحب غيره محبة تزاحم محبة الله في هذا القلب. كما أ َّن الله يغار على عبده المؤمن أن يواقع شيئاً من الفواحش والموبقات ،وما إلى ذلك من ألوان الذنوب والمعاصي. و لذلك في الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم : (( ما أحد أغير من الله سبحانه أن يزني عبده ،أو تزني أَ َم ُته )) فالواجب على المؤمن الحذر من السيئات ،والحرص على البعد منها ،والتوبة إلى الله مما سلف ،لأنه ربما أقدم على معصية فيغضب الله عليه ويهلك بسبب ذلك.
الحديث الخامس و الستون عن أبي هرير َة رضي الله عنه :أ َّنه َس ِم َع ال َّنب َّي صلى الله عليه وسلم ،يقُولُ (( :إ َّن َثلا َث ًة ِم ْن َبني إِ ْس َرا ِئيلَ :أ ْب َر َص، َوأَ ْق َر َعَ ،وأَ ْع َمى ،أَ َرا َد اللهُ أ ْن َي ْب َتل َي ُه ْم َف َب َع َث إِل ْيه ْم َملَ ًكاَ ،فأَ َتى الأَ ْب َر َصَ ،ف َقالَ :أَ ُّي َشي ٍء أَ َح ُّب إ َل ْي َك؟ َقالََ :ل ْو ٌن َحس ٌنَ ،و ِجل ٌد َح َس ٌنَ ،و َي ْذه ُب َع ِّني الَّ ِذي َق ْد َق ِذ َر ِني ال َّنا ُس؛ َف َم َس َح ُه َف َذ َه َب َع ْن ُه َق َذ ُرهُ َوأُ ْع ِط َي َلو ًنا َحس ًنا و ِج ْل ًدا َح َس ًناَ .ف َقالََ :فأ ُّي ال َما ِل أَ َح ُّب إِلي َك؟ َقالَ :الإِبلُ -أَ ْو قالَ :ال َب َق ُر ش َّك ال َّراويَ -فأُع ِط َي َنا َق ًة ُع َش َرا َءَ ،ف َقالََ :بار َك الله لَ َك ِفي َهاَ .فأَ َتى الأَ ْق َر َعَ ،ف َقالَ: أَ ُّي َشي ٍء أَ َح ُّب إ َل ْي َك؟ َقالََ :ش ْع ٌر َح َس ٌنَ ،و َي ْذ َه ُب َع ِّني َه َذا الَّ ِذي َق ِذ َرني ال َّنا ُس؛ َف َم َس َح ُه َف َذه َب َع ْن ُه وأُ ْع ِط َي َشع ًرا َح َس ًنا. قالََ :فأَ ُّي ال َما ِل أَ َح ُّب إِل ْي َك؟ َقالَ :ال َب َق ُرَ ،فأُ ْع ِط َي َب َق َر ًة َحا ِم ًلا، َوقالََ :با َر َك الله َل َك ِفي َها. َفأَ َتى الأَ ْع َمىَ ،ف َقالَ :أَ ُّي َشي ٍء أَ َح ُّب إِ َل ْي َك؟ َقالَ :أَ ْن َي ُر َّد الله إِلَ َّي َب َص ِري َفأُ ْب ِص ُر ِب ِه ال َّنا َس؛ َف َم َس َح ُه َف َر َّد اللهُ إِلَ ْي ِه َب َصرهُ. َقالََ :فأَ ُّي ال َما ِل أَ َح ُّب إِل ْي َك؟ َقالَ :ال َغ َن ُمَ ،فأُ ْع ِط َي َشا ًة وال ًدا، َفأَ ْن َت َج ه َذا ِن َو َو ّلَ َد َه َذاَ ،فكا َن لِه َذا َوا ٍد ِم َن الإِب ِلَ ،ولِه َذا َوا ٍد ِم َن ال َب َق ِرَ ،ولِ َه َذا َوا ٍد ِم َن ال َغ َن ِم. ُث َّم إ َّن ُه أَ َتى الأَ ْب َر َص في ُصو َرتِ ِه َو َهي َئ ِت ِهَ ،ف َقالََ :رجلٌ ِم ْسكي ٌن َق ِد ان َق َط َع ْت بِ َي ال ِح َبالُ في َس َفري َفلا َبلا َغ لِ َي ال َيو َم إلا باللهِ ُث َّم ِب َك ،أَ ْسأَلُ َك بِالَّذي أ ْع َطا َك اللَّو َن ال َح َس َن ،وال ِج ْل َد ال َح َس َن، َوال َمالََ ،ب ِعي ًرا أَ َت َبلَّ ُغ بِ ِه في َس َفريَ ،ف َقالَ :ال ُحقُو ُق ك ِثيرةٌ.
َف َقالَ :كأ ِّني ا ْع ِرفُ َك ،أَلَ ْم َت ُك ْن أَ ْب َر َص َي ْق َذ ُر َك ال َّنا ُس فقي ًرا فأ ْع َطا َك اللهُ !؟ َف َقالَ :إِ َّن َما َو ِر ْث ُت َه َذا المالَ َكابِ ًرا َع ْن َكابِ ٍر، َف َقالَ :إ ْن ُك ْن َت َكا ِذ ًبا َف َص َّي َر َك الله إِ َلى َما ُك ْن َت. َوأَ َتى الأَ ْق َر َع في ُصو َر ِت ِه َو َه ْي َئ ِت ِهَ ،ف َقالَ َل ُه ِم ْثلَ َما َقالَ لِ َهذا، َو َر َّد َع َلي ِه ِم ْثلَ َما َر َّد َه َذاَ ،ف َقالَ :إ ْن ُك ْن َت َكا ِذ ًبا َف َص َّي َر َك اللهُ إِلَى َما ُك ْن َت. َوأَ َتى الأَ ْع َمى في ُصو َر ِت ِه َو َه ْي َئ ِت ِهَ ،ف َقالََ :ر ُجلٌ ِم ْسكي ٌن واب ُن َسبي ٍل ا ْن َق َطع ْت بِ َي ال ِح َبالُ في َس َف ِريَ ،فلا َبلاَ َغ لِ َي ال َيو َم إلا ِباللهِ ُث َّم بِ َك ،أَسأَلُ َك با َّل ِذي َر َّد َع َل ْي َك َب َصر َك َشا ًة أَ َت َب ّلَ ُغ بِ َها في َسفري؟ َف َقالََ :ق ْد ُك ْن ُت أع َمى َف َر َّد اللهُ إِ َل َّي َب َص ِري َف ُخ ْذ َما ِش ْئ َت َو َد ْع َما ِش ْئ َت َف َواللهِ لا أ ْج َه ُد َك ال َيو َم بِ َشي ٍء أ َخ ْذ َت ُه لل ِه - عز وجلَ . -ف َقالَ :أ ْم ِس ْك مالَ َك ِفإ َّن َما ا ْب ُتلِي ُت ْمَ .ف َق ْد رضي الله عنكَ ،و َس ِخ َط َعلَى َصا ِح َبي َك )) ( ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه ) شرح الحديث ذكر المؤلف خبر الأبرص والأقرع والأعمى ،هؤلاء ثلاثة فيمن كانوا قبلنا ق ّص النب ّي صلى الله عليه وسلم علينا قصتهم للحذر والمراقبة والبعد عن أسباب غضب الله ثلاثة فيمن قبلنا :واح ٌد أبرص ،البرص بياض في جسم الإنسان معروف ،و القرع عدم وجود الشعر في الرأس ،و
أعمى قد ذهب بصره ،فجاءهم َملَ ٌك بأمر الله اختبار وابتلاء، ابتلاهم سبحانه بالسراء والضراء ،ابتلاهم بالضراء بالبرص والقرع والعمى ،ثم ابتلاهم بالنعمة والعافية والمال. جاء ال َملَ ُك إلى الأبرص في صورة إنسان فقال :أ ّي شيء أح ّب إليك؟ قال :أن يذهب عني هذا البرص الذي قد قذرني الناس به، هذا أحب شيء إليه أن الله يعافيني من البرص ،فمسحه ال َملَ ُك وصار في أحسن حاله ،ذهب عنه البرص ،فقال :أي المال أح ّب إليك؟ قال :الإبل ،فأُع ِط َي ناقة عشراء في بطنها ولد ،وقال له ال َم َلك :بارك الله لك فيها -وهو في صورة إنسان. ثم أتى الأقرع فقال :أ ّي شيء أحب إليك؟ قال :أن يذهب عني هذا القرع ،وأن يحصل لي شعراً حسناً ،لأ ّن هذا قد ق ّذرني الناس به وعابني الناس به ،فمسح رأسه فأعطاه الله شعراً حسناً ،ثم قال له :أ ّي المال أح ّب إليك؟ قال :البقر، فأعطي بقرة حاملاً. ثم أتى الأعمى فقال :أي شيء أحب إليك؟ قال :أن يرد الله إلي بصري ،فأبصر به الناس ،هذا أحب شيء إلي ،فمسح على عينيه فر ّد الله عليه بصره بأمر الله ،فقال :أي المال أحب إليك؟ قال :الغنم ،فأعطي شاة والداً ،يعني ولود تنتج.
ثم ذهب عنهم ما شاء الله من ال ّزمان ،ثم أرسله الله إليهم بعد مدة ،بعدما كثرت أموالهم جاءهم ،جاء الأبرص في صورة أبرص ،وجاء الأقرع في صورة أقرع ،وجاء الأعمى في صورة أعمى ،يذكرهم بحالهم الأولى. فجاء إلى الأبرص في صورة أبرص فقال :رجلٌ مسكي ٌن وابن سبيل ،يعني :أنا فقير وعلى الطريق ابن طريق ،قد انقطعت بي الحبال ،يعني :الأسباب في سفري هذا ،أسألك بالذي أعطاك الجلد الحسن واللون الحسن ،يذكره بحاله الأولى ،يذكره ببرصه وفقره ،أسألك بالذي أعطاك الجلد الحسن واللون الحسن والمال بعير واحد أتبلغ به في سفري فقال الرجل الأبرص :الحقوق كثيرة ،يعني ما أنا معطيك، علي واردات كثيرة وعلي حقوق كثيرة ،ما أقدر أن أعطيك. قال :ألم تكن أبرص فقير ،كأني أعرفك ،قال :إنما ورثت هذا المال َجداً عن َج ْد ،وأنكر نعمة الله عليه بالمال ،فقال الملك: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت ،أجاب الله دعوة الملك فرجع أبرص فقيراً ثم أتى الأقرع فقال له مثل ماقال للأبرص ورد عليه بمثل مارد عليه الأبرص ،فقال :إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت ،دعا عليه. ثم أتى الأعمى في صورته كفيف فقال :أنا رجل مسكين وابن سبيل ،انقطعت بي الحبال في سفري هذا ،أسألك
بالذي رد عليك بصرك وأعطاك المال شاة واحدة أتبلغ بها في سفري؟ قال :نعم ،قد كنت أعمى فرد الله إل ّي بصري ،وفقير فأعطاني الله المال ،فخذ ما شئت ودع ما شئت ،هذا السخاء العظيم. فوالله لا أجهدك في شيء أخذته لله ،ما أمنعك ولا أش ّق عليك ،هذا المال بين يديك خذ ما تشاء ودع ما تشاء ،يقوله الأعمى لهذا الملك الذي جاء في صورة فقير أعمى. فقال له ال َملَك :أمسك عليك مالك ،مالك لك ما أنا آخذ شيء، إنما هو ابتلاء من الله لكم ،أنت والأبرص والأقرع ،فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك ،وسخط على صاحبيك ،رضي عنه لأنه أقر بالمال ،وأقر بالنعمة ،وجاد وتفضل وأحسن، وسخط على صاحبيك لإنكارهما النعمة ،وبخلهم بالحق فالقصة فيها الح ّث على الجود والكرم والإحسان ،وتذكر نعم الله على الإنسان الذي تفضل عليه في بدنه ،في ماله، فلاينسي ويتصدق على الفقراء ،ويشكر الله ،لا يبخل ،فالله عنده الخلف وعنده الأجر ،فهذه القصة فيها العبر. الأعمى راق َب الله واتقى الله فلم يض ّره شيء ،ماله بقي له، وكل شيء بقي له ،والأبرص والأقرع لم يراقبا الله بل كذبا وافتريا وجحدا الحق ،فر ّد الله حالهم إلى حالهم الأولى أبرص أقرع فقير ،هذه عقوبا ِت الذنوب العاجلة غير الآجلة
الحديث السادس و الستون عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم َقالَ(( :ال َك ِّي ُس َم ْن َدا َن َن ْف َس ُهَ ،و َع ِملَ لِ َما بع َد ال َمو ِت ،وال َعا ِج ُز َم ْن أ ْت َب َع َن ْف َس ُه َهوا َها َو َتم َّنى َعلَى اللهِ)) ( رواه الترمذي ) ضعيف ( ضعفه الألباني ) ( تحقيق رياض الصالحين للألباني ) تخريج الحديث : [ أخرجه الترمذي ،وهو حديث ضعيف في إسناده ابن أبي مريم الغساني وهو في عداد الضعفاء ،قال عنه أحمد بن حنبل :ضعيف ليس بشيء ،وقال أبو زرعة الرازي : ضعيف منكر الحديث ،واستنكر هذا الحديث ابن عدي الجرجاني ] شرح الحديث قال الترمذي وغيره من العلماء :معنى (( :دان نفسه )) أي :حاسبها (( .الكيس )) معناه الإنسان الحازم الذي يغتنم الفرص ويتخذ لنفسه الحيطة حتى لا تفوت عليه الأيام والليالي فيضيع. ((من دان نفسه)) أي :من حاسبها ونظر ما فعل من المأمورات وماذا ترك من المهينات :هل قام بما أمر به،
وهل ترك ما نهي عنه ،فإذا رأي من نفسه تفريطا في الواجب استدركه إذا أمكن استدراكه ،وقام به أو بدله ،وإذا راء من نفسه انتهاكا لمحرم اقلع عنه وندم وتاب واستغفر. (( وعمل لما بعد الموت )) يعني عمل للآخرة ،لان كل ما بعد الموت فانه من الآخرة ،وهذا هو الحق والحزم ،إن الإنسان يعمل لما بعد الموت ،لأنه في هذه الدنيا مارا بها مرورا ،فاذا فرط ومضت عليه الأيام وأضاعها في غير ما ينفعه في الآخرة فليس بكيس ،الكيس هو الذي يعمل لما بعد الموت. و العاجز من اتبع نفسه هواها وصار لا يهتم إلا بأمور الدنيا ،فيتبع نفسه هواها في التفريط في الأوامر ،ويتبع نفسه هواها في فعل النواهي ،ثم يتمنى على الله الأماني فيقول :الله غفور رحيم ،وسوف أتوب إلى الله في المستقبل، وسوف أُصلح من حالي إذا كبرت ،وما أشبه من الأماني الكاذبة التي يمليها الشيطان عليه ،فربما يدركها وربما لا يدركها. ففي هذا الحديث :الح ّث على انتهاز الفرص ،وعلى أن لا يضيع الإنسان من وقته فرصة إلا فيما يرضي الله -عز وجل -و أن يدع الكسل والتهاون والتمني ،فإ ّن التمني لا يفيد شيئاً ،كما قال الحسن البصري رحمه الله (( :ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ،ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقته الأعمال ))
الحديث السابع و الستون عن أبي هريرة رضي الله عنه َقالََ :قالَ َر ُسول الله صلي الله عليه وسلمِ (( :م ْن ُح ْس ِن إ ْسلا ِم ال َم ْر ِء َت ْر ُك ُه َما لا َي ْع ِني ِه)) رواه الترمذي ( و صححه الألبان ّي ) شرح الحديث إسلام المرء هو استسلامه لله -عز وجل -ظاهراً وباطناً. فأما باطناً فاستسلام العبد لربه بإصلاح عقيدته وإصلاح قلبه ،وذلك بأن يكون مؤمناً بكلّ ما يجب الإيمان به. و أما الاستسلام ظاهراً فهو إصلاح عمله الظاهر ،كأقواله بلسانه وأفعاله بجوارحه .والناس يختلفون في الإسلام اختلافاً ظاهراً كثيراً. و إذا كان الناس يختلفون في الإسلام ،فإن مما يزيد في حسن إسلام المرء أن يدع ما لا يعنيه ولا يهمه لا في دينه ولا في دنياه. فالإنسان المسلم إذا أراد إن يجعل إسلامه حسناً فليدع ما لا يعنيه ،فالشيء الذي ليس له أهم ّية في دينه ودنياه الأفضل تركه. كذلك أيضاً أن لا تتدخل في شؤون الناس إذا كان هذا لا يهمك ،وهذا خلاف ما يفعله بعض الناس اليوم ،من حرصه
على اطلاعه على أعراض الناس وأحوالهم ،فالأمور التي لا تعنيك اتركها ،فإن هذا من حسن إسلامك ،وهو أيضا فيه راحة للإنسان. فاجعل ه ّمك ه ّم نفسك ،و انظر إلى ما ينفعك فافعله ،والذي لا ينفعك اتركه ،فليس من حسن إسلامك أن تبحث عن أشياء لا تهمك .و لو أننا فعلنا ذلك لحصل خيراً كثيراً. هذا الحديث أصل عظي ٌم من أصول الأدب. قيل للقمان :ما بلغ بك ما نرى؟ قالِ :ص ْد ُق الحديث ،وأداء الأمانة ،وت ْر ُك ما لا يعنيني. وقال سهل بن عبد الله ال ُّت ْس َتريَ :من تك َّلم فيما لا يعنيه ُحرم الصدق. قال الغزالي :ح ُّد ما لا يعنيك في الكلام :أ ْن تتكلَّم بما لو َس َك َّت عنه لم تأثم ،ولم تتضرر حا ًلا ولا مآ ًلا
الحديث الثامن و الستون عن ُع َم َر رضي الله عنه َع ِن ال َّنب ّي صلي الله عليه وسلم َقالَ: ((لا ُي ْسأَلُ ال َّر ُجلُ فِي َم َض َر َب ا ْم َرأَ َت ُه)) رواه أبو داود وغيره ضعيف (ضعفه الألباني) (تحقيق رياض الصالحين للألباني) شرح الحديث أن الرجل المتقي لله -عز وجل -الذي انتهي به الأمر إلى آخر المراتب الثلاث التي أشار الله إليها في قوله تعالى: { َوال َّلاتِي َت َخافُو َن ُن ُشو َز ُه َّن َف ِع ُظو ُه َّن َوا ْه ُج ُرو ُه َّن ِفي ا ْل َم َضا ِج ِاعل َّلَهَوا َكاْض َ ِنر ُب َعولِ ُّهياًَّن َك َفِبإِي ْرناًأَ َط(ْعا َنلنُك ْمسا َفلءا: إِ َّن َت ْب ُغوا َعلَ ْي ِه َّن َسبِيلاً من الآية)٣4 فالضرب آخر المراتب ،فقد يضرب الرجل زوجته على أمر ُيستحيا من ذكره ،فإذا ُعلِ َم تقوى الرجل لله -عز وجل- وضرب امرأته فإنه لا ُيسأل ،هذا إن ص ّح الحديث ،ولك ّن الحديث ضعيف. أما من كان سيئ العشرة فهذا ُيسال فيم ضرب امرأته ،لأ ّنه ليس عنده من تقوى الله تعالى ما يردعه عن ظلمها وضربها ،حيث لا تستحق أن ُتضرب
المقدمه باب التقوى الحديث التاسع و الستون عن أبي هرير َة رضي الله عنه َقالَِ (( :قيلََ :يا رسولَ الله، َم ْن أكر ُم ال َّناس؟ َقالَ(( :أَ ْت َقا ُه ْم)) .فقالوا :لَ ْي َس عن َه َذا نسألُ َكَ ،قالَُ َ :يو ُس ُف َنبِ ُّي اللهِ اب ُن َنبِ ِّي اللهِ اب ِن َنب ِّي اللهِ اب ِن خلي ِل الل ِه ،قالوا :لَ ْي َس عن َه َذا نسألُ َكَ ،قالََ :ف َع ْن َم َعا ِد ِن ال َع َر ِب َت ْسأَلوني؟ ِخ َيا ُر ُه ْم في ال َجا ِهل َّي ِة ِخ َيا ُر ُه ْم في الإِ ْسلا ِم إِ َذا فقُ ُهوا)) ( ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه ) شرح الحديث فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوه (( من أكرم الناس؟ )) وهذا السؤال ُي ْح َتمل أن يكون السائل مريداً به الكرم الذي بمعنى البذل ،والجود و ُي ْح َتمل أن يكون المراد به شرف النسب و ُي ْح َتمل أن يكون المراد به أن يكون الإنسان ماجداً نبيلاً ،من خيار الناس معدناً. فسألوا ذلك لحرصهم ،واهتمامهم بالأمور التي يحصل بها الارتقاء ،وتحصيل المراتب العالية ،فكانت ه ّمتهم منصرف ٌة
إلى هذه المعاني ،كانوا يبحثون عن الأمور التي يحصل بها النبل ،ويحصل بها الرقي للنفس. فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة بقوله: ((اتقاهم)) يعني أن أكرم الناس أتقاهم لله عز وجل وهذا الجواب مطاب ٌق تماماً لقوله تعالى( :إِ َّن أَ ْك َر َم ُك ْم ِع ْن َد ال َّلهِ أَ ْت َقا ُك ْم) (الحجرات :من الآية)1٣ فالله -سبحانه وتعالى -لا ينظر إلى الناس من حيث النسب ، ولا من حيث المال ،ولا من حيث الجمال ،و إنما ينظر سبحانه إلى الأعمال ،فأكرم الناس عنده أتقاهم له ،ففي هذا حث على تقوى الله عز وجل ،وإ ّنه كلّما كان الإنسان اتقى لله فهو أكرم عنده. و لكن الصحابة لا يريدون بهذا السؤال الأكرم عند الله! ((قالوا :لسنا عن هذا نسألك)). فذكر لهم جواباً على أحد احتمالات السؤال ،وهو أنهم سألوا عن كرم النسب ،فقال إن أكرم الخلق يوسف ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله ،فهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ،فانه -عليه السلام -كان نبياً من سلالة الأنبياء ،فكان من أكرم الخلق. قالوا :لسنا عن هذا نسألك قال (( :فعن معادن العرب تسألوني؟ )) معادن العرب يعني أصولهم وأنسابهم!
فقهوا ،بمعنى إذا علموا من الدين ،وصار لهم فقه فيه، وتهذبت نفوسهم وأرواحهم ،فإن الإسلام لا يزيد تلك المعادن الجيدة التي كانت في الجاهلية إلا زكا ًء ونقا ًء وتطهيراً وتهذيباً. فإن لم يكونوا فقهاء فإنه و إن كانوا من خيار العرب معدناً فإنهم ليسوا أكرم الخلق عند الله ،وليسو خيار الخلق. ففي هذا دليل على أن الإنسان يشرف بنسبه ،لكن بشرط أن يكون له فقه في دينه. و الشاهد من هذا الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم أن أكرم الخلق أتقاهم لله .فكلما كان الإنسان لله أتقى كان عنده أكرم.
الحديث السبعون عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم َقالَ (( :إ َّن ال ُّد ْن َيا ُح ْل َوةٌ َخ ِضرةٌ ،وإ َّن اللهَ ُم ْس َت ْخلِفُ ُك ْم ِفي َها َف َي ْن ُظ َر َكي َف َت ْع َملُو َنَ ،فا َّتقُوا ال ُّد ْن َيا َوا َّتقُوا ال ِّن َساء؛ فإ َّن أَ َّولَ فِ ْت َن ِة َبنِي إسرائيلَ َكا َن ْت في ال ِّن َسا ِء )) (رواه مسلم) شرح الحديث هذا الحديث ساقه المؤلف -رحمه الله -لما فيه من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتقوى ،بعد أن ذكر حال الدنيا فقال: (( إن الدنيا حلوة خضرة )) حلوة في المذاق خضرة في المرأى ،والشيء إذا كان خضراً حلواً فإن العين تطلبه أولاً ،ثم تطلبه النفس ثانياً ،والشيء إذا اجتمع فيه طلب العين وطلب النفس ،فإنه يوشك للإنسان أن يقع فيه. فالدنيا حلوة في مذاقها ،خضرة في مرأها ،فيغت ّر الإنسان بها وينهمك فيها ويجعلها أكبر ه ّمه ،ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ب ّين أن الله – تعالى -مستخلفنا فيها فينظر كيف نعمل ،فقال:
(( وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون )) هل تقومون بطاعته ،وتنهون النفس عن الهوى ،وتقومون بما أوجب الله عليكم ،ولا تغترون بالدنيا ،أو إن الأمر بالعكس؟ ولهذا قال: (( فاتقوا الدنيا )) أي :قوموا بما أمركم به الله ،واتركوا ما نهاكم عنه ،ولا تغرنكم حلاوة الدنيا ونضرتها .كما قال تعالىَ ( :فلا َت ُغ َّر َّن ُك ُم ا ْل َح َياةُ ال ُّد ْن َيا َولا َي ُغ َّر َّن ُك ْم بِال َّل ِه ا ْل َغ ُرو ُر) (لقمان :من الآية. )٣٣ فاتقوا الدنيا ليس معنى ذلك أن يتخلى الإنسان عنها ولا يعمرها ،و إنما يأخذ المال من حله ،ويتصرف فيه بحله، وينفق في حله في وجوه النفقات المشروعة والمباحة فقط، ويؤدي حق الله فيه. ثم قال (( :واتقوا النساء )) أي :احذروا النساء وفتنتهن فالنساء من الدنيا ،وذكرها بعد الدنيا؛ لأنها من أعظم الفتنة التي في الدنيا ،وإذا فسدت المرأة ،فسد المجتمع. و لهذا قال(( :فان أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) فافتتنوا في النساء ،فضلوا وأضلوا ،ولذلك نجد أعداءنا وأعداء ديننا يركزون اليوم على مسالة النساء ،وتبرجهن، واختلاطهن بالرجال. و قد جاء في الحديث الصحيح(( :ما تركت بعدي فتنة هي أض ّر على الرجال من النساء)) متفق عليه
الحديث الحادي والسبعون عن ابن مسعو ٍد رضي الله عنه :أ َّن ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم َكا َن يقول(( :اللَّ ُه َّم إ ِّني أَسألُ َك ال ُه َدىَ ،وال ُّت َقى، َوال َع َفا َفَ ،وال ِغ َنى)) (رواه مسلم) شرح الحديث هذا الدعاء العظيم ،شامل لأربعة مطالب عظيمة ،وجليلة ،لا غنى عنها لأي عبد سائر إلى ال َّله عز وجل لما فيها من أهم مطالب الدنيا والآخرة. فبدأ بسؤال (الهدى) وهو أعظم مطلوب للعباد ،لا غنى لهم عنه في هذه الدار؛ لأن الهدى :هو طلب الهداية ،وهي كلمة شاملة تتناول كل ما ينبغي أن ُيهتدى إليه من أمر الدنيا والآخرة من حسن الاعتقاد ،وصلاح الأعمال ،والأقوال، والأخلاق. (ال ُّت َقى) أي التقوى :وهو اسم جامع لفعل ما أمر ال َّله به، وترك ما نهى عنه ،قال الطيبي :أطلق الهدى والتقى؛ ليتناول كل ما ينبغي أن يهتدي إليه من أمر المعاش والمعاد ومكارم الأخلاق ،وكل ما يجب أن يتقي منه من الشرك، والمعاصي ،ورذائل الأخلاق ،وطلب العفاف وأصل الكلمة
من التوقي ،وهو أن تجعل بينك وبين عقوبة ال َّله تعالى وقاية ،ويكون بفعل الطاعات ،واجتناب المحرمات. (العفاف) هو التن ُّزه عما لا ُيباح ،والصيانة عن مطامع الدنيا ،فيشمل العفاف بكل أنواعه ((العفاف عن الزنا كله بأنواعه :زنى النظر ،وزنى اللمس ،وزنى الاستماع ،وزنى الفرج)) والتع ّفُف عن الكسب ،والرزق الحرام. (الغنى) وهو غنى النفس بأن يستغني العبد عن الناس، وع ّما في أيديهم ،فيستغني العبد بما أعطاه ال َّله ،سواء أُعطي قليلاً أو كثيراً ،وهذه الصفة يحبها ال َّله عز وجل ، قال النبي صلى الله عليه وسلم(( :إِ َّن ال َّلهَ ُي ِح ُّب ا ْل َع ْب َد ال َّتقِ َّي، ا ْل َغ ِن َّي ،ا ْل َخفِ َّي)) مسلم وسؤال ال َّله (العفاف والغنى) ،وهما داخلان في الهدى والتقى من باب التخصيص بعد التعميم ،وذلك لعظم شأنهما، وشدة احتياج الخلائق لهما. قال السعدي رحمه ال َّله (( :هذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها ،وهو يتضمن سؤال خير الدين وخير الدنيا ،فإن الهدى هو :العلم النافع ،والتقى :العمل الصالح ،وترك ما نهى عنه ال َّله ورسوله ،وبذلك يصلح الدين ،فإن الدين علوم نافعة ومعارف صادقة فهو (ال ُه َدى) ،وقيام بطاعة ال َّله ورسوله ،فهو (التقى) ،والعفاف ،والغنى يتض ّمن العفاف عن الخلق ،وعدم تعليق القلب بهم ،والغنى بال َّله وبرزقه،
والقناعة بما فيه ،وحصول ما يطمئن به القلب من الكفاية، وبذلك تتم سعادة الحياة الدنيا ،والراحة القلبية ،وهي الحياة الطيبة ،فمن ُر ِز َق ال ُهدى ،والتقى ،والعفاف ،والغنى نال السعادتين ،وحصل على كل مطلوب ،ونجا من كل مرهوب)) وهذا الدعاء المبارك من جوامع الكلم التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم التي تجمع فيها قلة الألفاظ ،وكثرة المعاني ،وسعة مدلولاتها ،ومقاصدها في الدارين
الحديث الثاني والسبعون عن ع ِد ِّي بن حات ٍم الطائ ِّي رضي الله عنهَ ،قالَ :سمع ُت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولَ ((:م ْن َحلَ َف َع َلى َي ِمي ٍن ُث َّم َرأَى أ ْت َقى للهِ ِم ْن َها َفل َيأ ِت ال َّت ْق َوى)) (رواه مسلم) شرح الحديث (من حلف على يمين) اليمين هي الحلف بالله عز وجل ،أو باسم من أسمائه ،أو صفة من صفاته ،ولا يجوز الحلف بغير الله ،لا بالنبي صلي الله عليه وسلم ،ولا بأي أحد من الخلق ،لقول النبي صلى الله عليه وسلم(( :من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت)) وقال(( :من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) فمن حلف بغير الله فهو آثم ولا ينبغي للإنسان إن يكثر من اليمين ،فان هذا هو معني قوله تعالى: ( َوا ْح َف ُظوا أَ ْي َما َن ُك ْم) (المائدة :من الآية ، )89علي رأي بعض المفسرين ،قالوا :واحفظوا إيمانكم :أي لا تكثروا الحلف بالله وإذا حلفت ينبغي أن تقيد اليمين بالمشيئة ،فتقول :إن شاء الله ،لتستفيد بذلك فائدتين عظيمتين: الفائدة الأولى :أن يتيسر لك ما حلفت عليه والفائدة الثانية :انك لو حنثت فلا كفارة عليك ،فمن حلف علي يمين وقال إن شاء الله لم يحنث ،ولو خالف ما حلف
عليه ،لأن هذه المشيئة تجعل له فرجا ومخرج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \" من قال في يمينه :إن شاء الله، فلا حنث عليه\" واليمين التي توجب الكفارة هي اليمين علي شئ مستقبل، أما اليمين علي شئ ماضي فلا كفارة فيها ،ولكن إن كان الحالف كاذبا فهو آثم وأما اليمين التي فيها الكفارة فهي اليمين علي شئ مستقبل ،فإذا حلفت علي شئ مستقبل فقلت :والله لا افعل كذا ،فهذه يمين منعقدة ،فان فعلته وجبت عليك الكفارة ،وان لم تفعله فلا كفارة عليك ولكن :هل الأفضل أن افعل ما حلفت علي تركه ،أو الأفضل أن لا افعل؟ في هذا الحديث بين النبي عليه الصلاة والسلام: انك إذا حلفت علي يمين ،ورأيت غيرها اتقي لله منها ،فكفر عن يمينك ،وات الذي هو اتقي .فإذا قال قائل :والله لا ازور قريبي ،فهنا نقول :زيارة القريب صلة رحم ،وصلة الرحم واجبة ،فصل قريبك ،وكفر عن يمينك ،لان النبي عليه الصلاة والسلام يقول( :إِ ِّني َوال َّل ِه إِ ْن َشا َء ال َّلهُ َ ،لا أَ ْحلِ ُف َع َلى َي ِمي ٍن ُث َّم أَ َرى َخ ْي ًرا ِم ْن َها إِ َّلا َك َّف ْر ُت َع ْن َي ِمينِي َ ،وأَ َت ْي ُت ا َلّ ِذي ُه َو َخ ْي ٌر) رواه البخاري ومسلم
الحديث الثالث والسبعون عن أبي أُ َما َم َة البا ِهلِ ِّي رضي الله عنه َقالََ :س ِمع ُت رسولَ الله َف َقالَ(( :ا َّتقُوا َ َوي ْخ ُص ُطو ُُمبوافي َش ْهح َرج ُك ِةْم،ال َووأَد ُّاد ِوعا، َزكا َة أَ ْم َوالِ ُك ْم، صلى الله عليه وسلم الله َوصلُّوا َخ ْم َس ُك ْم، َوأَ ِطي ُعوا أُ َم َراء ُك ْم َت ْد ُخلُوا َج َّن َة َر ِّب ُك ْم)) (رواه الترمذي وصححه الألباني) شرح الحديث في حجة الوداع خطب النبي صلي الله عليه وسلم يوم عرفة ،وخطب يوم النحر ،ووعظ الناس وذكرهم ،وكان من جملة ما ذكر في خطبته في حجة الوداع ،انه قال: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم)) فأمر الرسول صلي الله عليه وسلم الناس جميعا أن يتقوا ربهم الذي خلقهم ،وأمدهم بنعمه ((وصلوا خمسكم)) أي :صلوا الصلوات الخمس التي فرضها الله-عز وجل-عليكم ((وصوموا شهركم)) أي :شهر رمضان ((وأدوا زكاة أموالكم)) أي :أعطوها مستحقيها ولا تبخلوا بها
((أطيعوا أمراءكم)) أي :من جعلهم الله أمراء عليكم ،فان الواجب علي الرعية طاعتهم في غير معصية الله ،أما في معصية الله فلا تجوز طاعتهم ولو أمروا بذلك ،لان طاعة المخلوق لا تقدم علي طاعة الخالق جل وعلا ولهذا قال الله: ( َيا أَ ُّي َها الَّ ِذي َن آ َم ُنوا أَ ِطي ُعوا ال َّلهَ َوأَ ِطي ُعوا ال َّر ُسولَ َوأُولِي ا ْلأَ ْم ِر ِم ْن ُك ْم) (النساء :من الآية )59فعطف طاعة ولاة الأمور علي طاعة الله تعالى ورسوله صلي الله عليه وسلم وهذا يدل علي إنها تابعة ،لان المعطوف تابع للمعطوف عليه ،ولهذا قال الله جل وعلا ( :أَ ِطي ُعوا ال َّلهَ َوأَ ِطي ُعوا ال َّر ُسولَ) (النساء :من الآية ، )59فأتى بالفعل ليتبن بذلك أن طاعة النبي صلي الله عليه وسلم طاعة مستقلة أي: تجب طاعته استقلالا كما تجب طاعة الله ومع هذا فان طاعته من طاعة الله واجبة ،فان النبي صلي الله عليه وسلم لا يأمر إلا بما يرضي الله أما ولاة الأمور فانهم قد يأمرون بغير ما يرضي الله ،ولهذا جعل طاعتهم تابعة لطاعة الله ورسوله فهذه الأمور التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم في حجه الوداع : تقوي الله ،والصلوات الخمس ،والزكاة ،والصيام ،وطاعة ولاة الأمور ،هذه من الأمور الهامة التي يجب علي الإنسان إن يعتني بها ،وان يمتثل أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم فيها ،ومن يلتزم بها يدخل الجنة
المقدمة باب في اليقين والتوكل الحديث الرابع والسبعون عن ابن عباس رضي الله عنهماَ ،قالََ :قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلمُ (( :ع ِر َض ْت َعلَ َّي الأُ َم ُمَ ،ف َرأ ْي ُت ال َّنب ّي و َم َع ُه ال ُّر َهي ُط ،والنبي َو َم َع ُه ال َّر ُجلُ َوال َّر ُجلا ِن ،والنب َّي ولَ ْي َس َم َع ُه أَ َح ٌد إِ ْذ ُرفِ َع لي َس َوا ٌد َعظي ٌم َف َظ َن ْن ُت أَ َّن ُه ْم أُ َّمتِي فقيلَ لِيَ :ه َذا ُمو َسى َو َقو ُم ُه ،ولك ِن ا ْن ُظ ْر إِلَى الأُفُ ِقَ ،ف َن َظر ُت َفإِذا َسوا ٌد َع ِظي ٌم ،فقيلَ لي :ا ْن ُظ ْر إِ َلى الأفُ ِق الآ َخ ِرَ ،فإِ َذا َس َوا ٌد َعظي ٌم، فقيلَ لِي :ه ِذ ِه أُ َّم ُت َك َو َم َع ُه ْم َس ْب ُعو َن أل ًفا َي ْد ُخلُو َن ال َج َّن َة بِ َغي ِر ِح َسا ٍب ولا َع َذا ٍب))ُ ،ث َّم َن َه َض َفد َخلَ َم ْن ِزلَ ُه َف َخا َض ال َّنا ُس في أُولئ َك الَّ ِذي َن َي ْد ُخلُو َن ال َج َّن َة ِب َغ ْي ِر ِح َسا ٍب ولا َع َذا ٍبَ ،ف َقالَ َب ْع ُض ُه ْمَ :فلَ َعلَّ ُه ْم الَّذي َن َص ِحبوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلمَ ،وقالَ ب ْع ُض ُه ْمَ :فلَ َعلَّ ُه ْم الَّ ِذي َن ُولِ ُدوا في الإِ ْسلا ِم َفلَ ْم ُي ْش ِر ُكوا بِالله َشي ًئا -و َذ َك ُروا أش َيا َءَ -ف َخر َج َع َل ْي ِه ْم رسولُ الله صلى الله عليه وسلمَ ،ف َقالََ (( :ما الَّ ِذي َت ُخو ُضو َن ِفي ِه؟)) َفأَ ْخ َب ُروهُ فقالَُ (( :ه ُم ا َّل ِذي َن لا َي ْرقُو َنَ ،ولا َي ْس َترقُو َنَ ،ولا َي َت َط َّي ُرو َن؛ و َعلَى َر ِّب ِه ْم َي َتو َّكلُون)) فقا َم ُع َّكا َش ُة ب ُن محص ٍن، َف َقالَ :ا ْد ُع الله أ ْن َي ْج َعلني ِم ْن ُه ْمَ ،ف َقالَ((:أ ْن َت ِم ْن ُه ْم))ُ .ث َّم َقا َم َر ُجلٌ آ َخ ُرَ ،ف َقالَ :ا ْد ُع الل َه أ ْن َي ْج َعلنِي ِم ْن ُه ْمَ ،ف َقالََ (( :س َب َق َك ِب َها ُع َّكا َش ُة)) ( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه والرواية لمسلم)
شرح الحديث هذا الحديث العظيم ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم فضل هذه الأمة وشرفها على الأمم السابقة ،وهو متضمن لفضله وشرفه صلى الله عليه وسلم ومتضمن لبشرى عظيمة، كذلك يتضمن بيان بعض حقائق هذا الدين. يخبر النبي صلي الله عليه وسلم أن الأمم عرضت عليه، أي :أري الأمم وأنبياءهم فيقول: ((فرأيت النبي ومعه الرهيط)) والرهيط تصغير للرهط، وهي لفظة تطلق على عشيرة الرجل وقومه ،وتطلق على العدد القليل أي :معه الرهط القليل ،ما بين الثلاثة إلى العشرة ومن هذا نأخذ فائدة مهمة ،وهي :أن الهداية بيد الله ،وأن القلوب بيده ((والنبي ومعه الرجل والرجلان ،والنبي وليس معه أحد))أي :أن الأنبياء عليهم السلام ليسوا كلهم قد أطاعهم قوهم ،بل بعضهم لم يطعه أحد من قومه ،وبعضهم أطاعه الرهط ،وبعضهم أطاعه الرجل والرجلان ((إذ رفع لي سواد عظيم )) والمقصود بالسواد هنا الأشخاص ،أي :بشر كثير(،فظننت أنهم أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه) لأن موسى عليه السلام من أكثر الأنبياء اتباعا
((ولكن انظر إلى الأفق)) والمقصود بالأفق الناحية والجهة، (فنظرت فإذا سواد عظيم ،فقيل لي :انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم ،فقيل لي :هذه أمتك) معنى ذلك أنهم قد ملئوا الناحيتين من كثرتهم ،فهم أكثر من قوم موسى عليه السلام ،فالرسول صلي الله عليه وسلم اكثر الأنبياء تابعا ((ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب)) أي :مع هذه الأمة سبعون ألفا يدخلون الجنة ،لا يحاسبون ،ولا يعذبون ،من الموقف إلى الجنة بدون حساب ولا عذاب! وقد ورد إن مع كل واحد من السبعين ألف سبعين ألفا أيضا ((ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك ...قال بعضهم :فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلي الله عليه وسلم)) يعني لعلهم الصحابة رضي الله عنهم ثم نهض فدخل منزله ،ولم يبين لهم من هم الذين يستحقون هذه المرتبة العظيمة جداً ،فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ،يعني :أنهم جلسوا يتحدثون ،ويتناقشون ويتحاورون ،يا ترى من هؤلاء؟ وذلك لحرص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على الخير ،وحرصهم على المراتب العالية عند الله ،فهذه الأمور تلفت أنظارهم وقال آخرون(( :لعلهم الذين ولدوا في الإسلام ،فلم يشركوا بالله
شيئا وذكروا أشياء)) وكل أتى بما يظن ،فخرج عليهم النبي صلي الله عليه وسلم فسألهم عما يخوضون فيه فاخبروه فقال صلي الله عليه وسلم ((هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلي ربهم يتوكلون)) هذا لفظ مسلم فهذه الأمور المذكورة في هذا الحديث ،وهذه الأوصاف ترجع إلى أصل واحد ،وهو قوة الاعتماد على الله -تبارك وتعالى ،وعظم الركون إليه ،وشدة التوكل عليه ((لا يرقون)) فقوله :هم الذين لا يرقون ،ولا يسترقون الرقية معروفة ،وهنا في هذه الرواية جمع بين الأمرين ،لا يرقون ،ولا يسترقون ومن أهل العلم من ضعف هذه اللفظة ،وهي قوله( :لا يرقون) ،وقالوا :المحفوظ هو( :لا يسترقون) ،والفرق بينهما ظاهر ،وهو أن قوله :يرقون يحتمل أنهم يرقون غيرهم ،أو أنهم يرقون أنفسهم ،أو أن الرقية تقع عليهم من غير طلب منهم ((ولا يسترقون)) أي :لا يطلبون من أحد إن يقرا عليهم إذا أصابهم شئ ،لانهم معتمدون علي الله ،ولان الطلب فيه شئ من الذل ،والاعتماد على الغير فطلب الرقية نقص في المرتبة ،لا أنه محرم ،فإذا رقى الإنسان نفسه فلا إشكال، وإذا رقى غيره يؤجر ،وإذا رقاه غيره من غير طلب لا حرج ،فقد ُرقي النبي ،رقاه جبريل وميكال
بقي طلب الرقية من الآخرين :هذا يجوز ،ولكن الأكمل تركه؛ لأن فيه نوع افتقار إلى المخلوقين ،وإذا أراد العبد أن يكمل العبودية فعليه أن يستغني عن المخلوقين ،ويكون فقره وحاجته إلى الله ،فإذا جاء أحد يرقيه من غير طلب فلا بأس. وينبغي للإنسان إذا رأى بأخيه شيئاً أن يبادر هو إلى رقيته من غير أن يحوجه إلى أن يطلب الرقية من غيره وفي روايه (ولايكتوون ) يعني لايطلبون من أحد أن يكويهم إذا مرضوا ،لأن الكي عذاب بالنار لا يلجأ إليه إلا عند الحاجه ((ولا يتطيرون)) يعني :لا يتشاءمون لا بمرئي ،ولا بمسموع ،يعني :لا يتطيرون أبدا والتطير أصله مما كان يفعله أهل الجاهلية من التشاؤم أو التفاؤل بالطير. فقد كان العرب في الجاهلية يتطيرون ،فإذا طار الطير وذهب نحو اليسار تشاءموا ،وإذا رجع تشاءموا ،وإذا تقدم نحو الإمام صار لهم نظر آخر ،وكذلك نحو اليمين وهكذاوالطيرة محرمة ،لا يجوز لاحد إن يتطير لا بطيور، ولا بأيام ،ولا بشهور ،ولا بغيرها ،والتشاؤم ،كما انه شرك اصغر ،فهو حسرة علي الإنسان ،فيتألم من كل شئ يراه، لكن لو اعتمد علي الله وترك هذه الخرافات ،لسلم ،ولصار عيشه صافيا سعيدا
( َو َعلَى َر ِّب ِه ْم َي َت َو َّكلُو َن) فمعناه :انهم يعتمدون علي الله وحده في كل شئ ،لا يعتمدون علي غيره ،لأنه جل وعلا قال في كتابهَ ( :و َم ْن َي َت َو َّكلْ َعلَى ال َّلهِ َف ُه َو َح ْس ُب ُه) (الطلاق :من الآية ، )٣ومن كان الله حسبه فقد كفي كل شئ وق ّدم \"على\" ،ولم يقل :ويتوكلون على الله ،قال :وعلى ربهم ،يعني :لا يتوكلون على أحد غير الله ،فهؤلاء قد كمل توكلهم ،فهم ليسوا فقط لا يرقون ،ولا يسترقون ،ولا يتطيرون ،وإنما هم قد ك ّملوا التوكل هذا الحديث العظيم فيه صفات من يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب .فهذه أربع صفات :لا يسترقون ،ولا يكتوون ،ولا يتطيرون ،وعلي ربهم يتوكلون فقام عكاشة بن محصن رضي الله عنه ،فقال :يا رسول الله ((ادع الله إن يجعلني منهم)) ،بادر إلى الخير وسبق إليه، فقال النبي صلي الله عليه وسلم(( :أنت منهم)) ((فقام رجل آخر فقال :ادع الله أن يجعلني منهم! قال: ((سبقك بها عكاشة)) فرده النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه رد لطيف ،لم يقل لست منهم ،بل قال(( :سبقك بها عكاشة))
الحديث الخامس والسبعون عن ابن عباس رضي الله عنهما أي ًضا :أ َّن َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم َكا َن يقول(( :اللَّ ُه َّم لَ َك أَ ْس َل ْم ُتَ ،وبِ َك آ َم ْن ُت، َو َعل ْيك َت َو َّك ْل ُتَ ،وإِلَ ْي َك أ َن ْب ُتَ ،وبِ َك َخا َص ْم ُت .اللَّ ُه َّم إِ ِّني أ ُعو ُذ بع َّزتِ َك؛ لا إل َه إلا أَ ْن َت أ ْن ُتض َّلني ،أَ ْن َت ال َح ُّي الَّ ِذي لا َي ُمو ُت، َوال ِج ُّن والإ ْن ُس َي ُمو ُتو َن)) ( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه ،وهذا لفظ مسلم واختصره البخاري) المفردات ((لك أسلمت وبك آمنت)) أي لك انقدت ،واستسلمت، لحكمك وأمرك ،وبك آمنت ،وفيه إشارة إلى الفرق بين الإيمان والإسلام ،وفي تقديم الجار والمجرور ((لك)) دلالة على الاختصاص ،أي أخ ّصك بالانقياد والاستسلام دون أحد غيرك. ((وعليك توكلت)) :ف ّوضت أموري ك ّلها إليك. ((وإليك أنبت)) :أي أقبلت بعباداتي وطاعتي لك ،وأعرضت عما سواك. ((وبك خاصمت)) :أي بك أحاج وأدافع ،وأقاتل أعداءك بالحجة والبيان والسيف
((اللَّهم إني أعوذ بعزتك)) :استعاذ بعزته ،وهي صفة من صفات ال َّله تعالى الجليلة ،وهي مشتقة من اسمه تعالى العزيز ،والع ّزة ُيراد بها ثلاثة معا ٍن: عزة القوة والقدرة وعزة الامتناع وعزة القهر والغلبة والرب تبارك وتعالى له العزة التا ّمة بالاعتبارات الثلاثة شرح الحديث قدم النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي دعائه ،جملة من أجلّ العبادات القلبية ومقامات العبودية ل َّله تعالى :من تخصيص العبودية له تعالى ،فبدأ بالإقرار الكامل له تعالى بالإسلام ،والإيمان ،والتوكل ،والرجوع إليه في كل مهامه وشؤونه الدنيوية ،والدينية ،والدفاع والمجاهدة لدينه بالحجة والقوة فقدم كل هذا قبل سؤاله؛ ليكون أرجى في القبول ((اللهم إني أعوذ بعزتك)) استعاذ بصفة من صفاته العظيمة وهي العزة الكاملة ،فمن أراد العزة فليطلبها منه تعالى ،قال عز وجل َ \" :م ْن َكا َن ُي ِري ُد ا ْل ِع َّز َة َفلِلَّ ِه ا ْل ِع َّزةُ َج ِمي ًعا\" ولا تنال العزة إلا بالإيمان بالله تعالى ،والخضوع له والتوكل عليه
في كل الأمور ،قال تعالىَ { :ولِ َّلهِ ا ْل ِع َّزةُ َولِ َر ُسولِ ِه َولِ ْل ُم ْؤ ِم ِني َن َو َل ِك َّن ا ْل ُم َنافِقِي َن َلا َي ْعلَ ُمو َن وقرن هذه الاستعاذة بـ(لا إله إلا أنت) أي لا معبود بحق إلا أنت مبالغ ًة في تحقيق العبودية ،وطمعاً في الاستجابة ((أن تض ّلني)) أي أن تغويني وتضلّني بعد الهداية ،ولا يخفى في تقديم هذه التوسلات من الأعمال الصالحات، وإثبات الوحدانية لر ّب الأرض والسموات ،والتو ّسل بكمال الصفات في الاستعاذة من الضلالات أن ذلك يدلّ على أهمية هذا المطلب ،وأنه مطلب خطير ،قال تعالىَ { :و َم ْن ُي ْضلِ ِل ال َّلهُ َف َما َل ُه ِم ْن َها ٍد وقال عز شأنهَ { :م ْن َي َشإِ ال َّلهُ ُي ْضلِ ْل ُه َو َم ْن َي َشأْ َي ْج َع ْل ُه َعلَى ِص َرا ٍط ُم ْس َتقِي ٍم فدلّ على أن الهداية والضلال بيد الله تعالى رب العالمين .فينبغي للعبد أن يسأل الله تعالى دائماً أن يعصمه من الضلالة ،وأن ُيديم عليه الهداية إلى أن يلقاه يوم القيامة ،وفيه دليل على جواز الاستعاذة بصفة من صفات الله تعالى الجليلة ((أنت الح ّي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون)) تأكيد لانفراد الله تعالى بالحياة :أي أنت الح ّي لك الحياة الكاملة التي لا يعتريها أي نقص المتصفة بكل كمال ،المستلزمة لكل صفات الذات ،فحياته تعالى لا يعتريها نوم ،ولا نعاس، ولا تبيد ،ولا تفنى ،والخلق كلهم ،ميتون ومنتهون ،قال
تعالىَ { :و َت َو َّكلْ َعلَى ا ْل َح ِّي الَّ ِذي َلا َي ُمو ُت ،وقال تعالى: { ُكلُّ َش ْي ٍء َهالِ ٌك إِ َّلا َو ْج َهه ففي هذا الدعاء المبارك جمع في بداياته ،وطياته ونهاياته، توسلين من التو ّسلات العظيمة إلى الله تعالى: التو ّسل بالعمل الصالح [كقوله(( :ال َّله ّم لك أسلمت ،وبك آمنت ،وعليك توكلت]))... والتوسل بأسمائه الحسنى وصفاته ال ُعلا [كقوله((:أنت الحي الذي لا يموت ]))...لبيان أهمية الاستعاذة من الضلالة، فإنها تورد الموارد المهلكة ،وتضيع الدين والدنيا والآخرة وفي العصمة منها ،النجاة من كل مرهوب ،وحصول كل مرغوب
الحديث السادس والسبعون عن ابن عباس رضي الله عنهماَ ،قالََ :ح ْس ُب َنا اللهُ َو ِن ْع َم ال َو ِكيلَُ ،قالَ َها إِب َراهي ُم صلى الله عليه وسلم ِحي َن أُلقِ َي في ال َّنا ِرَ ،و َقا َلها ُم َح َّم ٌد صلى الله عليه وسلم ِحي َن َقالُوا :إ َّن ال َّنا َس َق ْد َج َمعوا َل ُك ْم َفا ْخ َش ْو ُه ْم َف َزا َد ُه ْم إ ْيما ًنا َو َقالُواَ :ح ْس ُب َنا الله ون ْع َم ال َوكيلُ (رواه البخاري) وفي رواية َل ُه عن ابن َع َّبا ٍس رضي الله عنهماَ ،قالََ :كا َن آخر َقول إ ْب َرا ِهي َم صلى الله عليه وسلم ِحي َن أُ ْل ِق َي في ال َّنا ِر: َح ْسبِي الله ونِ ْع َم ال َو ِكيلُ. شرح الحديث {حسبنا الله أي :هو كافينا {ونعم الوكيل أي :الموكول إليه الأمور. هذه الكلمة((حسبنا الله ونعم الوكيل)) قالها إبراهيم عليه السلام حينما القي في النار ،وذلك أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له ،فأبوا، وأصروا علي الكفر .فقام ذات يوم علي أصنامهم فكسرها، وجعلهم جذاذا ،إلا كبيرا لهم ،فلما رجعوا وجدوا آلهتهم كسرت ،فانتقموا لأنفسهم .فقالوا ما نصنع يا إبراهيم؟
َقالُوا َ :ح ِّرقُوهُ فأوقدوا نار عظيمة ،ثم رموا إبراهيم عليه السلام في هذه النار .ويقال انهم لعظم النار لم يتمكنوا من القرب منها، وانهم رموا إبراهيم فيها بالمنجنيق من بعد ،فلما رموه قال: ((حسبنا الله ونعم الوكيل)) فما الذي حدث؟ قال الله تعالى: (قُ ْل َنا َيا َنا ُر ُكونِي َب ْرداً َو َسلاماً َعلَى إِ ْب َرا ِهي َم) (الأنبياء)69 : بردا :ضد حر ،وسلاما :ضد هلاكا ،لان النار حارة ومحرقة ومهلكة ،فأمر الله هذه النار أن تكون بردا وسلاما عليه، فكانت بردا وسلاما .وقال العلماء :ولما قال الله ( ُكونِي َب ْرداً) قرن ذلك بقولهَ ( :و َسلاماً) لأنه لو اكتفي بقوله: ( َب ْرداً) لكانت بردا حتى تهلكه ،لان كل شئ يمتثل لامر الله عز وجل أما الخليل الثاني للرحمن الذي قالَ ( :ح ْس ُب َنا ال َّلهُ َونِ ْع َم ا ْل َو ِكيلُ) فهو النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه ،حين رجعوا من أحد ،قيل لهم :إن الناس قد جمعوا لكم ،يريدون إن يأتوا إلى المدينة ويقضوا عليكم فقالواَ ( :ح ْس ُب َنا ال َّلهُ َونِ ْع َم ا ْل َو ِكيلُ) قال الله تعالىَ ( :فا ْن َق َل ُبوا بِ ِن ْع َم ٍة ِم َن ال َّلهِ َو َف ْض ٍل َل ْم َي ْم َس ْس ُه ْم ُسو ٌء َوا َّت َب ُعوا ِر ْض َوا َن ال َّل ِه َوال َّلهُ ُذو َف ْض ٍل َع ِظي ٍم) (آل عمران)174 : فينبغي لكل إنسان رأى من الناس جمعا له ،أو عدوانا عليه، إن يقول(( :حسبنا الله ونعم الوكيل)) فإذا قالها كفاه الله شرهم ،كما كفي إبراهيم ومحمدا عليهما الصلاة والسلام
الحديث السابع والسبعون عن أبي هرير َة رضي الله عنه عن ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم َقالََ (( :ي ْد ُخلُ ال َج َّن َة أَ ْقوا ٌم أ ْفئِ َد ُت ُه ْم ِمثلُ أ ْفئِ َد ِة ال َّطي ِر)) (رواه مسلم) شرح الحديث هذا الحديث أصلٌ عظيم في التوكل .وحقيقته :هو الاعتماد على الله ع َّز وجلّ في استجلاب المصالح ودفع المضار قال سعيد بن جبير :التو ُّكل جماع الإِيمان .وال َج َّن ُة دا ُر ال َّنعي ِم الَّتي لا َيف َنى ،وهي رجا ُء كلِّ ُمؤم ٍن َيس َعى إليها؛ ف َيعملُ ال َّطاعا ِت في ال ُّدنيا ُث َّم َيرجو تل َك الج َّن َة ب َرحم ِة اللهِ تعالى وفي هذا ال َحدي ِث ُيخبِ ُر ال َّنب ُّي ص ّلَى اللهُ علي ِه وس َّلم بأَح ِد ال َّطوائ ِف والأَصنا ِف الَّتي ستد ُخلُ الج َّن َة، ف َيقولَُ ( :يدخلُ الج َّن َة أَقوا ٌم أَفئد ُتهم ِمثلُ أَفئد ِة ال َّطي ِر) قيل: معناه متوكلون ،وقيل :قلوبهم َرقي َق ٌة ،فقيل َيعنيِ :مثلُها في ِر َّقتِها و َضعفِهاَ .وقيلَ :في ال َخو ِف وال َهيب ِة ،وقيل ال ُمرا ُد أنهم ُمتو ِّكلو َن على الله كال َّطي ِر؛ َتغدو ِخما ًصا و َترو ُح بِطا ًنا، وفي ذل َك َمد ٌح لأَه ِل َهذه ال ِّصفا ِت
واعلم أ َّن التو ُّكل لا ينافي السعي في الأسباب ،فإ َّن الطير تغدو في طلب رزقها .وقد قال الله تعالىَ { :و َما ِمن َدآ َّب ٍة فِي الأَ ْر ِض إِلا َعلَى اللهِ ِر ْزقُ َها [هود]6 : قال يوسف بن أسباط :كان يقال :اعمل عمل رجل لا ينجيه إلا عمله ،وتو َّكل تو ُّكل رجل لا يصيبه إلا ما ُكتب له وفي حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم(( :لن تمو َت نفس حتى تستكمل رزقها ،فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ،خذوا ما حلَّ ودعوا ما حرم))
الحديث الثامن والسبعون عن جابر رضي الله عنه :أَ َّن ُه َغ َزا َم َع النبي صلى الله عليه وسلم قِبلَ َن ْج ٍدَ ،فلَ َّما َق َفلَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم َق َفلَ م َع ُه ْمَ ،فأَ ْد َر َك ْت ُه ُم ال َقائِ َل ُة في َوا ٍد كثير ال ِع َضاهَ ،ف َن َزلَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم َو َت َف َّر َق ال َّنا ُس َي ْس َت ِظلُّو َن بال َّش َج ِر، َو َن َزلَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم َتح َت َس ُم َرة َف َع َلّ َق بِ َها َسي َف ُه َو ِن ْم َنا َن ْو َم ًةَ ،فإِ َذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َي ْدعو َنا َوإِ َذا ِع ْن َدهُ أ ْع َرا ِب ٌّيَ ،ف َقالَ(( :إ َّن َه َذا ا ْخ َت َر َط َعلَ َّي َسي ِفي َوأ َنا َنائ ٌم َفا ْس َتي َق ْظ ُت َو ُه َو في َي ِد ِه َصل ًتاَ ،قالََ :م ْن َي ْم َن ُع َك ِم ِّني؟ قُ ْل ُت :الله -ثلا ًثاَ ))-و َل ْم ُيعا ِق ْب ُه َو َجلَ َس ( ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه) وفي رواية َقالَ َجاب ٌرُ :ك َّنا َم َع َر ُسو ِل الله صلى الله عليه وسلم ب َذا ِت ال ِّر َقا ِعَ ،فإِ َذا أَ َت ْي َنا َعلَى َش َج َر ٍة َظلِي َل ٍة َت َر ْك َنا َها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،فجاء َر ُجلٌ ِم َن ال ُم ْشركي َن َو َسي ُف َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم م َع َلّ ٌق بال َّش َج َر ِة َفا ْخ َتر َط ُهَ ،ف َقالََ :ت َخافُنِي؟ َقالَ(( :لا))َ .ف َقالََ :ف َم ْن َي ْم َن ُع َك ِم ِّني؟ َقالَ(( :الله)) وفي رواية َقالََ :م ْن َي ْم َن ُع َك ِم ِّني؟ َقالَ(( :اللهُ))َ .قالََ :ف َس َق َط السي ُف ِم ْن َيد ِهَ ،فأ َخ َذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ال َّس ْي َفَ ،ف َقالََ (( :م ْن َي ْم َن ُع َك مني؟))َ .ف َقالَُ :ك ْن َخي َر آ ِخ ٍذ. َف َقالََ (( :ت ْش َه ُد أ ْن لا إل َه إلا الله َوأَ ِّني َر ُسول الله؟)) َقالَ :لا، َولَك ِّني أُ َعا ِه ُد َك أ ْن لاَ أُ َقاتِ َل َكَ ،ولا أَ ُكو َن َم َع َقو ٍم ُي َقاتِلُو َن َك،
َف َخ َّلى َسبيلَ ُهَ ،فأَ َتى أ ْص َحا َب ُهَ ،ف َقالَ :جئ ُت ُك ْم ِم ْن ع ْند َخ ْي ِر ال َّنا ِس. شرح الحديث غزا جابر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم قِ َبل نجد ،و هي غزوة ذات الرقاع كما في الروايه الأخرى ، وقيل لها ذات الرقاع؛ لأن أقدامهم تن ّقبت -وهم في ضعف وحاجة -فصاروا يلفون الخرق على أرجلهم ،ليتقوا بها الأرض \"فلما قفل\" يعني :فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جابر رضي الله عنه \" :فأدركتهم القائلة في واد كثير ال ِعضاه\" ،أدركهم منتصف النهار ،وقت القيلولة في واد كثيرة العضاه ،والعضاه هو الشجر الذي له شوك. \"فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر ،ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت َس ُمرة\" وال َّس ُمرة هي شجرة كبيرة من العضاه ،فكانوا يتركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم الشجرة التي تكون وافرة الظل ،فعلق بها سيفه عليه الصلاة والسلام ،فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا ،وإذا عنده أعرابي ،والأعرابي المقصود هو من سكن البادية. فقال \" :إن هذا ا ْخ َت َر َط عل ّي سيفي وأنا نائم\" قيل :اسمه غورث بن الحارث ،جاء فوجد النبي صلى الله عليه وسلم تحت هذه الشجرة نائماً ،فأخذ السيف فاستله ،ثم استيقظ
النبي صلى الله عليه وسلم وهو في يده َص ْلتاً ،يعني :أخرجه من غمده ((ا ْخ َت َر َط ال َّس ْيف)) أي س ّله َو ُه َو في يد ِهَ (( .ص ْل ًتا)) أي مسلو ًلا قال :من يمنعك مني؟ ،قلت \" :الله ،ثلاثاً \" يحتمل أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ،من يمنعك مني؟، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول :الله ،ثلاث مرات، ويحتمل أن يكون قال :من يمنعك مني؟ ،فقال النبي صلى الله عليه وسلم :الله ،الله ،الله ،تأكيداً وهذا هو الشاهد في الحديث ،قوة يقين النبي صلى الله عليه وسلم بكفاية الله -تبارك وتعالى ،-وفيه كمال اليقين مع كمال التوكل والتفويض إلى الله -تبارك وتعالى يقول :ولم يعاقبه ،فجلس. وفي رواية أخرى قال :فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلقا بالشجرة ،فاخترطه، فقال :تخافني؟ ،قال :لا ،فقال :فمن يمنعك مني؟ ،قال :الله وفي رواية قال :من يمنعك مني؟ قال :الله ،فسقط السيف من يده ،فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :من يمنعك مني؟ فقال :كن خير آخذ فقال :تشهد أن لا إله إلا الله ،وأني رسول الله؟ قال :لا ،ولكني أعاهدك ألا أقاتلك ،ولا أكون مع قوم يقاتلونك ،فخلى سبيله ،فأتى أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس
الحديث يدل على كمال يقين رسول الله صلى الله عليه وسلم وثقته بكفاية ربه -تبارك وتعالى -له ،مع شدة توكله على الله
الحديث التاسع والسبعون عن ُع َمر رضي الله عنه َقالَ :سمع ُت َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم يقول(( :لَ ْو أَ َّن ُك ْم َت َت َو َّكلُو َن َعلَى اللهِ َح َّق َت َو ُّكلِ ِه َل َر َز َق ُك ْم َك َما َي ْر ُز ُق ال َّط ْي َرَ ،ت ْغ ُدو ِخ َما ًصا َو َت ُرو ُح ِب َطا ًنا)) رواه الترمذيَ ،وقالَ( :حديث حسن) شرح الحديث أي تذهب أول النهار خماصا :أي :ضامرة (خاليه) البطون من شدة الجوع وترجع آخر النهار بطانا :أي :ممتلئة البطون لأنها قد شبعت يقول الإمام ابن رجب الحنبلي :هذا الحديث أصل في التوكل ،إذ هو من الأمور التي يستجلب بها الرزق يقول النبي عليه الصلاة والسلام حاثا أمته علي التوكل ((لو إنكم تتوكلون علي الله حق توكله)) أي :توكلا حقيقيا، فتعتمدون علي الله عز وجل اعتمادا تاما في طلب رزقكم وفي غيره ((لرزقكم كما يرزق الطير)) الطير رزقها علي الله عز وجل، لانها ليس لها مالك ،فتطير في الجو ،وتغدوا إلى أوكارها، وتستجلب رزق الله عز وجل
((تغدوا خماصا)) تغدوا :أي تذهب أول النهار ،لان الغدوة هي أول النهار ،وخماصا يعني :جائعة كما قال الله تعالى: ( َف َم ِن ا ْض ُط َّر ِفي َم ْخ َم َص ٍة َغ ْي َر ُم َت َجا ِن ٍف لإِ ْث ٍم َفإِ َّن ال َّل َه َغفُو ٌر َر ِحي ٌم) (المائدة :من الآية ، )٣مخمصة :يعني مجاعة ((تغدوا خماصا)) يعني جائعة :ليس في بطونها شئ ،لكنها متوكلة علي ربها عز وجل ((وتروح)) أي ترجع في آخر النهار ،لان الرواح هو آخر النهار ((بطانا)) أي ممتلئة البطون ،من رزق الله عز وجل ففي هذا دليل على مسائل : أولا :انه ينبغي للإنسان إن يعتمد علي الله تعالى حق الاعتماد ثانيا :انه ما من دابة في الأرض إلا علي الله رزقها وفي هذا الحديث :دليل علي إن الإنسان إذا توكل علي الله حق التوكل فليفعل الأسباب .ولقد ضل من قال لا افعل السبب ،وأنا متوكل ،فهذا غير صحيح المتوكل :هو الذي يفعل الأسباب متوكلا علي الله عز وجل، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام(( :كما يرزق الطير تغدوا
خماصا)) تذهب لتطلب الرزق ،لا تبقي في أوكارها ،لكنها تغدوا وتطلب الرزق. فأنت إذا توكلت علي الله حق التوكل ،فلا بد أن تفعل الأسباب التي شرعها الله لك من طلب الرزق من وجه حلال ،اطلب الرزق معتمدا علي الله ،ييسر الله لك الرزق فالإنسان الذي يتوكل على الله حق التوكل هو الإنسان الذي يرتبط قلبه بالله ،ويعلم أن الله هو مسبب الأسباب ،وأن أز ّمة الأمور في يده ،وأن ما شاء كان ،وما لم يشأ لم يكن، والله قد أجرى سنته بأن يتوكل الإنسان ،وأن يتسبب والله - تبارك وتعالى -يقدر لمن شاء ما شاء.
الحديث الثمانون عن البرا ِء رضي الله عنه َقالََ :قالَ لي َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم « :إِ َذا أَ َتي َت َم ْض َج َع َك َف َتو َّضأْ و ُضو َء َك لِل َّصلا ِة ، ُث َّم ا ْض َط ِج ْع َعلى ِش ِّق َك الأَي َم ِن ،وقلْ :ال َّل ُه َّم أَ ْس َل ْم ُت نفِسي إِلَي َك َو َو َّج ْه ُت َو ْج ِهي إِ َل ْي َك َ .و َف َّوض ُت أَمري إِ َل ْي َك َ ،وأَلَ َجأْ ُت َظه ِري إِلَ ْي َك ،رغب ًة ور ْه َب ًة إِ َل ْي َك ،لا َملجأَ ولا َمنجي ِم ْن َك إِلاَّ إِلي َك ،آمن ُت بِ ِك َتابِ َك ال ِذي أَن َز ْلت َ ،وبِ َن ِب ِّي َك ال ِذي أَر َسل َت ،فإِ ْن ِم َّت ِ .م َّت على الفِطر ِة ،وا ْج َعلهُ َّن آ ِخ َر ما َتقُولُ » (متفق عليه) شرح الحديث وفي رواية أخري في الصحيحين عن البرا ِء رضي الله عنه (( َيا فُلا ُن ،إِ َذا أَ َو ْي َت إِ َلى فرا ِش َكَ ،فقُل :اللَّ ُه َّم أ ْسلَم ُت َن ْفسي إلَ ْي َكَ ،و َو َّجه ُت َو ْج ِهي إ َل ْي َكَ ،و َف َّوض ُت أَ ْمري إ َل ْي َكَ ،وأَلجأْ ُت َظهري إلَ ْي َك َرغ َب ًة َو َره َب ًة إلَ ْي َك ،لا َم ْل َجأ َولا َم ْن َجا ِم ْن َك إلا إلَ ْي َك ،آم ْن ُت بِ ِك َتا ِب َك الَّ ِذي أ ْن َز ْل َت؛ َو َنبِ ِّي َك ا َلّ ِذي أَ ْر َس ْل َتَ .فإِ َّن ِم َّت ِم ْن لَيلَتِ َك ِم َّت َعلَى الفِ ْط َر ِةَ ،وإِ ْن أ ْص َب ْح َت أَ َص ْب َت َخي ًرا)) \" اللَّه َّم أسلمت نفسي إليك \" أي :إنني يا الله قد رضي ُت َتمام ال ِّرضا أن تكون نفسي تحت مشيئتكَ ،ت َتص َّرف فيها بما شئ َت وتقضي فيها بما أرد َت من إمساكها أو إرسالها ،فأنت
الذي بيده مقاليد السموات والأرض ،ونواصي العباد جميعهم معقودةٌ بقضائك وقدرك تقضي فيهم بما أرد َت، وتحكم فيهم بما تشاء ،لا را َّد لقضائك ولا مع ِّقب لحكمك. \"وف َّوض ُت أمري إليك\" أي :جعل ُت شأنِي ك َلّه إليك ،وفي هذا الاعتما ُد على الله عز وجل والتوكل التام عليه ،إذ لا حول للعبد ولا ق َّوة إلاَّ به سبحانه وتعالى. \"وألجأ ُت ظهري إليك\" أي:أسند ُته إلى حفظك ورعايتك لما علم ُت أ َّنه لا سند ُيتقوى به سواك ،ولا ينفع أحداً إلاَّ حماك، وفي هذا إشارةٌ إلى افتقار العبد إلى الله جل وعلا في شأنه ك ِّله في نومه ويقظته وحركته وسكونه وسائر أحواله. \"رغب ًة ورهبة إليك\" أي:إ َّنني أقول ما سبق ك َّله وأنا راغ ٌب راهب ،أي :راغ ٌب تمام الرغبة في فضلك الواسع وإنعامك العظيم ،وراه ٌب منك ومن كلِّ أمر يوقع في سخطك ،وهذا هو شأن الأنبياء والصالحين من عباد الله يجمعون في دعائهم بين ال َّر َغب وال َّر َهب ،كما قال الله تعالى{ :إِ َّن ُه ْم َكا ُنوا ُي َسا ِر ُعو َن فِي ا ْل َخ ْي َرا ِت َو َي ْد ُعو َن َنا َر َغباً َو َر َهباً َو َكا ُنوا لَ َنا َخا ِش ِعي َن [الأنبياء]90 :
\"لا ملجأ ولا منجى منك إلاَّ إليك\" أي:لا ملاذ ولا مه َر َب ولا َم ْخ َل َص من عقوبتك إلاَّ بالفزع إليك والاعتماد عليك \"آمن ُت بكتابك الذي أنزلت وبنب ِّيك الذي أرسلت\" أي :آمن ُت بكتابك العظيم القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه َت ْنزيلٌ من حكيم حميد ،آمنت وأقرر ٌت أ َّنه وحيك و َت ْنزيلك على عبدك ورسولك نب ِّينا محمد صلى الله عليه وسلم ،وأ َّنه مشتملٌ على الحق والهدى والنور. وآمنت كذلك بنب ِّيك الذي أرسل َت وهو محمد صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه ،المبعوث رحم ًة للعالمين ،آمنت به وبكلِّ ما جاء به ،فهو صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلاَّ وح ٌي يوحى ،فكلُّ ما جاء به فهو صد ٌق وح ٌّق
الحديث الحادي والثمانون عن أبي بك ٍر ال ِّصديق رضي الله عنه َقالََ :ن َظر ُت إِ َلى أَ ْق َدا ِم ال ُم ْش ِركي َن َو َنح ُن في ال َغا ِر َو ُه ْم َعلَى ُر ُؤو ِسنا ،فقل ُتَ :يا رسولَ الله ،لَ ْو أَ َّن أَ َح َد ُه ْم َن َظ َر َت ْح َت َق َد َمي ِه لأَ ْب َص َر َناَ .ف َقالَ: (( َما َظ ُّن َك َيا أَبا َبك ٍر باث َن ْي ِن الله َثالِ ُثهُ َما)) (متفق عليه) شرح الحديث م ِن اع َتص َم بِاللهِ تعالى كفاه ع َّمن سواه؛ فهو ِنعم ال َّناص ُر و ِنعم المعي ُن ،و َمع َّي ُته تعالى هي المع َّي ُة الحقيق َّية ،وما سواها مع َّي ٌة كاذب ٌة زائف ٌة .وكان صلي الله عليه وسلم إما َم المتو ِّكلي َن على الله تعالىَ ،يعل ُم أ َّنه نا ِص ٌر عب َده ،وأ َّنه معه ب َنص ِره وقُدرتِه وحماي ِته في كلِّ وق ٍت وحي ٍن. وفي هذا الحدي ِث أ َّنه َل َّما اقتر َب المش ِركون من النبي صلي الله عليه وسلم وأبي بك ٍر ر ِضي اللهُ عنه وهما في غا ِر ثو ٍر في أثنا ِء ِهجر ِتهما إلى المدين ِة ،وخش َي أبو بكر ر ِضي اللهُ عنه ِمن ُرؤيتِهما لهما لِقربِهما ال َّشدي ِد.
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210
- 211
- 212
- 213
- 214
- 215
- 216
- 217
- 218
- 219
- 220
- 221
- 222
- 223
- 224
- 225
- 226
- 227
- 228
- 229
- 230
- 231
- 232
- 233
- 234
- 235
- 236
- 237
- 238
- 239
- 240
- 241
- 242
- 243
- 244
- 245
- 246
- 247
- 248
- 249
- 250
- 251
- 252
- 253
- 254
- 255
- 256
- 257
- 258
- 259
- 260
- 261
- 262
- 263
- 264
- 265
- 266
- 267
- 268
- 269
- 270
- 271
- 272
- 273
- 274
- 275
- 276
- 277
- 278
- 279
- 280
- 281
- 282
- 283
- 284
- 285
- 286
- 287
- 288
- 289
- 290
- 291
- 292
- 293
- 294
- 295
- 296
- 297
- 298
- 299
- 300
- 301
- 302
- 303
- 304
- 305
- 306
- 307