يتعدى عليه بالضرب أو القتل أو نحو ذلك ،وإنما أبقى ذلك في داخل نفسه. (وهو قادر على أن ينفذه) هذا هو الشرط لحصول الأجر ومعناه :ليس أنه سكت مع شدة ما في نفسه لعجزه ،أو لخوفه من الناس ،فلا يستطيع أن يتكلم ،ولا يستطيع أن يتشفى ،ولا يستطيع أن يقتص ممن أغاظه ،فمثل هذا ليس بموعود بهذا الجزاء المذكور في الحديث؛ لأن الصبر إنما يحمد مع وجود الإمكان والقدرة على تحصيل مطلوبات النفس من التشفي وغيره ،هذا هو الذي يحمد عليه الإنسان فالعفو إنما يحمد مع المقدرة ،وكظم الغيظ إنما يحمد مع القدرة على إنفاذه ،لكن ك َظ َم وسكت لخوفه فهذا لا يحمد. فإذا اغتاظ الإنسان من شخص وهو قادر على أن يفتك به، ولكنه ترك ذلك ابتغاء وجه الله ،وصبر على ما حصل له من أسباب الغيظ؛ فله هذا الثواب العظيم أنه يدعى على رؤوس الخلائق يوم القيامة ويخير من أي الحور شاء (دعاه الله سبحانه وتعالى على رؤوس الخلائق يوم القيامة) هذا فيه تشريف وتكريم وبيان لمرتبته ومنزلته (حتى يخيره من الحور العين ما شاء) الحور جمع حوراء، وهي المرأة التي في عينها َح َور ،وال َح َور فسر بتفسيرات من أشهرها :شدة سواد العين في شدة بياض
والعين جمع عيناء ،والعيناء هي واسعة العين ،وذلك أن من أوصاف العين المحمودة السعة روي أن الحسين بن علي رضي الله عنه جاءه غلامه بكوز يصب عليه الوضوء ،فصب فلما رفعه استعجل فأصاب َرباعيته وكسرها ،فنظر إليه ،فقال الغلام( :والكاظمين الغيظ) ،قال :كظمت غيظي ،قال( :والعافين عن الناس) ، قال :عفوت عنك ،قال( :والله يحب المحسنين) ،قال :اذهب أنت حر ،قال :فما جائزة العتق؟ قال :ليس في البيت إلا السيف وال َّد َرقة ،خذها ،أي :ترس وسيف ،فهذا الذي يملكه ،خذها واذهب بها
الحديث الثامن والأربعون عن أبي هرير َة رضي الله عنه :أ َّن َر ُج ًلا َقالَ للنبي صلى الله عليه وسلم :أو ِصنيَ .قالَ(( :لا َت ْغ َض ْب)) َف َر َّد َد ِمرا ًراَ ،قالَ: ((لاَ َت ْغ َض ْب)) ( رواه البخاري) شرح الحديث قال الجرداني -رحمه الله :-إن هذا الحديث حديث عظيم، وهو من جوامع الكلم؛ لأنه جمع بين خيري الدنيا والآخرة و قال ابن التين -رحمه الله :-جمع في قوله(( :لا تغضب)) خير الدنيا والآخرة؛ لأن الغضب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق ،وربما آل إلى أن يؤذي المغضوب عليه ،فينقص ذلك من الدين ((أوصني)) فهذا الرجل طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصيه وصية وجيزة جامعة لخصال الخير؛ ليحفظها عنه ،خشية ألا يحفظها لكثرتها. ((لا تغضب)) وصاه النبي صلى الله عليه وسلم ألا يغضب، ثم ردد هذه المسألة عليه مرا ًرا والنبي صلى الله عليه وسلم
يردد عليه هذا الجواب ،فهذا يدل على أن الغضب جماع الشر ،وأن التحرز منه جماع الخير. وقال الخطابي :معنى ((لا تغضب)) :لا تتعرض لأسباب الغضب والأمور التي تجلب الغضب ،أو :لا تفعل ما يأمرك به الغضب ،ويحملك عليه من الأقوال والأفعال وفي الحديث :حرص المسلم على النصح والسؤال عن أبواب الخير. وفيه تكرار الكلام حتى يعيه السامع ويدرك أهميته. وفيه الحث على اجتناب أسباب الغضب ونتائجه من الأقوال والأفعال.
الحديث التاسع والأربعون عن أبي هريرة رضي الله عنه َقالََ :قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلمَ (( :ما َي َزالُ ال َبلاَ ُء بال ُمؤ ِم ِن َوال ُم ْؤ ِم َن ِة في نف ِس ِه و َولَ ِد ِه َو َمالِ ِه َح َّتى َي ْل َقى الله َت َعالَى َو َما َعلَي ِه َخ ِطي َئ ٌة)) رواه الترمذي(حسنه الألباني) شرح الحديث لا يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة ،فالإنسان يبتلى تارة في نفسه بالمرض ونحوه وتارة بالولد وتارة بالمال فلا ب ّد من الصبر. (ما يزال البلاء بالمؤمن) وهذا يدل على التتابع والاستمرار ،وأن هذا البلاء لا يكون مرة واحدة يلقى فيها ما يكره ،ثم ينتهي كل شيء ،نعم قد تكون أيام العافية أكثر من أيام البلاء ،ولكن الإنسان لا يزال يرد عليه من الواردات ما يؤلمه ويكدر عليه راحته، وينغص عليه عيشه من ألوان الآلام الحسية والمعنوية، مما يتصل بذاته كما قال (:بالمؤمن والمؤمنة ) وقوله( :بالمؤمن والمؤمنة) لو قال :بالمؤمن لدخل فيه المرأة ،لكن زيادة لفظ المؤمنة فيه دليل على مزيد من التأكيد ،أن ذلك لا يختص بالرجل ،إنما هو كذلك في شأن المرأة أيضا
فإذا وقع البلاء بالمرأة فكذلك هي موعودة بمثل هذا الجزاء بتكفير الذنوب والخطايا (في نفسه) كالهموم التي تصيبه من الأحزان والأمراض وغيرها ،فكل هذه الأمور الواقعة على النفس والبدن يكفر الله بها خطاياه. (وولده) أي مما يحصل للولد من المكاره التي تؤلم الأب، كالمرض والموت وغيرها مما يتألم الأب له ،فيكون ذلك تكفيراً لخطايا هذا الوالد ،ويدخل في الولد البنت والابن؛ لأن الولد يشمل هذا ،وهذا. (وماله) وذلك بضياع شيء منه ،أو بالسرقة ،أو بالخسارة أو غير ذلك ،كل ذلك يؤجر الإنسان عليه ،ويحصل له تكفير الخطايا ومع أن هذه الأمور متفاوتة إلا أن الثلاث َة أمو ٌر تهم الإنسان غاية الأهمية ،فنفسه أغلى شيء لديه ،وولده قطعة من قلبه ،وماله كذلك حبيب إلى نفسه ،ولهذا قال الله تعالى { : ُز ِّي َن لِل َّنا ِس ُح ُّب ال َّش َه َوا ِت ِم َن ال ِّن َساء َوا ْل َب ِني َن َوا ْل َق َنا ِطي ِر َ َوواال ْلّلهَُخ ْي ِعِلن َدا ْلهُ ُم ُحَس َّ ْوس َمُن ِةا ْلَوَماآلأَ ِْنب َعا ِم[آل ا ْل ُم َقن َط َر ِة ِم َن ال َّذ َه ِب َوا ْلفِ َّض ِة َوا ْل َح ْر ِث َذلِ َك َم َتا ُع ا ْل َح َيا ِة ال ُّد ْن َيا عمران]14: (حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة) بمعنى :أن ذلك لا يزال به حتى يلقى الله ،أي ُيحط عنه من الخطايا شيئاً
فشيئاً ،في كل بلية يلقاها يوضع عنه من الخطايا وتكفر عنه السيئات ،حتى يتخفف كاهله من هذه الأوزار ،فيكون قد لقي الله في نهاية المطاف وقد نفض عنه غبار الذنوب، فسقطت تلك الأحمال والأوزار الضخمة التي ترهقه وتثقله. فيه :دليل على أن الإنسان إذا صبر واحتسب الأجر عند الله كفر الله عنه سيئاته وفيه :أن المصائب في النفس والولد والمال تكون كفارة للإنسان ،حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة ولكن هذا إذا صبر
الحديث الخمسون عن ا ْب ِن عبا ٍس رضي الله عنهما َقالََ :ق ِد َم ُع َي ْي َن ُة ْب ُن ِح ْص ٍن، َف َن َزلَ َعلَى ا ْب ِن أ ِخي ِه ال ُح ِّر ب ِن َقي ٍسَ ،و َكا َن ِم َن ال َّن َف ِر الَّ ِذي َن ُي ْد ِني ِه ْم ُعم ُر رضي الله عنهَ ،و َكا َن القُ َّرا ُء أ ْص َحا َب َم ْجلِس ُع َم َر رضي الله عنه َو ُمشا َو َرتِ ِه ُك ُهو ًلا كا ُنوا أَ ْو ُش َّبا ًناَ ،ف َقالَ ُع َي ْي َن ُة لا ْب ِن أخي ِهَ :يا ا ْب َن أ ِخي ،لَ َك َو ْج ٌه ِع ْن َد َه َذا الأ ِمي ِر َفا ْس َتأ ِذ ْن لِي َع َلي ِه ،فا ْس َتأ َذن َفأ ِذ َن لَ ُه ُع َم ُرَ .ف َل َّما َد َخلَ َقالَ: ِهي َيا اب َن ال َخ َّطا ِبَ ،فوالل ِه َما ُت ْع ِطي َنا ا ْل َج ْزلَ َولا َت ْح ُك ُم ِفي َنا بال َع ْد ِلَ .ف َغ ِض َب ُع َم ُر رضي الله عنه َح َّتى َه َّم أ ْن ُيوقِ َع بِ ِه. َف َقالَ لَ ُه ال ُح ُّرَ :يا أمي َر ال ُم ْؤ ِمني َن ،إ َّن الله َت َعا َلى َقالَ لِ َنب ِّي ِه صلى الله عليه وسلمُ { :خ ِذ ا ْل َع ْف َو َوأْ ُم ْر ِبا ْل ُع ْر ِف َوأَ ْع ِر ْض َع ِن ا ْل َجا ِهلِي َن [الأعرافَ ]199 :وإ َّن َه َذا ِم َن ال َجا ِهلِي َن ،واللهِ َما َجا َو َزهاَ ُع َم ُر ِحي َن َتلاَ َها ،و َكا َن َو َّقا ًفا ِع ْن َد ِك َتا ِب اللهِ َت َعالَى (رواه البخاري) شرح الحديث عيينة بن حصن الفزاري كان ممن أسلم أخيراً ،وذلك بعد أن فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ،وكان من المؤلفة قلوبهم ،وممن أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم مائة من الإبل ،ثم ارتد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كما ارتد كثير من العرب ،ثم أسر في حروب الردة في عهد أبي بكر
الصديق رضي الله عنه وجيء به إلى المدينة ،ثم رجع إلى الإسلام. قدم عيينة بن حصن على عمر رضي الله عنه في زمن خلافته وكان ابن أخيه الحر بن قيس من جلساء عمر رضي الله عنه الذين يدنيهم ويقربهم منه وكان الحر رضي الله عنه من أهل العلم فقال عيينة للحر رضي الله عنه :استئذن لي على هذا الأمير ،فاستأذن له الحر وأخبره بحاله ،فلما دخل على عمر رضي الله عنه وسلم عليه ،قال :هيه يا ابن الخطاب ،إنك لا تعطينا الجزل ،ولا تحكم فينا بالعدل! وهذه كلمة جافية قد كذب فيها وأخطأ فيها فإن عدل عمر رضي الله عنه يضرب به المثل وتحريه للحق وحرصه على نفع الرعية وإلزامهم بالحق ومنعهم من كل ما حرم الله فغضب عمر رضي الله عنه عند ذلك وهم به يعني أن يوقع به العقاب تأدي ًبا له ،فقال له الحر :يا أمير المؤمنين ،إن الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم ُ { :خ ِذ ا ْل َع ْف َو َو ْأ ُم ْر ِبا ْل ُع ْر ِف َوأَ ْع ِر ْض َع ِن ا ْل َجا ِهلِي َن [الأعراف]199: فوالله إن هذا من الجاهلين ،فما جاوزها عمر رضي الله عنه ،وسمح وعفا وصفح عن كلمته القبيحة. ▪ ُخ ِذ ا ْل َع ْف َو يعني :من أخلاق الناس ما استيسر منها
▪ َو ْأ ُم ْر بِا ْل ُع ْر ِف يعني :المعروف ▪ َوأَ ْع ِر ْض َع ِن ا ْل َجا ِهلِي َن يعني :أهل السفه فما جاوزها عمر رضي الله عنه وكان وقافاً يعني بمجرد التذكير وقف ،ولم يحصل منه معاقبة لهذا الرجل ففي هذا منقبة لعمر رضي الله عنه وحث على التأسي به عندما يتكلم الجهال بما يغضب الإنسان لا ب ّد من الصبر والتحمل واحتساب الأجر وقد كان كثير من الأعراب وغير الأعراب يغضبون النبي صلى الله عليه وسلم ويتحمل ويصبر عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث :أَ َّنه ينبغي لولي الأَمر مجالسة القراء والفقهاء ليذكروه إذا نسي ،ويعينوه إذا ذكر .وفيه :ال ِح ْلم والصفح عن الجهال. قال جعفر الصادق :ليس في القرآن آي ٌة أَجمع لمكارم الأخلاق من هذه. وفيه :أن الصفح والصبر من ولاة الأمور ومن المسؤولين منقبة عظيمة فينبغي للمسئول من أمير أو قاض أو غيرهما ولكل مسلم التحمل والصبر وعدم العجلة في الانتقام فالإنسان بحاجة إلى الصبر على أذى الناس ،والتحمل وحبس النفس
الحديث الحادي و الخمسون عن ابن مسعود رضي الله عنه :أن َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم َقالَ(( :إ َّن َها َس َتكو ُن َب ْع ِدي أ َث َرةٌ وأُ ُمو ٌر ُت ْن ِك ُرو َنها!)) َقالُواَ :يا َر ُسول اللهَ ،ف َّما َتأْ ُم ُرنا؟ َقالَُ (( :ت َؤ ُّدو َن ا ْل َح َّق ا َلّ ِذي َع َل ْي ُك ْمَ ،و َتسأَلُو َن الله الَّ ِذي لَ ُك ْم)) ( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه) شرح الحديث ((إنها ستكون بعدي أثرة)) هذا من إخباره عليه الصلاة والسلام عن الغيوب المستقبلة و المراد ب((الأثرة)) أي :الانفراد بالشيء دون أصحاب الحق ،والاستئثار بالحقوق والأموال ،فينفرد بها قوم دون قوم ،فمن كان متسلطاً متمكناً فإن ذلك قد يحمله على الاستئثار بالمال أو بغيره من بين سائر الناس. ((وأمور تنكرونها)) يعني :من التبديل ،والتغيير ،وقد حصل ذلك منذ أزمان متطاولة أي أنه سيلي عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون يعني أمراء فيهم الط ّيب وفيهم الخبيث فيهم الظالم وفيهم غيره يبدلوا ويغيروا
قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عندئذ :يا رسول الله ،فما تأمرنا؟ أي :كيف يكون موقفنا حينما نلقى هذه الأثرة وهذا التبديل؟ فقال(( :تؤدون الحق الذي عليكم)) المقصود بالحق الذي عليكم أي :الطاعة ،وعدم الخروج على الأئمة حتى تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان أي أدوا إليهم حقهم ،يعني اسمعوا وأطيعوا أدوا إليهم حقهم بالسمع والطاعة وإذا قصروا في حقكم فاسألوا الله الذي لكم ،ولا تنزعوا ي ًدا من طاعة ولا تفتحوا باب الفتنة اصبروا إن أدوا إليكم حقوقكم ،فالحمد لله وإلا فلا تنزعوا ي ًدا من طاعة اصبروا و سلوا الله الذي لكم سلوا الله أن الله يهديهم حتى يعطوكم حقوقكم ،حتى ينفقوا بيت المال في وجهه ،حتى يسوسوا الرعية بما ينبغي لا ب ّد من الصبر فالعبد عليه السمع والطاعة فيما أحب وكره س ًدا لباب الفتن وحس ًما للشرور التي قد تترتب عليه المعصية فتسألون حقكم من الله ،وتحتسبون ذلك ،وذلك أن التصرف إزاء هذه الأثرة ،أو هذا المنكر بغير ذلك يؤدي إلى مفاسد عظيمة ،و هذا من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم علم أن ال ّنفوس شحيحة ،وأنها لن تصبر على من يستأثر عليهم بحقوقهم.
ولكنه صلى الله عليه وسلم أرشد إلى أمر قد يكون فيه الخير ،وذلك بأن نؤدي ما علينا نحوهم من السمع والطاعة ونسأل الله الذي لنا و فيه :دليل على نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه أخبر بأمر وقع بالفعل و فيه :استعمال الحكمة في الأمور التي قد تقتضي الإثارة، فإنه لا شك أن استئثار الولاة بالمال دون الرعية يوجب أن تثور الرعية وتطالب بحقها ،ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالصبر على هذا ،وأن نقوم بما يجب علينا، ونسأل الله الذي لنا
الحديث الثاني و الخمسون عن أُ َس ْيد بن ُح َضير رضي الله عنه :أ َّن َر ُج ًلا ِم َن الأ ْنصا ِر َقالََ :يا رسولَ الله ،ألا َت ْس َت ْع ِملُني َك َما ا ْس َت ْع َم ْل َت فُلا ًنا؟ َف َقالَ: ((إن ُك ْم َس َت ْل َقو َن َب ْع ِدي أَ َث َر ًة َفا ْصبِ ُروا َح َّتى َت ْل َقوني َعلَى ال َح ْو ِض)) ( ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه) شرح الحديث وهذا الحديث كحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه السابق أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ((إنها ستكون أثرة)) و لكنه قال(( :اصبروا حتى تلقوني على الحوض)) يعني :اصبروا ولا تنابذوا الولاة أمرهم حتى تلقوني على الحوض ،يعني أنكم إذا صبرتم فإن من جزاء الله لكم على صبركم أن يسقيكم من حوضه عليه الصلاة والسلام هذا الحوض الذي يكون في يوم القيامة في مكان و زمان أحوج ما يكون الناس إليه؛ لأنه في ذلك المكان وفي ذلك الزمان ،في يوم الآخرة ،يحصل على الناس من الهم والغم والكرب والعرق والحر ما يجعلهم في أشد الضرورة إلى الماء ،فيردون حوض النبي صلى الله عليه وسلم
حوض عظيم طوله شهر وعرضه شهر ،يصب عليه ميزابان من الكوثر ،وهو نهر في الجنة أعطية النبي صلى الله عليه وسلم ،يصبان عليه ماء ،أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل ،وأطيب من رائحة المسك ،وفيه أوان كنجوم السماء في اللمعان والحسن والكثرة ،من شرب منه شربة واحدة لم يظمأ بعدها أبداً. فأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يصبروا ولو وجدوا الأثرة ،فإن صبرهم على ظلم الولاة من أسباب الورد على الحوض والشرب منه. وقيل :إِ َّن وجه المناسبة بين الجواب والسؤال أَ َّن من شأن العامل الاستئثار إِلا َم ْن عصم اللهَ ،فأشفق عليه صلى الله عليه وسلم ِمن أَن يقع فيما يقع فيه بع ُض من يأتي بعده من الملوكَ ،ف َي ْستأثر على ذوي الحقوق ،وهذا من جملة معجزاته صلى الله عليه وسلم فقد وقع كما أَخبر و في هذين الحديثين :حث على الصبر على استئثار ولاة الأمور في حقوق الرعية
الحديث الثالث و الخمسون عن أبي إبراهيم عب ِد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما :أ َّن َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم في ب ْع ِض أيا ِم ِه التي لَ ِق َي ِفي َها ال َع ُد َّو ،ا ْن َت َظ َر َح َّتى إِ َذا مالَ ِت ال َّش ْم ُس َقا َم فيه ْمَ ،ف َقالَ: (( َيا أ ُّي َها ال َّنا ُس ،لا َت َت َم َّنوا لِ َقا َء ال َع ُد ِّوَ ،وا ْسأَلُوا الله ال َعافِ َي َة، َفإِ َذا لقي ُت ُمو ُه ْم َفا ْصب ُرواَ ،وا ْع َل ُموا أ ّن ال َج َّن َة َت ْح َت ِظلا ِل ال ُّسيو ِف)) ُث َّم َقالَ ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم(( :اللَّ ُه َّم ُم ْن ِزلَ ال ِك َتا ِب، َو ُم ْج ِر َي ال َّس َحا ِبَ ،و َها ِز َم الأ ْح َزا ِب ،ا ْه ِز ْم ُه ْم َوان ُص ْر َنا َعلَ ْيه ْم)) ( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه) شرح الحديث عن عبد الله بن أبي أوفى ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعض غزواته ،فانتظر حتى مالت الشمس ،أي :زالت الشمس ،وذلك من أجل أن تقبل البرودة ويكثر الظل وينشط الناس ،فانتظر حتى مالت الشمس ثم قام فيهم خطيبا قال ((:يا أيها الناس ،لا تتمنوا لقاء العدو ،واسألوا الله العافية ))..أي :لا ينبغي للإنسان أن يتمنى لقاء العدو.
فلا شك أن لقاء العدو فيه من البلاء والفتنة التي تضطرب معها كثير من النفوس ،فالإنسان قد لا يثبت ولا يصبر في أرض المعركة فالإنسان لا يتمنى لقاء العدو ،و ليس ذلك فحسب ،بل إن الإنسان لا يتمنى البلاء مطلقاً ،لكنها إذا نزلت به عليه أن يصبر ((واسألوا الله العافية)) فالعافية لا يعدلها شيء ،ولهذا نقل عن بعض السلف أنه كان يقول :إن العافية مع الشكر خير من البلاء مع الصبر. ((فإذا لقيتموهم فاصبروا)) فإذا نزل البلاء فعند ذلك الصبر يتحتم ،ويكون أمراً واجباً ،ولا خيار للإنسان في ذلك. ((و اعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)) يعني أن القتلى في سبيل الله لهم الجنة ،وهذا فيه ترغيب في الجهاد والإقدام ومناجزة العدو والصبر تحت ظلال السيوف ،فلا ينهزم إذا علم أن الجنة تحتها ،وذلك أن هذا الجهاد وبريق السيوف فوق رأسه بلاء عظيم يحصل بسببه دخول الجنة، ويأمن هذا الإنسان من فتنة القبر ثم قال عليه الصلاة والسلام(( :اللهم منزل الكتاب ،ومجري السحاب ،وهازم الأحزاب ،أهزمهم وانصرنا عليهم)) فهنا توسل النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات الشرعية والآيات الكونية
توسل بإنزال الكتاب وهو القرآن الكريم ،وقد يشمل كل كتاب ،ويكون المراد به الجنس ،أي :منزل الكتب على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى غيره من الرسل ((ومجري السحاب)) :هذه آية كونية ،فالسحاب المسخر بين السماء والأرض لا يجريه إلا الله عز وجل ...وفيه أيضاً إيماء بنعمة أخرى ،وهي أن السحاب يكون سبباً للمطر الذي يحصل به النبات ،فتقوم به معايش الناس. ((وهازم الأحزاب)) :فإن الله عز وجل وحده هو الذي يهزم الأحزاب. وهذه نعمة ثالثة حصل بها حفظ النعمتين ،نعمة الدنيا، ونعمة الدين ،فلو دخل الأحزاب وأفسدوا وخربوا وقتلوا وغلبوا فإنهم يخربون الدنيا والدين ف َق ّدم بهذه الأمور الثلاثة الجامعة لهذه النعم -التي تجمع كل النعم ،قدم بها بين يدي الدعاء ،وهذا من الأدب في الدعاء ((اهزمهم وانصرنا عليهم)) قد ينهزمون ولا يحصل النصر، فجمع بين الأمرين ،اهزمهم وانصرنا عليهم ،ولا شك أن هذا من أعظم ما يحصل للمجاهد ،أن يهزم العدو وأن ينتصر عليه ،فيكون بذلك التشفي في أعلى صوره
ففي هذا الحديث عدة فوائد: منها :أن لا يتمني الإنسان لقاء العدو ،وهذا غير تمني الشهادة! تمني الشهادة جائز وليس منهيا عنه ،بل قد يكون مأموراً به ،أما تمني لقاء العدو ،فلا تتمناه. و منها :أن يسأل الإنسان الله العافية ،لأن العافية والسلامة لا يعدلها شيء. ومنها :أن الإنسان إذا لقي العدو فإن الواجب عليه أن يصبر. ومنها :الدعاء حال الشدائد ،والخروج من الحول والقوة، وفيه :الجمع بين الأَخذ بالأَسباب ،والتو ُّكل على الله تعالى.
المقدمة باب الصدق الحديث الرابع و الخمسون عن ابن مسعود رضي الله عنه عن ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلمَ ،قالَ(( :إ َّن ال ِّصد َق َي ْه ِدي إِلَى الب ِّر ،وإ َّن البِ َّر َيه ِدي إِلَى ال َج َّن ِة ،وإ َّن ال َّر ُجلَ َل َيص ُد ُق َح َّتى ُي ْك َت َب ِع ْن َد اللهِ ِص ِّدي ًقا. َوإِ َّن ال َك ِذ َب َي ْه ِدي إِلَى الفُ ُجو ِرَ ،وإِ َّن الفُ ُجو َر َيه ِدي إِلَى ال َّنا ِر، َوإِ َّن ال َّر ُجلَ لَ َي ْك ِذ ُب َح َّتى ُيك َت َب ِع ْن َد الله َك َّذا ًبا)) ( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه) شرح الحديث و هذا الحديث يدل على وجوب الصدق وعظم شأنه ،وأن الواجب على أهل الإسلام أن يتحروا الصدق في أقوالهم وأعمالهم ،وليس الصدق خا ًصا بالأقوال؛ بل يكون في الأعمال والأقوال جميعاً ،في أعمال القلوب وفي أعمال الجوارح ((عليكم بالصدق)) أي :ألزموا الصدق ،والصدق :مطابقة الخبر للواقع ،أي أن تخبر بشيء فيكون الخبر مطابقا للواقع و الخبر يكون باللسان ويكون بالأركان
و أما باللسان فهو القول ،و أما بالأركان فهو الفعل و لكن كيف يكون الكذب بالفعل؟ ! إذا فعل الإنسان خلاف ما يبطن فهذا قد كذب بفعله، فالمنافق مثلا كاذب لأنه يظهر للناس خلاف مايبطن. فإذا طابقت أعمال الجوارح ما في القلب فهي صدق بالأفعال ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم عاقبة الصدق فقال: ((إن الصدق يهدي إلى البر ،وإن البر يهدي إلى الجنة)) ((البر)) يعني كثرة الخير ،وهو من نتائج الصدق فالبر كلمة جامعة لكل محا ّب الله من الأعمال الصالحة، والأمور المقربة إليه ،فالصدق يهدي إليها. والصادق ،يقوده ويهديه صدقه إلى أن يكون با ًرا في عمله وقوله وتصرفاته بعي ًدا عن الفجور. ((يهدي إلى الجنة)) فصاحب البر يهديه ويقوده بره إلى الجنة ويكون من أسباب دخوله الجنة ،والجنة غاية كل مطلب. ((إن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله ص ِّديقاً)) وفي رواية(( :ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا)) أي :أنه يكثر من ذلك ،ويكون ديدنه وعمله الدائم المستمر حتى يكتب عند الله ،أي :يثبت عنده صديقاً
و ((ال ّصديق)) هو من كمل تصديقه ،وكثر صدقه في أقواله وأفعاله وأحواله ،فالرجل الذي يتحرى الصدق يكتب عند الله صديقاً. و الصديق في المرتبة الثانية من مراتب الخلق الذين أنعم ال َّل َه َوال َّر ُسولَ َوال ِّص ِّدي ِقي َن الله َفأُعوللَيِئهَكم َمك َعماالَّقِذايل َنالأَلْنه َع َمسابل َّلحهُان َهعلَْ :ي ِ(ه َْمو َمال ْ َّننبِ ِّيُيي ِطَنِع َوال ُّش َه َدا ِء َوال َّصالِ ِحي َن) (النساء)69 : و أما الكذب قال النبي صلى الله عليه وسلم ((وإياكم والكذب)) ((إياكم)) للتحذير ،أي :أحذروا الكذب ،والكذب هو الإخبار بما يخالف الواقع ،سواء كان ذلك بالقول أو بالفعل. ((وإن الكذب يهدي إلى الفجور)) الفجور :الخروج عن طاعة الله؛ لأن الإنسان يفسق ويتعدى ويخرج عن طاعة الله إلى معصيته ،وأعظم الفجور الكفر ؛ فإن الكفرة فجرة ،كما قال الله( :أُولَ ِئ َك ُه ُم ا ْل َك َف َرةُ ا ْل َف َج َرةُ) (عبس.)42 : فالكذب يهدي إلى الفجور ،والفجور يهدي إلى النار. ((وإن الرجل ليكذب)) وفي لفظ ((لا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا)) الكذب من الأمور المحرمة ،بل قال بعض العلماء :إنه من كبائر الذنوب؛ لأن
الرسول صلى الله عليه وسلم توعده بأنه يكتب عند الله كذاباً. و الكذب لايجوز إلا في ثلاث حالات :في الحرب ،والإصلاح بين الناس ،وحديث المرأة زوجها وحديثه إياها. فقد ص ّح في الحديث جواز الكذب لتحقيق مصلحة دون مضرة ،للغير تذكر ،فيما رواه البخاري ومسلم عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت :سمعت رسول الله ️ يقول: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً) و في رواية( :ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث :تعني الحرب ،والإصلاح بين الناس ،وحديث الرجل امرأته ،وحديث المرأة زوجها) والمراد بالحديث بين الزوجين هو عن الحب الذي يساعد على دوام العشرة
الحديث الخامس و الخمسون عن أبي محمد الحسن ب ِن عل ِّي بن أبي طالب رضي الله عنهما َقالََ :حف ْظ ُت ِم ْن َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم: (( َد ْع َما َي ِري ُب َك إِلَى َما لا َي ِري ُب َك؛ فإ َّن ال ِّصد َق ُط َمأ ِني َن ٌة، َوال َك ِذ َب ِري َب ٌة)) رواه الترمذي ( وصححه الألباني) شرح الحديث قال المناوي رحمه الله (( \" :دع ما يريبك )) أي :اترك ما تشك في كونه حسنا أو قبيحا ،أو حلالا أو حراما (( ،إلى ما لا يريبك )) أي :واعدل إلى ما لا شك فيه ،يعني ما تيقنت حسنه و ِح َّله (( ،فإن الصدق طمأنينة )) أي :يطمئن إليه القلب ويسكن (( ،وإن الكذب ريبة )) أي :يقلق القلب ويضطرب و قال ال ِّطيبي :معناه :إذا وجدت نفسك ترتاب في الشيء ، فاتركه ،فإن نفس المؤمن تطمئن إلى الصدق ،وترتاب من الكذب ،فارتيابك من الشيء منبيء عن كونه مظنة للباطل ،فاحذره ،وطمأنينتك للشيء مشعر بحقيقته ،فتمسك به \" وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله \" :وهذا الحديث من جوامع الكلم ،وما أجوده وأنفعه للعبد إذا سار عليه ، فالعبد يرد عليه شكوك في أشياء كثيرة ،فنقول :دع الشك
إلى ما لاش ّك فيه ،حتى تستريح وتسلم ،فكل شيء يلحقك به ش ّك وقلق وريب :اتركه إلى أمر لا يلحقك به ريب ، وهذا ما لم يصل إلى حد الوسواس ،فإن وصل إلى حد الوسواس فلا تلتفت له و هذا يكون في العبادات ،ويكون في المعاملات ،ويكون في النكاح ،ويكون في كل أبواب العلم و مثال ذلك في العبادات :رجل انتقض وضوؤه ،ثم صلى ، وش ّك هل تو ّضأ بعد نقض الوضوء أم لم يتو ّضأ ؟ فوقع في الش ّك ،فإن تو ّضأ فالصلاة صحيحة ،وإن لم يتو ّضأ فالصلاة باطلة ،وبقي في قلق فنقول :دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ،فالريب هنا صحة الصلاة ،وعدم الريب أن تتو ّضأ وتصلي و عكس المثال السابق :رجل تو ّضأ ثم صلى وشك هل انتقض وضوؤه أم لا ؟ فنقول :دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ،عندك شيء متي ّقن وهو الوضوء ،ثم شككت هل طرأ على هذا الوضوء حدث أم لا ؟ فالذي ُيترك هو الشك :هل حصل حدث أو لا ؟ وأرح نفسك ،واترك الشك\"
و هذا الحديث أصل في باب الورع ،والحث على ترك المشتبهات ،كما أنه أصل في باب الأخذ باليقين وترك المشكوك فيه. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : \" َو َم ْع َنى َه َذا ا ْل َح ِدي ِث َي ْر ِج ُع إِ َلى ا ْل ُوقُو ِف ِع ْن َد ال ُّش ُب َها ِت َوا ِّت َقا ِئ َها َ ،فإِ َّن ا ْل َح َلالَ ا ْل َم ْح َض َلا َي ْح ُصلُ لِ ُم ْؤ ِم ٍن ِفي َق ْلبِ ِه ِم ْن ُه َر ْي ٌب – َوال َّر ْي ُب ِ :ب َم ْع َنى ا ْل َق َل ِق َوا ِلا ْض ِط َرا ِب َ -بلْ َت ْس ُك ُن إِ َل ْي ِه ال َّن ْف ُس َ ،و َي ْط َمئِ ُّن بِ ِه ا ْل َق ْل ُب َ ،وأَ َّما ا ْل ُم ْش َت ِب َها ُت َف َي ْح ُصلُ بِ َها لِ ْلقُلُو ِب ا ْل َق َل ُق َوا ِلا ْض ِط َرا ُب ا ْل ُمو ِج ُب لِل َّش ِّك \" [جامع العلوم والحكم]
الحديث السادس و الخمسون عن أبي سفيا َن ب ِن حر ٍب رضي الله عنه في حديثه الطوي ِل في قص ِة ِه َر ْقلََ ،قالَ ِهرقلَُ :ف َما َذا َيأَ ُم ُر ُك ْم؟ -يعني :ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم َقالَ أبو سفيا َن :قُ ْل ُت :يقولُ: ((ا ْع ُب ُدوا اللهَ َوح َدهُ لا ُت ْش ِرك ُوا ِب ِه َشي ًئاَ ،وا ْت ُر ُكوا َما َيقُولُ آ َبا ُؤ ُك ْم ،و َيأْ ُم ُر َنا بال َصلا ِةَ ،وال ِّص ْد ِق ،وال َع َفا ِفَ ،وال ِّص َل ِة)) ( ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه) شرح الحديث قدم أبو سفيان وكان مشركاً لم يسلم بعد ومعه جماعة من قريش إلى هرقل في الشام ،وكان ملك النصارى ،وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسل إليه كتاب ليسلم. فلما سمع بأبي سفيان ومن معه وهم قادمون من الحجاز دعا بهم ،وجعل يسألهم عن حال النبي صلى الله عليه وسلم وعن نسبه ،وعن أصحابه ،وعن توقيرهم له ،وعن وفائه صلى الله عليه وسلم وكلما ذكر شيئا وأخبروه عرف أنه النبي الذي أخبرت به الكتب السابقة ،ولكنه شح بملكه فلم يسلم و كان سأل أبا سفيان عما كان يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بأنه يأمرهم أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا ،وهذه دعوة الرسل جميعا ،قال الله تعالىَ ( :و َما أَ ْر َس ْل َنا
ِم ْن َق ْبلِ َك ِم ْن َر ُسو ٍل إِ َّلا ُنو ِحي إِ َل ْي ِه أَ َّن ُه لا إِلَ َه إِ َّلا أَ َنا َفا ْع ُب ُدو ِن) (الانبياء)25 : ((واتركوا ما كان عليه آباؤكم)) انظر كيف الصدع بالحق! كل ما كان عليه آباؤهم من عبادة الأصنام أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتركه. وأما ما كان عليه آباؤهم من الأخلاق الفاضلة؛ فإنه لم يأمرهم بتركه. ((و يأمرنا بالصلاة)) الصلاة هي الصلة بين العبد و ربه، وهي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين ،وبها يتميز المؤمن من الكافر ،فهي العهد الذي بيننا وبين المشركين والكافرين قال النبي صلى الله عليه وسلم ((بين الرجل والشرك والكفر ترك الصلاة)) مسلم ((و الصدق)) وهذا هو الشاهد من الحديث ،كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أمته بالصدق ،وهذا كقوله تعالىَ ( :يا أَ ُّي َها ا ّلَ ِذي َن آ َم ُنوا ا َّتقُوا ال َّل َه َو ُكو ُنوا َم َع ال َّصا ِد ِقي َن) (التوبة. )119 : والصدق خلق فاضل ،ينقسم إلى قسمين: ▪ صدق مع الله. ▪ و صدق مع عباد الله ((و العفاف)) أي :العفة ،والعفة نوعان:
عفة عن شهوة الفرج :وهي أن يبتعد الإنسان عما حرم عليه من الزنى ووسائله وذرائعه. وعفة عن شهوة البطن :وهو العفاف عما في أيدي الناس، كما قال تعالىَ ( :ي ْح َس ُب ُه ُم ا ْل َجا ِهلُ أَ ْغنِ َيا َء ِم َن ال َّت َع ّفُ ِف) (البقرة)27٣ : يعني :التعفف عن سؤال الناس. ((والصلة)) أن تصل ما أمر الله به أن يوصل من الأقارب الأدنى فالأدنى ،وأعلاهم الوالدان ،فإن صلة الوالدين بر وصلة .والأقارب لهم من الصلة بقدر ما لهم من القرب، فأخوك أوكد صلة من عمك ،وعمك أشد صلة من عم أبيك
الحديث السابع و الخمسون عن سهل بن ُح َن ْي ٍف رضي الله عنه :أ َّن ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم َقالََ (( :م ْن َسأَلَ الله َت َعالَى ال َّش َها َد َة بِ ِص ْد ٍق َب َّل َغ ُه اللهُ َم َنا ِزلَ ال ُّش َه َدا ِء َوإِ ْن َما َت َع َلى فِ َرا ِش ِه)) (رواه مسلم) شرح الحديث من طلب الشهادة في سبيل الله وهو صادق -ولم تتيسر له- بلغه الله منازل الشهداء فضلا منه بسبب نيته الصادقة التي علمها الله منه ،وإن مات على فراشه. ((من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء ،وإن مات على فراشه)) يعني من رغب بالشهادة في سبيل الله صاد ًقا ،وسأل الله الشهادة في سبيل الله وهو صادق؛ فالله يبلغه منازل الشهداء وإن مات على فراشه بسبب نيته الطيبة وصدقه، فهو في حكم الشهداء وله ثوابهم. قال القاري :لأ ّن كلا ًًمنهما نوى خيراً وفعل مقدوره فاستويا في أصل الأجر.
و هكذا من أراد أن يفعل شي ًئا من العمل كالصلاة أو الصدقة أو عيادة المريض أو الدعوة في سبيل الله ثم حال بينه حائل ومنعه من ذلك فهو على نيته. و علاقة هذا الحديث بباب الصدق ظاهرة؛ وذلك أن الصدق يكون في اللسان ،ويكون أي ًضا بالقلب ،ويكون بالعمل ،فهذا من الصدق الذي يكون بالقلب ،بمعنى :أنه يسأل ربه صاد ًقا أن يبلغه منازل الشهداء كما أنه أي ًضا يتعلق بالصدق باللسان؛ وذلك أنه يدعو ربه، فمن الناس من لا يصدق في هذا الدعاء ،فهذا يدعو ربه صاد ًقا بلسانه ويواطئ ذلك اللسان لما في مكنون القلب، فهو يسأل ربه أن يرزقه الشهادة بصدق ففي الحديث :الح ّث على الصدق وأن الصادقين يبلغهم الله مناهم وإن لم يفعلوا ما أرادوا لأسباب منعت من ذلك، فالصادق الطالب للحق المريد له يكتب الله له أجره وإن لم يدرك ما صدق فيه. و فيه :أنه إذا سأل الشهادة بصدق أعطي من ثواب الشهداء وإن كان على فراشه ،وفيه استحباب سؤال الشهادة واستحباب نية الخير
الحديث الثامن و الخمسون عن أبي هرير َة رضي الله عنه َقالََ :قالَ َر ُسولُ الله صلى الله عليه وسلم َ (( :غ َزا نب ٌّي ِم َن الأ ْنبِيا ِء َصلَ َوا ُت اللهِ َو َسلاَ ُم ُه َعلَ ْيه ْم َف َقالَ لِ َقوم ِه :لاَ َي ْت َب َع ِّني َر ُجلٌ َملَ َك ُب ْض َع ا ْم َرأ ٍة َو ُه َو ُيري ُد أ ْن َي ْبنِي بِ َها َولَ َّما َي ْب ِن بِ َهاَ ،ولا أ َح ٌد َب َنى ُب ُيو ًتا َل ْم َي ْر َف ْع ُسقُو َف َهاَ ،ولا أ َح ٌد ا ْش َت َرى َغ َن ًما أَ ْو َخلِ َفا ٍت َو ُه َو َي ْن َت ِظ ُر أَ ْولا َدهاَ .ف َغزا َف َد َنا ِم َن ال َق ْر َي ِة َصلا َة ال َع ْص ِر أَ ْو َقري ًبا ِم ْن ذلِ َك، َف َقالَ لِل َّش ْم ِس :إِ َّن ِك َمأ ُمو َرةٌ َوأ َنا َمأ ُمو ٌر ،اللَّ ُه َّم ا ْح ِب ْس َها َع َل ْي َنا، َف ُح ِب َس ْت َح َّتى َف َت َح اللهُ َع َلي ِهَ ،ف َج َم َع ال َغ َنا ِئ َم َف َجاء ْت -يعني ال َّنا َر -لِ َتأ ُكلَ َها َفلَ ْم َتط َع ْمهاَ ،ف َقالَ :إ َّن فِي ُك ْم ُغلُو ًلاَ ،ف ْل ُيباي ْعنِي ِم ْن ُكلِّ َقبيل ٍة َر ُجلٌَ ،فلَ ِز َق ْت يد رجل بِ َي ِد ِه َف َقالَ :فِي ُك ُم ال ُغلُولُ فلتبايعني قبيلتك ،فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده ،فقال :فيكم الغلولَ ،ف َجا ُؤوا بِ َر ْأس مثل رأس َب َق َر ٍة ِم َن ال َّذ َه ِبَ ،ف َو َض َع َها َفجاءت ال َّنا ُر َفأ َك َل ْتهاَ .فلَ ْم َتحلَّ ال َغ َنائِ ُم لأ َح ٍد َق ْبلَ َناُ ،ث َّم أ َحلَّ الله َل َنا ال َغ َنائِ َم لَ َّما َرأَى َض ْع َفنا َو َع ْج َز َنا َفأ َحلَّ َها لَ َنا)) ( ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه) شرح الحديث و في هذا الحديث أنه غزا نبي من الأنبياء من الأمم السابقة ويقولون أنه يوشع بن نون عليه السلام .فقال لقومه :لا يتبعني رجل عقد على امرأة ولم يبن بها ،لأنه إذا غزا صار قلبه معل ًقا بها ما يصدق في الغزو؛ لأنه عقد ولم يدخل بها.
ولا يتبعني رجل بنى بيو ًتا ولم يرفع سقفها؛ لأنه قلبه معلق بها لا يكون عنده صدق. و لا يتبعني رجل لديه ((خلفات)) و هي الناقة الحامل أو بقر أو غنم ينتظر نتاجها. يعني لا يتبعني إلا إنسان قد فرغ قلبه وبدنه للقتال والجهاد حتى يصدق في جهاده ،فلا يتبعني أحد له تعلقات فيما وراء ظهره وماترك خلفه قال القرطبي :نهي النب ُّي قومه عن اتباعه على أحد هذه الأحوال؛ لأ َّن أصحابها يكونون متعلقي النفوس بهذه الأسباب فتضعف عزائمهم ،وتفتر رغباتهم في الجهاد والشهادة ،ور ّبما يفرط ذلك التع ّلق فيفضي إلى كراهة الجهاد وأعمال الخير. غزا هذا النبي من بني إسرائيل فصادف حصاره البلد التي غزاها آخر النهار(( فقال للشمس :إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علينا)) حتى نفرغ من جهادنا لهؤلاء ،فحبس الله عليهم الشمس حتى فتح الله عليه ،والله على كل شيء قدير. يعني حبس الله لهم الشمس فلم تغب حتى فتح عليه ،وهذا من آيات الله ومن قدرته العظيمة جل وعلا ،كما أنه في آخر الزمان يردها من المغرب تطلع من المغرب كما طلعت من المشرق علامة من علامات الساعة .ثم لما جمعت الغنائم لم تأكلها النار ،وكان من قبلنا غنائمهم إذا قبل جهادهم أكلتها
النار ،فلم تأكل النار غنائمهم لما جمعوها فقال :فيكم غلول، و ((الغلول)) هو الأخذ من الغنيمة. فليبايعني من كل قبيلة رجل ،فبايعه بعض الرجال ،فالتصقت يد رجل منهم بيده ،فقال :فيكم الغلول! فلتبايعني قبيلتك ،فلصقت يد رجلين أو ثلاثة فقال :فيهم الغلول فأتوا بالغلول فإذا هم قد غلوا مثل رأس الثور من الذهب ،فلما جاؤوا بها وطرحوها في الغنيمة جاءت النار فأكلتها علامة للقبول. فهذا كان فيمن قبلنا علامة قبول جهادهم أن تأكل النار غنائمهم ،أما هذه الأمة فأحل الله لها الغنائم يقول صلى الله عليه وسلم :علم الله ضعفنا وحاجتنا فأحل لنا المغانم. فأحلت المغانم لهذه الأمة ولم تحل لأحد قبلهم .وفي الحديث الصحيح\" :أعطيت خم ًسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر ،وجعلت لي الأرض مسج ًدا وطهو ًرا ،فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ،ولم تحل لأحد قبلي ،وأعطيت الشفاعة – يعني الشفاعة العظمى لأهل الموقف -وكان النبي يبعث لقومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة \" في هذا الحديث :أ َّن فتن الدنيا تدعو النفس إلى الهلع ومحب ِة البقاء. و فيه :أ َّن الأمور المه ّمة لا ينبغي أن تف َّوض إلا لحازم فارغ البال لها
الحديث التاسع و الخمسون َقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ((ال َب ِّي َعا ِن بال ِخ َيار َما لَ ْم َي َت َف َّر َقاَ ،فإ ْن َص َدقا َوب َّي َنا ُبور َك َل ُه َما في بي ِعه َما ،وإ ْن َك َذ َبا َو َك َت َما ُم ِح َق ْت بر َك ُة َبي ِع ِهما)) ( ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه) شرح الحديث ((البيعان)) أي :البائع والمشتري ،وأطلق عليهما اسم البيع من باب التغليب ،كما يقال :القمران :للشمس والقمر، فالبيعان يعني :البائع والمشتري و قوله(( :بالخيار)) أي :كل منهما يختار ما يريد ما لم يتفرقا ،أي ما دام في مكان العقد لم يتفرقا فإنهما بالخيار. و مثاله :رجل باع على آخر سيارة بعشرة آلاف ،فما داما في مكان العقد ولم يتفرقا فهما بالخيار ،إن شاء البائع فسخ البيع ،وإن شاء المشتري فسخ البيع. فما دام الرجلان ـ البائع والمشتري ـ لم يتفرقا فهما بالخيار وإن طال الوقت ،لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (( :ما لم يتفرقا)) وفي حديث ابن عمر(( :أو يخير أحدهما الآخر)) أي :أو يقول أحدهما للآخر :الخيار لك وحدك ،فحينئذ يكون
الخيار له وحده ،والثاني لا خيار له .أو يقولا جميعا :لا خيار بيننا فالصور أربع: 1ـ إما يثبت الخيار لهما ،وذلك عند البيع المطلق الذي ليس فيه شرط ،يكون الخيار لهما ـ للبائع والمشتري ـ وكل منهما له الحق أن يفسخ العقد. 2ـ وإما أن يتبايعا على أن لا يكون الخيار لواحد منهما، وحينئذ يلزم البيع لمجرد العقد ولا خيار لأحد. ٣ـ وإما أن يتبايعا أن الخيار للبائع وحده دون المشتري، وهنا يكون الخيار للبائع ،والمشتري لا خيار له. 4ـ وإما أن يتبايعا على أن الخيار للمشتري والبائع لا خيار له ،وحينئذ يكون الخيار للمشتري ،وليس للبائع خيار. و ذلك لأن الخيار حق للبائع والمشتري فإذا رضيا بإسقاطه ،فالحق لهما ،وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرماً حلالاً أو أحلّ حراماً)) ((ما لم يتفرقا)) لم يبين التفرق ،ولكن المراد التفرق بالبدن ،يعني ما لم يتفرق أحدهما عن الآخر ،فإن تفرقا بطل الخيار ولزم البيع
((فإن صدقا وبينا بورك في بيعهما)) أي إن صدقا في الكلام فيما يصفان السلعة به من الصفات المرغوبة ،وبينا فيما يصفان به السلعة من الصفات المكروهة فالفرق بين الصدق و البيان أن: الصدق فيما يكون مرغوباً من الصفات. و البيان فيما يكون مكروهاً من الصفات. فكتمان العيب هذا ضد البيان ،ووصف السلعة بما ليس فيها هذا ضد الصدق. فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ،وإن كتما وكذبا محقت بركت بيعهما ...فالبركة في الصدق والبيان. فهذا يبين أن البيعان إذا صدقا ولم يغشا ولم يخونا بورك لهما في البيع ،هذا في المبيع وهذا في الثمن ،أما إذا غشا وكتما وكذبا صار هذا من أسباب محق البركة بسبب الكذب والخيانة والغش. في هذا الحديث: فضل الصدق والحث عليه ،وذم الكذب والتحذير منه ،وإنه سبب لذهاب البركة. و فيه :دليل على ثبوت خيار المجلس للبائع والمشتري.
المقدمة باب المراقبة الحديث الستون عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه َقالََ :ب ْي َنما َن ْح ُن ُجلُو ٌس ِع ْن َد َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم َذا َت َيو ٍم ،إ ْذ َط َل َع َع َلينا َر ُجلٌ َشدي ُد َبيا ِض ال ِّثيا ِبَ ،شدي ُد َس َوا ِد ال َّش ْع ِر ،لا ُي َرى َعلَي ِه أ َث ُر ال َّس َف ِرَ ،ولا َي ْع ِرفُ ُه ِم َّنا أ َح ٌدَ ،ح َّتى َجلَ َس إِلَى ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلمَ ،فأَ ْس َن َد ُر ْك َب َتي ِه إِلَى ُر ْكب َتي ِهَ ،و َوض َع َك َّفي ِه َع َلى َف ِخ َذي ِه. َوقالََ :يا ُم َح َّم ُد ،أ ْخبرني َع ِن الإسلا ِمَ ،ف َقالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم(( :الإسلا ُم :أ ْن َت ْشه َد أ ْن لاَّ إل َه إلاَّ الله َوأ َّن ُمح َّم ًدا رسولُ الله ،و ُتقي َم ال َّصلا َةَ ،و ُتؤ ِت َي ال َّز َكا َةَ ،و َتصو َم َر َم َضا َنَ ،و َت ُح َّج ال َبي َت إن ا ْس َت َط ْع َت إِ َل ْي ِه َسبي ًلا))َ .قالَ: َص َد ْق َتَ .ف َع ِج ْب َنا لَ ُه َي ْسأَلُ ُه َو ُي َص ِّدق ُه! َقالََ :فأَ ْخبرنِي َع ِن الإِي َما ِنَ .قالَ(( :أ ْن ُتؤ ِم َن باللهَِ ،و َملائِ َكتِ ِه، َو ُك ُتب ِهَ ،و ُر ُسلِ ِهَ ،وال َي ْو ِم الآ ِخر ،و ُت ْؤ ِم َن بال َق َد ِر َخي ِر ِه َو َش ِّر ِه)). َقالََ :صدقتَ .قالَ :فأَ ْخبرني َع ِن الإ ْح َسا ِنَ .قالَ(( :أ ْن َت ْع ُب َد الل َه َكأ َّن َك َت َراهُ فإ ْن َل ْم َت ُك ْن َت َراهُ فإ َّن ُه َي َرا َك)). َقالََ :فأَ ْخ ِبرني َع ِن ال َّسا َع ِةَ .قالََ (( :ما ال َم ْس ُؤولُ َع ْن َها بأ ْعلَ َم ِم َن ال َّسائِ ِل))َ .قالَ :فأخبِرني َع ْن أ َماراتِ َهاَ .قالَ(( :أ ْن َتلِ َد
الأَ َم ُة َر َّب َت َها ،وأ ْن َت َرى ال ُح َفا َة ال ُع َرا َة ال َعا َل َة ِر َعا َء ال َّشا ِء َي َت َطا َولُو َن في ال ُب ْن َيا ِن)). ُث َّم ا ْن َطل َق َفلَبِ ْث ُت َملِ ًّياُ ،ث َّم َقالََ (( :يا ُع َم ُر ،أَ َت ْدري َم ِن ال َّسا ِئلُ؟)) قُ ْل ُت :اللهُ ور ُسولُ ُه أ ْعلَ ُمَ .قالَ(( :فإ َّن ُه ِج ْبريلُ أَ َتا ُك ْم ي ْعلِّ ُم ُك ْم ِدي َن ُك ْم)) (رواه مسلم) شرح الحديث هذا الحديث عظيم القدر ،جامع لأبواب الدين كله ،بأبسط أسلوب ،وأوضح عبارة ،ولا نجد وصفا جامعا لهذا الحديث أفضل من قوله صلى الله عليه وسلم (( :فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم )). وقد تناول الحديث حقائق الدين الثلاث :الإسلام والإيمان والإحسان ،وهذه المراتب الثلاث عظيمة جداً ؛ لأن الله سبحانه وتعالى علق عليها السعادة والشقاء في الدنيا والآخرة. و بين هذه المراتب ارتباط وثيق ،فدائرة الإسلام أوسع هذه الدوائر ،تليها دائرة الإيمان فالإحسان ،وبالتالي فإن كل محسن مؤمن ،وكل مؤمن مسلم . و الحديث ف ّسر الإسلام هنا بالأعمال الظاهرة ،وذلك لأن الإسلام والإيمان قد اجتمعا في سياق واحد ،وحينئذ يفسر
الإسلام بالأعمال الظاهرة ،ويفسر الإيمان بالأعمال الباطنة من الاعتقادات وأعمال القلوب . ففسر الإسلام بشهادة ((أن لا إله إلا الله)) ومعنى أن تشهد أن لا إله إلا الله ،أي :أن يعترف الإنسان بلسانه وقلبه بأنه لامعبود بحق إلا الله ع ّز وجل و (أَ ْش َه ُد) بمعنى:أقر بقلبي ناطقاً بلساني؛ لأن الشهادة نطق وإخبار عما في القلب. و((أن محمد رسول الله)) رسول الله أرسله للخلق جميعاً وهنا مسألة :لماذا ُج ِعلَ هذان ركناً واحداً ،ولم يجعلا ركنين؟ و الجواب :أ ّن الشهادة بهذين تبنى عليها صحة الأعمال كلها ،لأن شهادة ألا إله إلا الله تستلزم الإخلاص ،وشهادة أن محمداً رسول الله تستلزم الاتباع ،وكل عمل يتقرب به إلى الله لا يقبل إلا بهذين الشرطين :الإخلاص لله ،والمتابعة لرسول الله . ((وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)) وهذه بقية أركان الإسلام (( َقالََ :ص َد ْق َت)) القائل صدقت :جبريل عليه السلام وهو السائل ،فكيف يقول :صدقت وهو السائل؟ لأن الذي يقول: صدقت للمتكلم يعني أن عنده علماً سابقاً بما يسأل عنه ،وهو محل عجب ،ولهذا تعجب الصحابة كيف يسأله ويصدقه.
ثم فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالاعتقادات الباطنة أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره. و الإيمان يتضمن أمو ًرا ثلاثة :الإقرار بالقلب ،والنطق باللسان ،والعمل بالجوارح والأركان. ثم تناول الحديث مرتبة الإحسان ،وهي أعلى مراتب الدين وأشرفها . والمراد بالإحسان هنا قد ب ّينه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (( :أن تعبد الله كأنك تراه ،فإن لم تكن تراه فإنه يراك )) ،وهذه درجة عالية ولا شك ،لأنها تدل على إخلاص صاحبها ،ودوام مراقبته لله عزوجل ثم سأل جبريل عليه السلام عن الساعة وعلاماتها ،فب ّين النبي صلى الله عليه وسلم أنها مما اختص الله بعلمه ،وهي من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله ،لكنه بين شيئا من أماراتها ،فقال : (( أن تلد الأمة ربتها )) ،قال الأكثرون هذا إخبار عن كثرة الجواري وأولادهن ،أي أن تكون المرأة أمة فتلد بنتا ، وهذه البنت تصبح سيدة تملك الإماء ،وهذا كناية عن كثرة الرقيق ،وقد حصل هذا في الصدر الأول من العهد الإسلامي. أما العلامة الثانية (( :وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء ،يتطاولون في البنيان )) ،ومعناه أن ترى الفقراء
الذين ليسوا بأهل للغنى ولا للتطاول ،قد فتح الله عليهم فيبنون البيوت الفارهة ،والقصور الباهرة ويتباهوا في البنيان .و ((العالة)) هم الفقراء ،والرعاء معناه أهل البادية. قوله(( :فلبث ملياً)) أي فلبثت وقتاً طويلاً وفي الحديث الأخر ثلاث ليال. ((هذا جبريل آتاكم يعلمكم أمر دينكم)) فيه دليل على أن الإيمان و الإسلام و الإحسان ،تسمى كلها ديناً و في الحديث :دليل على أن الإيمان بالقدر واجب ،وعلى وجوب الرضا بالقضاء.
الحديث الحادي و الستون عن أبي ذر ُج ْن ُدب ب ِن ُجنا َد َة وأبي عب ِد الرحم ِن معا ِذ ب ِن جب ٍل رضي الله عنهما عن رسو ِل الله صلى الله عليه وسلم َقالَ: ((ا َّت ِق الله َح ْي ُث َما ُك ْن َت َوأ ْتب ِع ال َّس ِّي َئ َة ال َح َس َن َة َت ْم ُح َهاَ ،و َخالِ ِق ال َّنا َس ِب ُخلُ ٍق َح َس ٍن)) (رواه الترمذيَ ،وحسنه الألباني) شرح الحديث ((ا َّت ِق الل َه)) أي اتخذ وقاية من عذاب الله عز وجل ،وذلك بفعل أوامره و اجتناب نواهيه. (( َح ْي ُث َما ُك ْن َت)) حيث :ظرف مكان ،أي في أ ّي مكا ٍن كنت سواء في العلانية أو في الس ّر ،وسوا ًء في البيت أو في ال ّسوق ،وسوا ًء عندك أُناس أو ليس عندك أناس. (( َو أَ ْتبِ ِع ال َّس ِّي َئ َة ال َح َس َن َة َت ْم ُح َها)) المعنى :إذا فعلت سيئة فأتبعها بحسنة،فهذه الحسنة تمحو السيئة. و اختلف العلماء -رحمهم الله -هل المراد بالحسنة التي تتبع السيئة هي التوبة ،أو المراد العموم ؟ الصواب :الثاني
أ ّن الحسنة تمحو السيئة وإ ْن لم تك ْن توبة ،دليلُ هذا قوله تعالىَ (:وأَ ِق ِم ال َّصلا َة َط َر َفيِ ال َّن َها ِر َو ُزلَفاً ِم َن ال ّلَ ْي ِل إِ َّن ا ْل َح َس َنا ِت ُي ْذ ِه ْب َن ال َّس ِّي َئات) (هود :الآية)114 (( َوأَ ْتبِ ِع ال َّس ِّي َئ َة ال َح َس َن َة َت ْم ُح َها)) فب ّين النتيجة هي أنها تمحوها. (( و ًَ َخالِ ِق ال َّنا َس بِ ُخلُ ٍق َح َس ٍن)) أي عامل الناس بخل ٍق حسن. و ال ُخلُق :هو الصفة الباطنة في الإنسان و ال َخ ْل ُق :هو الصفة الظاهرة و المعنى :عامل الناس بالأخلاق الحسنة بالقول وبالفعل. فما هو الخلق الحسن؟ قال بعضهم :الخلق الحسن: كف الأذى ،وبذل الندى ،والصبر على الأذى -أي على أذى الغير -والوجه الطلق. ▪كف الأذى منك للناس. ▪ بذل الندى أي العطاء. ▪ الصبر على الأذى لأن الإنسان لايخلو من أذية من الناس. ▪ الوجه الطلق :طلاقة الوجه.
و ضابط ذلك ما ذكره الله ع ّز وجل في قولهُ ( :خ ِذ ا ْل َع ْف َو َو ْأ ُم ْر بِا ْل ُع ْر ِف َوأَ ْع ِر ْض َع ِن ا ْل َجا ِهلِي َن) [الأعراف]199: يجمع الحديث ثلاثة حقوق :ـ ▪ الحق الأول :حق الله في قوله ((ا ّتق الله)) ▪ الحق الثاني :حق النفس في قوله ((وأ ْتبِ ْع السيئة الحسنة تمحها)) ▪ الحق الثالث :حق الناس في قوله ((و خالق الناس بخلق حسن)) قوله ((اتق الله حيثما كنت)) تأصيلٌ لمراقبة الله سبحانه في الس ّر والعلن فيه :بيان رحمة الله سبحانه بعبادة ،وذلك بفتح أبواب لمحو السيئات ومنها الاستغفار ومنها فعل الحسنات
الحديث الثاني والستون عن اب ِن عبا ٍس رضي الله عنهماَ ،قالَ :كنت خلف ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم يو ًماَ ،ف َقالََ (( :يا ُغلا ُم ،إ ِّني أع ّل ُم َك َكلِ َما ٍت :ا ْح َف ِظ اللهَ َي ْح َف ْظ َك ،ا ْح َف ِظ اللهَ َت ِج ْدهُ ُت َجا َه َك ،إِ َذا َسأ ْل َت َفاسأَ ِل الله ،وإِ َذا ا ْس َت َع ْن َت َفا ْس َت ِع ْن باللهَِ .وا ْع َل ْم :أ َّن الأُ َّم َة لَ ْو ا ْج َت َم َع ْت َع َلى أ ْن َي ْن َف ُعو َك ِب َشي ٍء لَ ْم َي ْن َف ُعو َك إلا بِ َشي ٍء َق ْد َك َتب ُه اللهُ لَ َكَ ،وإِن اج َت َم ُعوا َعلَى أ ْن َي ُض ُّرو َك بِ َشي ٍء لَ ْم َي ُض ُّرو َك إلا ِب َشي ٍء َق ْد َك َت َب ُه اللهُ َع َل ْي َكُ ،رفِ َع ِت الأَ ْقلاَ ُم َو َج َّف ِت ال ُّصح ُف)) رواه الترمذي(صححه الألباني ) وفي رواية غي ِر الترمذي(( :ا ْح َف ِظ الله َت ِج ْدهُ أَ َما َم َكَ ،تع َّر ْف إِلَى اللهِ في ال َّر َخا ِء َي ْع ِرف َك في ال ِّش َّد ِةَ ،وا ْعلَ ْم :أ َّن َما أَ ْخ َطأ َك لَ ْم َي ُك ْن لِ ُي ِصيب َكَ ،و َما أ َصا َب َك لَ ْم َي ُك ْن لِ ُي ْخ ِط َئ َكَ ،وا ْع َل ْم :أ َّن ال َّن ْص َر َم َع ال َّص ْب ِرَ ،وأَ َّن ال َف َر َج َم َع ال َك ْر ِبَ ،وأَ َّن َم َع ال ُع ْس ِر ُي ْس ًرا)). شرح الحديث هذا الحديث أصل عظيم في مراقبة الله ،و مراعاة حقوقه ،و التفويض لأمره ،و التوكل عليه ،و شهود توحيده وتف ُّرده، وعجز الخلائق كلَّهم وافتقارهم إليه. (( َيا ُغلا ُم )) لأ ّن ابن عباس رضي الله عنهما كان صغيراً، فإن النبي️ توفي وابن عباس قد ناهز الاحتلام يعني من الخامسة عشر إلى السادسة عشر أو أقل .
قال (( :إني أُ َعل ُم َك َكلِ َما ٍت )) قال ذلك من أجل أن ينتبه لها (( ِا ْح َف ِظ اللهَ َيح َفظ َك )) هذه كلم ٌة عظيمة و(( احفظ الله )) تعني احفظ حدوده وشريعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه (( احفظ الله يحفظك )) في دينك وأهلك ومالك ونفسك لأن الله سبحانه وتعالى يجزي المحسنين بإحسانه و أهم هذه الأشياء هو أن يحفظك في دينك ويسلمك من الزيغ والضلال و ُعلِ َم من هذا أ ّن من لم يحفظ الله فإنه لا يستحق أن يحفظه الله ع ّز وجل وفي هذا الترغيب على حفظ حدود الله ع ّز وجل . (( ا ْح َف ِظ اللهَ َت ِجدهُ ت َجا َه ْك )) معنى (( تجده تجاهك )) يعني تجد الله ع ّز وجل أمامك يدلك على كل خير ويقربك إليه ويهديك إليه ويذود عنك كل شر ولا سيما إذا حفظت الله بالاستعانة به فإن الإنسان إذا استعان بالله ع ّز وجل وتوكل عليه كان الله حسبه ولا يحتاج إلى أحد بعد الله قال تعالى: ( َيا أَ ُّي َها ال َّنبِ ُّي َح ْس ُب َك ال َّلهُ َو َم ِن ا َّت َب َع َك ِم َن ا ْل ُم ْؤ ِمنِي َن) (الأنفال)64: (( إ َذا َسأ ْل َت َفا ْسأَ ِل الله)) إذا سألت حاج ًة فلا تسأل إلا الله ع ّز وجل ولاتسأل المخلوق شيئاً وإذا قدر أنك سألت المخلوق ما يقدر عليه فاعلم أنه سبب من الأسباب وأن المسبب هو الله ع ّز وجل لو شاء لمنعه من إعطائك سؤالك فاعتمد على الله تعالى
(( َوإِ َذا ا ْس َت َع ْن َت َفا ْس َت ِع ْن بِاللهِ )) فإذا أردت العون فلا تطلب العون إلا من الله ع ّز وجل ،لأنه هو الذي بيده ملكوت السموات والأرض ،وهو يعينك إذا شاء وإذا أخلصت الاستعانة بالله وتوكلت عليه أعانك ،وإذا استعنت بمخلوق فيما يقدر عليه فاعتقد أنه سبب ،وأن الله هو الذي سخره لك (( َوا ْع َلم أَ َّن الأُ ّمة لو ا ْج َت َم َعت َع َلى أن َين َف ُعو َك بِشي ٍء َل ْم َي ْن َف ُعو َك إِلا بِشي ٍء َقد َك َت َب ُه اللهُ لَك )) الأمة كلها من أولها إلى آخرها لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ،وعلى هذا فإن نفع الخلق الذي يأتي للإنسان فهو من الله في الحقيقة لأنه هو الذي كتبه له وهذا حث لنا على أن نعتمد على الله ع ّز وجل ونعلم أن الأمة لا يجلبون لنا خيراً إلا بإذن الله ع ّز وجل (( و إِن ِا ْج َت َمعوا َع َلى أَ ْن َي ُض ُّرو َك بِشي ٍء َل ْم َيضروك إلا بشي ٍء َقد َك َت َب ُه اللهُ َعلَ ْي َك )) وعلى هذا فإن نالك ضر ٌر من أحد فاعلم أن الله قد كتبه عليك فا ْر َض بقضاء الله و بقدره، ولا حرج أن تحاول أن تدفع الض ّر عنك. (( ُرف َعت الأَ ْقلا ُمَ ،و َج ّفت ال ُّص ُح ُف )) يعني أن ما كتبه الله ع ّز وجل قد انتهى فالأقلام رفعت والصحف جفت ولا تبديل لكلمات الله.
الحديث الثالث و الستون عن أن ٍس رضي الله عنه َقالَ (( :إِ َّن ُك ْم لَتع َملُو َن أ ْع َما ًلا هي أ َد ُّق في أع ُي ِن ُك ْم ِم َن ال َّش ْع ِرُ ،ك َّنا َن ُع ُّد َها َعلَى َع ْه ِد َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم ِم َن ال ُمو ِبقا ِت )) (رواه البخاري) شرح الحديث انس بن مالك رضي الله عنه هو من صغار الصحابه وتأخرت وفاته فهو من المعمرين ،فبقي بعد النبي صلى الله عليه وسلم حوالي تسعين سنة .فتغيرت الأمور في عهده رضي الله عنه واختلفت أحوال الناس ،وصاروا يتهاونون في بعض الأمور العظيمة التي كانت في عهد الصحابة رضي الله عنهم. فأخبر عن حال من رآهم من التابعين ،وأنهم يعملون أعمالاً لا يبالون فيها ،فهي في أعينهم أد ّق من الشعر ،بمعنى أنها ليست ذات شأن ،ولا يته ّيبون عند عملها والقيام بها، وكانوا يعدونها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من (( الموبقات )) ،يعني :من المهلكات. (( إنكم لتعملون أعمالاً )) يحاسب بعض التابعين الذين أدركوه.
(( هي في أعينكم أدق من الشعر كنا نعدها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات )) يعني من المهلكات، أي من الكبائر المهلكة ،يقول لمن أدركهم من التابعين يقول لهم :إنكم تساهلون في أشياء تع ّدونها صغيرة وهي كانت عندنا عظيمة. فالمعنى :راقبوا الله وانظروا في أعمالكم ،كثي ٌر من الناس يتساهل بالمعاصي التي في عينه صغيرة وهي كبيرة ،مثل الغيبة ،مثل النميمة ،مثل عقوق الوالدين ،مثل الربا ،مثل الغش في المعاملات ،الكذب في الدعاوي ،كثير من الناس لا يع ّدها شيئاً ولا يبالي ،يكذب ،ويغش ،و ُيرابي ،ولا يبالي، ويغتاب الناس ولا يبالي لأجل ضعف دينه وقلة مبالاته. و ذلك لأنه كلما قوي الإيمان عظمت المعصية عند الإنسان، وكلما ضعف الإيمان خفت المعصية في قلب الإنسان ورآها أمراً ه ّيناً ،يتهاون و يتكاسل عن الواجب ولا يبالي ،لأنه ضعيف الإيمان. و قد قال النبي صلى الله عليه وسلم (( :إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه ،وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا )) أخرجه البخاري فالمؤمن يتح ّرز ،ويخاف من الله ،وكلما تعاظم الإيمان في قلب العبد كلما ازدادت خشيته وتخوفه مما قارفه من الأعمال ،وك ّلما ترحل الإيمان وضعف في قلب الإنسان كلما
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210
- 211
- 212
- 213
- 214
- 215
- 216
- 217
- 218
- 219
- 220
- 221
- 222
- 223
- 224
- 225
- 226
- 227
- 228
- 229
- 230
- 231
- 232
- 233
- 234
- 235
- 236
- 237
- 238
- 239
- 240
- 241
- 242
- 243
- 244
- 245
- 246
- 247
- 248
- 249
- 250
- 251
- 252
- 253
- 254
- 255
- 256
- 257
- 258
- 259
- 260
- 261
- 262
- 263
- 264
- 265
- 266
- 267
- 268
- 269
- 270
- 271
- 272
- 273
- 274
- 275
- 276
- 277
- 278
- 279
- 280
- 281
- 282
- 283
- 284
- 285
- 286
- 287
- 288
- 289
- 290
- 291
- 292
- 293
- 294
- 295
- 296
- 297
- 298
- 299
- 300
- 301
- 302
- 303
- 304
- 305
- 306
- 307