Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore المائة الأولي رياض الصالحين

المائة الأولي رياض الصالحين

Published by مكتبة(ورتل) الإلكترونيه, 2021-04-19 18:17:06

Description: المائة الأولي رياض الصالحين

Search

Read the Text Version

‫يتعدى عليه بالضرب أو القتل أو نحو ذلك‪ ،‬وإنما أبقى ذلك‬ ‫في داخل نفسه‪.‬‬ ‫(وهو قادر على أن ينفذه) هذا هو الشرط لحصول الأجر‬ ‫ومعناه‪ :‬ليس أنه سكت مع شدة ما في نفسه لعجزه‪ ،‬أو‬ ‫لخوفه من الناس‪ ،‬فلا يستطيع أن يتكلم‪ ،‬ولا يستطيع أن‬ ‫يتشفى‪ ،‬ولا يستطيع أن يقتص ممن أغاظه‪ ،‬فمثل هذا ليس‬ ‫بموعود بهذا الجزاء المذكور في الحديث؛ لأن الصبر إنما‬ ‫يحمد مع وجود الإمكان والقدرة على تحصيل مطلوبات‬ ‫النفس من التشفي وغيره‪ ،‬هذا هو الذي يحمد عليه الإنسان‬ ‫فالعفو إنما يحمد مع المقدرة‪ ،‬وكظم الغيظ إنما يحمد مع‬ ‫القدرة على إنفاذه‪ ،‬لكن ك َظ َم وسكت لخوفه فهذا لا يحمد‪.‬‬ ‫فإذا اغتاظ الإنسان من شخص وهو قادر على أن يفتك به‪،‬‬ ‫ولكنه ترك ذلك ابتغاء وجه الله‪ ،‬وصبر على ما حصل له من‬ ‫أسباب الغيظ؛ فله هذا الثواب العظيم أنه يدعى على رؤوس‬ ‫الخلائق يوم القيامة ويخير من أي الحور شاء‬ ‫(دعاه الله سبحانه وتعالى على رؤوس الخلائق يوم القيامة)‬ ‫هذا فيه تشريف وتكريم وبيان لمرتبته ومنزلته‬ ‫(حتى يخيره من الحور العين ما شاء) الحور جمع حوراء‪،‬‬ ‫وهي المرأة التي في عينها َح َور‪ ،‬وال َح َور فسر بتفسيرات‬ ‫من أشهرها‪ :‬شدة سواد العين في شدة بياض‬

‫والعين جمع عيناء‪ ،‬والعيناء هي واسعة العين‪ ،‬وذلك أن‬ ‫من أوصاف العين المحمودة السعة‬ ‫روي أن الحسين بن علي رضي الله عنه جاءه غلامه بكوز‬ ‫يصب عليه الوضوء‪ ،‬فصب فلما رفعه استعجل فأصاب‬ ‫َرباعيته وكسرها‪ ،‬فنظر إليه‪ ،‬فقال الغلام‪( :‬والكاظمين‬ ‫الغيظ) ‪ ،‬قال‪ :‬كظمت غيظي‪ ،‬قال‪( :‬والعافين عن الناس) ‪،‬‬ ‫قال‪ :‬عفوت عنك‪ ،‬قال‪( :‬والله يحب المحسنين) ‪ ،‬قال‪ :‬اذهب‬ ‫أنت حر‪ ،‬قال‪ :‬فما جائزة العتق؟ قال‪ :‬ليس في البيت إلا‬ ‫السيف وال َّد َرقة‪ ،‬خذها‪ ،‬أي‪ :‬ترس وسيف‪ ،‬فهذا الذي‬ ‫يملكه‪ ،‬خذها واذهب بها‬

‫الحديث الثامن والأربعون‬ ‫عن أبي هرير َة رضي الله عنه‪ :‬أ َّن َر ُج ًلا َقالَ للنبي صلى الله‬ ‫عليه وسلم‪ :‬أو ِصني‪َ .‬قالَ‪(( :‬لا َت ْغ َض ْب)) َف َر َّد َد ِمرا ًرا‪َ ،‬قالَ‪:‬‬ ‫((لاَ َت ْغ َض ْب))‬ ‫( رواه البخاري)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫قال الجرداني ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬إن هذا الحديث حديث عظيم‪،‬‬ ‫وهو من جوامع الكلم؛ لأنه جمع بين خيري الدنيا والآخرة‬ ‫و قال ابن التين ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬جمع في قوله‪(( :‬لا تغضب))‬ ‫خير الدنيا والآخرة؛ لأن الغضب يؤول إلى التقاطع ومنع‬ ‫الرفق‪ ،‬وربما آل إلى أن يؤذي المغضوب عليه‪ ،‬فينقص ذلك‬ ‫من الدين‬ ‫((أوصني)) فهذا الرجل طلب من النبي صلى الله عليه وسلم‬ ‫أن يوصيه وصية وجيزة جامعة لخصال الخير؛ ليحفظها‬ ‫عنه‪ ،‬خشية ألا يحفظها لكثرتها‪.‬‬ ‫((لا تغضب)) وصاه النبي صلى الله عليه وسلم ألا يغضب‪،‬‬ ‫ثم ردد هذه المسألة عليه مرا ًرا والنبي صلى الله عليه وسلم‬

‫يردد عليه هذا الجواب‪ ،‬فهذا يدل على أن الغضب جماع‬ ‫الشر‪ ،‬وأن التحرز منه جماع الخير‪.‬‬ ‫وقال الخطابي‪ :‬معنى ((لا تغضب))‪ :‬لا تتعرض لأسباب‬ ‫الغضب والأمور التي تجلب الغضب‪ ،‬أو‪ :‬لا تفعل ما يأمرك‬ ‫به الغضب‪ ،‬ويحملك عليه من الأقوال والأفعال‬ ‫وفي الحديث‪ :‬حرص المسلم على النصح والسؤال عن‬ ‫أبواب الخير‪.‬‬ ‫وفيه تكرار الكلام حتى يعيه السامع ويدرك أهميته‪.‬‬ ‫وفيه الحث على اجتناب أسباب الغضب ونتائجه من الأقوال‬ ‫والأفعال‪.‬‬

‫الحديث التاسع والأربعون‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ َر ُسول الله صلى الله‬ ‫عليه وسلم‪َ (( :‬ما َي َزالُ ال َبلاَ ُء بال ُمؤ ِم ِن َوال ُم ْؤ ِم َن ِة في نف ِس ِه‬ ‫و َولَ ِد ِه َو َمالِ ِه َح َّتى َي ْل َقى الله َت َعالَى َو َما َعلَي ِه َخ ِطي َئ ٌة))‬ ‫رواه الترمذي(حسنه الألباني)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫لا يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله‬ ‫وما عليه خطيئة‪ ،‬فالإنسان يبتلى تارة في نفسه بالمرض‬ ‫ونحوه وتارة بالولد وتارة بالمال فلا ب ّد من الصبر‪.‬‬ ‫(ما يزال البلاء بالمؤمن)‬ ‫وهذا يدل على التتابع والاستمرار‪ ،‬وأن هذا البلاء لا يكون‬ ‫مرة واحدة يلقى فيها ما يكره‪ ،‬ثم ينتهي كل شيء‪ ،‬نعم قد‬ ‫تكون أيام العافية أكثر من أيام البلاء‪ ،‬ولكن الإنسان لا يزال‬ ‫يرد عليه من الواردات ما يؤلمه ويكدر عليه راحته‪،‬‬ ‫وينغص عليه عيشه من ألوان الآلام الحسية والمعنوية‪،‬‬ ‫مما يتصل بذاته كما قال ‪ (:‬بالمؤمن والمؤمنة )‬ ‫وقوله‪( :‬بالمؤمن والمؤمنة) لو قال‪ :‬بالمؤمن لدخل فيه‬ ‫المرأة‪ ،‬لكن زيادة لفظ المؤمنة فيه دليل على مزيد من‬ ‫التأكيد‪ ،‬أن ذلك لا يختص بالرجل‪ ،‬إنما هو كذلك في شأن‬ ‫المرأة أيضا‬

‫فإذا وقع البلاء بالمرأة فكذلك هي موعودة بمثل هذا الجزاء‬ ‫بتكفير الذنوب والخطايا‬ ‫(في نفسه) كالهموم التي تصيبه من الأحزان والأمراض‬ ‫وغيرها ‪ ،‬فكل هذه الأمور الواقعة على النفس والبدن يكفر‬ ‫الله بها خطاياه‪.‬‬ ‫(وولده) أي مما يحصل للولد من المكاره التي تؤلم الأب‪،‬‬ ‫كالمرض والموت وغيرها مما يتألم الأب له‪ ،‬فيكون ذلك‬ ‫تكفيراً لخطايا هذا الوالد‪ ،‬ويدخل في الولد البنت والابن؛ لأن‬ ‫الولد يشمل هذا‪ ،‬وهذا‪.‬‬ ‫(وماله) وذلك بضياع شيء منه‪ ،‬أو بالسرقة‪ ،‬أو بالخسارة‬ ‫أو غير ذلك‪ ،‬كل ذلك يؤجر الإنسان عليه‪ ،‬ويحصل له تكفير‬ ‫الخطايا‬ ‫ومع أن هذه الأمور متفاوتة إلا أن الثلاث َة أمو ٌر تهم الإنسان‬ ‫غاية الأهمية‪ ،‬فنفسه أغلى شيء لديه‪ ،‬وولده قطعة من‬ ‫قلبه‪ ،‬وماله كذلك حبيب إلى نفسه‪ ،‬ولهذا قال الله تعالى ‪{ :‬‬ ‫ُز ِّي َن لِل َّنا ِس ُح ُّب ال َّش َه َوا ِت ِم َن ال ِّن َساء َوا ْل َب ِني َن َوا ْل َق َنا ِطي ِر‬ ‫َ َوواال ْلّلهَُخ ْي ِعِلن َدا ْلهُ ُم ُحَس َّ ْوس َمُن ِةا ْلَوَماآلأَ ِْنب َعا ِم[آل‬ ‫ا ْل ُم َقن َط َر ِة ِم َن ال َّذ َه ِب َوا ْلفِ َّض ِة‬ ‫َوا ْل َح ْر ِث َذلِ َك َم َتا ُع ا ْل َح َيا ِة ال ُّد ْن َيا‬ ‫عمران‪]14:‬‬ ‫(حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة) بمعنى‪ :‬أن ذلك لا‬ ‫يزال به حتى يلقى الله‪ ،‬أي ُيحط عنه من الخطايا شيئاً‬

‫فشيئاً‪ ،‬في كل بلية يلقاها يوضع عنه من الخطايا وتكفر‬ ‫عنه السيئات‪ ،‬حتى يتخفف كاهله من هذه الأوزار‪ ،‬فيكون‬ ‫قد لقي الله في نهاية المطاف وقد نفض عنه غبار الذنوب‪،‬‬ ‫فسقطت تلك الأحمال والأوزار الضخمة التي ترهقه وتثقله‪.‬‬ ‫فيه ‪:‬دليل على أن الإنسان إذا صبر واحتسب الأجر عند الله‬ ‫كفر الله عنه سيئاته‬ ‫وفيه ‪:‬أن المصائب في النفس والولد والمال تكون كفارة‬ ‫للإنسان‪ ،‬حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة ولكن‬ ‫هذا إذا صبر‬

‫الحديث الخمسون‬ ‫عن ا ْب ِن عبا ٍس رضي الله عنهما َقالَ‪َ :‬ق ِد َم ُع َي ْي َن ُة ْب ُن ِح ْص ٍن‪،‬‬ ‫َف َن َزلَ َعلَى ا ْب ِن أ ِخي ِه ال ُح ِّر ب ِن َقي ٍس‪َ ،‬و َكا َن ِم َن ال َّن َف ِر الَّ ِذي َن‬ ‫ُي ْد ِني ِه ْم ُعم ُر رضي الله عنه‪َ ،‬و َكا َن القُ َّرا ُء أ ْص َحا َب َم ْجلِس‬ ‫ُع َم َر رضي الله عنه َو ُمشا َو َرتِ ِه ُك ُهو ًلا كا ُنوا أَ ْو ُش َّبا ًنا‪َ ،‬ف َقالَ‬ ‫ُع َي ْي َن ُة لا ْب ِن أخي ِه‪َ :‬يا ا ْب َن أ ِخي‪ ،‬لَ َك َو ْج ٌه ِع ْن َد َه َذا الأ ِمي ِر‬ ‫َفا ْس َتأ ِذ ْن لِي َع َلي ِه‪ ،‬فا ْس َتأ َذن َفأ ِذ َن لَ ُه ُع َم ُر‪َ .‬ف َل َّما َد َخلَ َقالَ‪:‬‬ ‫ِهي َيا اب َن ال َخ َّطا ِب‪َ ،‬فوالل ِه َما ُت ْع ِطي َنا ا ْل َج ْزلَ َولا َت ْح ُك ُم ِفي َنا‬ ‫بال َع ْد ِل‪َ .‬ف َغ ِض َب ُع َم ُر رضي الله عنه َح َّتى َه َّم أ ْن ُيوقِ َع بِ ِه‪.‬‬ ‫َف َقالَ لَ ُه ال ُح ُّر‪َ :‬يا أمي َر ال ُم ْؤ ِمني َن‪ ،‬إ َّن الله َت َعا َلى َقالَ لِ َنب ِّي ِه‬ ‫صلى الله عليه وسلم‪ُ { :‬خ ِذ ا ْل َع ْف َو َوأْ ُم ْر ِبا ْل ُع ْر ِف َوأَ ْع ِر ْض َع ِن‬ ‫ا ْل َجا ِهلِي َن [الأعراف‪َ ]199 :‬وإ َّن َه َذا ِم َن ال َجا ِهلِي َن‪ ،‬واللهِ َما‬ ‫َجا َو َزهاَ ُع َم ُر ِحي َن َتلاَ َها‪ ،‬و َكا َن َو َّقا ًفا ِع ْن َد ِك َتا ِب اللهِ َت َعالَى‬ ‫(رواه البخاري)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫عيينة بن حصن الفزاري كان ممن أسلم أخيراً‪ ،‬وذلك بعد‬ ‫أن فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة‪ ،‬وكان من المؤلفة‬ ‫قلوبهم‪ ،‬وممن أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم مائة من‬ ‫الإبل‪ ،‬ثم ارتد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كما ارتد‬ ‫كثير من العرب‪ ،‬ثم أسر في حروب الردة في عهد أبي بكر‬

‫الصديق رضي الله عنه وجيء به إلى المدينة‪ ،‬ثم رجع إلى‬ ‫الإسلام‪.‬‬ ‫قدم عيينة بن حصن على عمر رضي الله عنه في زمن‬ ‫خلافته وكان ابن أخيه الحر بن قيس من جلساء عمر رضي‬ ‫الله عنه الذين يدنيهم ويقربهم منه وكان الحر رضي الله‬ ‫عنه من أهل العلم‬ ‫فقال عيينة للحر رضي الله عنه ‪ :‬استئذن لي على هذا‬ ‫الأمير‪ ،‬فاستأذن له الحر وأخبره بحاله‪ ،‬فلما دخل على عمر‬ ‫رضي الله عنه وسلم عليه‪ ،‬قال‪ :‬هيه يا ابن الخطاب‪ ،‬إنك لا‬ ‫تعطينا الجزل‪ ،‬ولا تحكم فينا بالعدل! وهذه كلمة جافية قد‬ ‫كذب فيها وأخطأ فيها‬ ‫فإن عدل عمر رضي الله عنه يضرب به المثل وتحريه‬ ‫للحق وحرصه على نفع الرعية وإلزامهم بالحق ومنعهم من‬ ‫كل ما حرم الله‬ ‫فغضب عمر رضي الله عنه عند ذلك وهم به يعني أن يوقع‬ ‫به العقاب تأدي ًبا له‪ ،‬فقال له الحر‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إن الله‬ ‫يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم ‪ُ { :‬خ ِذ ا ْل َع ْف َو َو ْأ ُم ْر ِبا ْل ُع ْر ِف‬ ‫َوأَ ْع ِر ْض َع ِن ا ْل َجا ِهلِي َن [الأعراف‪]199:‬‬ ‫فوالله إن هذا من الجاهلين‪ ،‬فما جاوزها عمر رضي الله عنه‬ ‫‪ ،‬وسمح وعفا وصفح عن كلمته القبيحة‪.‬‬ ‫▪ ُخ ِذ ا ْل َع ْف َو يعني‪ :‬من أخلاق الناس ما استيسر منها‬

‫▪ َو ْأ ُم ْر بِا ْل ُع ْر ِف يعني‪ :‬المعروف‬ ‫▪ َوأَ ْع ِر ْض َع ِن ا ْل َجا ِهلِي َن يعني‪ :‬أهل السفه‬ ‫فما جاوزها عمر رضي الله عنه وكان وقافاً يعني بمجرد‬ ‫التذكير وقف‪ ،‬ولم يحصل منه معاقبة لهذا الرجل‬ ‫ففي هذا منقبة لعمر رضي الله عنه وحث على التأسي به‬ ‫عندما يتكلم الجهال بما يغضب الإنسان لا ب ّد من الصبر‬ ‫والتحمل واحتساب الأجر‬ ‫وقد كان كثير من الأعراب وغير الأعراب يغضبون النبي‬ ‫صلى الله عليه وسلم ويتحمل ويصبر عليه الصلاة والسلام‬ ‫في هذا الحديث‪ :‬أَ َّنه ينبغي لولي الأَمر مجالسة القراء‬ ‫والفقهاء ليذكروه إذا نسي‪ ،‬ويعينوه إذا ذكر‪ .‬وفيه‪ :‬ال ِح ْلم‬ ‫والصفح عن الجهال‪.‬‬ ‫قال جعفر الصادق‪ :‬ليس في القرآن آي ٌة أَجمع لمكارم‬ ‫الأخلاق من هذه‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬أن الصفح والصبر من ولاة الأمور ومن المسؤولين‬ ‫منقبة عظيمة فينبغي للمسئول من أمير أو قاض أو غيرهما‬ ‫ولكل مسلم التحمل والصبر وعدم العجلة في الانتقام‬ ‫فالإنسان بحاجة إلى الصبر على أذى الناس‪ ،‬والتحمل‬ ‫وحبس النفس‬

‫الحديث الحادي و الخمسون‬ ‫عن ابن مسعود رضي الله عنه‪ :‬أن َر ُسول الله صلى الله‬ ‫عليه وسلم َقالَ‪(( :‬إ َّن َها َس َتكو ُن َب ْع ِدي أ َث َرةٌ وأُ ُمو ٌر‬ ‫ُت ْن ِك ُرو َنها!))‬ ‫َقالُوا‪َ :‬يا َر ُسول الله‪َ ،‬ف َّما َتأْ ُم ُرنا؟‬ ‫َقالَ‪ُ (( :‬ت َؤ ُّدو َن ا ْل َح َّق ا َلّ ِذي َع َل ْي ُك ْم‪َ ،‬و َتسأَلُو َن الله الَّ ِذي لَ ُك ْم))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫((إنها ستكون بعدي أثرة)) هذا من إخباره عليه الصلاة‬ ‫والسلام عن الغيوب المستقبلة‬ ‫و المراد ب((الأثرة)) أي‪ :‬الانفراد بالشيء دون أصحاب‬ ‫الحق‪ ،‬والاستئثار بالحقوق والأموال‪ ،‬فينفرد بها قوم دون‬ ‫قوم‪ ،‬فمن كان متسلطاً متمكناً فإن ذلك قد يحمله على‬ ‫الاستئثار بالمال أو بغيره من بين سائر الناس‪.‬‬ ‫((وأمور تنكرونها)) يعني‪ :‬من التبديل‪ ،‬والتغيير‪ ،‬وقد حصل‬ ‫ذلك منذ أزمان متطاولة‬ ‫أي أنه سيلي عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون يعني أمراء‬ ‫فيهم الط ّيب وفيهم الخبيث فيهم الظالم وفيهم غيره يبدلوا‬ ‫ويغيروا‬

‫قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عندئذ‪ :‬يا رسول‬ ‫الله‪ ،‬فما تأمرنا؟‬ ‫أي‪ :‬كيف يكون موقفنا حينما نلقى هذه الأثرة وهذا التبديل؟‬ ‫فقال‪(( :‬تؤدون الحق الذي عليكم)) المقصود بالحق الذي‬ ‫عليكم أي‪ :‬الطاعة‪ ،‬وعدم الخروج على الأئمة حتى تروا‬ ‫كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان‬ ‫أي أدوا إليهم حقهم‪ ،‬يعني اسمعوا وأطيعوا أدوا إليهم حقهم‬ ‫بالسمع والطاعة وإذا قصروا في حقكم فاسألوا الله الذي‬ ‫لكم‪ ،‬ولا تنزعوا ي ًدا من طاعة ولا تفتحوا باب الفتنة‬ ‫اصبروا إن أدوا إليكم حقوقكم‪ ،‬فالحمد لله وإلا فلا تنزعوا‬ ‫ي ًدا من طاعة اصبروا‬ ‫و سلوا الله الذي لكم سلوا الله أن الله يهديهم حتى يعطوكم‬ ‫حقوقكم‪ ،‬حتى ينفقوا بيت المال في وجهه‪ ،‬حتى يسوسوا‬ ‫الرعية بما ينبغي لا ب ّد من الصبر فالعبد عليه السمع‬ ‫والطاعة فيما أحب وكره س ًدا لباب الفتن وحس ًما للشرور‬ ‫التي قد تترتب عليه المعصية‬ ‫فتسألون حقكم من الله ‪ ،‬وتحتسبون ذلك‪ ،‬وذلك أن التصرف‬ ‫إزاء هذه الأثرة‪ ،‬أو هذا المنكر بغير ذلك يؤدي إلى مفاسد‬ ‫عظيمة‪ ،‬و هذا من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه‬ ‫صلى الله عليه وسلم علم أن ال ّنفوس شحيحة‪ ،‬وأنها لن‬ ‫تصبر على من يستأثر عليهم بحقوقهم‪.‬‬

‫ولكنه صلى الله عليه وسلم أرشد إلى أمر قد يكون فيه‬ ‫الخير‪ ،‬وذلك بأن نؤدي ما علينا نحوهم من السمع والطاعة‬ ‫ونسأل الله الذي لنا‬ ‫و فيه‪ :‬دليل على نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه‬ ‫أخبر بأمر وقع بالفعل‬ ‫و فيه‪ :‬استعمال الحكمة في الأمور التي قد تقتضي الإثارة‪،‬‬ ‫فإنه لا شك أن استئثار الولاة بالمال دون الرعية يوجب أن‬ ‫تثور الرعية وتطالب بحقها‪ ،‬ولكن الرسول صلى الله عليه‬ ‫وسلم أمر بالصبر على هذا‪ ،‬وأن نقوم بما يجب علينا‪،‬‬ ‫ونسأل الله الذي لنا‬

‫الحديث الثاني و الخمسون‬ ‫عن أُ َس ْيد بن ُح َضير رضي الله عنه‪ :‬أ َّن َر ُج ًلا ِم َن الأ ْنصا ِر‬ ‫َقالَ‪َ :‬يا رسولَ الله‪ ،‬ألا َت ْس َت ْع ِملُني َك َما ا ْس َت ْع َم ْل َت فُلا ًنا؟ َف َقالَ‪:‬‬ ‫((إن ُك ْم َس َت ْل َقو َن َب ْع ِدي أَ َث َر ًة َفا ْصبِ ُروا َح َّتى َت ْل َقوني َعلَى‬ ‫ال َح ْو ِض))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫وهذا الحديث كحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه‬ ‫السابق أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ((إنها ستكون‬ ‫أثرة)) و لكنه قال‪(( :‬اصبروا حتى تلقوني على الحوض))‬ ‫يعني‪ :‬اصبروا ولا تنابذوا الولاة أمرهم حتى تلقوني على‬ ‫الحوض‪ ،‬يعني أنكم إذا صبرتم فإن من جزاء الله لكم على‬ ‫صبركم أن يسقيكم من حوضه عليه الصلاة والسلام‬ ‫هذا الحوض الذي يكون في يوم القيامة في مكان و زمان‬ ‫أحوج ما يكون الناس إليه؛ لأنه في ذلك المكان وفي ذلك‬ ‫الزمان‪ ،‬في يوم الآخرة‪ ،‬يحصل على الناس من الهم والغم‬ ‫والكرب والعرق والحر ما يجعلهم في أشد الضرورة إلى‬ ‫الماء‪ ،‬فيردون حوض النبي صلى الله عليه وسلم‬

‫حوض عظيم طوله شهر وعرضه شهر‪ ،‬يصب عليه‬ ‫ميزابان من الكوثر‪ ،‬وهو نهر في الجنة أعطية النبي صلى‬ ‫الله عليه وسلم ‪ ،‬يصبان عليه ماء‪ ،‬أشد بياضا من اللبن‪،‬‬ ‫وأحلى من العسل‪ ،‬وأطيب من رائحة المسك‪ ،‬وفيه أوان‬ ‫كنجوم السماء في اللمعان والحسن والكثرة‪ ،‬من شرب منه‬ ‫شربة واحدة لم يظمأ بعدها أبداً‪.‬‬ ‫فأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يصبروا ولو‬ ‫وجدوا الأثرة‪ ،‬فإن صبرهم على ظلم الولاة من أسباب الورد‬ ‫على الحوض والشرب منه‪.‬‬ ‫وقيل‪ :‬إِ َّن وجه المناسبة بين الجواب والسؤال أَ َّن من شأن‬ ‫العامل الاستئثار إِلا َم ْن عصم الله‪َ ،‬فأشفق عليه صلى الله‬ ‫عليه وسلم ِمن أَن يقع فيما يقع فيه بع ُض من يأتي بعده من‬ ‫الملوك‪َ ،‬ف َي ْستأثر على ذوي الحقوق‪ ،‬وهذا من جملة‬ ‫معجزاته صلى الله عليه وسلم فقد وقع كما أَخبر‬ ‫و في هذين الحديثين‪ :‬حث على الصبر على استئثار ولاة‬ ‫الأمور في حقوق الرعية‬

‫الحديث الثالث و الخمسون‬ ‫عن أبي إبراهيم عب ِد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما‪ :‬أ َّن‬ ‫َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم في ب ْع ِض أيا ِم ِه التي لَ ِق َي‬ ‫ِفي َها ال َع ُد َّو‪ ،‬ا ْن َت َظ َر َح َّتى إِ َذا مالَ ِت ال َّش ْم ُس َقا َم فيه ْم‪َ ،‬ف َقالَ‪:‬‬ ‫(( َيا أ ُّي َها ال َّنا ُس‪ ،‬لا َت َت َم َّنوا لِ َقا َء ال َع ُد ِّو‪َ ،‬وا ْسأَلُوا الله ال َعافِ َي َة‪،‬‬ ‫َفإِ َذا لقي ُت ُمو ُه ْم َفا ْصب ُروا‪َ ،‬وا ْع َل ُموا أ ّن ال َج َّن َة َت ْح َت ِظلا ِل‬ ‫ال ُّسيو ِف))‬ ‫ُث َّم َقالَ ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم‪(( :‬اللَّ ُه َّم ُم ْن ِزلَ ال ِك َتا ِب‪،‬‬ ‫َو ُم ْج ِر َي ال َّس َحا ِب‪َ ،‬و َها ِز َم الأ ْح َزا ِب‪ ،‬ا ْه ِز ْم ُه ْم َوان ُص ْر َنا‬ ‫َعلَ ْيه ْم))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫عن عبد الله بن أبي أوفى ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‬ ‫الله عليه وسلم كان في بعض غزواته‪ ،‬فانتظر حتى مالت‬ ‫الشمس‪ ،‬أي‪ :‬زالت الشمس‪ ،‬وذلك من أجل أن تقبل البرودة‬ ‫ويكثر الظل وينشط الناس‪ ،‬فانتظر حتى مالت الشمس ثم قام‬ ‫فيهم خطيبا‬ ‫قال‪ ((:‬يا أيها الناس‪ ،‬لا تتمنوا لقاء العدو‪ ،‬واسألوا الله‬ ‫العافية‪ ))..‬أي‪ :‬لا ينبغي للإنسان أن يتمنى لقاء العدو‪.‬‬

‫فلا شك أن لقاء العدو فيه من البلاء والفتنة التي تضطرب‬ ‫معها كثير من النفوس ‪ ،‬فالإنسان قد لا يثبت ولا يصبر في‬ ‫أرض المعركة‬ ‫فالإنسان لا يتمنى لقاء العدو‪ ،‬و ليس ذلك فحسب‪ ،‬بل إن‬ ‫الإنسان لا يتمنى البلاء مطلقاً‪ ،‬لكنها إذا نزلت به عليه أن‬ ‫يصبر‬ ‫((واسألوا الله العافية)) فالعافية لا يعدلها شيء‪ ،‬ولهذا نقل‬ ‫عن بعض السلف أنه كان يقول‪ :‬إن العافية مع الشكر خير‬ ‫من البلاء مع الصبر‪.‬‬ ‫((فإذا لقيتموهم فاصبروا)) فإذا نزل البلاء فعند ذلك الصبر‬ ‫يتحتم‪ ،‬ويكون أمراً واجباً‪ ،‬ولا خيار للإنسان في ذلك‪.‬‬ ‫((و اعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)) يعني أن القتلى‬ ‫في سبيل الله لهم الجنة‪ ،‬وهذا فيه ترغيب في الجهاد‬ ‫والإقدام ومناجزة العدو والصبر تحت ظلال السيوف‪ ،‬فلا‬ ‫ينهزم إذا علم أن الجنة تحتها‪ ،‬وذلك أن هذا الجهاد وبريق‬ ‫السيوف فوق رأسه بلاء عظيم يحصل بسببه دخول الجنة‪،‬‬ ‫ويأمن هذا الإنسان من فتنة القبر‬ ‫ثم قال عليه الصلاة والسلام‪(( :‬اللهم منزل الكتاب‪ ،‬ومجري‬ ‫السحاب‪ ،‬وهازم الأحزاب‪ ،‬أهزمهم وانصرنا عليهم))‬ ‫فهنا توسل النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات الشرعية‬ ‫والآيات الكونية‬

‫توسل بإنزال الكتاب وهو القرآن الكريم‪ ،‬وقد يشمل كل‬ ‫كتاب‪ ،‬ويكون المراد به الجنس‪ ،‬أي‪ :‬منزل الكتب على‬ ‫محمد صلى الله عليه وسلم وعلى غيره من الرسل‬ ‫((ومجري السحاب)) ‪ :‬هذه آية كونية‪ ،‬فالسحاب المسخر‬ ‫بين السماء والأرض لا يجريه إلا الله عز وجل‪ ...‬وفيه أيضاً‬ ‫إيماء بنعمة أخرى‪ ،‬وهي أن السحاب يكون سبباً للمطر‬ ‫الذي يحصل به النبات‪ ،‬فتقوم به معايش الناس‪.‬‬ ‫((وهازم الأحزاب)) ‪ :‬فإن الله عز وجل وحده هو الذي يهزم‬ ‫الأحزاب‪.‬‬ ‫وهذه نعمة ثالثة حصل بها حفظ النعمتين‪ ،‬نعمة الدنيا‪،‬‬ ‫ونعمة الدين‪ ،‬فلو دخل الأحزاب وأفسدوا وخربوا وقتلوا‬ ‫وغلبوا فإنهم يخربون الدنيا والدين‬ ‫ف َق ّدم بهذه الأمور الثلاثة الجامعة لهذه النعم ‪-‬التي تجمع كل‬ ‫النعم‪ ،‬قدم بها بين يدي الدعاء‪ ،‬وهذا من الأدب في الدعاء‬ ‫((اهزمهم وانصرنا عليهم)) قد ينهزمون ولا يحصل النصر‪،‬‬ ‫فجمع بين الأمرين‪ ،‬اهزمهم وانصرنا عليهم‪ ،‬ولا شك أن‬ ‫هذا من أعظم ما يحصل للمجاهد‪ ،‬أن يهزم العدو وأن‬ ‫ينتصر عليه‪ ،‬فيكون بذلك التشفي في أعلى صوره‬

‫ففي هذا الحديث عدة فوائد‪:‬‬ ‫منها‪ :‬أن لا يتمني الإنسان لقاء العدو‪ ،‬وهذا غير تمني‬ ‫الشهادة! تمني الشهادة جائز وليس منهيا عنه‪ ،‬بل قد يكون‬ ‫مأموراً به‪ ،‬أما تمني لقاء العدو‪ ،‬فلا تتمناه‪.‬‬ ‫و منها‪ :‬أن يسأل الإنسان الله العافية‪ ،‬لأن العافية والسلامة‬ ‫لا يعدلها شيء‪.‬‬ ‫ومنها‪ :‬أن الإنسان إذا لقي العدو فإن الواجب عليه أن‬ ‫يصبر‪.‬‬ ‫ومنها ‪ :‬الدعاء حال الشدائد‪ ،‬والخروج من الحول والقوة‪،‬‬ ‫وفيه‪ :‬الجمع بين الأَخذ بالأَسباب‪ ،‬والتو ُّكل على الله تعالى‪.‬‬

‫المقدمة‬ ‫باب الصدق‬ ‫الحديث الرابع و الخمسون‬ ‫عن ابن مسعود رضي الله عنه عن ال َّنب ّي صلى الله عليه‬ ‫وسلم‪َ ،‬قالَ‪(( :‬إ َّن ال ِّصد َق َي ْه ِدي إِلَى الب ِّر‪ ،‬وإ َّن البِ َّر َيه ِدي‬ ‫إِلَى ال َج َّن ِة‪ ،‬وإ َّن ال َّر ُجلَ َل َيص ُد ُق َح َّتى ُي ْك َت َب ِع ْن َد اللهِ ِص ِّدي ًقا‪.‬‬ ‫َوإِ َّن ال َك ِذ َب َي ْه ِدي إِلَى الفُ ُجو ِر‪َ ،‬وإِ َّن الفُ ُجو َر َيه ِدي إِلَى ال َّنا ِر‪،‬‬ ‫َوإِ َّن ال َّر ُجلَ لَ َي ْك ِذ ُب َح َّتى ُيك َت َب ِع ْن َد الله َك َّذا ًبا))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫و هذا الحديث يدل على وجوب الصدق وعظم شأنه‪ ،‬وأن‬ ‫الواجب على أهل الإسلام أن يتحروا الصدق في أقوالهم‬ ‫وأعمالهم‪ ،‬وليس الصدق خا ًصا بالأقوال؛ بل يكون في‬ ‫الأعمال والأقوال جميعاً‪ ،‬في أعمال القلوب وفي أعمال‬ ‫الجوارح‬ ‫((عليكم بالصدق)) أي‪ :‬ألزموا الصدق‪ ،‬والصدق‪ :‬مطابقة‬ ‫الخبر للواقع‪ ،‬أي أن تخبر بشيء فيكون الخبر مطابقا‬ ‫للواقع‬ ‫و الخبر يكون باللسان ويكون بالأركان‬

‫و أما باللسان فهو القول‪ ،‬و أما بالأركان فهو الفعل‬ ‫و لكن كيف يكون الكذب بالفعل؟ !‬ ‫إذا فعل الإنسان خلاف ما يبطن فهذا قد كذب بفعله‪،‬‬ ‫فالمنافق مثلا كاذب لأنه يظهر للناس خلاف مايبطن‪.‬‬ ‫فإذا طابقت أعمال الجوارح ما في القلب فهي صدق بالأفعال‬ ‫ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم عاقبة الصدق فقال‪:‬‬ ‫((إن الصدق يهدي إلى البر‪ ،‬وإن البر يهدي إلى الجنة))‬ ‫((البر)) يعني كثرة الخير‪ ،‬وهو من نتائج الصدق‬ ‫فالبر كلمة جامعة لكل محا ّب الله من الأعمال الصالحة‪،‬‬ ‫والأمور المقربة إليه‪ ،‬فالصدق يهدي إليها‪.‬‬ ‫والصادق‪ ،‬يقوده ويهديه صدقه إلى أن يكون با ًرا في عمله‬ ‫وقوله وتصرفاته بعي ًدا عن الفجور‪.‬‬ ‫((يهدي إلى الجنة)) فصاحب البر يهديه ويقوده بره إلى‬ ‫الجنة ويكون من أسباب دخوله الجنة ‪ ،‬والجنة غاية كل‬ ‫مطلب‪.‬‬ ‫((إن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله ص ِّديقاً)) وفي‬ ‫رواية‪(( :‬ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب‬ ‫عند الله صديقا))‬ ‫أي‪ :‬أنه يكثر من ذلك‪ ،‬ويكون ديدنه وعمله الدائم المستمر‬ ‫حتى يكتب عند الله‪ ،‬أي‪ :‬يثبت عنده صديقاً‬

‫و ((ال ّصديق)) هو من كمل تصديقه‪ ،‬وكثر صدقه في أقواله‬ ‫وأفعاله وأحواله‪ ،‬فالرجل الذي يتحرى الصدق يكتب عند الله‬ ‫صديقاً‪.‬‬ ‫و الصديق في المرتبة الثانية من مراتب الخلق الذين أنعم‬ ‫ال َّل َه َوال َّر ُسولَ‬ ‫َوال ِّص ِّدي ِقي َن‬ ‫الله َفأُعوللَيِئهَكم َمك َعماالَّقِذايل َنالأَلْنه َع َمسابل َّلحهُان َهعلَ‪ْ :‬ي ِ(ه َْمو َمال ْ َّننبِ ِّيُيي ِطَنِع‬ ‫َوال ُّش َه َدا ِء َوال َّصالِ ِحي َن) (النساء‪)69 :‬‬ ‫و أما الكذب قال النبي صلى الله عليه وسلم ((وإياكم‬ ‫والكذب))‬ ‫((إياكم)) للتحذير‪ ،‬أي‪ :‬أحذروا الكذب‪ ،‬والكذب هو الإخبار‬ ‫بما يخالف الواقع‪ ،‬سواء كان ذلك بالقول أو بالفعل‪.‬‬ ‫((وإن الكذب يهدي إلى الفجور)) الفجور‪ :‬الخروج عن‬ ‫طاعة الله؛ لأن الإنسان يفسق ويتعدى ويخرج عن طاعة الله‬ ‫إلى معصيته‪ ،‬وأعظم الفجور الكفر ؛ فإن الكفرة فجرة‪ ،‬كما‬ ‫قال الله‪( :‬أُولَ ِئ َك ُه ُم ا ْل َك َف َرةُ ا ْل َف َج َرةُ) (عبس‪.)42 :‬‬ ‫فالكذب يهدي إلى الفجور‪ ،‬والفجور يهدي إلى النار‪.‬‬ ‫((وإن الرجل ليكذب)) وفي لفظ ((لا يزال الرجل يكذب‬ ‫ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا)) الكذب من الأمور‬ ‫المحرمة‪ ،‬بل قال بعض العلماء‪ :‬إنه من كبائر الذنوب؛ لأن‬

‫الرسول صلى الله عليه وسلم توعده بأنه يكتب عند الله‬ ‫كذاباً‪.‬‬ ‫و الكذب لايجوز إلا في ثلاث حالات ‪ :‬في الحرب‪ ،‬والإصلاح‬ ‫بين الناس‪ ،‬وحديث المرأة زوجها وحديثه إياها‪.‬‬ ‫فقد ص ّح في الحديث جواز الكذب لتحقيق مصلحة دون‬ ‫مضرة‪ ،‬للغير تذكر‪ ،‬فيما رواه البخاري ومسلم عن أم كلثوم‬ ‫بنت عقبة بن أبي معيط قالت‪ :‬سمعت رسول الله ️ يقول‪:‬‬ ‫(ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول‬ ‫خيراً)‬ ‫و في رواية‪( :‬ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس‬ ‫إلا في ثلاث‪ :‬تعني الحرب‪ ،‬والإصلاح بين الناس‪ ،‬وحديث‬ ‫الرجل امرأته‪ ،‬وحديث المرأة زوجها)‬ ‫والمراد بالحديث بين الزوجين هو عن الحب الذي يساعد‬ ‫على دوام العشرة‬

‫الحديث الخامس و الخمسون‬ ‫عن أبي محمد الحسن ب ِن عل ِّي بن أبي طالب رضي الله‬ ‫عنهما َقالَ‪َ :‬حف ْظ ُت ِم ْن َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫(( َد ْع َما َي ِري ُب َك إِلَى َما لا َي ِري ُب َك؛ فإ َّن ال ِّصد َق ُط َمأ ِني َن ٌة‪،‬‬ ‫َوال َك ِذ َب ِري َب ٌة))‬ ‫رواه الترمذي ( وصححه الألباني)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫قال المناوي رحمه الله ‪ (( \" :‬دع ما يريبك )) أي ‪ :‬اترك ما‬ ‫تشك في كونه حسنا أو قبيحا ‪ ،‬أو حلالا أو حراما ‪ (( ،‬إلى‬ ‫ما لا يريبك )) أي ‪ :‬واعدل إلى ما لا شك فيه ‪ ،‬يعني ما‬ ‫تيقنت حسنه و ِح َّله ‪ (( ،‬فإن الصدق طمأنينة )) أي ‪ :‬يطمئن‬ ‫إليه القلب ويسكن ‪ (( ،‬وإن الكذب ريبة )) أي ‪ :‬يقلق القلب‬ ‫ويضطرب‬ ‫و قال ال ِّطيبي ‪ :‬معناه ‪ :‬إذا وجدت نفسك ترتاب في الشيء ‪،‬‬ ‫فاتركه‪ ،‬فإن نفس المؤمن تطمئن إلى الصدق ‪ ،‬وترتاب من‬ ‫الكذب ‪ ،‬فارتيابك من الشيء منبيء عن كونه مظنة للباطل‬ ‫‪ ،‬فاحذره ‪ ،‬وطمأنينتك للشيء مشعر بحقيقته ‪ ،‬فتمسك به \"‬ ‫وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ‪ \" :‬وهذا الحديث من‬ ‫جوامع الكلم ‪ ،‬وما أجوده وأنفعه للعبد إذا سار عليه ‪،‬‬ ‫فالعبد يرد عليه شكوك في أشياء كثيرة ‪ ،‬فنقول ‪ :‬دع الشك‬

‫إلى ما لاش ّك فيه ‪ ،‬حتى تستريح وتسلم ‪ ،‬فكل شيء يلحقك‬ ‫به ش ّك وقلق وريب ‪ :‬اتركه إلى أمر لا يلحقك به ريب ‪،‬‬ ‫وهذا ما لم يصل إلى حد الوسواس ‪ ،‬فإن وصل إلى حد‬ ‫الوسواس فلا تلتفت له‬ ‫و هذا يكون في العبادات ‪ ،‬ويكون في المعاملات ‪ ،‬ويكون‬ ‫في النكاح ‪ ،‬ويكون في كل أبواب العلم‬ ‫و مثال ذلك في العبادات ‪ :‬رجل انتقض وضوؤه ‪ ،‬ثم صلى ‪،‬‬ ‫وش ّك هل تو ّضأ بعد نقض الوضوء أم لم يتو ّضأ ؟ فوقع في‬ ‫الش ّك ‪ ،‬فإن تو ّضأ فالصلاة صحيحة ‪ ،‬وإن لم يتو ّضأ‬ ‫فالصلاة باطلة ‪ ،‬وبقي في قلق‬ ‫فنقول ‪ :‬دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ‪ ،‬فالريب هنا صحة‬ ‫الصلاة ‪ ،‬وعدم الريب أن تتو ّضأ وتصلي‬ ‫و عكس المثال السابق ‪ :‬رجل تو ّضأ ثم صلى وشك هل‬ ‫انتقض وضوؤه أم لا ؟‬ ‫فنقول ‪ :‬دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ‪ ،‬عندك شيء متي ّقن‬ ‫وهو الوضوء ‪ ،‬ثم شككت هل طرأ على هذا الوضوء حدث‬ ‫أم لا ؟ فالذي ُيترك هو الشك ‪ :‬هل حصل حدث أو لا ؟ وأرح‬ ‫نفسك ‪ ،‬واترك الشك\"‬

‫و هذا الحديث أصل في باب الورع ‪ ،‬والحث على ترك‬ ‫المشتبهات ‪ ،‬كما أنه أصل في باب الأخذ باليقين وترك‬ ‫المشكوك فيه‪.‬‬ ‫قال الحافظ ابن رجب رحمه الله ‪:‬‬ ‫\" َو َم ْع َنى َه َذا ا ْل َح ِدي ِث َي ْر ِج ُع إِ َلى ا ْل ُوقُو ِف ِع ْن َد ال ُّش ُب َها ِت‬ ‫َوا ِّت َقا ِئ َها ‪َ ،‬فإِ َّن ا ْل َح َلالَ ا ْل َم ْح َض َلا َي ْح ُصلُ لِ ُم ْؤ ِم ٍن ِفي َق ْلبِ ِه ِم ْن ُه‬ ‫َر ْي ٌب – َوال َّر ْي ُب ‪ِ :‬ب َم ْع َنى ا ْل َق َل ِق َوا ِلا ْض ِط َرا ِب ‪َ -‬بلْ َت ْس ُك ُن إِ َل ْي ِه‬ ‫ال َّن ْف ُس ‪َ ،‬و َي ْط َمئِ ُّن بِ ِه ا ْل َق ْل ُب ‪َ ،‬وأَ َّما ا ْل ُم ْش َت ِب َها ُت َف َي ْح ُصلُ بِ َها‬ ‫لِ ْلقُلُو ِب ا ْل َق َل ُق َوا ِلا ْض ِط َرا ُب ا ْل ُمو ِج ُب لِل َّش ِّك \"‬ ‫[جامع العلوم والحكم]‬

‫الحديث السادس و الخمسون‬ ‫عن أبي سفيا َن ب ِن حر ٍب رضي الله عنه في حديثه الطوي ِل‬ ‫في قص ِة ِه َر ْقلَ‪َ ،‬قالَ ِهرقلُ‪َ :‬ف َما َذا َيأَ ُم ُر ُك ْم؟‪ -‬يعني‪ :‬ال َّنب ّي‬ ‫صلى الله عليه وسلم َقالَ أبو سفيا َن‪ :‬قُ ْل ُت‪ :‬يقولُ‪:‬‬ ‫((ا ْع ُب ُدوا اللهَ َوح َدهُ لا ُت ْش ِرك ُوا ِب ِه َشي ًئا‪َ ،‬وا ْت ُر ُكوا َما َيقُولُ‬ ‫آ َبا ُؤ ُك ْم‪ ،‬و َيأْ ُم ُر َنا بال َصلا ِة‪َ ،‬وال ِّص ْد ِق‪ ،‬وال َع َفا ِف‪َ ،‬وال ِّص َل ِة))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫قدم أبو سفيان وكان مشركاً لم يسلم بعد ومعه جماعة من‬ ‫قريش إلى هرقل في الشام‪ ،‬وكان ملك النصارى‪ ،‬وكان‬ ‫النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسل إليه كتاب ليسلم‪.‬‬ ‫فلما سمع بأبي سفيان ومن معه وهم قادمون من الحجاز‬ ‫دعا بهم‪ ،‬وجعل يسألهم عن حال النبي صلى الله عليه وسلم‬ ‫وعن نسبه‪ ،‬وعن أصحابه‪ ،‬وعن توقيرهم له‪ ،‬وعن وفائه‬ ‫صلى الله عليه وسلم وكلما ذكر شيئا وأخبروه عرف أنه‬ ‫النبي الذي أخبرت به الكتب السابقة‪ ،‬ولكنه شح بملكه فلم‬ ‫يسلم‬ ‫و كان سأل أبا سفيان عما كان يأمرهم به النبي صلى الله‬ ‫عليه وسلم فأخبره بأنه يأمرهم أن يعبدوا الله ولا يشركوا به‬ ‫شيئا‪ ،‬وهذه دعوة الرسل جميعا‪ ،‬قال الله تعالى‪َ ( :‬و َما أَ ْر َس ْل َنا‬

‫ِم ْن َق ْبلِ َك ِم ْن َر ُسو ٍل إِ َّلا ُنو ِحي إِ َل ْي ِه أَ َّن ُه لا إِلَ َه إِ َّلا أَ َنا‬ ‫َفا ْع ُب ُدو ِن) (الانبياء‪)25 :‬‬ ‫((واتركوا ما كان عليه آباؤكم)) انظر كيف الصدع بالحق!‬ ‫كل ما كان عليه آباؤهم من عبادة الأصنام أمرهم النبي‬ ‫صلى الله عليه وسلم بتركه‪.‬‬ ‫وأما ما كان عليه آباؤهم من الأخلاق الفاضلة؛ فإنه لم‬ ‫يأمرهم بتركه‪.‬‬ ‫((و يأمرنا بالصلاة)) الصلاة هي الصلة بين العبد و ربه‪،‬‬ ‫وهي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين‪ ،‬وبها يتميز المؤمن‬ ‫من الكافر‪ ،‬فهي العهد الذي بيننا وبين المشركين والكافرين‬ ‫قال النبي صلى الله عليه وسلم ((بين الرجل والشرك والكفر‬ ‫ترك الصلاة)) مسلم‬ ‫((و الصدق)) وهذا هو الشاهد من الحديث‪ ،‬كان النبي‬ ‫صلى الله عليه وسلم يأمر أمته بالصدق‪ ،‬وهذا كقوله‬ ‫تعالى‪َ ( :‬يا أَ ُّي َها ا ّلَ ِذي َن آ َم ُنوا ا َّتقُوا ال َّل َه َو ُكو ُنوا َم َع ال َّصا ِد ِقي َن)‬ ‫(التوبة‪. )119 :‬‬ ‫والصدق خلق فاضل‪ ،‬ينقسم إلى قسمين‪:‬‬ ‫▪ صدق مع الله‪.‬‬ ‫▪ و صدق مع عباد الله‬ ‫((و العفاف)) أي‪ :‬العفة‪ ،‬والعفة نوعان‪:‬‬

‫عفة عن شهوة الفرج‪ :‬وهي أن يبتعد الإنسان عما حرم‬ ‫عليه من الزنى ووسائله وذرائعه‪.‬‬ ‫وعفة عن شهوة البطن ‪ :‬وهو العفاف عما في أيدي الناس‪،‬‬ ‫كما قال تعالى‪َ ( :‬ي ْح َس ُب ُه ُم ا ْل َجا ِهلُ أَ ْغنِ َيا َء ِم َن ال َّت َع ّفُ ِف)‬ ‫(البقرة‪)27٣ :‬‬ ‫يعني‪ :‬التعفف عن سؤال الناس‪.‬‬ ‫((والصلة)) أن تصل ما أمر الله به أن يوصل من الأقارب‬ ‫الأدنى فالأدنى‪ ،‬وأعلاهم الوالدان‪ ،‬فإن صلة الوالدين بر‬ ‫وصلة‪ .‬والأقارب لهم من الصلة بقدر ما لهم من القرب‪،‬‬ ‫فأخوك أوكد صلة من عمك‪ ،‬وعمك أشد صلة من عم أبيك‬

‫الحديث السابع و الخمسون‬ ‫عن سهل بن ُح َن ْي ٍف رضي الله عنه‪ :‬أ َّن ال َّنب ّي صلى الله عليه‬ ‫وسلم َقالَ‪َ (( :‬م ْن َسأَلَ الله َت َعالَى ال َّش َها َد َة بِ ِص ْد ٍق َب َّل َغ ُه اللهُ‬ ‫َم َنا ِزلَ ال ُّش َه َدا ِء َوإِ ْن َما َت َع َلى فِ َرا ِش ِه))‬ ‫(رواه مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫من طلب الشهادة في سبيل الله وهو صادق ‪-‬ولم تتيسر له‪-‬‬ ‫بلغه الله منازل الشهداء فضلا منه بسبب نيته الصادقة التي‬ ‫علمها الله منه‪ ،‬وإن مات على فراشه‪.‬‬ ‫((من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلّغه الله منازل‬ ‫الشهداء‪ ،‬وإن مات على فراشه))‬ ‫يعني من رغب بالشهادة في سبيل الله صاد ًقا‪ ،‬وسأل الله‬ ‫الشهادة في سبيل الله وهو صادق؛ فالله يبلغه منازل‬ ‫الشهداء وإن مات على فراشه بسبب نيته الطيبة وصدقه‪،‬‬ ‫فهو في حكم الشهداء وله ثوابهم‪.‬‬ ‫قال القاري‪ :‬لأ ّن كلا ًًمنهما نوى خيراً وفعل مقدوره‬ ‫فاستويا في أصل الأجر‪.‬‬

‫و هكذا من أراد أن يفعل شي ًئا من العمل كالصلاة أو الصدقة‬ ‫أو عيادة المريض أو الدعوة في سبيل الله ثم حال بينه‬ ‫حائل ومنعه من ذلك فهو على نيته‪.‬‬ ‫و علاقة هذا الحديث بباب الصدق ظاهرة؛ وذلك أن الصدق‬ ‫يكون في اللسان‪ ،‬ويكون أي ًضا بالقلب‪ ،‬ويكون بالعمل‪ ،‬فهذا‬ ‫من الصدق الذي يكون بالقلب‪ ،‬بمعنى‪ :‬أنه يسأل ربه صاد ًقا‬ ‫أن يبلغه منازل الشهداء‬ ‫كما أنه أي ًضا يتعلق بالصدق باللسان؛ وذلك أنه يدعو ربه‪،‬‬ ‫فمن الناس من لا يصدق في هذا الدعاء‪ ،‬فهذا يدعو ربه‬ ‫صاد ًقا بلسانه ويواطئ ذلك اللسان لما في مكنون القلب‪،‬‬ ‫فهو يسأل ربه أن يرزقه الشهادة بصدق‬ ‫ففي الحديث‪ :‬الح ّث على الصدق وأن الصادقين يبلغهم الله‬ ‫مناهم وإن لم يفعلوا ما أرادوا لأسباب منعت من ذلك‪،‬‬ ‫فالصادق الطالب للحق المريد له يكتب الله له أجره وإن لم‬ ‫يدرك ما صدق فيه‪.‬‬ ‫و فيه‪ :‬أنه إذا سأل الشهادة بصدق أعطي من ثواب‬ ‫الشهداء وإن كان على فراشه‪ ،‬وفيه استحباب سؤال‬ ‫الشهادة واستحباب نية الخير‬

‫الحديث الثامن و الخمسون‬ ‫عن أبي هرير َة رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ َر ُسولُ الله صلى الله‬ ‫عليه وسلم ‪َ (( :‬غ َزا نب ٌّي ِم َن الأ ْنبِيا ِء َصلَ َوا ُت اللهِ َو َسلاَ ُم ُه‬ ‫َعلَ ْيه ْم َف َقالَ لِ َقوم ِه‪ :‬لاَ َي ْت َب َع ِّني َر ُجلٌ َملَ َك ُب ْض َع ا ْم َرأ ٍة َو ُه َو‬ ‫ُيري ُد أ ْن َي ْبنِي بِ َها َولَ َّما َي ْب ِن بِ َها‪َ ،‬ولا أ َح ٌد َب َنى ُب ُيو ًتا َل ْم َي ْر َف ْع‬ ‫ُسقُو َف َها‪َ ،‬ولا أ َح ٌد ا ْش َت َرى َغ َن ًما أَ ْو َخلِ َفا ٍت َو ُه َو َي ْن َت ِظ ُر‬ ‫أَ ْولا َدها‪َ .‬ف َغزا َف َد َنا ِم َن ال َق ْر َي ِة َصلا َة ال َع ْص ِر أَ ْو َقري ًبا ِم ْن ذلِ َك‪،‬‬ ‫َف َقالَ لِل َّش ْم ِس‪ :‬إِ َّن ِك َمأ ُمو َرةٌ َوأ َنا َمأ ُمو ٌر‪ ،‬اللَّ ُه َّم ا ْح ِب ْس َها َع َل ْي َنا‪،‬‬ ‫َف ُح ِب َس ْت َح َّتى َف َت َح اللهُ َع َلي ِه‪َ ،‬ف َج َم َع ال َغ َنا ِئ َم َف َجاء ْت‪ -‬يعني‬ ‫ال َّنا َر‪ -‬لِ َتأ ُكلَ َها َفلَ ْم َتط َع ْمها‪َ ،‬ف َقالَ‪ :‬إ َّن فِي ُك ْم ُغلُو ًلا‪َ ،‬ف ْل ُيباي ْعنِي‬ ‫ِم ْن ُكلِّ َقبيل ٍة َر ُجلٌ‪َ ،‬فلَ ِز َق ْت يد رجل بِ َي ِد ِه َف َقالَ‪ :‬فِي ُك ُم ال ُغلُولُ‬ ‫فلتبايعني قبيلتك‪ ،‬فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده‪ ،‬فقال‪ :‬فيكم‬ ‫الغلول‪َ ،‬ف َجا ُؤوا بِ َر ْأس مثل رأس َب َق َر ٍة ِم َن ال َّذ َه ِب‪َ ،‬ف َو َض َع َها‬ ‫َفجاءت ال َّنا ُر َفأ َك َل ْتها‪َ .‬فلَ ْم َتحلَّ ال َغ َنائِ ُم لأ َح ٍد َق ْبلَ َنا‪ُ ،‬ث َّم أ َحلَّ الله‬ ‫َل َنا ال َغ َنائِ َم لَ َّما َرأَى َض ْع َفنا َو َع ْج َز َنا َفأ َحلَّ َها لَ َنا))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫و في هذا الحديث أنه غزا نبي من الأنبياء من الأمم السابقة‬ ‫ويقولون أنه يوشع بن نون عليه السلام ‪ .‬فقال لقومه‪ :‬لا‬ ‫يتبعني رجل عقد على امرأة ولم يبن بها‪ ،‬لأنه إذا غزا صار‬ ‫قلبه معل ًقا بها ما يصدق في الغزو؛ لأنه عقد ولم يدخل بها‪.‬‬

‫ولا يتبعني رجل بنى بيو ًتا ولم يرفع سقفها؛ لأنه قلبه معلق‬ ‫بها لا يكون عنده صدق‪.‬‬ ‫و لا يتبعني رجل لديه ((خلفات)) و هي الناقة الحامل أو‬ ‫بقر أو غنم ينتظر نتاجها‪.‬‬ ‫يعني لا يتبعني إلا إنسان قد فرغ قلبه وبدنه للقتال والجهاد‬ ‫حتى يصدق في جهاده‪ ،‬فلا يتبعني أحد له تعلقات فيما وراء‬ ‫ظهره وماترك خلفه‬ ‫قال القرطبي‪ :‬نهي النب ُّي قومه عن اتباعه على أحد هذه‬ ‫الأحوال؛ لأ َّن أصحابها يكونون متعلقي النفوس بهذه‬ ‫الأسباب فتضعف عزائمهم‪ ،‬وتفتر رغباتهم في الجهاد‬ ‫والشهادة‪ ،‬ور ّبما يفرط ذلك التع ّلق فيفضي إلى كراهة‬ ‫الجهاد وأعمال الخير‪.‬‬ ‫غزا هذا النبي من بني إسرائيل فصادف حصاره البلد التي‬ ‫غزاها آخر النهار(( فقال للشمس‪ :‬إنك مأمورة وأنا مأمور‬ ‫اللهم احبسها علينا)) حتى نفرغ من جهادنا لهؤلاء‪ ،‬فحبس‬ ‫الله عليهم الشمس حتى فتح الله عليه‪ ،‬والله على كل شيء‬ ‫قدير‪.‬‬ ‫يعني حبس الله لهم الشمس فلم تغب حتى فتح عليه‪ ،‬وهذا‬ ‫من آيات الله ومن قدرته العظيمة جل وعلا‪ ،‬كما أنه في آخر‬ ‫الزمان يردها من المغرب تطلع من المغرب كما طلعت من‬ ‫المشرق علامة من علامات الساعة‪ .‬ثم لما جمعت الغنائم لم‬ ‫تأكلها النار‪ ،‬وكان من قبلنا غنائمهم إذا قبل جهادهم أكلتها‬

‫النار‪ ،‬فلم تأكل النار غنائمهم لما جمعوها فقال‪ :‬فيكم غلول‪،‬‬ ‫و ((الغلول)) هو الأخذ من الغنيمة‪.‬‬ ‫فليبايعني من كل قبيلة رجل‪ ،‬فبايعه بعض الرجال‪ ،‬فالتصقت‬ ‫يد رجل منهم بيده‪ ،‬فقال‪ :‬فيكم الغلول!‬ ‫فلتبايعني قبيلتك‪ ،‬فلصقت يد رجلين أو ثلاثة فقال‪ :‬فيهم‬ ‫الغلول فأتوا بالغلول فإذا هم قد غلوا مثل رأس الثور من‬ ‫الذهب‪ ،‬فلما جاؤوا بها وطرحوها في الغنيمة جاءت النار‬ ‫فأكلتها علامة للقبول‪.‬‬ ‫فهذا كان فيمن قبلنا علامة قبول جهادهم أن تأكل النار‬ ‫غنائمهم‪ ،‬أما هذه الأمة فأحل الله لها الغنائم يقول صلى الله‬ ‫عليه وسلم ‪ :‬علم الله ضعفنا وحاجتنا فأحل لنا المغانم‪.‬‬ ‫فأحلت المغانم لهذه الأمة ولم تحل لأحد قبلهم‪ .‬وفي الحديث‬ ‫الصحيح‪\" :‬أعطيت خم ًسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي‪:‬‬ ‫نصرت بالرعب مسيرة شهر‪ ،‬وجعلت لي الأرض مسج ًدا‬ ‫وطهو ًرا‪ ،‬فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل‪،‬‬ ‫وأحلت لي الغنائم‪ ،‬ولم تحل لأحد قبلي‪ ،‬وأعطيت الشفاعة‬ ‫– يعني الشفاعة العظمى لأهل الموقف‪ -‬وكان النبي يبعث‬ ‫لقومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة \"‬ ‫في هذا الحديث‪ :‬أ َّن فتن الدنيا تدعو النفس إلى الهلع‬ ‫ومحب ِة البقاء‪.‬‬ ‫و فيه‪ :‬أ َّن الأمور المه ّمة لا ينبغي أن تف َّوض إلا لحازم فارغ‬ ‫البال لها‬

‫الحديث التاسع و الخمسون‬ ‫َقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬ ‫((ال َب ِّي َعا ِن بال ِخ َيار َما لَ ْم َي َت َف َّر َقا‪َ ،‬فإ ْن َص َدقا َوب َّي َنا ُبور َك َل ُه َما‬ ‫في بي ِعه َما‪ ،‬وإ ْن َك َذ َبا َو َك َت َما ُم ِح َق ْت بر َك ُة َبي ِع ِهما))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َعلَي ِه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫((البيعان)) أي‪ :‬البائع والمشتري‪ ،‬وأطلق عليهما اسم البيع‬ ‫من باب التغليب‪ ،‬كما يقال‪ :‬القمران‪ :‬للشمس والقمر‪،‬‬ ‫فالبيعان يعني‪ :‬البائع والمشتري‬ ‫و قوله‪(( :‬بالخيار)) أي‪ :‬كل منهما يختار ما يريد ما لم‬ ‫يتفرقا‪ ،‬أي ما دام في مكان العقد لم يتفرقا فإنهما بالخيار‪.‬‬ ‫و مثاله‪ :‬رجل باع على آخر سيارة بعشرة آلاف‪ ،‬فما داما‬ ‫في مكان العقد ولم يتفرقا فهما بالخيار‪ ،‬إن شاء البائع فسخ‬ ‫البيع‪ ،‬وإن شاء المشتري فسخ البيع‪.‬‬ ‫فما دام الرجلان ـ البائع والمشتري ـ لم يتفرقا فهما بالخيار‬ ‫وإن طال الوقت‪ ،‬لعموم قوله صلى الله عليه وسلم ‪(( :‬ما لم‬ ‫يتفرقا)) وفي حديث ابن عمر‪(( :‬أو يخير أحدهما الآخر))‬ ‫أي‪ :‬أو يقول أحدهما للآخر‪ :‬الخيار لك وحدك‪ ،‬فحينئذ يكون‬

‫الخيار له وحده‪ ،‬والثاني لا خيار له‪ .‬أو يقولا جميعا‪ :‬لا‬ ‫خيار بيننا‬ ‫فالصور أربع‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ إما يثبت الخيار لهما‪ ،‬وذلك عند البيع المطلق الذي‬ ‫ليس فيه شرط‪ ،‬يكون الخيار لهما ـ للبائع والمشتري ـ وكل‬ ‫منهما له الحق أن يفسخ العقد‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ وإما أن يتبايعا على أن لا يكون الخيار لواحد منهما‪،‬‬ ‫وحينئذ يلزم البيع لمجرد العقد ولا خيار لأحد‪.‬‬ ‫‪ ٣‬ـ وإما أن يتبايعا أن الخيار للبائع وحده دون المشتري‪،‬‬ ‫وهنا يكون الخيار للبائع‪ ،‬والمشتري لا خيار له‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ وإما أن يتبايعا على أن الخيار للمشتري والبائع لا خيار‬ ‫له‪ ،‬وحينئذ يكون الخيار للمشتري‪ ،‬وليس للبائع خيار‪.‬‬ ‫و ذلك لأن الخيار حق للبائع والمشتري فإذا رضيا بإسقاطه‬ ‫‪ ،‬فالحق لهما ‪ ،‬وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬ ‫((المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرماً حلالاً أو أحلّ‬ ‫حراماً))‬ ‫((ما لم يتفرقا)) لم يبين التفرق‪ ،‬ولكن المراد التفرق‬ ‫بالبدن‪ ،‬يعني ما لم يتفرق أحدهما عن الآخر‪ ،‬فإن تفرقا بطل‬ ‫الخيار ولزم البيع‬

‫((فإن صدقا وبينا بورك في بيعهما)) أي إن صدقا في الكلام‬ ‫فيما يصفان السلعة به من الصفات المرغوبة‪ ،‬وبينا فيما‬ ‫يصفان به السلعة من الصفات المكروهة‬ ‫فالفرق بين الصدق و البيان أن‪:‬‬ ‫الصدق فيما يكون مرغوباً من الصفات‪.‬‬ ‫و البيان فيما يكون مكروهاً من الصفات‪.‬‬ ‫فكتمان العيب هذا ضد البيان‪ ،‬ووصف السلعة بما ليس فيها‬ ‫هذا ضد الصدق‪.‬‬ ‫فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما‪ ،‬وإن كتما وكذبا‬ ‫محقت بركت بيعهما‪ ...‬فالبركة في الصدق والبيان‪.‬‬ ‫فهذا يبين أن البيعان إذا صدقا ولم يغشا ولم يخونا بورك‬ ‫لهما في البيع‪ ،‬هذا في المبيع وهذا في الثمن‪ ،‬أما إذا غشا‬ ‫وكتما وكذبا صار هذا من أسباب محق البركة بسبب الكذب‬ ‫والخيانة والغش‪.‬‬ ‫في هذا الحديث‪:‬‬ ‫فضل الصدق والحث عليه‪ ،‬وذم الكذب والتحذير منه‪ ،‬وإنه‬ ‫سبب لذهاب البركة‪.‬‬ ‫و فيه‪ :‬دليل على ثبوت خيار المجلس للبائع والمشتري‪.‬‬

‫المقدمة‬ ‫باب المراقبة‬ ‫الحديث الستون‬ ‫عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬ب ْي َنما َن ْح ُن ُجلُو ٌس‬ ‫ِع ْن َد َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم َذا َت َيو ٍم‪ ،‬إ ْذ َط َل َع َع َلينا‬ ‫َر ُجلٌ َشدي ُد َبيا ِض ال ِّثيا ِب‪َ ،‬شدي ُد َس َوا ِد ال َّش ْع ِر‪ ،‬لا ُي َرى َعلَي ِه‬ ‫أ َث ُر ال َّس َف ِر‪َ ،‬ولا َي ْع ِرفُ ُه ِم َّنا أ َح ٌد‪َ ،‬ح َّتى َجلَ َس إِلَى ال َّنب ّي صلى‬ ‫الله عليه وسلم‪َ ،‬فأَ ْس َن َد ُر ْك َب َتي ِه إِلَى ُر ْكب َتي ِه‪َ ،‬و َوض َع َك َّفي ِه َع َلى‬ ‫َف ِخ َذي ِه‪.‬‬ ‫َوقالَ‪َ :‬يا ُم َح َّم ُد‪ ،‬أ ْخبرني َع ِن الإسلا ِم‪َ ،‬ف َقالَ َر ُسول الله صلى‬ ‫الله عليه وسلم‪(( :‬الإسلا ُم‪ :‬أ ْن َت ْشه َد أ ْن لاَّ إل َه إلاَّ الله َوأ َّن‬ ‫ُمح َّم ًدا رسولُ الله‪ ،‬و ُتقي َم ال َّصلا َة‪َ ،‬و ُتؤ ِت َي ال َّز َكا َة‪َ ،‬و َتصو َم‬ ‫َر َم َضا َن‪َ ،‬و َت ُح َّج ال َبي َت إن ا ْس َت َط ْع َت إِ َل ْي ِه َسبي ًلا))‪َ .‬قالَ‪:‬‬ ‫َص َد ْق َت‪َ .‬ف َع ِج ْب َنا لَ ُه َي ْسأَلُ ُه َو ُي َص ِّدق ُه!‬ ‫َقالَ‪َ :‬فأَ ْخبرنِي َع ِن الإِي َما ِن‪َ .‬قالَ‪(( :‬أ ْن ُتؤ ِم َن باللهِ‪َ ،‬و َملائِ َكتِ ِه‪،‬‬ ‫َو ُك ُتب ِه‪َ ،‬و ُر ُسلِ ِه‪َ ،‬وال َي ْو ِم الآ ِخر‪ ،‬و ُت ْؤ ِم َن بال َق َد ِر َخي ِر ِه َو َش ِّر ِه))‪.‬‬ ‫َقالَ‪َ :‬صدقت‪َ .‬قالَ‪ :‬فأَ ْخبرني َع ِن الإ ْح َسا ِن‪َ .‬قالَ‪(( :‬أ ْن َت ْع ُب َد‬ ‫الل َه َكأ َّن َك َت َراهُ فإ ْن َل ْم َت ُك ْن َت َراهُ فإ َّن ُه َي َرا َك))‪.‬‬ ‫َقالَ‪َ :‬فأَ ْخ ِبرني َع ِن ال َّسا َع ِة‪َ .‬قالَ‪َ (( :‬ما ال َم ْس ُؤولُ َع ْن َها بأ ْعلَ َم‬ ‫ِم َن ال َّسائِ ِل))‪َ .‬قالَ‪ :‬فأخبِرني َع ْن أ َماراتِ َها‪َ .‬قالَ‪(( :‬أ ْن َتلِ َد‬

‫الأَ َم ُة َر َّب َت َها‪ ،‬وأ ْن َت َرى ال ُح َفا َة ال ُع َرا َة ال َعا َل َة ِر َعا َء ال َّشا ِء‬ ‫َي َت َطا َولُو َن في ال ُب ْن َيا ِن))‪.‬‬ ‫ُث َّم ا ْن َطل َق َفلَبِ ْث ُت َملِ ًّيا‪ُ ،‬ث َّم َقالَ‪َ (( :‬يا ُع َم ُر‪ ،‬أَ َت ْدري َم ِن‬ ‫ال َّسا ِئلُ؟)) قُ ْل ُت‪ :‬اللهُ ور ُسولُ ُه أ ْعلَ ُم‪َ .‬قالَ‪(( :‬فإ َّن ُه ِج ْبريلُ أَ َتا ُك ْم‬ ‫ي ْعلِّ ُم ُك ْم ِدي َن ُك ْم))‬ ‫(رواه مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫هذا الحديث عظيم القدر ‪ ،‬جامع لأبواب الدين كله ‪ ،‬بأبسط‬ ‫أسلوب ‪ ،‬وأوضح عبارة ‪ ،‬ولا نجد وصفا جامعا لهذا‬ ‫الحديث أفضل من قوله صلى الله عليه وسلم ‪ (( :‬فإنه‬ ‫جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ))‪.‬‬ ‫وقد تناول الحديث حقائق الدين الثلاث ‪ :‬الإسلام والإيمان‬ ‫والإحسان‪ ،‬وهذه المراتب الثلاث عظيمة جداً ؛ لأن الله‬ ‫سبحانه وتعالى علق عليها السعادة والشقاء في الدنيا‬ ‫والآخرة‪.‬‬ ‫و بين هذه المراتب ارتباط وثيق ‪ ،‬فدائرة الإسلام أوسع هذه‬ ‫الدوائر‪ ،‬تليها دائرة الإيمان فالإحسان ‪ ،‬وبالتالي فإن كل‬ ‫محسن مؤمن ‪ ،‬وكل مؤمن مسلم ‪.‬‬ ‫و الحديث ف ّسر الإسلام هنا بالأعمال الظاهرة ‪ ،‬وذلك لأن‬ ‫الإسلام والإيمان قد اجتمعا في سياق واحد ‪ ،‬وحينئذ يفسر‬

‫الإسلام بالأعمال الظاهرة ‪ ،‬ويفسر الإيمان بالأعمال‬ ‫الباطنة من الاعتقادات وأعمال القلوب ‪.‬‬ ‫ففسر الإسلام بشهادة ((أن لا إله إلا الله)) ومعنى أن تشهد‬ ‫أن لا إله إلا الله‪ ،‬أي‪ :‬أن يعترف الإنسان بلسانه وقلبه بأنه‬ ‫لامعبود بحق إلا الله ع ّز وجل‬ ‫و (أَ ْش َه ُد) بمعنى‪:‬أقر بقلبي ناطقاً بلساني؛ لأن الشهادة نطق‬ ‫وإخبار عما في القلب‪.‬‬ ‫و((أن محمد رسول الله)) رسول الله أرسله للخلق جميعاً‬ ‫وهنا مسألة‪ :‬لماذا ُج ِعلَ هذان ركناً واحداً‪ ،‬ولم يجعلا ركنين؟‬ ‫و الجواب‪ :‬أ ّن الشهادة بهذين تبنى عليها صحة الأعمال‬ ‫كلها‪ ،‬لأن شهادة ألا إله إلا الله تستلزم الإخلاص‪ ،‬وشهادة‬ ‫أن محمداً رسول الله تستلزم الاتباع‪ ،‬وكل عمل يتقرب به‬ ‫إلى الله لا يقبل إلا بهذين الشرطين‪ :‬الإخلاص لله‪ ،‬والمتابعة‬ ‫لرسول الله ‪.‬‬ ‫((وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت‬ ‫إن استطعت إليه سبيلاً)) وهذه بقية أركان الإسلام‬ ‫(( َقالَ‪َ :‬ص َد ْق َت)) القائل صدقت‪ :‬جبريل عليه السلام وهو‬ ‫السائل‪ ،‬فكيف يقول‪ :‬صدقت وهو السائل؟ لأن الذي يقول‪:‬‬ ‫صدقت للمتكلم يعني أن عنده علماً سابقاً بما يسأل عنه‬ ‫‪،‬وهو محل عجب‪ ،‬ولهذا تعجب الصحابة كيف يسأله‬ ‫ويصدقه‪.‬‬

‫ثم فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالاعتقادات‬ ‫الباطنة أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد‬ ‫الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره‪.‬‬ ‫و الإيمان يتضمن أمو ًرا ثلاثة ‪ :‬الإقرار بالقلب ‪ ،‬والنطق‬ ‫باللسان ‪ ،‬والعمل بالجوارح والأركان‪.‬‬ ‫ثم تناول الحديث مرتبة الإحسان ‪ ،‬وهي أعلى مراتب الدين‬ ‫وأشرفها ‪.‬‬ ‫والمراد بالإحسان هنا قد ب ّينه النبي صلى الله عليه وسلم في‬ ‫قوله ‪ (( :‬أن تعبد الله كأنك تراه ‪ ،‬فإن لم تكن تراه فإنه‬ ‫يراك )) ‪ ،‬وهذه درجة عالية ولا شك ‪ ،‬لأنها تدل على‬ ‫إخلاص صاحبها ‪ ،‬ودوام مراقبته لله عزوجل‬ ‫ثم سأل جبريل عليه السلام عن الساعة وعلاماتها ‪ ،‬فب ّين‬ ‫النبي صلى الله عليه وسلم أنها مما اختص الله بعلمه ‪ ،‬وهي‬ ‫من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله ‪ ،‬لكنه بين شيئا من‬ ‫أماراتها ‪ ،‬فقال ‪:‬‬ ‫(( أن تلد الأمة ربتها ))‪ ،‬قال الأكثرون هذا إخبار عن كثرة‬ ‫الجواري وأولادهن‪ ،‬أي أن تكون المرأة أمة فتلد بنتا ‪،‬‬ ‫وهذه البنت تصبح سيدة تملك الإماء ‪ ،‬وهذا كناية عن كثرة‬ ‫الرقيق ‪ ،‬وقد حصل هذا في الصدر الأول من العهد‬ ‫الإسلامي‪.‬‬ ‫أما العلامة الثانية ‪ (( :‬وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء‬ ‫الشاء ‪ ،‬يتطاولون في البنيان )) ‪ ،‬ومعناه أن ترى الفقراء‬

‫الذين ليسوا بأهل للغنى ولا للتطاول ‪ ،‬قد فتح الله عليهم‬ ‫فيبنون البيوت الفارهة ‪ ،‬والقصور الباهرة ويتباهوا في‬ ‫البنيان ‪ .‬و ((العالة)) هم الفقراء‪ ،‬والرعاء معناه أهل‬ ‫البادية‪.‬‬ ‫قوله‪(( :‬فلبث ملياً)) أي فلبثت وقتاً طويلاً وفي الحديث‬ ‫الأخر ثلاث ليال‪.‬‬ ‫((هذا جبريل آتاكم يعلمكم أمر دينكم)) فيه دليل على أن‬ ‫الإيمان و الإسلام و الإحسان‪ ،‬تسمى كلها ديناً‬ ‫و في الحديث‪ :‬دليل على أن الإيمان بالقدر واجب‪ ،‬وعلى‬ ‫وجوب الرضا بالقضاء‪.‬‬

‫الحديث الحادي و الستون‬ ‫عن أبي ذر ُج ْن ُدب ب ِن ُجنا َد َة وأبي عب ِد الرحم ِن معا ِذ ب ِن جب ٍل‬ ‫رضي الله عنهما عن رسو ِل الله صلى الله عليه وسلم َقالَ‪:‬‬ ‫((ا َّت ِق الله َح ْي ُث َما ُك ْن َت َوأ ْتب ِع ال َّس ِّي َئ َة ال َح َس َن َة َت ْم ُح َها‪َ ،‬و َخالِ ِق‬ ‫ال َّنا َس ِب ُخلُ ٍق َح َس ٍن))‬ ‫(رواه الترمذي‪َ ،‬وحسنه الألباني)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫((ا َّت ِق الل َه)) أي اتخذ وقاية من عذاب الله عز وجل‪ ،‬وذلك‬ ‫بفعل أوامره و اجتناب نواهيه‪.‬‬ ‫(( َح ْي ُث َما ُك ْن َت)) حيث‪ :‬ظرف مكان‪ ،‬أي في أ ّي مكا ٍن كنت‬ ‫سواء في العلانية أو في الس ّر‪ ،‬وسوا ًء في البيت أو في‬ ‫ال ّسوق‪ ،‬وسوا ًء عندك أُناس أو ليس عندك أناس‪.‬‬ ‫(( َو أَ ْتبِ ِع ال َّس ِّي َئ َة ال َح َس َن َة َت ْم ُح َها)) المعنى‪ :‬إذا فعلت سيئة‬ ‫فأتبعها بحسنة‪،‬فهذه الحسنة تمحو السيئة‪.‬‬ ‫و اختلف العلماء ‪ -‬رحمهم الله ‪ -‬هل المراد بالحسنة التي‬ ‫تتبع السيئة هي التوبة‪ ،‬أو المراد العموم ؟‬ ‫الصواب‪ :‬الثاني‬

‫أ ّن الحسنة تمحو السيئة وإ ْن لم تك ْن توبة‪ ،‬دليلُ هذا قوله‬ ‫تعالى‪َ (:‬وأَ ِق ِم ال َّصلا َة َط َر َفيِ ال َّن َها ِر َو ُزلَفاً ِم َن ال ّلَ ْي ِل إِ َّن‬ ‫ا ْل َح َس َنا ِت ُي ْذ ِه ْب َن ال َّس ِّي َئات) (هود‪ :‬الآية‪)114‬‬ ‫(( َوأَ ْتبِ ِع ال َّس ِّي َئ َة ال َح َس َن َة َت ْم ُح َها)) فب ّين النتيجة هي أنها‬ ‫تمحوها‪.‬‬ ‫(( و ًَ َخالِ ِق ال َّنا َس بِ ُخلُ ٍق َح َس ٍن)) أي عامل الناس بخل ٍق‬ ‫حسن‪.‬‬ ‫و ال ُخلُق‪ :‬هو الصفة الباطنة في الإنسان‬ ‫و ال َخ ْل ُق‪ :‬هو الصفة الظاهرة‬ ‫و المعنى‪ :‬عامل الناس بالأخلاق الحسنة بالقول وبالفعل‪.‬‬ ‫فما هو الخلق الحسن؟‬ ‫قال بعضهم‪ :‬الخلق الحسن‪:‬‬ ‫كف الأذى‪ ،‬وبذل الندى‪ ،‬والصبر على الأذى ‪ -‬أي على أذى‬ ‫الغير ‪ -‬والوجه الطلق‪.‬‬ ‫▪كف الأذى منك للناس‪.‬‬ ‫▪ بذل الندى أي العطاء‪.‬‬ ‫▪ الصبر على الأذى لأن الإنسان لايخلو من أذية من الناس‪.‬‬ ‫▪ الوجه الطلق‪ :‬طلاقة الوجه‪.‬‬

‫و ضابط ذلك ما ذكره الله ع ّز وجل في قوله‪ُ ( :‬خ ِذ ا ْل َع ْف َو‬ ‫َو ْأ ُم ْر بِا ْل ُع ْر ِف َوأَ ْع ِر ْض َع ِن ا ْل َجا ِهلِي َن) [الأعراف‪]199:‬‬ ‫يجمع الحديث ثلاثة حقوق ‪ :‬ـ‬ ‫▪ الحق الأول ‪ :‬حق الله في قوله ((ا ّتق الله))‬ ‫▪ الحق الثاني ‪ :‬حق النفس في قوله ((وأ ْتبِ ْع السيئة الحسنة‬ ‫تمحها))‬ ‫▪ الحق الثالث ‪ :‬حق الناس في قوله ((و خالق الناس بخلق‬ ‫حسن))‬ ‫قوله ((اتق الله حيثما كنت)) تأصيلٌ لمراقبة الله سبحانه في‬ ‫الس ّر والعلن‬ ‫فيه‪ :‬بيان رحمة الله سبحانه بعبادة ‪ ،‬وذلك بفتح أبواب‬ ‫لمحو السيئات ومنها الاستغفار ومنها فعل الحسنات‬

‫الحديث الثاني والستون‬ ‫عن اب ِن عبا ٍس رضي الله عنهما‪َ ،‬قالَ‪ :‬كنت خلف ال َّنب ّي‬ ‫صلى الله عليه وسلم يو ًما‪َ ،‬ف َقالَ‪َ (( :‬يا ُغلا ُم‪ ،‬إ ِّني أع ّل ُم َك‬ ‫َكلِ َما ٍت‪ :‬ا ْح َف ِظ اللهَ َي ْح َف ْظ َك‪ ،‬ا ْح َف ِظ اللهَ َت ِج ْدهُ ُت َجا َه َك‪ ،‬إِ َذا َسأ ْل َت‬ ‫َفاسأَ ِل الله‪ ،‬وإِ َذا ا ْس َت َع ْن َت َفا ْس َت ِع ْن باللهِ‪َ .‬وا ْع َل ْم‪ :‬أ َّن الأُ َّم َة لَ ْو‬ ‫ا ْج َت َم َع ْت َع َلى أ ْن َي ْن َف ُعو َك ِب َشي ٍء لَ ْم َي ْن َف ُعو َك إلا بِ َشي ٍء َق ْد َك َتب ُه‬ ‫اللهُ لَ َك‪َ ،‬وإِن اج َت َم ُعوا َعلَى أ ْن َي ُض ُّرو َك بِ َشي ٍء لَ ْم َي ُض ُّرو َك إلا‬ ‫ِب َشي ٍء َق ْد َك َت َب ُه اللهُ َع َل ْي َك‪ُ ،‬رفِ َع ِت الأَ ْقلاَ ُم َو َج َّف ِت ال ُّصح ُف))‬ ‫رواه الترمذي(صححه الألباني )‬ ‫وفي رواية غي ِر الترمذي‪(( :‬ا ْح َف ِظ الله َت ِج ْدهُ أَ َما َم َك‪َ ،‬تع َّر ْف‬ ‫إِلَى اللهِ في ال َّر َخا ِء َي ْع ِرف َك في ال ِّش َّد ِة‪َ ،‬وا ْعلَ ْم‪ :‬أ َّن َما أَ ْخ َطأ َك‬ ‫لَ ْم َي ُك ْن لِ ُي ِصيب َك‪َ ،‬و َما أ َصا َب َك لَ ْم َي ُك ْن لِ ُي ْخ ِط َئ َك‪َ ،‬وا ْع َل ْم‪ :‬أ َّن‬ ‫ال َّن ْص َر َم َع ال َّص ْب ِر‪َ ،‬وأَ َّن ال َف َر َج َم َع ال َك ْر ِب‪َ ،‬وأَ َّن َم َع ال ُع ْس ِر‬ ‫ُي ْس ًرا))‪.‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫هذا الحديث أصل عظيم في مراقبة الله‪ ،‬و مراعاة حقوقه‪ ،‬و‬ ‫التفويض لأمره‪ ،‬و التوكل عليه‪ ،‬و شهود توحيده وتف ُّرده‪،‬‬ ‫وعجز الخلائق كلَّهم وافتقارهم إليه‪.‬‬ ‫(( َيا ُغلا ُم )) لأ ّن ابن عباس رضي الله عنهما كان صغيراً‪،‬‬ ‫فإن النبي️ توفي وابن عباس قد ناهز الاحتلام يعني من‬ ‫الخامسة عشر إلى السادسة عشر أو أقل ‪.‬‬

‫قال‪ (( :‬إني أُ َعل ُم َك َكلِ َما ٍت )) قال ذلك من أجل أن ينتبه لها‬ ‫(( ِا ْح َف ِظ اللهَ َيح َفظ َك )) هذه كلم ٌة عظيمة و(( احفظ الله ))‬ ‫تعني احفظ حدوده وشريعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه‬ ‫(( احفظ الله يحفظك )) في دينك وأهلك ومالك ونفسك لأن‬ ‫الله سبحانه وتعالى يجزي المحسنين بإحسانه و أهم هذه‬ ‫الأشياء هو أن يحفظك في دينك ويسلمك من الزيغ والضلال‬ ‫و ُعلِ َم من هذا أ ّن من لم يحفظ الله فإنه لا يستحق أن يحفظه‬ ‫الله ع ّز وجل وفي هذا الترغيب على حفظ حدود الله ع ّز‬ ‫وجل ‪.‬‬ ‫(( ا ْح َف ِظ اللهَ َت ِجدهُ ت َجا َه ْك )) معنى (( تجده تجاهك )) يعني‬ ‫تجد الله ع ّز وجل أمامك يدلك على كل خير ويقربك إليه‬ ‫ويهديك إليه ويذود عنك كل شر ولا سيما إذا حفظت الله‬ ‫بالاستعانة به فإن الإنسان إذا استعان بالله ع ّز وجل وتوكل‬ ‫عليه كان الله حسبه ولا يحتاج إلى أحد بعد الله قال تعالى‪:‬‬ ‫( َيا أَ ُّي َها ال َّنبِ ُّي َح ْس ُب َك ال َّلهُ َو َم ِن ا َّت َب َع َك ِم َن ا ْل ُم ْؤ ِمنِي َن)‬ ‫(الأنفال‪)64:‬‬ ‫(( إ َذا َسأ ْل َت َفا ْسأَ ِل الله)) إذا سألت حاج ًة فلا تسأل إلا الله‬ ‫ع ّز وجل ولاتسأل المخلوق شيئاً وإذا قدر أنك سألت‬ ‫المخلوق ما يقدر عليه فاعلم أنه سبب من الأسباب وأن‬ ‫المسبب هو الله ع ّز وجل لو شاء لمنعه من إعطائك سؤالك‬ ‫فاعتمد على الله تعالى‬

‫(( َوإِ َذا ا ْس َت َع ْن َت َفا ْس َت ِع ْن بِاللهِ )) فإذا أردت العون فلا تطلب‬ ‫العون إلا من الله ع ّز وجل‪ ،‬لأنه هو الذي بيده ملكوت‬ ‫السموات والأرض‪ ،‬وهو يعينك إذا شاء وإذا أخلصت‬ ‫الاستعانة بالله وتوكلت عليه أعانك‪ ،‬وإذا استعنت بمخلوق‬ ‫فيما يقدر عليه فاعتقد أنه سبب‪ ،‬وأن الله هو الذي سخره‬ ‫لك‬ ‫(( َوا ْع َلم أَ َّن الأُ ّمة لو ا ْج َت َم َعت َع َلى أن َين َف ُعو َك بِشي ٍء َل ْم‬ ‫َي ْن َف ُعو َك إِلا بِشي ٍء َقد َك َت َب ُه اللهُ لَك )) الأمة كلها من أولها إلى‬ ‫آخرها لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا‬ ‫بشيء قد كتبه الله لك‪ ،‬وعلى هذا فإن نفع الخلق الذي يأتي‬ ‫للإنسان فهو من الله في الحقيقة لأنه هو الذي كتبه له وهذا‬ ‫حث لنا على أن نعتمد على الله ع ّز وجل ونعلم أن الأمة لا‬ ‫يجلبون لنا خيراً إلا بإذن الله ع ّز وجل‬ ‫(( و إِن ِا ْج َت َمعوا َع َلى أَ ْن َي ُض ُّرو َك بِشي ٍء َل ْم َيضروك إلا‬ ‫بشي ٍء َقد َك َت َب ُه اللهُ َعلَ ْي َك )) وعلى هذا فإن نالك ضر ٌر من‬ ‫أحد فاعلم أن الله قد كتبه عليك فا ْر َض بقضاء الله و بقدره‪،‬‬ ‫ولا حرج أن تحاول أن تدفع الض ّر عنك‪.‬‬ ‫(( ُرف َعت الأَ ْقلا ُم‪َ ،‬و َج ّفت ال ُّص ُح ُف )) يعني أن ما كتبه الله ع ّز‬ ‫وجل قد انتهى فالأقلام رفعت والصحف جفت ولا تبديل‬ ‫لكلمات الله‪.‬‬

‫الحديث الثالث و الستون‬ ‫عن أن ٍس رضي الله عنه َقالَ‪ (( :‬إِ َّن ُك ْم لَتع َملُو َن أ ْع َما ًلا هي‬ ‫أ َد ُّق في أع ُي ِن ُك ْم ِم َن ال َّش ْع ِر‪ُ ،‬ك َّنا َن ُع ُّد َها َعلَى َع ْه ِد َر ُسول الله‬ ‫صلى الله عليه وسلم ِم َن ال ُمو ِبقا ِت ))‬ ‫(رواه البخاري)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫انس بن مالك رضي الله عنه هو من صغار الصحابه‬ ‫وتأخرت وفاته فهو من المعمرين‪ ،‬فبقي بعد النبي صلى الله‬ ‫عليه وسلم حوالي تسعين سنة‪ .‬فتغيرت الأمور في عهده‬ ‫رضي الله عنه واختلفت أحوال الناس‪ ،‬وصاروا يتهاونون‬ ‫في بعض الأمور العظيمة التي كانت في عهد الصحابة‬ ‫رضي الله عنهم‪.‬‬ ‫فأخبر عن حال من رآهم من التابعين‪ ،‬وأنهم يعملون أعمالاً‬ ‫لا يبالون فيها‪ ،‬فهي في أعينهم أد ّق من الشعر‪ ،‬بمعنى أنها‬ ‫ليست ذات شأن‪ ،‬ولا يته ّيبون عند عملها والقيام بها‪،‬‬ ‫وكانوا يعدونها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‬ ‫من (( الموبقات ))‪ ،‬يعني‪ :‬من المهلكات‪.‬‬ ‫(( إنكم لتعملون أعمالاً )) يحاسب بعض التابعين الذين‬ ‫أدركوه‪.‬‬

‫(( هي في أعينكم أدق من الشعر كنا نعدها في عهد النبي‬ ‫صلى الله عليه وسلم من الموبقات )) يعني من المهلكات‪،‬‬ ‫أي من الكبائر المهلكة‪ ،‬يقول لمن أدركهم من التابعين يقول‬ ‫لهم‪ :‬إنكم تساهلون في أشياء تع ّدونها صغيرة وهي كانت‬ ‫عندنا عظيمة‪.‬‬ ‫فالمعنى‪ :‬راقبوا الله وانظروا في أعمالكم‪ ،‬كثي ٌر من الناس‬ ‫يتساهل بالمعاصي التي في عينه صغيرة وهي كبيرة‪ ،‬مثل‬ ‫الغيبة‪ ،‬مثل النميمة‪ ،‬مثل عقوق الوالدين‪ ،‬مثل الربا‪ ،‬مثل‬ ‫الغش في المعاملات‪ ،‬الكذب في الدعاوي‪ ،‬كثير من الناس لا‬ ‫يع ّدها شيئاً ولا يبالي‪ ،‬يكذب‪ ،‬ويغش‪ ،‬و ُيرابي‪ ،‬ولا يبالي‪،‬‬ ‫ويغتاب الناس ولا يبالي لأجل ضعف دينه وقلة مبالاته‪.‬‬ ‫و ذلك لأنه كلما قوي الإيمان عظمت المعصية عند الإنسان‪،‬‬ ‫وكلما ضعف الإيمان خفت المعصية في قلب الإنسان ورآها‬ ‫أمراً ه ّيناً‪ ،‬يتهاون و يتكاسل عن الواجب ولا يبالي‪ ،‬لأنه‬ ‫ضعيف الإيمان‪.‬‬ ‫و قد قال النبي صلى الله عليه وسلم ‪ (( :‬إن المؤمن يرى‬ ‫ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه‪ ،‬وإن الفاجر‬ ‫يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا )) أخرجه‬ ‫البخاري‬ ‫فالمؤمن يتح ّرز‪ ،‬ويخاف من الله ‪ ،‬وكلما تعاظم الإيمان في‬ ‫قلب العبد كلما ازدادت خشيته وتخوفه مما قارفه من‬ ‫الأعمال‪ ،‬وك ّلما ترحل الإيمان وضعف في قلب الإنسان كلما‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook