Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore المائة الأولي رياض الصالحين

المائة الأولي رياض الصالحين

Published by مكتبة(ورتل) الإلكترونيه, 2021-04-19 18:17:06

Description: المائة الأولي رياض الصالحين

Search

Read the Text Version

‫قال لِل َّنب ِّي صلي الله عليه وسلم‪ :‬لو أ َّن أح َدهم نظ َر تح َت‬ ‫قد َم ْيه َلأبص َر َنا‬ ‫فقال له صلي الله عليه وسلم‪« :‬ما ظ ُّن َك يا أبا بك ٍر بِاثني ِن اللهُ‬ ‫ثال ُثهما؟!»‬ ‫أي‪ :‬ما تظ ُّن أ ْن يكو َن حالُنا واللهُ تعالى َمعنا ِبنص ِره ولُطف ِه؟!‬ ‫فإ َّنه قاد ٌر على َصر ِفهم ع َّنا وتبلي ِغنا مرا َدنا بِفضلِه ورحم ِته‪،‬‬ ‫وهذا ما ح َصلَ‪ ،‬فنِعم فِ ْع ًلا ُح ْس ُن ال َّظ ِّن بر ِّب ال َّسموا ِت ور ِّب‬ ‫الأر ِض ر ِّب العر ِش العظي ِم!‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬كمالُ تو ُّك ِل النب ِّي صلي الله عليه وسلم‬ ‫على ر ِّبه‪ ،‬واعتما ِده عليه‪ ،‬و َتفوي ِضه أ ْم َره إليه‪.‬‬

‫الحديث الثاني والثمانون‬ ‫عن أم ال ُمؤمني َن أ ِّم َس َل َم َة رضي الله عنها‪ :‬أ َّن ال َّنب ّي صلى‬ ‫الله عليه وسلم َكا َن إِ َذا َخ َر َج ِم ْن َبيتِ ِه‪َ ،‬قالَ‪(( :‬بِ ْس ِم اللهِ‬ ‫َت َو َّكل ُت َع َلى اللهِ‪ ،‬اللَّ ُه َّم إِ ِّني أ ُعو ُذ بِ َك أ ْن أ ِضلَّ أَ ْو أُ َضلَّ‪ ،‬أَ ْو‬ ‫أَ ِزلَّ أَ ْو أُ َزلَّ‪ ،‬أَ ْو أ ْظلِ َم أَ ْو أُ ْظ َل َم‪ ،‬أَ ْو أ ْج َهلَ أَ ْو ُي ْج َهلَ َع َل َّي))‬ ‫صححه الألباني (صحيح الترمذي)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫((بسم الله)) أي‪ :‬بسم الله أخرج‪.‬‬ ‫((توكلت على الله)) أي‪ :‬فوضت جميع أموري إليه ‪.‬‬ ‫((أ ْن أَ ِضلَّ)) أي‪ :‬أن أضل في نفسي عن الحق ‪،‬‬ ‫والضلال الذي هو نقيض الهدى‪.‬‬ ‫((أو أُ َضل)) أو أن يضلني غيري‪.‬‬ ‫((أو أَ ِزلَّ أو أُ َزلَّ)) كلاهما من الزلة؛ أي‪ :‬الخطأ؛‬ ‫ومعنى الأول‪ :‬أن أخطئ من نفسي أو أوقع غيري به‪،‬‬ ‫ومعنى الثاني‪ :‬أن يوقعني غيري فيه‪.‬‬

‫((أو أَظلِم‪ ،‬أو أُظ َلم)) من الظلم‪ ،‬وهو وضع الشيء في‬ ‫غير محله؛ معنى الأول‪ :‬أن أظلم غيري‪ ،‬أو نفسي‪،‬‬ ‫ومعنى الثاني‪ :‬أن يظلمني غيري‪.‬‬ ‫((أو أَجهل‪ ،‬أو ُيجهل عل َّي)) معنى الأول‪ :‬أن أفعل فعل‬ ‫الجهلاء‪ ،‬أو أشتغل في شيء لا يعنيني‬ ‫ومعنى الثاني‪ :‬أن يجهل غيري علي؛ بأن يقابلني‬ ‫مقابلة الجهلاء بالسفاهة‪ ،‬والمجادلة‪ ،...‬ونحوهما‪.‬‬ ‫فهذا الذكر ينبغي أن يقوله الإنسان إذا خرج من بيته‪ ،‬لما‬ ‫فيه من اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى والاعتصام به‪.‬‬ ‫قال الطيبي‪ :‬إن الإنسان إذا خرج من منزله لا بد أن يعاشر‬ ‫الناس ويزاول الأمر فيخاف أن يعدل عن الصراط المستقيم‪،‬‬ ‫فإما أن يكون في أمر الدين فلا يخلو من أن َيضل أو ُي َضل‪،‬‬ ‫وإما أن يكون في أمر الدنيا فإما بسبب جريان المعاملة‬ ‫معهم بأن َيظلم أو ُيظلَم‪ ،‬وإما بسبب الاختلاط والمصاحبة‬ ‫فإما أن َيج َهل أو ُيج َهل‪ .‬فاستعيذ من هذه الأحول كلها بلفظ‬ ‫سلس موجز‪.‬‬

‫الحديث الثالث والثمانون‬ ‫عن أنس رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه‬ ‫وسلم‪َ (( :‬م ْن َقالَ‪َ -‬ي ْعني‪ :‬إِ َذا َخ َر َج ِم ْن َبيتِ ِه‪ :‬بِس ِم اللهِ َت َو َّك ْل ُت‬ ‫َعلَى اللهِ‪َ ،‬ولا َحولَ َولا قُ َّو َة إلا بالل ِه‪ُ ،‬يقالُ لَ ُه‪ُ :‬ه ِدي َت َو ُك ِفي َت‬ ‫َو ُو ِقي َت‪َ ،‬و َت َن َّحى َع ْن ُه ال َّشي َطا ُن))‬ ‫(صحيح الترمذي)‬ ‫وزاد أبو داود‪(( :‬فيقول‪ -‬يعني‪ :‬الشيطان‪ --‬لِشيطان آخر‪:‬‬ ‫َكي َف لَ َك بِرج ٍل َق ْد ُه ِد َي َو ُك ِف َي َو ُوقِ َي؟))‬ ‫شرح الحديث‬ ‫أخبر رسول الله صلي الله عليه وسلم أن الرجل إذا خرج من‬ ‫بيته فقال‪ :‬بسم الله‪ ،‬توكلت على الله‪ ،‬لا حول ولا قوة إلا‬ ‫بالله‪ ،‬ينادى يا عبد الله هديت إلى طريق الحق‪ ،‬وكفيت همك‪،‬‬ ‫وحفظت من الأعداء؛ فيبتعد عنه الشيطان الموكل عليه‪،‬‬ ‫فيقول شيطان آخر لهذا الشيطان‪ :‬كيف لك بإضلال رجل قد‬ ‫هدي‪ ،‬وكفي‪ ،‬ووقي من الشياطين أجمعين؟ لأنه قال هذه‬ ‫الكلمات فإنك لا تقدر عليه‪.‬‬

‫((بسم الله)) أي‪ :‬بسم الله أخرج‪.‬‬ ‫((توكلت على الله)) أي‪ :‬فوضت جميع أموري إليه‪.‬‬ ‫والتوكل هو‪ :‬الاعتماد على الله ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬في حصول‬ ‫المطلوب‪ ،‬ودفع المكروه‪ ،‬مع الثقة به وفعل الأسباب‬ ‫المأذون فيها‪.‬‬ ‫((لاَ حول ولا قُ َّوة إِلاَّ بالله)) لا انتقال ولا تحول من حال إلى‬ ‫حال‪ ،‬ولا قوة على شيء من الأشياء إلا بعون من الله‪.‬‬ ‫أي‪ :‬لا حول عن المعاصي إلا بعصمة الله‪ .‬ولا ق َّوة على‬ ‫الطاعات إلا بالله‪.‬‬ ‫((يقال له)) يحتمل أن يكون القائل هو الله تعالى‪ ،‬ويجوز أن‬ ‫يكون ملك من الملائكة‪.‬‬ ‫(( ُه ِدي َت َو ُكفِي َت)) أي‪ :‬باستعانتك باسمه ‪-‬تعالى‪ -‬وتحصنك‬ ‫به هديت للصراط المستقيم وإلى طريق الحق والصواب‪،‬‬ ‫وكفيت كل مهم دنيوي وأخروي وصرف عنك الشر‪.‬‬ ‫((ووقيت)) أي‪ :‬حفظت عن الأشياء الخفية عنك من الأذى‬ ‫والسوء ُو ُح ِفظت من كل مكروه‪.‬‬

‫((وتنحى عنه)) أي‪ :‬بعد عنه الشيطان وابتعد عن طريقه‪.‬‬ ‫((فيقول لشيطان آخر)) يقول الشيطان للشيطان آخر َيريد‬ ‫أذاه‪.‬‬ ‫((كيف لك برجل)) يعني‪ :‬ما بقي لك من تسلط على رجل قد‬ ‫ُهدي بذكر الله‪ ،‬و ُكفي شرك‪َ ،‬ووقي من مكرك وكيدك‪.‬‬ ‫وفي الحديث‪ :‬استحباب هذا القول عند الخروج من المنزل؛‬ ‫ليحصل ما فيه من خير‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬فضل التوكل على الله ‪-‬عز وجل‪ ،-‬والالتجاء إليه‬ ‫بالقول والفعل‪ ،‬وأن ذلك حصن للمؤمن من كل شر‪ ،‬وأنه لا‬ ‫حول ولا قوة للعبد في كافة أموره إلا بالله‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬عجز الشيطان عن غواية من هداه الله‪ ،‬وح َّبب إليه‬ ‫الإيمان وزينه في قلبه‬

‫الحديث الرابع والثمانون‬ ‫عن أنس رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬كا َن أَ َخوا ِن َعلَى عهد ال َّنب ّي‬ ‫صلى الله عليه وسلم َو َكا َن أ َح ُد ُه َما َيأ ِتي ال َّنب َّي صلى الله‬ ‫عليه وسلم َوالآ َخ ُر َي ْح َت ِر ُف‪َ ،‬ف َش َكا ال ُم ْح َت ِر ُف أ َخاهُ للنبي‬ ‫صلى الله عليه وسلم‪َ ،‬ف َقالَ‪َ (( :‬ل َع َلّ َك ُت ْر َز ُق ِب ِه))‬ ‫الألباني ‪ (:‬صحيح الترمذي)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫طلَ ُب ال ِعل ِم‪ ،‬و َكفال ُة طالبِه ِمن أسبا ِب ال َّتو ِسع ِة في ال ِّر ْز ِق‬ ‫لل َّشخ ِص؛ ف َمن َسعى و َع ِمل واك َت َسب وت َك َّفل بطال ِب العل ِم‪،‬‬ ‫فلعلَّ الل َه أن ُيكا ِف َئه على ذلك‪ ،‬و ُيو ِّس َع عليه في ِرزقِه‪.‬‬ ‫وفي هذا ال َحدي ِث َيقولُ أ َن ُس ب ُن مال ٍك َر ِضي اللهُ َعنه‪ :‬كان‬ ‫أ َخوا ِن على َعه ِد ال َّنب ِّي صلَّى اللهُ علَيه وس َّلم‬ ‫\"فكان أ َح ُدهما\"‪ ،‬أي‪ :‬أ َح ُد الأ َخ َوين‬ ‫\"يأتي ال َّنب َّي ص َلّى اللهُ علَيه وس َلّم\"‪ ،‬أي‪َ :‬يح ُض ُر إلى‬ ‫ال َّنب ِّي صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم‪ ،‬و ُيلا ِز ُمه و َيس َم ُع أحادي َثه‬ ‫وي َتعلَّ ُم ِمنه أمو َر ال ِّدي ِن‪.‬‬

‫\"والآ َخ ُر َيح َت ِر ُف\"‪ ،‬أي‪ :‬وكان الأ ُخ الآ َخ ُر َيع َملُ‬ ‫وي َتك َّس ُب‪ ،‬و َيحت ِر ُف‪ ،‬أي‪َ :‬يع َملُ في ِح ْرف ٍة أو َصنع ٍة‪.‬‬ ‫وكان هذا العا ِملُ المتك ِّس ُب ي َتح َّملُ َمعيش َة أخيه الآ َخ ِر ويو ِّف ُر‬ ‫له ال َّطعا َم وال َّشرا َب‪.‬‬ ‫\"ف َشكا المحت ِر ُف أخاه إلى ال َّنب ِّي صلَّى اللهُ علَيه وس َلّم\"‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫فجاء الأ ُخ الَّذي َيع َملُ وي َتك َّس ُب ِمن ِحرف ِته إلى ال َّنب ِّي صلَّى‬ ‫اللهُ علَيه وسلَّم‪ ،‬و َشكا إليه أخاه أ َّنه لا ُيسا ِع ُده في ِحر َفتِه‬ ‫ولا َيخ ُر ُج ي َتك َّس ُب معه أسبا َب المعيش ِة وال ِّرز ِق‬ ‫\"فقال\"‪ ،‬أي‪ :‬قال ال َّنب ُّي ص َلّى اللهُ ع َليه وس ّلَم لهذا الأ ِخ‬ ‫ال َّشاكي‪\" :‬لع َّلك ُتر َز ُق به\"‬ ‫أي‪ :‬لعلَّ اللهَ ج َعله سب ًبا في أن َير ُز َقك؛ لأ َّنك َتك ّلَف َت ِع ْب َء‬ ‫َمعيشتِه و َطعا ِمه و َشرا ِبه‪ ،‬فر َّبما كان هو ال َّسب َب في ِرزقِك‬ ‫و َمعي َشتِك‪ ،‬فلا َتم ُن ْن عليه ب َع َملِك‪.‬‬ ‫ولا َيعني هذا ال َّدعو َة إلى ال َّتكا ُس ِل وال ُخمو ِل وال َّتواك ِل‪ ،‬ولك َّنه‬ ‫َتعري ٌف ب َفض ِل اللهِ على ال َخل ِق كلِّهم‪ ،‬وبيا ٌن أ َّنه هو ال َّر َّزا ُق‬ ‫وأ َّنه هو الكافلُ لِ َمن شاء ب َمن شاء‪ ،‬فلا َيم ُن ْن غن ٌّي على‬ ‫فقي ٍر ب َعطا ٍء‪ ،‬ولا عائلٌ على ُمعي ٍل ب َكفالتِه‪.‬‬

‫وقد ور َد ْت نصو ٌص كثيرةٌ في الح ِّث على الع َم ِل وطلَ ِب‬ ‫ال َّتك ُّس ِب وع َد ِم ال َّتوا ُك ِل‪ ،‬و ُمراعا ِة َح ِّق اللهِ في ال َّطاع ِة وح ِّق‬ ‫ال َّنف ِس بال َّتع ُّف ِف وع َد ِم ُسؤا ِل ال َّنا ِس‪.‬‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬الح ُّث على ال َّتكافُ ِل بي َن ال َّنا ِس و َتح ُّم ِل الإخ َو ِة‬ ‫بع ِضهم بع ًضا‪.‬‬

‫المقدمة‬ ‫باب الاستقامة‬ ‫الحديث الخامس والثمانون‬ ‫عن أبي عمرو‪ ،‬وقيل‪ :‬أبي َعمرة سفيان بن عبد الله رضي‬ ‫الله عنه َقالَ‪ :‬قُ ْل ُت‪َ :‬يا َر ُسول الله‪ ،‬قُلْ لي في الإ ْسلا ِم َقو ًلا لا‬ ‫أ ْسأَلُ َع ْن ُه أَ َح ًدا َغ ْي َر َك‪َ .‬قالَ‪(( :‬قُلْ‪ :‬آ َم ْن ُت بِاللهِ‪ُ ،‬ث َّم اس َتقِ ْم))‬ ‫(رواه مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫هذا الحديث جمع معاني الإِسلام والإِيمان كلها‪ ،‬وهو على‬ ‫وفاق قوله تعالى‪ { :‬إِ َّن الَّ ِذي َن َقالُوا َر ُّب َنا ال َّلهُ ُث َّم ا ْس َت َقا ُموا‬ ‫قال بعض العارفين‪ :‬مرجع الاستقامة إلى أمرين‪:‬‬ ‫▪ صحة الإيمان بالله‪.‬‬ ‫▪ واتباع ما جاء به رسول الله ظاه ًرا وباط ًنا‪.‬‬ ‫((قل لي في الإسلام))‪ :‬في دينه وشريعته‪.‬‬

‫((قولاً))‪ :‬جامعا لمعاني الدين‪ ،‬واضحا في نفسه‪ ،‬اكتفى به‬ ‫واعمل عليه‪.‬‬ ‫((استقم))‪ :‬الزم عمل الطاعات‪ ،‬وانته عن جميع المخالفات‬ ‫\"قل لي في الإسلام \"‪ :‬أي في الشريعة‪.‬‬ ‫\"قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك\" يعني قولاً يكون حداً فاصلاً‬ ‫جامعاً مانعاً‪.‬‬ ‫فقال له‪\" :‬قُل آ َم ْن ُت بِاللهِ\" وهذا في القلب‬ ‫\" ُث َّم اس َتقِم\" على طاعته‪ ،‬وهذا في الجوارح‪.‬‬ ‫فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم كلمتين‪:‬‬ ‫\"آ َم ْن ُت ِباللهِ\" محل الإيمان القلب‪.‬‬ ‫\" ُث َّم اس َتقِم\" وهذا في عمل الجوارح‪.‬‬ ‫وهذا حديث جامع‪ ،‬من أجمع الأحاديث‪ .‬فقوله‪ :‬قُل آ َم ْن ُت‬ ‫يشمل قول اللسان وقول القلب‪.‬‬ ‫قال أهل العلم‪ :‬قول القلب‪ :‬هو إقراره واعترافه‪.‬‬

‫\"آ َم ْن ُت بِاللهِ\" أي أقررت به على حسب ما يجب على من‬ ‫الإيمان بوحدانيته في الربوبية والألوهية والأسماء‬ ‫والصفات‪.‬‬ ‫ثم بعد الإيمان \" ِاس َتقِم\" أي سر على صراط مستقيم‪ ،‬فلا‬ ‫تخرج عن الشريعة لا يميناً ولا شمالاً‪.‬‬ ‫هاتان الكلمتان جمعتا الدين كله‬ ‫فالإيمان بالله يتضمن‪ :‬الإخلاص له في العبادة‪.‬‬ ‫والاستقامة تتضمن التمشي على شريعته ع ّز وجل‪ ،‬ومتابعة‬ ‫الرسول صلي الله عليه وسلم ‪:‬‬ ‫فيكون جامعاً لشرطي العبادة وهما‪:‬‬ ‫‪ .1‬الإخلاص ‪.2‬والمتابعة‪.‬‬ ‫كما جمع الحديث أركان الإيمان عند أهل السنة والجماعة‬ ‫وهي ‪ :‬ـ‬ ‫▪ قول اللسان‪ :‬لقوله \" قل آمنت بالله \"‪.‬‬ ‫▪ اعتقاد الجنان‪ :‬لقوله \" آمنت بالله \"‪.‬‬ ‫▪ عمل الجوارح‪ :‬لقوله \" استقم \"‪.‬‬

‫فجمع الحديث الدين كله ‪ ،‬لأن الإستقامة هي فعل الطاعات‬ ‫كلها من واجبات ومستحبات ‪ ،‬وترك المنهيات كلها من‬ ‫محرمات ومكروهات وهذا هو الدين‪.‬‬

‫الحديث السادس والثمانون‬ ‫عن أبي هرير َة رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ َر ُسول الله صلى الله‬ ‫عليه وسلم‪َ (( :‬قا ِر ُبوا َو َس ِّد ُدوا‪َ ،‬وا ْع َل ُموا أَ َّن ُه َل ْن َي ْن ُج َو أَ َح ٌد‬ ‫ِم ْن ُك ْم ب َع َملِ ِه)) قالُوا‪َ :‬ولا أَ ْن َت َيا َر ُسول الله؟ َقالَ‪َ (( :‬ولا أنا إلا‬ ‫أ ْن َي َت َغ َّم َدني الله ب َرح َم ٍة ِمن ُه َو َف ْض ٍل))‬ ‫(رواه مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫يقول النووي ‪-‬رحمه الله‪:‬‬ ‫والمقاربة‪ :‬القصد الذي لا غلو فيه ولا تقصير‪.‬‬ ‫والسداد‪ :‬الاستقامة والإصابة‪.‬‬ ‫يتغمدني ‪ :‬أي‪ :‬يلبسني ويسترني‪.‬‬ ‫قال العلماء‪ :‬معنى الاستقامة لزوم طاعة الله تعالى‪.‬‬ ‫ال َّسداد هو‪ :‬الوصول إلى حقيقة الاستقامة‪ ،‬والإصابة في‬ ‫جميع الأقوال والأعمال والمقاصد‪.‬‬ ‫والمقا َربة‪ :‬القرب من مرتبة السداد‪.‬‬

‫فالمسلم أمامه مرتبتان؛ فهو مطالب أن يجتهد في الوصول‬ ‫إلى المرتبة الأولى‪ ،‬وهي‪ :‬السداد‬ ‫فإن اجتهد ولم يصبها فلا يفوتنه القرب منها بالوصول إلى‬ ‫المرتبة الثانية‪ ،‬وهي‪ :‬المقاربة‪ ،‬وما سواهما تفريط‬ ‫وإضاعة‪ ،‬وعلى المؤمن ألا يفارق هاتين المرتبتين‪،‬‬ ‫وليجتهد في الوصول إلى أعلاهما‪.‬‬ ‫هذا الحديث يدل على أن الاستقامة على حسب الاستطاعة‬ ‫وهو قول النبي صلي الله عليه وسلم ‪:‬‬ ‫((قاربوا وسددوا))‪ :‬أي قاربوا ما أمرتم به واحرصوا على‬ ‫أن تقربوا منه بقدر المستطاع‪.‬‬ ‫وقوله ((سددوا))‪ :‬أي سددوا على الإصابة‪ ،‬أي‪ :‬احرصوا‬ ‫على أن تكون أعمالكم مصيبة للحق بقدر المستطاع وذلك‬ ‫أن الإنسان مهما بلغ من التقوى فإنه لابد أن يخطئ‪.‬‬ ‫فالإنسان مأمور أن يقارب ويسدد بقدر ما يستطيع‬ ‫((واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله)) أي‪ :‬لن ينجو من‬ ‫النار بعمله وذلك لأن العمل لا يبلغ ما يجب لله عز وجل من‬

‫الشكر وما يجب على عباده من الحقوق ولكن يتغمد سبحانه‬ ‫وتعالى العبد برحمته فيغفر له‪.‬‬ ‫فل ّما قال الرسول هذا قالوا له ولا أنت؟‬ ‫قال ‪((:‬ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل))‬ ‫فدل ذلك على أن الإنسان مهما بلغ من المرتبة والولاية‬ ‫فإنه لن ينجو بعمله حتى النبي صلى الله عليه وسلم لولا أن‬ ‫الله من عليه بأن غفر له ما تقدم وما تأخر ما أنجاه عمله‪.‬‬ ‫أي‪ :‬أنه عليكم أن تعملوا‪ ،‬وأن تتقوا الله ما استطعتم‪ ،‬وأن‬ ‫تجتهدوا غاية الاجتهاد في تحصيل أسباب النجاة‪ ،‬وأنتم مع‬ ‫ذلك لن تستطيعوا أن تحققوا هذه النجاة بمجرد الأعمال‪،‬‬ ‫وذلك أن حق الله أعظم‪ ،‬ونعمه على عباده وعلى خلقه لا‬ ‫تحصى‪ ،‬ولو أن الأعمال التي يعملها الإنسان وزنت بنعمة‬ ‫واحدة لما كافأتها‪ ،‬ولذلك مهما عمل الإنسان فإنه لن يكافئ‬ ‫نعمة الله عليه‪.‬‬ ‫وهذا لا يعارض قول الله تعالى حينما ذكر أهل الإيمان‬ ‫ودخولهم الجنة فقال‪َ \" :‬ج َزاء ِب َما َكا ُنوا َي ْع َملُو َن\"‬ ‫[الواقعة‪ ،]24:‬فإن الباء هنا للسببية‪ ،‬وليست للمقابلة‪،‬‬

‫ليست للعوض‪ ،‬والعمل لا يكافئ النعيم المقيم في الجنة‬ ‫ورضوان الله‪ ،‬ولكنه سبب له فقط‪.‬‬ ‫فالمنفي دخول الإنسان الجنة بالعمل في المقابلة أما المثبت‬ ‫فهو أن العمل سبب وليس عوضا فالعمل لا شك أنه سبب‬ ‫لدخول الجنة والنجاة من النار لكن ليس هو العوض وليس‬ ‫وحده الذي يدخل به الإنسان الجنة ولكن فضل الله ورحمته‬ ‫هما السبب في دخول الجنة والنجاة من النار‪.‬‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬أن الإنسان لا يعجب بعمله مهما كان عملك‬ ‫فإنه قليل بالنسبة لحق الله عليك فعلى الإنسان أن يتواضع‬ ‫لربه‪ ،‬ويجتهد‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬أنه ينبغي على الإنسان أن يكثر من ذكر الله دائما‬ ‫ومن السؤال بأن يتغمده الله برحمته لأن عملك في مرضاة‬ ‫الله لا يكون إلا برحمة الله عز وجل‬

‫المقدمة‬ ‫باب المبادرة إلى الخيرات‬ ‫الحديث السابع والثمانون‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه‪ :‬أن رسول الله صلى الله عليه‬ ‫وسلم قال‪(( :‬بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم‪ ،‬يصبح‬ ‫الرجل مؤمنا ويمسي كافرا‪ ،‬ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا‪،‬‬ ‫يبيع دينه بعرض من الدنيا))‬ ‫(رواه مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫قال النووي‪\" :‬معنى الحديث الحث على المبادرة إلى‬ ‫الأعمال الصالحة قبل تعذرها والاشتغال عنها بما يحدث من‬ ‫الفتن الشاغلة المتكاثرة‪ ،‬المتراكمة كتراكم ظلام الليل‬ ‫المظلم لا المقمر‪ ،‬ووصف صلى الله عليه وسلم نوعاً من‬ ‫شدائد تلك الفتن‪ ،‬وهو أن يمسي مؤمناً ثم يصبح كافراً أو‬ ‫عكسه‪ ،‬وهذا لعظم الفتن‪ ،‬ينقلب الإنسان في اليوم الواحد‬ ‫هذا الانقلاب\"‬

‫(( َبا ِد ُروا ِبالأَ ْع َما ِل ِف َتنا)) أي سابقوا وسارعوا بأعمالكم‬ ‫الصالحة قبل مجيء الفتن التي تمنعكم منها وتصدكم‬ ‫عنها‪ ،‬والفتن هي الابتلاء والاختبار بالمحن والمنكرات‬ ‫والشدائد التي تحول بين العبد وبين العمل الصالح‪،‬‬ ‫وهي قسمين‪:‬‬ ‫‪)1‬فتن شبهات وعلاجها العلم‪.‬‬ ‫‪)2‬وفتن شهوات وعلاجها الإيمان والصبر‪.‬‬ ‫(( َكقِ َط ِع ال َّل ْي ِل ا ْل ُم ْظلِ ِم)) هذا تشبيه للفتن بأجزاء الليل‬ ‫المظلمة الشديدة في سوادها وظلمتها‪ ،‬لأن وصف الليل‬ ‫بالمظلم تأكيد لهذه الشدة‪ ،‬وفي هذا كناية عن شدة الفتن‬ ‫وعظم الخوف منها وضعف الوصول للحق فيها وكثرة‬ ‫الوقوع في الباطل وفي هذا غاية التشبيه‪.‬‬ ‫(( َو ُي ْم ِسي َكافِرا))‪ :‬يحتمل كفر النعمة‪ ،‬ويحتمل الكفر‬ ‫الحقيقي وهو الأرجح‪.‬‬ ‫قال القرطبي مرجحا الكفر الحقيقي‪ \" :‬لا بعد في حمل هذا‬ ‫الحديث على ظاهره‪ ،‬لأن المحن والشدائد إذا توالت على‬

‫القلوب أفسدتها بغلبتها عليها‪ ،‬وبما تؤثر فيها من القسوة و‬ ‫الغفلة التي هي سبب الشقوة\"‬ ‫وذكر الصباح والمساء في الحديث ليس مقصودا لذاته بل‬ ‫هما كناية عن سرعة التحول‪.‬‬ ‫(( َيبِي ُع ِدي َن ُه بِ َع َر ٍض ِم َن ال ُّد ْن َيا)) جملة تعليلية لتحوله إلى‬ ‫الكفر‪ ،‬و َع َرض الدنيا ما ُيعرض فيها وكل ما في الدنيا فهو‬ ‫عرض‪ ،‬وسمي بذلك لأنه يعرض ويزول إما أن تزول أنت‬ ‫قبله أو هو يزول قبلك‪ ،‬قال تعالى‪ُ ﴿ :‬ت ِر ْي ُد ْو َن َع َر َض ال ُّد ْن َيا ﴾‬ ‫ولا تظن أن العرض من الدنيا هو المال‪ ،‬كل متاع الدنيا‬ ‫عرض‪ ،‬سواء مال‪ ،‬أو جاه أو رئاسة‪ ،‬أو نساء‪ ،‬أو غير‬ ‫ذلك‪ ،‬كل ما في الدنيا من متاع فإنه عرض‪ ،‬كما قال تعالى ‪:‬‬ ‫( َت ْب َت ُغو َن َع َر َض ا ْل َح َيا ِة ال ُّد ْن َيا َف ِع ْن َد ال َّلهِ َم َغا ِن ُم َكثِي َرةٌ )‬ ‫( النساء‪ ) 94 :‬فما في الدنيا كله عرض‪.‬‬ ‫فوائد الحديث‪:‬‬ ‫‪.1‬الفائدة الأولى‪ :‬في الحديث الحث على العمل الصالح‬ ‫قبل قدوم ما يحجبها من الفتن‪ ،‬لأن الفتن إذا حلت‬ ‫فإنها تحول بين الإنسان والعمل الصالح‪ ،‬وإن بادر‬

‫فيها قبل حلولها وأقبل على الله كان العمل الصالح‬ ‫حماية له منها‪.‬‬ ‫‪.2‬الفائدة الثانية‪ :‬الحديث دليل على أن الأعمال الصالحة‬ ‫سبب للنجاة من الفتن‪.‬‬ ‫‪.٣‬الفائدة الثالثة‪ :‬في الحديث ذم الحياة الدنيا الفانية بما‬ ‫فيه من عرض (مال أو منصب أو جاه أو شهرة‬ ‫ونحوها)‪ ،‬والحذر من تقديمها على الآخرة الباقية‪.‬‬

‫الحديث الثامن والثمانون‬ ‫عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال‪ :‬صليت وراء‬ ‫النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر‪ ،‬فسلم ثم قام‬ ‫مسرعا‪ ،‬فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه‪،‬‬ ‫ففزع الناس من سرعته‪ ،‬فخرج عليهم‪ ،‬فرأى أنهم قد‬ ‫عجبوا من سرعته‪ ،‬قال‪(( :‬ذكرت شيئا من تبر عندنا‬ ‫فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته))‬ ‫(رواه البخاري)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫خلاصة هذا الحديث ‪ :‬هو المبادرة إلى فعل الخيرات ‪ ،‬وعدم‬ ‫التهاون في ذلك ‪.‬‬ ‫\"قام مسر ًعا\" يعني كأنه صلي الله عليه وسلم غير عادته‬ ‫فلم يتمهل‪ ،‬وكان يأمر أصحابه أن يتأخروا في الخروج من‬ ‫المسجد من أجل أن يخرج النساء قبلهم‪ ،‬فبادر النبي صلي‬ ‫الله عليه وسلم إلى الخروج قبلهم حتى إنه احتاج إلى أن‬ ‫يتخطى رقابهم‪ ،‬وهذا التخطي يدل على أن أم ًرا في غاية‬ ‫الأهمية حمل النبي صلي الله عليه وسلم على هذا الإسراع‪.‬‬

‫\"فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه‪ ،‬ففزع الناس‬ ‫من سرعته\" خافوا فلاب ّد أن هناك من الأمور المهمة‬ ‫المزعجة ما حمله على هذا الإسراع‪ ،‬فخرج عليهم فرأى‬ ‫أنهم قد عجبوا من سرعته فقال مبي ًنا لهم سبب هذا الإسراع‬ ‫والمبادرة‪:‬‬ ‫\"ذكرت شي ًئا من ِتبر عندنا\" يعني أنه تذكر ذه ًبا عنده في‬ ‫بعض حجر نسائه‪ ،‬التبر هو الذهب‪ ،‬وبعضهم يقول‪ :‬هو‬ ‫الذي الذي لم ُيصغ فهو قطع من الذهب‪ ،‬أو الذهب الخام‪.‬‬ ‫\" فكرهت أن يحبسني‪ ،‬فأمرت بقسمته\" كرهت أن يحبسني‬ ‫يحتمل أن يكون المعنى كره أن يشغله التفكير فيه‪ ،‬فيكون‬ ‫ذلك صر ًفا له عما هو بصدده من ذكر الله والتقرب إليه‪،‬‬ ‫وإقبال القلب عليه‪ ،‬فيكون القلب مشغولاً بهذا الذهب‪.‬‬ ‫وقد يكون المراد \"فكرهت أن يحبسني\" أي‪ :‬أن هذا مال‬ ‫لا يحق حبسه‪ ،‬فإذا حبسه العبد وأخره عن المحتاجين‬ ‫فإن ذلك قد يكون سب ًبا لمحاسبة العبد‪.‬‬ ‫وفي رواية له‪\" :‬كنت خلَّفت في البيت تب ًرا من الصدقة‬ ‫فكرهت أن أبيته\"‬

‫\" كره أن يبيته\"‪ :‬يعني أن يبيت عنده‪ ،‬وإذا كان هذا‬ ‫من الصدقة بمعنى الزكاة فإن هذا أيضاً يدل على أن‬ ‫الزكاة لا يجوز تأخيرها بحال من الأحوال‪ ،‬ينبغي أن‬ ‫توصل إلى المحتاجين‪ ،‬وإنما يجوز التأخير في حالة‪،‬‬ ‫وهي ما إذا كان الذي ستعطى له الزكاة غائ ًبا‪.‬‬ ‫ففي هذا الحديث‪ :‬المبادرة إلى فعل الخير‪ ،‬وألا يتوانى‬ ‫الإنسان عن فعله‪ ،‬وذلك لأن الإنسان لا يدري متى يفاجئه‬ ‫الموت؛ فيفوته الخير‪ ،‬والإنسان ينبغي أن يكون كيساً‪ ،‬يعمل‬ ‫لما بعد الموت ولا يتهاون‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬دليل على أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أسرع‬ ‫الناس مبادرة إلى الخير‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬دليل على جواز تخطي الرقاب بعد السلام من الصلاة‪،‬‬ ‫ولا سيما إذا كان لحاجة‪ ،‬بخلاف تخطي الرقاب قبل الصلاة‪،‬‬ ‫فإن ذلك منهي عنه؛ لأنه إيذاء للناس‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬دليل على أن رسول الله صلي الله عليه وسلم ـ كغيره‬ ‫من البشر ـ يلحقه النسيان‪ ،‬وأنه ينسى كما ينسى غيره‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬دليل على شدة الأمانة وعظمها‪ ،‬وأن الإنسان إذا لم‬ ‫يبادر بأدائها فإنها قد تحبسه‪.‬‬

‫الحديث التاسع والثمانون‬ ‫عن جابر رضي الله عنه قال‪ :‬قال رجل للنبي صلى الله‬ ‫عليه وسلم يوم أحد‪ :‬أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال‪(( :‬في‬ ‫الجنة)) فألقى تمرات كن في يده‪ ،‬ثم قاتل حتى قُتِل‬ ‫(متفق عليه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫قال رجل من الصحابه للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد‬ ‫أرأي َت إن قُتل ُت فأين أنا؟‬ ‫قال‪\" :‬في الجنة \"‪ ،‬فألقى تمرات كن في يده‪ ،‬ثم قاتل‬ ‫حتى قتل‬ ‫يعني أن هذا الرجل ألقى هذه التمرات التي كن في يده‪،‬‬ ‫استطال الزمان الذي يقضيه في أكلها‪ ،‬استطال الوقت‪.‬‬ ‫والتمرات هذا جمع قلة‪ ،‬فمعنى ذلك أنها قليلة معدودة‪ ،‬فأكل‬ ‫هذه التمرات كم يستغرق من الوقت؟‪ ،‬ثلاث دقائق‪ ،‬أقل‬

‫بقليل‪ ،‬أكثر بقليل‪ ،‬المسألة لا تتجاوز هذا الزمن اليسير‪،‬‬ ‫ومع ذلك يستطيل هذه المدة‪.‬‬ ‫ففي الحديث‪ :‬المبادرة إلى الخيرات وحث من توجه لخير‬ ‫عل الإقبال عليه بالجد من غير تردد‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬دليل على مبادرة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ إلى‬ ‫الأعمال الصالحة‪ ،‬وأنهم لا يتأخرون فيها‪ ،‬وهذا شانهم؛‬ ‫ولهذا كانت لهم العزة في الدنيا‪ ،‬وفي الآخرة‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬أن من قتل في سبيل الله؛ فإنه في الجنة‪ ،‬ولكن من‬ ‫هو الذي يقتل في سبيل الله؟ الذي يقتل في سبيل الله‪ :‬هو‬ ‫الذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا‪.‬‬

‫الحديث التسعون‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه‪ ،‬قال‪ :‬جاء رجل إلى النبي‬ ‫صلى الله عليه وسلم فقال‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬أي الصدقة‬ ‫أعظم أجرا؟ قال‪(( :‬أن تصدق وأنت صحيح شحيح‪،‬‬ ‫تخشى الفقر وتأمل الغنى‪ ،‬ولا تمهل حتى إذا بلغت‬ ‫الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا‪ ،‬وقد كان لفلان))‬ ‫(متفق عليه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫في هذا الحديث‪ :‬فضل الصدقة في حال الصحة‪.‬‬ ‫وروى أبو داود وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله‬ ‫عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪(( :‬لأن‬ ‫يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق‬ ‫بمائة عند موته))‬ ‫والحديث ساقه المؤلف ـ رحمه الله ـ في باب المبادرة إلى‬ ‫فعل الخيرات‪ ،‬وعدم التردد في فعلها إذا أقبل عليها‬

‫فإن هذا الرجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الصدقة‬ ‫أفضل؟ وهو لا يريد أي الصدقة أفضل في نوعها‪ ،‬ولا في‬ ‫كميتها‪ ،‬وإنما يريد ما هو الوقت الذي تكون فيه الصدقة‬ ‫أفضل من غيرها‬ ‫فقال له‪(( :‬أن تصدق وأنت صحيح شحيح)) يعني صحيح‬ ‫البدن شحيح النفس؛ لأن الإنسان إذا كان صحيحاً كان‬ ‫شحيحاً بالمال؛ لأنه يأمل البقاء‪ ،‬ويخشى الفقر‪ ،‬أما إذا كان‬ ‫مريضاً‪ ،‬فإن الدنيا ترخص عنده‪ ،‬ولا تساوي شيئاً فتهون‬ ‫عليه الصدقة‪ .‬والمراد بالشح أشد البخل‬ ‫(أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى)‬ ‫يعني أنك لكونك صحيحاً تأمل البقاء وطول الحياة؛ لأن‬ ‫الإنسان الصحيح يستبعد الموت‪ ،‬وإن كان الموت قد‬ ‫يفاجئ الإنسان‪ ،‬بخلاف المريض؛ فإنه يتقارب الموت‪.‬‬ ‫((وتخشى الفقر)) يعني‪ :‬لطول حياتك‪ ،‬فإن الإنسان يخشى‬ ‫الفقر إذا طالت به الحياة؛ لأن ما عنده ينفد‪ ،‬فهذا أفضل ما‬ ‫يكون؛ أن تتصدق في حال صحتك وشحك‪.‬‬ ‫((ولا تمهل)) أي لا تترك الصدقة‬

‫((حتى إذا بلغت الحلقوم‪ ،‬قلت لفلان كذا ولفلان كذا))‬ ‫يعني لا تمهل‪ ،‬وتؤخر الصدقة‪ ،‬حتى إذا جاءك الموت‬ ‫وبلغت روحك حلقومك‪ ،‬وعرفت أنك خارج من الدنيا‪،‬‬ ‫(قلت‪ :‬لفلان كذا) يعني صدقة‪( ،‬ولفلان كذا) يعني‬ ‫صدقة‪.‬‬ ‫((وقد كان لفلان)) أي قد كان المال لغيرك‪( ،‬لفلان) ‪:‬‬ ‫يعني للذي يرثك‪ .‬فإن الإنسان إذا مات انتقل ملكه‪ ،‬ولم‬ ‫يبق له شيء من المال‪.‬‬ ‫ففي هذا الحديث‪ :‬دليل على أن الإنسان ينبغي له أن يبادر‬ ‫بالصدقة قبل أن يأتيه الموت‪ ،‬وأنه إذا تصدق في حال‬ ‫حضور الأجل‪ ،‬كان ذلك أقل فضلاً مما لو تصدق وهو‬ ‫صحيح شحيح‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬دليل على أن الإنسان إذا تكلم في سياق الموت فإنه‬ ‫يؤخذ كلامه إذا لم يذهل‪ ،‬فإن أذهل حتى صار لا يشعر بما‬ ‫يقول فإنه لا عبرة بكلامه‪ ،‬لقوله‪(( :‬حتى إذا بلغت الحلقوم‬ ‫قلت لفلان‪ :‬كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان))‬

‫وفيه‪ :‬دليل على أن الروح تخرج من أسفل البدن‪ ،‬تصعد‬ ‫حتى تصل إلى أعلى البدن‪ ،‬ثم تقبض من هناك‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬ ‫((حتى إذا بلغت الحلقوم))‪ ،‬وهذا كقوله تعالى‪َ ( :‬فلَ ْولا إِ َذا‬ ‫َب َل َغ ِت ا ْل ُح ْلقُو َم َوأَ ْن ُت ْم ِحي َنئِ ٍذ َت ْن ُظ ُرو َن) (الواقعة‪)84-8٣ :‬‬ ‫فأول ما يموت من الإنسان أسفله‪ ،‬تخرج الروح بأن تصعد‬ ‫في البدن‪ ،‬إلى أن تصل إلى الحلقوم‪ ،‬ثم يقبضها ملك‬ ‫الموت‪.‬‬

‫الحديث الحادي والتسعون‬ ‫عن أنس رضي الله عنه‪ :‬أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‬ ‫أخذ سيفا يوم أحد‪ ،‬فقال‪(( :‬من يأخذ مني هذا؟)) فبسطوا‬ ‫أيديهم كل إنسان منهم يقول‪ :‬أنا أنا‪ .‬قال‪(( :‬فمن يأخذه‬ ‫بحقه؟)) فأحجم القوم فقال أبو دجانة رضي الله عنه‪ :‬أنا‬ ‫آخذه بحقه‪ ،‬فأخذه ففلق به هام المشركين‬ ‫( رواه مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‬ ‫أخذ سي ًفا يوم أحد فقال‪( :‬من يأخذ مني هذا السيف؟) ‪،‬‬ ‫فبسطوا أيديهم كل إنسان منهم يقول‪ :‬أنا‪ ،‬أنا‪ ،‬هم ظنوا أن‬ ‫هذا السيف يؤخذ هكذا من غير مطالبة بلوازم تلزم آخذه‬ ‫وتبعات تترتب على أخذه‪ ،‬فقال‪( :‬فمن يأخذه بحقه؟) ‪،‬‬ ‫فأحجم القوم‪ ،‬فقال أبو دجانة رضي الله عنه ‪ ،‬وأبو دجانة‬ ‫هو ِسماك بن خرشة‪ ،‬واشتهر بكنيته وهو من الأنصار‬ ‫قال‪ :‬أنا آخذه بحقه‪ ،‬فأخذه ففلق به هام المشركين\"‬ ‫((أحجم القوم))‪ :‬أي توقفوا‬ ‫و((فلق به))‪ :‬أي شق‪(( .‬هام المشركين))‪ :‬أي رؤوسهم‪.‬‬

‫وجاء في بعض رواياته‪ :‬أنه سأل النبي صلى الله عليه‬ ‫وسلم فما حقه؟ فذكر له النبي صلى الله عليه وسلم هذا‪ ،‬أن‬ ‫يضرب به هام المشركين حتى ينثني‬ ‫فأخذه وربط عصابته الحمراء فقالت الأنصار‪ :‬ربط أبو‬ ‫دجانة عصابة الموت‪ ،‬يعني أن الرجل مقبل على الموت‪،‬‬ ‫مقبل على الشدة والأهوال‪ ،‬وركوب الأخطار من أجل أن‬ ‫يحقق هذا‬ ‫وجاء في بعض كتب السيرة عن الزبير بن العوام رضي الله‬ ‫عنه قال‪( :‬وجدت في نفسي حين سألت النبي صلى الله عليه‬ ‫وسلم السيف فمنعته‪ ،‬وأعطاه أبا دجانة‪ ،‬فقلت‪ :‬والله لأنظرن‬ ‫ما يصنع فاتبعته‪ ،‬فأخذ عصابة حمراء فعصب بها رأسه‪،‬‬ ‫فقالت الأنصار‪ :‬أخرج أبو دجانة عصابة الموت‪ .‬فخرج‬ ‫وهو يقول‪:‬‬ ‫أنا الذي عاهدني خليلي ** ونحن بالسفح لدى النخيل‬ ‫إلى آخر ماقال‪..‬‬ ‫فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله)‬ ‫في هذا الحديث‪ :‬المبادرة إلى قتال المشركين بالجد إذا أمكن‬ ‫ذلك‪ .‬والرغبة فيما عند الله‬

‫الحديث الثاني والتسعون‬ ‫عن الزبير بن عدي‪ ،‬قال‪ :‬أتينا أنس بن مالك رضي الله عنه‬ ‫فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج‪ .‬فقال‪(( :‬اصبروا؛ فإنه لا‬ ‫يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم))‬ ‫سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم‬ ‫( رواه البخاري)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫عن الزبير بن عدي ؛ أنهم أتوا إلى أنس بن مالك رضي الله‬ ‫عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وكان قد عمر ‪،‬‬ ‫وبقى إلى حوالي تسعين سنة من الهجرة النبوية ‪ ،‬وكان قد‬ ‫أدرك وقته شيء من الفتن ‪ ،‬فجاءوا يشكون إليه ما يجدون‬ ‫من الحجاج بن يوسف الثقفي ؛ أحد الأمراء لخلفاء بني‬ ‫أمية ‪ ،‬وكان معروفاً بالظلم وسفك الدماء ‪ ،‬وكان جباراً‬ ‫عنيداً‬ ‫ولقد عانى المسلمون كثي ًرا ِمن ُظل ِم الحجاج بن يوسف‬ ‫الثقفي ‪َ ،‬فكانوا ي ْلج ُؤو َن إلى أهل العلم من الصحاب ِة ل ُيفتوه ْم‬ ‫في الأمر وفقا ل ِكتا ِب اللهِ وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم‬ ‫فجاء الزبير بن ع ِدي إلى أنس رضي الله عنه َيشكو إليه ما‬ ‫ي ِج ُدهُ الناس ِمن ظل ِم الحجاج وتعديه عل ْي ِهم‪ ،‬ف َن َصح ُه أنس‬ ‫بِال َّصب ِر‪ ،‬وقال‪\" :‬ا ْصبِروا\"‬

‫وعلَّل ذل َك بِكلا ٍم س ِم َع ُه م َن النب ِّي ص َّلى اللهُ ع َلي ِه وس َّلم وهو‬ ‫قوله صلَّى الله عليه وس َلّم‪\" :‬فإ َّن ُه لا يأ ِتي علَيك ْم َزما ٌن إ َّلا‬ ‫الذي بع َدهُ َش ٌّر من ُه ح َّتى تل َق ْوا َر َّبك ْم\" أي‪ :‬حتى تموتوا أو‬ ‫ح َّتى قيا ِم ال َّساع ِة‬ ‫فقال لهم بأسلوب الحصر‪\" :‬لا يأتي زمان إلا والذي بعده\"‪،‬‬ ‫وهذه أقوى صيغة من صيغ الحصر‪ ،‬معناها لا يكون زمان‬ ‫إلا والذي بعده قط ًعا أسوأ منه‪ ،‬وهذا مشاهد كلما جاء جيل‬ ‫وإذا هو أضعف من الجيل السابق‪ ،‬أضعف في الحرص‪،‬‬ ‫والجد‪ ،‬والهمة في عمل الخير‪ ،‬والعلم النافع‬ ‫والحديث وارد في الأَكث ِر الأ ْغل ِب؛ لأن عصر عمر بن‬ ‫عبدالعزيز كان بعد عصر ال َح َّجا ِج‪ ،‬وكذلك في عصر نزول‬ ‫المسي ِح عليه السلام سيكون ِمن َخي ِر الأيا ِم‪.‬‬ ‫وفي الحديث‪ :‬التحذير من سوء الزمان‪ ،‬وأن الزمان يتغير‪،‬‬ ‫ويتغير إلى ما هو أشر‬

‫الحديث الثالث والتسعون‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه‪ :‬أن رسول الله صلى الله عليه‬ ‫وسلم‪ ،‬قال‪(( :‬بادروا بالأعمال سبعا‪ ،‬هل تنتظرون إلا فقرا‬ ‫منسيا‪ ،‬أو غنى مطغيا‪ ،‬أو مرضا مفسدا‪ ،‬أو هرما مفندا‪ ،‬أو‬ ‫موتا مجهزا‪ ،‬أو الدجال فشر غائب ينتظر‪ ،‬أو الساعة‬ ‫فالساعة أدهى وأمر))‬ ‫ضعيف (ضعفه الألباني)‬ ‫(تحقيق رياض الصالحين للألباني)‬ ‫معنى الحديث‬ ‫يعني‪ :‬سارعوا بالأعمال الصالحة‬ ‫(سب ًعا) أي‪ :‬قبل أن تنزل بكم فيكون ذلك صار ًفا لكم عن‬ ‫العمل الصالح‪ .‬أي ينبغي للإنسان أن يبادر بالأعمال حذرا‬ ‫من هذه الأمور‬ ‫(هل تنتظرون إلا فق ًرا ُمنس ًيا) أي‪ :‬أنه فقر شديد يغشاكم‬ ‫بسببه الهم‪ ،‬فيحصل من جراء ذلك أن ينسى الإنسان‬ ‫ويحصل له الذهول عن كثير مما هو بصدده من العمل‬ ‫الصالح‪.‬‬

‫(أو غنى مطغيا) وهو يقابل الأول‪ ،‬وذلك أن الكثيرين من‬ ‫الناس إذا حصل لهم السعة‪ ،‬إلا من عصم الله‪ ،‬أنه يطغى‬ ‫فالإنسان إما أن يحصل له فقر يدهشه وينسيه فينهمك في‬ ‫البحث عن لقمة العيش أو غنا يطغيه‬ ‫(أو مر ًضا مفس ًدا) مرض يفسد البدن‪ ،‬أو يفسد العقل فلا‬ ‫يستطيع الإنسان أن يقوم بوظائف العبودية‪ ،‬وإنما يكون‬ ‫منشغلاً بعلته وآلامه‬ ‫(أو هر ًما مفن ًدا) بمعنى هرم يخرج بصاحبه عن جادة‬ ‫الصواب‪ ،‬الهرم إذا صار الإنسان كبي ًرا في السن فإنه يختلط‬ ‫ويتغير عقله‬ ‫(أو مو ًتا مجه ًزا) أي‪ :‬مو ًتا سري ًعا يقع بالإنسان فلا يكون‬ ‫هناك مهلة للتوبة والمراجعة‪.‬‬ ‫(أو الدجال فشر غائب ُينتظر) وهو أعظم فتنة تقع لعموم‬ ‫الناس في هذه الدنيا‪ ،‬ما من نبي إلا حذر أمته الدجال فتنة‬ ‫عظيمة ج ًّدا‬ ‫( أو الساعة) يعني قيام الساعة الذي فيه الموت العام في‬ ‫النهاية( والساعة أدهى وأمر)‬ ‫فهذه سبع حذر منها النبي عليه الصلاة والسلام‪ ،‬وأمرنا أن‬ ‫نبادر بالأعمال الصالحة‬

‫الحديث الرابع والتسعون‬ ‫عن أبي هرير َة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه‬ ‫وسلم قال يوم خيبر‪(( :‬لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله‬ ‫ورسوله يفتح الله على يديه))‪ .‬قال عمر رضي الله عنه‪ :‬ما‬ ‫أحببت الإمارة إلا يومئذ‪ ،‬فتساورت لها رجاء أن أدعى لها‪،‬‬ ‫فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب‬ ‫رضي الله عنه فأعطاه إياها‪ ،‬وقال‪(( :‬امش ولا تلتفت حتى‬ ‫يفتح الله عليك))‪ .‬فسار علي شيئا ثم وقف ولم يلتفت‬ ‫فصرخ‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬على ماذا أقاتل الناس؟ قال‪(( :‬قاتلهم‬ ‫حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله‪ ،‬وأن محمدا رسول الله‪ ،‬فإذا‬ ‫فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها‪،‬‬ ‫وحسابهم على الله))‬ ‫(رواه مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫\"قال يوم خيبر\" أي‪ :‬يوم فتح خيبر‪ ،‬وذلك في السنة‬ ‫السابعة من الهجرة‪ ،‬وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم‬ ‫كان قد أعطى الراية‪ ،‬ولم يفتح للمسلمين‪ ،‬ثم بعد ذلك قال‪\":‬‬ ‫لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله على‬ ‫يديه\" ‪ ،‬فذكر أمرين‪:‬‬

‫الأول‪ :‬أنه يحب الله ورسوله‪ ،‬وهذه شهادة له من النبي‬ ‫صلى الله عليه وسلم‬ ‫والأمر الآخر‪ :‬أن الله يفتح على يديه‬ ‫فمن الذي يكون بهذه المثابة يشهد له النبي صلى الله عليه‬ ‫وسلم بمثل هذا؟‬ ‫قال عمر رضي الله عنه ‪\" :‬ما أحببت الإمارة إلا يومئذ\" ؛‬ ‫وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزهدهم في‬ ‫الإمارة‪ ،‬ويذكر لهم من تبعاتها ما يجعلهم يتراجعون‬ ‫ويتأخرون عن طلبها‬ ‫\"ما أحببت الإمارة إلا يومئذ\" ليس من أجل الإمارة‪ ،‬وإنما‬ ‫من أجل هذه الشهادة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم‬ ‫\"فتساور ُت لها\" يعني وثبت متطلعا وتطاولت؛ ليراه النبي‬ ‫صلى الله عليه وسلم بين الناس‪\" ،‬رجاء أن أُدعى لها‪ ،‬فدعا‬ ‫رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي‬ ‫الله عنه فأعطاه إياها‬ ‫وقال‪ \" :‬امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك‪ ،‬فسار علي‬ ‫شي ًئا ثم وقف ولم يلتفت فصرخ ‪-‬يعني صاح بصوته‪ -‬يا‬ ‫رسول الله‪ ،‬على ماذا أقاتل؟\"‬

‫وهذه منقبة لعلي رضي الله عنه من الناحيتين الناحية‬ ‫الأولى الدقة في الامتثال فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له‪:‬‬ ‫امش ولا تلتفت فهو مع أنه احتاج إلى أن يكلم النبي صلى‬ ‫الله عليه وسلم إلا أنه كلمه ووجهه صوب الوجهة التي‬ ‫يريدها ولم يلتفت للنبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وهذا يدل‬ ‫على شدة انضباط الصحابة وتحريهم‪ ،‬ودقتهم في امتثال أمر‬ ‫رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وهذا هو الذي بلغ بهم‬ ‫وأوصلهم إلى تلك المنازل الرفيعة عند الله‬ ‫\"فسار علي شي ًئا ثم وقف ولم يلتفت فصرخ يا رسول الله‬ ‫على ماذا أقاتل الناس؟\"‬ ‫وهذه أيضاً منقبة أخرى وهي أنه كان يتحرى في مثل هذه‬ ‫الأمور‪ ،‬فهو حينما يتجه ليقاتل لاب ّد أن يكون له هدف‬ ‫محدد‪ ،‬ومقصود واضح بين‪ ،‬فماهو هدفه الذي يقاتل من‬ ‫أجله‪ ،‬فسأل على ماذا أقاتل الناس؟‬ ‫قال‪( :‬قاتلهم حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محم ًدا رسول‬ ‫الله) يعني قاتلهم حتى يدخلوا في الإسلام‪،‬‬ ‫(فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها‬ ‫وحسابهم على الله) أي‪ :‬أنهم إذا أظهروا الإسلام فإنهم لا‬ ‫يقا َتلون‪ ،‬يكف عنهم وعن دمائهم وأموالهم إلا بحقها‪ ،‬وذلك‬ ‫كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ‪\" :‬لا يحل دم امرئ‬ ‫مسلم يشهد ألا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث‪ :‬الثيب الزاني‪،‬‬

‫والنفس بالنفس‪ ،‬والتارك لدينه المفارق للجماعة\" فهذا من‬ ‫حقها‬ ‫لأنا غير مطالبين بأن نشق عن قلوب الناس‪ ،‬وإنما نعاملهم‬ ‫بحسب ما ظهر‪ ،‬والحكم إنما هو للظواهر‪ ،‬وأما البواطن‬ ‫فأمرها إلى الله‬ ‫في هذا الحديث‪ :‬الحث على المبادرة إلى ما أمربه‪ ،‬والأخذ‬ ‫بظاهر الأمر لأن عليا وقف ولم يلتفت‬

‫المقدمة‬ ‫باب المجاهدة‬ ‫الحديث الخامس والتسعون‬ ‫عن أبي هرير َة رضي الله عنه قال ‪ :‬قال رسولُ اللهِ َص َّلى اللهُ‬ ‫َعلَ ْي ِه َو َسلَّ َم‪ \" :‬إِ َّن اللهَ َت َعالَى َقالَ‪َ :‬م ْن َعا َدى لِي َولِ ًّيا َف َق ْد‬ ‫آ َذ ْن ُت ُه بِا ْل َح ْر ِب َو َما َت َق َّر َب إِ َل َّي َع ْب ِدي ِب َش ْي ٍء أَ َح َّب إِلَ َّي ِم َّما‬ ‫ا ْف َت َر ْض ُت ُه َعلَ ْي ِه‪َ ،‬ولاَ َي َزالُ َع ْب ِدي َي َت َق َّر ُب إِلَ َّي بِال َّن َوا ِف ِل َح َّتى‬ ‫أُ ِح َّب ُه‪َ ،‬فإِ َذا أَ ْح َب ْب ُت ُه ُك ْن ُت َس ْم َع ُه ا ّلَ ِذي َي ْس َم ُع بِ ِه‪َ ،‬و َب َص َرهُ الَّ ِذي‬ ‫ُي ْب ِص ُر ِب ِه‪َ ،‬و َي َدهُ ا َّل ِتي َي ْب ِط ُش بِ َها‪َ ،‬و ِر ْج َل ُه ا َّلتِي َي ْم ِشي بِ َها‪،‬‬ ‫َو َلئِ ْن َسأَلَنِي لأَ ْع ِط َي َّن ُه‪َ ،‬ولَئِ ِن ا ْس َت َعا َذنِي لأَ ِعي َذ َّن ُه \"‬ ‫(رواه البخاري)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫( َم ْن َعا َدى لِي َول َّياً) أي اتخذه عدواً له‪ ،‬وول ُّي الله ع ّز وجل‬ ‫ب َّينه الله ع ّز وجل في القرآن‪ ،‬فقال‪{ :‬أَلا إِ َّن أَ ْولِ َيا َء ال َّل ِه لا‬ ‫َخ ْو ٌف َعلَ ْي ِه ْم َولا ُه ْم َي ْح َز ُنو َن* الَّ ِذي َن آ َم ُنوا َو َكا ُنوا َي َّتقُو َن‬ ‫[يونس‪]6٣-62:‬‬

‫قال شيخ الإسلام ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله‪ -‬من كان مؤمناً تقياً‬ ‫كان لله ول َّياً ‪ ،‬أخذه من الآية‪( :‬ا ّلَ ِذي َن آ َم ُنوا َو َكا ُنوا َي َّتقُو َن)‬ ‫[يونس‪]6٣:‬‬ ‫فعلى قدر ما للعبد من الإيمان والتقوى يكون نصيبه من‬ ‫ولاية الله ‪-‬تبارك وتعالى‪ ،‬فكلما كان العبد أكثر تحقيقاً‬ ‫للإيمان‪ ،‬وأكثر تقى كلما كانت ولايته لله أعظم‪ ،‬فإ ْن نقص‬ ‫ُنقص من ولايته بحسب ذلك‬ ‫( َف َق ْد آ َذ ْن ُت ُه ًِبال َح ْر ِب) أي أعلنت عليه الحرب‪ ،‬وذلك‬ ‫لمعاداته أولياء الله‪.‬‬ ‫( َو َما َت َق َّر َب إِ َل َّي َع ْب ِد ْي ِب َشي ٍء أَ َح َّب إِلِ َّي ِم َّما ا ْف َت َر ْض ُت ُه َعلَ ْي ِه)‬ ‫ما تقرب إلي الإنسان بشيء أحب إلي مما افترضه عليه‪،‬‬ ‫يعني أن الفرائض أحب إلى الله من النوافل‪ ،‬فالصلوات‬ ‫الخمس مثلاً أحب إلى الله من قيام الليل‪ ،‬وأحب إلى الله من‬ ‫النوافل‪ ،‬فكل الفرائض أحب إلى الله من النوافل‬ ‫ووجه ذلك أن الفرائض أكدها الله عز وجل فألزم بها العباد‪،‬‬ ‫وهذا دليل على شدة محبته لها عز وجل‪ ،‬وأما النوافل‬ ‫فالإنسان حر؛ إن شاء تنفل وزاد خيراً‪ ،‬وإن شاء لم يتنفل‪،‬‬ ‫لكن الفرائض أحب إلى الله‬ ‫( َولاَ َي َزالُ َع ْب ِد ْي َي َت َق َّر ُب إِ َل َّي ِبال َّن َوافِ ِل َح َّتى أُ ِح َّب ُه)‬

‫هذا من أفعال الاستمرار‪،‬أي أنه يستمر يتقرب إلى الله تعالى‬ ‫بالنوافل حتى يحبه الله ع ّز وجل‪ ،‬فيكون من أحباب الله‬ ‫النوافل تقرب إلى الله وهي تكمل الفرائض‪ ،‬فإذا أكثر‬ ‫الإنسان من النوافل مع قيامه بالفرائض‪ ،‬نال محبة الله‪،‬‬ ‫فيحبه الله‪ ،‬وإذا أحبه فكما يقول الله عز وجل‬ ‫( َفإِ َذا أَ ْح َبب ُت ُه ُك ْن ُت َس ْم َع ُه الَّ ِذ ْي َي ْس َم ُع ِب ِه‪َ ،‬و َب َص َرهُ الَّ ِذ ْي ُي ْب ِص ُر‬ ‫بِ ِه‪َ ،‬و َي َدهُ ا َلّ ِتي َي ْب ِط ُش بِ َها‪َ ،‬و ِر ْج َل ُه الَّتِي َي ْم ِش ْي ِب َها)‬ ‫المعنى أن الله يسدده في سمعه وبصره ويده ورجله‪ ،‬أي أنه‬ ‫يكون مسدداً له وموفقا له في هذه الأعضاء الأربعة؛ فيكون‬ ‫شغله فيما يقربه إلى الله‪ ،‬فلا يسمع بأذنه إلا ما يرضي الله‪،‬‬ ‫ولا يمشي برجله إلى إلا محا ّب الله ‪ ،‬ولا يبطش بيده إلا فيما‬ ‫يرضي الله‪ ،‬ولا ينظر بعينه إلا إلى شيء يحبه ربه ولا ينظر‬ ‫إلي المحرم‬ ‫( َو َل ِئ ْن َسأَ َل ِن ْي لأَ ْعط َي َّن ُه) هذا في المرغوبات‪ ،‬إن سأل ‪-‬دعا‬ ‫ربه‪ ،‬طلب شيئاً من حوائج الدنيا أو الآخرة‪ -‬أعطيته‪ ،‬يكون‬ ‫مستجاب الدعوة‬ ‫( َولَئِ ِن ا ْس َت َعا َذ ِني) يعني لئن اعتصم بي ولجأ إلى من شر كل‬ ‫ذي شر لأعيذنه‪ ،‬فيحصل له بإعطائه مسئوله وإعاذته مما‬ ‫يتعوذ منه المطلوب‪ ،‬ويزول عنه الموهوب‬

‫وأتى المؤلف بهذا الحديث في باب المجاهدة؛ لأن النفس‬ ‫تحتاج إلى جهاد في القيام بالواجبات‪ ،‬ثم بفعل المستحبات‬ ‫والحديث فيه بقية لم يذكرها هنا‪ ،‬ذكرها في موضع آخر‪،‬‬ ‫يقول‪( :‬وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس‬ ‫المؤمن‪ ،‬يكره الموت‪ ،‬وأنا أكره مساءته)‬ ‫يعني‪ :‬قبض المؤمن‪ ،‬والمقصود هنا أن قبض نفس المؤمن‬ ‫أمر لابد منه‪ ،‬فالموت أمر لابد منه‪ ،‬فهو أمر حت ٌم‪ ،‬فالله قد‬ ‫اقتضت حكمته أن يموت الناس‪ ،‬ولما كان المؤمن يكره‬ ‫الموت بطبيعته‪ ،‬والله يكره مساءة هذا الولي الذي وصل إلى‬ ‫هذه المرتبة‪ ،‬فحصل التردد بهذا الاعتبار‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬فضيلة أولياء الله‪ ،‬وأن سبحانه وتعالى يعادي‬ ‫من عاداهم‪ ،‬بل يكون حرباً عليهم عز وجل‬

‫الحديث السادس والتسعون‬ ‫عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما‬ ‫يرويه عن ربه عز وجل قال‪:‬‬ ‫\" إذا تق َّرب العب ُد إل َّي شب ًرا تق َّرب ُت إليه ذرا ًعا ‪ ،‬و إذا تق َّرب‬ ‫إل َّي ذرا ًعا تق َّرب ُت منه با ًعا ‪ ،‬و إذا أتاني يمشي أتي ُته‬ ‫َه ْرولَ ًة\"‬ ‫(رواه البخاري)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫هذا الحديث يبين معنى كبي ًرا إذا استشعره المؤمن فإنه يقبل‬ ‫على طاعة الله بكل انشراح‪ ،‬فهذا الرب الذي نعبده أرحم‬ ‫الراحمين‬ ‫فالحديث يدل على أن العبد إن تقرب إلى ربه تقرباً قليلاً‬ ‫تقرب الله عز وجل منه كثيراً‪ ،‬وإذا تقرب منه كثيراً تقرب‬ ‫الرب منه أكثر‪ ،‬وإذا جاءه يمشي أتاه ‪-‬تبارك وتعالى‪-‬‬ ‫هرولة‬ ‫الشبر والذراع معروفان‪ ،‬والهرولة هي مشية دون الجري‬ ‫وفوق المشي‪ ،‬فهي إسراع في المشي‬

‫وفي بعض الروايات‪( :‬وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ‬ ‫خير منهم)‬ ‫فإذا ذكر ربه في ملأ ‪ :‬أي ذكره ذكراً مجرداً‪ ،‬كأن يقول‪ :‬لا‬ ‫إله إلا الله‪ ،‬أو ذكره مثنياً عليه‪ ،‬مبيناً لمجده‪ ،‬فإن الله يذكر‬ ‫هذا العبد في ملأ خير من ملئه‪ ،‬فيذكره بين ملائكته‪ ،‬يذكره‬ ‫في الملأ الأعلى‪،‬‬ ‫مع أن الله عز وجل غني عنا وعن أعمالنا‪ ،‬فنستشعر هذه‬ ‫المعاني‪ ،‬وهي أننا كلما تقربنا إلى الله فإن الله أكرم وأرحم‬ ‫وأجلّ‬ ‫فهذا الحديث يدل على سعة رحمته‪ ،‬وقبوله لأعمال عباده‪،‬‬ ‫فينبغي للإنسان أن يحسن الظن بالله ‪ ،‬وأن يكثر من الأعمال‬ ‫الصالحة‪ ،‬وأن يكثر من ذكر الله‬

‫الحديث السابع والتسعون‬ ‫عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‪ :‬قال رسول الله صلى‬ ‫الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫\" ِن ْع َمتا ِن َم ْغ ُبو ٌن فِي ِهما َك ِثي ٌر ِم َن ال َّنا ِس‪ :‬ال ِّص َّح ُة وال َفرا ُغ\"‬ ‫( رواه البخاري)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫نِ َع ُم الله ع َّز وجلَّ على عبا ِده لا ُتح َصى‪ ،‬ومن هذه ال ِّنعم نعم َتا‬ ‫ال ِّص َّح ِة والفراغ‪ ،‬اللَّتان لا َيدري أكث ُر ال َّناس أه ِّم َّيتهما إ َّلا بعد‬ ‫زوالهما‬ ‫(نعمتا ِن مغبو ٌن فيهما كثي ٌر من ال َّناس) أي‪ :‬لا َيع ِرف َق ْد َرهما‬ ‫ولا ينتفع بهما كثي ٌر من ال َّناس في حياتهم ال ُّدنيو َّية‬ ‫والأخرو َّية‪ ،‬وهما‪ :‬ال ِّصح ُة؛ أي‪ :‬ص َّحة البدن وال َّنفس‬ ‫وق َّوتهما‪ ،‬والفرا ُغ؛ أي‪ُ :‬خلُ ُّو الإنسا ِن من مشاغ ِل العيش‬ ‫وهمو ِم الحياة‪ ،‬وتو ُّف ُر الأمن والاطمئنان ال َّن ْفس ِّي‪ ،‬فهما‬ ‫ِنعمتان عظيمتان‪ ،‬لا ُيق ِّد ُرهما كثي ٌر من ال َّناس ح َّق ق ْدرهما‪.‬‬ ‫وذلك أن الإنسان إذا كان صحيحاً كان قادراً على ما أمره‬ ‫الله به أن يفعله‪ ،‬وكان قادراً على ما نهاه الله عنه أن يتركه‬ ‫لأنه صحيح البدن‪ ،‬منشرح الصدر‪ ،‬مطمئن القلب‪ ،‬كذلك‬ ‫الفراغ إذا كان عنده ما يؤويه وما يكفيه من مؤنة فهو‬ ‫متفرغ‪.‬‬

‫فإذا كان الإنسان فارغاً صحيحاً فإنه يغبن كثيراً في هذا‪،‬‬ ‫لأن كثيراً من أوقاتنا تضيع بلا فائدة ونحن في صحة‬ ‫وعافية وفراغ‪ ،‬ومع ذلك تضيع علينا كثيراً‪ ،‬ولكننا لا نعرف‬ ‫هذا الغبن في الدنيا‪ ،‬إنما يعرف الإنسان الغبن إذا حضره‬ ‫أجله‪ ،‬وإذا كان يوم القيامة‬ ‫والإنسان قد لا تفوته هاتان النعمتان‪ :‬الصحة والفراغ‬ ‫بالموت‪ ،‬بل قد تفوته قبل أن يموت‪ ،‬قد يمرض ويعجز عن‬ ‫القيام بما أوجب الله عليه‪ ،‬وقد يمرض ويكون ضيق الصدر‬ ‫لا يشرح صدره ويتعب‪ ،‬وقد ينشغل بطلب النفقة له ولعياله‬ ‫حتى تفوته كثير من الطاعات‪.‬‬ ‫ولهذا ينبغي للإنسان العاقل أن ينتهز فرصة الصحة والفراغ‬ ‫بطاعة الله ـ عز وجل ـ بقدر ما يستطيع‬ ‫وفي الحدي ِث ‪ :‬الترغي ُب في استغلال ال ِّنعم من ص َّحة وفراغ‬ ‫وغيرهما‪ ،‬والاستفادةُ منهما فيما ُيرضي اللهَ سبحانه‬ ‫وتعالى‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬أ َّن الإنسا َن لا يتف َّرغ لل َّطاعة إ َّلا إذا كان مكف ًّيا صحي َح‬ ‫البدن‪ ،‬فقد يكون مستغن ًيا ولا يكون صحي ًحا‪ ،‬وقد يكون‬ ‫صحي ًحا ولا يكون مستغن ًيا‪ ،‬فلا يكون متف ِّر ًغا لل ِعلم والعمل‬ ‫لش ْغله بالك ْسب‪ ،‬ف َمن ح َصل له الأمران‪ :‬ال ِّص َّح ُة والفرا ُغ‬ ‫و َك ِسلَ عن ال َّطاعات‪ ،‬فهو المغبو ُن الخاس ُر في تجارتِه ‪.‬‬

‫الحديث الثامن والتسعون‬ ‫عن عائشة رضي الله عنها‪ :‬أن النبي صلى الله عليه وسلم‬ ‫كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فقلت له‪ :‬لم تصنع هذا‬ ‫يا رسول الله‪ ،‬وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟‬ ‫قال‪(( :‬أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا))‬ ‫(متفق عليه‪ ،‬هذا لفظ البخاري)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫إن من جملة المجاهدة مجاهدة الإنسان نفسه وحمله إياها‬ ‫على عبادة الله‪ ،‬والصبر على ذلك‬ ‫(فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم‬ ‫كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه)‬ ‫فالنبي صلى الله عليه وسلم كان أكمل الأمة عبودية لربه‬ ‫ومولاه‪ ،‬فكان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه‪ ،‬أي‪ :‬يقوم‬ ‫قياماً طويلاً حتى تتشقق قدماه‪ ،‬وجاء في بعض الروايات‬ ‫حتى تتورم قدماه‬ ‫فكان عليه الصلاة والسلام يقوم أحياناً أكثر الليل‪ ،‬وأحياناً‬ ‫نصف الليل‪ ،‬وأحياناً ثلث الليل؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام‬ ‫ـ يعطي نفسه حقها من الراحة مع القيام التام بعبادة ربه ـ‬ ‫صلوات الله وسلامه عليه ـ‪ ،‬فكان يقوم أدنى من ثلثي الليل‬

‫(يعني فوق النصف‪ ،‬ودون الثلثين)‪ ،‬ونصفه وثلثه؛ حسب‬ ‫نشاطه عليه الصلاة والسلام ؛ وكان يقوم حتى تتورم قدماه‬ ‫وتتفطر من طول القيام؛ أي يتحجر الدم فيها وتنشق‬ ‫فعائشة رضي الله عنها تسأله‪ ،‬تقول له‪ :‬كيف تفعل هذا يا‬ ‫رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر‪،‬‬ ‫فقال‪( :‬أفلا أحب أن أكون عبداً شكراً)‬ ‫والشكور هو كثير الشكران‪ ،‬وفي هذا دليل على أن الشكر‬ ‫هو القيام بطاعة الله‪ ،‬وأن الإنسان كلما أزداد في طاعة ربه‬ ‫عز وجل فقد ازداد شكراً لله‬ ‫وفي الحدي ِث‪ :‬دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد‬ ‫غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ قال بعض العلماء‪:‬‬ ‫واعلم أن من خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام أن الله‬ ‫قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook