قال لِل َّنب ِّي صلي الله عليه وسلم :لو أ َّن أح َدهم نظ َر تح َت قد َم ْيه َلأبص َر َنا فقال له صلي الله عليه وسلم« :ما ظ ُّن َك يا أبا بك ٍر بِاثني ِن اللهُ ثال ُثهما؟!» أي :ما تظ ُّن أ ْن يكو َن حالُنا واللهُ تعالى َمعنا ِبنص ِره ولُطف ِه؟! فإ َّنه قاد ٌر على َصر ِفهم ع َّنا وتبلي ِغنا مرا َدنا بِفضلِه ورحم ِته، وهذا ما ح َصلَ ،فنِعم فِ ْع ًلا ُح ْس ُن ال َّظ ِّن بر ِّب ال َّسموا ِت ور ِّب الأر ِض ر ِّب العر ِش العظي ِم! وفي الحدي ِث :كمالُ تو ُّك ِل النب ِّي صلي الله عليه وسلم على ر ِّبه ،واعتما ِده عليه ،و َتفوي ِضه أ ْم َره إليه.
الحديث الثاني والثمانون عن أم ال ُمؤمني َن أ ِّم َس َل َم َة رضي الله عنها :أ َّن ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم َكا َن إِ َذا َخ َر َج ِم ْن َبيتِ ِهَ ،قالَ(( :بِ ْس ِم اللهِ َت َو َّكل ُت َع َلى اللهِ ،اللَّ ُه َّم إِ ِّني أ ُعو ُذ بِ َك أ ْن أ ِضلَّ أَ ْو أُ َضلَّ ،أَ ْو أَ ِزلَّ أَ ْو أُ َزلَّ ،أَ ْو أ ْظلِ َم أَ ْو أُ ْظ َل َم ،أَ ْو أ ْج َهلَ أَ ْو ُي ْج َهلَ َع َل َّي)) صححه الألباني (صحيح الترمذي) شرح الحديث ((بسم الله)) أي :بسم الله أخرج. ((توكلت على الله)) أي :فوضت جميع أموري إليه . ((أ ْن أَ ِضلَّ)) أي :أن أضل في نفسي عن الحق ، والضلال الذي هو نقيض الهدى. ((أو أُ َضل)) أو أن يضلني غيري. ((أو أَ ِزلَّ أو أُ َزلَّ)) كلاهما من الزلة؛ أي :الخطأ؛ ومعنى الأول :أن أخطئ من نفسي أو أوقع غيري به، ومعنى الثاني :أن يوقعني غيري فيه.
((أو أَظلِم ،أو أُظ َلم)) من الظلم ،وهو وضع الشيء في غير محله؛ معنى الأول :أن أظلم غيري ،أو نفسي، ومعنى الثاني :أن يظلمني غيري. ((أو أَجهل ،أو ُيجهل عل َّي)) معنى الأول :أن أفعل فعل الجهلاء ،أو أشتغل في شيء لا يعنيني ومعنى الثاني :أن يجهل غيري علي؛ بأن يقابلني مقابلة الجهلاء بالسفاهة ،والمجادلة ،...ونحوهما. فهذا الذكر ينبغي أن يقوله الإنسان إذا خرج من بيته ،لما فيه من اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى والاعتصام به. قال الطيبي :إن الإنسان إذا خرج من منزله لا بد أن يعاشر الناس ويزاول الأمر فيخاف أن يعدل عن الصراط المستقيم، فإما أن يكون في أمر الدين فلا يخلو من أن َيضل أو ُي َضل، وإما أن يكون في أمر الدنيا فإما بسبب جريان المعاملة معهم بأن َيظلم أو ُيظلَم ،وإما بسبب الاختلاط والمصاحبة فإما أن َيج َهل أو ُيج َهل .فاستعيذ من هذه الأحول كلها بلفظ سلس موجز.
الحديث الثالث والثمانون عن أنس رضي الله عنه َقالََ :قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلمَ (( :م ْن َقالََ -ي ْعني :إِ َذا َخ َر َج ِم ْن َبيتِ ِه :بِس ِم اللهِ َت َو َّك ْل ُت َعلَى اللهَِ ،ولا َحولَ َولا قُ َّو َة إلا بالل ِهُ ،يقالُ لَ ُهُ :ه ِدي َت َو ُك ِفي َت َو ُو ِقي َتَ ،و َت َن َّحى َع ْن ُه ال َّشي َطا ُن)) (صحيح الترمذي) وزاد أبو داود(( :فيقول -يعني :الشيطان --لِشيطان آخر: َكي َف لَ َك بِرج ٍل َق ْد ُه ِد َي َو ُك ِف َي َو ُوقِ َي؟)) شرح الحديث أخبر رسول الله صلي الله عليه وسلم أن الرجل إذا خرج من بيته فقال :بسم الله ،توكلت على الله ،لا حول ولا قوة إلا بالله ،ينادى يا عبد الله هديت إلى طريق الحق ،وكفيت همك، وحفظت من الأعداء؛ فيبتعد عنه الشيطان الموكل عليه، فيقول شيطان آخر لهذا الشيطان :كيف لك بإضلال رجل قد هدي ،وكفي ،ووقي من الشياطين أجمعين؟ لأنه قال هذه الكلمات فإنك لا تقدر عليه.
((بسم الله)) أي :بسم الله أخرج. ((توكلت على الله)) أي :فوضت جميع أموري إليه. والتوكل هو :الاعتماد على الله -سبحانه وتعالى -في حصول المطلوب ،ودفع المكروه ،مع الثقة به وفعل الأسباب المأذون فيها. ((لاَ حول ولا قُ َّوة إِلاَّ بالله)) لا انتقال ولا تحول من حال إلى حال ،ولا قوة على شيء من الأشياء إلا بعون من الله. أي :لا حول عن المعاصي إلا بعصمة الله .ولا ق َّوة على الطاعات إلا بالله. ((يقال له)) يحتمل أن يكون القائل هو الله تعالى ،ويجوز أن يكون ملك من الملائكة. (( ُه ِدي َت َو ُكفِي َت)) أي :باستعانتك باسمه -تعالى -وتحصنك به هديت للصراط المستقيم وإلى طريق الحق والصواب، وكفيت كل مهم دنيوي وأخروي وصرف عنك الشر. ((ووقيت)) أي :حفظت عن الأشياء الخفية عنك من الأذى والسوء ُو ُح ِفظت من كل مكروه.
((وتنحى عنه)) أي :بعد عنه الشيطان وابتعد عن طريقه. ((فيقول لشيطان آخر)) يقول الشيطان للشيطان آخر َيريد أذاه. ((كيف لك برجل)) يعني :ما بقي لك من تسلط على رجل قد ُهدي بذكر الله ،و ُكفي شركَ ،ووقي من مكرك وكيدك. وفي الحديث :استحباب هذا القول عند الخروج من المنزل؛ ليحصل ما فيه من خير. وفيه :فضل التوكل على الله -عز وجل ،-والالتجاء إليه بالقول والفعل ،وأن ذلك حصن للمؤمن من كل شر ،وأنه لا حول ولا قوة للعبد في كافة أموره إلا بالله. وفيه :عجز الشيطان عن غواية من هداه الله ،وح َّبب إليه الإيمان وزينه في قلبه
الحديث الرابع والثمانون عن أنس رضي الله عنه َقالََ :كا َن أَ َخوا ِن َعلَى عهد ال َّنب ّي صلى الله عليه وسلم َو َكا َن أ َح ُد ُه َما َيأ ِتي ال َّنب َّي صلى الله عليه وسلم َوالآ َخ ُر َي ْح َت ِر ُفَ ،ف َش َكا ال ُم ْح َت ِر ُف أ َخاهُ للنبي صلى الله عليه وسلمَ ،ف َقالََ (( :ل َع َلّ َك ُت ْر َز ُق ِب ِه)) الألباني (:صحيح الترمذي) شرح الحديث طلَ ُب ال ِعل ِم ،و َكفال ُة طالبِه ِمن أسبا ِب ال َّتو ِسع ِة في ال ِّر ْز ِق لل َّشخ ِص؛ ف َمن َسعى و َع ِمل واك َت َسب وت َك َّفل بطال ِب العل ِم، فلعلَّ الل َه أن ُيكا ِف َئه على ذلك ،و ُيو ِّس َع عليه في ِرزقِه. وفي هذا ال َحدي ِث َيقولُ أ َن ُس ب ُن مال ٍك َر ِضي اللهُ َعنه :كان أ َخوا ِن على َعه ِد ال َّنب ِّي صلَّى اللهُ علَيه وس َّلم \"فكان أ َح ُدهما\" ،أي :أ َح ُد الأ َخ َوين \"يأتي ال َّنب َّي ص َلّى اللهُ علَيه وس َلّم\" ،أيَ :يح ُض ُر إلى ال َّنب ِّي صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ،و ُيلا ِز ُمه و َيس َم ُع أحادي َثه وي َتعلَّ ُم ِمنه أمو َر ال ِّدي ِن.
\"والآ َخ ُر َيح َت ِر ُف\" ،أي :وكان الأ ُخ الآ َخ ُر َيع َملُ وي َتك َّس ُب ،و َيحت ِر ُف ،أيَ :يع َملُ في ِح ْرف ٍة أو َصنع ٍة. وكان هذا العا ِملُ المتك ِّس ُب ي َتح َّملُ َمعيش َة أخيه الآ َخ ِر ويو ِّف ُر له ال َّطعا َم وال َّشرا َب. \"ف َشكا المحت ِر ُف أخاه إلى ال َّنب ِّي صلَّى اللهُ علَيه وس َلّم\" ،أي: فجاء الأ ُخ الَّذي َيع َملُ وي َتك َّس ُب ِمن ِحرف ِته إلى ال َّنب ِّي صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ،و َشكا إليه أخاه أ َّنه لا ُيسا ِع ُده في ِحر َفتِه ولا َيخ ُر ُج ي َتك َّس ُب معه أسبا َب المعيش ِة وال ِّرز ِق \"فقال\" ،أي :قال ال َّنب ُّي ص َلّى اللهُ ع َليه وس ّلَم لهذا الأ ِخ ال َّشاكي\" :لع َّلك ُتر َز ُق به\" أي :لعلَّ اللهَ ج َعله سب ًبا في أن َير ُز َقك؛ لأ َّنك َتك ّلَف َت ِع ْب َء َمعيشتِه و َطعا ِمه و َشرا ِبه ،فر َّبما كان هو ال َّسب َب في ِرزقِك و َمعي َشتِك ،فلا َتم ُن ْن عليه ب َع َملِك. ولا َيعني هذا ال َّدعو َة إلى ال َّتكا ُس ِل وال ُخمو ِل وال َّتواك ِل ،ولك َّنه َتعري ٌف ب َفض ِل اللهِ على ال َخل ِق كلِّهم ،وبيا ٌن أ َّنه هو ال َّر َّزا ُق وأ َّنه هو الكافلُ لِ َمن شاء ب َمن شاء ،فلا َيم ُن ْن غن ٌّي على فقي ٍر ب َعطا ٍء ،ولا عائلٌ على ُمعي ٍل ب َكفالتِه.
وقد ور َد ْت نصو ٌص كثيرةٌ في الح ِّث على الع َم ِل وطلَ ِب ال َّتك ُّس ِب وع َد ِم ال َّتوا ُك ِل ،و ُمراعا ِة َح ِّق اللهِ في ال َّطاع ِة وح ِّق ال َّنف ِس بال َّتع ُّف ِف وع َد ِم ُسؤا ِل ال َّنا ِس. وفي الحدي ِث :الح ُّث على ال َّتكافُ ِل بي َن ال َّنا ِس و َتح ُّم ِل الإخ َو ِة بع ِضهم بع ًضا.
المقدمة باب الاستقامة الحديث الخامس والثمانون عن أبي عمرو ،وقيل :أبي َعمرة سفيان بن عبد الله رضي الله عنه َقالَ :قُ ْل ُتَ :يا َر ُسول الله ،قُلْ لي في الإ ْسلا ِم َقو ًلا لا أ ْسأَلُ َع ْن ُه أَ َح ًدا َغ ْي َر َكَ .قالَ(( :قُلْ :آ َم ْن ُت بِاللهُِ ،ث َّم اس َتقِ ْم)) (رواه مسلم) شرح الحديث هذا الحديث جمع معاني الإِسلام والإِيمان كلها ،وهو على وفاق قوله تعالى { :إِ َّن الَّ ِذي َن َقالُوا َر ُّب َنا ال َّلهُ ُث َّم ا ْس َت َقا ُموا قال بعض العارفين :مرجع الاستقامة إلى أمرين: ▪ صحة الإيمان بالله. ▪ واتباع ما جاء به رسول الله ظاه ًرا وباط ًنا. ((قل لي في الإسلام)) :في دينه وشريعته.
((قولاً)) :جامعا لمعاني الدين ،واضحا في نفسه ،اكتفى به واعمل عليه. ((استقم)) :الزم عمل الطاعات ،وانته عن جميع المخالفات \"قل لي في الإسلام \" :أي في الشريعة. \"قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك\" يعني قولاً يكون حداً فاصلاً جامعاً مانعاً. فقال له\" :قُل آ َم ْن ُت بِاللهِ\" وهذا في القلب \" ُث َّم اس َتقِم\" على طاعته ،وهذا في الجوارح. فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم كلمتين: \"آ َم ْن ُت ِباللهِ\" محل الإيمان القلب. \" ُث َّم اس َتقِم\" وهذا في عمل الجوارح. وهذا حديث جامع ،من أجمع الأحاديث .فقوله :قُل آ َم ْن ُت يشمل قول اللسان وقول القلب. قال أهل العلم :قول القلب :هو إقراره واعترافه.
\"آ َم ْن ُت بِاللهِ\" أي أقررت به على حسب ما يجب على من الإيمان بوحدانيته في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات. ثم بعد الإيمان \" ِاس َتقِم\" أي سر على صراط مستقيم ،فلا تخرج عن الشريعة لا يميناً ولا شمالاً. هاتان الكلمتان جمعتا الدين كله فالإيمان بالله يتضمن :الإخلاص له في العبادة. والاستقامة تتضمن التمشي على شريعته ع ّز وجل ،ومتابعة الرسول صلي الله عليه وسلم : فيكون جامعاً لشرطي العبادة وهما: .1الإخلاص .2والمتابعة. كما جمع الحديث أركان الإيمان عند أهل السنة والجماعة وهي :ـ ▪ قول اللسان :لقوله \" قل آمنت بالله \". ▪ اعتقاد الجنان :لقوله \" آمنت بالله \". ▪ عمل الجوارح :لقوله \" استقم \".
فجمع الحديث الدين كله ،لأن الإستقامة هي فعل الطاعات كلها من واجبات ومستحبات ،وترك المنهيات كلها من محرمات ومكروهات وهذا هو الدين.
الحديث السادس والثمانون عن أبي هرير َة رضي الله عنه َقالََ :قالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلمَ (( :قا ِر ُبوا َو َس ِّد ُدواَ ،وا ْع َل ُموا أَ َّن ُه َل ْن َي ْن ُج َو أَ َح ٌد ِم ْن ُك ْم ب َع َملِ ِه)) قالُواَ :ولا أَ ْن َت َيا َر ُسول الله؟ َقالََ (( :ولا أنا إلا أ ْن َي َت َغ َّم َدني الله ب َرح َم ٍة ِمن ُه َو َف ْض ٍل)) (رواه مسلم) شرح الحديث يقول النووي -رحمه الله: والمقاربة :القصد الذي لا غلو فيه ولا تقصير. والسداد :الاستقامة والإصابة. يتغمدني :أي :يلبسني ويسترني. قال العلماء :معنى الاستقامة لزوم طاعة الله تعالى. ال َّسداد هو :الوصول إلى حقيقة الاستقامة ،والإصابة في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد. والمقا َربة :القرب من مرتبة السداد.
فالمسلم أمامه مرتبتان؛ فهو مطالب أن يجتهد في الوصول إلى المرتبة الأولى ،وهي :السداد فإن اجتهد ولم يصبها فلا يفوتنه القرب منها بالوصول إلى المرتبة الثانية ،وهي :المقاربة ،وما سواهما تفريط وإضاعة ،وعلى المؤمن ألا يفارق هاتين المرتبتين، وليجتهد في الوصول إلى أعلاهما. هذا الحديث يدل على أن الاستقامة على حسب الاستطاعة وهو قول النبي صلي الله عليه وسلم : ((قاربوا وسددوا)) :أي قاربوا ما أمرتم به واحرصوا على أن تقربوا منه بقدر المستطاع. وقوله ((سددوا)) :أي سددوا على الإصابة ،أي :احرصوا على أن تكون أعمالكم مصيبة للحق بقدر المستطاع وذلك أن الإنسان مهما بلغ من التقوى فإنه لابد أن يخطئ. فالإنسان مأمور أن يقارب ويسدد بقدر ما يستطيع ((واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله)) أي :لن ينجو من النار بعمله وذلك لأن العمل لا يبلغ ما يجب لله عز وجل من
الشكر وما يجب على عباده من الحقوق ولكن يتغمد سبحانه وتعالى العبد برحمته فيغفر له. فل ّما قال الرسول هذا قالوا له ولا أنت؟ قال ((:ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)) فدل ذلك على أن الإنسان مهما بلغ من المرتبة والولاية فإنه لن ينجو بعمله حتى النبي صلى الله عليه وسلم لولا أن الله من عليه بأن غفر له ما تقدم وما تأخر ما أنجاه عمله. أي :أنه عليكم أن تعملوا ،وأن تتقوا الله ما استطعتم ،وأن تجتهدوا غاية الاجتهاد في تحصيل أسباب النجاة ،وأنتم مع ذلك لن تستطيعوا أن تحققوا هذه النجاة بمجرد الأعمال، وذلك أن حق الله أعظم ،ونعمه على عباده وعلى خلقه لا تحصى ،ولو أن الأعمال التي يعملها الإنسان وزنت بنعمة واحدة لما كافأتها ،ولذلك مهما عمل الإنسان فإنه لن يكافئ نعمة الله عليه. وهذا لا يعارض قول الله تعالى حينما ذكر أهل الإيمان ودخولهم الجنة فقالَ \" :ج َزاء ِب َما َكا ُنوا َي ْع َملُو َن\" [الواقعة ،]24:فإن الباء هنا للسببية ،وليست للمقابلة،
ليست للعوض ،والعمل لا يكافئ النعيم المقيم في الجنة ورضوان الله ،ولكنه سبب له فقط. فالمنفي دخول الإنسان الجنة بالعمل في المقابلة أما المثبت فهو أن العمل سبب وليس عوضا فالعمل لا شك أنه سبب لدخول الجنة والنجاة من النار لكن ليس هو العوض وليس وحده الذي يدخل به الإنسان الجنة ولكن فضل الله ورحمته هما السبب في دخول الجنة والنجاة من النار. وفي الحدي ِث :أن الإنسان لا يعجب بعمله مهما كان عملك فإنه قليل بالنسبة لحق الله عليك فعلى الإنسان أن يتواضع لربه ،ويجتهد. وفيه :أنه ينبغي على الإنسان أن يكثر من ذكر الله دائما ومن السؤال بأن يتغمده الله برحمته لأن عملك في مرضاة الله لا يكون إلا برحمة الله عز وجل
المقدمة باب المبادرة إلى الخيرات الحديث السابع والثمانون عن أبي هريرة رضي الله عنه :أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(( :بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم ،يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ،ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا)) (رواه مسلم) شرح الحديث قال النووي\" :معنى الحديث الحث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل تعذرها والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة ،المتراكمة كتراكم ظلام الليل المظلم لا المقمر ،ووصف صلى الله عليه وسلم نوعاً من شدائد تلك الفتن ،وهو أن يمسي مؤمناً ثم يصبح كافراً أو عكسه ،وهذا لعظم الفتن ،ينقلب الإنسان في اليوم الواحد هذا الانقلاب\"
(( َبا ِد ُروا ِبالأَ ْع َما ِل ِف َتنا)) أي سابقوا وسارعوا بأعمالكم الصالحة قبل مجيء الفتن التي تمنعكم منها وتصدكم عنها ،والفتن هي الابتلاء والاختبار بالمحن والمنكرات والشدائد التي تحول بين العبد وبين العمل الصالح، وهي قسمين: )1فتن شبهات وعلاجها العلم. )2وفتن شهوات وعلاجها الإيمان والصبر. (( َكقِ َط ِع ال َّل ْي ِل ا ْل ُم ْظلِ ِم)) هذا تشبيه للفتن بأجزاء الليل المظلمة الشديدة في سوادها وظلمتها ،لأن وصف الليل بالمظلم تأكيد لهذه الشدة ،وفي هذا كناية عن شدة الفتن وعظم الخوف منها وضعف الوصول للحق فيها وكثرة الوقوع في الباطل وفي هذا غاية التشبيه. (( َو ُي ْم ِسي َكافِرا)) :يحتمل كفر النعمة ،ويحتمل الكفر الحقيقي وهو الأرجح. قال القرطبي مرجحا الكفر الحقيقي \" :لا بعد في حمل هذا الحديث على ظاهره ،لأن المحن والشدائد إذا توالت على
القلوب أفسدتها بغلبتها عليها ،وبما تؤثر فيها من القسوة و الغفلة التي هي سبب الشقوة\" وذكر الصباح والمساء في الحديث ليس مقصودا لذاته بل هما كناية عن سرعة التحول. (( َيبِي ُع ِدي َن ُه بِ َع َر ٍض ِم َن ال ُّد ْن َيا)) جملة تعليلية لتحوله إلى الكفر ،و َع َرض الدنيا ما ُيعرض فيها وكل ما في الدنيا فهو عرض ،وسمي بذلك لأنه يعرض ويزول إما أن تزول أنت قبله أو هو يزول قبلك ،قال تعالىُ ﴿ :ت ِر ْي ُد ْو َن َع َر َض ال ُّد ْن َيا ﴾ ولا تظن أن العرض من الدنيا هو المال ،كل متاع الدنيا عرض ،سواء مال ،أو جاه أو رئاسة ،أو نساء ،أو غير ذلك ،كل ما في الدنيا من متاع فإنه عرض ،كما قال تعالى : ( َت ْب َت ُغو َن َع َر َض ا ْل َح َيا ِة ال ُّد ْن َيا َف ِع ْن َد ال َّلهِ َم َغا ِن ُم َكثِي َرةٌ ) ( النساء ) 94 :فما في الدنيا كله عرض. فوائد الحديث: .1الفائدة الأولى :في الحديث الحث على العمل الصالح قبل قدوم ما يحجبها من الفتن ،لأن الفتن إذا حلت فإنها تحول بين الإنسان والعمل الصالح ،وإن بادر
فيها قبل حلولها وأقبل على الله كان العمل الصالح حماية له منها. .2الفائدة الثانية :الحديث دليل على أن الأعمال الصالحة سبب للنجاة من الفتن. .٣الفائدة الثالثة :في الحديث ذم الحياة الدنيا الفانية بما فيه من عرض (مال أو منصب أو جاه أو شهرة ونحوها) ،والحذر من تقديمها على الآخرة الباقية.
الحديث الثامن والثمانون عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال :صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر ،فسلم ثم قام مسرعا ،فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته ،فخرج عليهم ،فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته ،قال(( :ذكرت شيئا من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته)) (رواه البخاري) شرح الحديث خلاصة هذا الحديث :هو المبادرة إلى فعل الخيرات ،وعدم التهاون في ذلك . \"قام مسر ًعا\" يعني كأنه صلي الله عليه وسلم غير عادته فلم يتمهل ،وكان يأمر أصحابه أن يتأخروا في الخروج من المسجد من أجل أن يخرج النساء قبلهم ،فبادر النبي صلي الله عليه وسلم إلى الخروج قبلهم حتى إنه احتاج إلى أن يتخطى رقابهم ،وهذا التخطي يدل على أن أم ًرا في غاية الأهمية حمل النبي صلي الله عليه وسلم على هذا الإسراع.
\"فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه ،ففزع الناس من سرعته\" خافوا فلاب ّد أن هناك من الأمور المهمة المزعجة ما حمله على هذا الإسراع ،فخرج عليهم فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته فقال مبي ًنا لهم سبب هذا الإسراع والمبادرة: \"ذكرت شي ًئا من ِتبر عندنا\" يعني أنه تذكر ذه ًبا عنده في بعض حجر نسائه ،التبر هو الذهب ،وبعضهم يقول :هو الذي الذي لم ُيصغ فهو قطع من الذهب ،أو الذهب الخام. \" فكرهت أن يحبسني ،فأمرت بقسمته\" كرهت أن يحبسني يحتمل أن يكون المعنى كره أن يشغله التفكير فيه ،فيكون ذلك صر ًفا له عما هو بصدده من ذكر الله والتقرب إليه، وإقبال القلب عليه ،فيكون القلب مشغولاً بهذا الذهب. وقد يكون المراد \"فكرهت أن يحبسني\" أي :أن هذا مال لا يحق حبسه ،فإذا حبسه العبد وأخره عن المحتاجين فإن ذلك قد يكون سب ًبا لمحاسبة العبد. وفي رواية له\" :كنت خلَّفت في البيت تب ًرا من الصدقة فكرهت أن أبيته\"
\" كره أن يبيته\" :يعني أن يبيت عنده ،وإذا كان هذا من الصدقة بمعنى الزكاة فإن هذا أيضاً يدل على أن الزكاة لا يجوز تأخيرها بحال من الأحوال ،ينبغي أن توصل إلى المحتاجين ،وإنما يجوز التأخير في حالة، وهي ما إذا كان الذي ستعطى له الزكاة غائ ًبا. ففي هذا الحديث :المبادرة إلى فعل الخير ،وألا يتوانى الإنسان عن فعله ،وذلك لأن الإنسان لا يدري متى يفاجئه الموت؛ فيفوته الخير ،والإنسان ينبغي أن يكون كيساً ،يعمل لما بعد الموت ولا يتهاون. وفيه :دليل على أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أسرع الناس مبادرة إلى الخير. وفيه :دليل على جواز تخطي الرقاب بعد السلام من الصلاة، ولا سيما إذا كان لحاجة ،بخلاف تخطي الرقاب قبل الصلاة، فإن ذلك منهي عنه؛ لأنه إيذاء للناس. وفيه :دليل على أن رسول الله صلي الله عليه وسلم ـ كغيره من البشر ـ يلحقه النسيان ،وأنه ينسى كما ينسى غيره. وفيه :دليل على شدة الأمانة وعظمها ،وأن الإنسان إذا لم يبادر بأدائها فإنها قد تحبسه.
الحديث التاسع والثمانون عن جابر رضي الله عنه قال :قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد :أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال(( :في الجنة)) فألقى تمرات كن في يده ،ثم قاتل حتى قُتِل (متفق عليه) شرح الحديث قال رجل من الصحابه للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد أرأي َت إن قُتل ُت فأين أنا؟ قال\" :في الجنة \" ،فألقى تمرات كن في يده ،ثم قاتل حتى قتل يعني أن هذا الرجل ألقى هذه التمرات التي كن في يده، استطال الزمان الذي يقضيه في أكلها ،استطال الوقت. والتمرات هذا جمع قلة ،فمعنى ذلك أنها قليلة معدودة ،فأكل هذه التمرات كم يستغرق من الوقت؟ ،ثلاث دقائق ،أقل
بقليل ،أكثر بقليل ،المسألة لا تتجاوز هذا الزمن اليسير، ومع ذلك يستطيل هذه المدة. ففي الحديث :المبادرة إلى الخيرات وحث من توجه لخير عل الإقبال عليه بالجد من غير تردد. وفيه :دليل على مبادرة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ إلى الأعمال الصالحة ،وأنهم لا يتأخرون فيها ،وهذا شانهم؛ ولهذا كانت لهم العزة في الدنيا ،وفي الآخرة. وفيه :أن من قتل في سبيل الله؛ فإنه في الجنة ،ولكن من هو الذي يقتل في سبيل الله؟ الذي يقتل في سبيل الله :هو الذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
الحديث التسعون عن أبي هريرة رضي الله عنه ،قال :جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :يا رسول الله ،أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال(( :أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى ،ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا ،وقد كان لفلان)) (متفق عليه) شرح الحديث في هذا الحديث :فضل الصدقة في حال الصحة. وروى أبو داود وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ،قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(( :لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق بمائة عند موته)) والحديث ساقه المؤلف ـ رحمه الله ـ في باب المبادرة إلى فعل الخيرات ،وعدم التردد في فعلها إذا أقبل عليها
فإن هذا الرجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الصدقة أفضل؟ وهو لا يريد أي الصدقة أفضل في نوعها ،ولا في كميتها ،وإنما يريد ما هو الوقت الذي تكون فيه الصدقة أفضل من غيرها فقال له(( :أن تصدق وأنت صحيح شحيح)) يعني صحيح البدن شحيح النفس؛ لأن الإنسان إذا كان صحيحاً كان شحيحاً بالمال؛ لأنه يأمل البقاء ،ويخشى الفقر ،أما إذا كان مريضاً ،فإن الدنيا ترخص عنده ،ولا تساوي شيئاً فتهون عليه الصدقة .والمراد بالشح أشد البخل (أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى) يعني أنك لكونك صحيحاً تأمل البقاء وطول الحياة؛ لأن الإنسان الصحيح يستبعد الموت ،وإن كان الموت قد يفاجئ الإنسان ،بخلاف المريض؛ فإنه يتقارب الموت. ((وتخشى الفقر)) يعني :لطول حياتك ،فإن الإنسان يخشى الفقر إذا طالت به الحياة؛ لأن ما عنده ينفد ،فهذا أفضل ما يكون؛ أن تتصدق في حال صحتك وشحك. ((ولا تمهل)) أي لا تترك الصدقة
((حتى إذا بلغت الحلقوم ،قلت لفلان كذا ولفلان كذا)) يعني لا تمهل ،وتؤخر الصدقة ،حتى إذا جاءك الموت وبلغت روحك حلقومك ،وعرفت أنك خارج من الدنيا، (قلت :لفلان كذا) يعني صدقة( ،ولفلان كذا) يعني صدقة. ((وقد كان لفلان)) أي قد كان المال لغيرك( ،لفلان) : يعني للذي يرثك .فإن الإنسان إذا مات انتقل ملكه ،ولم يبق له شيء من المال. ففي هذا الحديث :دليل على أن الإنسان ينبغي له أن يبادر بالصدقة قبل أن يأتيه الموت ،وأنه إذا تصدق في حال حضور الأجل ،كان ذلك أقل فضلاً مما لو تصدق وهو صحيح شحيح. وفيه :دليل على أن الإنسان إذا تكلم في سياق الموت فإنه يؤخذ كلامه إذا لم يذهل ،فإن أذهل حتى صار لا يشعر بما يقول فإنه لا عبرة بكلامه ،لقوله(( :حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان :كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان))
وفيه :دليل على أن الروح تخرج من أسفل البدن ،تصعد حتى تصل إلى أعلى البدن ،ثم تقبض من هناك ،ولهذا قال: ((حتى إذا بلغت الحلقوم)) ،وهذا كقوله تعالىَ ( :فلَ ْولا إِ َذا َب َل َغ ِت ا ْل ُح ْلقُو َم َوأَ ْن ُت ْم ِحي َنئِ ٍذ َت ْن ُظ ُرو َن) (الواقعة)84-8٣ : فأول ما يموت من الإنسان أسفله ،تخرج الروح بأن تصعد في البدن ،إلى أن تصل إلى الحلقوم ،ثم يقبضها ملك الموت.
الحديث الحادي والتسعون عن أنس رضي الله عنه :أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ سيفا يوم أحد ،فقال(( :من يأخذ مني هذا؟)) فبسطوا أيديهم كل إنسان منهم يقول :أنا أنا .قال(( :فمن يأخذه بحقه؟)) فأحجم القوم فقال أبو دجانة رضي الله عنه :أنا آخذه بحقه ،فأخذه ففلق به هام المشركين ( رواه مسلم) شرح الحديث عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ سي ًفا يوم أحد فقال( :من يأخذ مني هذا السيف؟) ، فبسطوا أيديهم كل إنسان منهم يقول :أنا ،أنا ،هم ظنوا أن هذا السيف يؤخذ هكذا من غير مطالبة بلوازم تلزم آخذه وتبعات تترتب على أخذه ،فقال( :فمن يأخذه بحقه؟) ، فأحجم القوم ،فقال أبو دجانة رضي الله عنه ،وأبو دجانة هو ِسماك بن خرشة ،واشتهر بكنيته وهو من الأنصار قال :أنا آخذه بحقه ،فأخذه ففلق به هام المشركين\" ((أحجم القوم)) :أي توقفوا و((فلق به)) :أي شق(( .هام المشركين)) :أي رؤوسهم.
وجاء في بعض رواياته :أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فما حقه؟ فذكر له النبي صلى الله عليه وسلم هذا ،أن يضرب به هام المشركين حتى ينثني فأخذه وربط عصابته الحمراء فقالت الأنصار :ربط أبو دجانة عصابة الموت ،يعني أن الرجل مقبل على الموت، مقبل على الشدة والأهوال ،وركوب الأخطار من أجل أن يحقق هذا وجاء في بعض كتب السيرة عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال( :وجدت في نفسي حين سألت النبي صلى الله عليه وسلم السيف فمنعته ،وأعطاه أبا دجانة ،فقلت :والله لأنظرن ما يصنع فاتبعته ،فأخذ عصابة حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار :أخرج أبو دجانة عصابة الموت .فخرج وهو يقول: أنا الذي عاهدني خليلي ** ونحن بالسفح لدى النخيل إلى آخر ماقال.. فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله) في هذا الحديث :المبادرة إلى قتال المشركين بالجد إذا أمكن ذلك .والرغبة فيما عند الله
الحديث الثاني والتسعون عن الزبير بن عدي ،قال :أتينا أنس بن مالك رضي الله عنه فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج .فقال(( :اصبروا؛ فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم)) سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم ( رواه البخاري) شرح الحديث عن الزبير بن عدي ؛ أنهم أتوا إلى أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وكان قد عمر ، وبقى إلى حوالي تسعين سنة من الهجرة النبوية ،وكان قد أدرك وقته شيء من الفتن ،فجاءوا يشكون إليه ما يجدون من الحجاج بن يوسف الثقفي ؛ أحد الأمراء لخلفاء بني أمية ،وكان معروفاً بالظلم وسفك الدماء ،وكان جباراً عنيداً ولقد عانى المسلمون كثي ًرا ِمن ُظل ِم الحجاج بن يوسف الثقفي َ ،فكانوا ي ْلج ُؤو َن إلى أهل العلم من الصحاب ِة ل ُيفتوه ْم في الأمر وفقا ل ِكتا ِب اللهِ وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فجاء الزبير بن ع ِدي إلى أنس رضي الله عنه َيشكو إليه ما ي ِج ُدهُ الناس ِمن ظل ِم الحجاج وتعديه عل ْي ِهم ،ف َن َصح ُه أنس بِال َّصب ِر ،وقال\" :ا ْصبِروا\"
وعلَّل ذل َك بِكلا ٍم س ِم َع ُه م َن النب ِّي ص َّلى اللهُ ع َلي ِه وس َّلم وهو قوله صلَّى الله عليه وس َلّم\" :فإ َّن ُه لا يأ ِتي علَيك ْم َزما ٌن إ َّلا الذي بع َدهُ َش ٌّر من ُه ح َّتى تل َق ْوا َر َّبك ْم\" أي :حتى تموتوا أو ح َّتى قيا ِم ال َّساع ِة فقال لهم بأسلوب الحصر\" :لا يأتي زمان إلا والذي بعده\"، وهذه أقوى صيغة من صيغ الحصر ،معناها لا يكون زمان إلا والذي بعده قط ًعا أسوأ منه ،وهذا مشاهد كلما جاء جيل وإذا هو أضعف من الجيل السابق ،أضعف في الحرص، والجد ،والهمة في عمل الخير ،والعلم النافع والحديث وارد في الأَكث ِر الأ ْغل ِب؛ لأن عصر عمر بن عبدالعزيز كان بعد عصر ال َح َّجا ِج ،وكذلك في عصر نزول المسي ِح عليه السلام سيكون ِمن َخي ِر الأيا ِم. وفي الحديث :التحذير من سوء الزمان ،وأن الزمان يتغير، ويتغير إلى ما هو أشر
الحديث الثالث والتسعون عن أبي هريرة رضي الله عنه :أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،قال(( :بادروا بالأعمال سبعا ،هل تنتظرون إلا فقرا منسيا ،أو غنى مطغيا ،أو مرضا مفسدا ،أو هرما مفندا ،أو موتا مجهزا ،أو الدجال فشر غائب ينتظر ،أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)) ضعيف (ضعفه الألباني) (تحقيق رياض الصالحين للألباني) معنى الحديث يعني :سارعوا بالأعمال الصالحة (سب ًعا) أي :قبل أن تنزل بكم فيكون ذلك صار ًفا لكم عن العمل الصالح .أي ينبغي للإنسان أن يبادر بالأعمال حذرا من هذه الأمور (هل تنتظرون إلا فق ًرا ُمنس ًيا) أي :أنه فقر شديد يغشاكم بسببه الهم ،فيحصل من جراء ذلك أن ينسى الإنسان ويحصل له الذهول عن كثير مما هو بصدده من العمل الصالح.
(أو غنى مطغيا) وهو يقابل الأول ،وذلك أن الكثيرين من الناس إذا حصل لهم السعة ،إلا من عصم الله ،أنه يطغى فالإنسان إما أن يحصل له فقر يدهشه وينسيه فينهمك في البحث عن لقمة العيش أو غنا يطغيه (أو مر ًضا مفس ًدا) مرض يفسد البدن ،أو يفسد العقل فلا يستطيع الإنسان أن يقوم بوظائف العبودية ،وإنما يكون منشغلاً بعلته وآلامه (أو هر ًما مفن ًدا) بمعنى هرم يخرج بصاحبه عن جادة الصواب ،الهرم إذا صار الإنسان كبي ًرا في السن فإنه يختلط ويتغير عقله (أو مو ًتا مجه ًزا) أي :مو ًتا سري ًعا يقع بالإنسان فلا يكون هناك مهلة للتوبة والمراجعة. (أو الدجال فشر غائب ُينتظر) وهو أعظم فتنة تقع لعموم الناس في هذه الدنيا ،ما من نبي إلا حذر أمته الدجال فتنة عظيمة ج ًّدا ( أو الساعة) يعني قيام الساعة الذي فيه الموت العام في النهاية( والساعة أدهى وأمر) فهذه سبع حذر منها النبي عليه الصلاة والسلام ،وأمرنا أن نبادر بالأعمال الصالحة
الحديث الرابع والتسعون عن أبي هرير َة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر(( :لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه)) .قال عمر رضي الله عنه :ما أحببت الإمارة إلا يومئذ ،فتساورت لها رجاء أن أدعى لها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأعطاه إياها ،وقال(( :امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك)) .فسار علي شيئا ثم وقف ولم يلتفت فصرخ :يا رسول الله ،على ماذا أقاتل الناس؟ قال(( :قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ،وأن محمدا رسول الله ،فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)) (رواه مسلم) شرح الحديث \"قال يوم خيبر\" أي :يوم فتح خيبر ،وذلك في السنة السابعة من الهجرة ،وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أعطى الراية ،ولم يفتح للمسلمين ،ثم بعد ذلك قال\": لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه\" ،فذكر أمرين:
الأول :أنه يحب الله ورسوله ،وهذه شهادة له من النبي صلى الله عليه وسلم والأمر الآخر :أن الله يفتح على يديه فمن الذي يكون بهذه المثابة يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا؟ قال عمر رضي الله عنه \" :ما أحببت الإمارة إلا يومئذ\" ؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزهدهم في الإمارة ،ويذكر لهم من تبعاتها ما يجعلهم يتراجعون ويتأخرون عن طلبها \"ما أحببت الإمارة إلا يومئذ\" ليس من أجل الإمارة ،وإنما من أجل هذه الشهادة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم \"فتساور ُت لها\" يعني وثبت متطلعا وتطاولت؛ ليراه النبي صلى الله عليه وسلم بين الناس\" ،رجاء أن أُدعى لها ،فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأعطاه إياها وقال \" :امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك ،فسار علي شي ًئا ثم وقف ولم يلتفت فصرخ -يعني صاح بصوته -يا رسول الله ،على ماذا أقاتل؟\"
وهذه منقبة لعلي رضي الله عنه من الناحيتين الناحية الأولى الدقة في الامتثال فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: امش ولا تلتفت فهو مع أنه احتاج إلى أن يكلم النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه كلمه ووجهه صوب الوجهة التي يريدها ولم يلتفت للنبي صلى الله عليه وسلم ،وهذا يدل على شدة انضباط الصحابة وتحريهم ،ودقتهم في امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وهذا هو الذي بلغ بهم وأوصلهم إلى تلك المنازل الرفيعة عند الله \"فسار علي شي ًئا ثم وقف ولم يلتفت فصرخ يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟\" وهذه أيضاً منقبة أخرى وهي أنه كان يتحرى في مثل هذه الأمور ،فهو حينما يتجه ليقاتل لاب ّد أن يكون له هدف محدد ،ومقصود واضح بين ،فماهو هدفه الذي يقاتل من أجله ،فسأل على ماذا أقاتل الناس؟ قال( :قاتلهم حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محم ًدا رسول الله) يعني قاتلهم حتى يدخلوا في الإسلام، (فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) أي :أنهم إذا أظهروا الإسلام فإنهم لا يقا َتلون ،يكف عنهم وعن دمائهم وأموالهم إلا بحقها ،وذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم \" :لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث :الثيب الزاني،
والنفس بالنفس ،والتارك لدينه المفارق للجماعة\" فهذا من حقها لأنا غير مطالبين بأن نشق عن قلوب الناس ،وإنما نعاملهم بحسب ما ظهر ،والحكم إنما هو للظواهر ،وأما البواطن فأمرها إلى الله في هذا الحديث :الحث على المبادرة إلى ما أمربه ،والأخذ بظاهر الأمر لأن عليا وقف ولم يلتفت
المقدمة باب المجاهدة الحديث الخامس والتسعون عن أبي هرير َة رضي الله عنه قال :قال رسولُ اللهِ َص َّلى اللهُ َعلَ ْي ِه َو َسلَّ َم \" :إِ َّن اللهَ َت َعالَى َقالََ :م ْن َعا َدى لِي َولِ ًّيا َف َق ْد آ َذ ْن ُت ُه بِا ْل َح ْر ِب َو َما َت َق َّر َب إِ َل َّي َع ْب ِدي ِب َش ْي ٍء أَ َح َّب إِلَ َّي ِم َّما ا ْف َت َر ْض ُت ُه َعلَ ْي ِهَ ،ولاَ َي َزالُ َع ْب ِدي َي َت َق َّر ُب إِلَ َّي بِال َّن َوا ِف ِل َح َّتى أُ ِح َّب ُهَ ،فإِ َذا أَ ْح َب ْب ُت ُه ُك ْن ُت َس ْم َع ُه ا ّلَ ِذي َي ْس َم ُع بِ ِهَ ،و َب َص َرهُ الَّ ِذي ُي ْب ِص ُر ِب ِهَ ،و َي َدهُ ا َّل ِتي َي ْب ِط ُش بِ َهاَ ،و ِر ْج َل ُه ا َّلتِي َي ْم ِشي بِ َها، َو َلئِ ْن َسأَلَنِي لأَ ْع ِط َي َّن ُهَ ،ولَئِ ِن ا ْس َت َعا َذنِي لأَ ِعي َذ َّن ُه \" (رواه البخاري) شرح الحديث ( َم ْن َعا َدى لِي َول َّياً) أي اتخذه عدواً له ،وول ُّي الله ع ّز وجل ب َّينه الله ع ّز وجل في القرآن ،فقال{ :أَلا إِ َّن أَ ْولِ َيا َء ال َّل ِه لا َخ ْو ٌف َعلَ ْي ِه ْم َولا ُه ْم َي ْح َز ُنو َن* الَّ ِذي َن آ َم ُنوا َو َكا ُنوا َي َّتقُو َن [يونس]6٣-62:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله -من كان مؤمناً تقياً كان لله ول َّياً ،أخذه من الآية( :ا ّلَ ِذي َن آ َم ُنوا َو َكا ُنوا َي َّتقُو َن) [يونس]6٣: فعلى قدر ما للعبد من الإيمان والتقوى يكون نصيبه من ولاية الله -تبارك وتعالى ،فكلما كان العبد أكثر تحقيقاً للإيمان ،وأكثر تقى كلما كانت ولايته لله أعظم ،فإ ْن نقص ُنقص من ولايته بحسب ذلك ( َف َق ْد آ َذ ْن ُت ُه ًِبال َح ْر ِب) أي أعلنت عليه الحرب ،وذلك لمعاداته أولياء الله. ( َو َما َت َق َّر َب إِ َل َّي َع ْب ِد ْي ِب َشي ٍء أَ َح َّب إِلِ َّي ِم َّما ا ْف َت َر ْض ُت ُه َعلَ ْي ِه) ما تقرب إلي الإنسان بشيء أحب إلي مما افترضه عليه، يعني أن الفرائض أحب إلى الله من النوافل ،فالصلوات الخمس مثلاً أحب إلى الله من قيام الليل ،وأحب إلى الله من النوافل ،فكل الفرائض أحب إلى الله من النوافل ووجه ذلك أن الفرائض أكدها الله عز وجل فألزم بها العباد، وهذا دليل على شدة محبته لها عز وجل ،وأما النوافل فالإنسان حر؛ إن شاء تنفل وزاد خيراً ،وإن شاء لم يتنفل، لكن الفرائض أحب إلى الله ( َولاَ َي َزالُ َع ْب ِد ْي َي َت َق َّر ُب إِ َل َّي ِبال َّن َوافِ ِل َح َّتى أُ ِح َّب ُه)
هذا من أفعال الاستمرار،أي أنه يستمر يتقرب إلى الله تعالى بالنوافل حتى يحبه الله ع ّز وجل ،فيكون من أحباب الله النوافل تقرب إلى الله وهي تكمل الفرائض ،فإذا أكثر الإنسان من النوافل مع قيامه بالفرائض ،نال محبة الله، فيحبه الله ،وإذا أحبه فكما يقول الله عز وجل ( َفإِ َذا أَ ْح َبب ُت ُه ُك ْن ُت َس ْم َع ُه الَّ ِذ ْي َي ْس َم ُع ِب ِهَ ،و َب َص َرهُ الَّ ِذ ْي ُي ْب ِص ُر بِ ِهَ ،و َي َدهُ ا َلّ ِتي َي ْب ِط ُش بِ َهاَ ،و ِر ْج َل ُه الَّتِي َي ْم ِش ْي ِب َها) المعنى أن الله يسدده في سمعه وبصره ويده ورجله ،أي أنه يكون مسدداً له وموفقا له في هذه الأعضاء الأربعة؛ فيكون شغله فيما يقربه إلى الله ،فلا يسمع بأذنه إلا ما يرضي الله، ولا يمشي برجله إلى إلا محا ّب الله ،ولا يبطش بيده إلا فيما يرضي الله ،ولا ينظر بعينه إلا إلى شيء يحبه ربه ولا ينظر إلي المحرم ( َو َل ِئ ْن َسأَ َل ِن ْي لأَ ْعط َي َّن ُه) هذا في المرغوبات ،إن سأل -دعا ربه ،طلب شيئاً من حوائج الدنيا أو الآخرة -أعطيته ،يكون مستجاب الدعوة ( َولَئِ ِن ا ْس َت َعا َذ ِني) يعني لئن اعتصم بي ولجأ إلى من شر كل ذي شر لأعيذنه ،فيحصل له بإعطائه مسئوله وإعاذته مما يتعوذ منه المطلوب ،ويزول عنه الموهوب
وأتى المؤلف بهذا الحديث في باب المجاهدة؛ لأن النفس تحتاج إلى جهاد في القيام بالواجبات ،ثم بفعل المستحبات والحديث فيه بقية لم يذكرها هنا ،ذكرها في موضع آخر، يقول( :وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن ،يكره الموت ،وأنا أكره مساءته) يعني :قبض المؤمن ،والمقصود هنا أن قبض نفس المؤمن أمر لابد منه ،فالموت أمر لابد منه ،فهو أمر حت ٌم ،فالله قد اقتضت حكمته أن يموت الناس ،ولما كان المؤمن يكره الموت بطبيعته ،والله يكره مساءة هذا الولي الذي وصل إلى هذه المرتبة ،فحصل التردد بهذا الاعتبار وفي الحدي ِث :فضيلة أولياء الله ،وأن سبحانه وتعالى يعادي من عاداهم ،بل يكون حرباً عليهم عز وجل
الحديث السادس والتسعون عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: \" إذا تق َّرب العب ُد إل َّي شب ًرا تق َّرب ُت إليه ذرا ًعا ،و إذا تق َّرب إل َّي ذرا ًعا تق َّرب ُت منه با ًعا ،و إذا أتاني يمشي أتي ُته َه ْرولَ ًة\" (رواه البخاري) شرح الحديث هذا الحديث يبين معنى كبي ًرا إذا استشعره المؤمن فإنه يقبل على طاعة الله بكل انشراح ،فهذا الرب الذي نعبده أرحم الراحمين فالحديث يدل على أن العبد إن تقرب إلى ربه تقرباً قليلاً تقرب الله عز وجل منه كثيراً ،وإذا تقرب منه كثيراً تقرب الرب منه أكثر ،وإذا جاءه يمشي أتاه -تبارك وتعالى- هرولة الشبر والذراع معروفان ،والهرولة هي مشية دون الجري وفوق المشي ،فهي إسراع في المشي
وفي بعض الروايات( :وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم) فإذا ذكر ربه في ملأ :أي ذكره ذكراً مجرداً ،كأن يقول :لا إله إلا الله ،أو ذكره مثنياً عليه ،مبيناً لمجده ،فإن الله يذكر هذا العبد في ملأ خير من ملئه ،فيذكره بين ملائكته ،يذكره في الملأ الأعلى، مع أن الله عز وجل غني عنا وعن أعمالنا ،فنستشعر هذه المعاني ،وهي أننا كلما تقربنا إلى الله فإن الله أكرم وأرحم وأجلّ فهذا الحديث يدل على سعة رحمته ،وقبوله لأعمال عباده، فينبغي للإنسان أن يحسن الظن بالله ،وأن يكثر من الأعمال الصالحة ،وأن يكثر من ذكر الله
الحديث السابع والتسعون عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: \" ِن ْع َمتا ِن َم ْغ ُبو ٌن فِي ِهما َك ِثي ٌر ِم َن ال َّنا ِس :ال ِّص َّح ُة وال َفرا ُغ\" ( رواه البخاري) شرح الحديث نِ َع ُم الله ع َّز وجلَّ على عبا ِده لا ُتح َصى ،ومن هذه ال ِّنعم نعم َتا ال ِّص َّح ِة والفراغ ،اللَّتان لا َيدري أكث ُر ال َّناس أه ِّم َّيتهما إ َّلا بعد زوالهما (نعمتا ِن مغبو ٌن فيهما كثي ٌر من ال َّناس) أي :لا َيع ِرف َق ْد َرهما ولا ينتفع بهما كثي ٌر من ال َّناس في حياتهم ال ُّدنيو َّية والأخرو َّية ،وهما :ال ِّصح ُة؛ أي :ص َّحة البدن وال َّنفس وق َّوتهما ،والفرا ُغ؛ أيُ :خلُ ُّو الإنسا ِن من مشاغ ِل العيش وهمو ِم الحياة ،وتو ُّف ُر الأمن والاطمئنان ال َّن ْفس ِّي ،فهما ِنعمتان عظيمتان ،لا ُيق ِّد ُرهما كثي ٌر من ال َّناس ح َّق ق ْدرهما. وذلك أن الإنسان إذا كان صحيحاً كان قادراً على ما أمره الله به أن يفعله ،وكان قادراً على ما نهاه الله عنه أن يتركه لأنه صحيح البدن ،منشرح الصدر ،مطمئن القلب ،كذلك الفراغ إذا كان عنده ما يؤويه وما يكفيه من مؤنة فهو متفرغ.
فإذا كان الإنسان فارغاً صحيحاً فإنه يغبن كثيراً في هذا، لأن كثيراً من أوقاتنا تضيع بلا فائدة ونحن في صحة وعافية وفراغ ،ومع ذلك تضيع علينا كثيراً ،ولكننا لا نعرف هذا الغبن في الدنيا ،إنما يعرف الإنسان الغبن إذا حضره أجله ،وإذا كان يوم القيامة والإنسان قد لا تفوته هاتان النعمتان :الصحة والفراغ بالموت ،بل قد تفوته قبل أن يموت ،قد يمرض ويعجز عن القيام بما أوجب الله عليه ،وقد يمرض ويكون ضيق الصدر لا يشرح صدره ويتعب ،وقد ينشغل بطلب النفقة له ولعياله حتى تفوته كثير من الطاعات. ولهذا ينبغي للإنسان العاقل أن ينتهز فرصة الصحة والفراغ بطاعة الله ـ عز وجل ـ بقدر ما يستطيع وفي الحدي ِث :الترغي ُب في استغلال ال ِّنعم من ص َّحة وفراغ وغيرهما ،والاستفادةُ منهما فيما ُيرضي اللهَ سبحانه وتعالى. وفيه :أ َّن الإنسا َن لا يتف َّرغ لل َّطاعة إ َّلا إذا كان مكف ًّيا صحي َح البدن ،فقد يكون مستغن ًيا ولا يكون صحي ًحا ،وقد يكون صحي ًحا ولا يكون مستغن ًيا ،فلا يكون متف ِّر ًغا لل ِعلم والعمل لش ْغله بالك ْسب ،ف َمن ح َصل له الأمران :ال ِّص َّح ُة والفرا ُغ و َك ِسلَ عن ال َّطاعات ،فهو المغبو ُن الخاس ُر في تجارتِه .
الحديث الثامن والتسعون عن عائشة رضي الله عنها :أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فقلت له :لم تصنع هذا يا رسول الله ،وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال(( :أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا)) (متفق عليه ،هذا لفظ البخاري) شرح الحديث إن من جملة المجاهدة مجاهدة الإنسان نفسه وحمله إياها على عبادة الله ،والصبر على ذلك (فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه) فالنبي صلى الله عليه وسلم كان أكمل الأمة عبودية لربه ومولاه ،فكان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ،أي :يقوم قياماً طويلاً حتى تتشقق قدماه ،وجاء في بعض الروايات حتى تتورم قدماه فكان عليه الصلاة والسلام يقوم أحياناً أكثر الليل ،وأحياناً نصف الليل ،وأحياناً ثلث الليل؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعطي نفسه حقها من الراحة مع القيام التام بعبادة ربه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ،فكان يقوم أدنى من ثلثي الليل
(يعني فوق النصف ،ودون الثلثين) ،ونصفه وثلثه؛ حسب نشاطه عليه الصلاة والسلام ؛ وكان يقوم حتى تتورم قدماه وتتفطر من طول القيام؛ أي يتحجر الدم فيها وتنشق فعائشة رضي الله عنها تسأله ،تقول له :كيف تفعل هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال( :أفلا أحب أن أكون عبداً شكراً) والشكور هو كثير الشكران ،وفي هذا دليل على أن الشكر هو القيام بطاعة الله ،وأن الإنسان كلما أزداد في طاعة ربه عز وجل فقد ازداد شكراً لله وفي الحدي ِث :دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ قال بعض العلماء: واعلم أن من خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210
- 211
- 212
- 213
- 214
- 215
- 216
- 217
- 218
- 219
- 220
- 221
- 222
- 223
- 224
- 225
- 226
- 227
- 228
- 229
- 230
- 231
- 232
- 233
- 234
- 235
- 236
- 237
- 238
- 239
- 240
- 241
- 242
- 243
- 244
- 245
- 246
- 247
- 248
- 249
- 250
- 251
- 252
- 253
- 254
- 255
- 256
- 257
- 258
- 259
- 260
- 261
- 262
- 263
- 264
- 265
- 266
- 267
- 268
- 269
- 270
- 271
- 272
- 273
- 274
- 275
- 276
- 277
- 278
- 279
- 280
- 281
- 282
- 283
- 284
- 285
- 286
- 287
- 288
- 289
- 290
- 291
- 292
- 293
- 294
- 295
- 296
- 297
- 298
- 299
- 300
- 301
- 302
- 303
- 304
- 305
- 306
- 307