Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore في الدلالة الفلسفية للتقابل بين آل عمران 7 وفصلت 53 - أبو يعرب المرزوقي

في الدلالة الفلسفية للتقابل بين آل عمران 7 وفصلت 53 - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2020-12-11 20:01:54

Description: في الدلالة الفلسفية للتقابل بين آل عمران 7 وفصلت 53 - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪re nils frahm‬‬ ‫للتقابل بين‬ ‫آل عمران ‪ 7‬وفصلت ‪53‬‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫‪53 7‬‬ ‫المحتويات ‪2‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪14 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪26 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪39 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪51 -‬‬ ‫وصلة ‪66‬‬ ‫‪ -‬الفصل السادس ‪76 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل السابع ‪89 -‬‬ ‫‪-‬الفصل الثامن ‪103 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل التاسع ‪117 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل العاشر ‪133 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الحادي عشر ‪151 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني عشر ‪161 -‬‬ ‫النص الأول‪ :‬الإسلام ليس فرقة مسحية مارقة بل وثنية ‪167‬‬ ‫نص توما الاكوين ‪167‬‬ ‫النص الثاني‪ :‬الإسلام دين العقل الإنساني المتكبر ‪170‬‬ ‫نص لوثر ‪170‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث عشر ‪174 -‬‬ ‫القسم الأول ‪174‬‬ ‫ملاحظة‪174 :‬‬ ‫النص ‪174‬‬ ‫لسنج ولايبنتس بأسلوب كلامي فلسفي يتجاوز علة قول لايبنتس بالفاطوم‪188 .‬‬ ‫القسم الثاني ‪189‬‬

‫‪53 7‬‬ ‫روسو وفولتار بأسلوب أدبي سياسي يتجاوز السخرية من رؤية الإسلام للقضاء والقدر‪194 .‬‬ ‫جوته ولايبنتس بأسلوب فلسفي دين يدحض نظرية \"الفاطوم\" المحمدي ويبين العناية الربانية والتسليم بها‪196 .‬‬ ‫رد اقبال على لايبنتس نكوص إل الإشكالية الكلامية بتاثر من الهيجلية والبرجسونية ‪200‬‬ ‫خاتمة ضعف حجج اقبال في الرد على لايبنتس ‪203‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع عشر ‪206 -‬‬ ‫القسم الأول ‪206‬‬ ‫الحداثة الغربية مرحلتاها وعلاقتهما بالحضارة الإسلامية ‪209‬‬ ‫التحديث الإسلامي ومرحلتاه وعلاقتهما بالحداثة الغربية ‪211‬‬ ‫تعليل اختيار كنط وهيجل ‪215‬‬ ‫القسم الثاني ‪223‬‬ ‫تحليل نص كنط ومحاولة فهم قصوره دون رؤية الإسلام ‪225‬‬ ‫القسم الثالث ‪239‬‬ ‫تحليل نص هيجل النكوص الهيجلي وأثره على الحضارتين الغربية والإسلامية ‪239‬‬ ‫موجز ما توصلنا إليه في تحديد ذروة الحداثة عند كنط ‪242‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس عشر ‪254 -‬‬ ‫القسم الأول ‪254‬‬ ‫القسم الثاني ‪274‬‬ ‫شرح نص هيجل لبيان تمثيله للنكوصين ‪279‬‬ ‫المسألة الثانية‪ :‬المشترك بين الآيتين‪283 .‬‬ ‫القسم الثالث ‪285‬‬ ‫المعادلة الوجودية ‪293‬‬ ‫المعادلة المبتورة المخمس المردود إل مثلث ‪295‬‬ ‫المعادلة السليمة ‪296‬‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫لن أغفل في مغامرة قراءة القرآن الكريم فلسفيا عن أني سأغضب الكاريكاتورين‬ ‫المسيطرين على التحديث والتأصيل‪.‬‬ ‫كلاهما لا يقبل مناقضتي لرؤيتهما للدين في تعريفي للإسلام‪.‬‬ ‫فاعتباري إياه غاية ما يتحد به الديني من حيث هو ديني والفلسفي من حيث هو فلسفي‬ ‫يستثيرهما كليهما‪.‬‬ ‫وقصدي بهذا التعريف الذي هو عين ما تثبته سورة العصر أن الإسلام هو استراتيجية‬ ‫البحث عن الحقيقة اجتهادا عقليا (التواصي بالحق) وابداع طرق تحقيقها جهادا خلقيا‬ ‫(التواصي بالصبر) من جماعة الاحرار المؤمنين والعاملين صالحا‪.‬‬ ‫فموقف كاريكاتور التحديث مفهوم إذ هم يعتبرونه من أساطير الأولين‪.‬‬ ‫لكن موقف كاريكاتور التأصيل يعسر فهمه ولا أحد يتجرأ على دحضه لاستعمالهم سيف‬ ‫ديموقليس‪ :‬تكفير من يرى غير رأيهم‪.‬‬ ‫فهذا الكاريكاتور يدعي أن القرآن فيه علم الغيب ويذهب المتحادثون منهم إلى أنه مدونة‬ ‫علمية يكفي معرفة العربية ليصبح \"العلماء\" الذين يدعون وراثية الأنبياء علماء في كل‬ ‫شيء فيكتشفون الاعجاز العلمي دون جهد بشرط أن يكون غيرهم قد اجتهد وبحث‬ ‫واكتشف القوانين العلمية التي ُيأولون القرآن في ضوئها‪.‬‬ ‫فكيف الخروج من هذه الكماشة التي أجد نفسي بين فكيها؟‬ ‫فهي تحول دون بيان أن القرآن مختلف تماما عن الكتب الدينية السابقة لأنه غاية ما‬ ‫يطلبه الدين وما تطلبه الفلسفة ولا يتضمنه بل يدعو إليه ويشير إلى سبله لأنه بصورة‬ ‫أدق‪ ،‬استراتيجية تحقيق الإنسانية لشروط بقائها تعميرا واستخلافا وتوجيها للبحث فيما‬ ‫يطلبه الديني بما هو ديني‪ ،‬وما يطلبه الفلسفي بما هو فلسفي لعلم ما يمكن للإنسان علمه‬ ‫اجتهادا وعمل ما يمكن له عمله جهادا في التاريخ الفعلي للإنسان‪.‬‬ ‫لذلك سميته استراتيجية علم وعمل و\"سبابة\" تشير إلى شروط تحقيقهما‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫ذلك هو الرهان الذي جعلته نصب عيني لما شرعت في قراءة القرآن قراءة فلسفية سنة‬ ‫‪ 2003‬في كوالالمبور‪ .‬فلكأني وضعت بين قوسين إيماني بالقرآن الذي ربيت عليه منذ نطقت‬ ‫لأني من أسرة ريفية متدينة وذات ثقافة إسلامية مالكية فقهيا وجيلانية قادرية صوفيا ربها‬ ‫شيخ وشاهد عدل ومزارع من أعيان قبيلة المرازيق هاجر جدها الأول من دوز (جنوب‬ ‫تونس) في بداية القرن التاسع عشر إلى الشمال واستقر في ريف بنزرت‪.‬‬ ‫فكان التحدي الأول هو محاولة اكتشاف نظام النص الذي كنت وأنا طفل اراه أشبه بطريق‬ ‫متعرج أشعر وأنا أقرأ ما حفظت منه وما بقي منه للحفظ وكأني اسير في شعاب ليس لها‬ ‫دليل هاد ونظام عقد‪.‬‬ ‫فعند الاكتفاء بالنظرة الأولى يبدو القرآن نصا شديد البعثرة عند من لم يدرب بصيرته‬ ‫على تجاوز السطح والغوص في الأعماق ليرى أن ما كان يتصوره تكرارا علته أنه يتوقف‬ ‫عند حس البصر للعبارة ولا ينفذ إلى حدس البصيرة لما وراء العبارة من الإشارة‪.‬‬ ‫وما أن وفقني الله لاكتشاف النظام العميق للنص ‪-‬أو لما بدا لي وكأنه قد أمدني بحل لما‬ ‫كنت أعاني منه‪ -‬حتى انفتحت أمامي سبل التحرر من عائقين هما علة ما جعلني أعتبر علوم‬ ‫الملة كلها ودون استثناء قد حرفت القرآن وهو مصدر الحيرة الأكبر وعلة الكماشة التي‬ ‫تكلمت عليها‪:‬‬ ‫• العائق الأول هو ما ورثناه من رؤية الفلسفة اليونانية لنظرية المعرفة ونظرية القيمة‬ ‫التي صارت حكما معيارا في معاني القرآن‪.‬‬ ‫• والعائق الثاني هو ما ورثناه من معركة علوم الملة حول المحكم والمتشابه‪ :‬فقد دمرت‬ ‫كل جلال في الموقف الفكري من القرآن‪.‬‬ ‫وبين أن العائق الثاني فرع عن العائق الأول‪ .‬فالأمر فيه يتعلق بتأسيس نظرية التأويل‬ ‫التي تقع في مأزق بسبب معركة التمييز بين محكم القرآن ومتشابهه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫فإذا كان المحكم غنيا عن التأويل ما دام محكما وغير متشابه‪ ،‬وكان المتشابه محرما تأويله‬ ‫فإن المشكل يصبح مستحيلا حله للاستغناء عنه في ما يعتبر محكما أو لحرمته في ما يعتبر‬ ‫متشابها‪.‬‬ ‫فكان المهرب إلى حل الفلسفة الذي هو أفسد من حل المتكلمين لأنه أصل كل الأوهام لقوله‬ ‫بالمطابقتين‪.‬‬ ‫والقول بالمطابقتين بدأ مع بارمينيدس الذي تبنى حلا لعل أفضل عبارة حديثة عادت إليها‬ ‫هي قول هيجل العقل واقع والواقع عقل‪ .‬وما عدى ذلك بلغة بارمينيدس عدم‪.‬‬ ‫فالعلم مطابق للموجود‪ .‬وهو معنى الحقيقة العلمية عند الفلاسفة (علم الشيء على ما‬ ‫هو عليه)‪.‬‬ ‫والعمل مطابق للمنشود‪ .‬وهو معنى القيمة عند الفلاسفة (قيمة الشيء كما هو في ذاته)‪.‬‬ ‫وبافتراض الحقيقة واحدة فإن التأويل يصبح رد ما يسمونه المنقول إلى ما يسمونه‬ ‫المعقول‪ :‬ذلك هو مهرب الكلام‪.‬‬ ‫ورد المنقول إلى المعقول له منهج‪ .‬إنه قياس الغائب على الشاهد‪ .‬فيكون الغيب مجرد‬ ‫دلالة غائبة في النص ويكفي قيس معانيه على ما يناظره في الشاهد حتى يتم الرد المؤسس‬ ‫للتأويل الذي يصبح مباحا في المحكم وفي المتشابه على حد سواء‪ .‬كل المشكل هو في حيلة‬ ‫تجعل الغيب مجرد غائب فتحصل المطابقتان معرفة وقيمة‪ .‬وهذا الخلط بين الغيب والغائب‬ ‫هو الذي يجعل الكلام يقول بالمطابقتين‪.‬‬ ‫وبذلك يصبح الكلام تابعا للفلسفة وهو أمر يفسره ابن خلدون ببيان المراحل الخمس التي‬ ‫مر بها الكلام‪:‬‬ ‫• قبل نشأته أي قبل خروج واصل على السنة في ساحة الجدال بخلاف الخوارج الذين‬ ‫خرجوا على شيعة علي في ساحة القتال‪.‬‬ ‫• نشأته خارج السنة بعد تكون الفرق وفي كل المدارس التي تحاكي المدارس الفلسفة‬ ‫وخاصة الرواقية والمشائية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫• شكله السني بعد خروج الأشعري عن الاعتزال في مسألة المطابقة القيمية (رفض‬ ‫التحسين والتقبيح العقليين)‪.‬‬ ‫• بداية تأثره بالمنطق الأرسطي وخاصة مع الغزالي والقول الصريح بالمطابقة المعرفية‬ ‫(قبول مسلمات التحليلات الأواخر)‪.‬‬ ‫• ابتلاع الفلسفة لعلم الكلام بعد الرازي وتلك هي شهادة وفاته (التسليم بالمطابقتين‬ ‫المعرفية والقيمية)‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن ابن خلدون لم يكتف بإبداع البديل عن علم الكلام بعد أن انتهى إلى‬ ‫التسليم بنهايته للخروج من مأزق ما ورثه فكر المسلمين عن الفلسفة اليونانية وعلم الكلام‬ ‫اليهودي والمسيحي وبالتخلص الواعي من المطابقتين‪ ،‬بل هو أول من كتب شهادة وفاته‬ ‫الرسمية وعللها بهذا الابتلاع أولا وبعدم الحاجة الدفاعية على الإسلام بعلم زائف ثانيا‪.‬‬ ‫ويمكن أن أقول إن ذلك كان الخطوة الأولى نحو فهم الطابع الإشاري للقرآن دون تضمن‬ ‫المشار إليه من قوانين الطبائع أو من سنن الشرائع اللتين هما مطالبه‪.‬‬ ‫المهم أني اكتشفت أن ما ابحث عنه لست أول الساعين إليه بل سبقني إليه وإن بصورة لم‬ ‫تكن بالصراحة المطلوبة عندما أحدث الانقلاب الفلسفي في فلسفة النظر والعقد الذي‬ ‫احدثه ابن تيمية في فلسفة العمل والشرع الذي أحدثه ابن خلدون شرطين للتحرر من‬ ‫العائقين الموروث عن الفلسفة اليونانية وعن علم الكلام اليهودي والمسيحي أي القول‬ ‫بالمطابقتين في المعرفة وفي القيمة ونفي الغيب بزعم علم الإنسان محيطا وعمله تاما والعودة‬ ‫إلى أن كل معرفة اجتهادية وكل قيمة جهادية‪.‬‬ ‫ولا أنكر أن دافع الرجلين كان دينيا بالأساس لكن علاجهما للمشكل كان فلسفيا خالصا في‬ ‫الحالتين‪.‬‬ ‫كلاهما فهم ما حصل من تحريف في علوم الملة رغم اختلاف مجالات البحث النقدي لأن‬ ‫الأول اهتم بنظرية المعرفة والثاني اهتم بنظرية القيمة‪.‬‬ ‫لكن ما يعنيني شخصيا هو ما بين الهمين من وشيجة وعلاقتهما بنظام القرآن العميق‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫ذلك أنه لا أحد منهما وصل مشكله وعلاجه بنظام القرآن حتى وإن كان الدافع هو رفض‬ ‫فهم المتكلمين لشرط شروط فهمه أعني التحرر من القول بالمطابقتين‪.‬‬ ‫وقد يكون دافعي مثلهما دينيا إذ إن بحثي في نظام القرآن ليس من جنس ما يدعيه أصحاب‬ ‫النسخ المسيخة من الاستشراق‪ :‬كذبة الحياد العلمي في المسألة الدينية‪.‬‬ ‫فإن لم تكن مؤمنا بما يتعالى على الدنيا كان موقفك منه نفيا لحقيقته ولا معنى للبحث في‬ ‫حقيقة ما تؤمن بأنه من أساطير الاولين عدا البحث في جنسه الأدبي‪.‬‬ ‫ومع ذلك ففي مستوى الوعي لم يكن دافعي دينيا بل كان فلسفيا خالصا‪.‬‬ ‫فما حاولت الجواب عنه في البحث لخصته في محاولة نشرتها قبل يومين كتبتها بالعربية لأن‬ ‫المحاولة الأصلية كانت بالفرنسية‪.‬‬ ‫وقد لخصته بعنوان الارشيتاكتونيك المابعد خلقية أو الميتاأخلاق قياسا على‬ ‫الارشيتاكتونيك المابعد طبيعي في الفلسفة أو المتافيزيقا‪.‬‬ ‫وكانت تلك بداية تعريف القرآن بكونه في نفس الوقت ما بعد أخلاق وهو ما يغلب عليه‬ ‫بوصفه نظرية الديني وما بعد طبيعة وهو ما يغلب عليه بوصفه نظرية الفلسفي‪.‬‬ ‫والواحد بين المابعدين هو ما بينهما من وشيجة أي إن ما بعد الأخلاق غاية في القرآن وما‬ ‫بعد الطبيعة أداة فيه‪ .‬وتجمعهما استراتيجية شروط قيام الإنسان‪:‬‬ ‫• فالأداة هي أداة الإنسان المستعمر في الأرض‬ ‫• والغاية هي غاية الإنسان المستخلف فيها‪.‬‬ ‫ولما كانت العلاقة بين القرآن بما هو استراتيجية تكوين الإنسان أو التربية وبما هو‬ ‫استراتيجية تنظيم الإنسانية أو الحكم وهما بعدا السياسة وكان الرسول قد أنجزهما‬ ‫بالتوالي أي بدأ بالتربية في المرحلة المكية ثم بالتساوق أي انتهى بالجمع بين التربية والحكم‬ ‫في لمرحلة المدنية فقد اجتمعت استراتيجية القرآن وسياسة الرسول‪.‬‬ ‫وتلك علة اختياري عنوانا للقراءة هو‪\" :‬استراتيجية القرآن التوحيدية ومنطق السياسة‬ ‫المحمدية\"‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫لكن الحل التيمي لفلسفة النظر والعقد والحل الخلدوني لفلسفة العمل والشرع لم‬ ‫يكفياني للوصول إلى ما اعتبرته دليلا على وجاهة فرضيتي حول طبيعة القرآن باعتباره‬ ‫استراتيجية توحيد الإنسانية لتحقيق وظيفتيها كما حددتهما الرسالة وهما بعدا العبادة‬ ‫لله وحده‪:‬‬ ‫• الاستعمار في الأرض لتحقيق شروط قيام الإنسان العضوي والنفسي بفضل التسخير‪:‬‬ ‫مجال النظر والعمل وتطبيقاتهما‪.‬‬ ‫• والاستخلاف في الأرض لتحقيق شروط نظام شروط الاستعمار بمثل غيبية هي عناصر‬ ‫الإيمان‪ :‬مجال العقد والشرع وتطبيقاتهما‪.‬‬ ‫لكن حل ابن تيمية وحل ابن خلدون لا يكفيان للتخلص مما ترتب على المطابقتين في علوم‬ ‫الملة وما أنتجته من الانحطاط بسبب العجز في المهمتين أي في التعمير والاستخلاف لأنها ردت‬ ‫الموجود إلى ما يعلمه الإنسان والمنشود إلى ما يعمله الإنسان وللتخلص من مشكل التأويل‬ ‫الذي صار تحكميا ينسحب على ما له مرجع دلالة وجودي انسحابه على ما ليس له مرجع‬ ‫دلالة وجودي لأن الغيب رد إلى الغائب قيسا على الشاهد مثله فسمى التحريف علم كلام‪.‬‬ ‫ورفض السلف ‪-‬ومنهم ابن تيمية وابن خلدون‪-‬للكلام فيه وعي غائم بهذه الإشكالية‪.‬‬ ‫والحل الذي سعيت إليه وآم أن أنجزه هو الوصول فلسفيا أي من دون استعمال حججا مبنية‬ ‫على عقيدتي الدينية إلى اثبات استحالة المطابقتين بمنظور فلسفي خالص أولا واستحالة‬ ‫أن يوجد في القرآن علم يتجاوز هذه الاستحالة بمنظور القرآن نفسه‪ .‬فأكون بذلك قد‬ ‫تخلصت من الكاريكاتورين وشرعت في بحث طليق‪ .‬واعتقد أن ابن تيمية قام بالخطوة‬ ‫الأساسية بتأسيس علوم النظر والعقد عندما ميز بين علم المقدارت الذهنية التي هي كلية‬ ‫وضرورية وبرهانية ومحضة وعلم الموجودات الخارجية التي ليس لها أي من هذا الصفات‪.‬‬ ‫وقياسا عليه ‪-‬ولكن بصورة ضمنية‪-‬لم يكن بوسع ابن خلدون أن يؤسس لعلوم الإنسان أو‬ ‫فلسفة العمل والشرع من دون هذا التمييز‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫فإذا اثبت استحالة الإحاطة المعرفية وامتناع التمام القيمي بالنسبة إلى الإنسان فلسفيا‬ ‫وأثبت استحالة رد الغيب للغائب دينيا تمكنت من فهم أن ما يحول دون الأولى ليس الغائب‬ ‫المجهول لأنه لم يصبح شاهدا بعد إذ هو قابل لأن يصبح شاهدا بل هو ما لا يمكن أن يكون‬ ‫شاهدا أبدا ومن ثم فمثل هذا المفهوم الحد الفلسفي مرادف لمفهوم الغيب وهو معنى الشيء‬ ‫في ذاته عند كنط حتى وإن لم يكن صده الكلام في الغيب بالمعنى الديني في فلسفة النظر‬ ‫لكنه جعله شرطا في تأسيس فلسفة العمل وإن بشكل المسلمات‪.‬‬ ‫وحتى يكون ذلك كذلك فلا يمكن أن يتضمن القرآن علما بالغيب بخلاف ما يتوهم علماء‬ ‫الملة‪ .‬فهو أولا خطاب لجميع البشر ومن ثم فحتى الرسول الذي هو إنسان ككل البشر لا‬ ‫يعلم الغيب‪ .‬وإذا صدقنا من يدعي انه يعلمه فمعنى ذلك أنه لم يبلغ ما عمله‪ .‬فيكون قد‬ ‫كذب على المرسل إليه وخدع المرسل إذ لم يعلم الأول بما كلفه الثاني تبليغه‪ .‬والرسول لا‬ ‫يكذب بشهادة القرآن فيه رغم أنه لم يخل من نقده في مواقف كثيرة ولم يشكك في صدقه‬ ‫وأمانته أبدا‪.‬‬ ‫وقد تم اثبات الاستحالتين في المحاولة السابقة المتعلقة بأكسمة القرآن انطلاقا من الآيتين‬ ‫اللتين اخترتهما شعارا للقراءة الفلسفية‪ :‬الإسراء ‪ 105‬و‪ .106‬وإذن فلن أعود إلى‬ ‫المسألتين هذين وسأمر مباشرة إلى المعاني التي تترتب على كون القرآن رسالة ورسالة‬ ‫تذكير أي عناصر الرسالة الخمسة وما تذكر به‪ :‬المرسل (الله) والمرسل إليه (الإنسان)‬ ‫والرسول (محمد) ومنهج التبليغ (التربية والحكم) ومضمون الرسالة أي كل ما تقدم‬ ‫تذكيرا وتأسيسا لشروط مهمتي الإنسان في فرصته الثانية بعد إخراجه من الجنة أي‬ ‫التعمير والاستخلاف لإثبات أهليته في تحمل مسؤولية الأمانة التي قبل بها طوعا‪.‬‬ ‫والشرط الوحيد في ما أسعى إلى تحقيقه هو الا يكون مما ينتسب إلى علم الكلام الذي هو‬ ‫ليس علما بمعاني القرن بل تحريف لها سواء تكلم في ما يعتبره محكما أو في ما يعتبره‬ ‫متشابها لأنه أولا لم يحدد معيار التمييز بين المحكم والمتشابه ولأنه يستعمل التأويل بقياس‬ ‫الغائب على الشاهد‪ .‬والاول مستغن عنه وهو معنى كونه محكما والثاني مستحيل وهو معنى‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫كونه متشابها‪ .‬والمهرب الفلسفي أي حل المطابقتين مستحيل عقلا لأن \"الوجود لا يرد إلى‬ ‫الادراك\" (ابن خلدون) ولأن علم الموجودات الخارجية ليست كلية ولا ضرورية ولا‬ ‫برهانية ولا مضحة (ابن تيمية)‪.‬‬ ‫بقيت إذن مسائل الرسالة الخمس وكيف نتكلم فيها بغير علم الكلام اعتمادا على نفي‬ ‫المطابقتين وعلى التمييز بين الشاهد والغيب‪:‬‬ ‫‪ .1‬المرسل (الله)‬ ‫‪ .2‬المرسل إليه (الإنسان)‬ ‫‪ .3‬الرسول (الخاتم)‬ ‫‪ .4‬منهج التبليغ تربية وحكما‬ ‫‪ .5‬مضمون الرسالة أي كل ما سبق ولكن خاصة ما تذكر به الإنسان لينجح في مهمتيه أي‬ ‫التعمير والاستخلاف‪.‬‬ ‫وهذه هي العناصر التي تعتبر إشارات القرآن فيها ليست علما بالغيب بل توجيه للإنسان‬ ‫حتى يحقق شروط علم عالم الشهادة والعمل فيه بمثل عليا مستمدة من الإيمان بما يتعالى‬ ‫عليه أي من مثل عليا هي ما يشار إليه من نظام في الموجود وفي المنشود أصله في عالم الغيب‪.‬‬ ‫وأول مشكلة تعترضني وهي من الغيب هي مشكلة‪:‬‬ ‫كيف نتكلم في المرسل أي الله من دون أن ندعي علم الغيب ومن دون تأويل لأن كلام‬ ‫القرآن فيه كله من المتشابه بدلالة ليس كمثله شيء؟‬ ‫يعني كيف نتكلم في ما لا يمكن قياسه على عالم الشهادة؟‬ ‫ذلك هو اللغز الذي تبين لي أن حله هو في عكسه‪ :‬فكلام الله على نفسه في القرآن ليس‬ ‫قيسا للغيب على الشاهد بل هو العكس تماما أي قيس الشاهد على الغيب في شكل توجيه لما‬ ‫يمكن الإنسان من التعالي على الشاهد بالاشرئباب إلى مثل عليا غيبية هي ما به يكون‬ ‫الشاهد موجودا أولا ومأمورا ثانيا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫وهذه هي المعضلة‪ :‬كيف قلبت العلاقة في القياس من قيس الغائب على الشاهد إلى قيس‬ ‫الشاهد على الغائب الذي هو غيب وليس مجرد غائب يمكن أن يكون شاهدا في عالم‬ ‫الشهادة؟‬ ‫كيف يقيس القرآن الشاهد على الغيب وليس الغيب على الشاهد؟‬ ‫تلك هي المفارقة التي أعلم أنها عسيرة الهضم عند أصحاب العقول المحنطة‪ .‬فالقرآن‬ ‫يقدم الغيب الذي يتكلم على الله ليس كما هو بل كما يمكن للإنسان أن يتصور ما ينسبه‬ ‫إلى الله إذا كان مؤمنا به بالاعتماد على إطلاق يعلم استحالته في عالمه ويعتبره مثاله‬ ‫الأعلى‪ :‬أي إن المسلم مهما كان مستواه الفكري ودرجة ثقافته يعلم أن كلام القرآن على‬ ‫الله خاضع لما يترتب على مبدأ \"ليس كمثله شيء\" لكنه المثال الأعلى لكل شيء‪.‬‬ ‫أي إن الإنسان حتى العادي يعتبر الله مثالا أعلى لا مثيل له‪ .‬فكل ما يقال عنه يعبر عن‬ ‫المثال الأعلى بإطلاق لما ينبغي أن يسعى إليه عالم الشهادة خلقا وأمرا مع العلم أن المطابقة‬ ‫مع المثال الأعلى مستحيلة‪ .‬فالله مريد بإطلاق وعالم بإطلاق وقادر بإطلاق وجميل بإطلاق‬ ‫وجليل بإطلاق‪ .‬والمؤمن وحتى الملحد يعلم أنه لا يوجد شيء في عالم الشهادة مريد بإطلاق‬ ‫وعالم بإطلاق وقادر بإطلاق وجميل بإطلاق وجليل بإطلاق‪ .‬ولهذا شبهت الامر بالمقدرات‬ ‫الذهنية الرياضية‪ :‬فلا يوجد شيء في عالم الشهادة يطابق المفهومات الرياضية بإطلاق‪.‬‬ ‫ولنأخذ مفهوم الدائرة‪ :‬يستحيل أن يوجد شيء يطابق مفهومها لأنها مباشرة بعد النقطة‬ ‫يمكن أن تكون أوسع من كل العالم وأقرب شيء من العدم أي النقطة‪ .‬وكذلك العدد‬ ‫الحقيقي‪ :‬فبين واحد واثنين يمكن تصور اللامتناهي الذي لا يقبل العد‪ .‬وواحد واثنين لا‬ ‫وجود لهما لأنهما صفة لكائن أو لاجتماع كائنين أيا كانا‪ .‬وما قلناه عن المعاني الرياضية‬ ‫يمكن قوله عن المعاني القيمية‪ :‬فالجميل والجليل صفة ليس لها حد من أدنى مراتب الجمال‬ ‫والجلال إلى ما مرتبة اللاتناهي منهما‪ .‬وقس عليهما الحقيقية والخير والحرية والكرامة‪.‬‬ ‫فيصبح الأمر ليس قيس الغائب على الشاهد بل العكس تماما أي قيس الشاهد على مثل‬ ‫عليا لا يمكنه أن يطابقها مهما كان تاما بل تصور ما يمكن أن نفعله في عالم الشهادة لكي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫نتقرب من عالم الغيب بما نتخيله فيه من إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود نعلم أنها ليس‬ ‫فيها ما في الغيب من إطلاق وكمال لكن فيها ما يقربنا منه بوصفه مثالا أعلى‪ :‬فعندما نقول‬ ‫أخلاق الرسول هي أخلاق القرآن فهذا يعني أن الرسول هو أقرب إنسان لهذه الاخلاق‬ ‫لكنه مهما بلغ من الكمال فهو في نسبة رسم دائرة إلى مفهوم الدائرة‪.‬‬ ‫وذلك هو المعنى المقصود بقيس الشاهد على الغيب‪ .‬فلا يكون الأمر قيسا لموجود نسب‬ ‫بموجود أكمل فحسب بل هو قيس لمنشود نسب بموجود مطلق مع العلم بأن المنشود النسب‬ ‫هو ما يمثل العبادة أي إن الإنسان بذلك يؤمن بأنه لا معبود له إلا الله باعتباره مثاله‬ ‫الأعلى الذي يحاول تحقيق ما يطلبه منه في الرسالة التي وصلت إليها والتي تذكره بما فطر‬ ‫عليه‪ .‬وهو يعلم أن المطلوب منه ليس بلوغ الكمال بل السعي إليه‪ .‬فالعبادة من نوع واجب‬ ‫الوسيلة وليس من نوع واجب النتيجة‪ .‬فالنتيجة لا يعلمها إلا علام الغيوب لأنه رهن العلم‬ ‫بالسرائر التي لا يعملها حتى صاحبها‪ :‬فلا أحد يعلم سريرته يقين العلم وهو المعنى الأول‬ ‫لمفهوم اللاوعي‪ .‬ومن ذلك ما ذكره ابن خلدون في شفاء السائل عن سؤال عمر هل كان من‬ ‫المنافقين الذين عينهم الرسول‬ ‫وما فطر عليه هو ما وصفه الله بأنه ما لأجله خلقه (الإنس والجان) أي للعبادة التي تعني‬ ‫التوجه إلى المنشود المطلق مع العلم بأنه ليس كمثله شيء مما يمكن للإنسان أن ينشده‬ ‫لعلمه بأن إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده كلها نسبية ولا يمكن أن تكون مطلقة‪.‬‬ ‫فيكون الغيب معيار الشاهد وليس العكس‪ .‬والدين هو هذا الانشداد الدائم لمعيار مطلق‬ ‫مع العلم باستحالة المطابقة معه‪ .‬وتلك هي جاذبية الغيب الذي بمقتضاه يكون الفكر‬ ‫الإنسان دينيا كان أو فلسفيا مشدودا إلى ما يتعالى به على كل موجود إلى مطلق المنشود‪.‬‬ ‫ويترتب على ذلك أمران‪:‬‬ ‫• ليس لله صفات بل له أفعال يصفها الإنسان في دعائه لما يخاطب ربه (الإسراء ‪.)110‬‬ ‫• وكل أسمائه هي ما يدعوه الإنسان بها صفات لأفعاله وليس لذاته‪.‬‬ ‫وأفعاله نوعان هما‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫• الخلق أو القضاء‬ ‫• والامر أو القدر‬ ‫وكلاهما بكلمة كن إرادة وعلما وقدرة وحياة ووجودا‪ .‬ولا مثيل لها‪.‬‬ ‫ولا نستطيع أن نضيف شيئا لأن هذا ما يقوله القرآن‪ .‬ولا يمكن أن نقول عن الله أكثر‬ ‫مما يقول عن نفسه في الرسالة‪ :‬وكل ما يضيفه علم الكلام ترجيح بدون مرجح لأن التأويل‬ ‫لا يكون مقبولا إذا لم يوجد مرجع دلالة يحتكم إليه للترجيح كالحال في عالم الشهادة‬ ‫عندما نحتكم إلى التجربة لترجيح الفرضية المناسبة لتفسير الظاهرة المدروسة‪ .‬وكل‬ ‫تأويل يدعي البحث في معنى أن يريد الله أو أن يعلم أو أن يقدر أو أن يحيا أو أن يوجد‬ ‫بالقياس على هذه الأفعال عند الإنسان تشبيه افعال الله بأفعاله فيدعي أنه مثيل الله‪.‬‬ ‫وهنا تأتي أهمية نظرية المقدرات الذهنية النظرية (ابن تيمية) والعملية (ما أضفته‬ ‫قياسا عليه حتى أفهم ابن خلدون)‪ .‬فلا يوجد شيء مثيل للمعاني الرياضية في النظر ومثلها‬ ‫لا يوجد شيء مثيل للمعاني القيمية في العمل‪ .‬وإن كان كل شيء يقاس بنوعي المعاني‬ ‫الكلية المقدرة ذهنيا وهي لا تقاس على أي شي‪ .‬فإذا اعتبرنا هذا الفرق البسيط في‬ ‫المقدرات بنوعيها ورفعناه إلى اللاتناهي فهمنا معنى أن الغيب هو المعيار المطلق‪ :‬وهو أساس‬ ‫الدين والفلسفة في آن‪.‬‬ ‫والمعيار المطلق لا يقاس بأي شيء‪ .‬لكن كل شيء يقاس به‪ .‬بمعنى أننا لا نستطيع تصور‬ ‫شيء طبيعي أو تاريخي (آيات الله في الآفاق) أو عضوي او روحي (آيات الله في الأنفس)‬ ‫من دون قيسه بالمعيار المطلق من حيث خلقه ومن حيث قدره معرفة لا يمكن أن تكون محيطة‬ ‫وقيمة لا يمكن أن تكون تامة بل هما دائما غير مطابقتين والفواصل بينهما وبينهما لا‬ ‫متناهية بلا حد‪ .‬وهذا القلب للعلاقة بين الغيب والشاهد هو ما لا يقبله أصحاب العقول‬ ‫البسيطة التي تجعل الامر الواقع معيار الأمر الواجب‪ :‬وهو ما وصفته بوثن النخب‬ ‫العربية‪ .‬وهو علة الانحطاط وخاصة في ما يسمونه إبداعا أدبيا الذي صار تاريخا مشوها لا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫يتجاوز الترجمة الذاتية \"للزبراطة\" الذي لا يرون من الموجود فضلا عن المنشود إلى‬ ‫سرتهم‪.‬‬ ‫ومرد الإلحاد إلى وهم المطابقة في المعرفة والقيمة برد ما نعلمه وما نقيمه إلى علمنا‬ ‫وتقييمنا وهو ما يعني أننا نطلق أنفسنا فنزعم أننا صرنا مقياس الموجود على ما هو عليه‬ ‫ومقياس المنشود على ما هو عليه أو اعتبرنا الموجود والمنشود أمرين اتفاقيين ناتجين عن‬ ‫صدف متوالية بلانظام ولا غاية‪ .‬والانحطاط ليس شيئا آخر غير نتيجة الاخلاد الى‬ ‫الأرض‪ .‬فمن يجعل الأمر الواقع أمرا واجبا قد يعتبر أنجح الناس لأنه \"واقعي\" لكنه في‬ ‫الحقيقة لا يعدو أن يكون \"كالكلب يلهث سواء حملت عليه أو لم تحمل\"‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فالكلام إذا تجاوز البحث وصار يدعي العلمية فهو يضمر الإلحاد الناتج عن‬ ‫الإخلاد إلى الأرض سواء قال بالتشبيه أو نفاه فكان مشبها إلى حد التجسيم أو منزها إلى‬ ‫حد التعطيل لأنه في الحالتين يدعي التأله فينسب إلى نفسه الخلق والأمر المطلقين وليس‬ ‫قيس معرفته وتقييمه بهما مع حرز اللامماثلة بكل معانيها‪ .‬وهذا هو الإيمان الذي هو غاية‬ ‫البحث عن الحقيقة بقدر مستطاع الإنسان‪ .‬فما يقوله القرآن عن الله مثلا ليس شيئا آخر‬ ‫غير ما يتخيله الإنسان عنه في سعيه لتصوره مع علمه أنه ليس كمثله شيء‪ .‬ولا معنى‬ ‫لتسمية ذلك مجازا‪ :‬لأنه لا وجود لوجه شبه أصلا‪.‬‬ ‫وبذلك فالأسماء الحسنى ليست أسماء الله في ذاته بل هي ما به يدعو الإنسان ربه ‪-‬سواء‬ ‫كان مؤمنا أو ملحدا‪-‬لأن دعاء العرفان وحده هو الخاص بالمؤمن‪ .‬دعاء اليأس مشترك بين‬ ‫المؤمن وغير المؤمن ويضرب القرآن أمثلة عن موقف الإنسان الخائف في لجة البحر وتنكره‬ ‫بعد خروجه وزوال الخطر المحدق به‪ .‬وهو دعاء يمكن أن يعتقد البعض أن القرآن لم‬ ‫يستثن منه حتى الرسل (يوسف ‪ .)110‬لكنه في الحقيقة يستثنيهم منه لأن الرسل لا‬ ‫ييأسون إذ هم يعلمون حكم من ييأس من روح الله‪.‬‬ ‫ولست غافلا عن الاعتراضات التي قد تعتمد حجج لغوية‪ .‬فقد يعترض متفاقه في اللسان‬ ‫فيسأل‪ :‬كيف نفيت الصفات عن الله والقرآن يبدو مليئا بها وهي من أهم مباحث علم‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫الكلام؟ لكن لو حللناها وأهملنا تخريف المتكلمين لوجدناها ترد كلها اسم الفاعل بصيغة‬ ‫المبالة‪ :‬فعليم صيغة مبالغة من اسم فاعل هو \"عالم\" بإطلاق وصف فعله عليه وسمي به كما‬ ‫يسمى اسم المفعول بانفعاله‪ :‬نقل صفة الفعل إلى الفاعل وهو معنى اسم الفاعل ونقل صفة‬ ‫الانفعال إلى المنفعل وهو معنى اسم المفعول به‪.‬‬ ‫وكل الاسماء الحسنى هي من هذا النوع وهي أنواع الدعاء الموجه من المؤمن لربه‪ .‬ومثلها‬ ‫ما يسمى صفات مثل الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود‪ :‬فهي فعل أراد وعلم وقدر‬ ‫وحيي ووجد‪ .‬فهذه صفات لفعل الله وتحدد أنواع الخالق أو أنواع الآمر وليست صفات‬ ‫ذاته‪ .‬من ذلك أن الإرادة هي بدورها تقال بصيغة مبالغة مشتقة من الفعل \"فعال لما يريد\"‬ ‫أو صفة القدرة \"قادر على كل شيء\" بمعنى قدير‪ .‬وبذلك يتبين أن كل قضايا علم الكلام‬ ‫هي إما فلسفية غير مفهومة أو لغوية غير محللة التحليل الكافي‪.‬‬ ‫وذات الله وفعلاه في ما عداه‪-‬الخلق بكن والأمر بكن‪ -‬كلاهما غيب مطلق والأسماء‬ ‫وصفات الافعال كلها تعود إلى ما يتصوره الإنسان ربه عليه في الدعاء وفي فهم الاستجابة‬ ‫إما بالخلق أو بالأمر المتعلقين بما لأجله يتوجه الإنسان إلى ربه باعتباره وراء للمعرفة أو‬ ‫للتقييم‪ .‬فما يحيط بالإنسان من الآفاق (الطبيعة والتاريخ) وما تتقوم به الأنفس (عضويا‬ ‫وروحيا) يمكنه أن يعلم نظامها باجتهاده وأن يقيمها بجهاده دون أن يكون له علم محيط أو‬ ‫تقييم تام بخلقها وأمرها اللذين هما من الغيب المطلق‪ .‬وما يعلمه وما يقيمه كاف لقيامه‬ ‫لأنه شرط قيامه وهو ما تذكره به الرسالة الخاتمة فتحدد استراتيجية سياسة تكوينه تربية‬ ‫وحكما‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫كان ما وصلنا إليه أمس في الفصل الأول من هذه المحاولة في كلامنا على المرسل (الله)‬ ‫بالاقتصار على ما يقوله القرآن للتعريف به يثبت حقيقتين‪ :‬الحقيقة الأولى هي طبيعة‬ ‫العلاقة بين العالمين عالم الشهادة وعالم الغيب إذ أن هذه العلاقة هي قيس الأول على‬ ‫الثاني بعكس ما يفعل الكلام الذي يقيس الغائب على الشاهد خلطا بين الغائب والغيب‪.‬‬ ‫والقرآن يثبت حقيقة الدين ودوره بطريقة مقابلة تمام المقابلة للطريقة التي يعمل بها‬ ‫علم الكلام‪ .‬وبخلاف الرؤية الافلاطونية في تعريف الحب فإن الوعي بالحاجة إلى ما‬ ‫يتجاوز الذات ليس نقصا بل هو التمام الإنساني‪.‬‬ ‫فوعي الإنسان بعدم كماله في القياس المقابل للقياس الكلامي هو كمال الإنسان أي الوعي‬ ‫بما يتعالى عليه وبوجود ربه‪ .‬ووعي الإنسان بوجود ربه هو أساس تعريف ابن خلدون‪:‬‬ ‫للإنسان \"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‪ .‬فلا معبود له غير الله الذي‬ ‫استخلفه‪\" .‬طبعه\" أنه لا معبود له سواه فيكون حرا بإطلاق إزاء كل شيء‪ .‬واقتضاء‬ ‫الاستخلاف ذلك معناه أن الوعي بالتعالي هو أساس الاستخلاف وهو العبادة‪.‬‬ ‫والرئاسة كمال ذاتي عكس السيادة التي هي تضايف مع الضعف‪ :‬إذ هي تنتج عن صراع‬ ‫حيواني يجعل الإنسان الضعيف عابدا للإنسان القوي الذي يشعر بأنه سيد لعبد وليس‬ ‫رئيسا بطبعه‪ .‬ولهذا كان شعار الفتح الإسلامي في الرد على قائد الفرس \"جئنا لنحرركم‬ ‫من عبادة العباد بعبادة رب العباد\" حتى نكون جميعا رؤساء أو خلفاء لله وحده وليس عبيدا‬ ‫لمن يتأله من الطغاة فيصبح سيدا ويقسم البشرية بالعرق أو بالطبقة أو الجنس لأننا نؤمن‬ ‫بمبدأين‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأخوة البشرية (النساء ‪)1‬‬ ‫‪ .2‬وحصر التفاضل في تقوى الله لا غير (الحجرات ‪.)13‬‬ ‫وهذا هو المقصود بتعريفي القرآن في محاولة قراءتي له قراءة فلسفية بـ\"استراتيجية‬ ‫القرآن التوحيد ومنطق السياسة المحمدية\" بمعنى توحيد الإنسانية بمقتضى توحيد الله‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫الذي لا معبود سواه أي إن الإنسان رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف‪ .‬ومن يدعي الألوهية‬ ‫فيستعبد البشر ومن يقبل أن يستعبد كلاهما دون منزلة الإنسان الخليفة‪ .‬ويترتب على‬ ‫ذلك أن الرسول لم تكن مهمته مقصورة على تبليغ هذه الرسالة فحسب بل تحقيق هذا‬ ‫المعنى في عينة من البشر تطبق المبدأين بالسياسة من حيث هي تربية وحكم‪.‬‬ ‫وبذلك نصل إلى المسألة الثانية أي مسألة المرسل إليه (الإنسان)‪ .‬فبعد المرسل (الله)‬ ‫يأتي في ترتيب الأهمية والحضور في نص القرآن المرسل إليه (الإنسان) بحيث إن القرآن‬ ‫يقبل التعريف بكونه سياسة تربيته وحكمه بما عرفه ابن خلدون وذلك بقيس قيس عالم‬ ‫الشهادة الذي هو شرط بقائه بجعله يشرئب إلى مثل عالم الغيب‪ .‬وهو موقف مطلق المقابلة‬ ‫مع موقف علماء الكلام‪.‬‬ ‫وطبعا فهذا القياس يبدو مفارقة كبيرة لأن يبدو منافيا لمعنى القيس إذ كيف نقيس‬ ‫معلوما بمجهول؟‬ ‫وتلك هي الحقيقة الثاني التي توصلنا إليها‪ :‬وهي أن الإنسان أو المرسل إليه إنسانيته‬ ‫هي هذا الوعي بكونه خليفة أي إن جوهر وجوده هو عبادة الله والتحرر من كل معبود‬ ‫سواه تصديقا لقوله تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدو ِن}‪ .‬ولا يمكن لمن يعبد‬ ‫غيره أن يكون حرا أو رئيسا بل يصبح تابعا لغير الله أي لمستبد تكون علاقته به علاقة‬ ‫عبد بسيد‪ .‬فنقيد معاني الإنسانية‪ .‬ولذلك وصل القرآن عبادة الإنسان للرب وحده‬ ‫بشرطين هما تعمير الأرض لئلا يتبع غيره في رزقه وتحقيق قيم الاستخلاف ليكون رئيسا‬ ‫بالطبع‪.‬‬ ‫الرئاسة بالطبع ليست علاقة تضايف مع السيادة التي هي سيادة على عبد وكلاهما فقد‬ ‫انسانيته التي هي كونه خليفة‪ .‬والشرط الأول هو تعمير الأرض أساس رئاسته الطبيعي‬ ‫لأنه يحرره من التبعية لغير ذاته والشرط الثاني هو قيم الاستخلاف أي معاني الإنسانية‬ ‫التي لا معبود لها غير الله‪ .‬فكلما كان الإنسان محتاجا لغيره في سد حاجاته صار عبدا لغير‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫الله‪ .‬وكلما كان متحررا من عبادة ما به يسد حاجاته راعى قيم الاستخلاف فصار رئيسا‬ ‫بمقتضاه‪.‬‬ ‫وبذلك لن يسيطر عليه غيره ولا يعبد غير الله كما أنه لن يسيطر على أحد لعلمه بأن‬ ‫أي إنسان اخوه ومساو له ولا يتفاضلان إلا بالتقوى‪ .‬وتلك عزة الإسلام وكونية الإنسانية‬ ‫فيه‪ .‬فيترتب على ذلك من ثم أن التربية والحكم أداتي التبليغ تستدفان تحرير المرسل‬ ‫إليه أي الإنسان كل إنسان من هذين الخطرين‪:‬‬ ‫‪ .1‬عدم التعمير المؤدي إلى التبعية لغير الله‬ ‫‪ .2‬تحول التعمير إلى عبادة ما يسد الحاجة بدل السلطان عليه‪.‬‬ ‫فيكون الإنسان مهددا إما بالعبودية لبشر مثله أو لما يسد حاجاته فلا يتعالى عليه‪.‬‬ ‫وغالب البشر يعبدون ما يسد الحاجة فيصبح غاية ويعبدون من يسيطر على ما يسد الحاجة‬ ‫فيؤلهوه‪ .‬وذلك هو الخسر الذي تهدف الرسالة تحرير المرسل إليه منه‪:‬‬ ‫‪ .1‬الوعي بالخسر في سورة العصر ولا يحرر منه فرديا إلا‬ ‫‪ .2‬الإيمان‬ ‫‪ .3‬العمل الصالح‪ .‬لكن التحرر لا يتم إذا كان فرديا وتلك هي علة كونه سياسيا وإذن‬ ‫فلا بد من التحرير الجماعي بـ‬ ‫‪ .4‬التواصي بالحق لمعرفة قيم الاستخلاف‬ ‫‪ .5‬والتواصي بالصبر لتحقيقها في التاريخ الفعلي‪.‬‬ ‫وتلك هي السياسة في الرؤية القرآنية وهي مرادفة للإسلام‪ :‬لذلك فوصف الإسلام‬ ‫السياسي \"بليوناسم\"‪ .‬فتكون سورة العصر ملخص ما تذكر به الرسالة المرسل إليه وهو عين‬ ‫ما هو مرسوم في كيان الإنسان بحيث إن الإسلام هو بالجوهر سياسة التعمير بقيم الاستخلاف‬ ‫اللذين هما عين العبادة التي كلف بها الإنسان ليثبت جدارته بالاستخلاف بوصفه اجتهادا‬ ‫معرفيا وجهادا قيميا يختبر بهما لكونه قبل أمانة العبادة الحرة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫لا يمكن لأي قارئ ذي بصيرة للقرآن أن يجهل أن كل كلام الله على الإنسان فيه هو علاج‬ ‫ما يحول دون الإنسان وهذين الدورين‪:‬‬ ‫‪ .1‬التعمير لئلا يكون مضطرا ليصبح تابعا لغير الله بسبب الرزق‬ ‫‪ .2‬مراعاة قيم الاستخلاف لئلا يصبح عبدا لدنياه فاعلا أو منفعلا‪.‬‬ ‫وتلك هي مهمة السياسة تربية وحكما‪ .‬والأولى للوزع الذاتي النابع من ضميره وأخلاقه‬ ‫والثانية للوزع الأجنب النابع من السلطة الرادعة باسم القانون‪ .‬والوزع الذاتي مصدره‬ ‫الضمير والتربية الخلقية والوزع الأجنب مصدره ردع العرف والقانون‪.‬‬ ‫ولهذه العلة اعتبرت الكلام على الإسلام ووصفه بالسياسي من لغو الكلام‪ .‬فكلمة الإسلام‬ ‫إذا لم يكن محرفا وحدها تكفي‪ .‬وكلمة سياسة إذا كانت راشدة وحدها تكفي‪ .‬جوهر‬ ‫الإسلام هو سياسة عالم الشهادة لتعميره بقيم الاستخلاف‪ .‬ولا توجد طريقة أخرى لتحقيق‬ ‫ذلك من دون تربية الأجيال بما يجعلهم قادرين على ذلك وتنظيم الجماعة بقيم‬ ‫الاستخلاف‪ .‬وجوهر السياسة الإسلامية هي تحقيق شروط وجود الإنسان السلمي بفضل‬ ‫الوازع الذاتي غاية التربية والوازع الأجنب غاية الحكم‪.‬‬ ‫ولأثبات هذه الحقيقة في رؤية القرآن للمرسل إليه أي الإنسان واعتبار القضية هي‬ ‫قضية تربيته وحكمه أي سياسته في عالمه الشاهد بقيم عالمه الغيب فسرت سورة هود التي‬ ‫قال عنها الرسول إنها قد شيبته هي وأخواتها‪ .‬وكنت أعجب من قول الرسول ذلك‬ ‫وتخصيصه بهود التي أتبعها بأخواتها الأربع‪:‬‬ ‫‪ .1‬الواقعة‬ ‫‪ .2‬والمرسلات‬ ‫‪ .3‬والنبأ‬ ‫‪ .4‬والتكوير‪.‬‬ ‫فتكون هذه السور الخمسة الملخص الجامع المانع لما يجعل المرسل إليه بحاجة إلى التذكير‬ ‫لأنها تحدد علل النسيان الذي يحوجه إليه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫ولم يهنأ لي بال حتى فهمت ما يمكن أن يشيب الرسول الخاتم في علاقة بما كلف به ليكون‬ ‫الرسول الخاتم الذي يعالج ما لم يختم في الرسالات السابقة أي ما حال دونها وتحقيق‬ ‫الرسالة بصورة تجعلها كونية وعين الديني بداية (اسلام الفطرة) وغاية (الإسلام الذي‬ ‫يحققها فعليا في التاريخ الإنساني)‪ .‬فتذكير المرسل إليه ليس مجرد خطاب قولي بل هو‬ ‫فعل حقيقي بتربيته وحكمه تربية وحكما يجعلانه مربي نفسه وحاكمها لما يتذكر ما جهز به‬ ‫وتلك هي علاقته بالمرسل كما تبين شهادته منذ كان في ظهر أبيه‪.‬‬ ‫وحتى أوضح ما فهمته فلنضع هود في قلب مخمس السور التي شيبت الرسول‪ .‬ولنضع على‬ ‫يسارها الواقعة والمرسلات وعلى يمينها النبأ والتكوير‪ .‬ولنقرأ سور هود بوصفها مركز هذه‬ ‫السلسلة من السور التي تحدد علاقة المرسل بالمرسل إليه من حيث الحاجة إلى تذكيره بما‬ ‫يعوقه في تحقيق مهمتيه معمرا ومستخلفا‪ .‬ولنقرأ هود في ضوء ما تفيده سورتا اليسار‬ ‫وسورتا اليمين من حولها‪ .‬فاليساريتان تصفان الآخرة والتكذيب بيوم الدين أي بالبعث‬ ‫والحساب‪ .‬واليمينيتان تخبران بيوم الدين وعلامات نهاية الدنيا وبداية البعث‪.‬‬ ‫وهود التي هي قلب المعادلة وتحدد ما بين العالمين عامل الشهادة وعالم الغيب تحدد‬ ‫معوقات تحقيق المهمتين وعلاقة فلسفة الدين بفلسفة التاريخ‪ :‬إنها تحدد سياسة عالم‬ ‫الشهادة عند من ينسى البعث والحياة الآخرة إذا لم يعمل بالرسالات وعند من لا ينساهما‬ ‫إذا عمل بالرسالات‪ .‬فتكون العلاقة هي بين رؤيتين للوجود والحياة‪ :‬الرؤية التي تحرر‬ ‫أصحابها من الخسر وهي التي تطبق ما تستطيع من مثل عالم الغيب في عالم الشهادة‬ ‫والرؤية التي غرق أصحابها في عالم الشهادة ونسوا عالم الغيب فكانوا من المخلدين إلى‬ ‫الأرض‪.‬‬ ‫والآن فلنقرأ سورة هود بما يعنيه قيس الشاهد على الغيب وليس العكس كما اعتاد عليه‬ ‫المتكلمون‪ .‬فقيس الشاهد على الغيب أي عكس قيس الغائب على الشاهد عند المتكلمين هو‬ ‫سياسة عالم الشهادة بمعيار قيم عالم الغيب أي المطلق من الإرادة الخيرة والعلم الصادق‬ ‫والقدرة الخيرة والحياة الجميلة والوجود الجليل التي هي أفعال الله الخالق والآمر‪ .‬وكل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫هذه الأفعال المطلقة مستحيل تصورها أفعالا للإنسان موجودة لكنها ليست مستحيلة نشدانا‬ ‫ليس مستحيلا نشدانا‪ .‬وذلك هو معنى جعل الله آدم خليفة في الدنيا‪.‬‬ ‫سورة هود فيها ذكر سبعة رسل‪ .‬ثلاثة ورد ذكرهم قبل إبراهيم‪ .‬وثلاثة ورد ذكرهم‬ ‫بعده في ترتيب السورة‪ .‬فقبله نوح وهود وصالح‪ .‬وبعده لوط وشعيب وموسى‪ .‬والقلب‬ ‫ابراهيم‪.‬‬ ‫فما مشكل الـثلاثة الأول؟‬ ‫وما مشكل الـثلاثة الأواخر؟‬ ‫ولماذا ابراهيم في القلب من هذه المعادلة العجيبة التي تحدد اللقاء بين الدين والتاريخ؟‬ ‫ولماذا كان هذا اللقاء مشيبا للرسول الخاتم؟‬ ‫الجواب يحدد ما في المرسل إليه من معوقات تنسيه ما فطر عليه وما تذكره به الرسالة‬ ‫الخاتمة‪.‬‬ ‫وعلة الشيب هي ما يراه الرسول من هذه المعوقات التي عليه علاجها بالتربية والحكم‪.‬‬ ‫والآن إذا رأيتموني استعمل التأويل في كلامي على الغيب فأوقفوني واعتبروني قد أخلفت‬ ‫وعدي بأني أرفض استعمال التأويل الذي جعل الكلام يقيس عالم الغيب على عالم الشهادة‬ ‫خلطا بين الغيب والغائب‪ .‬فكل ما سأقدمه لا يمكن ألا يراه أي إنسان مهما قلت خبرته بعالم‬ ‫الشهادة ليفهم أني لا أتجاوز ما هو من عالم الشهادة‪ .‬لن أتعرض لعالم الغيب الذي يقيس‬ ‫القرآن عليه عالم الشهادة بأعمال بطريقة المتكلمين‪.‬‬ ‫نبدأ على بركة الله‪.‬‬ ‫فما الحل الذي أمر القرآن نوحا بعمله؟‬ ‫ألم يأمره بصنع السفينة؟‬ ‫واخذ زوجين اثنين من كل شيء للإنقاذ من الطوفان؟‬ ‫أليس معنى الأول الصناعة ومعنى الثاني الزراعة ومعنى الثالث التحرر من سلطان‬ ‫الطبيعة على الإنسان بما للإنسان من قدرة على إبداع السفينة والزراعة؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫هل يمكن أن نفهم ذلك بغير الأمر بضرورة التحرر من الطبيعة (الطوفان) بتعمير‬ ‫الأرض لسد حاجاته بعمله الصناعي والزراعي بعلم على علم؟‬ ‫أليس هذا معنى \"استعمركم في الأرض\" أي كلفكم بتعميرها حتى لا تدينوا لغير الله في‬ ‫الدنيا فتكونوا أحرارا فلا تستعبدكم الطبيعة بشحها أو بجوائحها لأن الله سخرها لكم ولكن‬ ‫بشرط أن تستعملوا ما جهزكم به حتى تنتجوا بأنفسكم ما يسد حاجاتكم شرطا لقيامكم‬ ‫الحر والمتحرر من العبودية لغير الله؟‬ ‫أليست العبودية للطبيعة هي التي تجعل الإنسان عاجزا عن سد حاجاته والخضوع لمن‬ ‫يسيطر عليه بها؟‬ ‫سأقفز مباشرة إلى النب الأخير في القائمة الواردة في سورة هود‪ :‬موسى‪ .‬فلنقارن ما‬ ‫طلب منه بما طلب من نوح‪ .‬نوح كلف بما يحرر من طغيان الطبيعة على الإنسان‬ ‫(الطوفان)‪.‬‬ ‫بماذا كلف موسى؟‬ ‫كلف بتحرير الإنسان من طغيان الحكم السياسي (فرعون)‪.‬‬ ‫وكيف ذلك؟ بمحاولة الأقناع وعند الفشل بالهجرة (تماما كما فعل الخاتم) أي الوعي‬ ‫بما يتعالى عليه والوعي بوجود ربه مصدرا لكل المثل العليا التي بها يعير أفعاله في عالم‬ ‫الشهادة‪.‬‬ ‫ولننظر الآن في ما بين نوح المكلف ببيان شروط التحرر من أقصى طغيان الطبيعة على‬ ‫الإنسان فتسيطر على حاجاته المادية ويعبدها ‪-‬وذلك هو سر الوثينات الطبيعية‪-‬وموسى‬ ‫المكلف ببيان شروط التحرر من أقصى طغيان الإنسان على الإنسان بالسيطرة على حاجاته‬ ‫المادية والروحية وذلك هو سر الوثنيات السياسية‪ :‬سنجد أدوات السيطرتين على الإنسان‬ ‫قبل وبعد الحل الإبراهيمي وهي أربعة‪.‬‬ ‫فقبل ابراهيم أداتان لاستعباد البشر هما السيطرة على توزيع الثروة والسيطرة على‬ ‫توزيع الماء‪ .‬وبعد إبراهيم أداتان كذلك هما‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫• السيطرة على الجنس وتحريفه‬ ‫• والسيطرة على شروط التبادل الاقتصادي العادل وتحريفه‪.‬‬ ‫ولو أخذنا توزيع الماء وتحريف الجنس لوجدنا السيطرة على شرطي الحياة الكيمياوي‬ ‫والعضوي (هود وصالح)‪ .‬ولو أخذنا توزيع الثروة وتحريف التبادل الاقتصادي لوجدنا‬ ‫السيطرة على شرطي العيش المشترك (لوط وشعيب)‪.‬‬ ‫بعبارة أوجز فإن ما نجده بين نوح وموسى هو كل المسائل التي ترد إليها سياسة عالم‬ ‫الشهادة بمعيار عالم الغيب أي إن ما يحدث في عالم الشهادة من سياسة البشر لأمرهم إذا‬ ‫ناقضت مثالها الأعلى في سياسة عالم الغيب فإنها تؤدي إلى العبوديتين لغير الله أي عبودية‬ ‫طغيان الطبيعة وعبودية طغيان السياسة‪ .‬وهذان الطغيانان يكونان بفساد الأربعة بينهما‬ ‫وطبعا فساد القلب أي ما فساد ما يمثل إبراهيم إصلاحه‪.‬‬ ‫من لم تشيبه هذه المعوقات الكامنة في الإنسان وفي شرطي بقائه الطبيعي والسياسي إذا‬ ‫فهم أنهم مكلف بعلاجها وفهم عسر علاجها لا يمكن أن يكون عاقلا فضلا عن أن يكون رسولا‬ ‫خاتما بعث مبشرا ومنذرا ومكلفا بتحقيق الحلول التي تمكن من تجاوز فشل كل الرسالات‬ ‫السابقة كما في سورة هود أو بعدها بتحريفها كما يقصها القرآن في نقده للتحريف بمنهج‬ ‫التصديق والهيمنة القرآني وهي نفس المعوقات التي تتكرر في كل لحظات التاريخ‬ ‫الإنساني‪.‬‬ ‫فما مشكل هود؟ صلف أصحاب الثروة واستبدادهم بالأرزاق‪.‬‬ ‫وما مشكل صالح؟ صلف رافضي سقاية الناقة التي هي رمز المحافظة على الماء حيث ينعدم‬ ‫أي في الصحاري‪.‬‬ ‫وما مشكل لوط؟ تحريف وظيفة الجنس التي لم تحافظ إلا على اللذة دون الوظيفة‬ ‫التناسلية‪.‬‬ ‫وما مشكل شعيب؟ فقدان المكاييل والموازين أي علة التطفيف وفساد التبادل العادل‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫هل توجد مشاكل أخرى في سياسة العيش المشترك بين البشر عيشا سلميا بوصفهم أخوة‬ ‫ومتساوين اختلافهم وتنوعهم ثروة هدفها التعارف معرفة ومعروفا؟‬ ‫هل القرآن يعير الإنسان بعد الحريتين من الطغيانين (نوح وموسى) بغير مواقفه من‬ ‫علاج هذه المشاكل التي تفسد حياة البشر المشتركة فتلغي الأخوة والسماوات وتحولهما إلى‬ ‫حرب معيارها العرقية والطبقية والجنسية وليس التعارف معرفة ومعروفا فلا يبقون اخوة‬ ‫(عكس النساء ‪ )1‬ويتفاضلون بغير التقوى (عكس الحجرات ‪)13‬؟‬ ‫وهذه الظاهرات هي صفات المرسل إليه عندما ينسى والتذكير هدفه إيقاظه من الغفلة‬ ‫والنسيان‪.‬‬ ‫وهل كان ذلك يكون كذلك لو لم ينس الإنسان أنه مائت وأن له حياة أخرى يحاسب فيها‬ ‫على أفعاله في هذه الدنيا على الخسر أي عدم التحرر من العبوديتين لاستبداد الطبيعة‬ ‫ولاستبداد السياسة بدل العبودية لله وحده وتحقيق شروط حريته بالتعمير لسد حاجاته‬ ‫وبالاستخلاف لسدها بغيب القيم السامية ومثله‪ .‬وإذن فكلام القرآن على المرسل إليه ‪-‬‬ ‫الإنسان‪ -‬هو لتذكيره بهذه المسائل وعلاجها المتمثل في سياسة عالم الشهادة بقيسه على‬ ‫عالم الغيب الذي يعلم النسبة بينه وبين الشهادة وهي نسبة المثال غاية للنشدان‪.‬‬ ‫وهنا تبرز منزلة قلب هذه المعادلة أي حضور ابراهيم بين الثلاثة الأول والثلاثة‬ ‫الثواني في سلسلة هذه الرسالات‪ .‬فهو رمز التوحيد بعد الإشارة في آيات الأفول رمزا لفعل‬ ‫التحرر من أسمى ما في الطبيعة أي النظام الفلكي وما ترتب عليه من التحرر من أهم‬ ‫تحريف للسياسة أي الوثنية التي كان عليها قومه‪ .‬والحل الذي يشمل ما تقدم عليه في‬ ‫السلسلة أي عبودية الطبيعة وسوء توزيع الثروة والماء وما تأخر عنه أي عبودية السياسة‬ ‫وسوء التبادل والجنس هو الوحدانية التي تجعل الإنسان لا يعبد إلا الله وحده لا شريك‬ ‫له‪.‬‬ ‫فتفهم حينها لماذا يمكن أن نسمي محمدا ابراهيم الثاني أو ابراهيم الذي حقق ما عجز‬ ‫دونه ابراهيم حتى وإن كان قد وضع حجر الأساس روحيا بمبدأ الوحدانية وماديا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫بإسماعيل وتأسيس المسجد الحرام وتحرير البشر من التضحية بهم (رمز الأضاحي في العيد‬ ‫الكبير)‪ .‬فروحيا بأن بشر بالتوحيد الخالص وماديا بأن أنزل جد الرسول في أرض جدباء‬ ‫ليس فيها ضرع ولا زرع حتى يعيد حفيده محمد الإنسانية فيستأنف وجودها عن عدم‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فالبشرى التي أتى بها الملائكة لإبراهيم والتي أضحكت زوجته لا تشير لا‬ ‫إلى اسماعيل ولا إلى اسحاق بل إلى محمد لأن مضمون هود وأخواتها مضمونها الذي شيبه‬ ‫يعني أن الكلام يدور حول دوره أو بنوته الروحية للوحدانية الابراهيمية‪ :‬فهو ابن‬ ‫ابراهيم الروحي وليس البايولوجي الذي بعث حيث رمي بجده وأمه في الصحراء القاحلة‬ ‫التي ستكون قلب الإنسانية المتحدة بمبدأي النساء ‪ 1‬والحجرات ‪ 13‬واستراتيجية الرسالة‬ ‫هي ما ورد في الرسالات التي تحيط بإبراهيم في سورة هود قبله وبعده‪.‬‬ ‫المشيب في هود واخواتها هو هذه المهمة التي لم تعد مجرد تبليغ رسالة بل تحقيقها في‬ ‫التاريخ الفعلي أو على الاقل تحقيق عينة منها بقلب ما يجري أي بجعل الغيب محددا لقيم‬ ‫الشاهد نقلا إياه من الموجود إلى المنشود بوصف ذلك هو معنى كون الإنسان \"رئيسا بطبعه‬ ‫بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‪ .‬وهذا الانقلاب الذي يجعل عالم الغيب عالم مثل تحدد‬ ‫المنشود الذي يقتع بمقتضاه إصلاح الموجود أي عالم الشهادة وجعله متعاليا على الأمر‬ ‫الواقع بالأمر الواجب هو إصلاح ما في المرسل إليه يعرفه القرآن بالخسر والنسيان‪.‬‬ ‫وهو ما يعني أن الديني والفلسفي يشتركان في كونهما مصدر المثل التي بها ينتظم وجود‬ ‫الإنسان حتى يرتقي نحو منشوده فلا يخلد إلى الأرض‪ .‬ولذلك فلا توجد فلسفة ولا دين‬ ‫ليس بينهما هذه الرؤية التي تنفي أن يكون الموجود في عالم الشهادة معيارا للمنشود في‬ ‫عالم الغيب بالمعاني المتعالية معرفيا وقيميا‪ .‬وكل من يجعل الامر الواقع مثالا ينتهي إلى‬ ‫الرد أسفل سافلين بلغة القرآن أو ما يرمز إليه الانتقال من \"أحسن التقويم\" إلى \"الرد‬ ‫أسفل سافلين\" وقد عرف ابن خلدون ذلك بمفهوم \"فساد معاني الإنسانية\"‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فيمكن أن يعتبر الإنسان المعاني الكلية التي هي مقدرات ذهنية نظرية‬ ‫وعملية لا توجد إلا في ذهن الإنسان وحينها يتعذر عليه تمييزها عن النفسيات أو أن يعتقد‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫أن لها قياما ذاتيا أرقى من العالم الحسي والمادي وهي التي من دونها لا يمكن أن نعلم شيئا‬ ‫أو أن نقيمه مع اليقين بأنه مهما سما لن يطابقهما‪ .‬وإذن فلنا ظاهرتان تشبهان هذا القيس‬ ‫المعاكس لقيس المتكلمين‪ :‬فالمعاني الكلية الرياضية في النظر أو الخلقية في العمل لا تقاس‬ ‫على الأمر الواقع في الطبيعة أو في التاريخ بل لا بد من العكس‪.‬‬ ‫ولا أحد ممن له وعي بذاته من حيث هو إنسان يمكن أن يدعي أنه لا يميز بين ما هو‬ ‫أمر واقع في كل مجريات حياته وما هو أمر واجب يجعله لا يقبل بالأمر الواقع الذي يمس‬ ‫من حرية إرادته وصدق معرفته وخير قدرته وجمال حياته وجلال وجوده‪ .‬وهذه الفروق‬ ‫هي ما من دون يفقد احترامه لنفسه ورؤيته لذاته‪ .‬وكل فعل للتغير الأمر الواقع يقتضي‬ ‫تصور أمر واجب لا يمكن تحديده بقيسه على الأمر الواقع لأنه ليس له مثيل فيه إذ المنشود‬ ‫لا يكون في الموجود‪ .‬وكل من يحاكي موجودا يكون نسخة باهتة منه‪.‬‬ ‫وتلك هي علة المقلدين الذين لا يخرجون من التبعية أبدا والفرق بين الانشداد إلى‬ ‫مثل عليا منشودة وتقليد الموجود يوصلنا إلى حقيقة المرسل إليه في الرؤية القرآنية بوصفه‬ ‫مشدودا إلى منشود مثالي من عالم الغيب‪ .‬وتلك هي الفطرة التي تجعل الإنسان شبه‬ ‫برزخ بين عالمين عالم الشهادة بوصفه يراه دائما موجودا لكنه يعتبر وجوده أمرا واقعا‬ ‫وليس أمرا واجبا ومن ثم فهو عنده مشدود إلى أمر واجب هو المنشود‪ .‬لكنه لا يعلم منه‬ ‫إلا أنه المتعالي والغيب والمثال‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أنه حتى لو كان من عتاة الملحدين فهو لا يستطيع أن يكون من عتاة‬ ‫الاستسلاميين للأمر الواقع‪ .‬فيكون ما يدعي أنه ثورة على ما لا يرضيه من الموجود علته‬ ‫الذي هو جوهر كيانه يؤديه إلى الاستسلام إليه عندما يصبح \"فاتاليست\" فلا يعتقد أنه‬ ‫يوجد ما يتعالى على الموجود وينفي كل منشود يحرره من طغيانه‪ .‬ولذلك فلا يوجد ملحد‬ ‫ليس خاضعا لليأس لأن وجوده الدنيوي لا يمكن أن يشفي غليله فيصبح ذا نزعة عدمية‬ ‫حتما‪ .‬وغالبا ما يغرق في الملهيات والمخدرات وحتى الانتحار إما ما ديا أو روحيا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫أي إن الملحد ينتهي إلى التسليم بالتخلي عما جعله يثور على الأمر الواقع ‪-‬كل الحجج‬ ‫المستعلمة ضد الظلم والمرض والفناء في حياة الإنسان‪-‬فتكون أدلة الملحد هي قلب نظرية‬ ‫العدل ألإلهي باستدلال ضمني‪ :‬لو كان الله موجودا لما وجدت هذه العاهات ولا يدري أن‬ ‫وصفه إياها بالعاهات هو عدم رضاه بالموجود وانشداده إلى المنشود‪ .‬وجودها يدعو‬ ‫لتفضيل نفي وجود الله على وصفه بالعجز الذي سمح بها فيكون بنحو ما كفر بوجود الله‬ ‫على أن يقبل به منقوصا‪.‬‬ ‫لكن لو فهم الإنسان أن علمه ليس محيطا وأن علمه ليس تاما لأدرك أن استدلاله مبني‬ ‫على مقدمتين كلتاهما لا تستقيم‪ :‬الأولى هي أنه يتصور علمه محيطا ومن ثم فهو يعتقد‬ ‫أحكامه على عالم الشهادة مطابقة لحقيقته علما وقيمة‪ .‬والثانية هي أن عالم الشهادة‬ ‫مكتف بنفسه وأنه الوحيد ولا شيء يتعالى عليه فيصبح سيجين خطأيه‪ .‬فاعتقاده في وحدة‬ ‫العالم يجعله سجنا لأن العالم مهما كان واسعا فهي دون أجنحة خياله‪ .‬واعتقاده أن علمه‬ ‫محيط يزيد في ضيق السجن لكأنه جعل حياته مجانسة لحياة سجين في زنزانة تزداد ضيقا‬ ‫يوما بعد يوم‪.‬‬ ‫الدين يفتح آفاق الإنسان على اللامتناهي والمثالي والكمال والجلال والجمال‪ .‬وكل ما‬ ‫في القرآن من كلام على الإنسان بوصفه المرسل إليه هذا مداره أي ما حاولت وصفه ورده‬ ‫إلى ما تضمنته سورة هود وأخواتها وما يترتب عليه من معيقات لحل معضلات مهمتي‬ ‫الإنسان معمرا ومستخلفا فتكون تلك العقبات أصل كل صراع بين البشر وذلك هو مصدر‬ ‫كل الشرور التي يحاول القرآن تحرير الإنسان منها بالسياسة التي هي في آن تربية دون‬ ‫سلطان وساطة بينه وبين ربه وحكم دون وصاية بينه وبين شأنه ومن ثم فالإسلام‬ ‫استراتيجية سياسية لتحرير البشرية وتوحيدها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫لن أعجب إذا قهقه أحد الحمقى فاعتبرني أقول ما لا يعقل‪ .‬كيف أزعم قيس المعلوم‬ ‫على المجهول؟ وينتهي إلى توهم رأيي مجرد نكاية في \"علم\" الكلام الذي يقيس الغائب‬ ‫المجهول على الشاهد المعلوم‪ .‬كيف يمكن أن نقيس الشاهد على الغائب بل وأكثر على‬ ‫الغيب؟ هذا عين اللامعقول‪ .‬ومع ذلك فالفكر الإنساني العلمي والإرادة الإنسانية العملية‬ ‫كلاهما يعمل بهذا القياس الذي يبدو غير معقول‪ .‬وقبل ذلك لو كان الغائب قابلا للقيس‬ ‫على الشاهد لكان ذلك يعني قيسا للمجهول على المعلوم برده إليه مصادرة على المطلوب‪.‬‬ ‫والقياس الذي لا يبدو معقولا هو ما يعمل به العلم والدين في آن‪ .‬فهما مما لا بد منه‬ ‫ليس في الدين فحسب ليس في النظر والعمل الدينيين فحسب بل في كل فكر علمي وفي كل‬ ‫عمل على علم في عالم الشهادة‪ .‬فكل استراتيجيا نظرية أو عملية تعمل بتوقع سيناريوهات‬ ‫فرضية ليست موجودة فعليا بل هي معدومة في الواقع الفعلي وبعضها قد يوجد وبعضها قد‬ ‫لا يوجد اصلا بعد الاحتكام إلى التجربة‪ .‬ومع ذلك فهي تقيس الشاهد عليهما وهما من‬ ‫الغائب وجلها من الغيب حتى في العلم‪.‬‬ ‫وذلك هو جوهر الخيال في كل إبداع إنساني يتجاوز الموجود الفعلي إلى الممكن الذي‬ ‫يكاد ألا يتناهى‪ .‬فممكن الوجود العام معدوم وهو يعتبر دائما أصل الحاصل منه في كل‬ ‫نظر وفي كل عمل‪ .‬وأهم شيء من جنسه هو المعاني الكلية المقدرة ذهنيا في النظر (مثل‬ ‫المعاني الرياضية) وهي اساس كل معرفة علمية للطبائع‪ .‬وكذلك المعاني الكلية المقدرة‬ ‫ذهنيا في العمل التي وضعتها قيسا عليها (مثل المعاني الخلقية) وهي أساس كل تقييم عملي‬ ‫للشرائع‪ .‬إن ذلك لأمر عجيب لكنه مما ليس منه بد‪.‬‬ ‫لا أحد يعلم حقا طبيعة الكائنات الرياضية مثلا ولا حقيقة الكائنات القيمية لأنها لو لم‬ ‫يكن لها قيام ذاتي واقتصرت على كونها تصورات نفسية لاستحال أن تكون سر كل القوانين‬ ‫العلمية في الطبيعيات وكل السنن القيمية في التاريخيات‪ .‬لا يمكن للذاتي النفسي أن يصبح‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫شرطا في الموضوعي الوجودي‪ .‬لا يعقل أن تكون القوانين والسنن التي نحصلها باستعمالها‬ ‫مجرد أحوال نفس الإنسان فيكون هو المشرع للطبيعة وللتاريخ‪.‬‬ ‫كما أنه لا يوجد عاقل يمكن أن يصدق التجريبيين الذين يزعمون أن المعاني الكلية‬ ‫الرياضية المقدرة ذهنيا في النظر والمعاني الكلية العملية المقدرة ذهنيا في العمل مستقرأة‬ ‫من التجربة الطبيعية أو من التجربة التاريخية بقيس العائب على الشاهد لأنه لا يوجد أي‬ ‫شيء في الشاهد له خصائصهما وطبيعتها رغم أنه لا يعقل ولا يفهم من دونهما لأن كل‬ ‫قانون وكل سنة لا تصاغ إلا بهما وليس فيهما ما يمكن أن يجعلهما قابلين للعلاج النسقي‬ ‫والمنطقي من دونهما‪.‬‬ ‫‪ .1‬وقد سبق أن استعملت مصطلح \"اللاحم الوجودي\" في كلامي على احياز الإنسان‬ ‫الخارجية ‪-‬الجغرافيا والتاريخ وثمرة تفاعلهما المادية أو الثورة وثمرة تفاعلهما الروحي‬ ‫أو التراث وأصلها جميعا الذي سميته اللاحم الوجودي أو المرجعية\"‪ .‬وآن أوان تعريف من‬ ‫حيث علاقته بالمقدرات الذهنية النظرية والعملية‪ :‬فشعث التجربة الطبيعية لا يمكن أن‬ ‫تصدر عن معطياته قوانين الطبيعة لأنها لامتناهية الدلالة ومثلها معطيات شعث سنن‬ ‫التاريخ‪.‬‬ ‫‪ .2‬واللاحم الوجودي في هذه الحالة ليس من الشعثين الطبيعي والتاريخي بل مما‬ ‫يضفي عليهما النظام بمستويين من التقييم أولهما معرفي والثاني قيمي‪ .‬فالتقييم المعرفي‬ ‫يحدد سلم الدلالة أي ما ينبغي اخذه بعين الاعتبار في النظر لاكتشاف نظام الطبيعة‬ ‫لإخراجها من شعثها باللاحم الوجودي المعرفي وهو رياضي والثاني يحدد سلم القيمة وما‬ ‫ينبغي اعتباره في العمل نظام التاريخ لإخراجه من شعثه باللاحم الوجودي القيمي وهو‬ ‫خلقي‪ .‬وكلاهما لا يمكن أن يكون ماديا ولا حسيا أبدا‪.‬‬ ‫فرضيتي هي أن \"كن\" الموجدة و\"كن\" الآمرة في الدين تجمعان ما يمكن اعتباره معاني‬ ‫كلية ليست مقدرة ذهنيا بمعنى أنها من إبداع الإنسان بل هي ما لا يمكن للإنسان ألا يعتقد‬ ‫في وجودها شرطا لوجود كل موجود ولنشدان كل منشود وكلاهما لا يدركان من دون‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫المقدرات الذهنية إدراكا علميا وعمليا ومع ذلك فالإيجاد والأمر كلاهم غيب لأننها نقبلهما‬ ‫ولا نستطيع تحديد طبيعتها ولا حتى قيسها على نوعي التقدير الذهني النظري والعملي‪.‬‬ ‫وكل ما نستطيع قوله هو عين ما يقوله القرآن‪\" :‬ليس كمثلهما شيء\" أي إننا لا نستطيع‬ ‫تفسير لماذا يوجد شيء بدل العدم ولماذا يوجد بذلك الكيف من بين ما لا يتناهى من‬ ‫الكيفيات الممكنة‪ .‬ومن ثم فليس يمكن أن نقيسها على الشاهد بل نقيس الشاهد الممكن‬ ‫للإنسان عليها وليس الشاهد التجريب الذي لا ينضبط بل الشاهد الذي يقبل الانضباط‬ ‫بالمقدر ذهنيا في النظر والشاهد المقدر ذهنيا في العمل شرطين لمعرفة الطبائع ولتقييم‬ ‫الشرائع في التعمير والاستخلاف الإنسانيين‪.‬‬ ‫والإيمان بالمعاني التي توجد فوق المعاني التي تشبه المعاني الكلية المقدرة ذهنيا في النظر‬ ‫والمعاني المقدرة ذهنيا في العمل يشبه الإيمان بالمعاني المقدرة ذهنيا في العقد والمعاني‬ ‫المقدرة ذهنيا في الشرع لكنها أرقى منها وهي تقبل كأمر واقع وجودا وكيف وجود ولا يمكن‬ ‫تجاوز كونها وقائع ‪-‬فاكتا‪-‬والتي يعبر عنها إيمان لا يتزحزح كما نجد ذلك عند الرسل وهي‬ ‫يقين وجداني عبر عنه الرسول برده الشهير على قومه‪ .‬وكل من يفكر حقا في علاقتنا‬ ‫بالطبيعة وبالتاريخ وبما فيها ذاتيا من طبيعي وتاريخي ينتهي إلى هذا اليقين‪.‬‬ ‫فمن اقسم بالله أنه حتى لو ضعوا القمر في يمينه والشمس في شماله ردا على محاولة‬ ‫نهيه عن تبليغ الرسالة فإنه لن يتوقف حتى لو هلك دونه ذكر الصفة الأساسية في من يختاره‬ ‫الله ليكون رسولا بالمعنيين مربيا وحاكما لإنجاز المهمة‪ .‬فهذا الوصل بين حياته ورسالته من‬ ‫علامات الإيمان العميق الذي يعرف بجعله مصيرا ذاتيا معنى الحياة لا يتقوم إلا به‪ .‬ولا‬ ‫يمكن تصور باحث عن قوانين الطبيعة أو عن سنن التاريخ ليس له يقين بأن الطبيعة لها‬ ‫قوانين هي التي يطلبها وبأن التاريخ له سنن هي التي يطلبها‪ :‬الإيمان بذلك شرط البحث‬ ‫العلمي في أي ظاهرة وشرط الخروج من فوضى الطبيعة والتاريخ الغالب على سيلانهما‬ ‫الأبدي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫وصلنا إذن إلى المسألة الثالثة مسألة الرسول بعد المرسل(الله) وبعد المرسل إليه‬ ‫(الإنسان)‪ .‬فعلامة الرسول الخاتم أنه لا يعتمد إلا في أدلة دعوته إلى على هذين‬ ‫اللاحمين الوجوديين آيات ضرورتهما وآيات وجودهما‪ .‬وبين أن كل ما قال القرآن في‬ ‫الرسول لا يخرجه من كون واحدا من المرسل إليهم‪ .‬وتلك علامة الصدق لأنه إذا لم يقل‬ ‫إنه عبد الله مثل غيره فإنه سيدعي الوساطة بين الله وعباد الله وكانه من طينة أخرى‪.‬‬ ‫لكن ما عنده ليس ما يميزه إنسانيا بل ما كلف به من مهمة‪ :‬هي التبليغ بالمعنيين‪ .‬لكنه ليس‬ ‫وسيطا يغني عن العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه (آل عمران ‪.)79‬‬ ‫ومعنيا التبليغ يتعلقان ببعدي السياسة أي التربية والحكم‪ .‬والرسول ليس وسيطا في‬ ‫التربية ولا هو وصي في الحكم بل هو مذكر حصرا \"فذكر إنما أنت مذكر (نفي الوساطة في‬ ‫التربية) لست عليهم بمسيطر (نفي الوصاية في الحكم)\"‪ .‬وبوصفه مذكرا فهو بشير بالنسبة‬ ‫إلى من يقبل أن يتذكر فيومن ونذير بالنسبة إلى من يرفض أن يتذكر فيلحد ويبقى ناسيا‬ ‫لما فطر عليه مما يذكره به الرسول ولا يعلمه بما ليس فيه‪ :‬الرسول يعيد المخاطبين إلى‬ ‫ذواتهم ليتذكروا ما نسوه بسبب الإخلاد إلى الأرض بدل الاستخلاف فيها‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى التذكير هو استرداد منزلة وجودية يغفل النسيان الإنسان عنها فيصبح في‬ ‫ما يسميه القرآن الخسر أي السقوط من أحسن التقويم إلى الرد أسفل سافلين‪ .‬ولهذه‬ ‫العلة جمعت بين المعاني الكلية التي تؤسس للنظر والعقد ثم بين المعاني الكلية التي تؤسس‬ ‫للعمل والشرع معيارين يحرران الإنسان من شعث التجربة الطبيعية والتاريخية‪ .‬فالإنسان‬ ‫لا يمكن أن يعلم شيئا من دون عقد في وجود حقيقة حتى وإن كان يعلم أنه لا يحيط بها‪.‬‬ ‫ولا يمكن أن يعمل شيئا من دون وجود قيمة حتى وإن كان يعلم أنه لا يحققها بصورة تامة‪.‬‬ ‫وهذا الجمع بين الأمرين في الحالتين هو ما يجعل العلم مشروطا بعقد في الحقيقة والعمل‬ ‫بشرع في تحقيقها‪.‬‬ ‫ولعل أبرز علامة على انسانية الرسول وخاصة إذا كان مثل الخاتم مكلفا ليس بتبليغ‬ ‫رسالة نصية وكفي بل هو مكلف أيضا بسياسة تحقيق بعديها أي التربية لتكوين الإنسان‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫والحكم لحفظ نظام شروط تكوينه رعاية وحماية بمنطق قيس الشاهد على الغيب أي على‬ ‫الإيمان بما قسناه على المعاني الكلية النظرية والعملية مع معاليه عليها لأنه اعقد وشرع‬ ‫مؤسس لها‪ .‬فمن دون الإيمان بوجود الحقيقة وبوجود القيمة لا يمكن للإنسان أن يتعالى‬ ‫على ما يسميه ابن خلدون فساد معاني الإنسانية الذي هو فقدان تعريفه له \"رئيس بطبعه‬ ‫بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‪.‬‬ ‫وهو عقد في \"كن\" الخالقة وشرع بـ\"كن\" الآمرة‪ .‬ومعنى ذلك أنه إذا كانت المعاني‬ ‫الرياضية شرط علوم الطبيعة وكانت القيميات شرط علوم الإنسان فإن بعدي \"كن\" هما‬ ‫شرط ذلك كله في ما يجعل الطبيعي والتاريخي في الآفاق والعضوي والروحي في الانفس‬ ‫على ما هي عليه ليكون عالم الشهادة ذا نظام للموجود والمنشود‪ .‬لكن فعل كن الخالق وفعل‬ ‫كن الآمر ليسا قابلين للعلم ولا يمكن البحث عن نظام للمخلوق والمأمور من دون افتراضه‬ ‫لأن النظام موجود ومكيف دون أن يكون فيه ما يثبت ضرورة وجوده ولا كيفه‪ .‬ومع ذلك‬ ‫فالإنسان لا يستطيع تحديد طبيعة الوجود ولا كيفه‪.‬‬ ‫وذلك هو الواحد في الديني وفي الفلسفي‪ .‬وهو عين نظام القرآن الذي يبلغه الرسول‬ ‫تبليغ مبشر ومنذر في التربية وفي الحكم دون وساطة روحية (نفي الكنسية) ودون وصاية‬ ‫مادية (نفي الحكم بالحق الإلهي)‪ :‬ثورة الإسلام السياسية تربية وحكما بمنطق الاخوة‬ ‫البشرية (النساء ‪ )1‬والمساواة (الحجرات ‪ .)13‬ومعنى ذلك فإذا كان لنا أن نتكلم على‬ ‫إعجاز في القرآن فهو الإشارة إلى هذه الأمور التي لا غناء عنها في العلم وفي العمل سواء‬ ‫نظرنا إليهما فلسفيا أو دينيا‪.‬‬ ‫وينقسم كلام القرآن في الرسول إلى نوعين‪ .‬أحدهما الترجمة لحياة الرسول لأنه كلام‬ ‫في سيرته من حيث هو إنسان ويتعلق بخصوصياته في حياته الروحية والعضوية وكل ما له‬ ‫صلة بهما باعتباره ممثلا لكمال الإنسانية رجولة وفحولة قوة وضعفا ما يميزه عن غيره في‬ ‫ذلك كله وهو قص لما كان الرسول يعيه من إنسانيته وتحملها بشجاعة وصدق قل مثيله حقا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫حتى إن القرآن وصل إلى قص ما كان يشتهيه الرسول ويخفيه خجلا من عادات العرب‬ ‫ويتعلق بحبه للمرأة التي تزوجها ابنه بالتبني بعد طلاقها‪.‬‬ ‫وهذا القسم الأول لا يعنيني إلا لبيان وجهه السلب بمعنى تحريرنا من كل تخريف وضعه‬ ‫من بعده من أضفوا عليه كل أكاذيب التصوف ومحاولات التنزيه المطلق عما يعتور الإنسان‬ ‫من حيث إنسان من علامات الإنسانية العادية فينفون عنه ما في الإنساني مما هو \"شديد‬ ‫الإنسانية\" بلغة نيتشة قوة وضعفا ما يعني أن الرسول مجتهد معرفيا ومجاهد خلقيا بأقصى‬ ‫الإمكان الإنساني‪ .‬لكن ذلك لم يكن نادر ولا يحول دونه وكل ما يجعله حقا ممثلا لأسمى‬ ‫ما في الإنسان من حيث هو إنسان‪.‬‬ ‫أما القسم الثاني من سيرته من حيث هو رسول فهو ما يعنينا في المحاولة‪ .‬فالرسول ليس‬ ‫مكلفا بتبليغ رسالة وكأنه \"ساعي بريد\" رغم أنه ليس وسيطا بين المؤمن وربه بل هو مكلف‬ ‫بما يتجاوز التبليغ الأمين والصادق بالخطاب بل كان مكلفا بتحقيق عينة نموذجية من‬ ‫استراتيجية القرآن الساعية إلى توحيد الإنسانية استنادا إلى مبدأين‪:‬‬ ‫‪ .1‬الاخوة البشرية (النساء ‪)1‬‬ ‫‪ .2‬المساواة بين البشر (الحجرات ‪ .)13‬ولا يتحقق ذلك من دون علاج ما فشلت‬ ‫الرسالات الست التي حددتها سورة هود في علاجه من معضلات سياسة عالم الشهادة بمثل‬ ‫عالم الغيب‪.‬‬ ‫وإذن فالرسالة وظيفتها التذكير بأن الإنسان فطر على أن يكون فاعلا سياسيا يعالج‬ ‫معضلات حياة البشر في عالم الشهادة وذلك بتحقيق مهمتين هما‪-1 :‬تعمير الارض ‪-2‬‬ ‫وتحقيق قيم الاستخلاف فيها أو سياسة العالم بتعميره تعميرا يطبق القيم التي تثبت أهلية‬ ‫الإنسان للاستخلاف‪ .‬وذلك وهو معنى كونه خلق للعبادة حصرا‪ .‬والعبادة هي في هذه‬ ‫الحالة الاجتهاد المعرفي (التواصي بالحق) والجهاد القيمي (التواصي بالصبر) بإيمانه‬ ‫وعمله الصالح‪ :‬وبصورة أدق تحقيق شروط الاستثناء من الخسر الخمسة‪ :‬الوعي بعلل‬ ‫الخسر وعلاجها بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫وما كلف به حددته سورة هود وأخواتها كما بينت ذلك في الفصل الثاني عند الكلام على‬ ‫المرسل إليه‪ .‬وحددت نوعي تجليه كما تبينه صورة يوسف القرآنية التي هي النقيض المطلق‬ ‫لصورته التوراتية‪-1 :‬فهي أولا تبين أن كل مهام الإنسان تتعين في شكل رؤى أو أحلام‬ ‫تصبح حقائق بفضل ما عينته سورة العصر التي حددت شروط الاستثناء من الخسر‬ ‫الخمسة‪ :‬الوعي بعلله وعلاجها بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي‬ ‫بالصبر‪.‬‬ ‫وهذا الإنجاز يستعمل ادوات السياسة الخمسة باعتبارها أبعاد اللحام الوجودي في كل‬ ‫جماعة بين الجماعات‪:‬‬ ‫‪ .1‬الحب بكل معانيه لأنه هو سر اللاحم الوجودي الأعمق‬ ‫‪ .2‬الاقتصاد لأنه سر فاعليته علاقة بالطبيعة وعلاقة بين البشر‬ ‫‪ .3‬التوقع العلمي لأنه سر التخطيط التعميري في هذين العلاقتين‬ ‫‪ .4‬الحكم الراشد لأنه سر سوس ما تقدم وتوظيفه من اجل الجماعة‬ ‫‪ .5‬لكن لا شيء من ذلك يكون صالحا بحق من دون تذكر برهان الرب لأنه الحائل‬ ‫دون الاخلاد إلى الارض والقيام بعكس كل ما تقدم عندما تفسد معاني الإنسانية‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فكل ما اختلقه من شوهوا سيرة الرسول في التبليغ ببعدي فعل السياسة أي‬ ‫التربية والحكم يكفي قراءة ما يقوله القرآن لإعادة كتابتها بوصفها جوهر السنة القولية‬ ‫المصحوبة بنموذج التواصل بينه وبين المرسل اليه باعتباره هو نفسه مرسل إليه (في‬ ‫التربية) والفعلية المصحوبة بنموذج التفاعل بنفس الاعتبار (في الحكم) سلما وحربا لأن‬ ‫تاريخ الإسلام ليس فيه معجزات تخرق العادات بل هو اجتهاد معرفي وجهاد خلقي لتحقيق‬ ‫مهمتي الإنسان اللتين هما جوهر العبادة لله وحده‪.‬‬ ‫وهو ما يجعلني قادرا على تحرير سيرة الرسول من كل تشويهات من يوهم بأنه يمدح‬ ‫الرسول وهو يذمه بما يدعيه فيه ويسهل ولا يمكن تصديقه لأنه مناف لما جاء في القرآن‬ ‫فيصبح الرسول معرضا للتشويه بسبب هذه الخرافات التي ألصقت به والتي يحرره منها‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫القرآن الكريم ليثبت المحددات الأساسية لسيرته كما حدثت فعليا لتحقيق العينة من وحدة‬ ‫اٌلإنسانية تربية وحكما يخلوان من التمييز العرقي والطبقي والجنسي في الجماعة التي‬ ‫تؤمن وتعمل صالحا وتتواصي بالحق وتتواصي بالصبر وهو واحد منها في ذلك كله‪.‬‬ ‫وكل \"مثلجة\" لتاريخ الإسلام ولسيرة الرسول لا يمكن أن يصدقها من قرأ القرآن‬ ‫وتدبره‪ .‬وهي إما ناتجة عن الجهل أو عن الدجل الذي هو جهل ادعياء حب الرسول ولا‬ ‫يدرون أن ذلك تشويه لسيرته ولدوره في تحقيق العينة من الاستراتيجية القرآنية‬ ‫لتحقيقها بمبدأ الاخوة البشرية (النساء‪ )1‬وبمبدأ المساواة بين البشر (الحجرات ‪ :)13‬لا‬ ‫تفاضل بغير التقوى‪ .‬فلا يمكن أن يكون الصحابة قد ربوا كما وصفهم ابن خلدون تربية‬ ‫وحكما يحافظان على ما سماه بأسهم فلم يكسر فيهم العنفوان والعزة لو صح أن فيه أخلاق‬ ‫التصوف الذي يعتبر المتعلم ميتا يغسله‪.‬‬ ‫والكثير من الشواهد القرآنية تحرر الإسلام من \"المثلجة\" وخاصة من المعجزات الكاذبة‬ ‫التي تغرق العادات لأن كل استدلال القرآن يعتمد على بيان النظام في الطبيعة وفي التاريخ‬ ‫وفي كيان الإنسان العضوي وفي كيانه الروحي‪ .‬فلو كان الإسلام يعتمد المعجزات لما كان‬ ‫الرسول قائدا عسكريا قاد بنفسه أكثر من ستين معركة ولما كان يعمل استراتيجيا بسنن‬ ‫التاريخ وقوانين الطبيعة والعلم بكيان الإنسان العضوي والروحي وبحيل السياسة في السلم‬ ‫وفي الحرب ككل قائد يؤمن بالاستراتيجيا لا بمعجزات العمل بغير علم‪.‬‬ ‫ولأضرب مثالا من حمق المؤرخين العرب لسيرة الرسول في معركة الأحزاب وهو ليس‬ ‫الوحيد‪ .‬فهم يجعلون قيادات الأمة كلهم أغبياء ونجاحم في المعركة كان بسبب نصيحة سلمان‬ ‫الفارسي‪ .‬وهي طبعا من أكاذيب الفرس الذين استفادوا من حمق المسلمين بعد أن‬ ‫اخترقوهم مع بعض اليهود للتخريب من الداخل‪ .‬وعلامات الكذبة بينة للحس‪ .‬فلا يمكن‬ ‫لمن قاد ثورة من جنس ما حصل في اخراج العرب من الجاهلية أن يكون جاهلا بخدعة بسيطة‬ ‫من هذا النوع علما وأنها لم تكن مؤثرة في الحرب‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫فأولا لم يكن بوسع المسلمين في ذلك الوقت حفر خندق يحيط بالمدينة كلها رغم صغرها‬ ‫فيحول دون اقتحامها‪ .‬وثانيا لا شيء يمنع المهاجمين من طمر ما حفر ليحدثوا ممرا للخيالة‪.‬‬ ‫وثالثا خيانة اليهود بحجة عورة حيهم فلم يحفروا الخندق من ناحية حيهم‪ .‬وكان يمكن أن‬ ‫يستفيد المهاجمون من هذه الخيانة‪ .‬ورابعا حتى الزوبعة الرملية فإنها لم تكن كافية‬ ‫لتحقيق النصر لأنها كالمعتاد لا تدوم طويلا‪ .‬وأخيرا فقد غاب التعليل السليم لسر النصر‪.‬‬ ‫فلنعلل النصر بعلله السليمة‪:‬‬ ‫‪ .1‬تاريخيا وفعليا لو كان الفرس أكثر خبرة بالحرب من العرب لأفادوا أنفسهم فلم‬ ‫يهزمهم جيش الفتح‪.‬‬ ‫‪ .2‬روحيا وخلقيا‪ :‬لم يكن الرسول قائدا مثل قيادات العرب الحاليين بل شارك بنفسه‬ ‫في الحرب عملا بالأنفال ‪.60‬‬ ‫‪ .3‬وماديا حفر خندق محيط بالمدينة مستحيل واختراقه ممكن كما بينت وقد وقع‬ ‫خرقه بالخيانة اليهودية‬ ‫‪ .4‬مناخيا الزوبعة الرملية لم تدم قرنا وكان يمكن للغزاة الحصار والانتظار‬ ‫‪ .5‬والحصار كان كافيا لنجاح الحملة لأن المسلمين لم يكن له القدرة على الصبر طويلا‬ ‫لأنهم كانوا فقراء وليس لهم ما يعولهم لمدة طويلة‪ .‬لذلك فنصر المسلمين كان شجاعة‬ ‫الرجال وحكمة القيادة والإيمان بالرسالة ونقائضها عند الاعداء‪.‬‬ ‫والغريب أن كل تاريخ الإسلام يفسر بمثل هذه الأكاذيب كما هو بين من كل الأفلام‬ ‫السخيفة التي تعرض تاريخ الفتوحات وكأن نجاح المسلمين فيه كان مجرد صدف دون علم‬ ‫بفن الحرب وبالجغرافيا وثقافات الشعوب التي فتحوا أرضها‪ .‬ولأضف معلومتين في هذا‬ ‫الاستطراد‪ .‬الأولى تخص الدولة الأموية‪ :‬فتشويه الفرس وتوابعهم من العرب جعلها دولة‬ ‫كافرة في حين أنها طبقت قاعدة الضرورة تبيح المحظور للخروج من الحروب الأهلية التي‬ ‫فرضها عليها الطامعون في تطبيق نظرية الحكم الشيعية أي الحق الإلهي في الحكم‪.‬‬ ‫والغريب أن السنة صارت تعتقد ذلك بمقابلة فجة بين عصر ملائكة في الحكم الراشدي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫وعصر شياطين في الحكم الاموي وينسون التأسيس الحقيقي دولة الإسلام يعود لبني أمية‬ ‫وهم الذين جعلوها أكبر امبراطورية أنهت دولة الفرس ومستعمراتها وأخرجت بيزنطة‬ ‫من كل مستعمراتها‪.‬‬ ‫وزعموا أن الحضارة الإسلامية والعلمية والفلسفية منها لم تبدأ إلى مع الدولة البديل‬ ‫منها والتي لم تتحرر من الاختراق الفارسي إلا بفضل الأتراك الذي كانوا سنة وصادقين‬ ‫بداية من دور السلاجقة إلى نهاية الخلافة في الربع الأول من القرن الماضي‪ .‬فالدولة‬ ‫العباسية فجرت وحدة دار الإسلام وحالفت كل أعدائها لان إدارتها كانت فارسية‪ .‬ولو لم‬ ‫يقيض الله السلاجقة وأحفادهم لكانت السنة قد انتهت ولعادت دولة فارس وبيزنطة‬ ‫فاستردتا كل ما كان تابعا لهما في العالم‪ .‬وهو ما تحاولانه الآن بالحلف بين فارس وروسيا‬ ‫وإسرائيل وأمريكا‪.‬‬ ‫فقد شاءت الاقدار أن ما حصل حينها يكاد يتكرر الآن لأن الأعراب صاروا عبيدا لإيران‬ ‫وروسيا ولإسرائيل وأمريكا ولنا في الافق ما يشبه تكرار التاريخ وهو أن أحفاد العرب‬ ‫والمسلمين لا أحفاد الاعراب والمرتدين استأنفوا دورهم‪ .‬فنحن مع اخوتنا من سن الترك‬ ‫والكرد والأمازيغ والافارقة ومن الهنود والملويين من سينقذ حضارة الإسلام بهزيمة ثانية‬ ‫لهذا الحلف بين الصفوية والصهيونية ومن ورائهما من الروس والامريكان لنستأنف دور‬ ‫الإسلام في نظام العالم الجديد‪.‬‬ ‫ومرد ما وصفته من تشويه تاريخ الإسلام كله إلى تحريف سيرة الرسول الذي جعلوا‬ ‫سنته تقدمه وكأنه \"زعيم الدراويش\" حتى صار المسلمون في عصر الانحطاط ينتظرون‬ ‫المعجزات بدلا من العمل بالأنفال ‪ .60‬أسسوا لخرافات الأيمة والاولياء بتشويه حياة‬ ‫الرسول في حين أنه كما يثبت القرآن ذلك كان يطبق استراتيجيته بما جهز به الإنسان أي‬ ‫بالاجتهاد المعرفي والجهاد الخلقي لتحقيق مهمتي الإنسان المكلف تعميرا واستخلافا للرعاية‬ ‫والحماية اللتين هما شرط الحرية والكرامة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫ولولا أضفاء الطابع \"الدروشي\" على التاريخ الإسلامي لاستحال أن يحكم مصر بلحة‬ ‫والجيش الذي اخترقته أمريكا وإسرائيل وأن يحكم بقية العرب من لا يختلف عنه سواء‬ ‫بحماية فرنسية أو روسية أو أمريكية لأن الشعوب صارت كلها تعيش بغير روح القيادة‬ ‫المحمدية‪ :‬الانحطاط هو تشويه سيرته وتزييفها‪ .‬وكلما شوهت أمة من الأمم سيرة قياداتها‬ ‫وأبطالها آل أمرها إلى أن ما نرى عليه حال العرب الذي صارت قياداتهم كلها من الاقزام‬ ‫التي لا طموح لها ولا مجد عدى أكاذيب أعلامهم وطباليهم‪.‬‬ ‫ولولا الشباب لزالت الروح المحمدية‪ .‬فما هي هذه الروح؟ ذكرت قسمه بأنه حتى لو‬ ‫أعطوه القمر والشمس لن يتوقف عن الدعوة حتى لو استشهد دونها‪ .‬فنجح في وضع حجر‬ ‫الأساس في انجاز العينة وتمت بفصل الرجال والنساء الذين رباهم بهذه الروح‪ .‬وما يعنيني‬ ‫هو أن الصورة التي أرادوا إلباسها له أسهمت في تحريف الرسالة وانحطاط الأمة‪ .‬فصارت‬ ‫قيادات العرب خاصة من أسفل ما عرفت البشرية من القيادات‪ :‬مخلدون إلى الأرض بحيث‬ ‫مكن أن يكون الحاكم العربي عميلا بأجر عند المخابرات الأميركية ولا يخجل وصارت‬ ‫جيوشهم مرتزقة عند كل أعداء الامة‪.‬‬ ‫ودافعي العملي الذي يكمل دافعي العلمي في هذه المحاولات هو البحث في شروط‬ ‫الاستئناف‪ .‬وهي تنقسم إلى نوعين‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأول هو فهم الرسالة بوصفها استراتيجية سياسية للدنيا بقيم الآخرة‪.‬‬ ‫‪ .2‬الثاني هو فهم سيرة الرسول بوصفها انتاج عينة تبين كيفية تحقيق استراتيجية‬ ‫كونية توحد الإنسانية بالاجتهاد العلمي وبالجهاد الخلقي‪.‬‬ ‫ولا يمكن تصور مثل هذه الاستراتيجية في أمة ربيت على الذل وفسدت فيها معاني‬ ‫الإنسانية كما حددها ابن خلدون في الفصل الأربعين من الباب السادس بسبب عنف التربية‬ ‫وحنف الحكم اللذين يفقدان الإنسان البأس والأنفة فيقبل العبودية لغير الله‪.‬‬ ‫والاجتهاد العلمي وتطبيقاته هو شرط التعمير‪ .‬والجهاد الخلقي وتطبيقاته هو شرط‬ ‫الاستخلاف‪ .‬والعمل بهما معا هو سياسة عالم الشهادة بمثل عالم الآخرة التي هي مثل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫الخلق والأمر أي إن الغاية من جنس البداية في الوجود والمنشود وفي كيان الإنسان العضوي‬ ‫والروحي لتحقيق هذا الوصل الدائم بينهما‪ .‬فمن لم تكن له أخلاق القرآن ونموذج العمل‬ ‫بها ممثلا في سيرة الرسول لا يمكن أن يكون مسلما معتزا بهذا النسب فيصبح تابعا ذليلا‬ ‫كما هي حال من يدعون التحديث بالتقليد وليس بالإبداع من نخب العرب الحقيرة الذين‬ ‫يشترهم العدو بسكرة وليلة في فندق مع غانية‪.‬‬ ‫لما اخبر الله الملائكة {إني جاعل في الارض خليفة} كان ذلك تعريفا للإنسان بهذا‬ ‫الاشرئباب الدائم للتعالي على ما وصفته به الملائكة إلى ما كلفه به الله بالاجتهاد المعرفي‬ ‫والعقدي شرطا في تحقيق شروط بقائه العضوي خاصة وبالجهاد القيمي والشرعي شرطا في‬ ‫تحقيق شروط بقائه الروحي‪ .‬فمن دون الجمع بينهما يمكن توحيد الإنسانية ماديا‬ ‫بالعبودية والقهر‪ .‬لكنها ستكون توحيد التدمير والنفي بفرض التمايز العرقي والطبقي‬ ‫والجنسي تحت بوهم الحريات الغريزة وليس للتعمير بقيم الاستخلاف‪.‬‬ ‫وتلك هي العلة التي تجعلني اعتقد بأن الإسلام الجامع بينهما هو مستقبل الإنسانية بعد‬ ‫أن آل أمرها إلى التهديم النسقي لكل ما يجعل الإنسان أهلا للاستخلاف‪ .‬الإسلام هو‬ ‫السبيل الوحيدة لتحرير الإنسانية من عولمة مادية لا تعمر بل تدمر وتعويضها بعلومة‬ ‫يكون المادي فيها أداة وليس غاية ويكون الهدف هو تحقيق التعمير بقيم الاستخلاف‪ .‬وهو‬ ‫ما اعنيه بقيس الشاهد على الغيب عكس قيس الكلام الغائب على الشاهد‪ .‬فكل المثل حتى‬ ‫بالمعنى العادي هي من الغيب الذي يقاس به الشاهد لأن تصورها بكمال ما يماثله من‬ ‫الشاهد لا يحدد طبيعته بل يحدد صفته بالممتنع على الشاهد‪.‬‬ ‫فلا توجد في الشاهد إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود مطلقة وكاملة بل كلها فانية‪ .‬وعلم‬ ‫الكلام الذي يقيس الغائب على الشاهد ويخلط بين الغيب والغائب لا يدرك ذلك وهو‬ ‫يكتفي بالسلب فيعتبره علما وهو ما جعل اليمين الماركسي يتصور الله صورة اسطورية‬ ‫تعوض نقائص الإنسان يساره يعتبر الدين افيون‪ .‬والعلة هي تخريف التأويل الكلامي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫الذي عكس آل عمران ‪7‬وعكس فصلت ‪ 53‬وتلكما هما علتا وهن الامة وتجاهلها الانفال‬ ‫‪ 60‬حتى صارت الأمة ذليلة ليس فيها روح العزة والكرامة‪.‬‬ ‫قسم محمد لما عرضت عليه قريش الحكم التابع كحال حكم العرب الآن هو البداية‬ ‫للخروج من سيطرة القيادات التي تستمرئ العبودية لأعداء الامة والرسالة‪ .‬ومع ذلك‬ ‫فهم مع شعوبهم بطغيانهم مقام الألوهية بالعنف أو بالحلق الإلهي‪ .‬لكني الآن بت واثقا من‬ ‫أن روح محمد عادت في شباب الثورة‪ .‬وهي لم تعد لشباب العرب وحدهم بل لكل شباب‬ ‫شعوب الأمة لأن الإسلام لا يتحدد بشعب دون شعب بل هو كما أسلفت يتأسس على مبدأين‬ ‫في رؤيته للإنسانية‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأخوة البشرية (النساء ‪)1‬‬ ‫‪ .2‬والمساواة بين البشر دون تمييز عرقي أو طبقي أو جنسي (الحجرات ‪ :)1‬معنى‬ ‫التعارف بين المختلفين عرقيا وطبقيا وجنسيا معرفة ومعروفا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫وصلنا الآن إلى المسألة الرابعة‪-‬منهج التبليغ‪-‬وفيه تتبين صفات الرسول السياسي تربية‬ ‫وحكما أعني وظيفتيه من حيث هو مبلغ تبليغ بشير ونذير في التذكير بالقول والفعل‪ .‬فهو‬ ‫مكلف ببعدي التبليغ في رسالة هي استراتيجية سياسية لتوحيد البشرية وتكوين عينة من‬ ‫هذه الإنسانية على أساس قيمتي الأخوة البشرية (النساء ‪ )1‬والمساواة بين البشر‬ ‫(الحجرات ‪ )13‬دون تمييز عرقي ولا طبقي ولا جنسي بدعوتهم للتعارف معرفة ومعروفا‪.‬‬ ‫وأهم هذه الصفات خمس يعسر أن تجد لها مثيلا في أي رسالة سابقة من التي قصها القرآن‬ ‫لنقد ما حصل لها من تحريف وللاعتبار بالتجربة التاريخية الإنسانية في فهم العلاقة بين‬ ‫فلسفة الدين وفلسفة التاريخ‪:‬‬ ‫‪ .1‬التجرد بخصوص واجب النتيجة‪ :‬فالله يقول له عليك بالدعوة ولا يهمك‬ ‫الاستجابة أو عدمها فذلك أمر يتولاه الله بنفسه‪.‬‬ ‫‪ .2‬وهذا يحرر الرسول من الغضب ويمده بصبر لا نهاية له‬ ‫‪ .3‬القدرة على الاستماع اللامحدود للخصوم بلا كلل ولا ملل‪ .‬ولما بدا منه ما قد‬ ‫يفيد شيئا من الحرص على الغاية نزلت عليه \"عبس\"‪.‬‬ ‫والأهم من هذه الثلاثة صفات تحديد دوره وفيهما يتعين جوهر الثورة الإسلامية الكونية‬ ‫والتي تعتبر مستقبل الإنسانية لأنها شرط تحريره مما يعلو عليه بينه وبين علاقته المباشرة‬ ‫بربه‪:‬‬ ‫‪ .4‬أنه ليس وسيط بين المومن وربه الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد وبينه وبين‬ ‫حياته الآخرة‬ ‫‪ .5‬وأنه ليس وصيا على المؤمنين في حياتهم الدنيا‪ :‬الغاشية ‪ .22-21‬فحصر مهمته‬ ‫في التذكير نفي الوساطة في التربية والوصاية في الحكم تعريف لسياسة الإسلام‪.‬‬ ‫وبذلك يتحدد مضمون منهج التبليغ الذي هو عين السنة‪ :‬فهو ليس السنة القولية فحسب‬ ‫بل هو السنة الفعلية بمعنى أنها تشمل أحاديث الرسول وأفعاله في وظيفتي التربية والحكم‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫لأن القصد هو فهم كيفية ترجمة الرسول استراتيجية القرآن العامة خلال تطبيقها لتكوين‬ ‫عينة من المشروع الكلي أي توحيد الإنسانية بقيمتي النساء ‪ 1‬والحجرات‪ .13‬والترجمة‬ ‫كانت أولا مؤسسية في المرحلة التي غلبت عليها وظيفة التربية (المكية) ثم في المرحلة التي‬ ‫غلبت عليها وظيفة الحكم (المدنية)‪ .‬وفي الأولى انشئت نواه دستور التربية وفي الثانية‬ ‫نواة دستور الحكم‪.‬‬ ‫وهذه العناصر التبليغية المحددة للمنهج تتعلق بمستويي مهمة الإنسان في عالم الشهادة‪:‬‬ ‫‪-1‬مستوى التعمير‪-2‬ومستوى الاستخلاف‪ .‬والاول هو بعدا التكوين والتموين أي تكوين‬ ‫الإنسان ليكون معمرا ومستخلفا وتموين الإنسان لتحقيق شروط البقاء الحر والكريم‪ .‬ولا‬ ‫يتحقق ذلك إلى إذا كان بقيم الاستخلاف الذي يغنيه عن التبعية لغيره فيكون دور كل‬ ‫فرد جامعا بين كونه خادما للجميع ومخدوما من الجميع‪ .‬وذلك هو معنى مقارنة الجماعة‬ ‫بالجسد الواحد‪ :‬كل عضو فيه خادم للكل ومخدوم من الكل‪.‬‬ ‫وهو ما يعني أن المقابلة فرض عين وفرض كفاية لا تنطبق إلا في العبادات‪ .‬أما في‬ ‫المعاملات فكلها في آن فرض عين وفرض كفاية أي إن كل فرد مسهم في انتاج شروط حياة‬ ‫الجماعة مستفيد من دور بقية الأفراد في الجماعة‪ .‬فيصبح الوجود الجمعي جامعا بين نوعي‬ ‫الفروض في آن‪ .‬فكل فرد ينوب البقية في سهمه من انتاج شروط رعاية الجماعة وحمايتها‪:‬‬ ‫وهو معنى كونها كالجسد الواحد في حديث الرسول‪.‬‬ ‫وهذه الرؤية لم يكن أحد يصدق أنها يمكن أن تؤسس لنظام يبدو وكأنه قد عرف بالسلب‬ ‫لأساس كل سلطة بنفي الوساطة الروحية بين الإنسان وربه وحياته الأخرى (الكنسية)‬ ‫والوصاية السياسة بين الإنسان وشأنه في حياته الدنيا (الحكم بالحق الإلهي) وجعل‬ ‫السياسة الروحية والسياسة المادية فرض عين وكفاية في آن أي إن كل فرد راع ورعية‪:‬‬ ‫وذلك هو معنى الحديث كلمكم راع ورعية‪ .‬والراعي والرعية من الرعاية وهي مفهوم‬ ‫إيجابي بخلاف ما صارت تعنيه لما صار الحاكم طاغية وليس نائبا للجماعة الحرة وفي خدمتها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫ويترتب على ذلك ما بلغ الأمر بهيجل إلى اعتبار هذه الرؤية يتوبية وحائلة دون تأسيس‬ ‫دولة قابلة للاستقرار والبقاء لأنها تجعل الجميع متساويين ولا يتفاضلون إلا بالتقوى ليس‬ ‫عند الله يوم الحساب فحسب بل عنده في الدنيا والآخرة ومن ثم فهي عنده لا يمكن ألا‬ ‫تكون ضد كل تنظيم في الحياة الجمعية لأن هذه تقتضي التراتب فيهما‪ .‬وطبعا كلام هيجل‬ ‫يعتبر حقيقيا لأنه يجعل الامر الواقع هو الحكم ولا يؤمن بما يتعالى عليه إذا لم يتحقق‬ ‫فعليا وهو ما يعني أن كل منشود إذا لم يصبح موجودا فهو خيال‪.‬‬ ‫وطبعا فهذا الحكم يبدو وجيها لأن معنى التراتب في الوظائف ظنه هيجل تراتبا بين‬ ‫القيمين عليها فخلط بين الوظيفة واستغلالها من القيم عليها بما يمكن تسميته تسلطا باسمها‬ ‫على موظفيه فيها نيابة عنهم‪ .‬فلا فرق بين صانع الخبز للجماعة وحافظ الأمن فيها‪ .‬كلاهما‬ ‫موظف‪ .‬تسلط أي منهما استغلال سلطوي‪ .‬ولما كان استقلال السطلة أمرا ثابتا فإن فهم‬ ‫هيجل يبدو معقولا‪ .‬لكن لو كان استغلال السطلة غير الشرطي شرعيا لأنه هو الغالب‬ ‫لاستحال أن نميز بين الموجود والمنشود وخاصة السعي للتغير نحو الافضل‪.‬‬ ‫لذلك فنفي الكنسية ‪-‬وساطة روحية‪ -‬ونفي الحكم بالحق الإلهي‪-‬وصاية سياسية‪ -‬في‬ ‫الإسلام ليس نفيا للتراتب الضروري في التربية بين راعي التكوين والمتعلم وفي الحكم بين‬ ‫راعي القانون والمواطن بين هو نفي لتحول الراعيين إلى سلطتين يستغلان وظيفتيهما‬ ‫ليصبحا وكأنهما هما الأصل والتحكم فيها‪ .‬فهذا خلط بين الشخص الطبيعي والشخص‬ ‫الاعتباري‪ .‬فعندما يتحول الشرطي إلى سلطة بذاته وليس ممثلا للسلطة التي هي القانون‬ ‫فإن الفرق بين الشخصين الطبيعي والاعتباري دليل انحطاط الواقع وليس دليل الواقع‪.‬‬ ‫فليس القاضي هو السلطة بل القانون الذي يحكم بمقتضاه‪ .‬فإذا صار القاضي بشخصه‬ ‫الطبيعي هو السلطة أصبح القانون وكأنه إرادته الشخصية وليس إرادة القانون والمشرع‪.‬‬ ‫والمشرع ليس فردا بل هو إما الله أو اجماع الجماعة إما نصا أو عرفا‪ .‬ولذلك فهيجل كان‬ ‫مع وجود الكنسية ووجود الحق الإلهي في الحكم وهي سلطة الأمير عنده‪ .‬وقد سبق إلى‬ ‫ذلك ابن سينا في كلامه على الحاجة إلى سلطة روحية التربية وحق الاهي في الحكم ودحض‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫ابن خلدون حجته بوجود مجتمعات تكتفي بالحق الطبيعي أي قوة العصبية ونظام العقل‬ ‫بدل الدين المنزل‪.‬‬ ‫صحيح أن هيجل أضفى بعض التعديل على الحق الإلهي في الحكم (في كتابه حول فلسفة‬ ‫الحق وهو مخلص لكل كتاباته في الفلسفة السياسية) فلم تبق الإمارة حكما مطلقا بل صارت‬ ‫دستورية لكنها بقيت وراثية‪ .‬وهو حق إلهي ملطف لأن الوراثة في هذه الحالة ليس لها‬ ‫شرعية البيعة كما في الإسلام حتى وإن أصبحت شكلية لأنها لا تطبق بشرط شرعيتها أي‬ ‫بأن تكون حرة من المبايع‪ .‬والاصلاح أبقى على الكنسية ملطفة كذلك‪.‬‬ ‫والمبدأ الأساسي في الاستراتيجية السياسية المحمدية ‪-‬جوهر نظرية التربية ونظرية‬ ‫الحكم في القرآن باعتبارهما فرض عين وفرض كفاية في آن‪ -‬أي إن كل إنسان مطالب‬ ‫بالمشاركة فيهما مع امكانية تنويب غيرة وإنابة غيره فيهما مع المساهمة عند إنابة غيره‬ ‫بالمراقبة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ .‬وهذا المبدأ الأساسي طبقه الرسول في المرحلة‬ ‫التي غلبت عليها التربية (المكية) وفي المرحلة التي غلب عليها الحكم (المدنية)‪ .‬وطبعا في‬ ‫الأولى كان الحكم ضمنيا وفي الثاني اجتمع الأمران في سياسة المدينة‪.‬‬ ‫وكان المسجد في آن مركز التربية ومركز الحكم ومركز التدبير بالتواصي بالحق اجتهادا‬ ‫معرفيا والتواصي بالصبر جهادا خلقيا للشورى بمعناها القرآني أي إن الأمر أمر الجماعة‬ ‫وهي التي تديره بالشورى‪ .‬وهو مختلف تماما عما جعله الفقهاء مشورة اختيارية من جنس‬ ‫نصح الحكام الذي يحق لهم مخالفتها‪ .‬وكان المركز في المنهج التبليغي هو \"قراء القرآن على‬ ‫الناس على مكث (الاسراء ‪ )106‬بوصف الرسول بشيرا ونذيرا‪ .‬وقد اعتبر العلامة المميزة‬ ‫لهذا التبليغ هو المحافظة على \"البأس\" دليلا على غياب العنف في التربية وفي الحكم العنف‬ ‫الذي يعتبره علة \"فساد معاني الإنسانية\" أي علة فقدان حقيقة الإنسان من حيث هو \"رئيس‬ ‫بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‪.‬‬ ‫وقد يظن الكثير أن الرسول كان يستثني السلطة التشريعية من الشورى لأنها منزلة من‬ ‫السماء باعتبارها ما أوحى الله له به وعلى الناس السمع والطاعة لكن التبليغ صار نفيا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪42‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫للمبدأ العام أي الشورى التي هي تعين معنى التكليف والمسؤولية الشخصية‪ .‬وهذا الفهم‬ ‫نتج عن الخلط بين القصص ‪( 68‬وتتعلق بالخلق) والأحزاب ‪( 36‬وتتعلق بالأمر)‪ .‬ومن‬ ‫يخلط بينهما يستحيل أن يفهم القصد من نفي الخيرة على المؤمن والمؤمنة‪ .‬توهما بأن ما‬ ‫قيل في الخلق ينطبق على قيل في الأمر‪.‬‬ ‫ففي الخلق لا وجود لاختيار أصلا لأن الخالق يخلق ما يريد وليس لأي مخلوق اختار خلقته‬ ‫لأن ذلك لو توهمانه ممكنا لكان معناه أنه موجود قبل خلقه ويختار خلقه أو عدم خلقه‪.‬‬ ‫لكن في الأمر الاختيار موجود حتما لأنه يتعلق به ليس منذ خلقه بل منذ رشده وخاصة منذ‬ ‫تبين الرشد من الغي في المسائل الدينية‪ .‬والمشكل في ماذا؟ طبعا لا اختيار في المبادئ التي‬ ‫تحدد القيم العليا للأمر‪ .‬وهذا صحيح حتى في القانون الوضعي‪ .‬فحتى العلماني لا يعتبر‬ ‫القوانين نزواتية بل هو يؤسسه على ما يسميه حقوق الإنسان الطبيعية‪.‬‬ ‫أين الخيار إذن في القانون الوضعي وقياسا عليه في القانون الشرعي تيسيرا لفهم‬ ‫المسألة؟‬ ‫في ما لا يتعلق بقيم القانون من حيث هو قانون وضعيا كان أو شرعيا أي في القيم الخلقية‬ ‫التي يعتبر القانون أداة تحقيقها بشرعية معلومة للجميع هي شبه عقد متعارف عليه بين‬ ‫الجماعة ويحاسبون بمقتضاه على العمل به أو على عدمه‪ .‬ومن شروط مسؤولية العمل به‬ ‫أو عدمه تقدم القانون على الفعل الذي يقيم من حيث مسؤولية الفاعل‪ .‬فلا يحاسب‬ ‫الإنسان على أمر لم يضبطه قانون سابق‪ :‬وهو ما يسميه الغزالي النفي الأصلي أو البراءة‬ ‫الأصلية‪.‬‬ ‫الخيرة التي ينفيها القرآن على المؤمن والمؤمنة في الأحزاب ‪ 36‬تتعلق بالمبادئ وليس‬ ‫باختيار العمل بها أو عدم العمل بها‪ .‬والمبادئ التي تؤسس القانون تعلق بأسس التشريع‬ ‫الخلقية‪ .‬لكن لو كان الإنسان ليس مخيرا في العمل بها وعدم العمل بها بل وحتى في الإيمان‬ ‫بها وعدم الإيمان بها لما كان للكلام معنى فيها عنصرا من التربية والحكم‪ .‬فالكلام دليل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪43‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫أنه ينهى عن عدم الإيمان وعدم العمل بها والرسول بذلك نذير ويدعو للعمل بها وهو‬ ‫بذلك بشير‪.‬‬ ‫وإذن ففي الأمر (الأحزاب ‪ )36‬بخلاف ما في الخلق (القصص ‪ )68‬كلام القرآن يعني أن‬ ‫الإنسان حر في الإيمان بمبادئ التشريع الخلقية وفي العمل بها أو في عدم الإيمان وعدم‬ ‫العمل بها والتربية تتمثل في اعلامه بذلك‪ .‬لكنه ليس له خيار في كون التشريع السوي لا‬ ‫بد له من تلك المبادئ‪ .‬وحتى ينطبق حتى في قانون الطرقات‪ :‬فمبدأ تجنب السرعة التي‬ ‫تتسبب في الحوادث ليس قابلا لأن يكون موضوع اختيار‪ .‬لكن العمل به أو عدم العمل به‬ ‫فيه اختيار وبه تتحدد مسؤولية المكلف‪.‬‬ ‫ولو فهمنا الآية ‪ 36‬من الأحزاب بمعنى أن الإنسان مفروض عليه السمع والطاعة وكأن‬ ‫الأمر صار علاقة علة بعلول كما في الظاهرات الطبيعية كما تخيل الفقهاء بعد العلم بالحكم‬ ‫فإننا ينبغي أن نعتبر الآيتين ‪ 21‬و‪ 22‬من الغاشية منسوختين لأن الرسول حينها ينبغي أن‬ ‫يكون مسيطرا وليس مذكرا حصرا‪ .‬في الآية ‪ 36‬من الاحزاب المعنى هو أن الرسول يذكر‬ ‫بأمرين وقع الخلط بينهما‪.‬‬ ‫• ففي آية الخلق لا وجود للخيار أصلا‪ :‬لا مخلوق يختار خلقته‪ .‬وحتى لو أراد أن يبدلها‬ ‫بعد حصولها فهو عندئذ ينتقل من الخلق إلى الأمر أي إلى التشريع المتلق بالحرية وليس‬ ‫بالضرورة‪.‬‬ ‫• وهو في الأمر مضاعف‪ :‬منه ما يجانس الخلق ويتعلق بالمبادئ الخلقية التي تؤسس الشرع‬ ‫ومنه ما هو مطلق الحرية وبه تقدر مسؤولية الشخص وعليها يحاسب باعتباره مكلفا‪.‬‬ ‫فما ما يتعلق بالشرع نفسه هو مجال الحرية التي فيها الخيار‪ .‬والحرية مشروطة طبعا‬ ‫لأنها تجري إن إيجابا أو سلبا في إطار قوانين الفعل عامة والتي لا يمكن الخروج عنها حتى‬ ‫عند توهم الخروج عنها‪ .‬ومن ثم فكلام الرسول في الآية ‪ 36‬من الأحزاب لا يتعلق بالثاني‬ ‫بل بالأول لأن الثاني لو سلمنا به لنفينا دلالة فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪44‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪53 7‬‬ ‫‪--‬‬ ‫فالله أعطى للبشر حرية الإيمان والكفران وحرية العمل بالشرع وعدمه وحملهم مسؤولية‬ ‫ذلك‪.‬‬ ‫وهذا يطرح إشكالية القضاء والقدر والجبر والاختيار في أفعال العباد وسأخصص لها‬ ‫دراسة مستقلة وخاصة للرؤية الفلسفية الغربية الحديثة التي تتقول على الإسلام ما يفيد‬ ‫الجهل المطبق به‪ .‬وسأركز في الدراسة على لايبنتس وهيجل خاصة وكلامهما على ما يسمونه‬ ‫الفاتاليسم الإسلامي بالمقارنة مع المسيحية التي يبرؤونها منه‪ .‬وهذه الدراسة شديدة‬ ‫الدقة والاختصاص وستكون بشكل مختلف عن التغريد الهادف للتقريب الجمهوري‪.‬‬ ‫وطبعا أفهم ألا يفهم الفقهاء هذا الكلام وعلاقته بهذه الإشكالية الفلسفية العويصة‪.‬‬ ‫ذلك أنهم يكتفون بالسياق الموضعي من القرآن‪-‬مثل التخدير الموضعي في الجراحة‪ -‬ولا‬ ‫يرون أن القرآن ضد التخدير موضعيا كان أو شاملا بل هو يريد الإيقاظ والوصل بين كل‬ ‫آيات القرآن بل إن كل آية من آيات القرآن تتضمن كل القرآن ولا تفهم إلا بالقرآن من‬ ‫حيث هو وحدة لا يدركها من غفل عن نظامها‪ .‬ولولا ذلك لاستحال أن يكون القرآن منجما‪:‬‬ ‫فلا يمكن أن يفهم الرسول ما نزل أولا إذا لم يكون فيه علامات ما سينزل لاحقا وإلا لكان‬ ‫التبليغ مرتجلا‪.‬‬ ‫وحاشا أن يكون الرسول يبلغ الرسال ارتجالا لكأنه غافل عن النظام الذي هو البنية‬ ‫العميقة للقرآن والاستراتيجية السياسية التي تقود التربية والحكم المستهدفين من‬ ‫التذكير‪ .‬فهو يعلم أنه عليه أن يقرأ القرآن على الناس على مكث (الإسراء ‪ )106‬و\"يقرأ\"‬ ‫هنا لها دلالة ما طلب منه جبريل ورد الرسول عليه \"ما أنا بقارئ\"‪ .‬فهو لا يعني أنه لا‬ ‫يحسن القراءة بمعنى ترديد محفوظات أو قراءة نص مكتوب بل هو يعني‪\" :‬لست مكلفا‬ ‫بتبليغ رسالة\" فأقرأها على الناس على مكث كما جاء في هذه الآية لاحقا‪.‬‬ ‫فكان توضيح الخبر من الملاك جوابه نزول سورة القلم \"اقرا باسم ربك‪ ...‬الآية‪ \"..‬اي‬ ‫كل القرآن ملخصا في \"العلق\" تحديدا لما على الرسول القيام به وما سيعترضه من عقبات في‬ ‫سياسة الامر وهي من جنسين منها ما يعالم بالتربية ومنها ما يعالج بالحكم لكنها جميعا تعود‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪45‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook