Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore المائة الأولي رياض الصالحين

المائة الأولي رياض الصالحين

Published by مكتبة(ورتل) الإلكترونيه, 2021-04-19 18:17:06

Description: المائة الأولي رياض الصالحين

Search

Read the Text Version

‫المقدمة‬ ‫باب الإخلاص وإحضار النية في جميع الأعمال والأقوال‬ ‫البارزة والخفية‬ ‫الحديث الأول‬ ‫عن أمير المؤ ِمنين أبي َح ْف ٍص عم َر ب ِن الخطا ِب رضي الله‬ ‫عنه قالَ‪َ :‬س ِمع ُت َر ُسولَ الل ِه صلى الله عليه وسلم يقُولُ‪:‬‬ ‫((إ ّن َما الأَ ْع َمالُ بال ِّن ّيا ِت‪َ ،‬وإِ َّن َما لِ ُكلِّ ام ِر ٍئ َما َن َوى‪َ ،‬ف َم ْن َكا َن ْت‬ ‫هجرته إلى الله ورسوله‪ ،‬فهجرته إلى الله ورسوله‪ ،‬ومن‬ ‫كانت ِه ْج َر ُت ُه لِ ُد ْن َيا ُيصي ُب َها‪ ،‬أَ ْو ا ْم َرأَ ٍة َي ْن َك ُح َها‪َ ،‬ف ِه ْج َر ُت ُه إِلى َما‬ ‫َها َج َر إِ َل ْيه))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َعلَ ْي ِه )‬ ‫شرح الحديث‬ ‫هذا الباب في الإخلاص‪ ،‬إخلاص النية لله عز وجل‪ ،‬وأنه‬ ‫ينبغي أن تكون النية مخلصة لله في كل قول‪ ،‬وفي كل فعل‬ ‫وهذا حديث عظيم‪ ،‬جليل القدر كثير الفائدة‪ ،‬قال عبد‬ ‫الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى‪ :‬ينبغي لكل من ص َّنف‬ ‫كتا ًبا أن يبتدئ فيه بهذا الحديث‪ ،‬تنبي ًها للطالب على‬ ‫تصحيح النية‪.‬‬

‫((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي))‬ ‫هاتان الجملتان اختلف العلماء فيهما‪:‬‬ ‫فقال بعض العلماء‪ :‬إنهما جملتان بمعني واحد‪ ،‬وإن الجملة‬ ‫الثانية تأكيد للجملة الأولى‪ ،‬ولكن هذا ليس بصحيح‪،‬‬ ‫فالجملة الأولى سبب‪ ،‬والثانية نتيجة‬ ‫الأولي‪ :‬سبب يبين فيها النبي صلي الله عليه وسلم أن كل‬ ‫عمل لابد فيه من نية‪ ،‬فكل عمل يعمله الإنسان وهو عاقل‬ ‫مختار‪ ،‬فلابد فيه من نية‪ ،‬فمعناها أنه ما من عامل إلا وله‬ ‫نية‪ ،‬ولكن النيات تختلف اختلافاً عظيماً‪ ،‬وتتباين تبايناً بعيداً‬ ‫كما بين السماء والأرض‪.‬‬ ‫والنية هي القصد ومحلها القلب ‪ ،‬فالأساس أنه ما من عمل‬ ‫إلا بنية‪ ،‬ولكن النيات تختلف وتتابين‪.‬‬ ‫نتيجة ذلك قال‪(( :‬وإنما لكل أمري ما نوي)) ؛ فكل امريء‬ ‫له ما نوي‪ :‬إن نوي الله والدار الآخر في أعماله الشرعية‪،‬‬ ‫حصل له ذلك‪ ،‬وإن نوي الدنيا‪ ،‬قد تحصل وقد لا تحصل‪.‬‬ ‫((فمن كانت هجرته إلي الله ورسوله‪ ،‬فهجرته إلي الله‬ ‫ورسوله‪ ،‬ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها‪،‬‬ ‫فهجرته إلي ما هاجر إليه))‬ ‫((الهجرة)) ‪ :‬أن ينتقل الإنسان من دار الكفر إلي دار‬ ‫الإسلام‪ ،‬وإذا هاجر الناس‪ ،‬فهم يختلفون في الهجرة‬ ‫الأول‪ :‬منهم من يهاجر‪ ،‬ويدع بلده إلي الله ورسوله؛‬

‫يعني إلي شريعة الله التي شرعها الله على رسوله صلي الله‬ ‫عليه وسلم هذا هو الذي ينال الخير‪ ،،‬وينال مقصوده؛‬ ‫ولهذا قال‪(( :‬فهجرته إلي الله ورسوله)) ؛ أي فقد أدرك ما‬ ‫نوى‪ ،‬فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصدا‬ ‫فهجرته إلى الله ورسوله حكما وشرعا‬ ‫الثاني ‪ :‬هاجر لدنيا يصيبها من مال أو غيره‬ ‫الثالث‪ :‬رجل هاجر من بلد الكفر إلي بلد الإسلام؛ يريد امرأة‬ ‫يتزوجها‬ ‫قال ابن دقيق العيد‪ :‬نقلوا أن رج ًلا هاجر من مكة إلى‬ ‫المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة‪ ،‬وإنما هاجر ليتزوج‬ ‫امرأة تسمى أم قيس‪ ،‬فلهذا خص في الحديث ذكر المرأة‬ ‫دون سائر ما ينوى به‪.‬‬ ‫فمن يريد الدنيا ويريد المرأة‪ ،‬لم يهاجر إلي الله ورسوله‪،‬‬ ‫ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم ((فهجرته إلي ما‬ ‫هاجر إليه)) ‪ ،‬وهنا قال ((إلي ما هاجر إليه)) ولم يقل‬ ‫((فهجرته إلي دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها)) فلماذا؟‬ ‫قيل‪ :‬لم ينص عليهما؛ احتقاراً لهما‪ ،‬وإعراضاً عن ذكرهما؛‬ ‫فلأنهما حقيران؛ أي‪ :‬الدنيا‪ ،‬والزوجة ونية الهجرة ـ التي‬ ‫هي من أفضل الأعمال ‪ -‬لإرادة الدنيا والمرأة؛ نية منحطة‪،‬‬ ‫قال‪(( :‬فهجرته إلي ما هاجر إليه)) فلم يذكر ذلك احتقاراً‪،‬‬ ‫لأنها نية فاسدة منحطة‪.‬‬

‫الحديث الثاني‬ ‫عن أ ِّم المؤ ِمني َن أ ِّم عب ِد اللهِ عائش َة رضي الله عنها قالت‪:‬‬ ‫قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم‪َ (( :‬ي ْغ ُزو َج ْي ٌش ا ْل َك ْع َب َة‬ ‫فإِ َذا َكا ُنوا بِ َب ْي َدا َء ِم َن الأَر ِض ُي ْخ َس ُف بِأَ َّولِ ِه ْم وآ ِخ ِر ِه ْم))‬ ‫َقالَ ْت‪ :‬قل ُت‪َ :‬يا َر ُسولَ الل ِه‪َ ،‬ك ْي َف ُي ْخ َس ُف بأ َّولِ ِه ْم َوآ ِخ ِر ِه ْم‬ ‫َوفِيه ْم أ ْس َواقُ ُه ْم َو َم ْن لَ ْي َس ِم ْن ُه ْم؟!‬ ‫َقالَ‪ُ (( :‬ي ْخ َس ُف بِأَ َّولِ ِه ْم َوآ ِخ ِر ِه ْم ُث َّم ُي ْب َع ُثو َن َع َلى ِن ّياتِه ْم))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه ) ه َذا َل ْف ُظ ا ْل ُب َخا ِر ِّي‬ ‫شرح الحديث‬ ‫في آخر الزمان يغزو قوم الكعبة‪ ،‬جيش عظيم‬ ‫((حتى إذا كانوا بيداء من الأرض)) أي بأرض واسعة‬ ‫متسعة‪ ،‬خسف الله بأولهم وآخرهم ‪ ،‬خسفت بهم الأرض‪،‬‬ ‫وساخوا فيها هم وأسواقهم‪ ،‬وكل من معهم ‪ ،‬وفي هذا دليل‬ ‫على أنهم جيش عظيم؛ لأن معهم اسواقهم؛ للبيع والشراء‬ ‫وغير ذلك‪.‬‬ ‫فيخسف الله بأولهم وآخرهم‪ .‬لما قال الرسول صلي الله عليه‬ ‫وسلم هذا‪ ،‬ورد على خاطر عائشة رضي الله عنها سؤال‪،‬‬ ‫فقالت‪ :‬يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم‬ ‫أسواقهم‪ ،‬ومن ليس منهم؟‬

‫أسواقهم‪ :‬الذين جاءوا للبيع والشراء؛ ليس لهم قصد سيء‬ ‫في غزو الكعبة‪ ،‬وفيهم أناس ليسوا منهم تبعوهم من غير‬ ‫أن يعلموا بخطتهم‬ ‫فقال الرسول صلي الله عليه وسلم‪(( :‬يخسف بأولهم‬ ‫وآخرهم وأسواقهم ومن ليس منهم ثم يبعثون يوم القيامة‬ ‫على نياتهم)) كل له ما نوى‬ ‫وفي هذا الحديث عبرة‪ :‬أن من شارك أهل الباطل وأهل‬ ‫البغي والعدوان‪ ،‬فإنه يكون معهم في العقوبة؛ الصالح‬ ‫والطالح‪ ،‬العقوبة إذا وقعت تعم الصالح والطالح‪ ،‬والبر‬ ‫والفاجر‪ ،‬والمؤمن والكافر‪ ،‬والمصلي والمستكبر‪ ،‬ولا تترك‬ ‫أحداً‪ ،‬ثم يوم القيامة يبعثون علي نياتهم‪.‬‬ ‫يقول الله عز وجل‪َ ( :‬وا َّتقُوا فِ ْت َن ًة لا ُت ِصي َب َّن ا َّل ِذي َن َظلَ ُموا‬ ‫ِم ْن ُك ْم َخا َّص ًة َوا ْعلَ ُموا أَ َّن ال َّل َه َش ِدي ُد ا ْل ِع َقا ِب) (الأنفال‪)25 :‬‬ ‫في هذا الحديث ‪ :‬التحذير من مصاحبة أهل الظلم‬ ‫ومجالستهم‪ ،‬وأن العقوبة تلزمه معهم‪ ،‬وأنه يعامل عند‬ ‫الحساب بقصده من الخير والشر‪ .‬وفي حديث ابن عمر‬ ‫مرفو ًعا‪(( :‬إذا أنزل الله بقوم عذا ًبا‪ ،‬أصاب العذاب من كان‬ ‫فيهم‪ ،‬ثم بعثوا على نياتهم))‬

‫الحديث الثالث‬ ‫عن عائِش َة رض َي اللهُ عنها َقالَ ْت‪َ :‬قالَ النبي صلى الله عليه‬ ‫وسلم‪ \" :‬لا ِه ْج َر َة َب ْع َد ال َف ْت ِح‪َ ،‬ولَ ِك ْن ِج َها ٌد َونِ َّي ٌة‪َ ،‬وإِ َذا‬ ‫ا ْس ُت ْن ِف ْر ُت ْم فا ْنفِ ُروا \" ( ُم َّت َف ٌق َعلَ ْي ِه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫َو َمعناهُ‪ :‬لاَ ِه ْج َر َة ِم ْن َم ّك َة لأَ َّن َها َصا َر ْت َدا َر إسلاَ ٍم‬ ‫قال الخ َّطابي وغيره‪ :‬كانت الهجرة فر ًضا في أول الإسلام‬ ‫على من أسلم؛ لقلة المسلمين بالمدينة‪ ،‬وحاجتهم إلى‬ ‫الاجتماع‪ .‬فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفوا ًجا‪،‬‬ ‫فسقط فرض الهجرة إلى المدينة‪ ،‬وبقي فرض الجهاد‪،‬‬ ‫والنية على من قام به‪ ،‬أو نزل به عدو‬ ‫وقال الماوردي‪ :‬إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد‬ ‫الكفر‪ ،‬فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها؛ لما يترجى من‬ ‫دخول غيره في الإسلام‬ ‫في هذا الحديث نفي رسول الله صلي الله عليه وسلم الهجرة‬ ‫بعد الفتح‪ ،‬فقال ‪(( :‬لا هجرة)) وهذا النفي ليس على‬ ‫عمومه‪ ،‬يعني أن الهجرة لم تبطل بالفتح‪ ،‬بل إنه (( لا‬ ‫تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة‪ ،‬ولا تنقطع التوبة حتى‬ ‫تخرج الشمس من مغربها)) كما جاء ذلك في الحديث عن‬ ‫رسول الله صلي الله عليه وسلم‬

‫لكن المراد بالنفي هنا نفي الهجرة من مكة ‪ ،‬لأن مكة بعد‬ ‫الفتح صارت بلاد إسلام‪ ،‬ولن تعود بعد ذلك بلاد كفر‪ ،‬ولذلك‬ ‫نفي النبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم أن‬ ‫تكون هجرة بعد الفتح‬ ‫وهذا دليل على أن مكة لن تعود بلاد كفر‪ ،‬بل ستبقي بلاد‬ ‫إسلام إلي أن تقوم الساعة‪ ،‬أو إلي أن يشاء الله‪.‬‬ ‫((ولكن جهاد ونية)) أي الأمر بعد هذا جهاد ؛ و ((النية))‬ ‫أي النية الصالحة للجهاد في سبيل الله‪ ،‬وذاك بان ينوي‬ ‫الإنسان بجهاده‪ ،‬أن تكون كلمة الله هي العليا‬ ‫((وإذا استنفرتم فانفروا)) يعني‪ :‬إذا استنفركم ولي أمركم‬ ‫للجهاد في سبيل الله‪ ،‬فانفروا وجوباً‪ ،‬وحينئذ يكون الجهاد‬ ‫فرض عين‪ ،‬إذا استنفر الناس للجهاد؛ وجب عليهم أن‬ ‫ينفروا‪ ،‬وألا يتخلف أحد إلا من عذر لقول الله تعالي‪َ ( :‬يا‬ ‫أَ ُّي َها ا َّل ِذي َن آ َم ُنوا َما لَ ُك ْم إِ َذا قِيلَ َل ُك ُم ا ْنفِ ُروا ِفي َسبِي ِل ال َّل ِه‬ ‫ا َّثا َق ْل ُت ْم إِلَى ا ْلأَ ْر ِض أَ َر ِضي ُت ْم بِا ْل َح َيا ِة ال ُّد ْن َيا ِم َن ا ْلآ ِخ َر ِة َف َما‬ ‫َم َتا ُع ا ْل َح َيا ِة ال ُّد ْن َيا ِفي ا ْلآ ِخ َر ِة إِ َّلا َقلِيلٌ) (إِلاّ َت ْنفِ ُروا ُي َع ِّذ ْب ُك ْم‬ ‫َع َذاباً أَلِيماً َو َي ْس َت ْب ِدلْ َق ْوماً َغ ْي َر ُك ْم َولا َت ُض ُّروهُ َش ْيئا)‬ ‫‪ ،‬وهذا أحد المواضع التي يكون فيها الجهاد فرض عين‪.‬‬ ‫الموضع الثاني‪ :‬إذا حضر بلدة العدو‪ ،‬أي جاء العدو حتى‬ ‫وصل إلي البلد وحصر البلد‪ ،‬صار الجهاد فرض عين‪،‬‬ ‫ووجب علي كل أحد أن يقاتل‪ ،‬حتى على النساء والشيوخ‬

‫القادرين في هذه الحال‪ ،‬لأن هذا قتال دفاع فيجب في هذا‬ ‫الحال أن ينفر الناس كلهم للدفاع عن بلدهم‬ ‫الموضع الثالث‪ :‬إذا حضر الصف‪ ،‬والتقي الصفان؛ صف‬ ‫الكفار وصف المسلمسن؛ صار الجهاد حينئذ فرض عين‪،‬‬ ‫ولا يجوز لأحد أن ينصرف كما قال الله تعالي‪َ ( :‬يا أَ ُّي َها‬ ‫الَّ ِذي َن آ َم ُنوا إِ َذا لَقِي ُت ُم الَّ ِذي َن َك َف ُروا َز ْحفاً َفلا ُت َولُّو ُه ُم ا ْلأَ ْد َبا َر)‬ ‫( َو َم ْن ُي َولِّ ِه ْم َي ْو َمئِ ٍذ ُد ُب َرهُ إِ َّلا ُم َت َح ِّرفاً لِ ِق َتا ٍل أَ ْو ُم َت َح ِّيزاً إِلَى ِف َئ ٍة‬ ‫َف َق ْد َبا َء ِب َغ َض ٍب ِم َن ال َّل ِه َو َمأْ َواهُ َج َه َّن ُم َوبِ ْئ َس ا ْل َم ِصي ُر)‬ ‫(الأنفال‪. )16 ،15 :‬‬ ‫وقد جعل النبي صلي الله عليه وسلم التولي يوم الزحف من‬ ‫السبع الموبقات‬ ‫الموضع الرابع‪ :‬إذا احتيج إلي الإنسان؛ بأن يكون السلاح‬ ‫لا يعرفه إلا فرد من الأفراد‪ ،‬وكان الناس يحتاجون إلي هذا‬ ‫الرجل؛ لاستعمال هذا السلاح الجديد مثلاً؛ فإنه يتعين عليه‬ ‫أن يجاهد وإن لم يستنفره الإمام وذلك لأنه محتاج إليه‪.‬‬ ‫ففي هذه المواطن الأربعة‪ ،‬يكون الجهاد فرض عين‬ ‫وما سوي ذلك فإنه يكون فرض كفاية‬

‫الحديث الرابع‬ ‫عن أبي عب ِد اللهِ جابر بن عب ِد الل ِه الأنصار ِّي َرضي اللهُ‬ ‫عنهما َقالَ‪ُ :‬ك َّنا َم َع ال َّنب ِّي صلى الله عليه وسلم في َغ َزا ٍة‪،‬‬ ‫َفقالَ‪(( :‬إِ َّن بالم ِدي َن ِة لَ ِر َجا ًلا ما ِس ْر ُت ْم َم ِسي ًرا‪َ ،‬ولا َق َط ْع ُت ْم‬ ‫َوا ِد ًيا‪ ،‬إلا َكا ُنوا َم َعك ْم َح َب َس ُه ُم ا ْل َم َر ُض))‬ ‫َوفي ر َوا َية‪(( :‬إلا َش َر ُكو ُك ْم في الأ ْج ِر))‬ ‫( رواهُ مسل ٌم)‬ ‫ورواهُ البخار ُّي عن أن ٍس رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬ر َج ْع َنا ِم ْن‬ ‫َغ ْز َو ِة َت ُبو َك َم َع ال َّنب ِّي صلى الله عليه وسلم فقال‪(( :‬إ َّن‬ ‫أ ْقوا ًما َخ ْل َف َنا با ْل َم ِدي َن ِة َما َس َل ْك َنا ِش ْع ًبا َولا َواد ًيا‪ ،‬إلا َو ُه ْم َم َع َنا؛‬ ‫َح َب َس ُه ُم ال ُع ْذ ُر))‬ ‫شرح الحديث‬ ‫((في غزاة)) أي في غزوة‪.‬‬ ‫فمعني الحديث أن الإنسان إذا نوي العمل الصالح‪ ،‬ولكنه‬ ‫حبسه عنه حابس فإنه يكتب له أجر ما نوي‬ ‫اما إذا كان يعمله وهو قادر ‪ ،‬ثم عجز عنه فيما بعد؛ فإنه‬ ‫يكتب له أجر العمل كاملاً‪ ،‬لأن النبي صلي الله عليه وسلم‬ ‫قال‪(( :‬إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل‬ ‫مقيماً صحيحاً))‬

‫فالمتمني للخير‪ ،‬الحريص عليه إن كان من عادته أنه كان‬ ‫يعمله‪ ،‬ولكنه حبسه عنه حابس‪ ،‬كتب له أجره كاملاً‪.‬‬ ‫أما إذا كان ليس من عادته أن يفعله؛ فإنه يكتب له أجر‬ ‫النية فقط‪ ،‬دون أجر العمل‪.‬‬ ‫وفي هذا الحديث ‪ :‬إشارة إلي من يخرج في سبيل الله‪ ،‬في‬ ‫الغزو‪ ،‬والجهاد في سبيل الله‪ ،‬فإن له أجر ممشاه‪ ،‬ولهذا قال‬ ‫النبي صلي الله عليه وسلم‪(( :‬ما سرتم مسيرا ولا قطعتم‬ ‫واديا ولا شعبا إلا وهم معكم)) ‪.‬‬ ‫ونظيرهذا‪ :‬أن الرجل إذا توضأ في بيته فأسبغ الوضوء‪ ،‬ثم‬ ‫خرج إلي المسجد؛ لا يخرجه إلا الصلاة؛ فإنه لا يخرجه إلا‬ ‫الصلاة؛ فإنه لا يخطو خطوة إلا رفع الله له بها درجة‪ ،‬وحط‬ ‫عنه بها خطيئة‪.‬‬ ‫وهذا من فضل الله عز وجل أن تكون وسائل العمل فيها هذا‬ ‫الأجر الذي بينه الرسول صلي الله عليه وسلم‬ ‫وفيه‪ :‬دليل على أن من صحت نيته‪ ،‬وعزم على فعل عمل‬ ‫صالح وتركه لعذر‪ ،‬أن له مثل أجر فاعله‬

‫الحديث الخامس‬ ‫عن أبي َيزي َد َم ْع ِن ب ِن َيزي َد ب ِن الأخن ِس رضي الله عنهم وهو‬ ‫وأبوه َو َج ُّده صحاب ُّيون َقالَ‪َ :‬كا َن أبي َيزي ُد أ ْخ َر َج َد َنا ِني َر‬ ‫َي َت َص َّد ُق ِب َها‪َ ،‬ف َوض َع َها ِع ْن َد َر ُج ٍل في ا ْل َم ْس ِج ِد‪َ ،‬ف ِج ْئ ُت فأَخ ْذ ُتها‬ ‫َفأَ َت ْي ُت ُه ِب َها‪ .‬فقالَ‪ :‬والل ِه‪َ ،‬ما إ َّيا َك أ َر ْد ُت‪َ ،‬ف َخا َص ْم ُت ُه إِلى رسو ِل‬ ‫الل ِه صلى الله عليه وسلم َف َقالَ‪:‬‬ ‫((ل َك َما َن َو ْي َت َيا يزي ُد‪ ،‬ولَ َك ما أ َخ ْذ َت َيا َم ْع ُن))‬ ‫(رواهُ البخار ُّي)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫هذا الحديث في قصة معن بن يزيد وأبيه ‪ -‬رضي الله عنهما‬ ‫‪ ،-‬أن أباه يزيد أخرج دراهم عند رجل في المسجد ليتصدق‬ ‫بها على الفقراء‪ ،‬فجاء ابنه معن فأخذها‪ ،‬وربما يكون ذلك‬ ‫الرجل الذي وكل فيها لم يعلم أنه ابن يزيد‪ .‬ويحتمل أنه‬ ‫أعطاه لأنه من المستحقين‪.‬‬ ‫فبلغ ذلك أباه يزيد‪ ،‬فقال له‪(( :‬ما إياك أردت))‬ ‫أي ما أردت أن أتصدق بهذه الدراهم عليك ‪ -‬فذهب إلي‬ ‫رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال النبي صلي الله عليه‬ ‫وسلم‪(( :‬لك يا يزيد ما نويت‪ ،‬ولك يا معن ما أخذت))‪ ،‬أي‬ ‫ثوابه لأنه نوى الصدقة بها على محتاج ‪ ،‬وابنه محتاج وإن‬ ‫لم ينوه‬

‫فقوله عليه الصلاة والسلام‪(( :‬لك يا يزيد ما نويت))‬ ‫يدل على أن الأعمال بالنيات‪ ،‬وأن الإنسان إذا نوي الخير‬ ‫حصل له‪ ،‬وإن كان يزيد لم ينو أن يأخذ هذه الدراهم ابنه‪،‬‬ ‫لكنه أخذها؛ وابنه من المستحقين فصارت له‪ ،‬ولهذا قال‬ ‫النبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم‪(( :‬لك يا‬ ‫معن ما أخذت))‬ ‫ففي هذا الحديث‪:‬‬ ‫‪-1‬دليل لما ساقه المؤلف من أجله أن الأعمال بالنيات‪ ،‬وأن‬ ‫الإنسان يكتب له أجر ما نوى؛ وإن وقع الأمر على خلاف‬ ‫ما نوى‬ ‫‪-2‬أنه يجوز للإنسان أن يتصدق على ابنه ‪ ،‬فصدقة التطوع‬ ‫يجوز دفعها للفروع‬ ‫‪ -٣‬دليل على أن من نوى الصدقة على محتاج‪ ،‬حصل له‬ ‫ثوابها‪ ،‬ولو كان الآخذ ممن تلزمه نفقته‪ ،‬أو غير أهل لها‬

‫الحديث السادس‬ ‫عن َسع ِد ب ِن أبي َو َّقا ٍص رضي الله عنه َقالَ‪ :‬جاءنِي رسولُ‬ ‫اللهِ صلى الله عليه وسلم َي ُعو ُدنِي َعا َم َح َّج ِة ال َو َدا ِع ِم ْن َو َج ٍع‬ ‫ا ْش َت َّد بي‪ ،‬فقُ ْل ُت‪َ :‬يا َر ُسولَ اللهِ! إ ِّني َق ْد َب َل َغ بي ِم َن ال َو َج ِع َما‬ ‫َت َرى‪َ ،‬وأَ َنا ُذو ما ٍل َولا َي ِر ُثني إلا ا ْب َن ٌة لي‪ ،‬أفأَ َت َص َّد ُق ِب ُثلُ َث ْي‬ ‫َمالِي؟ َقالَ‪(( :‬لا))‪ ،‬قُ ْل ُت‪ :‬فال َّش ْط ُر َيا َر ُسولَ الل ِه؟ ف َقالَ‪:‬‬ ‫((لا))‪ ،‬قُ ْل ُت‪ :‬فال ُّثلُ ُث َيا َر ُسولَ الل ِه؟ َقالَ‪((:‬ال ُّثلُ ُث‪ ،‬وال ُّثلُ ُث‬ ‫َكثي ٌر‪ -‬أَ ْو كبي ٌر‪ -‬إ َّن َك إ ْن َت َذ ْر َو َر َث َت َك أغ ِن َيا َء خي ٌر ِم ْن أ ْن َت َذ َر ُه ْم‬ ‫َعا َل ًة يتك َّففُو َن ال َّنا َس‪َ ،‬وإ َّن َك لَ ْن ُتنفِ َق َن َف َق ًة َت ْب َتغي ِب َها َوج َه‬ ‫اللهِ إلا أُ ِج ْر َت َعلَ ْي َها َح َّتى َما َت ْج َعلُ في فِ ِّي ا ْم َرأَ ِت َك))‪َ ،‬قالَ‪:‬‬ ‫َفقُل ُت‪َ :‬يا رسولَ اللهِ‪ ،‬أُخ َّل ُف بع َد أ ْص َحابي؟ َقالَ‪(( :‬إِ َّن َك لَ ْن‬ ‫ُت َخ َّل َف َف َتعملَ َع َم ًلا َتب َتغي ِب ِه َو ْج َه الل ِه إلا ا ْز َدد َت ِب ِه َد َرج ًة‬ ‫و ِرف َع ًة‪َ ،‬ولَع َّل َك أ ْن ُت َخ َّل َف َح ّتى َين َتفِ َع ِب َك أ ْق َوا ٌم َو ُي َض َّر بِ َك‬ ‫آخرو َن‪ .‬ال َّل ُه َّم أَ ْم ِض لأ ْص َحابي ِه ْج َر َت ُه ْم ولا َت ُر َّد ُه ْم َعلَى‬ ‫أع َقابه ْم‪ ،‬لك ِن ال َبائِ ُس َسع ُد ْب ُن َخ ْولَ َة)) َي ْرثي لَ ُه َر ُسولُ اللهِ‬ ‫صلى الله عليه وسلم أ ْن ما َت ب َم َّكة‬ ‫( ُم َّت َف ٌق علي ِه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلي الله‬ ‫عليه وسلم جاءه يعوده في مرض ألم به‪ ،‬وذلك في مكة ‪،‬‬

‫وكان سعد رضي الله عنه من المهاجرين الذي هاجروا من‬ ‫مكة إلى المدينة ‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول الله‪:‬‬ ‫((إني قد بلغ بي من الوجع ما تري)) أي‪ :‬اصابه الوجع‬ ‫العظيم الكبير‪.‬‬ ‫((وأنا ذو مال كثير أوكبير)) أي‪ :‬أن عنده مالاً كبيراً‬ ‫((ولا يرثني إلا ابنة لي)) أي‪ :‬ليس له ورثة بالفرض إلا‬ ‫هذه البنت‪.‬‬ ‫((أفأتصدق بثلثي مالي)) يعني بثلثيه‬ ‫((قال‪ \" :‬لا \" ‪ ،‬قلت‪ :‬الشطر يا رسول)) أي‪ :‬بالنصف‪.‬‬ ‫((قال‪ \" :‬لا \" ‪ :‬قلت‪ :‬بالثلث قال‪ \" :‬الثلث والثلث كثير \"))‬ ‫فقوله‪(( :‬أفأتصدق)) أي أعطيه صدقة؟ فمنعه النبي صلي‬ ‫الله عليه وسلم من ذلك؛ لأن سعداً في تلك الحال كان مريضاً‬ ‫مرضاً يخشي منه الموت‪ ،‬فلذلك منعه الرسول صلي الله‬ ‫عليه وسلم أن يتصدق بأكثر من الثلث‪.‬‬ ‫لأن المريض مرض الموت لا يجوز أن يتصدق بأكثر من‬ ‫الثلث‪ ،‬لأن ماله قد تعلق به حق الغير؛ وهم الورثة أما من‬ ‫كان صحيحاً ليس فيه مرض‪ ،‬أو فيه مرض يسير لا يخشي‬ ‫منه الموت‪ ،‬فله أن يتصدق بما شاء؛ بالثلث‪ ،‬أو بالنصف‪،‬‬ ‫أو بالثلثين‪ ،‬أو بماله كله‪ ،‬لا حرج عليه‬ ‫لكن لا ينبغي أن يتصدق بماله كله؛ إلا إن كان عنده شيء‬ ‫يعرف أنه سوف يستغني به عن عباد الله‪.‬‬

‫الرسول صلي الله عليه وسلم منعه أن يتصدق بما زاد عن‬ ‫الثلث‪.‬‬ ‫وقال‪(( :‬الثلث والثلث كثير ‪ -‬أو كبير)) وفي هذا دليل علي‬ ‫أنه إذا نقص عن الثلث فهو أحسن وأكمل؛ ولهذا قال ابن‬ ‫عباس رضي الله عنهما‪(( :‬لو أن الناس غضوا من الثلث‬ ‫إلي الربع))‬ ‫لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال‪(( :‬الثلث والثلث كبير))‬ ‫ثم قال الرسول عليه الصلاة والسلام‪:‬‬ ‫((إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من ان تذرهم عالة‬ ‫يتكففون الناس)) أي‪ :‬كونك تبقي المال ولا تتصدق به؛‬ ‫حتى إذا مت وورثه الورثة صاروا أغنياء به‪ ،‬هذا خير من‬ ‫أن تذرهم عالة‪ ،‬لا تترك لهم شيئاً‬ ‫((يتكففون الناس)) أي‪ :‬يسألون الناس بأكفهم؛ أعطونا‬ ‫أعطونا‬ ‫وفي هذا دليل على أن الميت إذا خلف مالاً للورثة فإن ذلك‬ ‫خير له‪.‬‬ ‫ثم قال ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت‬ ‫عليها‪ ،‬حتى ما تجعل في في أمرأتك)) يقول‪ :‬لن تنفق نفقة؛‬ ‫أي‪ :‬لن تنفق مالاً ‪ ،‬أو فرشاً أو طعاماً أو غير ذلك تبتغي به‬ ‫وجه الله إلا أجرت عليه‬ ‫((تبتغي بها وجه الله)) أي‪ :‬تقصد به وجه الله عز وجل‬

‫((حتى ما تجعل في في امرأتك)) أي‪ :‬حتى اللقمة التي‬ ‫تطعمها امرأتك تؤجر عليها إذا قصدت بها وجه الله‪ ،‬مع ان‬ ‫الإنفاق على الزوجة أمر واجب‪ ،‬ومع هذا إذا أنفقت على‬ ‫زوجتك تبتغي بذلك وجه الله؛ فإن الله يثيبك علي هذا‪.‬‬ ‫ثم قال رضي الله عنه‪(( :‬أخلف بعد أصحابي))‬ ‫يعني هل أتأخر بعد أصحابي فأموت بمكة ‪ ،‬أي أاترك في‬ ‫مكة بعد انصرافهم عنها وأموت فيها؟‬ ‫فبين النبي صلي الله عليه وسلم له أنه لن يخلف فقال‪:‬‬ ‫((إنك لن تخلف))‬ ‫وبين له أنه لوخلف ثم عمل عملاً يبتغي به وجه الله ازداد‬ ‫به عند الله درجة ورفعة‪.‬‬ ‫يعني‪ :‬لو فرض أنك خلفت ولم تتمكن من الخروج من مكة‪،‬‬ ‫وعملت عملاً تبتغي به وجه الله؛ فإن الله تعالي يزيدك به‬ ‫رفعة ودرجة‪ ،‬رفعة في المقام والمرتبة‪ ،‬ودرجة في المكان‪.‬‬ ‫ثم قال النبي صلي الله عليه وسلم‪(( :‬ولعلك أن تخلف))‬ ‫أي تعمر في الدنيا؛ وهذا هو الذي وقع فإن سعد ابن أبي‬ ‫وقاص عمر زماناً طويلاً‪ ،‬حتى إنه‪ -‬رضي الله عنه‪ -‬كما ذكر‬ ‫العلماء‪ ،‬خلف سبعة عشر ذكراً واثنتي عشر بنتاً‬ ‫وكان في الأول ليس عنده إلا بنت واحدة‪ ،‬ولكن بقي وعمر‬ ‫ورزق أولاداً‪ .‬سبعة عشر ابنا واثنتي عشرة ابنة‬

‫((حتى ينتفع بك أقواماً ويضر بك آخرون)) وهذا الذي‬ ‫حصل‪ ،‬فإن سعداً رضي الله عنه خلف وصار له أثر كبير في‬ ‫الفتوحات الإسلامية‪ ،‬وفتح فتوحات عظيمة كبيرة‪ ،‬فانتفع‬ ‫به أقوام وهم المسلمون‪ ،‬وضر به آخرون وهم الكفار‪.‬‬ ‫ثم قال النبي صلي الله عليه وسلم‪(( :‬اللهم أمض لأصحابي‬ ‫هجرتهم))‬ ‫سأل الله أن يمضي لأصحابه هجرتهم وذلك بأمرين‪:‬‬ ‫الأمر الأول‪ :‬ثباتهم على الإيمان؛ لأنه إذا ثبت الإنسان على‬ ‫الإيمان ثبت على الهجرة‬ ‫والأمر الثاني‪ :‬أن لا يرجع أحدهم منهم إلي مكة بعد أن‬ ‫خرج منها؛ مهاجراً إلي الله ورسوله‪.‬‬ ‫((ولا تردهم علي أعقابهم)) أي لا تجعلهم ينتكسون عن‬ ‫الإيمان فيرتدون علي أعقابهم‬ ‫وقوله‪(( :‬لكن البائس سعد بن خولة)) سعد بن خولة ‪-‬‬ ‫رضي الله عنه ‪ -‬من المهاجرين الذين هاجروا من مكة‬ ‫ولكن الله قدر أن يموت فيها؛ فمات فيها‪ ،‬فرثي له النبي‬ ‫عليه الصلاة والسلام؛ أي‪ :‬توجع له أن مات بمكة؛ وقد‬ ‫كانوا يكرهون للمهاجر أن يموت في الأرض التي هاجر‬ ‫منها‪.‬‬

‫( َي ْرثي لَ ُه َر ُسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أ ْن ما َت ب َم َّكة )‬ ‫هذا من كلام الراوي أي حزن الرسول صلى الله عليه وسلم‬ ‫وتوجع عليه أن مات بمكة‬ ‫في هذا الحديث ‪ :‬مشروعية عيادة المريض‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬الإنفاق على من تلزمه مؤنتهم‪ ،‬والحث على‬ ‫الإخلاص في ذلك‪.‬‬ ‫وفيه ‪ :‬أن الإنسان إذا أنفق نفقة يبتغي وجه الله فإنه يثاب‬ ‫عليها‪ ،‬فينبغي للإنسان أن يستحضر نية التقرب إلي الله في‬ ‫كل ما ينفق حتى يكون له في ذلك أجر‬ ‫وفيه‪ :‬أن من ترك ما ًلا قلي ًلا‪ ،‬فالاختيار له‪ :‬ترك الوصية‪،‬‬ ‫وإبقاء المال للورثة‪ ،‬ومن ترك ما ًلا كثي ًرا‪ ،‬جاز له الوصية‬ ‫بالثلث فما دون‬

‫الحديث السابع‬ ‫ع ْن أبي هرير َة رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ َر ُسولُ الله صلى الله‬ ‫عليه وسلم‪:‬‬ ‫((إ َّن الله لا ي ْن ُظ ُر إِلَى أَ ْج َسا ِم ُك ْم‪ ،‬ولا إِلى ُص َو ِرك ْم‪َ ،‬و َلكن ي ْن ُظ ُر‬ ‫إلى قُلُو ِبك ْم))‬ ‫(رواه مسلم )‬ ‫شرح الحديث‬ ‫الله سبحانه وتعالي لا ينظر إلي العباد إلي أجسامهم هل هي‬ ‫كبيرة أو صغيرة‪ ،‬أو صحيحة‪ ،‬أو سقيمة‪ ،‬ولا ينظر إلي‬ ‫الصور‪ ،‬هل هي جميلة أو ذميمة‪ ،‬كل هذا ليس بشيء عند‬ ‫الله‬ ‫وكذلك لا ينظر إلي الأنساب؛ هل هي رفيعة أو دنيئة‪ ،‬ولا‬ ‫ينظر إلي الأموال‪ ،‬ولا ينظر إلي شيء من هذا أبدا‪ ،‬فليس‬ ‫بين الله وبين خلقه صلة إلا بالتقوي‪ ،‬فمن كان لله أتقي كان‬ ‫من الله أقرب‪ ،‬وكان عند الله أكرم‬ ‫إذا لا تفتخر بمالك‪ ،‬ولا بجمالك‪ ،‬ولا ببدنك‪ ،‬ولا بأولادك‪ ،‬ولا‬ ‫بقصورك‪ ،‬ولا سياراتك‪ ،‬ولا بشيء من هذه الدنيا أبدا إنما‬ ‫إذا وفقك الله للتقوى فهذا من فضل الله عليك فأحمد الله عليه‬

‫قوله عليه الصلاة والسلام‪(( :‬ولكن ينظر إلي قلوبكم))‬ ‫فالقلوب هي التي عليها المدار‪ ،‬كم من إنسان ظاهر عمله‬ ‫أنه صحيح وجيد وصالح‪ ،‬لكن لما بني على خراب صار‬ ‫خراباً‪ ،‬فالنية هي الأصل‬ ‫تجد رجلين يصليان في صف واحد‪ ،‬مقتدين بإمام واحد‪،‬‬ ‫يكون بين صلاتيهما كما بين المشرق والمغرب؛ لأن القلب‬ ‫مختلف‪ ،‬أحدهما قلبه غافل‪ ،‬بل ربما يكون مرائيا في صلاته‬ ‫يريد بها الدنيا‬ ‫والآخر قلبه حاضر يريد بصلاته وجه الله واتباع سنة‬ ‫رسول الله صلي الله عليه وسلم‪.‬‬ ‫فبينهما فرق عظيم‪ ،‬فالعمل على ما في القلب‪ ،‬وعلي ما في‬ ‫القلب يكون الجزاء يوم القيامة كما قال الله تعالي‪ (:‬إِ َّن ُه َعلَى‬ ‫َر ْج ِع ِه لَ َقا ِد ٌر * َي ْو َم ُت ْب َلى ال َّس َرا ِئ ُر) (الطارق‪)9/8 :‬‬ ‫أي‪ :‬تختبر السرائر لا الظواهر‪ .‬في الدنيا الحكم بين الناس‬ ‫على الظاهر؛ لقول النبي صلي الله عليه وسلم‪(( :‬إنما أنا‬ ‫بشر وإنكم تختصمون‪ ،‬ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته‬ ‫من بعض‪ ،‬وأقضي له على نحو مما أسمع)) لكن في الآخرة‬ ‫على ما في السرائر‬ ‫فإذا كانت السريرة جيدة صحيحة فأبشر بالخير‪ ،‬وإن كانت‬ ‫الأخرى فقدت الخير كله‬

‫وإذا كان الله تعالي في كتابه‪ ،‬وكان رسوله صلي الله عليه‬ ‫وسلم في سنته يؤكدان على إصلاح النية؛ فالواجب على‬ ‫الإنسان أن يصلح نيته‪ ،‬يصلح قلبه‬ ‫في هذا الحديث ‪ :‬الاعتناء بحال القلب وصفاته‪ ،‬وتصحيح‬ ‫مقاصده‪ ،‬وتطهيره عن كل وصف مذموم؛ لأن عمل القلب‬ ‫هو المصحح للأعمال الشرعية‪ ،‬وكمال ذلك بمراقبة الله‬ ‫سبحانه وتعالى‬

‫الحديث الثامن‬ ‫عن أبي موسى الأشعر ِّي رضي الله عنه َقالَ‪ُ :‬سئِلَ رسولُ‬ ‫الله صلى الله عليه وسلم َع ِن ال َّر ُج ِل ُيقاتلُ َش َجا َع ًة‪ ،‬و ُي َقاتِلُ‬ ‫َح ِم َّي ًة‪ ،‬و ُي َقاتِلُ ِر َيا ًء‪ ،‬أَ ُّي ذلِ َك في سبي ِل الله؟ فقال َر ُسول الله‬ ‫صلى الله عليه وسلم‪َ (( :‬م ْن َقا َتلَ لِ َتكو َن َكلِ َم ُة الل ِه هي ال ُع ْل َيا‪،‬‬ ‫َفه َو في سبي ِل اللهِ))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق َع َلي ِه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫وفي لفظ للحديث‪(( :‬ويقاتل ليرى مكانه ؛ أي ذلك في سبيل‬ ‫الله قال‪ :‬من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل‬ ‫الله))‬ ‫قوله‪(( :‬من قاتل لتكون)) في هذا إخلاص النية لله ‪ -‬عز‬ ‫وجل‪ -‬وهذا الذي ساق المؤلف الحديث من أجله؛ إخلاص‬ ‫النية‬ ‫قد سئل الرسول صلي الله عليه وسلم عن الذي يقاتل على‬ ‫أحد الوجوه الثلاثة! شجاعة‪ ،‬وحمية‪ ،‬وليرى مكانه‬ ‫أما الذي يقاتل شجاعة‪ :‬فمعناه أنه رجل شجاع‪ ،‬يحب‬ ‫القتال؛ لأن الرجل الشجاع متصف بالشجاعة‪ ،‬والشجاعة‬ ‫لابد لها من ميدان تظهر فيه‪ ،‬فتجد الشجاع يحب أن الله‬

‫ييسر له قتالاً ويظهر شجاعته‪ ،‬فهو يقاتل لأنه شجاع يحب‬ ‫القتال‬ ‫الثاني‪ :‬يقاتل حمية‪ :‬حمية على قوميته‪ ،‬حمية على قبيلته‪،‬‬ ‫حمية على وطنه‪ ،‬حمية لأي عصبية كانت‪.‬‬ ‫الثالث‪ :‬يقاتل رياء أو ليري مكانه‪ :‬أي ليراه الناس‬ ‫ويعرفوا أنه شجاع‪ ،‬فعدل النبي صلي الله عليه وسلم عن‬ ‫ذلك‪ ،‬وقال كلمة موجزة ميزاناً للقتال فقال‪:‬‬ ‫((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله))‬ ‫قال ابن عباس‪ :‬كلمة الله‪(( :‬لا إله إلا الله))‪.‬‬ ‫قال ابن أبي جمرة‪ :‬إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة‬ ‫الله لم يضره ما انضاف إليه‬ ‫قال الحافظ‪ :‬القتال يقع بسبب خمسة أشياء‪ :‬طلب المغنم‪،‬‬ ‫وإظهار الشجاعة‪ ،‬والرياء‪ ،‬والحمية‪ ،‬والغضب‪ ،‬وكل منها‬ ‫يتناوله المدح والذم‪ ،‬فلهذا لم يحصل الجواب بالإِثبات ولا‬ ‫بالنفي‬ ‫وعدل النبي عليه الصلاة والسلام عن ذكر هذه الثلاثة؛‬ ‫ليكون أعم واشمل؛ لأن الرجل ربما يقاتل من أجل الاستيلاء‬ ‫على الأوطان والبلدان‪ ،‬يقاتل من أجل أن يحصل علي امرأة‬ ‫يسبيها من هؤلاء القوم‪ ،‬والنيات لا حد لها‪ ،‬لكن هذا‬ ‫الميزان الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام ميزان تام‬ ‫وعدل‬

‫وفي هذا الحديث ‪ :‬أن الأعمال إنما تحتسب بالنية الصالحة‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬ذم الحرص على الدنيا‪ ،‬وعلى القتال لحظ النفس في‬ ‫غير الطاعة‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬أن الفضل الذي يورد في المجاهدين مختص بمن قاتل‬ ‫لإِعلاء دين الله‪.‬‬

‫الحديث التاسع‬ ‫عن أبي َبك َر َة ُنفيع ب ِن الحار ِث الثقف ِّي رضي الله عنه أَ َّن‬ ‫ال َّنب َّي صلى الله عليه وسلم َقالَ‪:‬‬ ‫((إِ َذا ال َت َقى ال ُمسلِ َمان ب َس ْي َفي ِه َما فال َقا ِتلُ َوال َم ْق ُتولُ في ال ّنا ِر))‪.‬‬ ‫قُل ُت‪ :‬يا َر ُسولَ اللهِ‪ ،‬هذا ال َقاتِلُ َف َما َبالُ الم ْق ُتو ِل؟ َقالَ‪(( :‬إ َّن ُه‬ ‫َكا َن َحري ًصا َعلَى قت ِل َصا ِحب ِه))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق علي ِه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫قوله‪(( :‬إذا التقي المسلمان بسيفهما))‬ ‫أي‪ :‬يريد كل واحد منهما أن يقتل الآخر‪ ،‬فسل عليه السيف‪،‬‬ ‫وكذلك لو اشهر عليه السلاح؛ كالبندقية‪ ،‬أو غيرها مما‬ ‫يقتل؛ كحجر ونحوه!‬ ‫فذكر السيف هنا على سبيل التمثيل‪ ،‬وليس على سبيل‬ ‫التعيين‪ .‬بل إذا التقي المسلمان بأي وسيلة يكون بها القتل‪،‬‬ ‫فقتل أحدهما الآخر فالقاتل والمقتول في النار‬ ‫فقال أبو بكرة للنبي صلي الله عليه وسلم‪(( :‬هذا القاتل؟))‬ ‫يعني أن كونه في النار واضح؛ لأنه قتل نفساً مؤمنة‬ ‫متعمداً؛ والذي يقتل نفساً مؤمنة متعمداً بغير حق فإنه في‬ ‫نار جهنم‪ ،‬قال الله تعالي‪َ ( :‬و َم ْن َي ْق ُتلْ ُم ْؤ ِمناً ُم َت َع ِّمداً َف َج َزا ُؤهُ‬

‫َج َه َّن ُم َخالِداً ِفي َها َو َغ ِض َب ال َّلهُ َع َل ْي ِه َو َل َع َن ُه َوأَ َع َّد َل ُه َع َذاباً‬ ‫َع ِظيماً) (النساء‪. )9٣ :‬‬ ‫فأبوبكرة ‪ -‬رضي الله عنه‪ -‬قال للنبي صلي الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫((هذا القاتل)) وهذه الجملة هي ما يعرف في باب المناظرة‬ ‫بالتسليم‪ ،‬يعني‪ :‬سلمنا أن القاتل في النار‪ ،‬فما بال المقتول؟‬ ‫كيف يكون في النار وهو المقتول؟‬ ‫فقال النبي صلي الله عليه وسلم‪(( :‬لأنه كان حريصا على‬ ‫قتل صاحبه)) فهو حريص علي قتل صاحبه؛ ولهذا جاء‬ ‫بآلة القتل ليقتله‪ ،‬ولكن تفوق عليه الآخر فقتله‪ .‬فيكون هذا‬ ‫بنية القتل‪ ،‬وعمله السبب الموصل للقتل يكون كأنه قاتل؛‬ ‫ولهذا قال‪(( :‬لأنه كان حريصا على قتل صاحبه))‬ ‫ففي هذاالحديث ‪ :‬دليل على أن الأعمال بالنيات‪ ،‬وأن هذا‬ ‫لما نوي قتل صاحبه‪ ،‬صار كأنه فاعل ذلك‪ ،‬أي كأنه قتل‪.‬‬ ‫فمن قتل أخاه مريداً لقتله فإنه في النار‪ ،‬ومن قتله أخوه‪،‬‬ ‫وهو يريد قتل أخيه‪ ،‬لكن عجز‪ ،‬فالمقتول أيضاً في النار‪.‬‬ ‫القاتل والمقتول في النار‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬دليل على عظم القتل‪ ،‬وإنه من أسباب دخول النار‬ ‫والعياذ بالله‪.‬‬ ‫وفيه‪ :‬العقاب على من عزم على المعصية بقلبه‪ ،‬وو َّطن‬ ‫نفسه عليها‪.‬‬

‫الحديث العاشر‬ ‫عن أبي هرير َة رضي الله عنه َقالَ‪ :‬قالَ َر ُسول الله صلى الله‬ ‫عليه وسلم‪:‬‬ ‫(( َصلاةُ ال َّرج ِل في ج َما َع ٍة َتزي ُد َعلَى َصلات ِه في بيت ِه‬ ‫وصلاته ِفي ُسوقِ ِه ب ْض ًعا و ِعش ِري َن َد َر َج ًة‪َ ،‬و َذلِ َك أ َّن أَح َد ُه ْم‬ ‫إِ َذا َت َو َّضأَ َفأَ ْح َس َن ال ُوضو َء‪ُ ،‬ث َّم أَ َتى ال َم ْس ِج َد‪ ،‬لا َي ْن َه ُزهُ إِلا‬ ‫ال َصلاةُ‪ ،‬لا ُي ِري ُد إلا ال َّصلا َة‪َ :‬ل ْم َي ْخ ُط ُخ ْط َو ًة إِلا ُرفِ َع َل ُه ِب َها‬ ‫َدر َج ٌة‪َ ،‬و ُح َّط َع ْن ُه بها َخ ِطي َئ ٌة َح َّتى َي ْد ُخلَ ال َم ْس ِج َد‪ ،‬فإِذا َد َخلَ‬ ‫ال َم ْس ِج َد َكا َن في ال َّصلا ِة َما َكا َن ِت ال َّصلاةُ ِهي َت ْح ِب ُس ُه‪،‬‬ ‫َوال َملائِ َك ُة ُي َصلُّو َن َعلَى أَ َح ِد ُك ْم َما َدا َم في َم ْجلِ ِس ِه الَّ ِذي َص َّلى‬ ‫ِفي ِه‪َ ،‬يقُولُو َن‪ :‬اللَّ ُه َّم ا ْر َح ْم ُه‪ ،‬اللَّ ُه َّم ا ْغ ِف ْر َل ُه‪ ،‬ال ّلَ ُه َّم ُت ْب َعلَي ِه‪،‬‬ ‫َما َلم ُي ْؤ ِذ فيه‪َ ،‬ما لَ ْم ُي ْح ِد ْث ِفي ِه))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق عليه‪ ،‬وهذا لفظ مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫وقوله صلى الله عليه وسلم‪َ (( :‬ي ْن َه ُزهُ)) أَ ْي ُي ْخ ِر ُج ُه و ُي ْنه ُض ُه‬ ‫قوله‪(( :‬لا يريد إلا الصلاة)) أي‪ :‬في جماعة‪ ،‬وفيه‪ :‬إشارة‬ ‫إلى اعتبار الإخلاص‬ ‫فإذا صلى الإنسان في المسجد مع الجماعة كانت هذه‬ ‫الصلاة أفضل من الصلاة في بيته أو في سوقه سبعاً‬

‫وعشرين مرة؛ لأن الصلاة مع الجماعة قيام بما أوجب الله‬ ‫من صلاة الجماعة‬ ‫فإن القول الراجح من أقوال أهل العلم أن صلاة الجماعة‬ ‫فرض عين؛ وأنه يجب علي الإنسان أن يصلي مع الجماعة‬ ‫في المسجد‪ ،‬لأحاديث وردت في ذلك‪ ،‬ولما اشار الله إليه ‪-‬‬ ‫سبحانه وتعالي‪ -‬في كتابه حين قال‪َ ( :‬وإِ َذا ُك ْن َت فِي ِه ْم َفأَ َق ْم َت‬ ‫َل ُه ُم ال َّصلا َة َف ْل َتقُ ْم َطائِ َف ٌة ِم ْن ُه ْم َم َع َك …‪( ).‬النساء‪ :‬من‬ ‫الآية‪)102‬‬ ‫فأوجب الله الجماعة في حال الخوف‪ ،‬فإذا أوجبها في حال‬ ‫الخوف؛ ففي حال الأمن من باب أولى وأحري‬ ‫ثم ذكر السبب في ذلك‪(( :‬بأن الرجل إذا توضأ في بيته‬ ‫فأسبغ الوضوء‪ ،‬ثم خرج من بيته إلي المسجد لا ينهزه‪ ،‬أو‬ ‫لا يخرجه إلا الصلاة‪ ،‬لم يحط خطوة إلا رفع الله بها درجة‬ ‫وحط عنه بها خطيئة)) ‪ ،‬سواء أقرب مكانه من المسجد أم‬ ‫بعد‪ ،‬كل خطوة يحصل بها فائدتان‪:‬‬ ‫الفائدة الأولي‪ :‬أن الله يرفعه بها درجة‪.‬‬ ‫والفائدة الثانية‪ :‬أن الله يحط بها خطيئة‪ ،‬وهذا فضل عظيم‬ ‫حتى يدخل المسجد؛ فإذا دخل المسجد فصلي ما كتب له‪ ،‬ثم‬ ‫جلس ينتظر الصلاة؛ ((فإنه في صلاة ما انتظر الصلاة)) ؛‬ ‫وهذه أيضاً نعمة عظيمة؛ لو بقيت منتظراً للصلاة مدة‬ ‫طويلة‪ ،‬وأنت جالس لا تصلي‪ ،‬بعد أن صليت تحية المسجد‪،‬‬ ‫وما شاء الله ‪ -‬فإنه يحسب لك أجر الصلاة‪.‬‬

‫وهناك أيضاً شيء رابع‪ :‬أن الملائكة تصلي عليه ما دام في‬ ‫مجلسه الذي صلي فيه‪ ،‬تقول‪( :‬اللهم صل عليه‪ ،‬اللهم أغفر‬ ‫له‪ ،‬اللهم ارحمه‪ ،‬اللهم تب عليه) وهذا أيضاً فضل عظيم‬ ‫لمن حضر بهذه النية وبهذه الأفعال‬ ‫والشاهد من هذا الحديث قوله‪(( :‬ثم خرج من بيته إلي‬ ‫المسجد لا يخرجه إلا الصلاة)) فإنه يدل على اعتبار النية‬ ‫في حصول هذا الأجر العظيم‪.‬‬ ‫وفي هذا الحديث ‪ :‬إشارة إلى بعض الأسباب المقتضية‬ ‫للدرجات‪ ،‬وهو قوله‪(( :‬وذلك أنه إذا توضأ‪ ،‬فأحسن‬ ‫الوضوء‪ ،‬ثم خرج إلى المسجد‪ ،‬لا يخرجه إلا الصلاة‪ ،‬لم‬ ‫يخط خطوة إلا ُرفعت له بها درجة‪ ،‬وحط عنه بها خطيئة))‬ ‫وفيه ‪ :‬صلاة الملائكة عليه‪ ،‬واستغفارهم له‪ ،‬وغير ذلك‬

‫الحديث الحادي عشر‬ ‫عن أبي الع َّبا ِس عب ِد اللهِ ب ِن عبا ِس ب ِن عبد المطلب ر ِض َي‬ ‫اللهُ عنهما‪ ،‬عن َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي‬ ‫عن رب ِه تبار َك وتعالى َقالَ‪:‬‬ ‫((إ َّن اللهَ َك َت َب ال َح َس َنا ِت وال َّس ِّي َئا ِت ُث َّم َب َّي َن ذلِ َك‪َ ،‬ف َم ْن َه َّم‬ ‫ب َح َس َن ٍة َفلَ ْم َي ْع َم ْل َها َك َت َبها اللهُ َت َبا َر َك و َت َعالى ِع ْن َدهُ َح َس َن ًة‬ ‫كا ِملَ ًة‪َ ،‬وإ ْن َه َّم ب َها َف َع ِملَ َها َك َت َب َها اللهُ َع ْش َر َح َسنا ٍت إِلى‬ ‫َس ْبعمائ ِة ِض ْع ٍف إِلى أَض َعا ٍف َكثير ٍة‪ ،‬وإ ْن َه َّم ِب َس ِّي َئ ٍة َف َل ْم‬ ‫َي ْع َم ْل َها َك َت َب َها اللهُ ِع ْن َدهُ َح َس َن ًة َكا ِمل ًة‪َ ،‬وإ ْن َه َّم بِ َها َف َع ِملَ َها‬ ‫َك َت َب َها اللهُ َس ِّي َئ ًة َوا ِح َد ًة))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق علي ِه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫هذا حديث شريف عظيم‪ ،‬ب َّين فيه النبي صلى الله عليه وسلم‬ ‫مقدار ما تف َّضل الله به ع َّز وجلّ على خلقه من تضعيف‬ ‫الحسنات‪ ،‬وتقليل السيئات‪ .‬زاد مسلم بعد قوله‪(( :‬وإن ه َّم‬ ‫بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة))‪(( .‬أو محاها‪ ،‬ولا َي ْهلِك‬ ‫على الله إلا هال ٌك))‬ ‫قال ابن مسعود رضي الله عنه ‪ :‬ويلٌ لمن غلبت وحداته‬ ‫عشراته‬

‫قوله‪ (( :‬إن الله كتب الحسنات والسيئات)) كتابته للحسنات‬ ‫والسيئات تشمل معنيين‪:‬‬ ‫المعنى الأول‪ :‬كتابة ذلك في اللوح المحفوظ‪ ،‬فإن الله ‪-‬‬ ‫تعالي‪ -‬كتب في اللوح المحفوظ؛ كل شي كما قال الله تعالى‪:‬‬ ‫{ إِ َّنا ُكلَّ َش ْي ٍء َخلَ ْق َناهُ ِب َق َد ٍر ) (القمر‪(49 :‬‬ ‫وقال تعالي ( َو ُكلُّ َص ِغي ٍر َو َكبِي ٍر ُم ْس َت َط ٌر) (القمر‪ ، )5٣ :‬فالله‬ ‫‪ -‬سبحانه وتعالي‪ -‬يكتب السيئات والحسنات في اللوح‬ ‫المحفوظ‪ ،‬إذا عملها العبد ‪ ،‬فإن الله ‪ -‬تعالي‪ -‬يكتبها حسب‬ ‫ما تقتضيه حكمته‪ ،‬وحسب ما يقتضيه عدله وفضله‪.‬‬ ‫فهاتان كتابتان‪:‬‬ ‫▪ كتابة سابقة‪ :‬لا يعلمها إلا الله ‪ -‬عز وجل‪ -‬فكل واحد منا لا‬ ‫يعلم ماذا كتب الله له من خير أو شر حتى يقع ذلك الشيء‪.‬‬ ‫▪ و كتابة لاحقة‪ :‬إذا عمل الإنسان العمل كتب له حسب ما‬ ‫تقتضيه الحكمة‪ ،‬والعدل‪ ،‬والفضل‬ ‫((ثم بين ذلك)) أي‪ :‬ثم بين النبي صلي الله عليه وسلم ذلك‬ ‫كيف يكتب‪ ،‬فبين أن الإنسان إذا هم بحسنة فلم يعملها كتبها‬ ‫الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬حسنة كاملة‬ ‫مثاله‪ :‬رجل هم أن يتوضأ ليقرأ القرآن‪ ،‬ثم لم يفعل ذلك‬ ‫وعدل عنه‪ ،‬فإنه يكتب له بذلك حسنة كاملة‪.‬‬

‫مثال آخر‪ :‬رجل هم أن يتصدق‪ ،‬وعين المال الذي يريد أن‬ ‫يتصدق به‪ ،‬ثم أمسك ولم يتصدق‪ ،‬فيكتب له بذلك حسنة‬ ‫كاملة‬ ‫فإن قال قائل‪ :‬كيف يكتب له حسنة وهو لم يفعلها ؟‬ ‫فالجواب علي ذلك‪ :‬أن يقال إن فضل الله واسع‪ ،‬هذا الهم‬ ‫الذي حدث منه يعتبر حسنة؛ لأن القلب همام؛ إما بخير أو‬ ‫بشر‪ ،‬فإذا هم بالخير فهذه حسنة تكتب له‪ ،‬فإن عملها كتبها‬ ‫الله عشر حسنات إلي سبعمائة ضعف إلي أضعاف كثيرة‪.‬‬ ‫وهذا التفاوت مبني على الإخلاص والمتابعة؛ فكلما كان‬ ‫الإنسان في عبادته أخلص لله كان أجره أكثر‪ ،‬وكلما كان‬ ‫الإنسان في عبادته أتبع للرسول صلي الله عليه وسلم كانت‬ ‫عبادته أكمل‪ ،‬وثوابه أكثر‪ ،‬فالتفاوت هذا يكون بحسب‬ ‫الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلي الله عليه وسلم‪.‬‬ ‫أما السيئة فقال‪(( :‬وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده‬ ‫حسنة كاملة)) كرجل َه َّم أن يسرق‪ ،‬ولكن ذكر الله ‪-‬عز‬ ‫وجل‪ -‬فأدركه خوف الله فترك السرقة‪ ،‬فإنه يكتب له بذلك‬ ‫حسنة كاملة؛ لأنه ترك فعل المعصية لله فأثيب على ذلك كما‬ ‫جاء ذلك مفسراً في لفظ آخر‪(( :‬إنما تركها من جراي)) أي‬ ‫من أجلي‪ ،‬هم أن يفعل منكراً كالغيبة مثلاً‪ ،‬ولكنه ذكر أن‬ ‫هذا محرم فتركه لله؛ فإنه يعطي على ذلك حسنة كاملة‬ ‫فإن عمل السيئة كتبت سيئة واحدة فقط‪ ،‬لا تزيد‪ ،‬لقوله‬ ‫تعالى ‪َ {:‬م ْن َجا َء بِا ْل َح َس َن ِة َفلَ ُه َع ْش ُر أَ ْم َثالِ َها َو َم ْن َجا َء‬

‫بِال َّس ِّي َئ ِة َفلا ُي ْج َزى إِ َّلا ِم ْث َل َها َو ُه ْم لا ُي ْظلَ ُمو َن (الأنعام‪:‬‬ ‫‪)160‬‬ ‫وقال العلماء‪ :‬إ َّن السيئة تعظم أحيا ًنا بشرف الزمان أو‬ ‫المكان‪ ،‬وقد تضاعف بشرف فاعلها وقوة معرفته‪ ،‬كما قال‬ ‫تعالى‪َ { :‬يا نِ َساء ال َّنبِ ِّي َمن َيأْ ِت ِمن ُك َّن ِب َفا ِح َش ٍة ُّم َب ِّي َن ٍة ُي َضا َع ْف‬ ‫لَ َها ا ْل َع َذا ُب ِض ْع َف ْي ِن َو َكا َن َذلِ َك َعلَى ال َّلهِ َي ِسي ًرا * َو َمن َي ْق ُن ْت‬ ‫ِمن ُك َّن لِ َّلهِ َو َر ُسولِ ِه َو َت ْع َملْ َصالِ ًحا ُّن ْؤ ِت َها أَ ْج َر َها َم َّر َت ْي ِن‬ ‫َوأَ ْع َت ْد َنا لَ َها ِر ْز ًقا َك ِري ًما [الأحزاب‪]٣1 ،٣0 :‬‬ ‫وهذا الحديث فيه‪ :‬دليل على اعتبار النية؛ وأن النية قد‬ ‫توصل صاحبها إلي الخير‪ .‬وأن الإنسان إذا نوي الشر‪،‬‬ ‫وعمل العمل الذي يوصل إلي الشر‪ ،‬ولكنه عجز عنه؛ فإنه‬ ‫يكتب عليه إثم فاعله‬

‫الحديث الثاني عشر‬ ‫عن عب ِد الله ب ِن عم َر بن الخطا ِب رض َي اللهُ عنهما‪َ ،‬قالَ‪:‬‬ ‫سمع ُت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬يقول‪(( :‬ان َطلَ َق‬ ‫َثلا َث ُة َن َف ٍر ِم َّم ْن َكا َن َق ْب َل ُك ْم َح َّتى آ َوا ُه ُم ال َمبي ُت إِلى َغا ٍر‬ ‫َف َدخلُوهُ‪ ،‬فا ْن َحد َر ْت َص ْخ َرةٌ ِم َن ال َج َب ِل َف َس َّد ْت َعلَ ْي ِه ُم ال َغا َر‪،‬‬ ‫َفقالُوا‪ :‬إِ َّن ُه لا ُي ْن ِجي ُك ْم ِم ْن ه ِذ ِه ال َّص ْخ َر ِة إِلا أ ْن َت ْد ُعوا اللهَ‬ ‫ب َصالِ ِح أ ْع َمالِ ُك ْم‪.‬‬ ‫َقالَ رجلٌ ِم ْن ُه ْم‪ :‬اللَّ ُه َّم َكا َن لِي أَ َبوا ِن َش ْي َخا ِن كبيرا ِن‪ ،‬و ُك ْن ُت‬ ‫لا أ ْغبِ ُق َق ْبلَ ُه َما أ ْه ًلا ولا ما ًلا‪َ ،‬ف َنأَى بِي َطلَب ال َّش َج ِر َي ْو ًما فلم‬ ‫أَ ِر ْح َعلَ ْيه َما َح َّتى َنا َما‪َ ،‬ف َح َل ْب ُت لَ ُه َما َغ ُبو َق ُه َما َف َو َج ْد ُت ُهما‬ ‫َنائِ َمي ِن‪َ ،‬ف َك ِر ْه ُت أ ْن أُوقِ َظ ُه َما َوأَ ْن أ ْغ ِب َق َق ْب َل ُه َما أ ْه ًلا أو ما ًلا‪،‬‬ ‫َفلَ َب ْث ُت ‪-‬و ا ْل َق َد ُح َعلَى َي ِدي‪ -‬أن َت ِظ ُر ا ْستِي َقا َظ ُهما َح َّتى َب ِر َق‬ ‫ال َف ْج ُر وال ِّص ْب َي ُة َي َت َضا َغ ْو َن ِع ْن َد َق َدم َّي‪ ،‬فا ْس َت ْي َق َظا َف َش ِربا‬ ‫َغ ُبو َق ُهما‪ .‬اللَّ ُه َّم إ ْن ُك ْن ُت َف َع ْل ُت ذلِ َك ابِ ِت َغاء َو ْج ِه َك َف َف ِّر ْج َع ّنا‬ ‫َما َن ْح ُن فِي ِه ِم ْن ه ِذ ِه ال َّص ْخ َر ِة‪ ،‬فا ْن َف َر َج ْت َش ْي ًئا لا َي ْس َتطي ُعو َن‬ ‫ال ُخرو َج ِم ْن ُه‪.‬‬ ‫َقالَ الآخر‪ :‬اللَّ ُه َّم إ َّن ُه كا َن ْت لِ َي ا ْب َن ُة َع ّم‪َ ،‬كا َن ْت أَ َح َّب ال ّنا ِس‬ ‫إل َّي‪ -‬و في رواية‪ُ :‬ك ْن ُت أُ ِح ُّبها كأَ َش ِّد َما ُي ِح ُّب ال ِّر َجالُ النسا َء‪-‬‬ ‫فأَ َر ْد ُت َها َع َلى َن ْف ِس َها فا ْم َت َن َع ْت م ِّني َح َّتى أَ َل َّم ْت بها َس َن ٌة ِم َن‬ ‫ال ِّس ِني َن َف َجاء ْتنِي َفأَ ْع َط ْي ُت َها ِع ْش ِري َن َومائ َة دي َنا ٍر َع َلى أ ْن‬ ‫ُت َخ ِلّ َي َب ْيني َو َب ْي َن َن ْف ِس َها َفف َعلَ ْت‪َ ،‬ح َّتى إِ َذا َق َد ْر ُت َعلَ ْي َها‪ -‬و في‬ ‫رواية‪َ :‬ف َل َّما َق َع ْد ُت َبي َن ِر ْج َل ْي َها‪ ،‬قال ْت‪ :‬ا َّت ِق اللهَ َولا َتفُ َّض‬

‫ال َخا َت َم إلا بِ َح ِّق ِه‪َ ،‬فان َص َر ْف ُت َع ْن َها َوه َي أَ َح ُّب ال َّنا ِس إل َّي‬ ‫َو َت َر ْك ُت ال َّذ َه َب الَّ ِذي أ ْع َطي ُتها‪ .‬اللَّ ُه َّم إ ْن ُك ْن ُت َف َع ْل ُت ذلِ َك ا ْبتِغا َء‬ ‫َو ْج ِه َك فا ْف ُر ْج َع َّنا َما َن ْح ُن في ِه‪ ،‬فا ْن َف َر َج ِت ال َّص ْخ َرةُ‪َ ،‬غ ْي َر أَ َّن ُه ْم‬ ‫لا َي ْس َت ِطي ُعو َن ال ُخ ُرو َج ِم ْن َها‪.‬‬ ‫َو َقالَ ال َّثالِ ُث‪ :‬اللَّ ُه َّم ا ْس َتأْ َج ْر ُت أُ َج َرا َء وأَ ْع َط ْي ُت ُه ْم أ ْج َر ُه ْم غي َر‬ ‫َر ُجل واح ٍد َت َر َك ا َّل ِذي َل ُه َو َذه َب‪َ ،‬فث َّم ْر ُت أ ْج َرهُ َح َّتى َك ُث َر ْت‬ ‫ِمن ُه الأ ْم َوالُ‪َ ،‬ف َجاء ِني َبع َد ِحي ٍن‪َ ،‬فقالَ‪َ :‬يا عب َد الل ِه‪ ،‬أَ ِّد إِ َل َّي‬ ‫أ ْج ِري‪َ ،‬فقُ ْل ُت‪ُ :‬كلُّ َما َت َرى ِم ْن أ ْج ِر َك‪ِ :‬م َن الإب ِل َوال َب َق ِر وا ْل َغ َن ِم‬ ‫وال َّرقي ِق‪ ،‬فقالَ‪َ :‬يا عب َد الل ِه‪ ،‬لا َت ْس َت ْه ِز ْئ بي! َفقُ ْل ُت‪ :‬لا‬ ‫أ ْس َت ْه ِزئ ِب َك‪َ ،‬فأَ َخ َذهُ ُك ّلَ ُه فا ْس َتا َق ُه َفلَ ْم ي ْت ُر ْك ِمن ُه َشي ًئا‪ .‬الَّل ُه َّم‬ ‫إ ْن ُكن ُت َف َع ْل ُت ذلِ َك ا ِبتِ َغا َء َو ْج ِه َك فا ْف ُر ْج َع َّنا َما َنح ُن ِفي ِه‪،‬‬ ‫فا ْن َف َر َج ِت ال َّص ْخ َرةُ َف َخ َر ُجوا َي ْم ُشو َن))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق علي ِه)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫فهذا الحديث العظيم الطويل في أخبار من قبلنا من الأمم‬ ‫يدل على عظم شأن النية والإخلاص لله‪ ،‬وأن الله جل وعلا‬ ‫يفرج بالأعمال الخالصة لله الكروب الكثيرة والأخطار‬ ‫العظيمة كما أنه سبحانه يدخل به الجنة وينجي به من النار‬ ‫ويضاعف به الحسنات‪ ،‬فالنية الطيبة لها أثر عظيم في‬ ‫أعمال العبد‬ ‫((انطلق ثلاثة نفر)) أي‪ :‬ثلاثة رجال ((فآواهم المبيت‬ ‫فدخلوا في غار))‬

‫آواهم المبيت وفي لفظ‪( :‬المطر) إلى غار ‪ ،‬صارت ليلة‬ ‫مطيرة وفي الليل فدخلوا في الغار في الجبل‪ ،‬فلما دخلوا‬ ‫انحدرت صخرة من أعلى الجبل‪ ،‬اختبار وامتحان نزلت‬ ‫الصخرة العظيمة سدت باب الغار‪ ،‬ما يستطيعون دفعها‬ ‫فقالوا فيما بينهم‪ :‬لن ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا‬ ‫الله بصالح أعمالكم بأن تسألوا الله الفرج وتوسلوا إليه‬ ‫بصالح أعمالكم‪ ،‬وفقهم الله لهذا العمل ابتلاهم ووفقهم‬ ‫ابتلاهم بهذه الصخرة‪ ،‬ثم وفقهم للأسباب المنجية‬ ‫فذكر أحدهم بره التام بوالديه‪ ،‬وذكر الثاني عفته التامة‪،‬‬ ‫وذكر الثالث ورعه ونصحه‪.‬‬ ‫أما الأول‪ :‬قال إنه كان له أبوان شيخان كبيران ((وكنت لا‬ ‫أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً)) يعني لا يسقي الحليب أح ًدا‬ ‫قبلهما ‪ ،‬أهلا‪ :‬مثل الزوجة والأولاد‪ ،‬والمال ‪ :‬أي العبيد‬ ‫الغبوق عند العرب ما يكون في الليل‪ ،‬ما كان في الليل‬ ‫يسمونه غبو ًقا‪ ،‬وفي أول النهار صبوح‬ ‫و كان له غنم‪ ،‬فكان يسرح فيها ثم يرجع في آخر النهار‪،‬‬ ‫ويحلب الغنم‪ ،‬ويعطي أبويه‪ -‬الشيخين الكبيران ‪ -‬قبل أن‬ ‫يناما ثم يعطي بقية أهله وماله‬ ‫(( فنأى به طلب الشجر ذات يوم)) يعني أبعد بسبب طلب‬ ‫الرعي فلم يرجع إليهما إلا وقد ناما‪ ،‬فوقف والقدح على‬ ‫يديه فيه اللبن ينتظر استيقاظهما‪ ،‬ولم يسق أهلاً ولا مالاً‬

‫لم يستحسن أن يسقي قبلهما لا زوجة ولا ولد ولا عبيد ولا‬ ‫غيرهم فلم يزل واق ًفا ينتظر استيقاظهما حتى طلوع الفجر‪،‬‬ ‫ما أحب يوقظهم ويكدر عليهم‪ ،‬ولا أحب يسقي قبلهم أح ًدا‬ ‫فلما استيقظا سقاهما غبوقهما‬ ‫قال‪(( :‬اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما‬ ‫نحن فيه)) ومعناه‪ :‬اللهم إن كنت مخلصاً في عملي هذا‪-‬‬ ‫فعلته من أجلك‪ -‬فافرج عنا ما نحن فيه ‪ ،‬فتوسل إلى الله‬ ‫بهذا العمل أن يفرج عنهم‬ ‫وفي هذا دليل على الإخلاص لله ‪-‬عز وجل‪ -‬في العمل‪ ،‬وأن‬ ‫الإخلاص عليه مدار كبير في قبول العمل‪ ،‬فتقبل الله منه‬ ‫هذه الوسيلة وانفرجت الصخرة؛ لكن انفراجاً لا يستطيعون‬ ‫الخروج منه‪.‬‬ ‫أما الثاني‪ :‬فتوسل إلي الله عز وجل ‪ -‬بالعفة التامة؛ وذلك‬ ‫أنه كان له ابنة عم‪ ،‬وكان يحبها حباً شديداً كأشد ما يحب‬ ‫الرجال النساء ‪((،‬فأرادها على نفسها)) أي أراداها بالزنا؛‬ ‫ليزني بها‪ ،‬ولكنها لم توافق و أَ َبت‪.‬‬ ‫((فألمت بها سنة من السنين)) أي‪ :‬أصابها فقر وحاجة‬ ‫فاضطرت إلي أن تجود بنفسها في الزنا من أجل الضرورة‪،‬‬ ‫وهذا لا يجوز‪ ،‬فجاءت إليه‬ ‫( فأعطاها مائة وعشرين دينار ًً) من أجل أن تمكنه من‬ ‫نفسها‪ ،‬ففعلت من أجل الحاجة والضرورة‪ ،‬فلما جلس منها‬ ‫مجلس الرجل من امرأته على أنه يريد أن يفعل بها‪ ،‬قالت‬

‫له هذه الكلمة العجيبة العظيمة‪(( :‬اتق الله‪ ،‬ولا تفض الخاتم‬ ‫إلا بحقه)) فخ َّوفته بالله ‪-‬عز وجل‪ -‬وأشارت إليه إلى إن‬ ‫أراد هذا بالحق أي بالزواج فلا مان َع عندها‪ ،‬لكن كونه‬ ‫يف ّض الخاتم بغير حق‪ ،‬هي لا تريده‪ ،‬ترى أن هذا من‬ ‫المعاصي‬ ‫ولهذا قالت له‪(( :‬اتق الله))‪ ،‬فلما قالت له هذه الكلمة قام‬ ‫عنها وهي أح ّب الناس إليه‪ ،‬أدركه خوف الله ‪-‬عز وجل‪،-‬‬ ‫وترك لها ال ّذهب الذي أعطاها‬ ‫ثم قال‪(( :‬اللهم إن كنت فعلت هذا لأجلك فافرج عنا ما نحن‬ ‫فيه‪ ،‬فانفرجت الصخرة‪ ،‬إلا أنهم لا يستطيعون الخروج))‬ ‫وهذا من آيات الله؛ لأن الله على كل شيء قدير‪ ،‬لو شاء الله‬ ‫تعالى لانفرجت عنهم بأول مرة‪.‬‬ ‫و لكنه ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬أراد أن ُيبقي هذه الصخرة؛ حتى‬ ‫يت ّم لكل واحد منهم ما أراد أن يتوسلّ به من صالح الأعمال‪.‬‬ ‫و أما الثالث‪ :‬فتوسل إلى الله ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ -‬بالأمانة‬ ‫والإصلاح والإخلاص في العمل‪ ،‬فإنه يذكر أنه استأجر‬ ‫أجراء على عمل من الأعمال؛ فأعطاهم أجورهم‪ ،‬إلا رجلاً‬ ‫واحداً ترك أجره فلم يأخذه فقام هذا المستأجر فث ّمر المال‪،‬‬ ‫فصار يتكسب به بالبيع والشراء وغير ذلك‪ ،‬حتى نما وصار‬ ‫منه إبل وبقر وغنم ورقيق وأموال عظيمة‪.‬‬ ‫فجا َءه بعد حين‪ ،‬فقال له‪ :‬يا عبد الله أعطني أجري‪ .‬فقال ‪:‬‬ ‫كل ما تري فهو لك؛ من الإبل والبقر والغنم والرقيق‪.‬‬

‫فقال‪ :‬لا تستهزيء بي‪ ،‬الأجرة التي لي عندك قليلة‪ ،‬كيف‬ ‫لي كل ما أرى من الإبل والبقر والغنم والرقيق؟ لا‬ ‫تستهزيء بي‪.‬‬ ‫فقلت‪ :‬هو لك‪ ،‬فأخذه واستاقه كله ولم يترك له شيئاً‪.‬‬ ‫((اللهم إن كنت فعلت ذلك من أجلك فافرج عنا ما نحن فيه‪،‬‬ ‫فانفرجت الصخرة‪ ،‬وانفتح الباب‪ ،‬فخرجوا يمشون))‬ ‫لأنهم توسلوا إلى الله بصالح أعمالهم التي فعلوها إخلاصاً‬ ‫لله عز وجل‪.‬‬ ‫في هذا الحديث ‪ :‬فضل الإخلاص في العمل وأنه ُين ِجي‬ ‫صاحبه من الكرب‬ ‫وفيه‪ :‬فضل بر الوالدين وخدمتهما ؛ وأنه من الأعمال‬ ‫الصالحة التي تفرج بها الكربات‬ ‫و فيه‪ :‬فضيلة العفة والانكفاف عن الحرام مع القدرة‪ ،‬وأن‬ ‫الإنسان إذا عف عن الزنا مع قدرته عليه فإن ذلك من‬ ‫أفضل الأعمال‪ ،‬وقد ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أن‬ ‫هذا من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله‪:‬‬ ‫((رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال‪ ،‬فقال‪ :‬إني أخاف‬ ‫الله))‬ ‫و في هذا الحديث أيضاً‪ :‬دليل علي فضل حسن العهد وأداء‬ ‫الأمانة والسماحة في المعاملة‪.‬‬

‫المقدمة‬ ‫باب التوبة‬ ‫الحديث الثالث عشر‬ ‫عن أبي هرير َة رضي الله عنه َقالَ‪ :‬سم ْع ُت رسولَ الله صلى‬ ‫الله عليه وسلم يقول‪:‬‬ ‫((والل ِه إ ِّني لأَ ْس َت ْغ ِف ُر الله وأَ ُتو ُب إِلَ ْيه في ال َي ْو ِم أَ ْك َث َر ِم ْن‬ ‫َس ْب ِعي َن َم َّر ًة))‬ ‫(رواه البخاري)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫ُيق ِسم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أ َّنه َي ُتو ُب إلى الله‬ ‫اتلعماعلىصوو َُميسمتنغفِ ُرره ِّبفاليعاالَليِميو ِمن؛أكوث َذرل ِكم َتنش َسربيعًعيانوتمعَّرليًة ً‪،‬ماملأُع َّمأِت َّنهه‪-‬‬ ‫صلوا ُت ر ِّبي وسلا ُمه عليه‪ -‬و َط َل ًبا لفض ِل اللهِ تعالى و َك َر ِمه‪.‬‬ ‫((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه ))‬ ‫يجمع صلى الله عليه وسلم بين الاستغفار والتوبة؛ كما أمر‬ ‫الله تعالى ويقسم أنه يستغفر الله ويتوب إليه أكثر من سبعين‬ ‫مرة ‪ ،‬وهذا هو الرسول عليه الصلاة والسلام الذي غفر له‬

‫ماتقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر الله في اليوم أكثر من‬ ‫سبعين مرة‪.‬‬ ‫((أكثر من سبعين مرة )) يبينه الحديث الذي بعده‪ ،‬قال‬ ‫رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪(( :‬يا أيها الناس توبوا‬ ‫إلى الله‪ ،‬فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة)) رواه مسلم‬ ‫ف((أكثر من سبعين مرة))‪ :‬يبينها هذا الحديث أنه كان‬ ‫يتوب مائة مرة‪ ،‬فهذا َمن ُغفر له ما تقدم من ذنبه وما‬ ‫تأخر‪.‬‬ ‫فالذي لم يكن له هذا الضمان عند الله ‪-‬تبارك وتعالى‪،-‬‬ ‫وذنوبه كثيرة‪ ،‬ذنوب القلب‪ ،‬وذنوب اللسان‪ ،‬وذنوب‬ ‫الجوارح‪ ،‬ومع ذلك لو نظر الواحد منا في حاله‪ ،‬وفي‬ ‫توبته‪ ،‬وفي استغفاره لوجد ذلك يسيراً قليلاً‪ ،‬وهذا لا شك‬ ‫أنه من أعظم صور الغفلة‪ ،‬وهو من أعظم أسبابها في‬ ‫الوقت نفسه‪.‬‬ ‫فالإنسان إذا تاب إلى الله ‪-‬تبارك وتعالى‪ -‬واستغفر انجلى‬ ‫قلبه‪ ،‬وذهبت عنه سحب الغفلة‪ ،‬إذا كان ذلك مع مواطأة‬ ‫القلب‪ ،‬فالعبد بحاجة إلى الاستغفار والتوبة‪ ،‬وإلا فإن‬ ‫الذنوب تس ّبب له مزيداً من الغفلة‪ ،‬والغفلة ُتعمي بصيرة‬ ‫العبد‪ ،‬ومن َث ّم فإنه يبقى على هذه المخالفات والمعاصي‬ ‫والذنوب ولا يرعوي‪ ،‬ولا يشع ُر بألم المعصية والتقصير‪،‬‬ ‫فالإنسان بحاجة إلى أن يراجع نفسه‪ ،‬وأن يصقل قلبه دائماً‬

‫بالاستغفار والتوبة‪ ،‬إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم‬ ‫يفعل هذا في اليوم مائة مرة‪ ،‬فنحن كم نحتاج أن نفعل ذلك‬ ‫في اليوم والليلة؟!‬ ‫قال ابن بطال‪ :‬الأنبياء أشد الناس اجتها ًدا في العبادة‪ ،‬لما‬ ‫أعطاهم الله تعالى من المعرفة‪ ،‬فهم دائبون في شكره‪،‬‬ ‫معترفون له بالتقصير‪.‬‬ ‫في هذا الحديث‪ :‬تحريض للأمة على التوبة والاستغفار‪.‬‬

‫الحديث الرابع عشر‬ ‫عن الأَ َغ ِّر ب ِن يسار المز ِن ِّي رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ َر ُسول‬ ‫الله صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫(( َيا أَ ُّي َها ال َّنا ُس‪ُ ،‬تو ُبوا إِلى اللهِ وا ْس َت ْغ ِف ُروهُ‪ ،‬فإ ِّني أ ُتو ُب في‬ ‫ال َيو ِم مائ َة َم َّر ٍة ))‬ ‫(رواه مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫في هذا الحديث أي ًضا‪ :‬وجوب التوبة والاستغفار‪ ،‬واستمرار‬ ‫ذلك في كل وقت‪ ،‬وعلى كل حال‪.‬‬ ‫العد ُد‪ :‬المرا ُد ِمنه الإشارةُ للكثر ِة وليس المرا ُد ال َحص َر فيه‬ ‫وفي هذا الحديث والحديث السابق دليل على وجوب التوبة‪،‬‬ ‫لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها فقال‪(( :‬يا أيها‬ ‫الناس توبوا إلي الله)) فإذا تاب الإنسان إلي ربه حصل بذلك‬ ‫فائدتين‪:‬‬ ‫الفائدة الأولى‪ :‬امتثال أمر الله ورسوله؛ وفي امتثال أمر الله‬ ‫ورسوله كل الخير‪ .‬فعلي امتثال أمر الله ورسوله تدور‬ ‫السعادة في الدنيا والآخرة‪.‬‬

‫و الفائدة الثانية‪ :‬الاقتداء برسول الله صلي الله عليه وسلم‪.‬‬ ‫حيث كان صلي الله عليه وسلم يتوب إلي الله في اليوم مائة‬ ‫مرة؛ يعني‪ :‬يقول‪ :‬أتوب إلي الله‪ ،‬أتوب إلي الله …‬ ‫و التوبة لابد فيها من صدق‪ ،‬بحيث إذا تاب الإنسان إلى الله‬ ‫أقلع عن الذنب‪ .‬أما الإنسان الذي يتوب بلسانه وقلبه‬ ‫منط ٍوعلى فعل المعصية‪ ،‬أو على ترك الواجب‪ .‬أو يتوب إلى‬ ‫الله بلسانه‪ ،‬وجوارحه مصرة على فعل المعصية؛ فإن توبته‬ ‫لا تنف ُعه‪.‬‬ ‫كيف تقول أتوب إلى الله من معصية وأنت مصر عليها‪ ،‬أو‬ ‫تقول أتوب إلى الله من معصية وأنت عازم على فعلها؟‬ ‫ولهذا يجب علينا ‪-‬إذا كنا صادقين مع الله ‪ -‬سبحانه وتعالى‪-‬‬ ‫في التوبة‪ -‬أن ُنقلع عن الذنوب والمعاصي إقلاعاً حقيقياً‪،‬‬ ‫ونكرهها‪ ،‬ونندم على فعلها؛ حتى تكون التوبة توب ًة‬ ‫نصوحاً‪.‬‬ ‫وفي هذين الحديثين‪ :‬دليل على أن نبينا محمداً صلى الله‬ ‫عليه وسلم أش ّد الناس عباد ًة لله‪ ،‬وهو كذلك‪ ،‬فإنه أخشانا‬ ‫لله‪ ،‬وأتقانا لله‪ ،‬وأعلمنا بالله صلوات الله و سلامه عليه‪.‬‬ ‫و فيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم ُمعلّم الخير‬ ‫بمقاله وأفعاله‪ .‬فكان يستغفر الله‪ ،‬ويأمر الناس بالاستغفار؛‬ ‫حتى يتأسوا به امتثالاً للأمر واتباعاً للفعل‪.‬‬

‫الحديث الخامس عشر‬ ‫عن أبي حمز َة أن ِس ب ِن مال ٍك الأنصار ِّي‪ -‬خا ِد ِم رسو ِل الله‬ ‫صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه‪َ -‬قالَ‪َ :‬قالَ َر ُسولُ الله‬ ‫صلى الله عليه وسلم‪ (( :‬للهُ أ ْف َر ُح بِ َت ْو َب ِة َع ْب ِد ِه ِم ْن أَ َح ِد ُك ْم‬ ‫َس َق َط َعلَى َب ِعير ِه وقد أضلَّ ُه في أر ٍض َفلا ٍة ))‬ ‫( ُم َّت َف ٌق عليه)‬ ‫وفي رواية ل ُم ْسل ٍم‪(( :‬للهُ أَ َش ُّد َف َر ًحا بِ َتو َب ِة َع ْب ِد ِه ِحي َن يتو ُب‬ ‫إِلَ ْي ِه ِم ْن أَ َح ِد ُك ْم َكا َن َعلَى َرا ِح َلت ِه بأر ٍض َفلا ٍة‪َ ،‬فا ْن َف َل َت ْت ِم ْن ُه‬ ‫َو َع َل ْي َها َط َعا ُم ُه َو َش َراب ُه فأَيِ َس ِم ْن َها‪َ ،‬فأَتى َش َج َر ًة فاض َط َج َع‬ ‫في ِظلِّ َها وقد أيِ َس ِم ْن َراحلَت ِه‪َ ،‬ف َبي َنما ُه َو َك َذلِ َك إِ ْذ ُه َو بِها‬ ‫قا ِئ َم ًةأ ْن ِع َنت َدهُ َع‪،‬ب ِدَفأَيَخ َذوأِبناِخ َطراُّب ِم َك َه!ا‪،‬أَ ُْثخ َّم َطأََقا ِملَ ْن ِم ْ ِنش َّد ِةِش َّدالِة َفاَرل َف ِح َر) ِح)‪ .:‬اللَّ ُه َّم‬ ‫شرح الحديث‬ ‫إن الله ‪-‬تبارك وتعالى‪ -‬كريم‪ ،‬و ُيقبل على عبده المنيب‬ ‫والتائب ‪ ،‬كما في هذا الحديث قال رسول الله صلى الله‬ ‫عليه وسلم ‪:‬‬ ‫(( سقط عليه)) يعني‪ :‬وجده‪ ،‬وقد أضله في أرض فلاة أي‪:‬‬ ‫أرض مهلكة‪ ،‬لا يجد فيها مخرجاً‪ ،‬ولا يستطيع فيها خلاصاً؛‬ ‫لطولها وسعتها‬

‫فهذا فقد الراحلة التي توصله‪ ،‬وعليها الطعام والشراب‪،‬‬ ‫ولو فقد الطعام والشراب وحده لكانت مصيبة‪ ،‬فلم يب َق له‬ ‫من الأمل شيء‪ ،‬ووصل إلى مرحلة اليأس‪ ،‬فذهب واستسلم‬ ‫للموت؛ لأنه لم يترك حيلة في البحث عنها إلا وقد سلكها‪،‬‬ ‫حتى انسدت الطرق في وجهه‪ ،‬وضاقت به الحيل‪ ،‬فأتى‬ ‫شجرة فاضطجع في ظلها‪ ،‬ينتظر الموت هذا في فلاة ‪ ،‬ثم‬ ‫ينام وإذا بهذه الراحلة عند رأسه ‪،‬‬ ‫كيف يكون حال هذا الإنسان؟ لا شك أنه سيفرح فرحاً‬ ‫عظيماً ‪،‬‬ ‫هذا الفرح لا يمكن أن يتص ّوره أحد إلا من وقع في مثل هذه‬ ‫الحال!! لأنه فر ٌح عظي ٌم‪ ،‬فر ٌح بالحياة بعد الموت‪ ،‬ولهذا أخذ‬ ‫بالخطام أي استوثق منها ثم قال من ش ّدة الفرح ‪(( :‬اللهم‬ ‫أنت عبدي وأنا ربك)) !! أراد أن يثني على الله فيقول‪:‬‬ ‫(اللهم أنت ربي وأنا عبدك) لكن من ش ّدة فرحه أخطأ‪..‬فقلب‬ ‫القضية‪ ..‬وقال‪(( :‬اللهم أنت عبدي وأنا ربك))‬ ‫ففرحة الله بتوبة العبد أش ّد من هذا‪ ،‬هل هناك صورةٌ أعظ ُم‬ ‫من هذا في الفرح؟ هذه فرحة لا تعادلها فرحة‪ ،‬فالله أشد‬ ‫فرحاً بتوب ِة العبد من هذا الرجل ‪ ،‬أشد فرحاً وهو أغنى‬ ‫الأغنياء ‪-‬تبارك وتعالى‪ ،-‬غن ّي عنا وعن توبتنا‪ ،‬فهذا يدعو‬ ‫العبد و يفتح له باب الأمل لِ ُيقبل على الله ‪-‬تبارك وتعالى‪-‬‬ ‫بكل ّيته‪ ،‬و َيعرف ِسعة رحمة الله وفضله‪.‬‬

‫في هذا الحديث‪ :‬محبة الله تعالى لتوبة عبده حين يتوب‬ ‫إليه‪ ،‬وأنه يفرح بذلك فر ًحا شدي ًدا يليق بجلاله‪.‬‬ ‫و فيه‪ :‬أ َّن ما قاله الإنسان في حال دهشته وذهوله لا يؤا َخ ُذ‬ ‫به‪.‬‬ ‫و فيه‪ :‬ضرب المثل بما يصل إلى الأفهام من الأمور‬ ‫المحسوسة‪.‬‬ ‫و فيه‪ :‬بركة الاستسلام لأمر الله تعالى‪.‬‬

‫الحديث السادس عشر‬ ‫عن أبي مو َسى الأ ْشعر ِّي رضي الله عنه عن ال َّنب ّي صلى الله‬ ‫عليه وسلم‪َ ،‬قالَ‪:‬‬ ‫\" إ َّن الله َت َعالَى َي ْب ُس ُط َي َدهُ باللي ِل لِ َي ُتو َب ُم ِسي ُء ال َّن َها ِر‪،‬‬ ‫و َي ْب ُس ُط َي َدهُ بال َّن َها ِر لِ َي ُتو َب ُم ِسي ُء ال َلّي ِل‪َ ،‬ح َّتى َت ْطلُ َع ال َّش ْم ُس‬ ‫ِم ْن َم ْغ ِربِها \"‬ ‫(رواه مسلم)‬ ‫شرح الحديث‬ ‫في هذا الحديث الشريف يبين النبي صلى الله عليه وسلم‬ ‫رحمة الله تبارك وتعالى بخلقه بأن فتح باب التوبة لكلّ من‬ ‫ظلم نفسه باقتراف الآثام ‪ ،‬وهذا من كرمه عز وجل أنه‬ ‫يقبل التوبة حتى وإن تأخرت فإذا أذنب الإنسان ذنباً في‬ ‫النهار‪ ،‬فإن الله تعالى يقبل توبته ولو تاب في الليل‪ .‬و إذا‬ ‫أذنب في الليل وتاب في النهار فإن الله تعالى يقبل توبته بل‬ ‫إنه تعالى يبسط يده حتى يتلقى هذه التوبة التي تصدر من‬ ‫عبده المؤمن‪.‬‬ ‫فباب التوبة مفتوح‪ ،‬والفرصة مواتي ٌة لكلّ من أراد أن ينيب‬ ‫إلى ربه تبارك وتعالى‪ ،‬فالله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء‬ ‫النهار‪ ،‬وليس معنى ذلك أ ّن من أذنب بالليل لا يتوب إلا‬ ‫بالنهار‪ ،‬فهو يتوب إن شاء ليلاً وإن شاء نهاراً‪ ،‬ولكن كما‬

‫قال الله ‪َ { :‬و ُه َو الَّ ِذي َج َعلَ ال ّلَ ْيلَ َوال َّن َها َر ِخ ْل َف ًة [الفرقان‪:‬‬ ‫‪ .]62‬يعني يتعاقبان‪ ،‬هذا يخلف هذا‪ ،‬وهذا يخلف هذا‬ ‫ويعقبه‬ ‫{ َو ُه َو ا َلّ ِذي َج َعلَ ال ّلَ ْيلَ َوال َّن َها َر ِخ ْل َف ًة ِلّ َم ْن أَ َرا َد أَن َي َّذ َّك َر أَ ْو‬ ‫أَ َرا َد ُش ُكو ًرا [الفرقان‪]62 :‬‬ ‫فهذه الأوقات ‪-‬الليل والنهار‪ -‬هي محل للتذكر‪ ،‬وهي محل‬ ‫أيضاً للتعبد و هو الشكور العبادة باللسان والقلب‬ ‫والجوارح‪ ،‬و هما أيضاً محل للتوبة يبسط يده بالليل ليتوب‬ ‫مسيء النهار‪ ،‬ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى‬ ‫تطلع الشمس من مغربها وهنا تنقطع التوبة‪.‬‬ ‫وهذا من رحمة الله ومن إحسانه إلى عباده أن شرع لهم‬ ‫التوبة وفتح لهم أبوابها‪ ،‬ولو كان كل إنسان إذا أذنب ليس‬ ‫له توبة‪ ،‬لكان الأمر عظي ًما ولكن من فضل الله أنه يقبل‬ ‫توبة العبد‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫{ َو ُه َو الَّ ِذي َي ْق َبلُ ال َّت ْو َب َة َع ْن ِع َبا ِد ِه َو َي ْعفُو َع ِن ال َّس ِّي َئا ِت َو َي ْع َل ُم‬ ‫َما َت ْف َعلُو َن [الشورى‪ ]25:‬فالواجب على كلّ مك ّلف أن يبادر‬ ‫بالتوبة وأن يلزمها أب ًدا حتى الموت‪.‬‬ ‫و في هذا الحديث‪ :‬دليل على محبة الله سبحانه وتعالي‬ ‫للتوبة‪ ،‬وقد سبق في الحديث السابق أن الله يفرح بتوبة‬ ‫عبده المؤمن إذا تاب إليه ‪.‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook