لم يكن يطيق وجوده ،كان كل منهما لا يطيق ا آلخر وك أ�نه ي�شاركه البردة والطاقية ..ويحقد عليه .يلعنه خو ًفا من أ�ختيه (جنات) و(قمر) اللتين ت�س َّبب إ�عزاز أ�بيهما لهما في وقف �سوقهما .إ�ذ كانت له �شروط ومطالب لا تقل عن تلك التي زوج بها أ�ختهما ال�صغرى للمدر�س ابن الفلاحين.. كان تم�سكه بهذه ال�شروط نو ًعا من التكفير عن ذنب تزويجها قبل أ�ختيها ا ألكبر �س ًّنا مخال ًفا بذلك الأ�صول ..وبعد أ�ن دهم البيت ا إلفلا�س . بعدت الطيور الح َّوامة ،جارحة كانت �أم داجنة ..حاملة تحت �أجنحتها فلول العر�سان .. لكن وجود (الخمي�سى) الغلبان العار�ض والمفاجئ كلما عاد _ كان ي�ضفي عليهما �سعادة من نوع خا�ص ترطب جفاف الليالي الطويلة في غيابه ..تعزق ا ألر�ض الث ّرة وترويها بالعواطف والملاغية والق�ص�ص والملاعبة والمداعبة والهدايا .كان ي أ��سر القلوب بق�ص�صه ال�شيطانية ومغامراته في بلاد الترك والروم والزنج ؛ ق�ص�ص لو �سمعها (م�سعد) لقتله .. فواحدة من نوعيتها �سرقت منه الأخ ا أل�صغر ..وحولت (النبي الطيب) إ�لى جثة ن�صفها من خ�شب و أ�طف أ�ت �شموع م�شيخته الم�أمولة ومكانته الحلم -و�سط الكفر والمديرية فما بالك و(الخمي�سى) يعرف من نوع تلك التي �أغوته ،ع�شرات .و�إن لم تتمكن منه واحدة منهن �أو تتحكم فيه � ..أو ت�صب لعنتها عليه . هو ل�َّسه معقدها ؟ ..ما ت�سيبوه (لبنت حيدر) ..وال َّا �سلطوها عليه ..هي البنت دي م�ش مرة .. اتلم يا (خمي�سى) .. جرى �أيه انتي وه َّي ..عل َّي أ�نا � ..إوعوا تكونوا بتغيروا منها.. ف�شرت .. حتى انت يا (خمي�سى) لا تعرف �أن هاتين الم�سكينتين تحفظان 101
يتلا�شى ..ينتهي� ..أو ينتحر ب إ�طفاء النار م�ضح ًيا بنف�سه .. كان �شاط ًرا حالمًا لا ير�ضى بما هو فيه .حياة �أخرى تناديه .لأين ؟ ..لا يهم ..إ�نه يرف�ض القعود في انتظار �أن تمن الحياة عليه بال�سعادة �أو اللذة أ�و الطعام ..الحياة خارج هذه التعا�سة تناديه كي يختار �سعادته بنف�سه ..لقد ظل منذ وعى الدنيا وطوال حياة أ�بيه ،يتململ ويغلي ،ولو طال الأمر �أكثر لفعلها وتبخر ولكنه �صبر وتحمل في وجود والده ،حيث كان نفوذ أ�خوته الكبار بعي ًدا عن حدود مملكته ..وهو ال�شاطر الألعبان والفتى البهلوان ..و�ستفهم ال�سر إ�ذا ما بحثت خلف قدرته على �إخفاء عالمه ال�سري عن الجميع ،خلف ابت�سامه و�ضحكه ولعبه ..لم ي�سمح ألحد �أن يراه عاريًا �أو معوجـّا ..وحين �أطلق �ساقيه للريح لم يفعلها كالمتعلم ، الذي هرب �إلى بيت آ�خر وقيود �أخرى أ�خف د ًما ولكنها �أكثر وط�أة . (الخمي�سى) ف َّر �إلى ا ألفق الحر ..إ�لى حيث متع الحياة الحارقة والملتهبة .التي تكمن على حدود الخطر ..فيما وراء الدائرة التي تحيط بع�ش العوان�س ..التي جعلها بفطنة يدركها كل ال�شطار -منطقة محرمة على أ�ن�شطته الحرة .. يدخلها فقط حين ت�ضطر مراكبه للر�سو متعبة على �أقرب �أر�ض ، للتزود (بالميرة) والزاد والماء .. يرتدي ثياب الع�شاق الم�ساكين الذين ي�ستلقون على القفا �ضاحكين ألي مداعبة � ..أو يبكون حتى تكاد أ�رواحهم تن�شق إ��شفا ًقا وحز ًنا -م�شاركة لكل مكلوم مظلوم ( ..ا�سم الله) عز وجل لا يفارق �شفتيه و(�صلاة النبي) فوق ل�سانه في كل خطـوة ومع كل نظــرة ..أ�و كلمة .. (ا�سم الله عليه �صلاة النبي �أح�سن) تتناثر حوله على �شفاه �إخوته وا ألقارب والجيران .. أ�خوه المعلم ا ألكبر ولي عهد مملكة ال�سواقي المهزومة ،وحده الذي 100
التي �ألقت بط�شت الماء فوق ر�أ�س (المرة العفريتة) فذ َّوبتها و أ�طف أ�ت �شرها . وهما م ًعا قامتا بتمري�ضه بالفعل لأ�سبوعين كاملين . ت�ضحكان ل�سذاجتي المنبهرة .وت ؤ�كدان أ�نها حكاية حقيقية .مثلما أ�كدت �أنت لي في �أول اجتماع حزبي لنا �أنها بالفعل كذلك و أ�ن أ�مثالها يحدث يوم ًّيا �إذ نقابل أ��صحاب الأرجل المعيزي في كل مكان حتى في الم�سجد ..ولا يراها إ�لا أ��صحاب الب�صيرة الذين يخترقون م�سافات المكان والزمان بحرية ،حيث تذوب الحدود بين عالمنا وعالم الجن وعوالم الملائكة .. �أنت �أكدت لي حتى �آمنت �أن هناك ب�ش ًرا لهم هذه القدرة .وحلمت دائ ًما �أن �أكون منهم ،مثلك ..فلك يا �صديقي تلك القدرة الغام�ضة على تجاوز هذه الحدود التي أ�ر�ساها الله ليحفظ توازن العالم وليم�ضي كل في فلكه المعهود بال�شعرة .ولولا رحمته بنا ل�سدت تلك الم�سارب والم�سالك بين العوالم المختلفة في ملكه وجفت حياة الب�شر ..ولا كان هنـاك �أنبياء أ�و فنانين �أو �أبناء ليل �أو أ�ولياء و أ�ولاد موت .يثرون الحياة ويحركون �سواكن مائها حتى لا ني�أ�س .. -خالك (�إبراهيم) لم يحتمل ما حل به .عندما اخترق حدود عالمه الم�ألوف ..ونفذ �إلى نعيم �شاطئ جهنم ..فان�شل مع �أول نظرة حارقة بالعقاب وان�سحب من عالمنا ..ليجو�س ب أ�حلامه في �صمت كل العوالم الأخرى دون لوم . وخالك (الخمي�سى) هذا واحد منهم � ..صدقني يا �صديقي ..هو ابن ليل وابن موت وله معرفة بالخفايا .له �صداقات مع العفاريت والن�ساء ال�ساحرات ولا خوف عليه � ..سحره يفتح له الأبواب ..و�أنت �ستكون منهم اي�ضا. كنت ت ؤ�كد لي ذلك ،وانت تف�سر لي (البرنامج) �أو ت�شرح لي الفرق 103
حكايات (تودد الجارية) عن ظهر قلب ..و�أنهما تذوبان حين كنت �أقر أ� لهما حكاية ( أ�ني�س الجلي�س) ..وتكتمان ال�ضحكات الخبيثة وتدعيان الجهل بالمعاني ال�صريحة -كمراهقات �ساذجات -و أ�نا �أقر�أ عليهما حكاية (الح َّمال والبنات) ..وي�س أ�لن في خبث �إن كنت أ�نا قد فهمت معنى (البغل اله�صور) الذي ي أ�كل (ال�سم�سم المق�شور) ويبيت في (خان أ�بو من�صور) .. تلك الحكايا ،التي ح َّر�ض َتني يا �صديقي على �سرقتها من دولاب (الخال �إبراهيم) ..مع الكرا�سة التي ك�شفت الم�ستور وف�ضحت الم�ستخبي .. هل تعرف ..كنت أ�رى ملامحك في وجه (الخمي�سى) وكانت هي مفتاحه �إلى قلبي ..وك�أنه �أنت -خا�صة عندما يحتل مكان الراوي وي�أخذ في �سرد �أخبار رحلاته ومغامراته التي فاقت حكايات ال�سندباد عد ًدا .. ورواية �أحدث م�شاويره المرعبة في (ال ُبلط) و(المن�صورة) ..و(فل�سطين) .. ولقائه مع ال�ست (عنزية الرجل) والرجل ذي (ال�شفطورة الخنازيري) .. والمر أ�ة (�أم بزاز ورا وبزاز قدام) .. كنت �أنت الذي تو ّزني �أن أ�طلب منه إ�عادة ق�ّص حكاية المر�أة المحت�شمة التي طلبت منه في حارة (الهوارية) تو�صيلها وحمل �سلتها إ�لى الق�صر الكبير .و أ�تابع وقد تقطعت أ�نفا�سي ود ّق الطبل البلدي في �صدري و أ�نا أ�تمثل �ُشعوره الذي ي�شكل ملامحه وحركاته بالقلق المتزايد ، مع رنين كعب حذائها فوق بلاط (قاعة رنانة) غير موجودة ،فال�شارع طين وتراب مفرو�ض �أن يمت�ص ال�صدى والرنين الأ�سطوري ..و�أت�صور تزايد ثقل ال�سلة ،حتى تعجزه عن الم�شي و�أتخيل ،حين تك�شف ال�ست له عن �ساقيها ..ليراها �ساقي عنزة م�شعرة و�سوداء فيجري زاع ًقا و�أجري أ�نا معه لاه ًثا �إلى البيت تطارده وتطاردني وطاويط وع�صافير �سوداء جارحة . وت ؤ� ِّمن الأختان على كلامه ( .جنات) هي التي فتحت الباب بنف�سها وهي 102
تلك ع�صاي أ�ه�ش بها .. كان خالي (الخمي�سي) ي�صر على الت�أكيد -في كل منا�سبة � ،أن (المناوية) �أهل (ميت �سل�سيل) (غنم ابي�ض) وكان بهذا ي�ستفز م�شاعري (القومية) ف أ�دافع ب�شدة عن ع�شيرتي را ًّدا الم�س َّبة �إلى أ�هل الكفر الجديد ،إ�نهم (الغنم) و(ا أل�سود) وكان ردي يثير �ضح ًكا لا �أدري له �سب ًبا � ،إلا انحياز �أهل ( .الكفر) لابن جلدتهم ،فكان �ضاح ًكا ي�ضمني معتذ ًرا ليطفي جمر غيرتي على �سمعة �أهل بلدي ليبد�أ لعبة �أحبها �إذ ي�أخذ في تقليد قطيع من (الغنم ا ألبي�ض) م�ستعر ً�ضا موهبته في الم�أم أ�ة �صان ًعا غاغة ،تج�سد ب�صورة �ضاحكة متقنة (ظيطة) خرفان ونعاج ومعيز وجديان من مختلف الأحجام وا ألعمار .عاز ًفا بفمه وحنجرته و�أنفه زفة م�أم�أة مركبة ومتناغمة ,تتراوح بين ال�سرعة والبطء وبين الغلظة والنعومة والتداخل 105
بين (التكتيك والا�ستراتيجية) وان لم تعطني �أبدا �سبيلا للفهم الوا�ضح . لكن ابت�سامة العارف المت أ�كد التي كانت ترتاح على وجهك يوم حكيت لك حكايتي مع (زهزان) ..ذات يوم ونحن �أ�سري �ألاعيب (عزيزة) ..أ�و عندما دققت معي في تفا�صيل مغامرتي مع (نرج�س) وت أ�كيدك لي أ�نها هي �أي ً�ضا من قبيلتنا .. و�صدقتك عندما انتهى الزمن بها �آخر العمر �أن تكون ميناء (الخمي�سى) الأخير حينما عاد بعد رحلاته ا أللف متعبا مرهقا .يجر حبال �سفنه القديمة المهترئة .على كتفيه تلات بنات مثل القمر ،من زوجات �أو ع�شيقات �سابقات ..فتفتح له �أح�ضانها م�سامحة وغافرة .تغمره ك�شقيقة من �أم و أ�ب ..بكل الحنان الذي ي�ستحقه بعد رحلة الوا�صلين تلك .. غاظني هذا منك ،فقد كنت تعرفه اكثر مني ك أ�نك تقر�أ الغيب . و�أخفيته عام ًدا عني ،لتجعلني أ�ظل طوال العمر �ألهث خلفك .محاول ًا �إثبات جدارتي بتجاوزك ..ممعنا في ك�شف أ��سرارك لأعرف ما ينق�صني ..و أ�لوذ بطل�سم الحروف وال�شعر ،لا كت�شف كيف كنت تقر�أ �صمتي .. وتري غياهبي وتدرك ما لم أ�دركه حتى عن نف�سي .. ألظل في حاجة إ�ليك دائما ،أ�عوذ بك من الآخرين .والوذ بظلك و أ�نا أ�حلم �أن ت�أخذ بيدي عبر عوالم الجن والإن�س والملائكة ،لأرى ما ر�أيته أ�نت ور آ�ه خالي (الخمي�سى) عبر نوافذ الع�شق وخرائط الن�سوان -فقط أ��سكنها حروف كلماتي ..ألننت�صر عليك .. 104
وفي واطيها .رغم أ�ن مولد (�سيدي مجاهد) ظل لع�شرات ال�سنين مهمة خال�صة لعيلة ال�شرفا و ألهل علو البلد إ�لا �أنه بعد �أن �أ�صبح العمدة من واطي البلد منذ الإطاحة بعمدتها الوفدي حتى �صاروا يد�سون أ�نفهم في كل �شىء ،ما بالك وا إلذن ب إ�قامة المولد مرهون بموافقة وبر�ضاء العمدة ب�صفته حار�س ا ألمن العام . بد أ� ا ألمر بخناقة لرب ال�سما بين اثنين من علو البلد أ�مام دكان (محمد النحا�س) الخياط والذي يقع بجوار قهوة (ح�سن م�صطفى) في قلب ميت �سل�سيل .حين �سمع ( أ�بو كلام) وهو الا�سم الم�ستعار (لمحمد) �شقيق (عبد الرحمن) (الكلين فارمر) إ�بن ْى عمي (عبد الحليم) ،حين �سمع الواد الكبير (لل�شيخ) (محمد ابو نبراوي) الذي رجع من م�صر دون �أن يح�صل على �شهادة ا ألزهر .ويقال أ�نه ق�ضى في ال�سنة ا ألخيرة �أربع �سنوات كاملة .. والبع�ض ي�ؤكد �أنه ق�ضى تلكم ا ألربع �سنوات وما قبلها في ال�سنة ا ألولى فقط ..ومع ذلك عندما رجع �إلى البلد ظل محتف ًظا في المنا�سبات والموا�سم الدينية والدنيوية بلبا�سه الأزهري .ومن هنا احتفظ بلقب (ال�شيخ) . و�إن كان من ينطقها ي�ضفي عليها �سخرية خفية وا�ضحة ..المهم أ�ن ابنه الكبير �سمعه ( أ�بو كلام) يزعق على ا أل�سطى (محمد النحا�س) في لهجة ا�ستعرا�ضية م�ستفزة �أن ي�ستعد لتف�صيل (جبة وقفطان) جديدين .لوالده ا�ستعدا ًدا لتن�صيبه خليفة (ل�سيدي مجاهد) .فقد و�صله خطاب ر�سمي من الأوقاف لي�شرف على �إقامة المولد في ال�شهر القادم . فانتف�ض (�أبو الكلام) كمن قر�صته عقربة و�شخر �شخرة عري�ضة زاع ًقا : -وانت مالك ومال �أبوك ب�سيدي مجاهد يا ابو د ْلق ! � -أبويا �سافر يجيب لك القما�ش من (�سمعان ال�صيدناوي) يا ا�سطى محمد عايزينها كده تكيد الع َزال وتليق على ال�شيخ الخليفة . 107
والتوالي والتنافر ،هارمونية م�أم�أة فنية تعلو وتنخف�ض وتندمج وتنفرط لتحا�صرك من كل الاتجاهات ،مج�سدة جل�سة م�ؤتمر لقطيع نهم ون�شط من ا ألغنام ,يقاطعها من حين لآخر نهيق جح�ش �أو حمار ،إ�ذ لابد لكل قطيع من قائد ،طيب و أ�ليف وجاهز لركوب الراعي الذي يقودهم ، يتبعه ويتبعهم عدد من الكلاب الحرا�س تختلط هوهوتهم ب�ضجيج الم أ�م�أة والزعيق والنهيق ،حتى تزول غ�ضبتي ألهل قريتي � .ساعتها يبت�سم هو قائل ًا في ت�شف : � -سمعت؟ أ�هم ؟! ولا خروف واحد بي�سمع للتاني ،كلهم غنم بيزعطوا في وقت واحد ويم�أم�أوا ب أ�لف ل�سان وك أ�ن ما ل ُهم�ش ودن واحدة. �أهة ؟! زيهم زي (المناوية) الغنم ا ألبي�ض أ� ّول ما يتوارب باب الكلام .. قول يا رحمن يا رحيم لا حد ي�سد حلق ولا حد يم�سك ل�سان .. ولم أ�كن �أ�سكت له �إلى �أن ت�أكد لي ذلك ال�شبه ,ور أ�يته و�سمعته ب أ�م َي عين َّي و أ�ذن َّي في �سن مبكرة ،ف أ��صبحت أ�طلب منه كلما اجتمعنا في �أي �أر�ض أ�ن يعزف لي مقطوعة (الغنم الأبي�ض). عقب �إعلان قرار الحكومة الملكية الم�صرية ب�إعادة النظر في قرار منع الموالد ب�سبب الحرب ..حفا ًظا على الأمن العام ،عادت ف�سمحت ب إ�قامتها بعد الحرب مع تنظيمها ومراقبتها مع تحميل العمد م�سئولية الأمن فيها ح�سب تقديرهم لظروف كل قرية �أو مدينة بها (ولي) من �أولياء الله ال�صالحين . انفجرت الغاغة في (ميت �سل�سيل) وفا�ض نهر الكلام مختل ًطا فيه الزعيق بالهم�س والخناق بال�سخرية وال�سباب ليغرق الم�صاطب والقهاوي وال�ساحات .ي�شارك فيه الكبار وال�صغار والن�ساء وا ألطفال ,في علو البلد 106
-وامك ان �شاء الله ح يعينوها �أمين ل�صندوق المقام يا فالح.. ( -النباروة) مالهم ومال (�سيدي مجاهد) ..إ�يه ؟ بيح�سبوه من غنائم الحرب ما كفاية عليه زيت الجمعية والم�شيخة الكدابة ! � -أما عجيبة والله ..طب و(عبد الهادي ابو عو�ض) اللي هالك نف�سه في خدمة (�سيدي مجاهد) ه َّو واولاده ..م�ش ه َّو اللي دق الطرمبة للمي�ضة؟ كان فين (ابو نبراوي) لما وقع جدارها ،وانفتح بطنها على �صحن الجامع ؟ ا�شمعنى يعني لما رجع المولد �شرعى . وانتقل الأمر من مركز الحدث في و�سط �شارع ال�سوق ..وانت�شر من قهوة (ح�سن م�صطفى) �إلى قهوة (ابو را�شد) وقهوة (حمزة) ..حتى ُغرزة (من�شاوي) ومن محل (محمد النحا�س) �إلى دكان (جاد ابو عبد النبي) ودكان (محمود و�شطا) ..ومن م�صطبة (ال�صحا�صحة) لم�صطبة ( أ�بو �سيد) ومن مندرة (النباروة) لمندرة (يو�سف عبد ربه) ! لم يكن �أحد ي�سمع ألحد .أ�و يتوقف لحظة ليفكر في حقيقة الأمر أ�و الت أ�كد من �صحته ..فلا أ�حد علم ب أ�مر الخطاب الر�سمي من الأوقاف الذي عرفت به زوجة ال�شيخ (محمد) قريبة العمدة .حتى العمدة نف�سه لم يتكلم ولم يعلن لأحد أ�نه تلقى أ�ية خطابات بهذا الخ�صو�ص ..فقد اعتبر ا ألمر �س َّرا لا يجوز إ�علانه ألنه باخت�صار �ضد �إعادة المولد ..وما يترتب عليه من وجع دماغ ..خا�صة وا إلخوان الم�سلمين كانوا في البلد �أقوياء ولهم جوالة ت�ضم ما يقرب من أ�ربعين جوال من الحرفيين وال�صنايعية والعاطلين يهزون �شوارع البلد ب أ�قدام ع�سكرية في المنا�سبات الدينية وبملاب�س �شبه ع�سكرية ..ي�ستعر�ضون قوتهم �صباح كل جمعة �أمام مبنى الجمعية الذي يطمع أ�ن يحوله إ�لى مندرة 109
-ع َزال ؟ في عينيك يا ابو دلق ..الخليفة هو عمي (عبد الهادي) يا اهطل . وتدخل الكل للنفخ في ال�شرارة التي تحولت �إلى ا�شتباك ،بطح فيه كل منها الآخر . الحقيقة �أن (ال�شيخ محمد النبراوي) لم يكن يدري حين �سال دم ابنه في الخناقة �أي �شيء عن الخلافة ،ولا عن تر�شيحه لها ،ولم ت�صله عنها أ�ية أ�خبار أ�و خطابات .لكن زوجته قريبة العمدة داعبتها ا آلمال أ�ن تمد نفوذها لي�شمل مقام و�صندوق ندور(�سيدي مجاهد) نكاية وانتقا ًما من (زبيدة) مرة عمي لخلاف ن�سيت �أ�سبابه ف أ�ر�سلت ابنها بتلك الر�سالة �إلى (محمد النحا�س) ،متعمدة �أن تطرح الأمر على الر�أي العام ..و�أن ت�سبق ا ألحداث فكل الميزات التي يتطلبها من�صب الخليفة يمتلكها زوجها ..فمن مثله در�س في ا ألزهر ؟ كما �أنه �أي ً�ضا من أ�حفاد (�سيدي مجاهد) ..ويحمل كتاب الله وكان ع�ض ًوا في مجل�س �إدارة الجمعية مع (ح�سين بك عا�شور) �شخ�ص ًّيا .كما �أنه ي�ضع يده على م�ساحة من ا ألر�ض من ميراثه وميراث اخواته البنات ،تليق ن�صا ًبا �شرع ًّيا لعمدة ولي�س لمجرد خليفة ي�ستبدل كل مولد . نجحت زوجة (ابو نبراوي) في طرح ا ألمر على الملأ ..ولم يعتر�ض ال�شيخ على ما حدث .غ�ضبته ال�شديدة كانت لبطح ابنه و�سخرية (محمد النحا�س) الذي رد عليه معر ً�ضا : -يا ابني �أنا ما بف َّ�صل�ش جبب وقفاطين � .أنا ترزي افرنجي .تحب نزف ابوك في بيجامة لكر�سي الخلافة . كذلك كان غ�ضبه لل�سخرية التي ات�سم بها كلام ور أ�ي كل من هب ودب في �أمر الخلافة 108
قيل إ�ن الملك يعتمد عليهم في تن�صيبه خليفة ل إل�سلام من بر م�صر ..لكن الأمر انتهى بعد ما ا�ستنفد قوة الجميع وا�ستهلك غرامهم بالنقار وال�شجار حتى في �صحن الجامع بعد كل �صلاة �إلى أ�ن ت�صالح العقلاء والحكماء من الوفديين المنك�سرين بخروجهم من الوزارة وال�سعديين ال�صاعد نجمهم بتولي زعيمهم الحكم برعاية ملكية .وخا�صة بعد أ�ن ات�ضح أ�ن زوجة (محمد ابو نبراوي) كانت وراء �إثارة الفتنة و أ�ن (محمد ابو نبراوي) لم يطمح إ�لى الخلافة �إلا لب�ضع لحظات ،قبل أ�ن يكت�شف �إفلا�س �صندوق النذور و أ�ن (عبد الهادي) كان ي�صرف على المقام من قوت عياله .. و ألن العمدة �أخفى ر�أيه في عدم إ�قامة الموالد ،ألنها مف�سدة مراعاة لفرحة عارمة �أظهرها أ�هل البلد فجاراها ،وفكر في �أن إ�عادة المولد قد تقربه منهم .وتبقى �ضربة لنفوذ (ا إلخوان) الذين أ��ضفوا مزا ًجا قاتمًا على ليالي البلد طوال فترة الحرب با�ستهجانهم الدائم إلقامة الأفراح واعترا�ضهم على ليالي ال�سهر البريء حول ربابة (عطا ال�شاعر) لأن في خرافاته ما يفتن الم�سلمين عن دينهم!!. ••• 111
ومقر للعمودية .كما �أنهم يعار�ضون الاحتفال با ألولياء ،فهي بدعة وهو لي�س من أ�هل البدع ور�أيه �أن الموالد ما هي �إلا مفا�سد . احتدمت المناق�شات والمناو�شات ولم تتوقف .اتخذت طاب ًعا مختل ًفا في كل مكان انفجرت فيه ح�سب طبيعة المتناقرين و�أغرا�ضهم ..لكن خالي (الخمي�سي) جاء يزورنا وبمجرد �أن تلاقت عيوننا انفجرنا �ضاحكين ووجدتني أ�طلب منه على الفور �أن يعزف لنا �سيمفونية (الغنم الأبي�ض) التي أ��صبحت �أع�شق �سماعها . �صار �أمر خلافة (�سيدي مجاهد) ال�شغل ال�شاغل لأهل البلد ،وكان (�سيدي مجاهد) نف�سه قد غاب عن بالهم طوال فترة الحرب وحتى قبل قرار منع الموالد ..النا�س كان همها تقيل إ�ذ ارتفعت �أ�سعار كل �شيء ،و�شح القر�ش حتى في �أيدي المو�سرين .و�صار الح�صول على كوبونات الجاز �أهم من زيارة المقام ..و أ�فل�س �صندوق النذور ,لم يكن يهتم بالمقام ونظافته إ�ل َّا عم (عبد الهادي) وزوجته ،وانقطعت ال ِّرجل عن زيارتة وفعل الزمن أ�فاعيله في �إزالة الرهبة والاحترام عنه .تجر أ� الأولاد والبنات على مقامه ف�صار مرت ًعا للعبهم ولهوهم ،واتخذوا من ال�سبيل ع�ًّشا للعبة العرو�سة والعري�س .مطمئنين إ�لى وجود الخرابة حائل ًا بين عيون عيلة (عبد الهادي) وبينهم �إذ في ارتفاعها وات�ساعها ما يعطيهم الفر�صة للكف عن لعبهم وعبثهم حين يلوح �أحدهم �أو يظهر خيال زوجته قادمة لكن�س ور� ّش المقام بين الحين والآخر.. وظلت غاغة الخلاف حول الخلافة تحوم في �سماء (ميت �سل�سيل) مثل م�أم�أة الغنم ا ألبي�ض ،تغطي حتى على أ�خبار �إقالة حكومة الوفد ب أ�مر من الملك وما �صاحب ذلك من زيادة قوة (ا إلخوان الم�سلمين) الذين 110
وعربيتيه ذاتي البرميلين واللتين كتب عليه أ�ن يجرهما حتى الممات - يروح ويجيء بين البحر والمقام ي�ساعده (حنيدق) و(العيدارو�س) في ر�ش الماء لإجبار تراب الخرابة الناعم المكون من رفات الجثث وبقايا القبور على الا�ستكانة وع�صيان الريح م�شاركة في مجاملة ول ّيهم الراحل ال�صالح . ثلاثة بنائين عظام تحت قيادة (عبد الباقي البيومي) تولوا ترميم الجدران و إ�عادة �صياغة الم�صطبة والم�سجد والمقام بعد أ�ن خربهم وهدهم الإهمال والرطوبة و�شقاوة العيال طوال �سنوات الحرب التي اختفى وتوارى فيها (�سيدي مجاهد) نف�سه وانقطع فيها ندره وق َّلت مكانته ليعود اليوم ليكون داف ًعا لتقديم اعتذارهم إ��صرا ًرا �أن يرجع به ًّيا كما كان قبل الحرب .يبرق بيا�ضه وي�شع نور الهداية حوله ,ليغيظ أ�هل الكفر والعزب كلهم . كنا نحن (العيال) طوال الحرب قد ا�ستخدمنا طوب المقام المت�ساقط في كافة الأغرا�ض لخدمة �ألعابنا القروية ( ..خ�شب) للأجوان ..وزوايا لتحديد الم�ساحات لملعب (الكرة ال�شراب) �( ..أ ّمه) (وخموجة) للكرة والم�ضرب و(قذائف و�صدر) للعبة (ركبتوا خيولها) وكم نزعنا �شقف بيا�ضه لتكون بعد ر ِّ�صها فوق بع�ضها (بر ًجا) نحاول إ��سقاطه بالكرة في لعبة (�أول �سنو و�ضربونا يا أ�مونا) أ�و (يا �ضمن�ضاح) أ�و لتحديد خطوط لعبة (الأولى) و(ركبة ون�ص) وجعلنا من �سبيله الخرب مهر ًبا للاختفاء في (الا�ستغماية) ..وحوائطه المل�ساء �سبورة لا حدود لها لكتابة وحل م�سائل الح�ساب �أو تح�سين الخطوط ..جردته الحرب على �أيدينا من قد�سية اكت�سبها من اهتمام البلد ال�سابق به طل ًبا للخير الذي كان يعم في مولده .. فلما توقف المولد �صار �ضحية لنا .ولذا رحنا نكفر نحن �أي ً�ضا عن ذنوبنا 113
يحيي العظام .. بعد اتفاق أ�عيان البلد على موعد مولد �سيدي مجاهد و�أن يكون الخليفة هو (عبد الهادي �أبو عو�ض) ا�ستمرا ًرا للو�ضع الطبيعي عاد المقام لمركز الاهتمام .وانهمك كثير من طالبي الثواب - ن�سوان ورجالة -في ترميم وتجديد وتنظيف المقام والم�سجد .وال�ساحة الممتدة حتى ح�ضن خرابة (�أبو خ�شبة) و(قمينة الجير) القائمة ما بين الترعة وال�سور المحيط بالجنينة مهدت وكن�ست ور�شت و�أر�سل ( أ�حمد الق�صبي) ج َّراره -الذي كان �أعجوبة - لي�سوي الم�ساحة �أمام المقام ولدك جوانب ( أ�بو خ�شبة) نف�سه حتى لا ينهار ترابه (الكفري) على الزوار .وك ّر�س (حماده الم�صري) �صفيحتيه وتفرغ متطو ًعا متبر ًعا – لر�ش الماء بعد الكن�س والت�سوية .. بينما راح (عم ظاظا) الكبير بحماره ال�شهير العجوز 112
-ب�س ي�أ�شر .. كان يبهرنا ب�شخ�صيته وعمله ..و كان من قبل يده�شنا �أكثر بقدرته على الن�شان بال ِّنبلة ي�صيد بها الع�صافير واليمام ..بل والزرزور والقنبر - الذي لا ي�سمح ألحد باى فر�صة للت�صويب عليه -في حينها ت�أكدت أ�ن المهارة والطيبة وح�سن الع�شرة قد يجتمعون م ًعا في �شخ�ص ويمكن أ�ن تفتح القلوب البرية وت أ��سرها وهي تبني وت�صنع الجمال . (ال�سبيل) الذي كان خرابة ..ودمرت �أزياره الأربعة وتحولت إ�لى حفر للاختباء أ�و لق�ضاء الحاجة ..وبا�شت جدرانه و أ�غطيته وك�شف الزمن حجارته المملحة وك�شط بيا�ض قبته ف�صارت قرعاء كئيبة ت�سكنها العناكب وال�سحالي ،عاد ف أ��صبح كالعرو�س ..و�صنعت �أربع أ�غطية تحفة خ�شبية لأزياره الأربعة الجديدة ..و�أعيد طلاء القبة و ُنق�شت بخطوط مربعة متداخلة ل َّفت حوله في دوائر مزخرفة وبنية � ،أبرزت أ�كثر لونه ا أل�صفر الجديد وكتب ( إ�براهيم فرج) بحروف الخط الكوفي الذي يتقنه آ�ية قر�آنية ترحب بالقادمين �إليه “و�سقاهم ربهم �شرا ًبا طهو ًرا” �صدق الله العظيم .. وقامت (لواحظ) بتنظيف ا ألزيار الجديدة و�شطفها وطلبت من (حمادة) �أن يملأها ماء نظي ًفا .و(حماده) دائ ًما ما يطيع أ�مر الح�سناوات والعذارى الجميلات اللائي يخطفن قلبه الخفيف منذ أ�جبر على تطليق المر�أة الوحيدة التي أ�حبها ف�سمح بعدها لكل البنات بامتلاكه ..وا�ستعباده لحين يتزوجن -من غي ْره طب ًعا -وكن كلهن في مرح يداعبنه ويتعمدن ا�ستغلال �ضعفه للجمال . وبعد ملء ا ألزيار تولت ترويق الماء بال�شبه ونقي الم�شم�ش لي�صبح رائقا �سل�سبيلا .أ�عيد دهان �أعمدة المقام وجدرانه وجليت حلياته النحا�سية 115
حياله .ف�شمرنا جلاليبنا عن �سيقان (البو�ص) المع�صع�صة و�أرجل (المعيز) المخرب�شة الم�سلوخة وا ألقدام الم�شوهة الملطخة با ألو�ساخ والغبار المطين وا�ضعين ذيولنا في �أ�سناننا .أ�نا طب ًعا رحت أ�قلدهم ف�شمرت رجلي بنطلون بيجامتي رغم معرفتي بما ينتظرني من عقاب �صارم يومي ،لكن (علقه تفوت ولا حد يموت) باح ًثا لنف�سي عن دور في تلك الهوجة المرحة .. ن�ساعد هنا قليل ًا أ�و نعطل هناك كثي ًرا ،ونتعر�ض لل�ضرب والتقريع دائ ًما . رغم نوايانا الح�سنة ..يه�شوننا مثل الذباب الرخم الذي ي�صر على الالت�صاق والح�ضور الرزل .وفي الوقت نف�سه ,كانوا ب أ�نف�سهم يبحثون عنا بل يطلبوننا ,حين يحتاجون لمن ي أ�مرونه ب�شيء تافه ..ثم لا يلبثوا أ�ن يطردونا ويحرمونا حتى من الفرجة على ما يجري عندما ي�ستغنون عنا ، فيما عدا المعلم الأ�سطى (عبد الباقي البيومي) ذو الوجه ا أل�سمر ال�شرح والعود الفارع والملامح ال�ضاحكة البا�شة التي ترحب بالجميع .فكان يجد لكل منا في كل وقت مهمة ما ت�شغله �أو عمل ًا يثبت به أ�نه مهم ،ولي�س زائ ًدا عن الحاجة طال ًبا ما يريد في مرح وب�شا�شة : -ناولني الطوبة دي يا راجل يا عجوز . تقيلة عليك ؟ .لا ..لا أ�مال المرجلة راحت فين ؟ -هات �شوية ميه في الكوز ده يا معلم .. -ر�ش حبة ع الجب�س ده قبل ما يبرد .و�شوف �أخبار الجير إ�يه ؟ ِ -ه ّم �شوية يا بطل .دول طوبتين ،يعني لو فرختين محمرين م�ش كنت قرق�شتهم ..هم ..هم -خد بالك من الجير لي�ْسلق رجلك .. -هات يا راجل عيب تنهج كده ..دي ُخ ّف الري�شة .. ن�ضحك ونت�ستجيب لكل ما يطلب ونحن �سعداء ..مقتنعين �أن الواحد منا �سيلبي ما يريده ولو طلب لبن الع�صفور .. 114
وحتى عندما كانوا يطردوننا لم نعد نغ�ضب منهم بل نروح نطارد (حمادة الم�صري) ونحايله ونرجوه �أن يقلد لنا طائرات �صديقه وحليفه (هلتر) الذي ينتظره حين يظهر �صاع ًدا في الوقت المنا�سب من مخبئه ال�سري ..ليهزم الإنجليز ويعيدهم لعقر ديارهم بعد أ�ن يك�سر �أنوفهم .ويهاودنا (حمادة) ،فيقف وقفته الع�سكرية الجادة ثم ي�ضم �شفتيه بطريقة خا�صة ويبد�أ النفخ في ال�صفيحة بق َّوة محد ًثا �صو ًتا و أ�زي ًزا ي�صاحبهما بفرقعات وقرقعات وطرقعات فتحيط بنا وبالمكان �أ�سراب من طائرات حقيقية تلقي حمولة قنابلها على ر ؤ�و�سنا ..نح�سها ون�شعر بها ،إ�لى �أن يبد أ� في تج�سيد دوي المدافع الم�ضادة ..فيترعب الواد (يون�س) العبيط وينهار �صارخا باكيا م�ستنج ًدا ب�أمه التي ماتت بال�صدفة في (بور�سعيد) �أثناء غارة وكانت تبيع هناك البي�ض الذي تجمعه من القرية .ومع ذلك يجعلنا رعبه نموت من ال�ضحك عليه ..وخا�صة حين يفل�سع �صار ًخا وهو يقفز �آخ ًذا ذيله في �أ�سنانه كا�ش ًفا عن م ؤ�خرته الحمراء كطيظ القرد � ..صائ ًحا : -غارة يا ا َّمه ..غاره يا ا َّمه ..اقفلي باب الزريبة ! (هرتل) جاي يا ا َّمه (هرتل) جاي .. ••• 117
وم�صابيحه ..وك�ســي بقما�ش خا�ص ..جاءوا به خ�صي�صا من (طنطا) . باركه (ال�سيد البدوي) بنف�سه كما ي�ؤكد في ثقة عم ال�شيخ (�شطا) وهو يق�سم بال�شيخ وبكل اهل الله ..وفر�ش المقام داير ما يدور ب�سجادة عجمي �صنع يد قيل �أن ال�شيخ (على أ�بو ح�سن) �أح�ضرها بنف�سه من �أر�ض الحجاز.. وعرف �صندوق الندور من جديد خ�شخ�شة القرو�ش والبرايز الف�ضة والملاليم . رمم �سطح المقام والم�سجد وكن�ست أ�وراق ال�شجر الذي أ��سقطتها الريح خلال �سنوات الحرب ،كما جمعت كور التيل والكور ال�شراب التي فقدناها ،أ�عيدت �إلينا و�سط فرحة غامرة مكاف�أة لمن عمل منا بجد ف أ��صبح لكل منا كرة �أو أ�كثر ح�سب �شطارتنا في تنظيف المكان ..و إ�ن كان علينا -لقاء ذلك � -أن ن�شارك �أي ً�ضا في نزح الكنيف والترن�ش ..وترميم المي�ضة ،م�ش مهم !! قالت (خلت ح�ضرة) وهي تزغرد �أن (�سيدي مجاهد) بقى �أحلا من عرو�س نهار جلوتها ..و�أثارت زغرودتها المميزة �شهية الن�ساء العابرات لمجاراتها في الزغردة فر ًحا بما حدث (لل�شيخ) الذي �سيعيد البركة للبلد بعد طول حرمان .وطم�أنت المنهمكات في العمل على ن�صيبهن من الثواب الم�ؤكد الذي هو جزاء كل من أ�ح�سن عمل ًا ..واختلطت تعليقاتهن الفرحة -و�أي ً�ضا �شتائمهن المرحة التي يتبادلنها فيما بينهن �أو مع المعلم الأ�سطى (عبد الباقي) وفيلق العمل الذي ي�صاحبه من ال�شباب ..وخلقت رو ًحا من الر�ضا حر�ضتنا �أن نهي�ص ون�صيح في الغد ّو والرواح ك�أ�سراب ا إلوز المرحة الملهوفة لماء الترعه هربا من ذباب وفا�ش الزرائب وا ألحوا�ش ..وك آ�بة وتحكم الن�ساء الك�سالى في البيوت . 116
�ضيافة (�سيدي مجاهد) والذين يتبعون الموالد من مكان لمكان ،و أ�عدت أ�ر�ض ال�صيوان الكبير �شرق الجامع في الم�ساحة التي �سيكون فيها حلقة الذكر ا أل�سا�سية ..وتركت الم�ساحة التي في الغرب والحقل المجاور خالية وبرحة وم�ستعدة لتقام فيها المراجيح و أ�ماكن الت�سلية الأخرى من مقاهي وملاهي و�سوق .. وجاءت طلائع الجماعات من �أ�صحاب الطرق والعهد يدورون في القرية بالدفوف والطبول ..يمدحون الر�سول و(�سيدي مجاهد) ويطلبون القبول قبل المثول إ�لى رحاب المقام والح�صول على بركة المكان ..وفعل مثلهم كثيرون من أ�هل اللهو والطرب فدار ا ألراجوز في الحواري يعلن عن نف�سه .وو�صل قرداتي بقرد ومعزة ..وفرقة من المغنين بالدفوف ..وتناقل النا�س في �سعادة �أخبار الم�شايخ وال�شيخات الذين واللاتي �سيح�ضرون لإحياء الليالي والجهاد في حب (�سيدي مجاهد) وكل �أولياء الله ال�صالحين وتحققت نظرية (على أ�بو عابدين) �أنه كلما �أ�سرعت البلد في �إقامة المولد �ستكون الفائدة أ�كبر .و�سيناف�س (ال�سيد البدوي) لأن النا�س �شرقانة للفرح بعد الحرب . وقبيل �أ�سبوع المولد بد أ� �أنا�س من بلاد كثيرة يتوافدون ،وحدثت معركة �ضارية بين مجموعة من �شباب ورجال عزبة (الن�صا�صرة) الذين تعودوا التجر�أ على �إف�ساد ا ألفراح في (ميت �سل�سيل) باعتبارها �أهلها (غنم �أبي�ض) لكن عد ًدا من �شباب البلد بقيادة (محمد �أبو ذكي) ت�صدوا لهم و أ�جبروهم على الفرار .وقال (يو�سف عبد ربه) ..كوي�س ده در�س ل إلخوان ما يعملوها�ش .و أ�قيم ال�سوق في موعده وكان �سو ًقا كبي ًرا لم ينعقد مثله من قبل ،ا�ستب�شر بنتائجة أ�هل البلد .وتوقع الجميع أ�ن تكون 119
ك ٍل في فل ٍك .. قبل �أ�سبوع المولد والذي �سينتهي بالزفة والليلة الكبيرة أ�و الأخيرة ،بد�أت الفرق من جماعات المريدين و أ�هل الطريقة والتجار و أ��صحاب ا أللعاب المختلفة ي أ�تون من كل فج عميق .أ�جرت لهم م�ساحات الأر�ض كل ح�سب ما يتوقع أ�ن يك�سبه ،ون�صبت خيام ملونة و�أخرى جربانة باهتة في ح�ضن ( أ�بو خ�شبة) ..ودقت �أعمدة طويلة و�أخرى ق�صيرة من الخ�شب ن�شرت فوقها (�شقق) من القما�ش المزخرف بمختلف �أ�شكاله و�ألوانه .. وخ�ص�صت أ�ماكن كافيه بجوار الحوائط القريبة ، م أ�وى لل ّزوار من مريدي ال�شيخ و أ�هل الله و�أتباع الطرق الذين �سيقيمون حتى انف�ضا�ض المولد في 118
وك ّلف البع�ض �أنف�سهم لتنظيم الأمور والحرا�سة ليل ًا ونها ًرا .فخ َّفت حدة التوتر وخا�صة وقد ر أ�ى بع�ض الإخوان أ�ن مقاطعتهم للمولد �ستعزلهم عن النا�س فاندمجوا في الأن�شطة خا�صة التجارية منها ،وجذبهم هذا �إلى كثير من الممار�سات ا ألخرى ،لم تعفهم من التعر�ض ألل�سنة ال�ساخرين الحادة . الحجرة القائمة خلف المقام نقلت إ�ليها زوجة عمي (عبد الهادي) �أربع بوابير جاز كبيرة و�صفائح جاز وع�شرات من �أقماع ال�سكر تبرع بها الكثيرون .وظهرت فيها �أربع حلل كبار تت�سع الواحدة لخروف كامل . -دي قازانات يا اهبل م�ش حلل .لغلي اللبن وطب ًعا لطبخ اللحم لل�ضيوف-ولنا. هكذا �شرحت(عواطف) ونحن ندخل على زوجة عمي لن�شرب اللبن بركة (�سيدي مجاهد) ولم يمنع هذا �أن تطردنا �شر طردة عندما �ضبطت (الواد بكر) �سار ًقا قمع �سكر بحاله ,محاول ًا الخروج به تحت جلابيته فف�ضحه .منظره المثير مت�ضخ ًما تحت بطنه مما ك�شفه و أ�ثار غ�ضب الن�سوة، ف�صفعته (زبيدة) زوجة الخليفة المنتظر وهي ت�صرخ م�ستنجدة بالرجال.. ولولا �أنه �أح�س بالذنب لأن هذا �سكر (�سيدي مجاهد) كان رد عليها بق�سوة و أ�مطرها بالحجارة وا ألو�ساخ فهو ولد قليل ا ألدب ج ًّدا ..لكننا طيبنا خاطره ولمناه . -أ�نا لا كنت عايز �سكر ولا زفت ،لكن عندهم كتير ..منظر الأقماع مر�صو�صة ومالية الأودة يهبل ..قلت ناخد واحد نبيعه (لح�سني النملة) بكام قر�ش نتمرجح بيهم وال َّا ناكل دندرمة ..كان ح يجرى إ�يه ؟ ردت عليه (�أوطان) : -يا واد يا اهبل ده �سكر حرام ده كله ندر و�صدقة .حرام . 121
أ�يام المولد في مثل روعة ال�سوق ،و أ�ن يعود على البلد خير كثير ،و أ�ن يقبل زوار أ�كثر . وطب ًعا �أجرت ا ألر�ض لح�ساب �صندوق النذور وت�سامح (عبد الهادي) كثي ًرا في الإيجارات .كان يريد �أن يبد أ� خلافته بجذب �أكبر عدد ممكن من أ�هل البلاد المجاورة �إلى جانب الرواد والمريدين الطبيعيين للموالد .ففي هذا نجاح حقيقي ودخل أ�كبر ،ليكون ال�صرف على الرواد و�أهل الله �أكبر .ويبقى فائ�ض لل�صرف على الم�سجد والمقام فالنذور التى انقطعت لا يمكن التنب ؤ� بقيمتها أ�و حتى بعودتها والنا�س خارجة من قفا الحرب . لم يتوقف ا إلخوان الم�سلمون عن تنغي�ص الفرحة على �أهل البلد الذين �سالت دماء الذبائح في أ�حوا�شهم ،وفاحت رائحة اللحم عبر �سماء القرية من بيوت المت�صدقين منهم ،وجرت الملاليم والقرو�ش في �أيديهم -فكانوا يق�صدون الزوار من مريدي الولي ال�صالح ويدورون عليهم ويخطبون فيهم مهددين بعقاب الله وانتقامه ب�سبب ارتكاب الذنوب التي �أخفها اختلاط الرجال بالن�ساء وعدم احترام حرمانية الأموات ..لكن الكلام لم ي أ�ت بنتيجة �إذ ت�صدى لهم بالتعليقات ال�ساخرة خفاف الظل ذوو ا ألل�سنة ا ألطول ،فلج أ�وا الى الت�سلل ليل ًا لهدم الخيام على ر�ؤو�س من فيها ..وكاد الأمر في كثير من الأحوال أ�ن يتطور �إلى ا�شتباكات في �أماكن عديدة ،مما جعل العمدة يهدد ب إ�لغاء المولد .وجعل هذا معظم �أهل البلد وخا�صة عائلات ال�شرفا والمجاهدية و أ�قاربهما يت�صدون لهذا .وتناوب �شبابهم حرا�سة ال�ساحة طول الليل ور ُّنوا بع�ض قادة (الإخوان) علقة جعلتهم يتراجعون .وعمل (الخليفة) القادم وخادم المقام على �إعداد الحو�ش الكبير المحيط بالمقام وتجهيزه ليكون م�سج ًدا يعمره الم ؤ�منون � .أقيمت حلقات درو�س دينية بين ال�صلوات كما ن�شطت به حلقة ذكر جذبت الكثيرين . 120
الأطفال والعواجيز ظلوا �سهرانين على ال�سطوح وعلى الم�صاطب طول الليل ..ال�شوارع كانت بت�شغي قدام القهاوي والدكاكين والكلوبات حول (�سيدي مجاهد) وفي ال�ساحة وعلى ال�سكة الزراعية والمحطة قلبت الليل نهار ..و أ�مام دكان (محمد �شطا) لمحني أ�بي و�سط العيال الذين لم يكن يطيق علاقتي بهم ويعاقبني ب�سببها (لأنني �صايع ولا أ�تلم �إلا على الخايبنين) الذين لي�سوا من مقام تلميذ ابتدائي متفوق مثلي ،لكنه يا للعجب لم ينهرني ولم ي أ�مرني بالعودة للبيت وكنت أ�حاول التخفي لكنه لمحني كال�صقر واكتفى بنظرة م�ستنكرة فقط .يا بركة كلام أ�مي ( أ�نها ليلة مفترجة تنام فيها عفاريت الغ�ضب وال�شياطين) ولابد �أنها أ�و�صته بذلك �إكرا ًما (ل�سيدي مجاهد).. �أمام �شادر (�أبو �سيد) ُر َّ�صت عدة دكك وانت�شر ال�شباب على عيدان الخ�شب الفلاري وال�سويدي يثرثرون ويعلقون في �سخرية على كل من يعبر أ�مامهم . و أ�مام بيت عمي (عبد الهادي) ُذبحت بقرة ُ .و ِّزع لحمها على بيوت كثيرة ُعهد إ�ليها بتجهيز �صواني الغداء والع�شاء للجميع غ ًدا .. (محمد �أبو نبراوي) نف�سه ذبح خرو ًفا ليظهر �أنه لم يعد في نف�سه �شيء من ناحية من�صب الخليفة . تجمعت الن�سوة أ�مام البيوت يثرثرن .وفاحت روائح اللحم من بيوت كثيرة تب�شر بغد عامر بالهبر اللذيذ .لم نتعب من الجري واللف ولم يتعب (ح�سن العربي) من و�ضع خطط لخطف اللحم .رغم أ�ن �أح ًدا لم يبخل علينا به لكنه كان ي�ؤمن �أن اللحم المخطوف �ألذ كثي ًرا .ولما تعبنا من اللف تجمعنا على م�صطبة (ال�سيد مطاوع) (الموزايكو) الناعمة الباردة لدرجة تغرينا بل�صق خدودنا ب أ�ديمها البارد الرطيب الذي يبخ طراوته في الجلد. بع�ضنا نام من التعب وبع�ضنا ظل يقاوم النوم دون جدوى ..وقرب الفجر 123
تح�س�س هو مكان اللطمة التي �صفعته �إيــاها (زبيدة) مرات (عبد الهادي) ..وهي تدعو عليه : -يخ�ص عليك ! إ�لهي يف�ضحك يا بعيد .و�شايله بين رجليك كده ليه يا مف�ضوح يا ابن (عتقية) ..جاتك نيلة على �أمك القحبة . غرغرت عينه بالدموع لأنها �سبت �أمه: -لكن ت�شتم أ�مي ليه ؟ والله لأخر�شم ابنها العلق على ال�شتمة دي . لكنه ن�سي غ�ضبه بمجرد �أن نادى عليه ا أل�سطى (عبد الباقي) و�أعطاه كب�شة فول �سوداني و يطلب منا أ�ن نن�ضف ونروق الم�صطبة التي كان قد انتهي من تبليطها. و أ�خذتنا موجة الحما�س أ�ولاد وبنات .واختلط �ضجيجنا ونحن نتخاطف حبات الفول ال�سوداني ..ب أ��صوات دق الخ�شب ونداءات الن�ساء والرجال و�أزيز طائرات (حمادة الم�صري) وزغاريد كل من ت�شاهد المنظر -المفرح فعل ًا -من الن�ساء العابرات إ�لى الترعة ..كل ذلك مختل ًطا بنهيق الحمير ونعيق البقر والجوامي�س العائدة من الحقول ..مع �ضجة تريقة (ال�صديق بن عبد الله) ..في �ضجة (م�أم أ�ة) أ�خرى �ضاحكة فرحة هذه المرة تم أل ال�ساحة التي ظلت مهجورة �صامتة لا تقل عن وح�شة خرابة (�أبو خ�شبة) كلها مع انح�سار مكانة (�سيدي مجاهد) ل�سنين طويلة طوال الحرب وب أ�مر الحكومة . لكن ها هي �ضجة المريدين والب�سطاء تعود لل�ساحة مرة �أخرى .. بالفرح والبهجة مع احت�ضان �ضيوف الولي الذي بد أ� ي�ستعيد مكانته في قلوب البلد أ�هل (ميت �سل�سيل) . وا�ستعدا ًدا ليوم الزفة التي �ست�صاحب في ختام المولد موكب الخليفة الذي لم يعد هناك اختلاف على (تتويجه)خليفة (ل�سيدي مجاهد) ..عمي (عبد الهادي) ولا �أحد غيره ،خادم المقام الذي عقد له العهد هذا العام. ليلتها لم ينم أ�حد في (ميت �سل�سيل) ..لا الزوار ولا �أهل البلد حتى 122
من كل فجٍ .. تجمعت عربات الكارو في ال�ساحة فيما بين (�أبو خ�شبة) ومقام (�سيدي مجاهد) وعادت �ضجة الزعيق والنهيق وال�صهيل تم أل الف�ضاء مناف�سة الغبار الكفرى الذي تثيره الحوافر وا ألقدام، و أ�جبرت ال�ضجة الجمال الم�شاركة في (الم�أم أ�ة) ب إ�خراج قللها والب َق ْل َلة في ع�صبية .وتجمعنا نتفرج على ما يحدث في انبهار .فلم ي�سبق �أب ًدا �أن ر�أى معظمنا ق َّلة الجمل التي لا يخرجها �إل َّا في حالات غ�ضبه النادرة ..كانت تبقبق وتبقلل ناثرة زب ًدا �أبي�ض كثي ًفا مخي ًفا ومقر ًفا .. قال (ح�سن العربي) : -الجمال خايفة . � -أنا لا �أ�صدق أ�ن الجمال يمكن أ�ن تخاف .. 125
ومع أ�ول تكبيرة أ��سرعنا و أ�يقظنا من ظل غار ًقا في النوم .و أ��سرعنا �إلى مي�ضة (�سيدي مجاهد) نغ�سل وجوهنا ور ؤ�و�سنا بالماء الم ْعين البارد المالح .وتطوع بع�ضنا لم�ساعدة (�سيد �أبو نعمة) في إ�دارة الطلمبة لتعوي�ض الماء الذي ا�ستهلكناه .ولم ي�سمح للخزان �أن يخلو من مائه أ�ب ًدا .. وكانت كل الأد�شا�ش �شغالة وم�شغولة وك�أن العالم كله كان ي�ستحم. -مما �أ�ضحك (ال�سيد أ�بو نعمة) وهو ي�صرخ في الم�ستحمين: � -إيه يا بلد! ..إ�يه يا جدعان ؟ كل النا�س �سهرانة لل�صبح ؟ وكل دول بي�ستحموا ؟ إ�زاي ومنين؟ �أمال لو كنتوا اتخمدتوا في ح�ضن ن�سوانكم من المغرب زي العادة كنتوا عملتوا إ�يه؟ البلد �شرقانة يا جدعان ،الله يرحمك يا (هتلر)! جاوبه (محمد الازرق) : -وانت يا ( أ�بو نعمة) قادر تدور الطرمبة زي الطور؟ ما انا �شايفك بعيني دي أ�ول واحد ا�ستحمى الليلة ..برب�ش ( أ�بو نعمة) بعينيه المظلمتين . � -إلهي تنط�س في نظرك ..يا نج�س .أ�نا ا�ستحميت تح�س ًبا من نجا�ستك لما �شفتك راكب ع البقرة مراتك فوق ال�سطح منك لل�سما يا ازرق الكلب. خيبك الله دا انت ازرق القلب كمان ..طب ا�ستتروا في ليلة ف�ضيلة زي دي . �صاح بهم ال�شيخ (م�سعد) غا�ض ًبا : -ما ت�صلوا يا جماعة على النبي وبلا�ش لغو .وتعجلوا �شوية .. الفجر لاح .والوقت �أزف! ••• 124
�أول ما خد حباية كرملة من الأ�سطى (محمد) ا�ستحلى المو�ضوع . (عو�ضين) المنجد أ�خذ يجرب الع�صا في كومة القطن .ولما اطم أ�ن على بقية �أدواته ،جل�س يتفرج على النا�س التي تتفرج عليه.. ( أ�بو �سلامة) وجذع كبير من الخ�شب مع المنا�شير وال�شواكي�ش والقواديم في أ�يدي عياله ..وو�ضع أ��صغرهم قل ًما وراء أ�ذنه ولا أ�جدع المعلمين .و�أخذ ينظر إ�لينا متباه ًيا ،الواد (عبد ال�سلام) ن�أحه �شقة بطيخ لم يكن قد انتهى من نحتها جعله يبكي �صار ًخا و�شخط فيه أ�بوه و�صفعه دون أ�ن ي�س�أله عن �سر بكائه .. كان ال�ضجيج �شدي ًدا .والكل يزعق محاول ًا تنظيم غيره ..الكل ي�صارع ليفوز بمكان متقدم قبل غيره ويزعق أ�على من غيره .الكل يحاول �إ�سكات غيره .الكل يحاول �أن يتميز عن غيره ولا �أحد أ�ب ًدا ي�سمع لغيره. و�أ�ضحكني هذا وافتقدت خالي (الخمي�سي) وتمنيت �أن يكون موجو ًدا ليعزف لنا على �شرف الغنم الأبي�ض مقطوعة (الم�أم أ�ة) م�ضي ًفا إ�ليها ال�صهيل والبقللة. فلم تكن الحمير ولا الجمال ولا الأح�صنة أ�قل تناف�ًسا ولا �أقل �ضجي ًجا من الب�شر فلم تكن مثلهم را�ضية ولا �ساكنة .. حمار (ابن همام) ع�ض حمارة الولد (محفوظ) ال�سماك ،فا�شبكت معه في عنف بينما رفع �أحد أ�ح�صنة (البرايعة) قائمتيه الأماميتين مبعث ًرا ما على عري�ش العربة التي يجرها وكان عليها (زيدان هنومة) بتاع الطعمية الوحيد في (ميت �سل�سيل) فدلق الزيت على العجينة وقذف بها إ�لى التراب .وغ�ضب (زيدان) وكان قلي ًطا يرى �أن ا�شتراكه لا يليق بقنزحته وكبريائه . كان لا ي�شتغل إ�لا �ساعتين كل �صباح ليجل�س بقية اليوم في جلبابه الأبي�ض يدخن ال�شي�شة في غاية القيافة .ولم ين�ضم �إلى الزفة إ�لا بعد محايلة كبيرة .. 127
ومع �أننا كنا نتفرج من بعيد ودون م�شاكل كان يحلو لكل الكبار طردنا دون داعي .ليه؟ مع أ�ن معظمنا كان ي�سرع للم�ساعدة ،فهذا يناول أ�حدهم حبل ًا وقع منه �أو يعيد لآخر بع�ض أ�دوات نثرت على ا ألر�ض من على عربة حرن ح�صانها �أو هاج وانفلت .كنا إ�ن لم تنل منا ع�صيهم نالنا طول ل�سانهم �أو زعطهم وزعيقهم فينا .قالت البنت (وطــنية) بنت (�أبو بيومي) : -دول ناق�ص يلك�شونا زي لك�ش الحجو�ش .. ولكننا لم نكن نبتعد ولا ننطرد . � -ساعدنا (العو�ضي) مب ّي�ض النحا�س على تجهيز عربته .ناولناه كبري ًتا لي�شعل نار الكانون تحت الحلل وملأنا له الجردل من مي�ضة (�سيدي مجاهد).. و�س�ألنا عن ر�أينا فيه وفي منظره وهو يجرب وقوفه في الحلة الم�ص ّدية يترق�ص يمي ًنا و�شمال ًا محر ًكا م ؤ�خرته في إ�يقاع منغم مثي ًرا لل�ضحكات .ولما علق بع�ضنا على ذلك تعليقات بذيئة �ساخرة ،ر�شنا بالماء الذي لوثته قدماه القذرتان.. (محمد النحا�س) أ�جل�س أ�حد �صبيانه ليحتل مع ماكينة الخياطة �ضهر عربة أ�خرى بينما أ�عد لنف�سه عليها ترابيزة عليها قطع من القما�ش مقطعة .و أ�خذ يتظاهر مجر ًبا �أخذ المقا�سات وبالق�ص .ولما �أخذ يتلفت وي�شير لمن حوله أ��سرع (ح�سن العربي) : -عايز حد يعمل زبون تقي�س عليه .. ف�ضحك (محمد النحا�س) وقال له : -نا�صح يا وله ..تعالى انت اركب معانا . لكن (ح�سن) م�صم�ص ب�شفتيه راف ً�ضا وقال : � -أنا م�ش فا�ضي �أنا ح اتفرج ..لكن اطلع يا واد يا (يون�س) يا اهبل ..ياللا ح تركب وما تخاف�ش ما في�ش قنابل ولا ر�صا�ص النهارده. ولما تردد (يون�س) حمله بالقوة ورفعه فوق العربة ..والواد (يون�س) 126
ولم نعرف هل كانت تق�صد المعلم �أم جر�سونه ..لكن زفارة ل�سانها �أ�ضحكتنا خا�صة عندما ر�َّشها الولد الجر�سون المتفرنج بكب�شة جمر نار جعلتها ت�صرخ وتجري بعي ًدا .ف�ضحك النا�س لمنظرها �إل َّا (ح�سن العربي) باعتبارها قريبته ،فتناول طوبة من طين ه�ش و�سفخ بها الواد في دماغه فلغمط له وجهه ،ولطخ جاكيتة الجر�سون الم�سرحية . على عربة �أخرى كان (عبده) الكونترجي ا ألخر�س في عالم �آخر.. منهمك في ترتيب قوالب ا ألحذية وتثبيت ال�سندان والعدة ،بينما �صبيه منهمك بجدية أ�كثر في ت�شميع الفتلة. على عربة �أخرى يقودها ح�صان �أ�سود غطي�س وك أ�نه ا ألدهم جل�س (عطا ال�شاعر) مهي ًبا مترب ًعا على دكة خ�شبية مبطنة ،وحوله بطانته بالأرغول والمزمار والرق ..وقد ارتدى جميعهم ملاب�س جديدة لنج.. وتجمع حوله عدة �أطفال وبنات من حارة ال�صياغ بينهم (ماي�سة) والواد (ف ؤ�اد) ليردو وراءه حين ي�صهلل بجد. وفوق أ�حد الجمال ربط (ال�سيد �أبو نعمة) ب�سلب وحبال غليظة وهو يم�سك بجرنان الأهرام مقلو ًبا ا�ستعدا ًدا لقراءة الأنباء من �إذاعة (ال�شرق الأدنى) بينما زميل عمره (محمد �أبو �صبح) يردد (هنا القاهرة) ويبدي تحف ًزا للدخول مع زميله وحبيبه وتو�أم روحه في الحمق والهزر و�شريكه في مهمة الم�سحراتي في قافية ومباراة لتبادل النكت وال�سـخرية كل من الآخر ،ومن كل الم�شاركين والمتفرجين �أي ً�ضا. الجملان الآخران زين �أحدهما ب�شرائط وزهور و أ�غ�صان �صف�صاف وجريد نخل �أخ�ضر ،أ�ما الآخر فكان عليه �صندوق كبير أ��سود منقو�ش عليه زخارف كزخارف الكعبة وبما تتزين به الك�سوة ال�شريفة . في الجانب الآخر كانت عربات �أخرى .فوق بع�ضها جامعات قطن وعمال تراحيل بف ؤ�و�سهم وكواريكهم وعلى واحدة �أخرى كان (توفيق) ابن عمتي (فرحة) يجل�س في عظمة وقد باعد بين �ساقية و أ�خذ في 129
ولذا احتج و�صفع الولد الم�سئول عن الح�صان الهائج وحلف �ألا ي�شارك (في لعب العيال ده!) بينما زعق الولد الم�صفوع م�ستنج ًدا ب�أفراد قبيلة (البرايعة) للانتقام له.. وكاد (البرايعة) يفتكون (بزيدان) و�أن يمرمطوا بكرامته الأر�ض ، لولا حال بينهم وبينه �أهل الخير الحري�صين على كيان الموكب .ولم يمنعهم من الان�سحاب من الم�شاركة في الزفة هم و أ�ح�صنتهم وعرباتهم �إلا طرد (زيدان) وحرمانه من الم�شاركة .. والحقيقة �أنه ان�سحب ب�إرادته في قلاطة ،رغم ما �شيعه به (البرايعة) ون�سايبهم (القوا�سم) من �سباب و�شتائم ..وبعد ا�ستر�ضاء البرايعة ون�سايبهم عاد الهدوء الن�سبي �إلى �ساحة الانطلاق. على عربة أ�خرى كان (�سلمان الحداد) وابنه مع كور و�سندان �ضخم وطفل م�صبوغ وجهه بال�سناج وك�أنما من ِق َّلة الغ�سيل جال�ًسا على قرافي�صه، و�أمامه حجر أ�بي�ض �أ�سطواني وعدة �شقارف (مناجل) و�شرا�شر �أخذ يمار�س �سنها بال�سميك وال�سندان ..ورغم أ�ن الموكب لم يبد أ� بعد فقد انهمك بكل جدية في عمله وك أ�نه �أمام دكان الحدادة . ولم تجذب نظره أ�و ت�شغله عن عمله العربة المبرق�شة والمزينة ب�شرائط كري�شة ملونة والتي تو�سط العري�ش عليها المعلم (ح�سن �أبو م�صطفى) نف�سه مجعو ً�صا على كر�سي فرا�شة ،مرتديًا ملاب�سه (الأبي�ض في الأبي�ض) يدور حوله بمبخرة �صبيه ال ِح ِرك في بدلة جر�سونات حقيقية ا�ست�أجرها له من مخزن (العدلاية) في المن�صورة وهو يلوح حوله بالمبخرة تنفث دخان بخورها .بينما يقدم له باليد الأخرى ال�شي�شة الفاخرة التي لا ي�ستعملها غيره� ..ساعتها �صاحت (فهيمة �أم جبر): -جتك نيلة على �أمك ،لو كانت �شافتك في ا ألملة دي ما كانت�ش ماتت م الجوع. 128
لنري َّنهم.. فج�أة ..دق الطبل مار�ًشا ع�سكر ًّيا زاع ًقا من بعيد ،فالتفتت الوجوه في ده�شة وا�شر أ�بت الأعناق وتطعلت العيون في ا�ستغراب و�سكتت ا ألل�سنة وطار ال�س�ؤال الم�ستطلع فوق الر�ؤو�س ال�صامتة .جرينا نحن ا ألطفال في نف�س اللحظة دون اتفاق متوجهين نحو م�صدر ال�صوت ونحن ن�صيح في ترحيب لم نتفق عليه . من بعيد من آ�خر �شارع البحر خلف بيت (ال�شهايبة) لاح طابور (جوالة الإخوان) بملاب�سهم الكاكي وك�أنهم فيلق من الجي�ش المرابط .يحملون على �أكتافهم كالبنادق �شماريخ غليظة ت�شبة أ�يدي الف ؤ�و�س .في ثلاثة �صفوف غير منتظمة على ر أ��س كل طابور منهم واحد يحمل طبلة ..طبلة الرجل 131
ح�ضنه طنبو ًرا حقيق ًّيا ك�أنه يروي حقل ًا متخيل ًا ..لكن النا�س فط�ست من ال�ضحك عندما فاج�أته المهرة التي تجر العربة ب�إغراقه في نافورة من بولها، فقال �أحدهم: -ياللا يا عم أ�هي جابت ميه ،الله يبارك لك ال�سنة دي . ••• 130
ت�شارك ومن حق الكل يم�شي في الزفة ..ما هم بر�ضه �أهلنا. كتم (عبد الر ؤ�وف أ�فندي) غيظه ،وهم�س ا أل�ستاذ (يو�سف) له: -ف ّوت المو�ضوع ده يا عبد الر ؤ�وف .همه ق�صدوا يحطونا أ�مام الأمر الواقع ..وممكن يب ّوظوا المولد ..م�ش كانوا معتبرينه بدعة وراف�ضينه من �أول ما كان ن َّية ..فوتها عليهم ،وغر�ضهم ح ينك�شف . زمجر (عبد الر ؤ�وف) و�أ َّيده (عبد الباقي �أفندي) وحتى (محمود �شطا) قال له : -يا �سيدي ح يعملوا للزفة هيبة ..وعملتهم قدام البلد ماهي�ش في �صفهم � .أهم بقوا �شركاءنا في البدعة وال�ضلالة .. -رد (عبد الر�ؤوف) وهو يكتم غيظه : -فرحان (عبد الهادي) قوي بيهم .. ح يعملوا لطلعته هيبة .الخلفا ،زفة ر�سمية ،دا حتى ح يم�شيهم ت�شريفة قدام ح�صانه ..ولا خليفة بغداد . -وح يم�شوا قدامه ؟! كمان ؟ لأ بقى ..وراه زيهم زي غيرهم! -يا �سيدي قدامه وال َّا وراه ..المهم يبقوا بره الموكب .. كان كل �شيء قد �صار على أ�هبة الا�ستعداد إلطلاق إ��شارة البدء.. وكان (حمادة الم�صري) فوق المقام م�ستع ًّدا ببندقيته التي ي�ستخدمها (مدف ًعا) في رم�ضان والتي دفع ثم ًنا للترخي�ص بها �سنوات طويلة من عمره وكلفته طلاق مراته ا ألولى والأخيرة . وكان (الخليفة) قد امتطى ح�صا ًنا �أبي�ض �أمام المقام ( آ�خر قيافة منظره) على ر�أي مراته (زبيدة) : -ي�شرح القلب الحزين . 133
الأو�سط كانت طبلة �ضخمة تكاد تركبه .يدق عليها بع�صا غليظة لها ر أ��س م�ستديرة من القما�ش ،بينما طابور اليمين والي�سار يحمل من في مقدمتهما دربكة أ�و طبلة �صغيرة حادة ال�صوت يتبادل ذراعاه بع�صاتين رفيعتين الدق عليها في تبادل مح�سوب ا إليقاع نغ ًما من�ضب ًطا منتظ ًما بحركة م�ضحكة من ذراعيه اللذين يرتفعان في الهواء بزاوية وك�أنه يحرك جناحين �شبه طائرين .. كان منظرهم مده�ًشا لدرجة الفكاهة ..فم�ضينا نقلد الخطوة المنتظمة ،م�شكلين طابورين على الجانبين ،م�سحورين بالإيقاع وبانتظام الخطوة و إ�يماءاتها البطولية ..بع�ض المتفرجين كان يحتج على ما نفعله ف�صفع بع�ضنا أ�و دفع �آخرين و أ�وقعهم معتب ًرا ما نفعله �سخرية لا تليق بهيبة الطابور ولكن الأغلبية أ�يدتنا ونهرت من �ضربنا م�شجعين �ضاحكين معنا: � -إيه؟ م�ش عايزين تم ّرنوا ا ألجيال الجاية؟! -ما ت�سيبوهم ..الله ؟ هو ده م�ش زي الذكر . لم يلتفت لنا أ�حد من �أهل الطابور نف�سه ،بل ظلوا محتفظين بنظراتهم الجادة الجهمة .رافعين ر ؤ�و�سهم يتطلعون إ�لى الأمام .ف�أخذ منظرهم مع رهبة الطبل الكبير وجدية إ�يقاع الطبلتين الأ�صغر يجبر بع�ضنا على الان�سحاب من الطابور ال�ساخر (التقليد) ويقف فاغ ًرا فاه� ..أو خائ ًفا من عقاب مجهول.. زعق (عبد الر�ؤوف) أ�فندي محت ًجا : -احنا ما اتفقنا�ش على كده يا (عبد الهادي).. الحاج (عبد الهادي) رد في حكمة الخلفاء (لم يكن قد حج بعد لكنه �سيكمل دينه بالت�أكيد ويحج). -يا (عبد الر ؤ�وف أ�فندي) و�أنا كان في إ�يدي إ�يه؟ ..كل البلد عايزة 132
الناعم ا أل�سود (م�سحوق الجثث) وك�أن عفري ًتا خراف ًيا نفخ من م�ؤخرته عا�صفة رهيبة جعلت الكل يكح وي ْعط�س و�سالت دموعنا حرقة فاقترح (ح�سن العربي) �أن نن�سلخ منطلقين لن�سبق الموكب لن�شاهده من مكان ملكي �سيقودنا إ�ليه . وتبعناه ..بع�ضنا ا�ستجاب لفكرته وبع�ضنا تاه في خ�ضم الارتباك الذي لا حد له .والذي كانت معجزة كبيرة �أن ينتظم بعد كل هذا الهرج والمرج بف�ضل العناية الإلهية وبركة (�سيدي مجاهد).. قادنا (ح�سن العربي) �إلى حيث اقترح علينا ال�صعود على �أغ�صان �شجرة الكافور ال�ضخمة أ�مام باب بيت ال�شيخ (علي �أبو ح�سن) ف�سبقنا الموكب مهرولين كالمعيز ال�شاردة .وب�سرعة �ساعد كل منا الآخر لل�صعود على ال�شجرة ال�ضخمة التي كانت تمد ذرا ًعا قو ًّيا عبر ال�شارع لن�ستقر عليه، البنات رف�ضن ال�صعود ،ألن رفعهن يقت�ضي حملهن وهذا عيب! لكن الواد (عبد ال�سلام عوي�ضة) قال أ�نهن غال ًبا لا يرتدين (�إلب�سة) وح تبقى ف�ضيحة لو �شافهم حد من �أهلهن ..تزاحمنا على الفرع واتخذنا من كثافة �أوراقه �ستا ًرا يحجبنا عن �أعين �أهل الدار ( .ح�سني) ابن (محمود أ�فندي) رف�ض �أن ي�صعد ،حتى لا تتمزق بيجامته أ�و تتو�سخ ..أ�نا لم �أتردد فهذا يوم مفترج والبيجامة اتو�سخت فعل ًا .و�أبي عرف �أنني في خ�ضم المعركة . و�صلت �إلينا أ��صوات الطبول من وراء بيت (بير كمال) ..وتباط أ�ت كثي ًرا ،فعرفنا �أنهم توقفوا �أمام دار (عابدين) ليقوم �أولاد عم الخليفة بتوزيع ال�شربات والعرق�سو�س تحية له .. وحين لاحت الجوالة على �شارع البحر قال (ح�سن العربي): � -شوفتوا وك�أنهم بيفرجونا �إحنا ..ح يعدوا من تحتنا . قال الواد (عبده جل�ّص): 135
كانت العمة الخ�ضراء ت�ضوي تحت �ضوء ال�شم�س ..والغترة ال�شاهي البي�ضاء تلمع عاك�سة �ضوء ال�ضحى مبا�شرة تزغلل العيون. وا�ستعد �أهل المطاهرين الموعودين كل على حماره �أو ح�صانه ليتبعوه ..ولكن (عبد الر ؤ�وف أ�فندي) تدخل في اللحظة ا ألخيرة بمجرد �أن �أطلقت ر�صا�صة البدء بعد ت�صاعد �إيقاع الطبلتين النقرزان فجعلهم يتبعون طابور الجوالة م ؤ�خ ًرا ح�صان الخليفة لما بعد انتظامهم ..و�سرت حمى الا�ستعداد لكل العربات المنتظرة حول ال�ساحة .واخترقت الجوالة بعد التوقف والا�ستدارة (للخلف در) على طريقة الغفر زحام الواقفين على اليمين وال�شمال ..وطارت حمائم بي�ضاء �أطلقتها زوجة (علي �أبو عابدين) وهاجت غربان الجنينة مع ارتفاع �صيحات التكبير وتقدم ح�صان الخليفة بعد م�سيرة المطاهرين و أ�عطيت ا ألوامر للعربات �أن تنتظر وتتحرك واحدة بعد الأخرى كي تتبع موكب الذاكرين من �أهل الطريقة والمداحين .وعلت �ضجة كبيرة اختلط فيها التراب بالزعيق وال�صراخ بالزغاريد التي هزت ال�سطوح القريبة والتي تماوجت وتطاولت عبر ا أل�سطح وفي خلف البيوت وعلى الم�صاطب مع ال�شيلان الملونة الزاهية والطرح ال�سوداء التي �صنعت مع البيارق والرايات التي ترفرف فوق الموكب مهرجا ًنا من الألوان ،لم تر (ميت �سل�سيل) مثله من قبل .. وعقب تحرك موكب الم�شايخ والأفندية و أ�هل (ميت �سل�سيل) الذين حر�صوا على ال�سير في الموكب .بد�أت العربات تتوتر وتزمجر مع توتر قادتها كل منهم يريد �أن ي�أخذ مكا ًنا في المقدمة ..فاختلطت عربات الكارو بحميرها وخيلها مع الجمال وعجز المنظمون وف�شلوا في إ�جبار �أي أ�حد على الالتزام بالترتيب المتفق عليه ولا على أ�ي ترتيب ما ..وارتفعت فوق الهدير وال�ضجة �سحابة تراب دخاني كثيف من تراب (�أبو خ�شبة) 134
وغ�ضب ال�شيخ (علي �أبو دقن) لما حدث ،فقد كان م�ص ًّرا على عدم الوقوف لأي من كان ،فنحن هنا في منا�سبة دينية �شريفة ول�سنا منافقين لفلان وعلان.. غطى هدير الذكر و�صوت �أهل الطريقة على �صياحه .و�أدار عم (عبد الهادي) رقبة الح�صان وم�ضى في طريقه .خا�صة وقد �ضغط من هم خلفه وتزاحموا تحت �ضغط الخيول والعربات ..وت�صاعد �صوت حركة الذاكرين وارتفع هديرهم وا�ست أ�نفوا التقدم ،والكل يحيي بطريقة �أو �أخرى ال�شيخ (علي) ذا الوجه ا ألحمر الطفولي الذي يجبرك على ا إلعجاب بعيونه الخ�ضراء وابت�سامته الطيبة ..قلت لـ (ح�سن العربي) : -يا خبر يا (ح�سن) لو �شافك ..تبقى وقعت في �إيده بنف�سك وجيت له برجليك .. �شخر (ح�سن العربي) وقال : -والله كنت عملت له مولد ..وخليت الخلق تتفرج عليه بدل ما هو بتفرج عليها.. كنت أ��شير إ�لى حادثة م�شهورة عندما حب�س الجنايني الولد (ح�سن) في مخزن التبن عندما ظبطه ي�سرق لنا الفاكهة ..ولما جاء ال�شيخ (علي) كان (ح�سن) قد �سلك نف�سه ونط من �شباك المخزن للترعة ..وكانت حادثة تحدثت بها البلد كلها ؛ خا�صة و�أن ال�شيخ (علي) كان مو�ضوع ال�سرقات ي�ضايقه ج ًّدا ،و�أعلن �أنه �سي�سلخ الل�ص بكرباجه .وظل يعلن طول الطريق �صان ًعا �أكبر �ضجة ممكنة �أنه �سيجلد الولد المعلون ومن يت�شدد له ..وو�صل إ�لى الجنينة منت�ص ًرا ليفاج أ� أ�ن الل�ص قد هرب بكل ب�ساطة و�ضاعت تهديداته هباء ،و�سخر منه العيال والكبار ،وظلت رواية يتبادلها ويقلد أ�بطالها ال�ساخرون في �سهراتهم لفترة طويلة . 137
-والله الواحد بتو ُّزه نف�سه يطرطر على الواد (ابن فريحة) اللي عامل فيها أ��ستاذ ولاب�س ت�شريفة! �سكعه (ح�سن العربي) قلم على قفاه كاد يلقيه من على الفرع .. وكاد �صوته يلفت إ�لينا أ�نظار (ال�شيخ علي) و أ�ولاده الذين خرجوا ليقفوا على الم�صطبة أ�مام بيتهم وحولهم أ�بناء العيلة مرتدين البدل والقم�صان النظيفة ..وكاد قلبي يقف عندما �شاهدت �أبي يقف معهم وخيل �إل َّي �أنه التفت على �صرخة الواد (عبده) ! لكن ربنا �ستر ألن (�صلاح) كتم نف�سه ،ولولا أ�ن ت�شبثنا با ألغ�صان ل�سقطنا كتلة واحدة �أمام الموكب و�أمام �ضيوف ال�شرف ،الذين كانوا يقفون في عظمة ،بينما خ َّفت ال�ضجة وا أل�صوات ولم يكن هناك �إلا �إيقاع الطبل وحده يثير في النفو�س رهبة �ضخمة ,كرهبة ال�شيخ (علي أ�بو ح�سن) والأفندية.. مرت الجوالة ولم تتوقف إ�كرا ًما لل�شيخ (علي) كما هو مفرو�ض بل تعمد قائداها (بكر �ضيف) و(ن�صر القداح) على �أن ا إل�صرار على النظام �أدعى ،ألن هيبة الموكب أ�هم كثي ًرا من المجاملات ؛ خا�صة و أ�نهم احتجوا على ما حدث �أمام دار (عابدين) وكاد يف�سد النظام ..لكن عمي في عباءته ال�سوداء وعمته الخ�ضراء التي كانت أ�كبر كثي ًرا من ر�أ�سه ال�صغير والتي أ��ضفت عليه هيبة لم أ��شاهده عليها في أ�ي وقت .أ�وقف ح�صانه ا ألبي�ض بال�ضبط أ�مام ال�شيخ (علي) ليحييه ،و�صنع توقفه م�سافة كبيرة بينه وبين الجوالة من المتفرجين رجال ًا ون�ساء فارتفعت الزغاريد و�أطلق بع�ضهم عدة ر�صا�صات في الهواء ،وح َّيى ال�شيخ (علي) عمي (عبد الهادي) .فطفرت الدموع من عيني انفعال ًا برهبة الموقف ..ولكني �أخفيت دموعي ب�سرعة حتى لا ي�سخر مني ا ألولاد .. 136
�شلة بنات حا�سرات من بنات عزبة الغجر من ا ألجرية ،يرتدين ملاب�س العيد الزاهية وهن يطبلن ويرق�صن وي�صفقن و�إحداهن تغني والباقي يرددن في حما�س : يا عــم يا مـــــزين خليك عليه حنين واقطع له بالهداوة لجل يبطل �شـقاوة وتح َّرجن أ�مام ال�شيخ (علي أ�بو ح�سن) قليل ًا ،فارتبك غنا ؤ�هن وهن يت�ضاحكن من الك�سوف ثم ما لبث أ�ن ا�شتد إ�يقاعهن وعلا �صوتهن ،لأنه لم يغ�ضب ولم ينهرهن بل ابت�سم في وقار ..ف�أخذن يحيينه بالزغاريد . خلفهن جاءت تلات �أح�صنة على كل منها رجل أ�مامه طفل �أو أ�كثر في ملاب�س بي�ضاء وطواقي مزوقة بالخرز يبت�سمون في بلاهة .ولا يدرون ما ينتظرهم بعد انف�ضا�ض الزفة على يد الحلاق . وبعد العربة الأخيرة ان�ضم �أكثر المتفرجين إ�لى الزفة .حذرنا (ح�سن العربي) أ�ن نتحرك حتى يدخل ال�شيخ (علي) وقلت : -ولما ابويا يم�شي كمان .. -كده ح تفوتنا الزفة . -ما الزفة فاتت يا عبيط ..ما �شفناها كلها . -م�ش ل�سه ح تلف البلد .. -واحنا مالنا ..ح نروح وراهم بعد ما �شفناها من أ�جدع حتة ؟ .. ح نجري وراهم؟ -اللي عايز يروح يروح .. -أ�نا راجع على المقام ..اللحمة زمانها ا�ستوت ..وال�صواني ح تيجي ع ال�صوان يا اهبل انت وه َّوه !. ••• 139
مرت العربات تحتنا تما ًما في انتظام تحيط بها جموع من الرجال والن�ساء وا ألطفال الذين ا�ست أ�نفوا زعيقهم وزياطهم حين وجدوا (ال�شيخ علي) ي�ضحك في إ�عجاب وهو يتابع حركات الحرفيين فوقها ..قال (محمود كحول) : � -شايف أ�ولاد الكلب العربجية لاب�سين اللي ع الحبل وراكبين على الاح�صنة. -ما قلت لكم أ�طرطر عليهم من هنا .. -يا عم م�ش �أح�صنتهم ،حقهم يركبوها .. -ب�ص .ب�ص ،بر�ضه عربجية وح يف�ضلوا عربجية � ..شوف الواد ( أ�بو زنون) مبربر على روحه ازاي .. (ح�سن العربي) لم تعجبه رنة الح�سد هذه . -ياد يا اهبل انت وه َّوه فيه حد في البلد اتفرج فرجتنا � ،إحنا �شايفين الزفة من �أولها لآخرها � ..إيه يعني راكبين الاح�صنة ما طول عمرهم بيركبوها حتى وهي �شايلة الجلة .احنا هنا ولا الملك ..ولا ال�شيخ (علي) ذات نف�سه ..وك أ�نها جاية مخ�صو�ص تمر من تحتنا ..ب�ص ..ب�صوا .. كان (ال�سيد �أبو نعمة) و(ابو �صبح) كل على جمله يم�سك جرناله بالمقلوب وهما يتبادلان الأخبار الم ؤ�لفة عن نا�س من البلد أ�و من البلاد المجاورة في كاريكاتير �شفوي عمياني �ساخر ..وكان النا�س ي�شاركونهما القافية والتعليقات ال�ضاحكة في �صخب مرح . خلفهما كان (العو�ضي) ي�ستعر�ض بم ؤ�خرته في حلة كبيرة م�صدية رق�صة (بيا�ض النحا�س) في حركات فاح�شة تثير �ضحكات ال�شبان وتك�سف الن�سوان فيدارين وجوههن �ضاحكات خلف الطرح وال�شيلان.. وتوالت العربات في هدوء حتى ظهرت عربة لم نرها من قبل ،تحمل 138
و(بكر �ضيف) وهما من الكوادر القوية في الإخوان وكانا على ر�أ�س الراف�ضين للم�شاركة مهما كانت الأ�سباب .فقاما بقيادة الطابور حتى لا تف�شل الخطة .. ولا نعرف بال�ضبط ما اتفقوا عليه .ولكن ما حدث من وقوف الزفة �أمام بيت دار (عابدين) لتلقي التحية ،وتل ُّك ؤ� الخليفة أ�مام بيت ال�شيخ (علي �أبو ح�سن) لم يكن في ح�سبانهم .وت�سبب الوقوف الأخير في إ�بعادهم �إلى ا ألمام .وتجمع ح�شد كبير من الأهالي بين الخليفة وبينهم ،فلم تعد الجوالة وك�أنها الحر�س الخا�ص �أو الت�شريفة الر�سمية أ�مام الخليفة ،بل �صارت مجرد زينة وطبلة كما قال (عبد الر�ؤوف �أفندي) .. ولا أ�حد يعرف ما الذي قرره الوفديون � .إذ أ�نهم مقتنعون بحجج الخليفة نف�سه باعتبار الإخوان من �أهل البلد .ومن حقهم الم�شاركة .كان ر�أي الوفديين دائ ًما أ�ن خبرتهم تقول أ�ن هناك دائ ًما �أغرا ً�ضا خفية وراء كل ت�صرف للإخوان ،و إ�نهم ي�ضمرون ما لا يعلنون .ولابد �أن هناك م�صيبة �ستحدث ماداموا غيروا ر أ�يهم فج أ�ة في المولد والم�شاركة فيه بعد قتال عنيف لمنعه و�صل �إلى حد تهديد العمدة ... بعد ابتعادهم للأمام عن الخليفة ،حدث ارتباك في �صفوفهم واختل انتظامها ،رغم �أوامر (بكر �ضيف) ولعنات (ن�صر القداح) وتحذيراته .. اختلت الخطوات المنتظمة بحكم محاولة كل من في الطابور معرفة ما حدث ..وخا�صة حين ح�صل �ضرب النار وارتفع �صوت الزغاريد والغناء وما �صاحب ذلك من حالة انفعال �أمام بيت ال�شيخ (علي أ�بو ح�سن) . غ�ضب (ن�صر القداح) واعتبر كل ذلك م ؤ�امرة مدبرة �ضد هيبة الطابور الذي بذل جه ًدا كبي ًرا في تدريبه وتنظيمه .وكان بطبعه هاد ًئا وقو ًرا �إلا إ�ذا ا�ستثير غ�ضبه .وحاول ال�شيخ (علي �أبو دقن) تهد أ�ته دون 141
يعلم ما ي ِ�س ّرون.. كانت خطة ال�شيخ (علي �أبو د�سوقي) بالا�شتراك في زفة المولد والتي فاج�أ بها الجميع قد در�سها ا إلخوان جي ًدا .ووافق معظمهم عليها باعتبارها الطريقة ال�صحيحة لل�سيطرة على المولد. �أو على الأقل التواجد لمنع الم�سخرة ومحا�صرة �أهل البدع ومنع أ�لعاب القمار و�شرب الح�شي�ش ،وغير ذلك مما ي�شيعه القادمون من بلاد �أخرى تحت �ستار الولاء لل�شيخ .وكل ما يجعل من المولد إ��ساءة للدين أ�و على الأقل الحد منها .. وكان (ال�شيخ علي) قد رتب أ�ن ت�صل الجوالة التي انطلقت بقوة من �أمام الجمعية إ�لى �ساحة المولد ومنع �أ�صحاب البدع من التواجد في ال�ساحة ب�أي طريقة م�ستغلين ملاب�سهم �شبه الع�سكرية. وعلى هذه الأ�س�س � ،شارك (ن�صر القداح) 140
الزفة ماتزال تتقدم ل ألمام ..وا�شتد �إيقاع الطبول وارتفع �صوت التكبيرات يهز الأر�ض ويملأ الفراغ ..بينما ظلت �شبابيك بيت العمدة مغلقة ولا �أثر لحياة داخله .. و�صعد الجمهور والأطفال على البراندة .بل ودق بع�ضهم على الأبواب دون جدوى ..حتى ظهر �شيخ الغفر و أ�طلق بندقيته في الهواء وهو يزعق : -العمدة م�ش هنا � ..سافر .. و�ضحك الواقفون .وجلا النا�س عن البراندة وهم ي�سخرون من العمدة الذي هرب حتى لا يتكلف كو ًبا من العرق�سو�س أ�و التمر الهندي.. و�أ�سرع ال�شيخ (علي) ي�أمر الجوالة بالتقدم وهو يكتم غيظه وتلفت حوله ليرى رد فعل ذلك على (عبد الر�ؤوف �أفندي) و أ��صحابه ..لكنه لم ي�شاهد لهم أ�ث ًرا ...إ�لا ( أ�حمد عبده ح�سنين) الذي كان �ضخم الج�سم طويل ًا يبدو وك�أنه يعوم على �سطح الزفة والذي كان ي�شير �إليه في حزم �أن يتقدم �إلى ا ألمام أ�و يف�سح الطريق للزفة .. خرجت الزفة من زنقة الترعة مع بيت العمدة .وانف�سحت الزراعية وج�سر ال�سكة الحديد الفرن�ساوي أ�مام الزفة ،وانتظم �سير الجوالة في هيبة فوق الزراعية .وتبعها الموكب و�أن ظل عديد من الأهالي وا ألطفال يزحمون الم�سافة بينهم وبين الخليفة والتي لم ت�ضق أ�ب ًدا ..بل ات�سعت بحكم توافد آ�خرين عليها ..و إ�ن كان الموكب قد ا�ستقام وانتظم بحكم ات�ساع الم�ساحة والم�سافة ..وبدا في �أبهى منظر ..ووقف القطار القادم من المطرية والذي بال�صدفة و�صل مع انتظام الموكب على ال�سكة .. وتباط أ� ال�سائق معج ًبا بالمنظر الممتد أ�مامه ،تطيرفوقه الرايات الملونة والبيارق ال�شرعية وبيارق الزينة ذات ا آليات ..و�صعد كثيرون �إلى �سطح 143
جدوى ،بل �صمم و�أ�صر على الان�سحاب معل ًنا �أن ا�شتراكهم كان خط�أ منذ البداية . وا�ستطاع (بكر �ضيف) �أن يعيد بع�ض الانتظام للطابور ،بينما اندفع ال�شيخ (علي أ�بو د�سوقي) رئي�س ال�شعبة عائ ًدا ليحتج على هذا الت�سيب ..محاول ًا كتم غيظه : -يا (عبد الر ؤ�وف أ�فندي) دي م�ش �أ�صول .هو فرح ،لا ي�صح �أن يقف الخليفة ألي كان . لكن (عبد الر ؤ�وف �أفندي) �سخر منه كعادته : -خليفة � ..شي الله يا خليفة ..يا �سيدي ده خليفة على قدنا م�ش عثمانلي . و�أ�ضاف (يو�سف عبد ربه) : -ما تاخد�ش ف بالك يا �شيخ (علي) ..هو يعني كان الملك (فاروق) ..ثم ه َّوه وقف لمين يا أ�خي ..م�ش لل�شيخ (علي أ�بو ح�سن) ..يا �شيخ علي يا ابو ....يا �شيخ (علي يا د�سوقي) ؟! �ضحك النا�س لتلميحه الذي لم ي�صرح به عن ذقنه .وان�سحب ال�شيخ (علي) في غيظ وم�ضى ليلحق بالجوالة حتى لا ينفرط عقدهم بعد ان�سحاب (ن�صر القداح) غا�ض ًبا.. وعاد الموكب لينتظم كما هو مر�سوم عبر �شارع البحر وحتى ترعة الجوابر ..ثم كادت تحدث �أزمة أ�خرى أ�مام بيت العمدة ..حيث �أوقف (ال�شيخ علي الد�سوقي) الجوالة بنف�سه هذه المرة في مقدمة الموكب أ�مام بيت العمدة لتحيته . وارتفعت تكبيرات رجال الجوالة ومن ي�صاحبهم من رجال ا إلخوان و�شبابهم طالبين خروج العمدة �إلى �شرفة البيت لتحيته . -الله �أكبر ولله الحمد .. و أ�حدث وقوفهم ربكة ب�سبب �سدهم الطريق ،بينما كانت م�ؤخرة 142
كانت المفاج�أة كاملة لل�شيخ (علي الد�سوقي) و(بكر �ضيف) عندما اكت�شفوا ابتعادهم عن الموكب ولم ي�ستطيعوا ال�سيطرة عليه ،ل�ضبط عودتهم للحاق به ..ودفع الغ�ضب (ال�شيخ علي) للا�سراع ليعاتب المت�سبب في ذلك ولكن المدخل كان مزدح ًما لدرجة لم تعطه أ�ي فر�صة ليتبين �شي ًئا ..وه َّده الغيظ ،ف�صعد �إلى براندة القهوة التي كان ي ّحرم الجلو�س عليها وجل�س على �أقرب كر�سي ..ور�آه من عاد من فلول الجوالة فجل�سوا حوله على القهوة متعبين �صامتين محاولين تهدئة �أع�صابه وهو ينفخ حتى لا يطق له عرق ..ور�آهم (ال�سيد را�شد) فرحب بهم �سعي ًدا وهو ي�صيح : -خروب �ساقع يا وله لل�شيخ (علي) و�إخوانه .دا القهوة النهاردة زارها النبي ! ••• 145
العربات بينما تزاحم الركاب في ال�شبابيك وعلى �سلالم العربات .و�سار ال�سائق في بطء يتبع الموكب وك�أنه جزء منه وحيت الن�ساء القطار بالزغاريد وحياهم ال�سائق بال�صفارة في إ�يقاع منغم .. ما أ�ن و�صل الموكب �إلى قهوة (�أبو را�شد) وكانت مازالت مبنى جدي ًدا له براندة لها �أربعة �أعمدة �ص ّفت في ن�صف دائرة على الزاوية بين �شارع (ال�شادر) و(الزراعية) ك أ�ول مبنى على الأر�ض الزراعية الممتدة بين بيوت القرية الغربية و(ترعة ال�سلطان) حيث الم�ست�شفى وبيوت دار (عبد ربه) ..وكان المعروف أ�ن الموكب �سيدور مع �شاطئ الترعة نحو ال�شمال ،حتى يمر (بم�سجد ال�سلطان) والعزبة ليعود �إلى �ساحة (�سيدي مجاهد) . لكن ما �أن عبرت الجوالة القهوة على الزراعية متجهة إ�لى الم�ست�شفى وبيت (كامل أ�فندي) غر ًبا ..حتى ظهروا فج�أة ؛ نازلين من براندة القهوة ( .عبد الر�ؤوف أ�فندي) و(ال�سيد را�شد) و(ح�سن �أبو موافي) و(يو�سف عبد ربه) ..وان�ضموا في موكب رهيب مخترقين زحام ال�سائرين خلف الجوالة وقطعوا الطريق على ح�صان الخليفة .وقادوه �شمال ًا عبر مزلقان ال�سكة الحديدية نحو �شارع (ال�شادر) وفوجئ الخليفة نف�سه بتغيير الم�سار ولكنه لم يعتر�ض ..ولم يكت�شف قائد الجوالة ولا رجاله ا ألمر ،إ�لا بعد �أن كانوا قد عبرو (عزبة الغجر) واقتربوا من وابور طحين (البداوية). حتى الذين كنوا يتبعونهم أ�ح�سوا بخفوت ال�ضجة خلفهم . واكت�شفوا دخول الموكب �إلى القرية من أ�مام قهوة ( أ�بو را�شد) فعادوا م�سرعين �صارخين �ضاحكين وبع�ضهم غا�ضبين عندما تبينوا �أن الجوالة ت�سير بكل انتظام وجدية على ال�سكة الزراعية عارية من الخلف �إلا من بع�ض �أن�صارهم ..وبع�ض العيال الذين يحملون جري ًدا وع�ص ًّيا مندمجين في تقليدهم بنف�س الجدية .. 144
كان يرف�ض على طول الخط علاقتي مع أ��صدقاء طفولتي الأولى �صبيا ًنا �أو بنات ،يريدني أ�لا أ�لعب �إلا مع �أبناء (محمود أ�فندى �سالم) وال�ست (�أم ح�سني) و�أولاد وبنات (غزالة �أم رخا) قريبة �أمي ،وزوجة ال�شيخ محمد �أبو مجاهد ومن هم على �شاكلتهم من �أ�صحاب (البيچامات) والذين لا يخلعون �صنادلهم أ�ب ًدا للعب الكرة والم�ضرب أ�و غيرها من أ�لعابنا العنيفة المتربة المطينة التي تغرينا أ�ن نخو�ض غبار مقابر ( أ�بو خ�شبة) وعفار جرن (دار �أحمد) وطين المن�صل والم�سارف والترع التي تحيط (بميت �سل�سيل) من جميع الجهات. كان يريد أ�ن يحرمني من ال�سباحة والنزول �إلى الماء ..لا في البحر الجديد ولا القديم ولا (خ َّرارة مهدب) ولا (�سحارة �أبو دهينة) ولا حتى ترعة (غيط ال�سباخ) .. وكان يحرم عل َّي أ�ن �أ�شتهي تين جنينة (علي �أبو ح�سن) ال�شوكي � .أو �أتحايل مع أ��صحابي ل�سرقته �أو �سرقة فول حراتي حقول ال�ساحل . أ�و طماطم غيط (ريا�ض) أ�و بلح نخيل (ال�شهايبة) الحياني أ�و حتى نخيل (ال�سباخ) الذي زرعه بيديه .وكنت �أ�ستمتع ب أ�كله �أخ�ضر و�صي�ص . كيف يمكن أ�ن تكون تلك الحياة قابلة للعي�ش لو هجرت وخا�صمت �شلة ال�سباحة في البحر الجديد (ال�صغير) (برهام وم�أمون و�صلاح وعبد ال�سلام وزغلول) أ�و حرمت من الت�سلل معهم �إلى حقول (ال�ساحل وال�سباخ) لالتهام الفول الحراتي �أو قتة وخيار (التخريب) �أو كيزان الدرة الم�شوية في دوار الغنم على حطب قطن ( أ�ر�ض الطير) مع (�أنعام ووطنية وحلمي وفتنات و�سعاد ومحمد �إبن ال�صديق) .ماذا �سيكون طعم الحياة، دون ع�صابة (ح�سن العربي و�صلاح أ�بو العز وعزيزة بنت عبا�س و�أمينة ووطنية وفاروق النملة) ونحن نقطع كع�صابة (محمد �أبو �إبراهيم) الطريق 147
َعب�س وتولى .. ( ..غاب القط ..ارق�ص يا فار) محرفة الن�ص المعروف للمثل ال�شعبي عن ق�صد .بهذا كانت أ�مي ت�صف العلاقة بيني وبين �أبي .إ�ذ بعد حادث �سقوط �أخي (الأ�صغر مني) (�سامي) من �شباك ب�سطة ال�سلم بين الدورين الثالث والرابع لبيت خالي في �شارع (�سيدي عبد القادر) في المن�صورة ،قبل انتقاله إ�لى �شارع (المدير) ،لا�ستحالة العي�ش في ال�شقة التي �شهدت �أول م�أ�ساة فادحة في أ��سرتنا � ،أ�صر �أبي على �ألا �أفارق مدى نظره �إلا عند النوم !،ف�أ�صبحت �أنا في محاولة دائمة للهرب عن ناظريه طوال اليوم .ويبدو لي أ�ن هذا كان ال�سبب الجوهري لإلحاقي بمدر�سة (ال�شيخة الأولية بنات) في �آخر (واطئ البلد) حيث يعمل هو – قبل بلوغي �سن الالزام – بزمان. 146
فيه وكدت �أغرق ..ووحدي الذي طاردني �أ�صحاب الطماطم ووحدي الذي �شتم (عم ريا�ض) �شتمة قبيحة ! ..وكنت أ�تلقى (ال�ضرب) و(الت أ�نيب) منك ًرا كل ذلك م�ست�شه ًدا بكل أ��صحابي الذين كانوا �سينكرون طب ًعا لو �أنهم �سئلوا ..ولكن في كل ا ألحوال كنت �أقول لنف�سي (علقة تفوت ولا حد يموت) وغ ًدا �سيكون يو ًما جدي ًدا زاخ ًرا بمغامرات جديدة ! كان م�ستحيل ًا �أن أ�ت�صور أ�لا يكون أ��صحابي غير (ح�سني ابن أ�م ح�سني) أ�و (فاروق) و أ�خوه (حمام) و(�أبو المكارم) إ�بن ال�ست (بيركمال)، م�ش ممكن � .صحيح هم يرتدون مثلي البيچامات النظيفة وال�صنادل أ�م أ�بزيم معدني ،ويق�صون �شعورهم حتى لا ي�سكنها القمل .وينامون في �أ�س َّرة وعلى مراتب بلا براغيت أ�و َبق أ�و بالقليل منها على الأقل – لكنهم لا ينزلون الترع للحموم ولا الم�سارف ل�صيد ال�سمك ولا يت�سلقون الأ�شجار خلف الثمار �أو فراخ الطير �أو بي�ض اليمام ..كان أ�ق�صى ما يفعله معظمهم هو الفرجة علينا أ�و حرا�سة ملاب�سنا ونحن نعوم ونغط�س ك�ضفادع مجنونة! لم يي�أ�س �أبي من محا�صرتي .ولم �أعجز عن ابتكار و�سائل ل إلفلات.. كان أ�حيا ًنا يدور باح ًثا عني في عز القيالة عند (المغذى) حيث ن�ستحم م�صارعين الماء ال�ساقط من البوابة �أو عند (�سحارة �أو دهينة) حيث الجميزة ال�ضخمة فوق البئر الغام�ض الخطير العميق حتى الجانب ا آلخر من ا ألر�ض ،بين (ترعة ال�سلطان) و(بحر ال�سباخ) ..وحيث الم�ساحة ال�ساكنة ذات الدوامات غير الخطيرة ،التي ت�صنع ما ي�شبه حمام �سباحة طبيعي ، نظل نغط�س ونعوم فيها منتظرين فر�صة لا�ستغفال حار�س جنينة ال�سراية ، ليت�سلل بع�ضنا من خلال فتحة قناة الري عرايا على بطونهم ،إلمدادنا بما ت�صل �إليه �أيديهم من خيرات .وفي كل مرة كنت �ألمحه أ�و يلمحه غيري.. 149
بين (الخم�س وال�سباخ) ك�سرب جراد .مخترقين حقول المقاتة والطماطم نطارد الكلاب والغربان ويطاردنا �أ�صحاب ا ألرا�ضي دفا ًعا عن محا�صيل حقولهم... كيف يمكن أ�لا نت آ�مر – (مجاهد) ابن عمتي (فريدة) و(محفوظ) ابن عمي ،و ( أ��شفاق وكمال خ�ضرة وفتحي وعواطف بنت فرحة) و�أنا – كي نغزو خزانة �ستي ( أ�م العز) و�شفط الق�شطة والرايب ب�سيقان الفول المجوفة. كيف وماذا يكون طعم الدنيا ؟ وما فائدة الحياة لو أ�نني قاطعت كل ه�ؤلاء وامتنعت عن �صحبتهم بحجة �أنهم ي�سيرون -بع�ضهم على ا ألقل -حفاة وبلا -في معظم ا ألحيان -ملاب�س داخلية �أو بيچامات بوبلين المحلة ؟! أ�و بحجة �أن معظمهم مع البهائم يعي�شون �أو ينامون على ا ألفران ، بنف�س ملاب�سهم .ولم يدخلوا المدر�سة ولم يقعوا تحت حد م�سطرة (�شاكر أ�فندي)� ..أو خرزانة ا أل�ستاذ (علي بو علي) � ..سيكون ذلك هو الجحيم نف�سه أ�و النار (جهنم) على ا ألقل !! كان �صندلي يمتلئ بالطين ف أ�غ�سله ،في �أي بير �ساقية � ،أو �أي قناة راكدة ليعود كالفل ..وكانت ملاب�سي (تتطين) وتن�شق وت�صطبغ بالتراب والبقع ..ف أ�غ�سلها في أ�قرب ترعة و أ�ن�شرها كجناح طائرفوق ر�أ�سي ونحن نجري حتى تجف �أو أ�خيطها عند (فاطمة �أم �شطا) أ�و أ�رممها عند بنت خالة أ�مى (غندورة) فتعود �سليمة ،ولا من �شاف ولا من دري ! وقد لا تعود �سليمة أ�و لا تجف كفاية ،فت�ؤنبني أ�مي (ماما) وتقر�صني وتهددني (غير جادة) ب�إخبار أ�بي .ولا تفعل .و أ�عود بري ًئا ..لكنه حين يدخل محمل ًا للبيت بع�شرات ال�شكاوي �ضدي �أبدو وك�أنني وحدي الذي �صنع خطاف ال�شبك لا�صطياد التين ال�شوكي ،ووحدي الذي قفزت الم�سرف ووقعت 148
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210
- 211
- 212
- 213
- 214
- 215
- 216
- 217
- 218
- 219
- 220
- 221
- 222
- 223
- 224
- 225
- 226
- 227
- 228
- 229
- 230
- 231
- 232
- 233
- 234
- 235
- 236
- 237
- 238
- 239
- 240
- 241
- 242
- 243
- 244
- 245
- 246
- 247
- 248
- 249
- 250
- 251
- 252
- 253
- 254
- 255
- 256
- 257
- 258
- 259
- 260
- 261
- 262
- 263
- 264
- 265
- 266
- 267
- 268
- 269
- 270
- 271
- 272
- 273
- 274
- 275
- 276
- 277
- 278
- 279
- 280
- 281
- 282
- 283
- 284
- 285
- 286
- 287
- 288
- 289
- 290
- 291
- 292
- 293
- 294
- 295
- 296
- 297
- 298
- 299
- 300
- 301
- 302
- 303
- 304
- 305
- 306
- 307
- 308
- 309
- 310
- 311
- 312
- 313
- 314
- 315
- 316
- 317
- 318
- 319
- 320
- 321
- 322
- 323
- 324
- 325
- 326
- 327
- 328
- 329
- 330
- 331
- 332
- 333
- 334
- 335
- 336
- 337
- 338
- 339
- 340
- 341
- 342
- 343
- 344
- 345
- 346
- 347
- 348
- 349
- 350
- 351
- 352
- 353
- 354
- 355
- 356
- 357
- 358
- 359
- 360
- 361
- 362
- 363
- 364
- 365
- 366
- 367
- 368
- 369
- 370
- 371
- 372
- 373
- 374
- 375
- 376
- 377
- 378
- 379
- 380
- 381
- 382
- 383
- 384
- 385
- 386
- 387
- 388
- 389
- 390
- 391
- 392
- 393
- 394
- 395
- 396
- 397
- 398
- 399
- 400
- 401
- 402
- 403
- 404
- 405
- 406
- 407
- 408
- 409
- 410
- 411
- 412
- 413
- 414
- 415
- 416
- 417
- 418
- 419
- 420
- 421
- 422
- 423
- 424
- 425
- 426
- 427
- 428
- 429
- 430
- 431
- 432
- 433
- 434