-في غ�ضب حقيقي -فكيف ي ؤ�جل ليوم واحد قيد ابنه البكري .الذي جاءه بعد البنت الأولى ( أ�ختي �آمال) حتى لو كانت الدنيا بتر ّخ زلط ! ثم �إنه كانت هناك علاوة ،تمُ نح للم�ستخدمين في الحكومة أ�و في مجال�س المديريات ،للمواليد .وكان حري ً�صا على الح�صول عليها ..خا�صة والدنيا كانت نار والحرب على و�شك �أن تقوم ..إ�ن لم تكن قد قامت فعل ًا ..منذ بد�أت جيو�ش (هلتر) في اجتياح �أوروبا وق�ضم ا ألرا�ضي من حوله دولة وراء ا ألخرى .. �أ�صبحت البي�ضة بتعريفة بعد ما كانت الع�شرين بي�ضة تعني (ن�ص تعريفة) وهي قطعة نقود م�سد�سة كانت ت�ساوي مليمين ون�ص ..لذا كان من ال�ضروري قيدي فو ًرا حتى ولو كان الموت يهددني ..فا ألمل في الح�صول على العلاوة � ..أكثر أ�همية بالطبع من انقطاع الطريق ب�سبب (الزبط) الذي لا يمنع �سير الحمير �إن ا�ستحال على العجل !! ل�ست �أعير هذا ا ألمر كبير �أهمية ..بالعك�س .إ�نه �شيء طبيعي ،فكل (العظماء) لي�س لهم تاريخ ميلاد محدد بال�ضبط .وراجع �سيرة حياة أ�ي عظيم يطر�أ ا�سمه على بالك � ..ستجد ذلك �شي ًئا عاد ًّيا ..فلـ(محمد نجيب) ثلاثة تواريخ ميلاد ..و أ�ي ً�ضا (نابليون) هناك �شك كبير حول تاريخ ميلاده بال�ضبط .. و�سيدنا (محمد) (�ص) نف�سه لو و�ضعنا في ح�ساباتنا الفروق بين التقويمات المختلفة بين الميلادي (بكل ح�ساباته) والهجري (بما حول بداياته من �شكوك) ..فما بالك بالتاريخ والتقويم (القذافي) الحديث!!.. ال�سيد الم�سيح كذلك ..ح�سب المذهب الذي كنت �س�أكون من رعاياه لو ظلت م�صر م�سيحية ! وبالمنا�سبة ..عندما عاد بعد قيد ا�سمي (�سمير) احت َّج بع�ض زملائه 51
�إ َّنا �أعطيناك .. � شككت أ�مي في تاريخ ميلادي ، عندما أ�خبرتني -في وقت لاحق -أ�نني ولدت �ضعيف البنية لدرجة �أنهم لم يتوقعوا لي أ�ن �أعي�ش ..لذلك �أ َّجل والدي قيدي في دفتر المواليد عدة �أ�سابيع ..مف�ضل ًا الانتظار ليت أ�كد من إ�رادة ال�سماء .. خا�صة و أ�ن الدنيا كانت (�شاتية) والطريق إ�لى المنزلة (مز ّبطة) و�شبه مقطوعة ب�سبب المطر ! طب ًقا لهذه الرواية التي ي�ؤكدها ( َزبط) ال�شتا وانقطاع الطريق إ�لى المركز ،ف أ�نا ل�ست من مواليد 15مار�س كما أ�دعى .. و�إنما �أ�صبح في هذه الحالة من مواليد �أحد �أيام �شهر فبراير ،وهذا يلقي ظلال ًا من ال�شك كبيرة على ما قر أ�ته �أو �سمعته عن البرج والبخت وحظك اليوم - هذا لو �صح كلام �أمي .أ�بي نفى هذه الواقعة تما ًما 50
ملامح طفولتي ..والظروف التي أ�حاطت بن�ش�أتي ا ألولى ..يقولون �إن هذا مهم ج ًّدا و�ضروري للحكم عل َّي وعلى حياتي ،و�ضرورى لتقييم هذه الرحلة الطويلة ..إ�ذ ي�ؤكد البع�ض �أ َّن �شيخوخة المرء هي بع�ض من طفولته ا ألولى ..وبدون الإلمام بها ..لا يمكن تف�سير إ�حباطاته وطموحاته ..أ�و تبرير نزواته ..و�شطحاته ،أ�و اكت�شاف نوع ودرجة جنونه أ�و حكمته .. لكني لم أ�كتب أ�ب ًدا مذكرات ،ولا احتفظت بكرا�سات أ�و أ�جندات ..ناهيك أ�ن ذلك لم يكن متا ًحا ..كل ما أ�ذكره ب�شدة هو أ�ن هوام�ش كتبي كانت تمتلئ مع نهاية كل �سنة ..ب أ��شكال و�صور لر�سوم غير �سيئة ..وجوه وبيوت و�أ�شجار وحيوانات ،أ�رانب وحمير ..وم�ؤخرات جوامي�س تحت �شجر جميز وطيور و أ�زهار .وكان هذا ي�سبب لي م�شاكل كثيرة مع المدر�سين ،الذين كان بع�ضهم ي�صر على نظافة الكتب من هذه الخزعبلات . كان (محمد �أفندي �شاكر) ..ي�ضربني بحرف الم�سطرة على ظهر كفي، إ�ذا ما �شردت مني الحروف خارج هام�ش ال�صفحة الأحمر ..ولم تت�سع للكلمات (الثماني) التي كان لابد �أن (تنح�شر) بدقة وحرفنة بين الهام�شين ..كان ا ألمر عنده مقد�ًسا ،ي�صل لمرتبة الكفر والإيمان ..فالخروج على الهام�ش فو�ضى ،وعدم قدرة على الفهم وعجز عن الا�ستيعاب ،إ�نه �شيء هام ج ًّدا ،أ��شد أ�همية من �أخطاء الإملاء والهمزات ،وتواتر الحروف الملغزة في الكلمات المهولة ،التي تظهر المهارة من الخيبة -كالل�ؤل�ؤ وال�سموءل وال�سجنجل وغيرها -والتي تعتبر كتابتها �صحيحة من دلائل التفوق والمقدرة والعبقرية المبكرة .. كنت أ�يامها �أدر�س مع �أختي (البكرية) (�آمال) في مدر�سة (ال�شيخة) / 53
و أ��صدقائة من مدر�سي (الإلز) – (وكان الإخوان الم�سلمين فى �صعود)- قائلين إ�ن ا�س ًما كهذا �سي�شكك في ديانته � ،سيظنه الكثيرون قبط ًّيا ..واقتنع �أبي وقرر العودة في اليوم التالي ،ولكن ربك �سلم ..ذلك ألن تغيير الا�سم إ�لى (محمد �سمير) كان �سيتكلف على ا ألقل ثلاثه جنيهات ؛ �ضع في ح�سابك حكاية (الزبط) والحمير ..وهكذا �أنقذت من م�شاكل الا�سم المركب رغم �إيحاءاته الأر�ستقراطية الم�ؤكدة! لكن �أمي تعود لت�ؤكد روايتها .بدليل �أن خالتي (ال�سيدة) هي التي تولت رعايتي في ال�سنوات ا ألولى منذ البداية .ألن �أمى كانت ( ِن ِف�سة) ولي�س عندها خبرة برعاية ا ألطفال المعلولين ! لكن هذه ال�شكوك كلها لم تغير من ا ألمر �شي ًئا ..ف أ�نا مقتنع �أنني ولدت في ( 15مار�س) .و أ�كتب ذلك على �صفحات كل كتبي و�أقوله في كل �أحاديثي ال�صحفية والإذاعية .و أ��صر على �أنني من مواليد برج (الحوت) فل�ست أ�ميل كثي ًرا لحكاية (الدلو) هذه التي تعني بفجاجة (جردل)! ملامح (الحوت) �أكثر احترا ًما و أ�بهة ..ويحمل مواليده الكثير من ملامح ذاتي و�صفاتي ..التي أ�فخر بها على العالمين ! ثم إ�ن ( 15مار�س) حدث فيه حدث من �أهم الأحداث الدرامية والتاريخية � ..ألم يقل (�شيك�سبير) على ل�سان الرجل (بتاع ربنا) الذي قابل (قي�صر) . و�صرخ فيه بدون منا�سبة �أو متنب ًئا -الله أ�علم . -حذار من منت�صف (مار�س) !! فلم يعره انتبا ًها ..وكان �أن ُذبح (وهو �أهم (قي�صر) مت�سلط في التاريخ) ،في ذات نف�س يوم ميلادي !! لذا يبدو ا ألمر لي غام ً�ضا وغائ ًما كلما �أوغلت في الذاكرة؛ بح ًثا عن 52
يدي من ال�ضرب ..و�ضاقت نف�سي بالدنيا وما فيها ..حتى �إنني اقترحت �أن �أذهب للك َّتاب �أف�ضل ..لكنه قر�ص ودني ،ورف�ض الا�ستماع إ�ل َّي بل و�أو�صى (�شاكر أ�فندي) أ�ن (يتو�صى بي) �شوية ألنني لعبي ! .. وحدث ..كانت ح�صة �إملاء .وكان المو�ضوع هو (�شجرة القطن و�شجرة البرتقال) وهو مو�ضوع �سخيف عن المفا�ضلة بين ال�شجرتين . واحدة تتباهى بجمالها والأخرى بقيمتها ل ألوطان ! وكان لابد �أن نلتزم بالهام�شين وبعدد الكلمات في ال�سطر الواحد ..وكانت الواقعة ،لم نكن نكتب بالر�صا�ص ..ولم نكن قد عرفنا بعد ا ألقلام الجافة ..ولا حتى �أقلام الحبر ا ألبنو�س .كنا نكتب بالحبر ال�سائل ،بال�سن المركب على عود من الخ�شب ،كنا ن�سميه الري�شة ..ولا�ستعمال الري�شة والدواية أ��صول . كيف تغم�س الري�شة في الدواية ،وكيف تحتفظ بالدواية المليئة بالحبر على (قمطر) �ضيق ،يكاد يت�سع للكرا�س .ومن كان حظه جي ًدا ،كان لقمطره ثقب ،ت�سقط فيه دواة خا�صة ،ت�شبه فنجا ًنا له حافة م�ستديرة ،تحتفظ به في م�ستوى �سطح (القمطر) � ..أما من كان حظه نيلة زي حالاتي ..وزائد عن العدد ؛ ولد و�سط ع�شرات البنات .كان لي (قمطر) لا يتمتع بهذه الميزة .ولذا كان عل َّي �أن أ��سير على الحبل ،مواز ًنا بين الم�ساحة التي تحتلها الكرا�سة -مع و�ضع حركتها الع�صبية تحت يدي في الاعتبار -وبين الركن ال�ضيق الذي تكاد الدواية الزجاجية العادية تحتله ..بالمللي !! �أخذ الأ�ستاذ (�شاكر أ�فندي) يملي علينا ،وهو رائح غا ٍد يل ِّوح بالع�صا الخيزران ،مزي ًحا طربو�شه إ�لى الوراء تارة ..و�إلى ا ألمام تارة ..في�ضيف إ�لى المحاذير المتعلقة بالهام�ش ،وعدد الكلمات ،وتوازن الم�سافات فوق القمطر محظو ًرا �آخر �شديد الوط أ�ة ،وهو أ�ن تمنع نف�سك من ال�ضحك .. خا�صة عندما يعجبه رنين �صوته و�سط ال�صمت الفادح الذي نكتم به 55
بنات ..لم �أكن قد بلغت �سن الالزام بعد ،لكن �أبي كان مدر�سا بها ..وهي مدر�سة تقع في الطرف ا آلخر (ال�شرقي) من بلدتنا بجوار �ساقية العفاريت �أي في (واطي البلد )..بينما تقع مدر�سة البنين في (علوها) ..و�ألحقني أ�بي مع �أختي بف�صل (�شاكر �أفندي) ولي�س بف�صله هو ..كان يقول �إن ذلك �أجدى ..حتى لا نتدلع عليه ..لكنني �أظن أ�نه ف�ضل �ألا نحكم على كفاءاته وهو �أمر -أ�ق�صد الحكم على (�شطارة) المدر�سين -كان مو�ضوع حديثنا المف�ضل .وكثي ًرا ما ت�شاجرت ب�سببه مع بنات طويلات الل�سان كن لا يقدرن أ�بي حق قدره . لكننا جمي ًعا -بنات ف�صل (�شاكر أ�فندي) وبنات ف�صل �أبي و�أنا - كنا نح�سد بنات ف�صل (محمود �أفندي �سالم) ..ذلك الأ�ستاذ ال�س َّكرة المليء الج�سم ،ذو الوجه المد َّور الذي ي�ضاهي وجه (�ست �أم ح�سني) زوجته بيا ً�ضا وجمال ًا ..علاوة على طيبة قلبه وحنانه .الذي يجعل البنات يتقافزن حوله وعلى حجره وكتفيه طول الوقت حتى فيما بين الح�ص�ص ؛ وهو يوزع ابت�سامته الحنون على الجميع .. كم طلبنا و�ألححنا �أنا و�أختي �أن يلحقنا �أبي بف�صل (محمود �أفندي) لكنه رف�ض ب�شدة ..فقد كان �صدي ًقا له وكانت (�ست �أم �سمير) �صديقة وحبيبة زوجته (�ست أ�م ح�سني) وبالتالي هناك أ��سباب منطقية لرف�ض ذلك ،أ�قوى بكثير من �أ�سباب رف�ض �إلحاقنا بف�صله هو ..وكان ر�أيه أ�ن الذي يريد أ�ن يتعلم بجد لابد �أن يكون في ف�صل (�شاكر أ�فندي) ! كان لابد من فعل �شيء ..ف أ�نا ل�ست تلمي ًذا ر�سم ًّيا � ..إنني �أدر�س بالمجاملة كنوع من ا ألبهة �أو الا�ستعجال ،إ�ذ كنت مازلت �صغي ًرا على وجع الدماغ هذا ..ومع ذلك كان لابد من الاحتجاج ..فقد ورمت 54
رف�ضت بكل �شدة ..وا�ستعنت (ب أ�مي) وبال�ست ( أ�م ح�سني) .خا�صة وقد تحول الكف الذي رزعه لي -ح�سب روايتي وت أ�كيدات (�أختي) التي كانت تطمع في عدم العودة -إ�لى ع�شرات الكفوف �شمال ويمين ورف�ص ورزع في الحائط ..كنت أ��صور (�شاكر أ�فندي) في �صورة الوح�ش عديم القلب والرحمة ،يكرهني ألنه يكره أ�بي ..و�أنني كدت �أموت في يده .. و أ��شهد �أنني كنت كذا ًبا ،لكنني لم �أرد أ�ن أ�ه َزم ،أ�و �أعود �صاغ ًرا بعد �أن أ�دى اكت�شافي لموهبتي في التمثيل والمبالغة دوره ..وعلى كل حال لم أ�كن تلمي ًذا (ر�سم ًّيا) مق َّي ًدا بالمدر�سة ..لكنني خ�سرت (�شاكر �أفندي الدغيدي) �إلى ا ألبد .وهو �صاحب الف�ضل ا ألول في جمال خطي ،وقدرتي على و�ضع كل همزة في موقعها ال�صحيح على الواو �أو الياء أ�و على الأر�ض !! بعدها بقليل فقدت أ�ول بنت خفق لها قلبي ..و�أنا الآن �أعطي لم�شاعري ا�س ًما .لكن أ�يامها لم أ�كن أ�عرف معنى لما يحدث لي عندما �أكون معها ..كانت عين َّي ويد َّي ورجل َّي تتوتر جميعها متعلقة بها .تنتظر �إ�شارة من يدها � ،أو لفتة من عينها أ�و هم�سة من �شفتيها ،لأنفذ لها أ�ية نزوة ، و أ�حقق لها �أية رغبة ..ونحن م ًعا نلعب �ألعاب البنات ( ..ا ألولى) �أو (الط َّظة) �أو لعبة الفرح ؛ حيث كنت العري�س الأوحد دائ ًما ..لم نكن وحدنا طب ًعا بل كان معنا بنات أ�خريات منهن (�أختي آ�مال) التي كانت في �سنها وف�صلها ..وكانت �صديقة لها كما كانت (�أمي) �صديقة لأمها .. و( أ�بي) �صدي ًقا لأبيها (�أبو ن�ضارة) وهو ا�سم أ�طلقناه عليه نحن ال�صغار. وتبناه كل أ�هل البلد ،لأنه كان يرتدي نظارة �سميكة مميزة ج ًّدا ،لا تفارق وجهه الم�ستدير المليء ،وت�ستقر في �أبهة وثبات فوق �أنفه ال�شديد الح�ضور ..كنت �أعتقد �أنه لا يخلعها أ�ب ًدا ..حتى وقت النوم . 57
الأنفا�س ،في ؤ�كد مخارج الحروف بحركات و�إيقاعات كوميدية � ..صحيح أ�ن الرعب ٍكان كفيل ًا ب�إلزامنا حدود الجد والجهامة ..لكن المحظور كان لابد أ�ن يقع ..فقد ف�شلت في ح�شر الكلمات الثماني على ال�سطر ،قبل الو�صول للهام�ش ا ألخير ..ون�سيت ف�أخذت أ�م�سح ..والحبر لا يم�سح ب�سهولة ..فك�شطت الورقة و أ�نا مرعوب � ،أراقب حذ ًرا �أن يراني .. في نف�س الوقت كان عل َّي �أن أ�لاحقه حتى لا تفوتني الكلمات � ،إذ أ�ن له هو ا آلخر �إيقاعه المح�سوب بكل دقة ..التفت نحوي ك�أنما جذبه �صوت ا�ضطرابي ..فانفجرت باك ًيا رغم رغبتي ال�شديدة في ال�ضحك لأنه التفت في �صورة مفاجئة والطربو�ش فوق حاجبيه تما ًما كطرطور (�شكوكو) ..وما أ�ن حملق ف َّي حتى أ��سرعت ووقفت منطو ًرا ف�سقطت الدواية ..مطرط�شة الحبر على كل �شيء ..هاجت الدنيا ..ما �أن �شاهد ال�صفحة المك�شوطة حتى لط�شني قل ًما جعلني �أ�صرخ ب�شكل مبالغ فيه ، ففوجئ ب�صراخي و�أ�سرع يم�سك بي ،محاول ًا إ��سكاتي � ..صرخت �أعلى ف�صرخت ( آ�مال) وبع�ض الفتيات .واندفعت التلميذات على ال�صراخ من الف�صول ا ألخرى ..ووجد (�شاكر أ�فندي) نف�سه في مواجهة �أبي ،الذي جاء م�سر ًعا وقد تعرف على ال�صرخة ..لي�شاهد الكراري�س الملقاة على الأر�ض والحبر المطرط�ش وخدي المحمر ،فلم يتمالك نف�سه ولم ينتظر �شرح (�شاكر �أفندي) الهائج ..وا�شتبك الاثنان م ًعا �( ..شاكر �أفندي) محاول ًا ال�شرح ،و�أبي مندف ًعا للدفاع عن فلذة كبده ..وكانت موقعة تاريخية .. ظلت لها نتائجها ال�سلبية وا إليجابية على علاقات كل الأطراف المعنية لعقود طويلة لاحقة ! ُنقلت �أنا و أ�ختي طب ًعا إ�لى ف�صل (محمود أ�فندي �سالم) ..الحنون الجميل .ولكن �إلى حين ..فقد كان لابد �أن يت�صالحا �( -شاكر �أفندي) و( أ�بي) -و أ�ن تت�ضح أ�بعاد الموقف فعادت ( أ�ختي) إ�لى ف�صله ولكني 56
�سكرتي ًرا له بالمجل�س لولائه ال�شديد (لح�سين بك) وب�سبب العلاقة الخفية والمتينة بينهما ،ا�ستطاعا احتكار إ�دارة الجمعية لح�ساب (ح�سين بك) طب ًعا ،وهو بدوره �أطلق يد (�أبو ن�ضارة) في ال�شئون ا إلدارية والمالية دون ح�سيب أ�و رقيب (ولهذا حديث طويل آ�ت عندما تن�شب المعركة التاريخية الكبرى ب�سبب الجمعية في منت�صف الخم�سينيات والتي �سيظل ف�شل القرية فى ك�سبها ل�صالح الفلاحين علامة فارقة على ف�شل الم�سار الديمقراطي للثورة الم�صرية) المباركة !! ••• 59
كان (�أبي) �صدي ًقا له ولأخيه (يا�سين �أفندي) �صاحب النخلة ال�شهيرة التي ذكرتها في �أ�شعاري فيما بعد كثي ًرا ..وعندما �ساءت العلاقة بين ا ألخوين ،فترت ال�صداقة بينه وبين (�أبي) ،وانتهت �إلى ما ي�شبه حر ًبا باردة تح َّكمت فيها الزوجتان (�أمي) و أ�م حبيبتي بما ُعرف عنهما من حكمة وحنكة في م�سارها ال�سري وم ؤ�امراتها الهادئة ،ولم ي�شع خبرها بين �أهل البلد كما حدث لمعركة �أبي مع ال�شيخ (محمد ابو نبراوي) التي انقلبت -ب�سبب خادمة �شبه عبيطة من عزبة (الن�صا�صرة) �أغرت أ�مى أ�مها أ�ن تلحقها بخدمة خالى (فتوح افندى) فى المن�صورة حيث تعي�ش فى البندر بدلا من بهدلتها فى (زريبة) أ�بو نبراوي و أ�غرى �أبى �أباها ب إ�هدائه منبه �ساعة ذات جر�سين كان تحفة نادرة فى أ�وانها وكان ذلك كافيا لأعلان حرب بين العائلتين تحولت إ�لى �صراع طويل دا ٍم ..كانت وقائعه وحوادثه ونوادره حديث القرية كلها .وبالطبع �سنذكره بالتف�صيل في حينه ألهميته التاريخية . المهم أ�ن ثلاثتهم ( أ�بي و أ�بو ن�ضارة و أ�بو نبراوي) كانوا �أع�ضاء وزملاء في مجل�س إ�دارة جمعية (ميت �سل�سيل) الزراعية الذي انتخب مع ت�أ�سي�سها الأول قبل الحرب .برئا�سة (ح�سين بك عا�شور) أ�غنى رجل في قريتنا ، والذي كان يملك عزبة خارج زمام القرية تبلغ حوالي مائتي فدان قطعة واحدة ..ولم ي�سقط ذلك المجل�س إ�لا عندما جاء (الوفد) إ�لى الحكم عام . 1950و�إن كان (�أبي) وال�شيخ (محمد �أبو نبراوي) قد أُ�خرجا منه مع بقية الأع�ضاء الوفديين المنتمين إ�لى (علو البلد) ،عندما تولى النقرا�شي الوزارة بعد الحرب ؛ حيث اقت�صرت الع�ضوية على ا ألع�ضاء من (واطي البلد) ..وكان ( أ�بو ن�ضارة) هو الوحيد من (علو البلد) الذي ظل كاتبا �أو 58
لا �أ�ستطيع الآن �أن أ��صف وجهها ..لا لأنني لا أ�جد الكلمات بعد هذا العمر الطويل ..فما أ��سهل أ�ن أ�خترع ألر�سم �صورة مثالية تبهر ال�سامعين . لكن الحقيقة �سوف تبقى �أجمل .و�أنا لا أ��ستطيع �أن �أغامر .كانت مختلفة .. نظيفة لا أ�ثر لغبار القرية على وجهها �أو ملاب�سها أ�و �شعرها ،كبقية البنات. كانت قطعة من �ضوء ال�شم�س مغ�سولة بالحليب ..نموذج م�صغر من أ�مها الرائعة الجمال ،الرائقة الب�شرة التي يح�سد �أهل القرية (�أبو ن�ضارة) عليها.. ويلوكون �سيرته حق ًدا ألنه يحوز كل هذا الجمال ال�صافي.. كانت �أمها من (طنطا) ..كيف عثر عليها (�أبو ن�ضارة) وكيف تزوجته من دون رجال الدنيا ..لغز لي�س عندي له حل ..ولكني كنت �أحبه و�أحب زوجته ..ألنها ابنتهما ..كانت عيني تظل �شاخ�صة م�سحورة بحركة �ضفيرتها الوحيدة ،التي تتفنن �أمها في غزلها مع ال�شريط ا أل�صفر ،تتراق�ص على ظهر المعطف الأحمر الذي كان يميزها عن �سائر البنات .. (�أمي) �أ�صرت على �أن ي�شتري (�أبي) ( ألختي) معط ًفا مثله تما ًما لكن لونه كان مختل ًفا -كان أ�خ�ضر. كنا �أنا و�أختي نذهب كل �صباح � -أختي في معطفها الأخ�ضر ،و�أنا في بنطلون ي�صل �إلى تحت �صابونة ركبتي م�صنوع من قما�ش بدلة قديمة ألبي ،وقمي�ص في لون مرايل البنات ومن نف�س القما�ش -لن�صحبها �إلى المدر�سة التي تقع في �أق�صى ال�شرق من (ميت �سل�سيل) .وفي الطريق يلحق بنا �أو نلحق ببع�ض البنات .كانت (هي) و أ�ختي تتميزان بالمعطفين، وتتميزان بنظافة خا�صة ،ب�سبب تناف�س ا ألمهات (البندريات) .وكنت أ��سير خلفهما وعيناي معلقتان بال�شريط وال�ضفيرة ..في انتظار �أن أ�ظهر مهاراتي لها ..و�أن أ�كون عند �أول بادرة في خدمتها . 61
و إ��صبر نف�سك.. لي�س هذا حديث خرافة ..ول�ست �أبالغ ..لا ..هذا حديث جد الجد � ..أووه ..أ�خذتنا ال�سيا�سة بعي ًدا .وكاد الكلام ال�ضخم عن �سخافات الكبار يطم�س الحديث الجميل ال�ساحر الرقيق عن أ�ول ق�صة (حب ..وفقدان) تحدث لي ،و�أنا في ذلك ال�سن الرهيف الغ�ض ،والتي ك�سرت قلبي ألول مرة .وهو ا ألمر الذي تكرر كثي ًرا حتى �آمنت �أخي ًرا �أن الفقدان كان دائ ًما قدري .. ل�ست �أ�ستجدي دموع ال�ضعفاء .ف�أنا لا �أحكي ق�صة رومان�سية ،ولكني �أحكي عن قرية ووطن .. عف ًوا ..ا�سمحوا لي أ�ن �أتما�سك و�أكمل ..ألتحدث عن حبيبتي ا ألولى و أ�نا لم أ�دخل بعد المدر�سة الابتدائية ولم ي�صل عمري �إلى �سن الإلزام. 60
كنت �أفعل كل ما ير�سم طيف ابت�سامة عل ثغرها ..قلبي يقفز �إلى حلقي ..حتى ألكاد �أختنق كلما ابت�سم ْت ،حين �أحل لها الم�سائل ال�صعبة � .أو أ�كتب لها واجب ا أل�ستاذ (�شاكر) ..الذي كثي ًرا ما ت�شكك في قدرتها على ذلك ..وكيف كنت أ�تفادي نظراته المتهمة حتى لا أ�نهار ،ف أ�بكي و�أعترف ..كان ر�أيه أ�ن مخها (كالجزمة) ،و أ�نها لا تفهم ألنها م�شغولة بت�ضفير �ضفيرتها أ�كثر من ان�شغالها بالورقة والقلم .. حزنت عندما ُنقل ْت لف�صل الأ�ستاذ (محمود �سالم) بناء على تدخل والدها ..فقد حرمت من ت�أملها طول اليوم ..ولكن ذلك كان أ�ف�ضل ألتمادى في خدمتها دون خوف من عقاب ..كنت �أعتقد وقتها أ�نها الدنيا وما فيها ..وكانت (�أختي) تراقبني في غيظ .ولولا �أنها تحبها هي الأخرى وتعتبرها �أهم �صديقة لها ..لما �سامحتني .ولكن ذلك لم يمنعها أ�ن تلقح بكلام في البيت عنها .وعن ت�صرفاتي ؛ مما جعلني هد ًفا ل�سخرية ( أ�مي)، خا�صة عندما أ�تردد في تلبية طلب لها ..ك إ�نجاز م�شوار �إلى البقال ..أ�و ال�صعود �إلى ال�سطح إلح�ضار بع�ض المخلل والم�ش من البلالي�ص المخ�ص�صة لذلك ،والتي �أتقن التعامل معها في حر�ص وحرفنة ! .. حتى كان ذلك ال�صيف اللعين ..الذي ا�شتدت فيه الحرارة .فكادت تحرق الحقول التي لم ي�صل إ�ليها لهيب الحرب . يومها عدنا من المدر�سة محتمين بظلال البيوت هاربين من ال�شم�س قدر ا إلمكان ..كان وجهها �أ�شد احمرا ًرا وعيناها الفيروزيتان تلمعان �أكثر مما تعودت عليه ..وكنت �أحر�ص كلما فاج أ�نا ل�سان من لهب ال�شم�س أ�ن أ�رفع كرا�ستي ألظللها ..حتى و�صلنا �إلى بيتها ..وعدنا �إلى بيوتنا ..و أ�ختي تنخ�سني بالقلم الر�صا�ص وهي ت�سخر من اهتمامي 63
كنا ن�سلك في كل مرة طري ًقا مختل ًفا ..نخترق القرية عبر ال�شارع الرئي�سي � ،أو نلف من طريق المحطة ،نتقافز فوق �شريط ال�سكة الحديد الفرن�ساوي ..وكان هذا يعر�ضنا للتقريع واللوم ،فكنت �أ�سارع بتحمل الوزر قبل أ�ن يتطور ا ألمر � ،أو كنت �أ�صحبهن عبر البحر ..لي�س (بح ًرا بال�ضبط) ولكننا كنا نطلق عليه البحر ؛ ما دام يتفرع من البحر ال�صغير �أو الجديد. وما أ�كثر ما كنت �أقترح �أن نذهب عبر ال�شاطئ ا آلخر الذي كان يمر أ�مام عزبة (الدقون) ،خلال غابة من أ��شجار التوت ؛ لأنني كنت حينئذ أ�ظهر لها مهاراتي المو�سمية و�أل ِّبي رغبتها ..مبال ًغا في الح�صول لها على �ألذ ثمار التوت ،من فوق �أعلى ا ألغ�صان ..وكان هذا يثير غيرة وغ�ضب أ�ختي أ�حيا ًنا ..وي�سن أ�ل�سنة ا ألخريات عل َّي ..ولكنها كانت تبت�سم .. فت�شرق �شم�س بين �أ�ضلعي ..تجعلني �أ�سامح الجميع .. حينئذ ،كنا نعبر إ�لى المدر�سة فوق جذع نخلة ممدود بين ال�شاطئين.. كلهن كن يعبرن كا ألرانب أ�و العنزات الجامحات ،حتى �أختي كانت تفعل ذلك بكل خفة وب�ساطة � ..إلا هي ..وحدها كان ينتابها الرعب ..فتكون فر�صتي ،التي خططت لها دون �أى ق�صد �سئ عندما �أغريتهن ب�سلوك ذلك الطريق ..فلم تكن تعبر دون م�ساعدتي ..هل يمكن �أن يت�صور �أي إ�ن�سان ، حتى ولو كان قد تخطى �سن ال�ستين ،ماهية الم�شاعر التي تفور في عروقي �ساعتها ..و�أنا أ�م�سك بكفها كع�صفور مرتع�ش بين يدي ..و أ��شجعها بكل ما في عيوني من حنان على أ�ن تنقل أ�قدامها خطوة خطوة ..حتى نهاية جذع النخلة ف أ�تلقاها -في قمة إ�ح�سا�سها بالتوتر وقد امتلأت عيناها بن�شوة الانت�صار على الخوف ،لتقفز الخطوة الأخيرة -بين �أح�ضاني ، و�سط خليط من م�شاعر الخوف والفرح والغيرة ت�ضج �صاخبة في تعليقات وت�صرفات البنات . 62
أ�حدق في الفراغ ..قالوا إ�نني لم �أح�س لهب ال�شم�س التي كانت تكوي بلاط ال�سلم .. حين انتبهت (�أمي) لحالي حملتني جثة �سائبة المفا�صل �إلى الكنبة ، تحت �شباك البلكونة البحرية ..وقد انتابها رعب �شديد �أن يكون �شيء رهيب قد حدث لي .ر�َّش ْت وجهي بالماء و�أخذت تقر�أ القر آ�ن وهي تحت�ضنني في جنون ..وهي تت�أكد من تردد أ�نفا�سي ،ثم تعاود ت�أمل حالي وت�صرخ ف َّي أ�ن �أرد عليها ..ولمَّا لم يحدث زعقت .. -يا (عبد الباقي) � ..إلحقني � ..إلحق (�سمير) ! و�صحا �أبي من قيلولته مذعو ًرا على ال�صرخة ،مت�صو ًرا �أنني وقعت من على ال�سطح � ،أو ده�ستني جامو�سة ..فلم تكن لج�سدي �أي ا�ستجابة.. -إ�يه اللي ح�صل ؟ -وقع من طوله أ�ول ما �سمع الخبر .. -خبر إ�يه ؟ -ماتت ( ..منيرة) بنت (ابو ن�ضارة) بيقولوا ماتت .. كاد �أبي أ�ن ي�سقط إ�لى جانبي ..لولا �أن تناول القلة الباردة من ال�صينية -كما قالوا لي فيما بعد -و�صبها على ر أ��سه .. -إ� َّزاي ؟ ..دي كانت النهاردة في المدر�سة زي الوردة ..لما خدت �شهادة نجاحها . �صمت لحظة وقد ات�سعت عيناه رع ًبا .. -كانت مزرودة ..وو�َّشها زي الكبدة ح يبك منه الدم ..الحر ..أ�نا كنت حا�س�س ان النهارده يوم ماهو�ش فايت . -أ�هي ماتت ..كانت بنت موت .ربنا يرحم أ�مها .بيقولوا كانت بتلعب مع بنات (الزفتاوي) ودخلت على �أمها عايزه ت�شرب � ..شربت من هنا ..ووقعت من هنا. 65
الزائد ،وتخرج لي ل�سانها غ�ض ًبا أ�حيا ًنا ،و أ�حيا ًنا على �سبيل الإغاظة ، وتعايرني لقلة اعتزازي بكرامتي قدام البنات .. بعد �ساعات �شقت ال�صرخة الملتاعة قلب القرية � .صرخة حادة طويلة باكية م�ستغيثة ،تدق باب الرب محتجة ،تمزق ال�صمت الذي خلفته ال�شم�س الحارقة في الحواري فقطع الأرجل ،و�أجبر الخلق على التك ُّوم في حلوق الأحوا�ش وفي نتف ال�ضل والزوايا الرطبة .. هرع الخلق ملهوفين مذعورين ك�أن حري ًقا �ش َّب في ر ؤ�و�س البيوت التي حم�صتها الحرارة.. حملت ا إلجابة ح�سر ًة وحز ًنا و أ�لمًا هد حيل الجميع ..و�أنا خنقتني الدموع و�شحتفتني �شهقات حارقة وانخرطت في بكاء حقيقي لا يليق ب�سني -لي�س وقتها ولكن ا آلن -و�أنا أ�حاول أ�ن �أتذكر ،و�أن �أجد الكلمات لأكتب عما حدث ..نعم بكيت (ا آلن) لأول مرة عليها .. يومها لم أ�بك ..ولم �أ�صدق ..و�شتمت الخالة (خ�ضرة) التي اندفعت �إلى بيتنا منكو�شة ال�شعر ملهوفة ت�شل�شل بطرحتها الكالحة .وهي تتعثر منكفئة ملهية تخم�ش وجهها ،وت�ضع على ر�أ�سها تراب الأر�ض المحروقة .. �شتمتها ولم أ��صدق وهي تقول �إنها ماتت . -م�ش ممكن � ..إ َّزاي ؟ .العيال ما بيموتو�ش كده .انتي ق�صدك تغيظيني .. لماذا هي وماذا حدث ؟ ..نزل عل َّي �سهم الله ،بينما ولولت (�أمي) وبكت ( آ�مال) وهي تندفع �صارخة متعلقة ب�أذيال (خ�ضرة) التي اندفعت.. تعدو نحو بيت ( أ�بو ن�ضارة) . �أنا خر�ست ..مرعو ًبا تكومت في ركن ب�سطة ال�سلم بلا حركة . 64
عندما كانت �أ�سرار تلك الفتنة و�سحرها الخفي ينك�شف من ثغرات ثوبها الذي تمزق خلال �صراعها مع الن�ساء الحزانى الباكيات . -لا حول ولا قوة إ�لا بالله .. لم يتم أ�ي �شيء في هدوء ..كل �شيء تم رغم أ�نفها ..الدنيا حر ..و إ�كرام الميتة دفنها ب�سرعة ..فلا يمكن في ظل هذه ال�شم�س القا�سية الانتظار.. (�أبو ن�ضارة) ..انهار .بهتت عيناه تحت نظارته ال�سميكة ،ولم يبد عليه �أنه فهم ما حدث ..كل ما كان يتمتم به ..ذاهل ًا .. -ليه ؟ .. والكل يجيبه .. � -أمر الله � ..إنت م�ؤمن.. -ليه ؟ ..ده كفر ..ليه ؟ .. -لا حول ولا قوة �إلا بالله .. ي�سمعها فتخرج من �صدره وحلقه �آهة خ�شنة كخوار ثور مذبوح ..ثم ي�صمت كحجر ..غ�َّسلتها زوجة الحانوتي وك َّفنتها بعي ًدا عن أ�نظار أ�مها الهائجة ..ودون �أن يراها أ�بوها المذبوح ..كانت ال�شم�س ت�سوقهم ب�سياط لهبها لي�ص ّلوا عليها ب�سرعة ..وخرجت البلد كلها وراءها إ�لى القبور ..حتى �ستات البيوت والمك�سحين والعجزة �إلا من ي�شلون حركة �أمها ..ومن عجزوا عن القيام من حول أ�بيها المذهول الذي لا ينطق إ�لا خوا ًرا خ�ش ًنا عمي ًقا مجرو ًحا في آ�هة طويلة ،تعلو وت�صمت فج أ�ة .. حتى ا ألطفال والبنات و�أختي ذهبوا إ�لى المقابر � ..إلا أ�نا ..تحر�سني �أمي عاج ًزا عن الحركة �أو الت�صديق أ�و الفهم .. ل�شهور طويلة بعد ذلك ،ومنذ الليلة ا ألولى ،كانت الأم تهب 67
-لا حول ولا قوة إ�لا بالله ..ليه ؟ ..طب وده بقى إ�يه اللي جـرى له؟ �شرب ميه ؟! ه َّزني بعنف مت�صو ًرا �أ َّن ما حدث لها يتكرر معي . -حلمك ع الواد ..احنا ناق�صين ؟ الواد ما ا�ستحمل�ش الخبر ..م�ش كانت �صاحبته . -هاتي كده ا َّما اف َّوقه .. حمتني أ�مي من ع�صبية �أبي واحت�ضنتني ،ثم حملتني �إلى ال�سرير في الأو�ضة البحرية وفتحت ال�شباك على و�سعه ..واطم�أنت عندما رم�شت عيوني ألول مرة ..و�سمعتني �أحرك �شفتي و أ�هم�س عندما لط�شتني الن�سمة.. -لأ ..ما ماتت�ش !! لم ي�ستطيع �أحد من القرية كبا ًرا و�صغا ًرا ،ون�ساء ورجال ًا أ�ن يمنع نف�سه من البكاء ..المر�أة التي ح�سدتها الن�ساء ،وب�سببها ح�سد الرجال زوجها ..كانت ت�صعب على الكافر ،وهي تم ِّرغ نف�سها في التراب ، وتلقي بنف�سها كالمجنونة على ال�سلالم ،وتنخبط بين الجدران وقد �أحاطت بها �أذرع الن�سوة محاولات تهدئتها ..لكنها كانت ت�ستجمع عافيتها بقوة ع�شرة وتبعثرهن وتجهدهن ،فيعاودن ح�صارها و إ�جبارها على الجلو�س ، فلا تلبث �أن تدفعهن وتبعثرهن لتعاود القفز والمهابرة محتجة على ال�سماء لاعنة ا ألر�ض ومن عليها ..راف�ضة �أن تعترف بموت ابنتها الوحيدة .. محاولة في كل مرة الو�صول �إليها ك أ�نها �ستعيد إ�ليها الحياة .. كتلة الفتنة الجميلة التي كانت تثير ح�سد وج�شع الجميع ن�ساء ورجال ًا ..تبعثرت على ا ألر�ض وتمرغت في التراب ..الح�سرة �شلت الأحا�سي�س ال�شبقة الخفية فماتت ..قتلها الحزن الطافح من عيون الرجال ،حتى 66
كانوا يت�صورون �أن ذلك ب�سبب �سهري في الخرابة ،وعفرتتي طول الليل مع ا ألولاد في الحواري ال�ضلمة � ..أحد الم�شايخ �أكد �أنني مم�سو�س. وعمل �أبي لأهل الله ليلة ول�سيدي (مجاهد) عدة ليال ..وزار(ال�سيد البدوي) بناء على ن�صيحة �أحدهم ..وخالي (ال�سعيد) العاقل قا�س لي ا ألتر ،أ�ما خالي (�إبراهيم) ..فقال .. -هذا الولد مكتوب أ�لا تهد�أ له حركة .طول الليل والنهار كالنحلة لا يكف عن الدوران .وما يحدث له ب�سبب أ�ن عقله لا ي�ستوعب ولا يتحمل عنف ج�سده .هذه هلاو�س التعب ..ارحموه من نف�سه ..ا�شغلوه بالدرا�سة . وقرر �أبي أ�ن يلحقني بالمدر�سة الابتدائية و�إن لم أ�بلغ �سن الإلزام ، مع �أنك لم تكن ظهرت يا�صديقى بهذه الحدة في حياتي ولم أ�كن وقعت بعد تحت ت�أثيرك و�سيطرتك .ولم ي�صدق أ�حد أ�نني كنت �أنزل لها تحت الأر�ض ..لكني مت�أكد أ�ن الدنيا لم تعد كما كانت ..ثم ت�أكدت �أنها ماتت بالفعل ،ألن �شي ًئا ما في داخلي كان ي�صارع كى لا يموت ••• 69
فزعة في منت�صف الليل .وتخرج �صارخة عارية الر أ��س حافية القدمين ، يلاحقها زوجها في الظلام محاول ًا �سترها ب�شال �أو ملاءة ..كانت ت�سمع ابنتها ت�ستغيث بها ،أ�ن تخرجها من القبر ..ولا ي�ستطيع �أيا كان أ�ن يمنعها من الو�صول إ�لى المقابر أ�و نب�ش الأر�ض حتى يقو�ض لها الله من يقر�أ على ر أ��سها �آيات الله البينات ..فتهد�أ وت�ستقر عيونها الزائغة المدماة ..لتعود بها الن�ساء اللائي تع َّود بع�ضهن بعد ذلك القيام بما كان يعجز (�أبو ن�ضارة) عنه وقد ازداد �ضع ًفا ووه ًنا .. (خ�ضرة �أم بيومي) (فاطمة �أم دغيدي) و أ�رملة �أخرى لا أ�ذكر ا�سمها ..كن ينتظرنها كل ليلة ..لي�صحبنها �إلى المقابر في ان�صا�ص الليالي � ..شي ًئا ف�شي ًئا كانت الرحلة الليلية ت�صبح �أهد�أ .و�شي ًئا ف�شي ًئا � ..أ�صبحت هي �أ�ضعف ..أ��صبحت تتحدث فى هدوء عن ابنتها التي مازالت في القبر �صاحية ترجوها �أن تخرج لها ..لم تعد تخم�ش �أو تنب�ش .كانت م�ست�سلمة .تجل�س �أمام القبر تحدثها في ود وحنان ..كانت ت أ�خذ معها فاكهة وفطائر .وذات ليلة �أخذت معها البالطو الأحمر ..والم�شط وال�شريط لكي ت�ضفر لها �ضفيرتها قبل الذهاب للمدر�سة .. كانت (خ�ضرة) تحكي لأمي الباكية ..ولم أ�كن أ��صدقها ..ألنني لم �أ�صدق �أ�صل ًا �أنها ماتت ..و أ�نهم دفنوها حية .. ل آلن ..لم ي�ستطيع الم�شايخ أ�و الأطباء أ�ن يعرفوا �سر �صراخي في ن�صا�ص الليالي لفترة طويلة و�أنا نائم ..و �سر انتفا�ضي المذعور مرعو ًبا مما يحدث تحت ا ألر�ض ..و أ�نا أ��صف لهم ما أ�قابله هناك من عفاريت وبغال لها قرون وكلاب متوح�شة ..ومردة بعين واحدة .. 68
ك�سر الخبز من ال�صينية أ�و من على الطبلية ..تفعل ذلك �ضاحكة : -اللي يلم �سبع لقمات ،يبقي له في الجنة قيراط .. لم �أكن �أعرف عمن �أخذت هذا الن�شيد العالي الهدف ..المحكم ا إليقاع ..زمان ..كانت بنت النجارين التي جاءت لتعمر المقعدين الحديثين فوق الدار القديمة تغني : � -أنا المقعدين و أ�مك و�سط الدار .. �أ�صبحت لا تكف لحظة عن عمل �شيء يحتاج البيت له ..فهي تكن�س وتغ�سل وتطبخ ..وترفو وترقع وتطبق وتنظم وتنقي الغلة وت�سفح الرز وترتق القطوع والتمزقات وما �أكثرها في ثياب من لا يكفون عن الحركة .وتروق الماء ..لكنها لم تخرج لتجلبة فهي �ست البيت ي�أتي إ�ليها دائما من ي�ساعدها ..إ�ذا ما �أحتاج الأمر .كانت تعتبر البيت مملكتها ،لذلك ن�ش�أنا أ�نا و إ�خوتي ال�صبيان قبل البنات نقد�س البيت .وندفع من أ�رواحنا و�أنف�سنا و أ�مزجتنا بل وحتى طموحاتنا ونزواتنا في �سبيل تدعيم أ��س�س البيوت التي �صنعناها ب�إراداتنا الحرة � ..أو ب�إرادتنا المهتزة الم�ضطرة – تحت �ضغط ظروف �أو عواطف أ�و تطورات جبرية في م�سارات حياتنا القدرية . � -شوف يا ابني �أنا اللي عملته ب إ�رادتي ،لا يمكن اتنكر له أ�و أ�رجع عنه ..وع�شان كده اطمن فيه حاجتين م�ستحيل لو على رقبتي أ�رجع عنهم ..أ�نا خلفتكو بعد ما اتجوزت أ�مك ب إ�رادتي الحرة ..وما حد�ش جندني لل�شيوعية � ..أنا رحت لها برجليه �أو هي اللي اتعرفت ف ّي على راجلها ..ع�شان كده ما تقلق�ش ده قدر وم�صير . كنت �أقول هذا على طريقة �أمي ال�ساخرة ال�ضاحكة ..حتى لو كانت المنا�سبة لا �ساخرة ولا �ضاحكة !! 71
قل � :أعوذ .. كانت أ�مي تقول لنا ووجهها ي�ضحك بعد كل أ�كلة : -ي�ستغفر ا إلناء للاعقه وهو قول يكاد يرتقي لديها �إلى درجة الحديث القد�سي ال�شريف ..وان لم تقل لنا �أب ًدا من هو قائله �أو ناقله ..تركتنا نفهم �إن مثل هذا القول النا�صح الف�صيح ،لابد �أن تكون له علاقة ما بالقيم النبيلة . تعلمنا – كلنا بنات و أ�ولاد – الحر�ص على عدم �إلقاء بقايا الطعام �أو �إهمالها ..لم يكن بخل ًا �أو حر ً�صا ولكن �إحترا ًما وتقدي ًرا للنعمة وللقيمة.. قيمة العمل ا إلن�ساني المتج�سد في اللقمة والك�سرة ، وقيمة ال�شكر ال�ضروري لل�سماء ولعبد الباقى على الرزق الحلال ..كانت تجعلنا – وتدفعنا لأن نجمع 70
أ�بدا ..ال ُك ُ�شك مر�صو�صة فيه بطرمانات وبلالي�ص وزلع الم�ش والجبنة والزيتون ا ألخ�ضر واللفت ك ِّل في مو�سمة .. -طبق مخلل يا�ست ( أ�م �سمير) .. لم يكن ينقطع العطاء .وكنت �أعرف �أن طبق المخلل هذا قد يكون الغذاء الوحيد المتاح للعائلة التي أ�ر�سلت ر�سولها ( ألم �سمير) ..و أ�حيا ًنا لم يكن ا ألمر بحاجة �إلى ر�سول أ�و مر�سال ..فكم أ�ر�سلتنا �أنا أ�و إ�خوتي .. ب�أطباق مغطاة م�ستورة بقطع القما�ش إ�لى بيوت عديدة كلما كان القلب عمران والإيد طايلة والخير فاي�ض .. و�أنا أ�و �أي من أ�خواتي ..كلهم ي�شهدون وكلهن ي�شهدن � ..أننا في ظل (علية) و (عبد الباقي) �أو (عبده أ�فندي) لم ن�شعر بالحاجة للأ�شياء المادية على ا إلطلاق .فقد كان �أبي رغم محدودية الحال ..قاد ًرا على توفير كل ما هو �ضروري ،بل واكثر بف�ضل ( أ�م يو�سف) وتدبيرها الذي جعلنا جميعا نبحث عن حاجات �أخري غير �ضرورات الحياة ..حاجات أ�كثر روحية .جعلتنا �أحرا ًرا لنا أ�حلام ا�سمي قليلا من الواقع المر المادي – كنا ب�سببها مختلفين ،غير محبو�سين في مطالبنا �أو احتياجاتنا المادية الذاتية .. كنا نح�س وك أ�ننا م�سئولين عن الدنيا وما فيها .وهو �شعور يعرف عذاباته كل من �أحب ا إلن�سان في تجلياته .أ�و اهتم بهموم ا آلخرين .. لم يكن أ�بي يدخل البيت و إ�يده فا�ضية على الاطلاق ..حتى لو كان ما يحمله مجرد حزمة فجل �أو كرات .. عودنا �أن ن�أكل الخ�ضار الطازج مع كل طعام � ،صبحا وظهرا وم�ساء ..عودنا أ�ن ن�أكل معا �أو هي عودتنا � ..أخ�ضعت الظروف لكي تنتظم طقو�س اجتماعنا معا على ا ألكل ..كانت تري لذلك أ�همية الحياة نف�سها.. 73
ما الذي جاء بهذا ال�سياق ليقطع حديثي عن (الفقدان) ..؟ ب أ�لام�س أ�غرتني �شوربة الأرنب أ�ن �أ�صنع ملوخية ..فتحججت لنف�سي ب أ�خذ التلفزيون المعطل إ�لى (ال�ضبعة) وكان يوم ال�سوق ..وعدت ومعي بطيخة وعرق ملوخية خ�ضرا ..قطفت وغ�سلت ون�شرت وخرطت وف�ص�صت توم وط�شيت الملوخية ..و أ�نا أ�تذكر طول الوقت أ�مي .. و�أكلت ،و�أنا �أ�ستح�ضر ذكراها وف�ضلها على قدرتي �صنع �ألذ طبق ملوخية – بلا فخر . هي التي علمتني ما جعلني �أحتمل الغربة وال�سجن والوحدة ، و أ��ستخدم يدي في مهارة في �صنع ع�شرات ا أل�شياء .أل�ستطيع و�أطيق الحياة لمدة تلاتين �شه ًرا في زنزانة انفرادية .وقدهم و�سط زحمة الآخرين .لكي أ��ستطيع �أن أ�قيم أ�ودي و�أعتمد على نف�سي ..ولا �أحتاج أ�حدا و�أن �أعطيت معظم وقتي وقوتي وقوتي للآخرين .. دخلنا في الأنا � ..آ�سف ،لكن طر�أ على ذهني فج�أة نوع من المقارنة . ال�شاعر (فلان) ما كان�ش يعرف بنته ف �سنة إ�يه ! ال�شاعر الكبير اللي (على الح ِجر) من �صغره ،عمره ما غ�سل مواعين. حتى في ال�سجن كان بيتخانق للهرب منها . لذلك �أحمدها وا�شكر ف�ضلها (ال�ست �أم يو�سف) فقد ربتني ف�أح�سنت تربيتي .عندما �أعود من الخارج و أ�كون قد �أكلت مع �أ�صحابي.. -يا ابني كل ( ..قوت البيوت ما يقوت) �أو تت�ضاحك ظنا منها أ�نني �أعاف الأكل ..دلعا أ�و بطرا : -يا (قي�س) كل م ّما ..ا ألم يا (قي�س) ..لا تطبخ ال�ُّسما .. ف�أجاملها و آ�كل على �شبع و أ�مري لله .. كانت �ست مدبرة أ�و ( ِدبَ�أة) تد ّب�أ وتدبر ..البيت لا يخلو من ( ِحوان) 72
�أحدنا من �شرب ال�شرَّ َبة .كان بع�ضنا يختفي في الك�شك العلوي أ�و تحت ال�سرير �أو يحتج بحاجة عند فلان �أو ترتان ..لكن الحذر لم يكن يمنع القدر ..كانت �شربة زيت الخروع �أو ال�سلفات (الملح الإنجليزي) قدرا لا مفر منه ..ل�صحة ا ألبدان .. في نف�س الوقت الذي كان البرميل المزفت جي ًدا ،يرتفع فوق بيتنا معل ًنا �أنه يوجد هنا أ��سلوب حياة مختلف ،وثقافة غير الثقافة ال�سائدة .. كان (عبده أ�فندي) حري ً�صا على �أن يهيئ لبنت (المعلم يو�سف) ولنف�سه حياة حديثة ..فمن البرميل تمتد ما�سورة مدهونة بال�سليقون إ�لى الحمام ..ويم أل (ظاظا) �أو (حمادة الم�صري) البرميل بانتظام من الترعة وكنت عندما �أذهب لبيوت �أعمامي أ�و �أدخل بيوت بع�ض زملائي .. ف�أراهم على ال�صبح وهم يط�سون وجوهم بكوز ميه من البلا�ص � .أو يمار�سون حياتهم معنا دون غ�سل وجوهم ..تاركين للذباب فر�صة دائمة للخلا�ص من المجاعة التي ت�سببها النظافة – عادي !! ولكن غير العادي هو �أن هذه المميزات كانت ت�شعرني أ�نني أ�قل من الآخرين ..فلم يكن بالي ي�ستريح إ�لا أ�ن �أعود كل يوم �آخر النهار ممزق الجلباب أ�و مطين البيجامة أ�و م�ضيع الحذاء ..في مكان ما ..مخمو�شا مجروحا ..ك أ�ي طفل (لا تهد أ� له حركة) لأواجه قر�صات أ�مي ،وهي تعيد �صياغة هيئتي وتعاتب الزمن على بختها ف َّي .. كنت �أف ّ�ضل عتابها وعقابها علي �أن يعرف �أبي �شيئا ..لذا كنت �أعمل على تجنب لقائه قدر ا إلمكان .ف إ�ن كان لا يزال في البيت ،أ�خرت عودتي حتى ينام �أو يخرج ل�سهرته المعتادة �أمام دكان (محمود �شطا) .. ف�إن جاء و أ�نا في الداخل � ،سرعان ما �أتعجل النوم و أ�تظاهر بالا�ستغراق فيه .كانت �أمي -في الغالب -ت�ساعدني على ا إل�سراع إ�لى الفرا�ش ،عندما ت�سمع ما ينبئ بعودة أ�بي ..وكم كان هذا ي�ؤثر ف َّي وي�سعدني ..فهي �سوف توقظني بعد قليل ..ف�أقوم ،متظاه ًرا بالغرق في النوم كي أ��شاركهم طعام 75
ولن أ�دخل في تفا�صيل ..الخبيز والخزين والطبيخ والحموم والغ�سيل.. ولكن الأهم أ�ن نتعود على ذلك الطق�س الدوري وهو يوم (ال�شرُّ َب) كان أ�بي يجبرنا ،وعلى فترات �شبه منتظمة .أ�ن نتناول جميعنا (�شربة الزيت) أ�و (الخروع) ..الكل بلا ا�ستثناء ..ولم أ�عرف قيمة هذا �إلا بعد �أن كبرت وت�أكدت أ�ن – المعدة بيت الداء .. �أما الطق�س ال�سنوي الروتيني كل �صيف ..لدرجة أ��صبح معها �أحد هموم الإجازة .هو (تحليل الم�ست�شفي) ..لتناول �شربة (الكربون) لمن يثبت �أن عنده ديدان – وحقن (الطرطير) القا�سية لمن تظهر لديه �آثار البلهار�سيا .. لماذا كان يفعل ذلك ؟ ..وب إ��صرار وانتظام � ..س�ؤال ؟ ..لم �أكن �أطرحه وقتها طل ًبا للإجابة ولكن لأحتج عليه ولكن الفعل ا�ستقر في القلب .وغفرت له ب�سببه أ�نه لم يقل لي – �أو لأي منا مرة ..واحدة .. ( أ�نا بحبك) !! كان على الدوام جه ًما جا ًّدا ..رغم أ�نه لا يملك أ�ي من مقومات الجــهامة �أو الق�سوة ..لهلبني أ�حيا ًنا بع�صا رفيعة ألنه �ضبطني �أ�ستحم في الترعة – وكان هذا مزاجي الملح والدائم ..لدرجة كان يوقع توقيعه المعقد ،با�سمه فوق فخذي بالكوبيا ،ليعرف �إن كنت قد قعلتها �أم لا .. وطب ًعا كم تحايلت وابتكرت من الو�سائل ما يحفظ التوقيع �سليما .لكي أ�مار�س هوايتي ال�صيفية ..و�إن لم ت�سلم الجرة في كل مرة .. ولكن البلهار�سيا وغيرها لم ت�ستطيع أ�ن تنكد علينا م�ستقبلنا ،كما تفعل عادة للم�صريين الذين عا�شوا في القري ،ولم يتح لهم �أب و أ�م (كعبده أ�فندي) وال�ست (�أم �سمير). لم تكن أ�ي حجة �أو و�سيلة للهرب �أو التمنع بقادرة على إ�فلات 74
-الله �أر�سل الوحي وحدثه بما �سيكون ،ولذا �أمره ببناء ال�سفينة ليلج�أ إ�ليها مع الم�ؤمنين ،عندما يكون الطوفان ويحل غ�ضب الله.. -وهل كان الوحي ينزل للنا�س ..ويكلمهم هكذا عيني عينك . -يتحدث ل ألنبياء والر�سل فقط يا ثرثار . -وكيف يعرفون أ�ن هذا كلام الله ..ولي�س َو ّزة �شيطان ..هل الأنبياء يعرفون �أنهم أ�نبياء..؟ -ا ألنبياء يعرفون عندما تحدثهم �أنف�سهم بما أ�وحى به الله �إليها .. -وكيف �أعرف �أنا أ�ن ما تحدثني به نف�سي وزة �شيطان .ولي�س كلا ًما من عند الله .؟ -قالت خالتي .. -نف�سك لا تحدثك إ�لا بكل �شر .ولذلك تم أل قلبك و�سو�سات ال�شياطين � ..إ�سكت خلينا ن�سمع ونتعظ . -لي�س كل ما تحدثني به نف�سي �شر ياخالتي � .أنت بالذات تعرفين �أنني عملت خير كثير يجعلك تدعين لي ب�أن يخليني ربنا ..ويحميني من كل �شيطان توتر الجو ،وتبادلت خالاتي النظر المتوج�س .فل�ساني على ما بدا �سوف يفلت كالعادة ،و�ست�سوء العاقبة بالت أ�كيد ..ولكن �ضحكات الخال ال�شيخ غطت على كل الو�ساو�س ..عندما �أخذني في ح�ضنه ..وهو يتمتم ويتلو وقال : -يا �إبني و�سو�سوة ال�شيطان لا تكون �إلا بال�شر ..ووحي الله لا ينزل �إلا على ا ألنبياء والر�سل والم�صطفين .. -إ�ذن أ�نا (م�صطفى) يا خال .. �شهقت خالاتي في وقت واحد رع ًبا .. خالي ال�شيخ نظر إ�ل َّي في ده�شة ،أ�لحقها بب�سمة حانية غمرتني بالأمان فقلت : 77
الع�شاء ..و أ�تحمل الزغرة أ�و ال�شخطة الم ؤ�كدة أ�و الوعيد المنتظر ،عقا ًبا على �شيء ما ممنوع م�ؤكد �إنني فعلته ،أ�و ذنب ارتكبته .و أ�بلغ عنه �أحد (�أولاد الحلال) ..وكان والدي غال ًبا ما ي�ؤجل ما ت ؤ�جله �أمي من عقاب ..لين�سى بعدها �أو ليتنا�سى التنكيد عل َّي �أو التنكيل بي ..فا ألكل له حرمة ولا يجوز ال�ضرب على الطعام ..وكان لهذا في قلبي عرفان كبير لف�ضل تعاليم ال�سماء التي تطبقها أ�مي ،والتي تميل �إلى جانب الرحمة لا العذاب ! وتف ّ�ضل الغفران على العقاب !! تلك ال�سماحة ،بالت أ�كيد ،هي التي كانت وراء جر أ�تي يوم �ضحكت من �أعماق قلبي عندما قال خالي ال�شيخ (�إبراهيم) ( إ�ن الله �أمر �سيدنا (نوح) أ�ن يبني �سفينته في ال�صحراء لا على �شاطئ البحر !).. قلت ببراءة : -هل لهذا �سموا الجمل �سفينة ال�صحراء ! قر�صتني �أمي قر�صة موجعة ..بينما زغرت خالتي (�سميرة) زغرة حادة بعـينها الوحيدة ،وهي تكاد تبت�سم .فبدت م�ضحكة ،ولكني كتمت �ضحكتي ألن ال�شيخ ( إ�براهيم) على عك�سهم ابت�سم في وجهي ب�سمة حانية ومل�س على �شعري الناعم بيده المرتع�شة وهو يقول : -ما �شاء الله ..طول عمرك م�سحوب من ل�سانك ..على كل حال لقد �سخر منه قومه مثلك ،وقالوا (هل �ستجعلها تعوم في بحر الرمال يا نوح) لكن نوح طب ًعا كان يعرف ما �أوحى به الله �إليه .ويعرف �أن �سيبلغ بها البحر عندما يريد الله .. -كيف خ َّمن نوح أ�مر الله .. -الله أ�وحى به إ�ليه ..ا ألنبياء لا يخمنون يا �شقي .. -كيف ؟ أ�لم ن�سميهم أ�نبياء لأنهم يتنب�أون ..يخمنون !! 76
�أقذفه بالطوب و أ�لعن أ�بــوه �أو �أقتله ..ولكني لم �أ�ستجب لل�شيطان فلو تنبه لي لقتلني هو . �أخذت �أبكي وقلبي يتقطع حز ًنا عليها ،وح�سرة على �ضعفي وجبني .عندما تعب من �ضربها ..تركها لاعنا ..وهو ي�صرخ مهددا أ�نه �سيعود لها .ف�أذان الع�صر قد حان وعليه �أن ي�سرع ليمتطي مئذنة الجامع لكي ي ؤ�ذن وي�ؤم النا�س لل�صلاة � ..سوف يفعل ذلك ب أ��سرع ما يمكن ،ليطين عي�شتها وي�ضلم م�ساها وي�ّسود ليلها .. كاد يب�صرني عندما ا�ستدار ،لكنه انهمك في �إعادة الكرباج إ�لى الجدار .ف�أبتعدت عن مدي ب�صره واختب�أت خلف إ��شولة الرز ال�شعير التي يجمعها لقاء خدماته للجامع � ..إلى أ�ن خرج .. أ��صبحت الحكاية �سيدة الموقف � ..صمتوا ،حتى خالتي التي عادت بعد أ�ن اطم أ�نت على أ�حوال ما على النار ..بطرف عيني لمحتها واقفة تن�صت لما أ�قول في �شغف ،وقد ن�سيت خوفها من أ�ن ت�ؤدي ثرثرثي �إلى ك�شف بع�ض ما بيني وبينها من أ�مور و أ��سرار .ولما ت أ�كدت �أن حكايتي عن واحدة �أخرى اطم أ�نت قليل ًا ..بينما ا�ستمر خالي يتمتم وهو يحرك حبات الم�سبحة في ع�صبية .. ( -لا حول ولا قوة �إلا بالله ..الله لا إ�له �إلا هو) -ولما �أخوها خرج و�أغلق الباب بالمفتاح علينا ..ت�سللت �إليها . كانت مكومة في ركن الحو�ش الداخلي المظلم لدرجة أ�نني لم اتبين �ضياء ج�سدها المك�شوف في الظلام الذي �شمل المكان .فركت عيني و أ�نا أ�ناديها ..ف أ�رتعبت ..غطت فخذيها المرمر ولما لم يفلح الممزق في �سترها لمت قبة قمي�صها الم�شقوق بين كفيها و�صرخت (مين ؟ )..وك أ�نها ت�سال ( إ�ن�س وال َّا جن ؟) ..طمنتها أ�نه �أنا.. 79
-أ�نا �أ�سمع الله ي أ�مرني كثي ًرا أ�ن �أفعل �أ�شياء كثيرة � .أح�س �أنه يكلمني ويو�صيني بفعل �أ�شياء لا أ�عرف هل هي طيبة �أو �شريرة .. �ساد ال�صمت ي�أ�ًسا من إ�يقافي عن الكلام دون تعكير �صفو القعدة .. خالتي (�سميرة) قالت : � -س أ�قوم ألرى ما على النار . وظلت خالتي (بدر) تنظر في عيني مبا�شرة في حدة وعتاب راجية مني ال�صمت حتي لا �أتورط في مناطق محرمة لكنني كنت مدفوعا كمن تجبره قوة قاهرة على الكلام .. -لقد �أمرني �أن �أطيب خاطر (زهزهان) و�أم�سح دموعها ب�شفتي ، عندما �ضربها أ�خوها �أم�س بالكرباج وبهدلها .. فوجئوا .ف�سكتوا جمي ًعا م�شدوهين ..و أ�نا �أوا�صل ك�أن أ�ح ًدا غيري يتحدث بل�ساني .. � -أنا ر أ�يته .كان ي�شدها من �شعرها ..وي�سحبها على ا ألر�ض. كانت تتلوي بين يديه النا�شفة كطفلة �صغيرة .مع �أنها كجنيات الحواديت .كانت ترجوه �أن يتركها دون جدوي ..وهو يلعنها ويركلها ،وي�صرخ فيها لأنها خالفت �أمره ووقفت خ ْلف الباب الموارب ،كعادتها تنظر �إلى ال�شارع .هذه المرة فاج أ�ها ،فلم تجد فر�صة للهرب �أو لإغلاق الباب ..جرها على طول أ�ر�ض الحو�ش حتى عراها .وك�شف ن�صفها الأ�سفل كله .وهو ي�ضرب ويزغد ثم ينحني ليوقفها ويعود يدفعها لتنكفئ على وجهها.. �أخذت أ�بكي .و�أنا أ��شاهده من بعيد .كوح�ش هائج تناول الكرباج الذي يعلقه على الجدار .والذي لا يجر�ؤ أ�حد على لم�سه حتى في غيابه . هو فقط ،عندما يريد �أن ي�ؤكد �سلطانه ..كان ال�شيطان �ساعتها يو ّزني �أن 78
قال ال�شيخ �إبراهيم فز ًعا : -هذا الولد مم�سو�س ..وعلينا أ�ن نرقيه با�سم الله الأعظم .. ب�سرعة �أح�ضرت خالاتي -وكانتا �صديقتين حميمتين لزهزهان - البخور .وذهبت التي تراقب ما على النار ف�أح�ضرت المنقد ،وبه جمر من خ�شب التوت المتوهج � ..ألقى خالي ببخور مبروك لديه ففاحت رائحة �ساحرة ،وغامت الحجرة بالدخان ..وهو يتمتم ويربت ويم�سح على ر أ��سي وج�سدي با�سم الله ا ألعظم ..حتى نمت و�سـندتني خالتي الكبرى ، و�أرقدتني في الفرا�ش ..وهي تبت�سم لأنني لم أ�حك حكايات أ�خرى كانت هي طر ًفا فيها .و�سمعت �صدى �صوتها من بعيد ،ك أ�نه ي�سري بين جدران كهف �سحيق تدعو الله أ�ن ي�سترها معي -دنيا و آ�خرة .. ••• 81
فانفجرت في البكاء ..بينما ج�سمها يتنف�ض من ا أللم والخزي ..مددت يدي خائفا مبهورا �أربت عليها � .شعرت بق�شعريرة تغمرني عندما أ�ح�س�ست ارتعا�ش ج�سدها تحت يدي .أ�خذت �أبكي و أ�نا �أقول لها ( ..ما تزعلي�ش ..حقك عل َّي أ�نا ..ما اقدرت�ش أ�حو�شه) كانت دموعها ت�سيل على خديها الوردتين في �صمت ،وهي تنظر لي في ده�شة ..ربنا قال لي ،إ�ن أ�تقدم منها و أ�ح�ضنها ،ثم أ��شرب دموعها كطفل ير�ضع حليب الأم لأول مرة ..ووجدتني �أفعلها و�أعتذر لها و أ�نا أ�لهث ،ك أ�نني �أنا الذي �ضربها ..غمرتني عيونها بنظرة حنان وعرفان حزينة .ثم مالت بر�أ�سها عل َّي وا�ستكانت في حجري .وهي ت�ستعيد �أنفا�سها اللاهثة وتهد�أ كطفلة �صغيرة .ثم بد أ�ت تهدئ حزني وتوا�سيني ..وهي تقول .. � -شفت �شفت بيعمل ف َّي إ�يه ؟ و أ�نا أ�قول لها .. -حقك عل َّي ..حقك عل َّي ..أ�نا ح اقتله .. و أ�خذت أ�هننها كطفلة و أ�هدهدها حتى نامت � ..أي والله العظيم ،نامـت على �صدري ،ولم أ�جر ؤ� على �إيقاظها � ..صعبت عل َّي ..كنت م�سحو ًرا م أ�خو ًذا ولما �شممت ل�شعرها رائحة العنبر بكيت .وخفت أ�ن يطلع على العفريت ،ويفاجئني معها فيقتلني دفاعا عن �شرفه ..وماذا �سيفعل أ�خوها لو �أنه عاد فج�أة ا آلن من �صلاته ليجدها نائمة �شبه عارية في حجري ..وهو الذي جلدها لأنها ب�صت من فرجة الباب . ولما تعبت من التفكير والخوف نمت أ�نا الآخر محت�ضنا ج�سدها ولم �أدر �شي ًئا ..ولا أ�عرف حتى ا آلن كيف نجاني الله من هذا الموقف ..لكنه فعل فهو قادر كل �شيء ..هو بالت�أكيد الذي أ�مرني أ�ن �أم�سح دموعها ب�شفتي .. و أ�مرني أ�ن أ�خرج في الوقت المنا�سب ..نعم !.لابد أ�ن الله �أوحي لي ودلني على �سبيل للخروج ،ووجد طريقة لانقاذي ! 80
من مختلف الأجنا�س � ،ستنق�ض فوق ر أ��سه ما بين لحظة و أ�خري ..هذا أ�ن لم يخرج عليه بع�ضهم فج أ�ة ير�شقه بالح�صي ..أ�و يم أل عينيه بتراب النار الحامي ..في�سرع الخطو ويقر أ� في �سره آ�يه (الكر�سي) ،لو كان لا يزال يتذكرها �أو يكتفي بالب�سملة ..ولا يفتح عينيه إ�لا عندما يعبر تلك الكثافة المح�سو�سة ..التي ينفتح المدى بعدها حتى الأفق ،مطل ًقا ا ألعين المحروقة من بلل الخوف �إلى رحابة الأمان عبر الجرن الكبير الذي يمتد �شمال ًا على يمينه حتى كرمة العنب البز المتبقية من ب�ستان العز القديم الذي خربته ا أليام ..كرمة عجوز م�ستندة في وهن إ�لى جدار وحيد تبقي من الدوار ،م�صلوب معها على ب�ضعة أ��شجار كافور عالية .و�شجرة توت حب�ش وحيدة اتخذتها قبائل لا ح�صر لها من الحدادي والغربان وع�صافير الدوري الثرثارة مرت ًعا ..فلم تترك ألحد من الأطفال فر�صة �أن يت�أكد �إن كانت تلك الكرمة الهائلة الم�سيجة يمكن أ�ن تثمر حبة عنب واحدة .. وبعيد مقام ال�شيخ القديم المنهار والدوار ،ينتهي الدغل مبا�شرة . وينقطع عرق الخوف ،لتملأ العين على طول ا ألفق الغربي وفيما وراء التل ،بحيرة الخ�ضرة الن�ضرة ت�شكل كتلة هائلة من اللون الف�ضي وا ألخ�ضر بكل �ألوانه ،ومن الظل الطري الغام�ض الذي ي�أ�سر العين ..يدفع المنحدر من التل للإندفاع عبر معبر ومدار �ساقية (زيدان) في مرح ،ليغرق نف�سه في الأح�ضان الغ�ضة لع�شرات من �شجرات التوت الأ�سود والحب�شي وذكورها ال�ضخمة وعدد من �أ�شجار الجميز الهائلة وال�صف�صاف �شعر البنت المتدلي على الماء ،تتخللها أ��شجار النخيل البا�سقة من (ح ّياني) و (بنت عي�ش) تكون في مجموعها ..ما كان يعرفه الطفل في تلك ا أليام الخوالي (بغيط ال�سباخ) .. هناك ينحني البحر القديم في اكثر �أجزائه ات�ساعا ،نحو ب�ستان 83
في عين َح ِم َئة.. في الغرب من (ميت �سل�سيل) و�إذا يم ّمت وجهك �شطر مغرب ال�شم�س ،لابد �أن تمر على تل (�أبو مجاهد) هناك كانت تنمو على �سفحه �أدغال كثيفة من البو�ص ،على امتداد البحر القديم � ،أطلق عليها ا�سم (غابة أ�بو مجاهد) حيث تنحدر ا ألر�ض انحدا ًرا �شدي ًدا نحو الماء ال�ضحل ،فلا تترك فر�صة للعابرين �سوي (مدق) ر�صفته �آلاف الأقدام العارية الم�شققة والمرتدية ال ُبلغ القديمة ،وا ألحذية .وحوافر حمير ال�سباخ والبقر وجوامي�س الحرث .. يخيل للطفل ال�سائر و�سط الغابة �إذا رفع ر�أ�سه لل�سماء من بين �شوا�شي البو�ص العالية ،التي ت�شبه ذيول ثعالب تعابثها الريح � ..أن بقايا جدران المقبرة القديمة المهدمة ،التي ي�سكنها �شيخ مجهول الن�سب من ا ألولياء القدماء ،ت�شاركة فيها جنيات وعفاريت 82
(طوبه ف�ضة وطوبه دهب) ..أ�ما (ميت �سل�سيل) نف�سها ..ف�سوف آ�مر خدم الخاتم ببنائها وغر�سها كما الجنة الأولى ،التي كانت بها قبل أ�ن يتبطر أ�حد (الأخوين) ويكفر بالنعمة فلا يقول (ما �شاء الله لا �إله إ�لا الله) وهو يدخل جنته فخ�سف الله بها ا ألر�ض ..كما ورد في الكتب عن �سالف الأزمان � .س�أعيدها ..نعم ! ولن أ�ن�سي �أن اتعوذ و�أ�س ّمي با�سم الله لتظل جنة كلها ورد وتوت ..وكمثري ..و�سوف تكون َع ْملة كبيرة ج ًدا .. ي�ضطرون لكتابتها با�سمي في كتب المدار�س !.. ي�سخر الاولاد مني كلما حكيت ذلك ..ولكنهم لا يملون ال�سماع لي بلهفة و�شغف ..إ�لى أ�ن �أنفعل ب�سبب غيرتهم وجهلهم بالتاريخ وبالأ�ساطير التى تملأ الكتب التى در�ست وقر�أت ..ويتغير �صوتي و�أنا �أ�صف لهم ما ر�أيته تحت الماء من أ��سماك ملونة ..وحيتان تتحدث بلغات الب�شر ..وق�صور من المرجان الملون فير�شني (ح�سن العربي) بالطين الر َوبة ..وتدفعني (�أنعام) ناحية الغرق وهي ت�ضغط بكل ثقلها على �أكتافي لتغط�س بي تحت الماء ..لكنهم بعدها كانوا -في كثير من الأحوال - يطلبون مني الا�ستمرار في الحكاية ..أ�و يملون .فنخرج عراة نجري � ،إلى حيث مرب�ضنا وملاب�سنا في ظل جدار دوار الغنم الغربي ،فنرتديها بعد �أن نجفف �أنف�سنا في ال�شم�س .ونتفرق جائعين تحت النخيل ( ،ح�سن العربي) و (�صلاح) يت�سللان �إلى الب�ستان في غمو�ض و( أ�نعام) تراقب الطريق لهما ولنا � ..أت�سلل أ�نا و ( أ�وطان) لن�سرق علنا كيزان الذرة الخ�ضراء من حقلنا .. بينما ينهمك بقية الاولاد والبنات في جمع البلح المت�ساقط على الج�سور وفي بطن المراوي .. نقفز في مهارة القرود وال�شياطين عبر الجدار � ،إلى دوار الغنم الخالي 85
الفاكهة الذي تيقي من ثلاثة ب�ساتين كانت قائمة ،ت�شكل �سمة هذه المنطقة التي تعرف (بالزنئورة) التي كان اعتقاده الم ؤ�كد – عندما ي�صعد فوق �سطوح بيتهم قبيل المغرب في رم�ضان – أ�ن �صوت (حماده) حين يرتفع بالآذان ،كان ي�صرح لل�شم�س أ�ن تغط�س في هذا المكان بال�ضبط ، ويباركها ..ويحميها من (الم�سحور) ،الذي ي�سكن المنطقة هو وزوجته (جن ّية البلح الأحمر) التي طالما �شاهد طيفها المراوغ أ�ثناء بحثه عن ثمار الجوافة المت�ساقطة في الليل بين أ�عواد الملوخية والحندقوق .. تلك الجنية التي كان ينتظرها بال�ساعات �أيام الفي�ضان – كي تظهر له �أ�صابعها الم�صبوغة بالدم ا ألحمر كالبلح على �سطح الماء لتغريه بوهم الح�صول عليها ،ثم ت�شده معها �إلى القرار العميق .وت�أخذه �إلى ق�صرها تحت الماء -دون جدوي . كانوا يخدعوننا بقولهم �أنها غا�صت إ�لى ا ألبد في بئر الطنبو�شة التي تروي �أر�ض الطير ،ولم تعد تظهر إ�لا للموعود ..ثم قالوا ..لا إ�نها لم تعد ت أ�تي ب�سبب ال�سدود والكباري الأ�سمنتية التي حب�ستها ..ولذا لم تعد تظهر في �أي مكان .. لكنني كنت أ�حلم أ�نها �ستنجح في �أن تخدعني ..و�س�أنزل �إليها بكل �إرادتي حين أ�ب�صرها ،رغم �أنني مت�أكد �أن تلك ا أل�صابع لي�ست بلحا .. �س أ�ذهب �إليها و أ�جعلها ت�شدني ألغو�ص �إلى حيث ت�شاء � ..سيقولون خطفته الجنية .و�س�أكون �أنا الذي حر�ضتها ،و�سيبكي �أبي ،وقد تموت �أمي حزنا علي ..ولكني ،بعد أ�ن أ�عي�ش �سعي ًدا معها متمرغا في العز والحرير ، بين أ�ح�ضان بنات الحور والجن ّيات� ،س�أعود بالت�أكيد ،ومعي كنوز الملك (ال�شمردل) �ساعتها يكفكف �أبي دموعه ..ويعود �إليه ب�صره ..وتزغرد �أمي وهي تقر�ش ليمونة المحاياة التي �أح�ضرتها معي ..وابني لها ق�صرا 84
الكيزان على النار النا�ضجة ..و أ��شتركنا جميعا في تقليبها م�ستمتعين بل�سع النار ألطراف �أ�صابعنا ونحن نتبادل الوحوحوة والت أ�وه .. حين اقتربت الكيزان من الن�ضج زغرت (عزيزة) لنا وحذرتنا ، وهي ترفع ع�صا يحترق طرفها ويتوهج ،مهددة ب�ضرب كل من ت�سول له نف�سه خطف أ�ي منها � ..سوف توزع الذرة بالق�سطا�س( ..بعدل ربنا ).. فهي التي بقيت لن�سد بها جوعنا المتزايد .وافقنا ور�ضينا جمي ًعا ..لكن رائحة و�صوت ن�ضجها ،كاد يغرينا بتحمل ل�سوعة الع�صا الملتهبة لولا أ�ن (ح�سن العربي) انحاز لر�أيها ..وحذرنا وهو يدعونا نحن (الرجال) لل�صبر وانتحى جان ًبا ف أ��سرعنا معه تاركين البنات لا�ستكمال إ�عداد الغذاء .. �أخرج (ح�سن) كي�ًسا به عدة أ�وراق بفرة و أ�خذ ،بحرفنة ،يلف �سجائره بالدخان الم�صنوع من �شوا�شي كيزان الذرة الجافة ،التي كان يتقن لفها وتدخينها بحذق ومهارة نح�سده عليها ..رغم أ�نها قتلته فيما بعد مبك ًرا بداء ال�سل .. كنا نراقبه ب�إعجاب وانبهار .وهو ي�شعل طرف ال�سيجارة المبروم ، وي�شد الأنفا�س باقتدار مطل ًقا �سح ًبا كثيفة من الدخان ..ي�صنع حلقات منه في �إعجاز ..بينما نحن ن�سعل ونكح ونكاد نفط�س من أ�ول �شفطة وتحمر وجوهنا وتزرد وت�سيل دموعنا ..ندوخ ونف�شل في تكرارها ..بينما هو يعايرنا وي�سخر منا ،نحن الذين ن�ستند في �ضعف إ�لى الجدار غائبين عن الوعى �أو نكاد ت�أتي (عزيزة) في غيامة الدخان والدموع توزع علينا ن�صيبنا من 87
الآن تماما ،حتى �ساعة الغروب موعد عودة الرعاة بالقطيع .هناك ن�ضمن ا ألمان الكامل لنفعل ما ن�شاء دون تدخل أ�ي من الكبار ..حتي لو غلبنا النوم ونحن نلعب عر�سان وعراي�س .لأنهم حين يعودون ف�سوف ننتبه لهم ،ون�ستيقظ على �ضجة علب ال�صفيح والأجرا�س المعلقة في رقاب الماعز ..أ�و على هوهوة الكلاب المتعبة من المطاردة فنهرب في لحظات عبر نف�س الجدار .. جمعنا ح�صيلة ال�سطو والتعب .. �أفرغ (ح�سن العربي) عبه المنتفخ ،حبتان نا�ضجتان من الرمان الع�سل ..ع�شر حبات جوافة من ذوات القلب ا ألحمر ثمرة كمثري نية خ�ضراء ( .عزيزة) أ�خرجت �ست كيزان دره .حين ق�شرتها فرحنا و�صحنا ،ألنها كانت نا�ضجة مر�صو�صة فيها �صفوف الحبات في انتظام معجز .. طرية وعز الطلب .وعلى ورقة موز خ�ضراء أ�ح�ضرها (عبد ال�سلام) � ،أفرغ الباقون ما في جيوبهم وحجورهم من البلح .. كانت ح�صيلة هائلة .. تخاطفنا الثمار حتى تدخلت (�أوطان) ونهرتنا ،وهي تق�سمها بالعدل � ..أكلنا ب�شهية ولهفة ..تعفرنا بتراب الدوار المختلط بزبل الغنم ذي الرائحة النفاذة ،حين ت�صارعنا حول قطعة من الجوافة تبقت مع أ�حدنا ..ومازلنا جائعين � ،أح�ضرت (نوال) حزمة من حطب القطن القديم من فوق عري�شة البهائم .و أ�خرج (ح�سن العربي) كبريته الذي لا يفارقه كمدخن (�أراري) � .أ�شعل حزمة من الق�ش الجاف ،دقت النار ف أ�خذنا نهوي عليها حتي �صهرجت وا�ستوت واختلطت طقطقتها بكركرة �ضحكاتنا ،وت�أوهاتنا من ل�سع ال�شرر والدخان ..ر�صت (عزيزة) بحرفنة 86
ونف�س وما �س َّواها .. � سامحني يا تو أ�م روحي أ�ن تذرعت بالكتابة عنك ..أ�خاف أ�ن أ�كتفى بنف�سي ف�أكذب �أو أ�ج َمل تلك ال�سنين العجيبة وا ألفعال الغريبة والحوادث ذات الأوجة المريبة التي مرت بنا م ًعا منذ �صرخت أ�مي ولفظتني إ�لى هذا الوجود الذي لم �أفهم حتى ا آلن جدواه مع كل المحاولات الد�ؤوبة والفا�شلة لفهم معناه .. الحديث عنك �سي�سهل ا ألمر عل َّي كثي ًرا ف�أنا �أراك �أكثر مما أ�رى نف�سي ،وهذا �سيجعل الأمر أ�كثر �صد ًقا وواقعية � .س أ�ختفي خلف قناعك كما تعودت أ�ن �أفعل دائ ًما لأح�سن الت�صرف ولأكون �أكثر جر�أة 89
الدرة ،بعد �أن ق�سمت الكيزان بالعدل والق�سطا�س ،لنجترها على مهل ..ثم ننام دائخين حيث نحن ،فوق بقايا الغنم الرطبة �سكارى بطراوة الن�سيم في الظلال الغائمة ! ••• 88
ال�شيء الخ�شبي الجميل الوحيد ذي القيمة في منزل جدي نجار ال�سواقي ..حيث يحتفظ خالي (�إبراهيم) بكتبه العجيبة و أ�وراقه ال�سرية الخا�صة � .أوحيت لي �أن هناك مفتا ًحا ،بعد محاولاتي الكثيرة لفتحه عنوة ..و�أن المفتاح يخفيه تحت مخدة أ�خته الكبيرة التي لا تعرف القراءة والتي ت�ساعده على الانتقال من مكان لمكان وت�ساعده على النوم وعلى الو�ضوء وعلى الأكل منذ �سقط م�شلول ًا .. حر�ضتني على تجاوز كتب خالي ،إ�لى تلك الكرا�سة ال�سرية التي تحتوي على مذكراته القليلة ..والتي يعادل ما بها كل ما في هذه الكتب من حكايات و أ��ساطير ..ألن فيها ك�شف الم�ستور عن ال�سر الغام�ض وراء عودته م�شلول ًا مع �أخيه الكبير الذي كان قد �سافر للعودة به فخو ًرا بنجاحه ال�ساحق وح�صوله على �شهادة العالمية بتفوق ؛ معلنا أ�ن زمن الفقر والحاجة قد ولىَّ .ذلك الزمن الذي داهم ا أل�سرة كلها بعد موت الجد الم�سرف المتلاف ،عا�شق الن�سوان (بالحلال) والذي ترك في كل مديرية امر�أة و�أولا ًدا لم نعرف معظمهم ..وفترت علاقتنا بمن نعرفهم بعد �ضياع ال�شــادر ومغلق الخ�شب كله �سدا ًدا للديون .. كانت �سعادة الأخ الكبير في الأجازات تفوق كل �سعادة ..فها هو �شقيقه يت�شكل �شي ًخا جليل ًا من العلماء تفاخر به الأ�سرة البلد كلها وتباهي به العائلات التي لهفت ما عليها من ديون بلا وثائق َ ..ف ْن َجر بها الجد في ثقة على الجميع فك�شفت بعد موته عن حديدة عري�ضة جل�س عليها الجميع .فكانت بعر�ض �أقفيتهم جمي ًعا ..رجال ًا ون�ساء و�أطفال ًا قادمين .. وما كان �أ�شد تعا�سته وهو ينزل به من القطار ،حامل ًا �إياه على كتفه كطفل �صغير �صريع المر�ض ..وقد تهدمت كل ق�صور الوهم على ر أ��سه (هو) بالذات .فالكل مع َّلق في رقبته (هو) .ولا خلا�ص يبدو في 91
في التعامل مع ا آلخرين محتم ًيا بظلك ،مقتف ًيا آ�ثارك ،ت�شجعني كلما ترددت ،وتن�صحني إ�ن ا�س أ�ت الت�صرف أ�و أ�خطات ..وتدفعني ل ألمام كلما رغبت في النكو�ص ،وتنطقني إ�ذا ما فكرت في ال�صمت ..أ�حيا ًنا ب إ�رادتي و أ�حيا ًنا رغم أ�نفي .وفي كل الأحوال ،لم يكن تخطر لي مطل ًقا في وجودك فكرة الاعترا�ض .. لا ت�سخر مني .فقد تحملت الحرمان ؛ ألنك علمتني بل�سان أ�مي ( أ�ن الغني هو القادر دائ ًما على الا�ستغناء) ،و�صمدت في ال�سجن ؛ ألنك أ�قنعتني بقدرة ا إلن�سان الأ�سطورية على تحمل �صفاقة ا آلخرين و�صلابة الجدران ..وق�سوة الانتظار ،كنت ت ؤ�كد لي ب�صوت (ف�ؤاد حداد) (�أن �أ�صغر ما في الدنيا هو �أكبر ما فيها ..البذرة إ�ذا ما رويتها بالعرق) ..فتتفجر خ�ضرة و�أزها ًرا وثما ًرا وزودتني بحكمة ثوري لم تذكر لي ا�سمه أ�ب ًدا (�أن أ�جمل ما في الحلم هو الإيمان ب�إمكانية تحقيقه _(حتى لو كان م�ستحيل ًا) ؛ رغم �أنني �سمعتها كثي ًرا �صرخة ملتاعة متحدية يطلقها �سجناء كثيرون في ليل �سجن المن�صورة (يبلى الحديد واحنا الب�شر لم بلينا) �..ساعتها كنت دائ ًما �أ�ستح�ضر �صوتك ووجهك خا�صة كلما كانوا يجهزونني لل�صلب على العرو�سة� ..أو يلقون بي في الزنزانة الانفرادية ..كنت �أرتدي جلدك فلا أ�ح�س تمزيق ال�سياط لجلدي ..وك�أن المجلود �شخ�ص �آخر يمتلك �صلابة بلا حدود .. �أ�ستح�ضرك فت ؤ�ن�س وحدة الزنزانة .و�أتذكر و أ�نا �أتمثل ابت�سامتك الواثقة عندما تتطاير روحي هل ًعا من طول الليل وبطء الوقت � ..أنت الذي أ�خذت بيدي �إلى عالم الأ�ساطير فعرفت ( أ�خيل) و( أ�بوللو) وطرت بعربة ال�شم�س ،وغ�صت في بحار الجنيات ..أ�نت الذي دفعتني إ�لى �سرقة مفتاح ذلك الدولاب البوريه الغام�ض الم�صنوع من خ�شب ال�صندل الذي كان 90
هي حمته من الوحو�ش وهو ا ألمير الطيب .أ�طعمته وغ�سلت همومه وهدومه وبالحلال يا معلم ..لم تقد قمي�صه من دبر ..ولكنها ك�سته بالحرير .القدي�س كان بحاجة للدخول في تجربة ،وهي منحته الفر�صة كي (يتدقدق) ويتفوق ..الولي ال�شاطر الذي كنت تعده كي يحمل �سل�سلة مفاتيح �أبواب الجنة ألهل (ال َكفر) الب�سطاء ..وجد با ًبا وحي ًدا داف ًئا �أخ�ضر العتبات ،فدخل .. ما أ�ن طالع الوجه ال�صبوح ل (زليخا) عطفة ( أ�بو جبة) حتى انهار وطار لل�سما ال�سابعة على نغمات نف�س هذه ال�ضحكة التي جعلتك يا معلم (م�سعد) ترتع�ش ..وهي ترد عليك حين �س أ�لتها أ�ول م َّرة عنه ،ور َّدت هي عليك ب�صوت ك�سلا�سل الذهب من خلف بابه -بنت ال�شيطان الجميلة ال�ساحرة ..والمك�شوفة الكتفين والذراعين على الآخر ..والتي لم ت�سلم من مقارنة عابرة بينها وبين عرو�سك العان�س الم�سكينة التي لا يبدو لعر�سها �أفق في الم�ستقبل المنظور ..انقب�ض قلبك يا معلم وتفتت هل ًعا ورع ًبا حين انهار بين يديك نبيك الجميل النبيل ،حتى قبل �أن ينطق كلمة تطفئ لهيب غ�ضبك �أو تبدد غمام �شكك الثقيل �أو تف�سر كل الذي حدث مما لي�س له �أي تف�سير .. كدت �أظن -بعد �أن قر�أت المذكرات التي تحكي عن الفترة ال�سابقة من حياته في الغربة ..وانطباعاته عندما داخ ال�سبع دوخات ليجد لنف�سه مكا ًنا رخيـ ً�صا وقري ًبا من الأزهر .وكيف د َّله أ�ولاد الحلال على الم�صير الذي لم يكن منه مفر ..وكيف �شافها ألول مرة ..وكيف كان يظل �ساه ًرا طول الليل يقر�أ �آية الكر�سي مئات المرات ليطرد �صوتها ..وكيف بكى بين يدي �شيخه طال ًبا الن�صح .وكيف لم ينت�صح أ�ب ًدا ..وظل ي�ستعذب ر ؤ�يتها 93
الم�ستقبل القريب بعد اليوم من م�صير طابور البنات والعوان�س والعجائز بكل �أر�صدتهم من ا ألمرا�ض والقهر .. أ��صبح الحزن والفقر -مثلك -واح ًدا من ا أل�سرة ،له ح�ضور مر على كل ال�شفاه ..خا�صة تلك التي لم تذق طعم القبلات �إلا خل�سة . إ�ذ هدم ال�شلل حائط الدفاع الأخير ..و أ��صبح الا�ست�سلام للمر�ض هو المخرج الوحيد للهروب من عا�صفة اللوم ،والفرار من ق�سوة نظرات العتاب والتجريم .. فكيف للولي الطاهر حافظ كلام ربنا ،والذي كانت البلدة تبكي هل ًعا وخ�شية من غ�ضب الله عندما كان ي�أتي في ا ألجازات ليخطب ،مجر ًبا قدراته البلاغية والعقلية وليعود للبيت في موكب من الراغبين في الو�صول والتوبة ،كيف له أ�ن يع�شق امر أ�ة تك�شف عن بيا�ض كتفيها ولا تخ�شى �أن ت�ستقبل ا ألخ الكبير وهي تلوك اللبان وهي تفتح له الباب ،تفاجئه دون �أن ير َّف لها جفن ،بل وتجادله بالعين والحاجب وت�س�أله دون خجل : عايز مين يا ح�ضرة ..؟ أ�هذه حجرة ال�شيخ إ�براهيم ..؟ طب ًعا ..و�سيد الم�شايخ كمان . أ�كدت له وهي تحاول إ�ذابة جليد عينيه وجحيم نظرته المنده�شة .. أ�نه لا أ�حد غريب و أ�ن لها على أ�خيه ال�شيخ حقو ًقا لا ترد بالغ�ضب ولا بالقم�صة ..ففي ح�ضنها ذ َّوب �سني الغربة وكروب الفل�س والحرمان .. نزعت عنه ثياب الوحدة ونقعتها في ال�صابون الفنيك .. م�صر يا معلم (م�سعد) ،وانت راجل حدق ومجرب ،لا تحب الغرباء .. خا�صة المفل�سين ..تكرههم ..وتدو�سهم بنعال من ق�سوة الجوع والليالي الطويلة ال�ساهرة التي لا تنام . 92
ترتع�ش ..وهو يتحدث عن فظاعة ذنبه الرهيب الذي يخفيه عن الجميع وهو يعرف �أن أ�مثاله ممن يعدهم أ�هلهم ليحملوا ا ألمانة ..وحمل مفاتيح أ�بواب الغفران للتع�ساء بحمل القر آ�ن ،مب�شرين بق�صور النعيم في الآخرة ..لا يحق لهم �إطلا ًقا �أن ير�شفوا قطرة واحدة من ع�سل الدنيا الزائف .. ولا يجوز لهم لحظة �سقوط واحدة في أ��سرْ �أي �سحر لذيذ أ�و جمال �شيطاني .. لم يكن من ح ِّقي أ�ن أ� َّطلع على هذا .ولكنك أ�نت الذي دفعتني لذلك ..ألقتنع ب�ضرورة الدفاع عن حقه وحق خالي (م�سعد) وحق العوان�س والأرامل من اخواته وبنات اخواته ،وكل �أهل الكفر وخا�صة (بنت حيدر) التعي�سة ,حقهم في ال�سقوط ،ولو لمرة كي يتذوقوا فاكهة الدنيا دون ا إلح�سا�س بالذنب ،ودون ت أ�جيل .. دفعتني ل�سرقة مفتاح الدولاب فعرفت فداحة المدى الذي �أغويتني بارتياده ،و أ�تع�ستني بفك �سر الحروف لأ�شاهد م�صير الرجل الوحيد الذي تجر أ� فوط�أت قدماه جنة حقيقية لوهلة ق�صيرة ج ًّدا ،قادته لجحيم دائم لا خروج ولا فكاك منه ..لم ي�ستطع �أن ي�سترخطيئتة حين هبت الريح �صدفة ف أ�طف�أت جذوة �شمعته و أ�قعدته م�شلول ًا حتى الموت ،ألنه ف�شل �أن يخفي عورته عن �أخيه الكبير ،الذي قيل عنه فيما قيل إ�نه ولد بالمقلوب .. �صرخت الداية يومها .. �أنا ما �شفت�ش كده ف حياتي ! ولكن الأمر تم بحمد الله ور�ضا ا ألولياء ال�صالحين من (�أبو خ�شبة) حتى (ابن �سلام) وبالذات ر�ضا (�سيدي مجاهد ابو عبد الوهاب) ..ومنذ ذلك الحين ،وكل ما فعله في حياته تم بحمد الله وقوة الأولياء -ولكن بالمقلوب .. 95
وال�سهر متب ِّتلا لطرد �شبحها من فوق �صفحة جفونه ..م أ��ساة حقيقية يا �صديقي عندما يحب ولي من �أولياء الله ال�ُّس َّذج بن ًتا من بنات ال�شيطان العالمـات بكوامن النف�س المطهرة وخباياها .. كدت �أظن يا �صديقي -و�أنا أ�قر�أ الكرا�سة التي ح َّر ْ�ضتني للح�صول عليها -أ�نك أ�نت الذي قدته إ�لى هذه العطفة وهذا البيت وتلك الحجرة � ..أنت أ��ستاذ في ترتيب الم�صائر .و�أي ً�ضا ألنني وجدت ت�شاب ًها كبي ًرا بين هذه و أ�حداث �أخرى �سي أ�تي ذكرها ،يكاد ترتيبك ل ألمور فيها يقترب من هذا الترتيب الذي انتهى بم�أ�ساة .. الأ�سرة كلها قالت (�أمر الله) الذي لا يمكن ك�شف �أ�سرار حكمته �أو الو�صـول �إلى غاياته ..وي�صبح الا�ست�سلام له في �صبر و إ�يمان هو �سبيل ا ألمان الوحيد .. زاد عدد المع َّلقين في رقبتك يا خال (م�سعد) واح ًدا ..لكنه لي�س بواحد عادي ..إ�ن ا ألجر والثواب فيه �سيكون م�ضاع ًفا ..فهو حامل لكتاب الله ولعلومه .ولله حكمة أ�ن يحفظها في قلبه ولا يبددها مع خلق لا قيمة لهم ولا هم يفقهون ..فقط (بنت حيدر) التي طال �صبرها والتي تذبل في بيت أ�بيها يو ًما بعد يوم والتي ترف�ض أ�ن تنتقل لبيتك المزدحم بطابور العوان�س من الأخوات وبالأم التي لا تتحرك ..وكل من تحملهم على �ضهرك الجمل -الذين �ست�ضمن بهم ق�ص ًرا في الجنة -يتململون . هذا ما قاله لي الولي -في مذكراته .إ�ذ كانت في معظمها عنه ..وعن �أحقيته عند الله في نعيم الخلود ,الذي ُأ�عد للم�ؤمنين ال�صابرين من �أمثاله المح َّ�صنين من الخطايا .. كان يكتب هذه ال�سطور ا ألخيرة بخط �صعب القراءة ..كانت ك ُّفه 94
النجارة المقد�سة بحجة أ�نها �صنعة ا ألنبياء والمقد�سين وهو من الآثمين . وكذلك ا ألخ الم�شلول المق َعد مخيب الآمال .. ترك الجميع إ�لى �شقة ح�ضرية وزوجة من �أهل المدينة ،هاج ًرا ذلك البيت الكئيب ال�سحنة لكل من يراه الآن من الخارج والذي كان بابه (في زمانه) لا يغلق أ�ب ًدا .ولا تكف �أ�صوات الن�شر والدق عن ا إلعلان �أنه مركز الكون ..لم يكن كئي ًبا ولا مـغلق الباب .كانت مائدة الغذاء تمد للنجارين والن�شارين بعد ال�صلاة في المندرة التي تفتح على ال�شارع ت�ستقبل في كرم كل من يمر عاب ًرا لي�شارك ويبارك . الأمر اختلف الآن .لكن الحو�ش ظل رط ًبا (و ِبرح و�س َّتار) على ما فيه من هموم ..يمتد إ�لى جوار المندرة حو�ش ن�صف م�سقوف بخ�شب �س َّوده الدخان و�أفعال الزمان ..ي ؤ�دي إ�لى دهليز داخلي ي�سمونه (الح�ضير) حيث حجرتان رطبتان فوقهما مقعدان ي�ؤدي �إليهما �سلم عجيب ال�ش أ�ن لا يمكن و�صف انحنائه العبقري � ..ضاعت ملامحة وحدوده من زمن طويل لكنه ظل يعمل بكفاءة لم يقدر عليها الب�شر .يو�صل ال�صاعدين للمقاعد ولل�سطح المليء ب أ�كوام من أ�حمال ق�ش �أرز قديم ترابي اللون مغطى وم�شبع بزبل الحمام والفراخ ،حوله �سور قديم من البو�ص الممزق بفعل الرياح وال�شم�س والمطر ،ت�سنده �سدايب من خ�شب م�س ّو�س ت�آكلت أ�جزاء كثيرة منه ومنها ..ولكنه بقي متما�س ًكا رغم ميله الحاد في الفراغ ،بف�ضل �سر مجهول لا �سبيل إلدراكه �سوى للوا�صلين والم�ؤمنين برحمة المولى .ففي �أق�صى طرفه وعند �أق�صى ميل يوجد ع�ش �ضبابير من نوع زنبور البلح المتوح�ش ..ولكن رحمة الله التي و�سعت كل �شيء لا تقبل ت�شريدهم .. �سبحانه .. �سخرت مني يا �صديقى يوم قلت لك ذلك فلم أ�غ�ضب . 97
لم يبت�سم الحظ له أ�ب ًدا .فعندما مات المعلم الكبير وتبددت الثروة التي كانت ت�سترهم وتجعلهم م�سئولين عن �سواقي الكفر والمركز بل والمديرية غير �سواقي في ال�شرقية والغربية ..طارت نقودهم عند النا�س ولم يرحمهم من لهم نقود طرف المرحوم ..وتعلق برقبته جي�ش العوان�س وطابور اليتامى .. الليل فوق الكفر ليل ككل ليل فوق كل قرى خلق الله حتى �سابع مديرية .ولكنهر أ�ىفي�صفحةال�سماءنجو ًماوعفاريتلميرها أ�حدغيرهمنخلقالله.. الكفر مثل غيره �( ..أحمد) �شبه (ازدحمد) محطة و�سوق و�ساحة ومزلقان ودبان وروث وتراب �أكوام �أكوام وورم وا�ست�سقاء ،وحمير عنيدة ت�سير ذليلة كالب�شر � ،أو تبرطع كالمجانين منهم .وكان ن�صيبه فتق مزمن لا علاج له إ�لا بذلك الحزام العجيب الذي �سافر لإح�ضاره من م�صر خ�صي ً�صا وكانت �أول مرة يذهب للقاهرة ..ولم يذهب بعدها إ�لا ليعود ب أ�خيه محمول ًا في تلك المرة الدرامية . لكن القرية مع ذلك كانت عنده الدنيا وما فيها ..لا ألنه زهد في غيرها ،لكن لأنه ما غادرها يو ًما إ�لا لمثلها ..ولم ير م�صر �أم الدنيا �إلا للبحث عن �شيء ي�صلب طوله مع الفتق ،أ�و ليعود بال�شيخ الطاهر محمول ًا إ�لى الأبد .. ي�شبع بها وي�شبع بهم . قالها �أخوه ا ألو�سط المتعلم و�سافر �إلى (المن�صورة) التي لا تهد�أ ، ب�سبب مرور المراكب الكبيرة عليها في ر�أيه ..وترك في رقبته ا ألم المق َعدة والأختين العان�ستين والأخ البايظ الذي رف�ض �أن يكون عب ًدا ل�صنعة 96
الذي لم يعد يطاق والذي لا ي�صرح به إ�لا عندما يكون هو في الخارج .. ف إ�ذا ما �سمعت نحنحته ،تجري الأخت الخالية لترد باب الكنيف ويكف الجميع عن الزربنة والنقار .. وقد تكون الأم في تلك اللحظة تعاني ،وهي تق�ضي حاجتها كالعادة في مكانها بم�ساعدة ا ألخت المتخ�ص�صة (قمر) ..عندها تكون قد ا�ضطرت لك�شف ن�صفها الأ�سفل .فا�ضحة اللحم ا ألبي�ض الهائل الذي ي�شي ب�شباب كان ،وغنج قديم لح�س عقل المعلم الكبير الذواقة زمان ،قبل �أن يفعل الزمان أ�فاعليه فيم أل ثناياه بخ�ضرة وعفونة ويفر�ش أ�ديمه الب�ض الناعم ببثور متقيحة لا علاج لها ..فت�سرع عندما ت�سمع نحنحته فت�ستر البنت �أمها ،ب�أي خرقة متاحة �إلى أ�ن يعبرها �إلى المقعدين ،لائ ًذا بال�سلم مغم�ض العينين مكلوم الف ؤ�اد . وما دام �أ�صبح في البيت ي�صبح ال�صمت �أ�شد ثقلا وكثافة من الرطوبة ..وتحل لغة ا إل�شارة والغمز والهم�س والهمهمة المكتومة محل الكلمات وال�شتائم ..نظرته المقطبة دائ ًما تثير البرودة في الأج�ساد وزعقته إ�ن خرجت ،تجمد الدم في العروق .ولأنه دائ ًما ما يكون هناك ما �سيغ�ضبه أ�و يثير حنقه ،فكانوا يكتفون �شره ..ويكفون عن تبادل الحديث باللغة العادية كما يفعلون في غيابه .. الاخ الأ�صغر(الخمي�سي) وحده هو الذي نجا بنف�سه عندما تحطمت المركب به على �صخور جبل المغنطي�س ،و�إياك أ�ن تظن أ�نه كان هار ًبا �أو �أنان ًّيا .لا ..الأمر �أكبر من ذلك كثي ًرا ،كان يعرف �أنه �سيكون �سب ًبا إ��ضاف ًّيا لتعا�ستهم لو أ�نه ظل بينهم في مواجهة دائمة مع ا ألخ الكبير.. �سيعلو �صوتهم يوم ًّيا ..وت�صبح �سيرتهم على كل ل�سان -النار لا تتعاي�ش مع الماء -والماء �سيظل يغلي لو �أجبر على البقاء فوق النار حتى ين�سكب �أو 99
و لكن حين �سخرت منه ،غ�ضبت منك ب�شدة فلي�س لمثلك أ�ن ي�سخر من إ�يمان أ�مثاله .هكذا كنت تعلمني .فكيف ن�سيت � .أم أ�نها كانت ن�صيحة للا�ستهلاك ،و أ�نا لم �أعهد فيك الخداع في الم�سائل المتعلقة بالعقائد ..فقد كنت ت�صر في عز اجتماعاتنا الحزبية �أن ت�سمح للمعلم (توفيق) ولعم (ال ّ�صديق) و(ابو �سلامة) �أن يقوموا ل�صلاة المغرب قبل أ�ن يروح عليهم عندما تحل الع�شاء ،ونحن في غمرة النقا�ش حول فائ�ض القيمة وقوانين الا�ستغلال ! على كل حال حتى أ�نت كانت لك هفواتك وكان لي في �أحيان كثيرة ف�ضل تحذيرك وتنبيهك ..وهذا وحده الذي �سمح لعلاقتنا �أن ت�ستمر نتبادل فيها ا ألدوار ..والم�شاعر ..حتى م�شاعر الكراهية ..ما علينا .. يرجع مرجوعنا �إلى الأخ التعي�س الـ(م�سعد) ..الذي كان لابد �أن يدق الباب ..باب بيته في كل مرة ،ك أ�نه ي�ست�أذن في الدخول ..وكان ذلك يثير إ�عجاب المارة وي�ضيف لر�صيده المثير لل�شفقة �إعجا ًبا ما بعده �إعجاب ،حين ي�صل الكلام إ�لى بنت (حيدر) إ�ذ كان يريحها قليل ًا من عذاب الانتظار لأنه لي�س انتظا ًرا بدون جدوى .. كان يكح قبل أ�ن يزق الباب ليدخل زاع ًقا ( -يا �ستار) ..فينتبه �أهل البيت ..ويعدلون من �أو�ضاعهم ،فقد تكون �أخته (�سعيدة) في الكنيف تق�ضي حاجتها كعادتها دون أ�ن ترد الباب ،لكي ت�ستمر في النقار أ�خ ًذا وعطاء مع أ�ختها (قمر) �أو مع ا ألم المقعدة ،على المرتبة القديمة والح�صيرة الكالحة المت�آكلة الأطراف ،في �أول الح�ضير �أمام الكنيف تما ًما ..حيث �أ�صبح ركنها ومقامها الدائم ،منذ َق ِبل �أن يتحملها دون غيره من �أركان الكرة الأر�ضية -نائمة أ�و قاعدة � ..إلى أ�ن يفعل الله �شي ًئا في الغيب كان مقدو ًرا . ا�ستجابة لدعوات بناتها أ�ن يرحمها من �آلامها طب ًعا ..ويرحمهم من قرفها 98
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210
- 211
- 212
- 213
- 214
- 215
- 216
- 217
- 218
- 219
- 220
- 221
- 222
- 223
- 224
- 225
- 226
- 227
- 228
- 229
- 230
- 231
- 232
- 233
- 234
- 235
- 236
- 237
- 238
- 239
- 240
- 241
- 242
- 243
- 244
- 245
- 246
- 247
- 248
- 249
- 250
- 251
- 252
- 253
- 254
- 255
- 256
- 257
- 258
- 259
- 260
- 261
- 262
- 263
- 264
- 265
- 266
- 267
- 268
- 269
- 270
- 271
- 272
- 273
- 274
- 275
- 276
- 277
- 278
- 279
- 280
- 281
- 282
- 283
- 284
- 285
- 286
- 287
- 288
- 289
- 290
- 291
- 292
- 293
- 294
- 295
- 296
- 297
- 298
- 299
- 300
- 301
- 302
- 303
- 304
- 305
- 306
- 307
- 308
- 309
- 310
- 311
- 312
- 313
- 314
- 315
- 316
- 317
- 318
- 319
- 320
- 321
- 322
- 323
- 324
- 325
- 326
- 327
- 328
- 329
- 330
- 331
- 332
- 333
- 334
- 335
- 336
- 337
- 338
- 339
- 340
- 341
- 342
- 343
- 344
- 345
- 346
- 347
- 348
- 349
- 350
- 351
- 352
- 353
- 354
- 355
- 356
- 357
- 358
- 359
- 360
- 361
- 362
- 363
- 364
- 365
- 366
- 367
- 368
- 369
- 370
- 371
- 372
- 373
- 374
- 375
- 376
- 377
- 378
- 379
- 380
- 381
- 382
- 383
- 384
- 385
- 386
- 387
- 388
- 389
- 390
- 391
- 392
- 393
- 394
- 395
- 396
- 397
- 398
- 399
- 400
- 401
- 402
- 403
- 404
- 405
- 406
- 407
- 408
- 409
- 410
- 411
- 412
- 413
- 414
- 415
- 416
- 417
- 418
- 419
- 420
- 421
- 422
- 423
- 424
- 425
- 426
- 427
- 428
- 429
- 430
- 431
- 432
- 433
- 434