Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore موَّال الصِّبا في المشيب #سمير_عبد_الباقى

موَّال الصِّبا في المشيب #سمير_عبد_الباقى

Published by ashrafsamir333, 2020-03-22 11:34:44

Description: موَّال الصِّبا في المشيب #سمير_عبد_الباقى

Keywords: موَّال الصِّبا في المشيب #سمير_عبد_الباقى

Search

Read the Text Version

‫‪ -‬في غ�ضب حقيقي ‪ -‬فكيف ي ؤ�جل ليوم واحد قيد ابنه البكري ‪ .‬الذي‬ ‫جاءه بعد البنت الأولى ( أ�ختي �آمال) حتى لو كانت الدنيا بتر ّخ زلط !‬ ‫ثم �إنه كانت هناك علاوة ‪ ،‬تمُ نح للم�ستخدمين في الحكومة أ�و في‬ ‫مجال�س المديريات ‪ ،‬للمواليد ‪ .‬وكان حري ً�صا على الح�صول عليها ‪ ..‬خا�صة‬ ‫والدنيا كانت نار والحرب على و�شك �أن تقوم ‪ ..‬إ�ن لم تكن قد قامت فعل ًا‬ ‫‪ ..‬منذ بد�أت جيو�ش (هلتر) في اجتياح �أوروبا وق�ضم ا ألرا�ضي من حوله‬ ‫دولة وراء ا ألخرى ‪..‬‬ ‫�أ�صبحت البي�ضة بتعريفة بعد ما كانت الع�شرين بي�ضة تعني (ن�ص‬ ‫تعريفة) وهي قطعة نقود م�سد�سة كانت ت�ساوي مليمين ون�ص ‪ ..‬لذا‬ ‫كان من ال�ضروري قيدي فو ًرا حتى ولو كان الموت يهددني ‪ ..‬فا ألمل‬ ‫في الح�صول على العلاوة ‪� ..‬أكثر أ�همية بالطبع من انقطاع الطريق ب�سبب‬ ‫(الزبط) الذي لا يمنع �سير الحمير �إن ا�ستحال على العجل !!‬ ‫ل�ست �أعير هذا ا ألمر كبير �أهمية ‪ ..‬بالعك�س ‪ .‬إ�نه �شيء طبيعي ‪ ،‬فكل‬ ‫(العظماء) لي�س لهم تاريخ ميلاد محدد بال�ضبط ‪ .‬وراجع �سيرة حياة أ�ي‬ ‫عظيم يطر�أ ا�سمه على بالك ‪� ..‬ستجد ذلك �شي ًئا عاد ًّيا ‪ ..‬فلـ(محمد نجيب)‬ ‫ثلاثة تواريخ ميلاد ‪ ..‬و أ�ي ً�ضا (نابليون) هناك �شك كبير حول تاريخ ميلاده‬ ‫بال�ضبط ‪..‬‬ ‫و�سيدنا (محمد) (�ص) نف�سه لو و�ضعنا في ح�ساباتنا الفروق بين‬ ‫التقويمات المختلفة بين الميلادي (بكل ح�ساباته) والهجري (بما حول‬ ‫بداياته من �شكوك) ‪ ..‬فما بالك بالتاريخ والتقويم (القذافي) الحديث‪!!..‬‬ ‫ال�سيد الم�سيح كذلك ‪ ..‬ح�سب المذهب الذي كنت �س�أكون من‬ ‫رعاياه لو ظلت م�صر م�سيحية !‬ ‫وبالمنا�سبة ‪ ..‬عندما عاد بعد قيد ا�سمي (�سمير) احت َّج بع�ض زملائه‬ ‫‪51‬‬

‫�إ َّنا �أعطيناك ‪..‬‬ ‫‪� ‬شككت أ�مي في تاريخ ميلادي ‪،‬‬ ‫عندما أ�خبرتني ‪ -‬في وقت لاحق ‪ -‬أ�نني ولدت‬ ‫�ضعيف البنية لدرجة �أنهم لم يتوقعوا لي أ�ن �أعي�ش‬ ‫‪ ..‬لذلك �أ َّجل والدي قيدي في دفتر المواليد عدة‬ ‫�أ�سابيع‪ ..‬مف�ضل ًا الانتظار ليت أ�كد من إ�رادة ال�سماء ‪..‬‬ ‫خا�صة و أ�ن الدنيا كانت (�شاتية) والطريق إ�لى المنزلة‬ ‫(مز ّبطة) و�شبه مقطوعة ب�سبب المطر !‬ ‫طب ًقا لهذه الرواية التي ي�ؤكدها ( َزبط) ال�شتا‬ ‫وانقطاع الطريق إ�لى المركز ‪ ،‬ف أ�نا ل�ست من مواليد‬ ‫‪ 15‬مار�س كما أ�دعى ‪..‬‬ ‫و�إنما �أ�صبح في هذه الحالة من مواليد �أحد �أيام �شهر‬ ‫فبراير ‪ ،‬وهذا يلقي ظلال ًا من ال�شك كبيرة على ما‬ ‫قر أ�ته �أو �سمعته عن البرج والبخت وحظك اليوم ‪-‬‬ ‫هذا لو �صح كلام �أمي‪ .‬أ�بي نفى هذه الواقعة تما ًما‬ ‫‪50‬‬

‫ملامح طفولتي ‪ ..‬والظروف التي أ�حاطت بن�ش�أتي ا ألولى ‪ ..‬يقولون �إن‬ ‫هذا مهم ج ًّدا و�ضروري للحكم عل َّي وعلى حياتي ‪ ،‬و�ضرورى لتقييم هذه‬ ‫الرحلة الطويلة ‪ ..‬إ�ذ ي�ؤكد البع�ض �أ َّن �شيخوخة المرء هي بع�ض من طفولته‬ ‫ا ألولى ‪ ..‬وبدون الإلمام بها ‪ ..‬لا يمكن تف�سير إ�حباطاته وطموحاته ‪ ..‬أ�و‬ ‫تبرير نزواته ‪ ..‬و�شطحاته ‪ ،‬أ�و اكت�شاف نوع ودرجة جنونه أ�و حكمته ‪..‬‬ ‫لكني لم أ�كتب أ�ب ًدا مذكرات ‪ ،‬ولا احتفظت بكرا�سات أ�و أ�جندات‬ ‫‪ ..‬ناهيك أ�ن ذلك لم يكن متا ًحا ‪ ..‬كل ما أ�ذكره ب�شدة هو أ�ن هوام�ش‬ ‫كتبي كانت تمتلئ مع نهاية كل �سنة ‪ ..‬ب أ��شكال و�صور لر�سوم غير �سيئة‬ ‫‪ ..‬وجوه وبيوت و�أ�شجار وحيوانات ‪ ،‬أ�رانب وحمير ‪ ..‬وم�ؤخرات‬ ‫جوامي�س تحت �شجر جميز وطيور و أ�زهار ‪ .‬وكان هذا ي�سبب لي م�شاكل‬ ‫كثيرة مع المدر�سين ‪ ،‬الذين كان بع�ضهم ي�صر على نظافة الكتب من هذه‬ ‫الخزعبلات ‪.‬‬ ‫كان (محمد �أفندي �شاكر) ‪ ..‬ي�ضربني بحرف الم�سطرة على ظهر كفي‪،‬‬ ‫إ�ذا ما �شردت مني الحروف خارج هام�ش ال�صفحة الأحمر ‪ ..‬ولم تت�سع‬ ‫للكلمات (الثماني) التي كان لابد �أن (تنح�شر) بدقة وحرفنة بين الهام�شين‬ ‫‪ ..‬كان ا ألمر عنده مقد�ًسا ‪ ،‬ي�صل لمرتبة الكفر والإيمان‪ ..‬فالخروج على‬ ‫الهام�ش فو�ضى ‪ ،‬وعدم قدرة على الفهم وعجز عن الا�ستيعاب ‪ ،‬إ�نه �شيء‬ ‫هام ج ًّدا ‪ ،‬أ��شد أ�همية من �أخطاء الإملاء والهمزات ‪ ،‬وتواتر الحروف‬ ‫الملغزة في الكلمات المهولة‪ ،‬التي تظهر المهارة من الخيبة ‪ -‬كالل�ؤل�ؤ‬ ‫وال�سموءل وال�سجنجل وغيرها ‪ -‬والتي تعتبر كتابتها �صحيحة من دلائل‬ ‫التفوق والمقدرة والعبقرية المبكرة ‪..‬‬ ‫كنت أ�يامها �أدر�س مع �أختي (البكرية) (�آمال) في مدر�سة (ال�شيخة) ‪/‬‬ ‫‪53‬‬

‫و أ��صدقائة من مدر�سي (الإلز) – (وكان الإخوان الم�سلمين فى �صعود)‪-‬‬ ‫قائلين إ�ن ا�س ًما كهذا �سي�شكك في ديانته ‪� ،‬سيظنه الكثيرون قبط ًّيا ‪ ..‬واقتنع‬ ‫�أبي وقرر العودة في اليوم التالي ‪ ،‬ولكن ربك �سلم ‪ ..‬ذلك ألن تغيير‬ ‫الا�سم إ�لى (محمد �سمير) كان �سيتكلف على ا ألقل ثلاثه جنيهات ؛ �ضع‬ ‫في ح�سابك حكاية (الزبط) والحمير ‪ ..‬وهكذا �أنقذت من م�شاكل الا�سم‬ ‫المركب رغم �إيحاءاته الأر�ستقراطية الم�ؤكدة!‬ ‫لكن �أمي تعود لت�ؤكد روايتها ‪ .‬بدليل �أن خالتي (ال�سيدة) هي التي‬ ‫تولت رعايتي في ال�سنوات ا ألولى منذ البداية ‪ .‬ألن �أمى كانت ( ِن ِف�سة)‬ ‫ولي�س عندها خبرة برعاية ا ألطفال المعلولين !‬ ‫لكن هذه ال�شكوك كلها لم تغير من ا ألمر �شي ًئا ‪ ..‬ف أ�نا مقتنع �أنني‬ ‫ولدت في (‪ 15‬مار�س) ‪ .‬و أ�كتب ذلك على �صفحات كل كتبي و�أقوله‬ ‫في كل �أحاديثي ال�صحفية والإذاعية ‪ .‬و أ��صر على �أنني من مواليد برج‬ ‫(الحوت) فل�ست أ�ميل كثي ًرا لحكاية (الدلو) هذه التي تعني بفجاجة‬ ‫(جردل)!‬ ‫ملامح (الحوت) �أكثر احترا ًما و أ�بهة ‪ ..‬ويحمل مواليده الكثير من‬ ‫ملامح ذاتي و�صفاتي‪ ..‬التي أ�فخر بها على العالمين ! ثم إ�ن (‪ 15‬مار�س)‬ ‫حدث فيه حدث من �أهم الأحداث الدرامية والتاريخية ‪� ..‬ألم يقل‬ ‫(�شيك�سبير) على ل�سان الرجل (بتاع ربنا) الذي قابل (قي�صر) ‪.‬‬ ‫و�صرخ فيه بدون منا�سبة �أو متنب ًئا ‪ -‬الله أ�علم ‪.‬‬ ‫‪ -‬حذار من منت�صف (مار�س) !!‬ ‫فلم يعره انتبا ًها ‪ ..‬وكان �أن ُذبح (وهو �أهم (قي�صر) مت�سلط في‬ ‫التاريخ) ‪ ،‬في ذات نف�س يوم ميلادي !!‬ ‫لذا يبدو ا ألمر لي غام ً�ضا وغائ ًما كلما �أوغلت في الذاكرة؛ بح ًثا عن‬ ‫‪52‬‬

‫يدي من ال�ضرب ‪ ..‬و�ضاقت نف�سي بالدنيا وما فيها ‪ ..‬حتى �إنني اقترحت‬ ‫�أن �أذهب للك َّتاب �أف�ضل ‪ ..‬لكنه قر�ص ودني ‪ ،‬ورف�ض الا�ستماع إ�ل َّي بل‬ ‫و�أو�صى (�شاكر أ�فندي) أ�ن (يتو�صى بي) �شوية ألنني لعبي ‪! ..‬‬ ‫وحدث ‪ ..‬كانت ح�صة �إملاء ‪ .‬وكان المو�ضوع هو (�شجرة القطن‬ ‫و�شجرة البرتقال) وهو مو�ضوع �سخيف عن المفا�ضلة بين ال�شجرتين ‪.‬‬ ‫واحدة تتباهى بجمالها والأخرى بقيمتها ل ألوطان ! وكان لابد �أن نلتزم‬ ‫بالهام�شين وبعدد الكلمات في ال�سطر الواحد‪ ..‬وكانت الواقعة‪ ،‬لم نكن‬ ‫نكتب بالر�صا�ص ‪ ..‬ولم نكن قد عرفنا بعد ا ألقلام الجافة ‪ ..‬ولا حتى‬ ‫�أقلام الحبر ا ألبنو�س ‪ .‬كنا نكتب بالحبر ال�سائل ‪ ،‬بال�سن المركب على عود‬ ‫من الخ�شب ‪ ،‬كنا ن�سميه الري�شة ‪ ..‬ولا�ستعمال الري�شة والدواية أ��صول ‪.‬‬ ‫كيف تغم�س الري�شة في الدواية‪ ،‬وكيف تحتفظ بالدواية المليئة بالحبر على‬ ‫(قمطر) �ضيق ‪ ،‬يكاد يت�سع للكرا�س ‪ .‬ومن كان حظه جي ًدا ‪ ،‬كان لقمطره‬ ‫ثقب ‪ ،‬ت�سقط فيه دواة خا�صة ‪ ،‬ت�شبه فنجا ًنا له حافة م�ستديرة ‪ ،‬تحتفظ به‬ ‫في م�ستوى �سطح (القمطر) ‪� ..‬أما من كان حظه نيلة زي حالاتي ‪ ..‬وزائد‬ ‫عن العدد ؛ ولد و�سط ع�شرات البنات ‪ .‬كان لي (قمطر) لا يتمتع بهذه‬ ‫الميزة ‪ .‬ولذا كان عل َّي �أن أ��سير على الحبل ‪ ،‬مواز ًنا بين الم�ساحة التي تحتلها‬ ‫الكرا�سة ‪ -‬مع و�ضع حركتها الع�صبية تحت يدي في الاعتبار‪ -‬وبين الركن‬ ‫ال�ضيق الذي تكاد الدواية الزجاجية العادية تحتله ‪ ..‬بالمللي !!‬ ‫�أخذ الأ�ستاذ (�شاكر أ�فندي) يملي علينا ‪ ،‬وهو رائح غا ٍد يل ِّوح بالع�صا‬ ‫الخيزران ‪ ،‬مزي ًحا طربو�شه إ�لى الوراء تارة ‪ ..‬و�إلى ا ألمام تارة ‪ ..‬في�ضيف‬ ‫إ�لى المحاذير المتعلقة بالهام�ش ‪ ،‬وعدد الكلمات ‪ ،‬وتوازن الم�سافات فوق‬ ‫القمطر محظو ًرا �آخر �شديد الوط أ�ة ‪ ،‬وهو أ�ن تمنع نف�سك من ال�ضحك ‪..‬‬ ‫خا�صة عندما يعجبه رنين �صوته و�سط ال�صمت الفادح الذي نكتم به‬ ‫‪55‬‬

‫بنات ‪ ..‬لم �أكن قد بلغت �سن الالزام بعد ‪ ،‬لكن �أبي كان مدر�سا بها ‪ ..‬وهي‬ ‫مدر�سة تقع في الطرف ا آلخر (ال�شرقي) من بلدتنا بجوار �ساقية العفاريت‬ ‫�أي في (واطي البلد ‪ )..‬بينما تقع مدر�سة البنين في (علوها) ‪ ..‬و�ألحقني‬ ‫أ�بي مع �أختي بف�صل (�شاكر �أفندي) ولي�س بف�صله هو ‪ ..‬كان يقول �إن‬ ‫ذلك �أجدى ‪ ..‬حتى لا نتدلع عليه‪ ..‬لكنني �أظن أ�نه ف�ضل �ألا نحكم على‬ ‫كفاءاته وهو �أمر ‪ -‬أ�ق�صد الحكم على (�شطارة) المدر�سين ‪ -‬كان مو�ضوع‬ ‫حديثنا المف�ضل ‪ .‬وكثي ًرا ما ت�شاجرت ب�سببه مع بنات طويلات الل�سان كن‬ ‫لا يقدرن أ�بي حق قدره ‪.‬‬ ‫لكننا جمي ًعا ‪ -‬بنات ف�صل (�شاكر أ�فندي) وبنات ف�صل �أبي و�أنا ‪-‬‬ ‫كنا نح�سد بنات ف�صل (محمود �أفندي �سالم) ‪ ..‬ذلك الأ�ستاذ ال�س َّكرة المليء‬ ‫الج�سم ‪ ،‬ذو الوجه المد َّور الذي ي�ضاهي وجه (�ست �أم ح�سني) زوجته‬ ‫بيا ً�ضا وجمال ًا ‪ ..‬علاوة على طيبة قلبه وحنانه ‪ .‬الذي يجعل البنات‬ ‫يتقافزن حوله وعلى حجره وكتفيه طول الوقت حتى فيما بين الح�ص�ص ؛‬ ‫وهو يوزع ابت�سامته الحنون على الجميع ‪..‬‬ ‫كم طلبنا و�ألححنا �أنا و�أختي �أن يلحقنا �أبي بف�صل (محمود �أفندي)‬ ‫لكنه رف�ض ب�شدة ‪ ..‬فقد كان �صدي ًقا له وكانت (�ست �أم �سمير) �صديقة‬ ‫وحبيبة زوجته (�ست أ�م ح�سني) وبالتالي هناك أ��سباب منطقية لرف�ض‬ ‫ذلك‪ ،‬أ�قوى بكثير من �أ�سباب رف�ض �إلحاقنا بف�صله هو ‪ ..‬وكان ر�أيه أ�ن‬ ‫الذي يريد أ�ن يتعلم بجد لابد �أن يكون في ف�صل (�شاكر أ�فندي) !‬ ‫كان لابد من فعل �شيء ‪ ..‬ف أ�نا ل�ست تلمي ًذا ر�سم ًّيا ‪� ..‬إنني �أدر�س‬ ‫بالمجاملة كنوع من ا ألبهة �أو الا�ستعجال ‪ ،‬إ�ذ كنت مازلت �صغي ًرا على‬ ‫وجع الدماغ هذا ‪ ..‬ومع ذلك كان لابد من الاحتجاج ‪ ..‬فقد ورمت‬ ‫‪54‬‬

‫رف�ضت بكل �شدة ‪ ..‬وا�ستعنت (ب أ�مي) وبال�ست ( أ�م ح�سني) ‪ .‬خا�صة‬ ‫وقد تحول الكف الذي رزعه لي ‪ -‬ح�سب روايتي وت أ�كيدات (�أختي) التي‬ ‫كانت تطمع في عدم العودة ‪ -‬إ�لى ع�شرات الكفوف �شمال ويمين ورف�ص‬ ‫ورزع في الحائط ‪ ..‬كنت أ��صور (�شاكر أ�فندي) في �صورة الوح�ش عديم‬ ‫القلب والرحمة ‪ ،‬يكرهني ألنه يكره أ�بي ‪ ..‬و�أنني كدت �أموت في يده ‪..‬‬ ‫و أ��شهد �أنني كنت كذا ًبا ‪ ،‬لكنني لم �أرد أ�ن أ�ه َزم ‪ ،‬أ�و �أعود �صاغ ًرا بعد �أن‬ ‫أ�دى اكت�شافي لموهبتي في التمثيل والمبالغة دوره ‪ ..‬وعلى كل حال لم أ�كن‬ ‫تلمي ًذا (ر�سم ًّيا) مق َّي ًدا بالمدر�سة ‪ ..‬لكنني خ�سرت (�شاكر �أفندي الدغيدي)‬ ‫�إلى ا ألبد ‪ .‬وهو �صاحب الف�ضل ا ألول في جمال خطي ‪ ،‬وقدرتي على‬ ‫و�ضع كل همزة في موقعها ال�صحيح على الواو �أو الياء أ�و على الأر�ض !!‬ ‫بعدها بقليل فقدت أ�ول بنت خفق لها قلبي ‪ ..‬و�أنا الآن �أعطي‬ ‫لم�شاعري ا�س ًما ‪ .‬لكن أ�يامها لم أ�كن أ�عرف معنى لما يحدث لي عندما �أكون‬ ‫معها ‪ ..‬كانت عين َّي ويد َّي ورجل َّي تتوتر جميعها متعلقة بها ‪ .‬تنتظر �إ�شارة‬ ‫من يدها ‪� ،‬أو لفتة من عينها أ�و هم�سة من �شفتيها ‪ ،‬لأنفذ لها أ�ية نزوة ‪،‬‬ ‫و أ�حقق لها �أية رغبة ‪ ..‬ونحن م ًعا نلعب �ألعاب البنات ‪( ..‬ا ألولى) �أو‬ ‫(الط َّظة) �أو لعبة الفرح ؛ حيث كنت العري�س الأوحد دائ ًما ‪ ..‬لم نكن‬ ‫وحدنا طب ًعا بل كان معنا بنات أ�خريات منهن (�أختي آ�مال) التي كانت في‬ ‫�سنها وف�صلها ‪ ..‬وكانت �صديقة لها كما كانت (�أمي) �صديقة لأمها ‪..‬‬ ‫و( أ�بي) �صدي ًقا لأبيها (�أبو ن�ضارة) وهو ا�سم أ�طلقناه عليه نحن ال�صغار‪.‬‬ ‫وتبناه كل أ�هل البلد ‪ ،‬لأنه كان يرتدي نظارة �سميكة مميزة ج ًّدا ‪ ،‬لا تفارق‬ ‫وجهه الم�ستدير المليء ‪ ،‬وت�ستقر في �أبهة وثبات فوق �أنفه ال�شديد الح�ضور‬ ‫‪ ..‬كنت �أعتقد �أنه لا يخلعها أ�ب ًدا ‪ ..‬حتى وقت النوم ‪.‬‬ ‫‪57‬‬

‫الأنفا�س ‪ ،‬في ؤ�كد مخارج الحروف بحركات و�إيقاعات كوميدية ‪� ..‬صحيح‬ ‫أ�ن الرعب ٍكان كفيل ًا ب�إلزامنا حدود الجد والجهامة ‪ ..‬لكن المحظور كان‬ ‫لابد أ�ن يقع ‪ ..‬فقد ف�شلت في ح�شر الكلمات الثماني على ال�سطر ‪ ،‬قبل‬ ‫الو�صول للهام�ش ا ألخير ‪ ..‬ون�سيت ف�أخذت أ�م�سح ‪ ..‬والحبر لا يم�سح‬ ‫ب�سهولة ‪ ..‬فك�شطت الورقة و أ�نا مرعوب ‪� ،‬أراقب حذ ًرا �أن يراني ‪..‬‬ ‫في نف�س الوقت كان عل َّي �أن أ�لاحقه حتى لا تفوتني الكلمات ‪� ،‬إذ‬ ‫أ�ن له هو ا آلخر �إيقاعه المح�سوب بكل دقة ‪ ..‬التفت نحوي ك�أنما جذبه‬ ‫�صوت ا�ضطرابي ‪ ..‬فانفجرت باك ًيا رغم رغبتي ال�شديدة في ال�ضحك‬ ‫لأنه التفت في �صورة مفاجئة والطربو�ش فوق حاجبيه تما ًما كطرطور‬ ‫(�شكوكو) ‪ ..‬وما أ�ن حملق ف َّي حتى أ��سرعت ووقفت منطو ًرا ف�سقطت‬ ‫الدواية ‪ ..‬مطرط�شة الحبر على كل �شيء ‪ ..‬هاجت الدنيا ‪ ..‬ما �أن �شاهد‬ ‫ال�صفحة المك�شوطة حتى لط�شني قل ًما جعلني �أ�صرخ ب�شكل مبالغ فيه ‪،‬‬ ‫ففوجئ ب�صراخي و�أ�سرع يم�سك بي ‪ ،‬محاول ًا إ��سكاتي ‪� ..‬صرخت �أعلى‬ ‫ف�صرخت ( آ�مال) وبع�ض الفتيات ‪ .‬واندفعت التلميذات على ال�صراخ من‬ ‫الف�صول ا ألخرى ‪ ..‬ووجد (�شاكر أ�فندي) نف�سه في مواجهة �أبي ‪ ،‬الذي‬ ‫جاء م�سر ًعا وقد تعرف على ال�صرخة ‪ ..‬لي�شاهد الكراري�س الملقاة على‬ ‫الأر�ض والحبر المطرط�ش وخدي المحمر ‪ ،‬فلم يتمالك نف�سه ولم ينتظر‬ ‫�شرح (�شاكر �أفندي) الهائج ‪ ..‬وا�شتبك الاثنان م ًعا ‪�( ..‬شاكر �أفندي) محاول ًا‬ ‫ال�شرح‪ ،‬و�أبي مندف ًعا للدفاع عن فلذة كبده ‪ ..‬وكانت موقعة تاريخية ‪..‬‬ ‫ظلت لها نتائجها ال�سلبية وا إليجابية على علاقات كل الأطراف المعنية‬ ‫لعقود طويلة لاحقة !‬ ‫ُنقلت �أنا و أ�ختي طب ًعا إ�لى ف�صل (محمود أ�فندي �سالم) ‪ ..‬الحنون‬ ‫الجميل ‪ .‬ولكن �إلى حين ‪ ..‬فقد كان لابد �أن يت�صالحا ‪�( -‬شاكر �أفندي)‬ ‫و( أ�بي) ‪ -‬و أ�ن تت�ضح أ�بعاد الموقف فعادت ( أ�ختي) إ�لى ف�صله ولكني‬ ‫‪56‬‬

‫�سكرتي ًرا له بالمجل�س لولائه ال�شديد (لح�سين بك) وب�سبب العلاقة الخفية‬ ‫والمتينة بينهما ‪ ،‬ا�ستطاعا احتكار إ�دارة الجمعية لح�ساب (ح�سين بك)‬ ‫طب ًعا ‪ ،‬وهو بدوره �أطلق يد (�أبو ن�ضارة) في ال�شئون ا إلدارية والمالية دون‬ ‫ح�سيب أ�و رقيب (ولهذا حديث طويل آ�ت عندما تن�شب المعركة التاريخية‬ ‫الكبرى ب�سبب الجمعية في منت�صف الخم�سينيات والتي �سيظل ف�شل القرية‬ ‫فى ك�سبها ل�صالح الفلاحين علامة فارقة على ف�شل الم�سار الديمقراطي‬ ‫للثورة الم�صرية) المباركة !!‬ ‫•••‬ ‫‪59‬‬

‫كان (�أبي) �صدي ًقا له ولأخيه (يا�سين �أفندي) �صاحب النخلة ال�شهيرة‬ ‫التي ذكرتها في �أ�شعاري فيما بعد كثي ًرا ‪ ..‬وعندما �ساءت العلاقة بين‬ ‫ا ألخوين ‪ ،‬فترت ال�صداقة بينه وبين (�أبي) ‪ ،‬وانتهت �إلى ما ي�شبه حر ًبا‬ ‫باردة تح َّكمت فيها الزوجتان (�أمي) و أ�م حبيبتي بما ُعرف عنهما من‬ ‫حكمة وحنكة في م�سارها ال�سري وم ؤ�امراتها الهادئة ‪ ،‬ولم ي�شع خبرها‬ ‫بين �أهل البلد كما حدث لمعركة �أبي مع ال�شيخ (محمد ابو نبراوي) التي‬ ‫انقلبت ‪ -‬ب�سبب خادمة �شبه عبيطة من عزبة (الن�صا�صرة) �أغرت أ�مى‬ ‫أ�مها أ�ن تلحقها بخدمة خالى (فتوح افندى) فى المن�صورة حيث تعي�ش فى‬ ‫البندر بدلا من بهدلتها فى (زريبة) أ�بو نبراوي و أ�غرى �أبى �أباها ب إ�هدائه‬ ‫منبه �ساعة ذات جر�سين كان تحفة نادرة فى أ�وانها وكان ذلك كافيا لأعلان‬ ‫حرب بين العائلتين تحولت إ�لى �صراع طويل دا ٍم ‪ ..‬كانت وقائعه وحوادثه‬ ‫ونوادره حديث القرية كلها ‪ .‬وبالطبع �سنذكره بالتف�صيل في حينه ألهميته‬ ‫التاريخية ‪.‬‬ ‫المهم أ�ن ثلاثتهم ( أ�بي و أ�بو ن�ضارة و أ�بو نبراوي) كانوا �أع�ضاء وزملاء‬ ‫في مجل�س إ�دارة جمعية (ميت �سل�سيل) الزراعية الذي انتخب مع ت�أ�سي�سها‬ ‫الأول قبل الحرب ‪ .‬برئا�سة (ح�سين بك عا�شور) أ�غنى رجل في قريتنا ‪،‬‬ ‫والذي كان يملك عزبة خارج زمام القرية تبلغ حوالي مائتي فدان قطعة‬ ‫واحدة ‪ ..‬ولم ي�سقط ذلك المجل�س إ�لا عندما جاء (الوفد) إ�لى الحكم عام‬ ‫‪ . 1950‬و�إن كان (�أبي) وال�شيخ (محمد �أبو نبراوي) قد أُ�خرجا منه مع‬ ‫بقية الأع�ضاء الوفديين المنتمين إ�لى (علو البلد) ‪ ،‬عندما تولى النقرا�شي‬ ‫الوزارة بعد الحرب ؛ حيث اقت�صرت الع�ضوية على ا ألع�ضاء من (واطي‬ ‫البلد) ‪ ..‬وكان ( أ�بو ن�ضارة) هو الوحيد من (علو البلد) الذي ظل كاتبا �أو‬ ‫‪58‬‬

‫لا �أ�ستطيع الآن �أن أ��صف وجهها ‪ ..‬لا لأنني لا أ�جد الكلمات بعد هذا‬ ‫العمر الطويل ‪ ..‬فما أ��سهل أ�ن أ�خترع ألر�سم �صورة مثالية تبهر ال�سامعين ‪.‬‬ ‫لكن الحقيقة �سوف تبقى �أجمل ‪ .‬و�أنا لا أ��ستطيع �أن �أغامر‪ .‬كانت مختلفة ‪..‬‬ ‫نظيفة لا أ�ثر لغبار القرية على وجهها �أو ملاب�سها أ�و �شعرها ‪ ،‬كبقية البنات‪.‬‬ ‫كانت قطعة من �ضوء ال�شم�س مغ�سولة بالحليب ‪ ..‬نموذج م�صغر من أ�مها‬ ‫الرائعة الجمال ‪ ،‬الرائقة الب�شرة التي يح�سد �أهل القرية (�أبو ن�ضارة) عليها‪..‬‬ ‫ويلوكون �سيرته حق ًدا ألنه يحوز كل هذا الجمال ال�صافي‪..‬‬ ‫كانت �أمها من (طنطا) ‪ ..‬كيف عثر عليها (�أبو ن�ضارة) وكيف‬ ‫تزوجته من دون رجال الدنيا ‪ ..‬لغز لي�س عندي له حل ‪ ..‬ولكني كنت‬ ‫�أحبه و�أحب زوجته ‪ ..‬ألنها ابنتهما ‪ ..‬كانت عيني تظل �شاخ�صة م�سحورة‬ ‫بحركة �ضفيرتها الوحيدة ‪ ،‬التي تتفنن �أمها في غزلها مع ال�شريط ا أل�صفر‬ ‫‪ ،‬تتراق�ص على ظهر المعطف الأحمر الذي كان يميزها عن �سائر البنات ‪..‬‬ ‫(�أمي) �أ�صرت على �أن ي�شتري (�أبي) ( ألختي) معط ًفا مثله تما ًما لكن لونه‬ ‫كان مختل ًفا ‪ -‬كان أ�خ�ضر‪.‬‬ ‫كنا �أنا و�أختي نذهب كل �صباح ‪� -‬أختي في معطفها الأخ�ضر ‪ ،‬و�أنا‬ ‫في بنطلون ي�صل �إلى تحت �صابونة ركبتي م�صنوع من قما�ش بدلة قديمة‬ ‫ألبي ‪ ،‬وقمي�ص في لون مرايل البنات ومن نف�س القما�ش ‪ -‬لن�صحبها‬ ‫�إلى المدر�سة التي تقع في �أق�صى ال�شرق من (ميت �سل�سيل) ‪ .‬وفي الطريق‬ ‫يلحق بنا �أو نلحق ببع�ض البنات ‪ .‬كانت (هي) و أ�ختي تتميزان بالمعطفين‪،‬‬ ‫وتتميزان بنظافة خا�صة ‪ ،‬ب�سبب تناف�س ا ألمهات (البندريات) ‪ .‬وكنت‬ ‫أ��سير خلفهما وعيناي معلقتان بال�شريط وال�ضفيرة ‪ ..‬في انتظار �أن أ�ظهر‬ ‫مهاراتي لها ‪ ..‬و�أن أ�كون عند �أول بادرة في خدمتها ‪.‬‬ ‫‪61‬‬

‫و إ��صبر نف�سك‪..‬‬ ‫‪ ‬لي�س هذا حديث خرافة ‪ ..‬ول�ست �أبالغ‬ ‫‪ ..‬لا ‪ ..‬هذا حديث جد الجد ‪� ..‬أووه ‪ ..‬أ�خذتنا‬ ‫ال�سيا�سة بعي ًدا ‪ .‬وكاد الكلام ال�ضخم عن �سخافات‬ ‫الكبار يطم�س الحديث الجميل ال�ساحر الرقيق عن‬ ‫أ�ول ق�صة (حب ‪ ..‬وفقدان) تحدث لي ‪ ،‬و�أنا في‬ ‫ذلك ال�سن الرهيف الغ�ض ‪ ،‬والتي ك�سرت قلبي‬ ‫ألول مرة ‪ .‬وهو ا ألمر الذي تكرر كثي ًرا حتى �آمنت‬ ‫�أخي ًرا �أن الفقدان كان دائ ًما قدري ‪..‬‬ ‫ل�ست �أ�ستجدي دموع ال�ضعفاء ‪ .‬ف�أنا لا �أحكي‬ ‫ق�صة رومان�سية ‪ ،‬ولكني �أحكي عن قرية ووطن ‪..‬‬ ‫عف ًوا ‪ ..‬ا�سمحوا لي أ�ن �أتما�سك و�أكمل‪ ..‬ألتحدث‬ ‫عن حبيبتي ا ألولى و أ�نا لم أ�دخل بعد المدر�سة‬ ‫الابتدائية ولم ي�صل عمري �إلى �سن الإلزام‪.‬‬ ‫‪60‬‬

‫كنت �أفعل كل ما ير�سم طيف ابت�سامة عل ثغرها ‪ ..‬قلبي يقفز �إلى‬ ‫حلقي ‪ ..‬حتى ألكاد �أختنق كلما ابت�سم ْت ‪ ،‬حين �أحل لها الم�سائل ال�صعبة‬ ‫‪� .‬أو أ�كتب لها واجب ا أل�ستاذ (�شاكر) ‪ ..‬الذي كثي ًرا ما ت�شكك في قدرتها‬ ‫على ذلك ‪ ..‬وكيف كنت أ�تفادي نظراته المتهمة حتى لا أ�نهار‪ ،‬ف أ�بكي‬ ‫و�أعترف ‪ ..‬كان ر�أيه أ�ن مخها (كالجزمة) ‪ ،‬و أ�نها لا تفهم ألنها م�شغولة‬ ‫بت�ضفير �ضفيرتها أ�كثر من ان�شغالها بالورقة والقلم ‪..‬‬ ‫حزنت عندما ُنقل ْت لف�صل الأ�ستاذ (محمود �سالم) بناء على تدخل‬ ‫والدها ‪ ..‬فقد حرمت من ت�أملها طول اليوم ‪ ..‬ولكن ذلك كان أ�ف�ضل‬ ‫ألتمادى في خدمتها دون خوف من عقاب ‪ ..‬كنت �أعتقد وقتها أ�نها الدنيا‬ ‫وما فيها ‪ ..‬وكانت (�أختي) تراقبني في غيظ ‪ .‬ولولا �أنها تحبها هي الأخرى‬ ‫وتعتبرها �أهم �صديقة لها ‪ ..‬لما �سامحتني ‪ .‬ولكن ذلك لم يمنعها أ�ن تلقح‬ ‫بكلام في البيت عنها ‪ .‬وعن ت�صرفاتي ؛ مما جعلني هد ًفا ل�سخرية ( أ�مي)‪،‬‬ ‫خا�صة عندما أ�تردد في تلبية طلب لها ‪ ..‬ك إ�نجاز م�شوار �إلى البقال ‪ ..‬أ�و‬ ‫ال�صعود �إلى ال�سطح إلح�ضار بع�ض المخلل والم�ش من البلالي�ص المخ�ص�صة‬ ‫لذلك ‪ ،‬والتي �أتقن التعامل معها في حر�ص وحرفنة ‪! ..‬‬ ‫حتى كان ذلك ال�صيف اللعين ‪ ..‬الذي ا�شتدت فيه الحرارة ‪ .‬فكادت‬ ‫تحرق الحقول التي لم ي�صل إ�ليها لهيب الحرب ‪.‬‬ ‫يومها عدنا من المدر�سة محتمين بظلال البيوت هاربين من ال�شم�س‬ ‫قدر ا إلمكان ‪ ..‬كان وجهها �أ�شد احمرا ًرا وعيناها الفيروزيتان تلمعان‬ ‫�أكثر مما تعودت عليه ‪ ..‬وكنت �أحر�ص كلما فاج أ�نا ل�سان من لهب‬ ‫ال�شم�س أ�ن أ�رفع كرا�ستي ألظللها ‪ ..‬حتى و�صلنا �إلى بيتها ‪ ..‬وعدنا‬ ‫�إلى بيوتنا ‪ ..‬و أ�ختي تنخ�سني بالقلم الر�صا�ص وهي ت�سخر من اهتمامي‬ ‫‪63‬‬

‫كنا ن�سلك في كل مرة طري ًقا مختل ًفا ‪ ..‬نخترق القرية عبر ال�شارع‬ ‫الرئي�سي ‪� ،‬أو نلف من طريق المحطة ‪ ،‬نتقافز فوق �شريط ال�سكة الحديد‬ ‫الفرن�ساوي ‪ ..‬وكان هذا يعر�ضنا للتقريع واللوم‪ ،‬فكنت �أ�سارع بتحمل‬ ‫الوزر قبل أ�ن يتطور ا ألمر ‪� ،‬أو كنت �أ�صحبهن عبر البحر ‪ ..‬لي�س (بح ًرا‬ ‫بال�ضبط) ولكننا كنا نطلق عليه البحر ؛ ما دام يتفرع من البحر ال�صغير �أو‬ ‫الجديد‪.‬‬ ‫وما أ�كثر ما كنت �أقترح �أن نذهب عبر ال�شاطئ ا آلخر الذي كان يمر‬ ‫أ�مام عزبة (الدقون) ‪ ،‬خلال غابة من أ��شجار التوت ؛ لأنني كنت حينئذ‬ ‫أ�ظهر لها مهاراتي المو�سمية و�أل ِّبي رغبتها ‪ ..‬مبال ًغا في الح�صول لها على‬ ‫�ألذ ثمار التوت ‪ ،‬من فوق �أعلى ا ألغ�صان ‪ ..‬وكان هذا يثير غيرة وغ�ضب‬ ‫أ�ختي أ�حيا ًنا ‪ ..‬وي�سن أ�ل�سنة ا ألخريات عل َّي ‪ ..‬ولكنها كانت تبت�سم ‪..‬‬ ‫فت�شرق �شم�س بين �أ�ضلعي ‪ ..‬تجعلني �أ�سامح الجميع ‪..‬‬ ‫حينئذ ‪ ،‬كنا نعبر إ�لى المدر�سة فوق جذع نخلة ممدود بين ال�شاطئين‪..‬‬ ‫كلهن كن يعبرن كا ألرانب أ�و العنزات الجامحات ‪ ،‬حتى �أختي كانت تفعل‬ ‫ذلك بكل خفة وب�ساطة ‪� ..‬إلا هي ‪ ..‬وحدها كان ينتابها الرعب‪ ..‬فتكون‬ ‫فر�صتي ‪ ،‬التي خططت لها دون �أى ق�صد �سئ عندما �أغريتهن ب�سلوك ذلك‬ ‫الطريق ‪ ..‬فلم تكن تعبر دون م�ساعدتي ‪ ..‬هل يمكن �أن يت�صور �أي إ�ن�سان ‪،‬‬ ‫حتى ولو كان قد تخطى �سن ال�ستين ‪ ،‬ماهية الم�شاعر التي تفور في عروقي‬ ‫�ساعتها ‪ ..‬و�أنا أ�م�سك بكفها كع�صفور مرتع�ش بين يدي ‪ ..‬و أ��شجعها‬ ‫بكل ما في عيوني من حنان على أ�ن تنقل أ�قدامها خطوة خطوة ‪ ..‬حتى‬ ‫نهاية جذع النخلة ف أ�تلقاها ‪ -‬في قمة إ�ح�سا�سها بالتوتر وقد امتلأت عيناها‬ ‫بن�شوة الانت�صار على الخوف ‪ ،‬لتقفز الخطوة الأخيرة ‪ -‬بين �أح�ضاني ‪،‬‬ ‫و�سط خليط من م�شاعر الخوف والفرح والغيرة ت�ضج �صاخبة في تعليقات‬ ‫وت�صرفات البنات ‪.‬‬ ‫‪62‬‬

‫أ�حدق في الفراغ ‪ ..‬قالوا إ�نني لم �أح�س لهب ال�شم�س التي كانت تكوي‬ ‫بلاط ال�سلم ‪..‬‬ ‫حين انتبهت (�أمي) لحالي حملتني جثة �سائبة المفا�صل �إلى الكنبة ‪،‬‬ ‫تحت �شباك البلكونة البحرية ‪ ..‬وقد انتابها رعب �شديد �أن يكون �شيء‬ ‫رهيب قد حدث لي ‪ .‬ر�َّش ْت وجهي بالماء و�أخذت تقر�أ القر آ�ن وهي‬ ‫تحت�ضنني في جنون ‪ ..‬وهي تت�أكد من تردد أ�نفا�سي ‪ ،‬ثم تعاود ت�أمل حالي‬ ‫وت�صرخ ف َّي أ�ن �أرد عليها ‪ ..‬ولمَّا لم يحدث زعقت ‪..‬‬ ‫‪ -‬يا (عبد الباقي) ‪� ..‬إلحقني ‪� ..‬إلحق (�سمير) !‬ ‫و�صحا �أبي من قيلولته مذعو ًرا على ال�صرخة ‪ ،‬مت�صو ًرا �أنني وقعت‬ ‫من على ال�سطح ‪� ،‬أو ده�ستني جامو�سة ‪ ..‬فلم تكن لج�سدي �أي ا�ستجابة‪..‬‬ ‫‪ -‬إ�يه اللي ح�صل ؟‬ ‫‪ -‬وقع من طوله أ�ول ما �سمع الخبر ‪..‬‬ ‫‪ -‬خبر إ�يه ؟‬ ‫‪ -‬ماتت ‪( ..‬منيرة) بنت (ابو ن�ضارة) بيقولوا ماتت ‪..‬‬ ‫كاد �أبي أ�ن ي�سقط إ�لى جانبي ‪ ..‬لولا �أن تناول القلة الباردة من ال�صينية‬ ‫‪ -‬كما قالوا لي فيما بعد ‪ -‬و�صبها على ر أ��سه ‪..‬‬ ‫‪ -‬إ� َّزاي ؟ ‪ ..‬دي كانت النهاردة في المدر�سة زي الوردة ‪ ..‬لما خدت‬ ‫�شهادة نجاحها ‪.‬‬ ‫�صمت لحظة وقد ات�سعت عيناه رع ًبا ‪..‬‬ ‫‪ -‬كانت مزرودة ‪ ..‬وو�َّشها زي الكبدة ح يبك منه الدم ‪ ..‬الحر ‪ ..‬أ�نا‬ ‫كنت حا�س�س ان النهارده يوم ماهو�ش فايت ‪.‬‬ ‫‪ -‬أ�هي ماتت ‪ ..‬كانت بنت موت ‪ .‬ربنا يرحم أ�مها ‪ .‬بيقولوا كانت‬ ‫بتلعب مع بنات (الزفتاوي) ودخلت على �أمها عايزه ت�شرب ‪� ..‬شربت من‬ ‫هنا ‪ ..‬ووقعت من هنا‪.‬‬ ‫‪65‬‬

‫الزائد‪ ،‬وتخرج لي ل�سانها غ�ض ًبا أ�حيا ًنا ‪ ،‬و أ�حيا ًنا على �سبيل الإغاظة ‪،‬‬ ‫وتعايرني لقلة اعتزازي بكرامتي قدام البنات ‪..‬‬ ‫بعد �ساعات �شقت ال�صرخة الملتاعة قلب القرية ‪� .‬صرخة حادة طويلة‬ ‫باكية م�ستغيثة ‪ ،‬تدق باب الرب محتجة ‪ ،‬تمزق ال�صمت الذي خلفته‬ ‫ال�شم�س الحارقة في الحواري فقطع الأرجل ‪ ،‬و�أجبر الخلق على التك ُّوم في‬ ‫حلوق الأحوا�ش وفي نتف ال�ضل والزوايا الرطبة ‪..‬‬ ‫هرع الخلق ملهوفين مذعورين ك�أن حري ًقا �ش َّب في ر ؤ�و�س البيوت‬ ‫التي حم�صتها الحرارة‪..‬‬ ‫حملت ا إلجابة ح�سر ًة وحز ًنا و أ�لمًا هد حيل الجميع ‪ ..‬و�أنا خنقتني‬ ‫الدموع و�شحتفتني �شهقات حارقة وانخرطت في بكاء حقيقي لا يليق‬ ‫ب�سني ‪ -‬لي�س وقتها ولكن ا آلن ‪ -‬و�أنا أ�حاول أ�ن �أتذكر ‪ ،‬و�أن �أجد‬ ‫الكلمات لأكتب عما حدث ‪ ..‬نعم بكيت (ا آلن) لأول مرة عليها ‪..‬‬ ‫يومها لم أ�بك ‪ ..‬ولم �أ�صدق ‪ ..‬و�شتمت الخالة (خ�ضرة) التي اندفعت �إلى‬ ‫بيتنا منكو�شة ال�شعر ملهوفة ت�شل�شل بطرحتها الكالحة ‪ .‬وهي تتعثر منكفئة‬ ‫ملهية تخم�ش وجهها ‪ ،‬وت�ضع على ر�أ�سها تراب الأر�ض المحروقة ‪..‬‬ ‫�شتمتها ولم أ��صدق وهي تقول �إنها ماتت ‪.‬‬ ‫‪ -‬م�ش ممكن ‪� ..‬إ َّزاي ؟ ‪ .‬العيال ما بيموتو�ش كده ‪ .‬انتي ق�صدك‬ ‫تغيظيني ‪..‬‬ ‫لماذا هي وماذا حدث ؟ ‪ ..‬نزل عل َّي �سهم الله ‪ ،‬بينما ولولت (�أمي)‬ ‫وبكت ( آ�مال) وهي تندفع �صارخة متعلقة ب�أذيال (خ�ضرة) التي اندفعت‪..‬‬ ‫تعدو نحو بيت ( أ�بو ن�ضارة) ‪.‬‬ ‫�أنا خر�ست ‪ ..‬مرعو ًبا تكومت في ركن ب�سطة ال�سلم بلا حركة ‪.‬‬ ‫‪64‬‬

‫عندما كانت �أ�سرار تلك الفتنة و�سحرها الخفي ينك�شف من ثغرات ثوبها‬ ‫الذي تمزق خلال �صراعها مع الن�ساء الحزانى الباكيات ‪.‬‬ ‫‪ -‬لا حول ولا قوة إ�لا بالله ‪..‬‬ ‫لم يتم أ�ي �شيء في هدوء ‪ ..‬كل �شيء تم رغم أ�نفها ‪..‬الدنيا حر‬ ‫‪ ..‬و إ�كرام الميتة دفنها ب�سرعة ‪ ..‬فلا يمكن في ظل هذه ال�شم�س القا�سية‬ ‫الانتظار‪..‬‬ ‫(�أبو ن�ضارة) ‪ ..‬انهار ‪ .‬بهتت عيناه تحت نظارته ال�سميكة ‪ ،‬ولم يبد‬ ‫عليه �أنه فهم ما حدث‪ ..‬كل ما كان يتمتم به ‪ ..‬ذاهل ًا ‪..‬‬ ‫‪ -‬ليه ؟ ‪..‬‬ ‫والكل يجيبه ‪..‬‬ ‫‪� -‬أمر الله ‪� ..‬إنت م�ؤمن‪..‬‬ ‫‪ -‬ليه ؟ ‪ ..‬ده كفر ‪ ..‬ليه ؟ ‪..‬‬ ‫‪ -‬لا حول ولا قوة �إلا بالله ‪..‬‬ ‫ي�سمعها فتخرج من �صدره وحلقه �آهة خ�شنة كخوار ثور مذبوح‬ ‫‪ ..‬ثم ي�صمت كحجر ‪ ..‬غ�َّسلتها زوجة الحانوتي وك َّفنتها بعي ًدا عن أ�نظار‬ ‫أ�مها الهائجة ‪ ..‬ودون �أن يراها أ�بوها المذبوح ‪ ..‬كانت ال�شم�س ت�سوقهم‬ ‫ب�سياط لهبها لي�ص ّلوا عليها ب�سرعة ‪ ..‬وخرجت البلد كلها وراءها إ�لى‬ ‫القبور‪ ..‬حتى �ستات البيوت والمك�سحين والعجزة �إلا من ي�شلون حركة‬ ‫�أمها ‪ ..‬ومن عجزوا عن القيام من حول أ�بيها المذهول الذي لا ينطق إ�لا‬ ‫خوا ًرا خ�ش ًنا عمي ًقا مجرو ًحا في آ�هة طويلة ‪ ،‬تعلو وت�صمت فج أ�ة ‪..‬‬ ‫حتى ا ألطفال والبنات و�أختي ذهبوا إ�لى المقابر ‪� ..‬إلا أ�نا ‪ ..‬تحر�سني‬ ‫�أمي عاج ًزا عن الحركة �أو الت�صديق أ�و الفهم ‪..‬‬ ‫ل�شهور طويلة بعد ذلك ‪ ،‬ومنذ الليلة ا ألولى ‪ ،‬كانت الأم تهب‬ ‫‪67‬‬

‫‪ -‬لا حول ولا قوة إ�لا بالله ‪ ..‬ليه ؟ ‪ ..‬طب وده بقى إ�يه اللي جـرى‬ ‫له؟ �شرب ميه ؟!‬ ‫ه َّزني بعنف مت�صو ًرا �أ َّن ما حدث لها يتكرر معي ‪.‬‬ ‫‪ -‬حلمك ع الواد ‪ ..‬احنا ناق�صين ؟ الواد ما ا�ستحمل�ش الخبر ‪ ..‬م�ش‬ ‫كانت �صاحبته ‪.‬‬ ‫‪ -‬هاتي كده ا َّما اف َّوقه ‪..‬‬ ‫حمتني أ�مي من ع�صبية �أبي واحت�ضنتني ‪ ،‬ثم حملتني �إلى ال�سرير في‬ ‫الأو�ضة البحرية وفتحت ال�شباك على و�سعه ‪ ..‬واطم�أنت عندما رم�شت‬ ‫عيوني ألول مرة ‪ ..‬و�سمعتني �أحرك �شفتي و أ�هم�س عندما لط�شتني‬ ‫الن�سمة‪..‬‬ ‫‪ -‬لأ ‪ ..‬ما ماتت�ش !!‬ ‫لم ي�ستطيع �أحد من القرية كبا ًرا و�صغا ًرا ‪ ،‬ون�ساء ورجال ًا أ�ن يمنع‬ ‫نف�سه من البكاء ‪ ..‬المر�أة التي ح�سدتها الن�ساء ‪ ،‬وب�سببها ح�سد الرجال‬ ‫زوجها ‪ ..‬كانت ت�صعب على الكافر ‪ ،‬وهي تم ِّرغ نف�سها في التراب ‪،‬‬ ‫وتلقي بنف�سها كالمجنونة على ال�سلالم ‪ ،‬وتنخبط بين الجدران وقد �أحاطت‬ ‫بها �أذرع الن�سوة محاولات تهدئتها ‪ ..‬لكنها كانت ت�ستجمع عافيتها بقوة‬ ‫ع�شرة وتبعثرهن وتجهدهن ‪ ،‬فيعاودن ح�صارها و إ�جبارها على الجلو�س ‪،‬‬ ‫فلا تلبث �أن تدفعهن وتبعثرهن لتعاود القفز والمهابرة محتجة على ال�سماء‬ ‫لاعنة ا ألر�ض ومن عليها ‪ ..‬راف�ضة �أن تعترف بموت ابنتها الوحيدة ‪..‬‬ ‫محاولة في كل مرة الو�صول �إليها ك أ�نها �ستعيد إ�ليها الحياة ‪..‬‬ ‫كتلة الفتنة الجميلة التي كانت تثير ح�سد وج�شع الجميع ن�ساء ورجال ًا‬ ‫‪ ..‬تبعثرت على ا ألر�ض وتمرغت في التراب ‪ ..‬الح�سرة �شلت الأحا�سي�س‬ ‫ال�شبقة الخفية فماتت ‪ ..‬قتلها الحزن الطافح من عيون الرجال ‪ ،‬حتى‬ ‫‪66‬‬

‫كانوا يت�صورون �أن ذلك ب�سبب �سهري في الخرابة ‪ ،‬وعفرتتي طول‬ ‫الليل مع ا ألولاد في الحواري ال�ضلمة ‪� ..‬أحد الم�شايخ �أكد �أنني مم�سو�س‪.‬‬ ‫وعمل �أبي لأهل الله ليلة ول�سيدي (مجاهد) عدة ليال ‪ ..‬وزار(ال�سيد‬ ‫البدوي) بناء على ن�صيحة �أحدهم ‪ ..‬وخالي (ال�سعيد) العاقل قا�س لي‬ ‫ا ألتر‪ ،‬أ�ما خالي (�إبراهيم) ‪ ..‬فقال ‪..‬‬ ‫‪-‬هذا الولد مكتوب أ�لا تهد�أ له حركة ‪ .‬طول الليل والنهار كالنحلة‬ ‫لا يكف عن الدوران ‪ .‬وما يحدث له ب�سبب أ�ن عقله لا ي�ستوعب ولا‬ ‫يتحمل عنف ج�سده ‪ .‬هذه هلاو�س التعب‪ ..‬ارحموه من نف�سه ‪ ..‬ا�شغلوه‬ ‫بالدرا�سة ‪.‬‬ ‫وقرر �أبي أ�ن يلحقني بالمدر�سة الابتدائية و�إن لم أ�بلغ �سن الإلزام ‪،‬‬ ‫مع �أنك لم تكن ظهرت يا�صديقى بهذه الحدة في حياتي ولم أ�كن وقعت‬ ‫بعد تحت ت�أثيرك و�سيطرتك ‪ .‬ولم ي�صدق أ�حد أ�نني كنت �أنزل لها تحت‬ ‫الأر�ض‪ ..‬لكني مت�أكد أ�ن الدنيا لم تعد كما كانت ‪ ..‬ثم ت�أكدت �أنها ماتت‬ ‫بالفعل ‪ ،‬ألن �شي ًئا ما في داخلي كان ي�صارع كى لا يموت‬ ‫•••‬ ‫‪69‬‬

‫فزعة في منت�صف الليل ‪ .‬وتخرج �صارخة عارية الر أ��س حافية القدمين ‪،‬‬ ‫يلاحقها زوجها في الظلام محاول ًا �سترها ب�شال �أو ملاءة ‪ ..‬كانت ت�سمع‬ ‫ابنتها ت�ستغيث بها ‪ ،‬أ�ن تخرجها من القبر ‪ ..‬ولا ي�ستطيع �أيا كان أ�ن يمنعها‬ ‫من الو�صول إ�لى المقابر أ�و نب�ش الأر�ض حتى يقو�ض لها الله من يقر�أ على‬ ‫ر أ��سها �آيات الله البينات ‪ ..‬فتهد�أ وت�ستقر عيونها الزائغة المدماة ‪ ..‬لتعود‬ ‫بها الن�ساء اللائي تع َّود بع�ضهن بعد ذلك القيام بما كان يعجز (�أبو ن�ضارة)‬ ‫عنه وقد ازداد �ضع ًفا ووه ًنا ‪..‬‬ ‫(خ�ضرة �أم بيومي) (فاطمة �أم دغيدي) و أ�رملة �أخرى لا أ�ذكر‬ ‫ا�سمها‪ ..‬كن ينتظرنها كل ليلة ‪ ..‬لي�صحبنها �إلى المقابر في ان�صا�ص الليالي‬ ‫‪� ..‬شي ًئا ف�شي ًئا كانت الرحلة الليلية ت�صبح �أهد�أ ‪ .‬و�شي ًئا ف�شي ًئا ‪� ..‬أ�صبحت‬ ‫هي �أ�ضعف ‪ ..‬أ��صبحت تتحدث فى هدوء عن ابنتها التي مازالت في‬ ‫القبر �صاحية ترجوها �أن تخرج لها ‪ ..‬لم تعد تخم�ش �أو تنب�ش ‪ .‬كانت‬ ‫م�ست�سلمة‪ .‬تجل�س �أمام القبر تحدثها في ود وحنان ‪ ..‬كانت ت أ�خذ معها‬ ‫فاكهة وفطائر ‪ .‬وذات ليلة �أخذت معها البالطو الأحمر ‪ ..‬والم�شط‬ ‫وال�شريط لكي ت�ضفر لها �ضفيرتها قبل الذهاب للمدر�سة ‪..‬‬ ‫كانت (خ�ضرة) تحكي لأمي الباكية ‪ ..‬ولم أ�كن أ��صدقها ‪ ..‬ألنني لم‬ ‫�أ�صدق �أ�صل ًا �أنها ماتت ‪ ..‬و أ�نهم دفنوها حية ‪..‬‬ ‫ل آلن ‪ ..‬لم ي�ستطيع الم�شايخ أ�و الأطباء أ�ن يعرفوا �سر �صراخي في‬ ‫ن�صا�ص الليالي لفترة طويلة و�أنا نائم ‪..‬و �سر انتفا�ضي المذعور مرعو ًبا مما‬ ‫يحدث تحت ا ألر�ض ‪ ..‬و أ�نا أ��صف لهم ما أ�قابله هناك من عفاريت وبغال‬ ‫لها قرون وكلاب متوح�شة ‪ ..‬ومردة بعين واحدة ‪..‬‬ ‫‪68‬‬

‫ك�سر الخبز من ال�صينية أ�و من على الطبلية ‪ ..‬تفعل ذلك �ضاحكة ‪:‬‬ ‫‪ -‬اللي يلم �سبع لقمات ‪ ،‬يبقي له في الجنة قيراط ‪..‬‬ ‫لم �أكن �أعرف عمن �أخذت هذا الن�شيد العالي الهدف ‪ ..‬المحكم‬ ‫ا إليقاع ‪ ..‬زمان ‪ ..‬كانت بنت النجارين التي جاءت لتعمر المقعدين‬ ‫الحديثين فوق الدار القديمة تغني ‪:‬‬ ‫‪� -‬أنا المقعدين و أ�مك و�سط الدار ‪..‬‬ ‫�أ�صبحت لا تكف لحظة عن عمل �شيء يحتاج البيت له‪ ..‬فهي تكن�س‬ ‫وتغ�سل وتطبخ ‪ ..‬وترفو وترقع وتطبق وتنظم وتنقي الغلة وت�سفح الرز‬ ‫وترتق القطوع والتمزقات وما �أكثرها في ثياب من لا يكفون عن الحركة‬ ‫‪ .‬وتروق الماء ‪ ..‬لكنها لم تخرج لتجلبة فهي �ست البيت ي�أتي إ�ليها دائما‬ ‫من ي�ساعدها ‪ ..‬إ�ذا ما �أحتاج الأمر ‪ .‬كانت تعتبر البيت مملكتها ‪ ،‬لذلك‬ ‫ن�ش�أنا أ�نا و إ�خوتي ال�صبيان قبل البنات نقد�س البيت ‪ .‬وندفع من أ�رواحنا‬ ‫و�أنف�سنا و أ�مزجتنا بل وحتى طموحاتنا ونزواتنا في �سبيل تدعيم أ��س�س‬ ‫البيوت التي �صنعناها ب�إراداتنا الحرة ‪� ..‬أو ب�إرادتنا المهتزة الم�ضطرة – تحت‬ ‫�ضغط ظروف �أو عواطف أ�و تطورات جبرية في م�سارات حياتنا القدرية ‪.‬‬ ‫‪� -‬شوف يا ابني �أنا اللي عملته ب إ�رادتي ‪ ،‬لا يمكن اتنكر له أ�و أ�رجع‬ ‫عنه‪ ..‬وع�شان كده اطمن فيه حاجتين م�ستحيل لو على رقبتي أ�رجع‬ ‫عنهم‪ ..‬أ�نا خلفتكو بعد ما اتجوزت أ�مك ب إ�رادتي الحرة ‪ ..‬وما حد�ش‬ ‫جندني لل�شيوعية ‪� ..‬أنا رحت لها برجليه �أو هي اللي اتعرفت ف ّي على‬ ‫راجلها ‪ ..‬ع�شان كده ما تقلق�ش ده قدر وم�صير ‪.‬‬ ‫كنت �أقول هذا على طريقة �أمي ال�ساخرة ال�ضاحكة ‪ ..‬حتى لو كانت‬ ‫المنا�سبة لا �ساخرة ولا �ضاحكة !!‬ ‫‪71‬‬

‫قل ‪� :‬أعوذ ‪..‬‬ ‫‪ ‬كانت أ�مي تقول لنا ووجهها ي�ضحك‬ ‫بعد كل أ�كلة ‪:‬‬ ‫‪ -‬ي�ستغفر ا إلناء للاعقه‬ ‫وهو قول يكاد يرتقي لديها �إلى درجة الحديث‬ ‫القد�سي ال�شريف ‪ ..‬وان لم تقل لنا �أب ًدا من هو قائله‬ ‫�أو ناقله ‪ ..‬تركتنا نفهم �إن مثل هذا القول النا�صح‬ ‫الف�صيح ‪ ،‬لابد �أن تكون له علاقة ما بالقيم النبيلة ‪.‬‬ ‫تعلمنا – كلنا بنات و أ�ولاد – الحر�ص على‬ ‫عدم �إلقاء بقايا الطعام �أو �إهمالها ‪ ..‬لم يكن بخل ًا‬ ‫�أو حر ً�صا ولكن �إحترا ًما وتقدي ًرا للنعمة وللقيمة‪..‬‬ ‫قيمة العمل ا إلن�ساني المتج�سد في اللقمة والك�سرة ‪،‬‬ ‫وقيمة ال�شكر ال�ضروري لل�سماء ولعبد الباقى على‬ ‫الرزق الحلال ‪ ..‬كانت تجعلنا – وتدفعنا لأن نجمع‬ ‫‪70‬‬

‫أ�بدا ‪ ..‬ال ُك ُ�شك مر�صو�صة فيه بطرمانات وبلالي�ص وزلع الم�ش والجبنة‬ ‫والزيتون ا ألخ�ضر واللفت ك ِّل في مو�سمة ‪..‬‬ ‫‪ -‬طبق مخلل يا�ست ( أ�م �سمير) ‪..‬‬ ‫لم يكن ينقطع العطاء ‪ .‬وكنت �أعرف �أن طبق المخلل هذا قد يكون‬ ‫الغذاء الوحيد المتاح للعائلة التي أ�ر�سلت ر�سولها ( ألم �سمير) ‪ ..‬و أ�حيا ًنا لم‬ ‫يكن ا ألمر بحاجة �إلى ر�سول أ�و مر�سال ‪ ..‬فكم أ�ر�سلتنا �أنا أ�و إ�خوتي ‪..‬‬ ‫ب�أطباق مغطاة م�ستورة بقطع القما�ش إ�لى بيوت عديدة كلما كان القلب‬ ‫عمران والإيد طايلة والخير فاي�ض ‪..‬‬ ‫و�أنا أ�و �أي من أ�خواتي ‪ ..‬كلهم ي�شهدون وكلهن ي�شهدن ‪� ..‬أننا‬ ‫في ظل (علية) و (عبد الباقي) �أو (عبده أ�فندي) لم ن�شعر بالحاجة للأ�شياء‬ ‫المادية على ا إلطلاق ‪ .‬فقد كان �أبي رغم محدودية الحال ‪ ..‬قاد ًرا على توفير‬ ‫كل ما هو �ضروري ‪ ،‬بل واكثر بف�ضل ( أ�م يو�سف) وتدبيرها الذي جعلنا‬ ‫جميعا نبحث عن حاجات �أخري غير �ضرورات الحياة ‪ ..‬حاجات أ�كثر‬ ‫روحية ‪ .‬جعلتنا �أحرا ًرا لنا أ�حلام ا�سمي قليلا من الواقع المر المادي – كنا‬ ‫ب�سببها مختلفين ‪ ،‬غير محبو�سين في مطالبنا �أو احتياجاتنا المادية الذاتية ‪..‬‬ ‫كنا نح�س وك أ�ننا م�سئولين عن الدنيا وما فيها ‪ .‬وهو �شعور يعرف‬ ‫عذاباته كل من �أحب ا إلن�سان في تجلياته ‪ .‬أ�و اهتم بهموم ا آلخرين ‪..‬‬ ‫لم يكن أ�بي يدخل البيت و إ�يده فا�ضية على الاطلاق ‪ ..‬حتى لو كان‬ ‫ما يحمله مجرد حزمة فجل �أو كرات ‪..‬‬ ‫عودنا �أن ن�أكل الخ�ضار الطازج مع كل طعام ‪� ،‬صبحا وظهرا وم�ساء‬ ‫‪ ..‬عودنا أ�ن ن�أكل معا �أو هي عودتنا ‪� ..‬أخ�ضعت الظروف لكي تنتظم‬ ‫طقو�س اجتماعنا معا على ا ألكل ‪ ..‬كانت تري لذلك أ�همية الحياة نف�سها‪..‬‬ ‫‪73‬‬

‫ما الذي جاء بهذا ال�سياق ليقطع حديثي عن (الفقدان) ‪ ..‬؟‬ ‫ب أ�لام�س أ�غرتني �شوربة الأرنب أ�ن �أ�صنع ملوخية ‪ ..‬فتحججت‬ ‫لنف�سي ب أ�خذ التلفزيون المعطل إ�لى (ال�ضبعة) وكان يوم ال�سوق ‪ ..‬وعدت‬ ‫ومعي بطيخة وعرق ملوخية خ�ضرا ‪ ..‬قطفت وغ�سلت ون�شرت وخرطت‬ ‫وف�ص�صت توم وط�شيت الملوخية ‪ ..‬و أ�نا أ�تذكر طول الوقت أ�مي ‪..‬‬ ‫و�أكلت‪ ،‬و�أنا �أ�ستح�ضر ذكراها وف�ضلها على قدرتي �صنع �ألذ طبق ملوخية‬ ‫– بلا فخر ‪.‬‬ ‫هي التي علمتني ما جعلني �أحتمل الغربة وال�سجن والوحدة ‪،‬‬ ‫و أ��ستخدم يدي في مهارة في �صنع ع�شرات ا أل�شياء ‪ .‬أل�ستطيع و�أطيق الحياة‬ ‫لمدة تلاتين �شه ًرا في زنزانة انفرادية ‪ .‬وقدهم و�سط زحمة الآخرين ‪ .‬لكي‬ ‫أ��ستطيع �أن أ�قيم أ�ودي و�أعتمد على نف�سي ‪ ..‬ولا �أحتاج أ�حدا و�أن �أعطيت‬ ‫معظم وقتي وقوتي وقوتي للآخرين ‪..‬‬ ‫دخلنا في الأنا ‪� ..‬آ�سف ‪ ،‬لكن طر�أ على ذهني فج�أة نوع من المقارنة ‪.‬‬ ‫ال�شاعر (فلان) ما كان�ش يعرف بنته ف �سنة إ�يه !‬ ‫ال�شاعر الكبير اللي (على الح ِجر) من �صغره ‪ ،‬عمره ما غ�سل مواعين‪.‬‬ ‫حتى في ال�سجن كان بيتخانق للهرب منها ‪.‬‬ ‫لذلك �أحمدها وا�شكر ف�ضلها (ال�ست �أم يو�سف) فقد ربتني‬ ‫ف�أح�سنت تربيتي ‪ .‬عندما �أعود من الخارج و أ�كون قد �أكلت مع �أ�صحابي‪..‬‬ ‫‪ -‬يا ابني كل ‪( ..‬قوت البيوت ما يقوت)‬ ‫�أو تت�ضاحك ظنا منها أ�نني �أعاف الأكل ‪ ..‬دلعا أ�و بطرا ‪:‬‬ ‫‪ -‬يا (قي�س) كل م ّما ‪ ..‬ا ألم يا (قي�س) ‪ ..‬لا تطبخ ال�ُّسما ‪..‬‬ ‫ف�أجاملها و آ�كل على �شبع و أ�مري لله ‪..‬‬ ‫كانت �ست مدبرة أ�و ( ِدبَ�أة) تد ّب�أ وتدبر ‪ ..‬البيت لا يخلو من ( ِحوان)‬ ‫‪72‬‬

‫�أحدنا من �شرب ال�شرَّ َبة ‪ .‬كان بع�ضنا يختفي في الك�شك العلوي أ�و تحت‬ ‫ال�سرير �أو يحتج بحاجة عند فلان �أو ترتان ‪ ..‬لكن الحذر لم يكن يمنع‬ ‫القدر‪ ..‬كانت �شربة زيت الخروع �أو ال�سلفات (الملح الإنجليزي) قدرا لا‬ ‫مفر منه‪ ..‬ل�صحة ا ألبدان ‪..‬‬ ‫في نف�س الوقت الذي كان البرميل المزفت جي ًدا ‪ ،‬يرتفع فوق بيتنا‬ ‫معل ًنا �أنه يوجد هنا أ��سلوب حياة مختلف ‪ ،‬وثقافة غير الثقافة ال�سائدة ‪..‬‬ ‫كان (عبده أ�فندي) حري ً�صا على �أن يهيئ لبنت (المعلم يو�سف)‬ ‫ولنف�سه حياة حديثة ‪ ..‬فمن البرميل تمتد ما�سورة مدهونة بال�سليقون إ�لى‬ ‫الحمام ‪ ..‬ويم أل (ظاظا) �أو (حمادة الم�صري) البرميل بانتظام من الترعة‬ ‫وكنت عندما �أذهب لبيوت �أعمامي أ�و �أدخل بيوت بع�ض زملائي ‪..‬‬ ‫ف�أراهم على ال�صبح وهم يط�سون وجوهم بكوز ميه من البلا�ص ‪� .‬أو‬ ‫يمار�سون حياتهم معنا دون غ�سل وجوهم ‪ ..‬تاركين للذباب فر�صة دائمة‬ ‫للخلا�ص من المجاعة التي ت�سببها النظافة – عادي !!‬ ‫ولكن غير العادي هو �أن هذه المميزات كانت ت�شعرني أ�نني أ�قل من‬ ‫الآخرين ‪ ..‬فلم يكن بالي ي�ستريح إ�لا أ�ن �أعود كل يوم �آخر النهار ممزق‬ ‫الجلباب أ�و مطين البيجامة أ�و م�ضيع الحذاء ‪ ..‬في مكان ما ‪ ..‬مخمو�شا‬ ‫مجروحا ‪ ..‬ك أ�ي طفل (لا تهد أ� له حركة) لأواجه قر�صات أ�مي ‪ ،‬وهي تعيد‬ ‫�صياغة هيئتي وتعاتب الزمن على بختها ف َّي ‪..‬‬ ‫كنت �أف ّ�ضل عتابها وعقابها علي �أن يعرف �أبي �شيئا ‪ ..‬لذا كنت‬ ‫�أعمل على تجنب لقائه قدر ا إلمكان ‪ .‬ف إ�ن كان لا يزال في البيت ‪ ،‬أ�خرت‬ ‫عودتي حتى ينام �أو يخرج ل�سهرته المعتادة �أمام دكان (محمود �شطا) ‪..‬‬ ‫ف�إن جاء و أ�نا في الداخل ‪� ،‬سرعان ما �أتعجل النوم و أ�تظاهر بالا�ستغراق فيه‬ ‫‪ .‬كانت �أمي ‪ -‬في الغالب ‪ -‬ت�ساعدني على ا إل�سراع إ�لى الفرا�ش‪ ،‬عندما‬ ‫ت�سمع ما ينبئ بعودة أ�بي ‪ ..‬وكم كان هذا ي�ؤثر ف َّي وي�سعدني ‪ ..‬فهي �سوف‬ ‫توقظني بعد قليل ‪ ..‬ف�أقوم ‪ ،‬متظاه ًرا بالغرق في النوم كي أ��شاركهم طعام‬ ‫‪75‬‬

‫ولن أ�دخل في تفا�صيل ‪ ..‬الخبيز والخزين والطبيخ والحموم والغ�سيل‪..‬‬ ‫ولكن الأهم أ�ن نتعود على ذلك الطق�س الدوري وهو يوم (ال�شرُّ َب)‬ ‫كان أ�بي يجبرنا ‪ ،‬وعلى فترات �شبه منتظمة ‪ .‬أ�ن نتناول جميعنا (�شربة‬ ‫الزيت) أ�و (الخروع) ‪ ..‬الكل بلا ا�ستثناء ‪ ..‬ولم أ�عرف قيمة هذا �إلا بعد �أن‬ ‫كبرت وت�أكدت أ�ن – المعدة بيت الداء ‪..‬‬ ‫�أما الطق�س ال�سنوي الروتيني كل �صيف ‪ ..‬لدرجة أ��صبح معها‬ ‫�أحد هموم الإجازة ‪ .‬هو (تحليل الم�ست�شفي) ‪ ..‬لتناول �شربة (الكربون)‬ ‫لمن يثبت �أن عنده ديدان – وحقن (الطرطير) القا�سية لمن تظهر لديه �آثار‬ ‫البلهار�سيا ‪..‬‬ ‫لماذا كان يفعل ذلك ؟ ‪ ..‬وب إ��صرار وانتظام ‪� ..‬س�ؤال ؟ ‪ ..‬لم �أكن‬ ‫�أطرحه وقتها طل ًبا للإجابة ولكن لأحتج عليه ولكن الفعل ا�ستقر في‬ ‫القلب ‪ .‬وغفرت له ب�سببه أ�نه لم يقل لي – �أو لأي منا مرة ‪ ..‬واحدة ‪..‬‬ ‫( أ�نا بحبك) !!‬ ‫كان على الدوام جه ًما جا ًّدا ‪ ..‬رغم أ�نه لا يملك أ�ي من مقومات‬ ‫الجــهامة �أو الق�سوة ‪ ..‬لهلبني أ�حيا ًنا بع�صا رفيعة ألنه �ضبطني �أ�ستحم‬ ‫في الترعة – وكان هذا مزاجي الملح والدائم ‪ ..‬لدرجة كان يوقع توقيعه‬ ‫المعقد‪ ،‬با�سمه فوق فخذي بالكوبيا ‪ ،‬ليعرف �إن كنت قد قعلتها �أم لا ‪..‬‬ ‫وطب ًعا كم تحايلت وابتكرت من الو�سائل ما يحفظ التوقيع �سليما ‪ .‬لكي‬ ‫أ�مار�س هوايتي ال�صيفية ‪ ..‬و�إن لم ت�سلم الجرة في كل مرة ‪..‬‬ ‫ولكن البلهار�سيا وغيرها لم ت�ستطيع أ�ن تنكد علينا م�ستقبلنا ‪ ،‬كما‬ ‫تفعل عادة للم�صريين الذين عا�شوا في القري ‪ ،‬ولم يتح لهم �أب و أ�م (كعبده‬ ‫أ�فندي) وال�ست (�أم �سمير)‪.‬‬ ‫لم تكن أ�ي حجة �أو و�سيلة للهرب �أو التمنع بقادرة على إ�فلات‬ ‫‪74‬‬

‫‪ -‬الله �أر�سل الوحي وحدثه بما �سيكون ‪ ،‬ولذا �أمره ببناء ال�سفينة ليلج�أ‬ ‫إ�ليها مع الم�ؤمنين ‪ ،‬عندما يكون الطوفان ويحل غ�ضب الله‪..‬‬ ‫‪ -‬وهل كان الوحي ينزل للنا�س ‪ ..‬ويكلمهم هكذا عيني عينك ‪.‬‬ ‫‪ -‬يتحدث ل ألنبياء والر�سل فقط يا ثرثار ‪.‬‬ ‫‪ -‬وكيف يعرفون أ�ن هذا كلام الله ‪ ..‬ولي�س َو ّزة �شيطان ‪ ..‬هل‬ ‫الأنبياء يعرفون �أنهم أ�نبياء‪..‬؟‬ ‫‪ -‬ا ألنبياء يعرفون عندما تحدثهم �أنف�سهم بما أ�وحى به الله �إليها ‪..‬‬ ‫‪ -‬وكيف �أعرف �أنا أ�ن ما تحدثني به نف�سي وزة �شيطان ‪ .‬ولي�س كلا ًما‬ ‫من عند الله ‪.‬؟‬ ‫‪ -‬قالت خالتي ‪..‬‬ ‫‪ -‬نف�سك لا تحدثك إ�لا بكل �شر ‪ .‬ولذلك تم أل قلبك و�سو�سات‬ ‫ال�شياطين ‪� ..‬إ�سكت خلينا ن�سمع ونتعظ ‪.‬‬ ‫‪ -‬لي�س كل ما تحدثني به نف�سي �شر ياخالتي ‪� .‬أنت بالذات تعرفين‬ ‫�أنني عملت خير كثير يجعلك تدعين لي ب�أن يخليني ربنا ‪ ..‬ويحميني من‬ ‫كل �شيطان‬ ‫توتر الجو ‪ ،‬وتبادلت خالاتي النظر المتوج�س ‪ .‬فل�ساني على ما بدا‬ ‫�سوف يفلت كالعادة ‪ ،‬و�ست�سوء العاقبة بالت أ�كيد ‪ ..‬ولكن �ضحكات الخال‬ ‫ال�شيخ غطت على كل الو�ساو�س ‪ ..‬عندما �أخذني في ح�ضنه ‪ ..‬وهو يتمتم‬ ‫ويتلو وقال ‪:‬‬ ‫‪ -‬يا �إبني و�سو�سوة ال�شيطان لا تكون �إلا بال�شر ‪ ..‬ووحي الله لا ينزل‬ ‫�إلا على ا ألنبياء والر�سل والم�صطفين ‪..‬‬ ‫‪ -‬إ�ذن أ�نا (م�صطفى) يا خال ‪..‬‬ ‫�شهقت خالاتي في وقت واحد رع ًبا ‪..‬‬ ‫خالي ال�شيخ نظر إ�ل َّي في ده�شة ‪ ،‬أ�لحقها بب�سمة حانية غمرتني بالأمان‬ ‫فقلت ‪:‬‬ ‫‪77‬‬

‫الع�شاء ‪ ..‬و أ�تحمل الزغرة أ�و ال�شخطة الم ؤ�كدة أ�و الوعيد المنتظر ‪ ،‬عقا ًبا على‬ ‫�شيء ما ممنوع م�ؤكد �إنني فعلته‪ ،‬أ�و ذنب ارتكبته ‪ .‬و أ�بلغ عنه �أحد (�أولاد‬ ‫الحلال) ‪ ..‬وكان والدي غال ًبا ما ي�ؤجل ما ت ؤ�جله �أمي من عقاب ‪ ..‬لين�سى‬ ‫بعدها �أو ليتنا�سى التنكيد عل َّي �أو التنكيل بي ‪ ..‬فا ألكل له حرمة ولا يجوز‬ ‫ال�ضرب على الطعام ‪ ..‬وكان لهذا في قلبي عرفان كبير لف�ضل تعاليم ال�سماء‬ ‫التي تطبقها أ�مي ‪ ،‬والتي تميل �إلى جانب الرحمة لا العذاب !‬ ‫وتف ّ�ضل الغفران على العقاب !!‬ ‫تلك ال�سماحة ‪ ،‬بالت أ�كيد ‪ ،‬هي التي كانت وراء جر أ�تي يوم �ضحكت‬ ‫من �أعماق قلبي عندما قال خالي ال�شيخ (�إبراهيم) ( إ�ن الله �أمر �سيدنا (نوح)‬ ‫أ�ن يبني �سفينته في ال�صحراء لا على �شاطئ البحر !)‪..‬‬ ‫قلت ببراءة ‪:‬‬ ‫‪ -‬هل لهذا �سموا الجمل �سفينة ال�صحراء !‬ ‫قر�صتني �أمي قر�صة موجعة ‪ ..‬بينما زغرت خالتي (�سميرة) زغرة‬ ‫حادة بعـينها الوحيدة ‪ ،‬وهي تكاد تبت�سم ‪ .‬فبدت م�ضحكة‪ ،‬ولكني‬ ‫كتمت �ضحكتي ألن ال�شيخ ( إ�براهيم) على عك�سهم ابت�سم في وجهي‬ ‫ب�سمة حانية ومل�س على �شعري الناعم بيده المرتع�شة وهو يقول ‪:‬‬ ‫‪ -‬ما �شاء الله ‪ ..‬طول عمرك م�سحوب من ل�سانك ‪ ..‬على كل حال‬ ‫لقد �سخر منه قومه مثلك ‪ ،‬وقالوا (هل �ستجعلها تعوم في بحر الرمال يا‬ ‫نوح) لكن نوح طب ًعا كان يعرف ما �أوحى به الله �إليه ‪ .‬ويعرف �أن �سيبلغ‬ ‫بها البحر عندما يريد الله ‪..‬‬ ‫‪ -‬كيف خ َّمن نوح أ�مر الله ‪..‬‬ ‫‪ -‬الله أ�وحى به إ�ليه ‪ ..‬ا ألنبياء لا يخمنون يا �شقي ‪..‬‬ ‫‪ -‬كيف ؟ أ�لم ن�سميهم أ�نبياء لأنهم يتنب�أون ‪ ..‬يخمنون !!‬ ‫‪76‬‬

‫�أقذفه بالطوب و أ�لعن أ�بــوه �أو �أقتله ‪ ..‬ولكني لم �أ�ستجب لل�شيطان فلو تنبه‬ ‫لي لقتلني هو ‪.‬‬ ‫�أخذت �أبكي وقلبي يتقطع حز ًنا عليها ‪ ،‬وح�سرة على �ضعفي وجبني‬ ‫‪ .‬عندما تعب من �ضربها ‪ ..‬تركها لاعنا ‪ ..‬وهو ي�صرخ مهددا أ�نه �سيعود‬ ‫لها ‪ .‬ف�أذان الع�صر قد حان وعليه �أن ي�سرع ليمتطي مئذنة الجامع لكي ي ؤ�ذن‬ ‫وي�ؤم النا�س لل�صلاة ‪� ..‬سوف يفعل ذلك ب أ��سرع ما يمكن ‪ ،‬ليطين عي�شتها‬ ‫وي�ضلم م�ساها وي�ّسود ليلها ‪..‬‬ ‫كاد يب�صرني عندما ا�ستدار ‪ ،‬لكنه انهمك في �إعادة الكرباج إ�لى‬ ‫الجدار ‪ .‬ف�أبتعدت عن مدي ب�صره واختب�أت خلف إ��شولة الرز ال�شعير التي‬ ‫يجمعها لقاء خدماته للجامع ‪� ..‬إلى أ�ن خرج ‪..‬‬ ‫أ��صبحت الحكاية �سيدة الموقف ‪� ..‬صمتوا ‪ ،‬حتى خالتي التي عادت‬ ‫بعد أ�ن اطم أ�نت على أ�حوال ما على النار ‪ ..‬بطرف عيني لمحتها واقفة‬ ‫تن�صت لما أ�قول في �شغف ‪ ،‬وقد ن�سيت خوفها من أ�ن ت�ؤدي ثرثرثي �إلى‬ ‫ك�شف بع�ض ما بيني وبينها من أ�مور و أ��سرار ‪ .‬ولما ت أ�كدت �أن حكايتي عن‬ ‫واحدة �أخرى اطم أ�نت قليل ًا ‪ ..‬بينما ا�ستمر خالي يتمتم وهو يحرك حبات‬ ‫الم�سبحة في ع�صبية ‪..‬‬ ‫‪( -‬لا حول ولا قوة �إلا بالله ‪ ..‬الله لا إ�له �إلا هو)‬ ‫‪ -‬ولما �أخوها خرج و�أغلق الباب بالمفتاح علينا ‪ ..‬ت�سللت �إليها ‪.‬‬ ‫كانت مكومة في ركن الحو�ش الداخلي المظلم لدرجة أ�نني لم اتبين �ضياء‬ ‫ج�سدها المك�شوف في الظلام الذي �شمل المكان ‪ .‬فركت عيني و أ�نا أ�ناديها‬ ‫‪ ..‬ف أ�رتعبت ‪ ..‬غطت فخذيها المرمر ولما لم يفلح الممزق في �سترها لمت قبة‬ ‫قمي�صها الم�شقوق بين كفيها و�صرخت‬ ‫(مين ؟‪ )..‬وك أ�نها ت�سال ( إ�ن�س وال َّا جن ؟) ‪ ..‬طمنتها أ�نه �أنا‪..‬‬ ‫‪79‬‬

‫‪ -‬أ�نا �أ�سمع الله ي أ�مرني كثي ًرا أ�ن �أفعل �أ�شياء كثيرة ‪� .‬أح�س �أنه يكلمني‬ ‫ويو�صيني بفعل �أ�شياء لا أ�عرف هل هي طيبة �أو �شريرة ‪..‬‬ ‫�ساد ال�صمت ي�أ�ًسا من إ�يقافي عن الكلام دون تعكير �صفو القعدة ‪..‬‬ ‫خالتي (�سميرة) قالت ‪:‬‬ ‫‪� -‬س أ�قوم ألرى ما على النار ‪.‬‬ ‫وظلت خالتي (بدر) تنظر في عيني مبا�شرة في حدة وعتاب راجية‬ ‫مني ال�صمت حتي لا �أتورط في مناطق محرمة لكنني كنت مدفوعا كمن‬ ‫تجبره قوة قاهرة على الكلام ‪..‬‬ ‫‪ -‬لقد �أمرني �أن �أطيب خاطر (زهزهان) و�أم�سح دموعها ب�شفتي ‪،‬‬ ‫عندما �ضربها أ�خوها �أم�س بالكرباج وبهدلها ‪..‬‬ ‫فوجئوا ‪ .‬ف�سكتوا جمي ًعا م�شدوهين ‪ ..‬و أ�نا �أوا�صل ك�أن أ�ح ًدا غيري‬ ‫يتحدث بل�ساني ‪..‬‬ ‫‪� -‬أنا ر أ�يته ‪ .‬كان ي�شدها من �شعرها ‪ ..‬وي�سحبها على ا ألر�ض‪.‬‬ ‫كانت تتلوي بين يديه النا�شفة كطفلة �صغيرة ‪ .‬مع �أنها كجنيات الحواديت‬ ‫‪ .‬كانت ترجوه �أن يتركها دون جدوي‪ ..‬وهو يلعنها ويركلها ‪ ،‬وي�صرخ‬ ‫فيها لأنها خالفت �أمره ووقفت خ ْلف الباب الموارب ‪ ،‬كعادتها تنظر �إلى‬ ‫ال�شارع ‪ .‬هذه المرة فاج أ�ها ‪ ،‬فلم تجد فر�صة للهرب �أو لإغلاق الباب‬ ‫‪ ..‬جرها على طول أ�ر�ض الحو�ش حتى عراها ‪ .‬وك�شف ن�صفها الأ�سفل‬ ‫كله ‪ .‬وهو ي�ضرب ويزغد ثم ينحني ليوقفها ويعود يدفعها لتنكفئ على‬ ‫وجهها‪..‬‬ ‫�أخذت أ�بكي ‪ .‬و�أنا أ��شاهده من بعيد ‪ .‬كوح�ش هائج تناول الكرباج‬ ‫الذي يعلقه على الجدار ‪ .‬والذي لا يجر�ؤ أ�حد على لم�سه حتى في غيابه ‪.‬‬ ‫هو فقط ‪ ،‬عندما يريد �أن ي�ؤكد �سلطانه ‪ ..‬كان ال�شيطان �ساعتها يو ّزني �أن‬ ‫‪78‬‬

‫قال ال�شيخ �إبراهيم فز ًعا ‪:‬‬ ‫‪ -‬هذا الولد مم�سو�س ‪ ..‬وعلينا أ�ن نرقيه با�سم الله الأعظم ‪..‬‬ ‫ب�سرعة �أح�ضرت خالاتي ‪ -‬وكانتا �صديقتين حميمتين لزهزهان ‪-‬‬ ‫البخور ‪ .‬وذهبت التي تراقب ما على النار ف�أح�ضرت المنقد ‪ ،‬وبه جمر من‬ ‫خ�شب التوت المتوهج ‪� ..‬ألقى خالي ببخور مبروك لديه ففاحت رائحة‬ ‫�ساحرة ‪ ،‬وغامت الحجرة بالدخان ‪ ..‬وهو يتمتم ويربت ويم�سح على‬ ‫ر أ��سي وج�سدي با�سم الله ا ألعظم ‪ ..‬حتى نمت و�سـندتني خالتي الكبرى ‪،‬‬ ‫و�أرقدتني في الفرا�ش ‪ ..‬وهي تبت�سم لأنني لم أ�حك حكايات أ�خرى كانت‬ ‫هي طر ًفا فيها ‪ .‬و�سمعت �صدى �صوتها من بعيد ‪ ،‬ك أ�نه ي�سري بين جدران‬ ‫كهف �سحيق تدعو الله أ�ن ي�سترها معي ‪ -‬دنيا و آ�خرة ‪..‬‬ ‫•••‬ ‫‪81‬‬

‫فانفجرت في البكاء ‪ ..‬بينما ج�سمها يتنف�ض من ا أللم والخزي ‪ ..‬مددت‬ ‫يدي خائفا مبهورا �أربت عليها ‪� .‬شعرت بق�شعريرة تغمرني عندما‬ ‫أ�ح�س�ست ارتعا�ش ج�سدها تحت يدي‪ .‬أ�خذت �أبكي و أ�نا �أقول لها ‪( ..‬ما‬ ‫تزعلي�ش ‪ ..‬حقك عل َّي أ�نا ‪ ..‬ما اقدرت�ش أ�حو�شه) كانت دموعها ت�سيل‬ ‫على خديها الوردتين في �صمت ‪ ،‬وهي تنظر لي في ده�شة ‪ ..‬ربنا قال‬ ‫لي‪ ،‬إ�ن أ�تقدم منها و أ�ح�ضنها ‪ ،‬ثم أ��شرب دموعها كطفل ير�ضع حليب الأم‬ ‫لأول مرة ‪ ..‬ووجدتني �أفعلها و�أعتذر لها و أ�نا أ�لهث ‪ ،‬ك أ�نني �أنا الذي‬ ‫�ضربها ‪ ..‬غمرتني عيونها بنظرة حنان وعرفان حزينة ‪ .‬ثم مالت بر�أ�سها‬ ‫عل َّي وا�ستكانت في حجري ‪ .‬وهي ت�ستعيد �أنفا�سها اللاهثة وتهد�أ كطفلة‬ ‫�صغيرة ‪ .‬ثم بد أ�ت تهدئ حزني وتوا�سيني ‪ ..‬وهي تقول ‪..‬‬ ‫‪� -‬شفت �شفت بيعمل ف َّي إ�يه ؟‬ ‫و أ�نا أ�قول لها ‪..‬‬ ‫‪ -‬حقك عل َّي ‪ ..‬حقك عل َّي ‪ ..‬أ�نا ح اقتله ‪..‬‬ ‫و أ�خذت أ�هننها كطفلة و أ�هدهدها حتى نامت ‪� ..‬أي والله العظيم‬ ‫‪ ،‬نامـت على �صدري ‪ ،‬ولم أ�جر ؤ� على �إيقاظها ‪� ..‬صعبت عل َّي ‪ ..‬كنت‬ ‫م�سحو ًرا م أ�خو ًذا ولما �شممت ل�شعرها رائحة العنبر بكيت ‪ .‬وخفت أ�ن‬ ‫يطلع على العفريت ‪ ،‬ويفاجئني معها فيقتلني دفاعا عن �شرفه ‪ ..‬وماذا‬ ‫�سيفعل أ�خوها لو �أنه عاد فج�أة ا آلن من �صلاته ليجدها نائمة �شبه عارية في‬ ‫حجري‪ ..‬وهو الذي جلدها لأنها ب�صت من فرجة الباب ‪.‬‬ ‫ولما تعبت من التفكير والخوف نمت أ�نا الآخر محت�ضنا ج�سدها ولم �أدر‬ ‫�شي ًئا ‪ ..‬ولا أ�عرف حتى ا آلن كيف نجاني الله من هذا الموقف ‪ ..‬لكنه فعل‬ ‫فهو قادر كل �شيء ‪ ..‬هو بالت�أكيد الذي أ�مرني أ�ن �أم�سح دموعها ب�شفتي ‪..‬‬ ‫و أ�مرني أ�ن أ�خرج في الوقت المنا�سب ‪ ..‬نعم ‪ !.‬لابد أ�ن الله �أوحي لي ودلني‬ ‫على �سبيل للخروج ‪ ،‬ووجد طريقة لانقاذي !‬ ‫‪80‬‬

‫من مختلف الأجنا�س ‪� ،‬ستنق�ض فوق ر أ��سه ما بين لحظة و أ�خري ‪ ..‬هذا‬ ‫أ�ن لم يخرج عليه بع�ضهم فج أ�ة ير�شقه بالح�صي ‪ ..‬أ�و يم أل عينيه بتراب‬ ‫النار الحامي ‪ ..‬في�سرع الخطو ويقر أ� في �سره آ�يه (الكر�سي) ‪ ،‬لو كان لا‬ ‫يزال يتذكرها �أو يكتفي بالب�سملة ‪ ..‬ولا يفتح عينيه إ�لا عندما يعبر تلك‬ ‫الكثافة المح�سو�سة ‪ ..‬التي ينفتح المدى بعدها حتى الأفق ‪ ،‬مطل ًقا ا ألعين‬ ‫المحروقة من بلل الخوف �إلى رحابة الأمان عبر الجرن الكبير الذي يمتد‬ ‫�شمال ًا على يمينه حتى كرمة العنب البز المتبقية من ب�ستان العز القديم الذي‬ ‫خربته ا أليام ‪ ..‬كرمة عجوز م�ستندة في وهن إ�لى جدار وحيد تبقي من‬ ‫الدوار ‪ ،‬م�صلوب معها على ب�ضعة أ��شجار كافور عالية ‪ .‬و�شجرة توت‬ ‫حب�ش وحيدة اتخذتها قبائل لا ح�صر لها من الحدادي والغربان وع�صافير‬ ‫الدوري الثرثارة مرت ًعا ‪ ..‬فلم تترك ألحد من الأطفال فر�صة �أن يت�أكد �إن‬ ‫كانت تلك الكرمة الهائلة الم�سيجة يمكن أ�ن تثمر حبة عنب واحدة ‪..‬‬ ‫وبعيد مقام ال�شيخ القديم المنهار والدوار ‪ ،‬ينتهي الدغل مبا�شرة ‪.‬‬ ‫وينقطع عرق الخوف ‪ ،‬لتملأ العين على طول ا ألفق الغربي وفيما وراء التل‬ ‫‪ ،‬بحيرة الخ�ضرة الن�ضرة ت�شكل كتلة هائلة من اللون الف�ضي وا ألخ�ضر بكل‬ ‫�ألوانه ‪ ،‬ومن الظل الطري الغام�ض الذي ي�أ�سر العين ‪ ..‬يدفع المنحدر من‬ ‫التل للإندفاع عبر معبر ومدار �ساقية (زيدان) في مرح ‪ ،‬ليغرق نف�سه في‬ ‫الأح�ضان الغ�ضة لع�شرات من �شجرات التوت الأ�سود والحب�شي وذكورها‬ ‫ال�ضخمة وعدد من �أ�شجار الجميز الهائلة وال�صف�صاف �شعر البنت المتدلي‬ ‫على الماء ‪ ،‬تتخللها أ��شجار النخيل البا�سقة من (ح ّياني) و (بنت عي�ش)‬ ‫تكون في مجموعها ‪ ..‬ما كان يعرفه الطفل في تلك ا أليام الخوالي (بغيط‬ ‫ال�سباخ) ‪..‬‬ ‫هناك ينحني البحر القديم في اكثر �أجزائه ات�ساعا ‪ ،‬نحو ب�ستان‬ ‫‪83‬‬

‫في عين َح ِم َئة‪..‬‬ ‫‪ ‬في الغرب من (ميت �سل�سيل) و�إذا يم ّمت‬ ‫وجهك �شطر مغرب ال�شم�س ‪ ،‬لابد �أن تمر على تل‬ ‫(�أبو مجاهد) هناك كانت تنمو على �سفحه �أدغال‬ ‫كثيفة من البو�ص ‪ ،‬على امتداد البحر القديم ‪� ،‬أطلق‬ ‫عليها ا�سم (غابة أ�بو مجاهد) حيث تنحدر ا ألر�ض‬ ‫انحدا ًرا �شدي ًدا نحو الماء ال�ضحل ‪ ،‬فلا تترك فر�صة‬ ‫للعابرين �سوي (مدق) ر�صفته �آلاف الأقدام العارية‬ ‫الم�شققة والمرتدية ال ُبلغ القديمة ‪ ،‬وا ألحذية‪ .‬وحوافر‬ ‫حمير ال�سباخ والبقر وجوامي�س الحرث ‪..‬‬ ‫يخيل للطفل ال�سائر و�سط الغابة �إذا رفع ر�أ�سه‬ ‫لل�سماء من بين �شوا�شي البو�ص العالية ‪ ،‬التي ت�شبه‬ ‫ذيول ثعالب تعابثها الريح ‪� ..‬أن بقايا جدران المقبرة‬ ‫القديمة المهدمة ‪ ،‬التي ي�سكنها �شيخ مجهول الن�سب‬ ‫من ا ألولياء القدماء ‪ ،‬ت�شاركة فيها جنيات وعفاريت‬ ‫‪82‬‬

‫(طوبه ف�ضة وطوبه دهب) ‪ ..‬أ�ما (ميت �سل�سيل) نف�سها ‪ ..‬ف�سوف آ�مر‬ ‫خدم الخاتم ببنائها وغر�سها كما الجنة الأولى ‪ ،‬التي كانت بها قبل أ�ن يتبطر‬ ‫أ�حد (الأخوين) ويكفر بالنعمة فلا يقول (ما �شاء الله لا �إله إ�لا الله) وهو‬ ‫يدخل جنته فخ�سف الله بها ا ألر�ض ‪ ..‬كما ورد في الكتب عن �سالف‬ ‫الأزمان ‪� .‬س�أعيدها ‪ ..‬نعم ! ولن أ�ن�سي �أن اتعوذ و�أ�س ّمي با�سم الله لتظل‬ ‫جنة كلها ورد وتوت ‪ ..‬وكمثري ‪ ..‬و�سوف تكون َع ْملة كبيرة ج ًدا ‪..‬‬ ‫ي�ضطرون لكتابتها با�سمي في كتب المدار�س ‪!..‬‬ ‫ي�سخر الاولاد مني كلما حكيت ذلك ‪ ..‬ولكنهم لا يملون ال�سماع‬ ‫لي بلهفة و�شغف ‪ ..‬إ�لى أ�ن �أنفعل ب�سبب غيرتهم وجهلهم بالتاريخ‬ ‫وبالأ�ساطير التى تملأ الكتب التى در�ست وقر�أت ‪ ..‬ويتغير �صوتي و�أنا‬ ‫�أ�صف لهم ما ر�أيته تحت الماء من أ��سماك ملونة ‪ ..‬وحيتان تتحدث بلغات‬ ‫الب�شر ‪ ..‬وق�صور من المرجان الملون فير�شني (ح�سن العربي) بالطين الر َوبة‬ ‫‪ ..‬وتدفعني (�أنعام) ناحية الغرق وهي ت�ضغط بكل ثقلها على �أكتافي‬ ‫لتغط�س بي تحت الماء ‪ ..‬لكنهم بعدها كانوا ‪ -‬في كثير من الأحوال ‪-‬‬ ‫يطلبون مني الا�ستمرار في الحكاية ‪ ..‬أ�و يملون ‪ .‬فنخرج عراة نجري ‪� ،‬إلى‬ ‫حيث مرب�ضنا وملاب�سنا في ظل جدار دوار الغنم الغربي ‪ ،‬فنرتديها بعد �أن‬ ‫نجفف �أنف�سنا في ال�شم�س ‪ .‬ونتفرق جائعين تحت النخيل ‪( ،‬ح�سن العربي)‬ ‫و (�صلاح) يت�سللان �إلى الب�ستان في غمو�ض و( أ�نعام) تراقب الطريق لهما‬ ‫ولنا ‪� ..‬أت�سلل أ�نا و ( أ�وطان) لن�سرق علنا كيزان الذرة الخ�ضراء من حقلنا ‪..‬‬ ‫بينما ينهمك بقية الاولاد والبنات في جمع البلح المت�ساقط على الج�سور‬ ‫وفي بطن المراوي ‪..‬‬ ‫نقفز في مهارة القرود وال�شياطين عبر الجدار ‪� ،‬إلى دوار الغنم الخالي‬ ‫‪85‬‬

‫الفاكهة الذي تيقي من ثلاثة ب�ساتين كانت قائمة ‪ ،‬ت�شكل �سمة هذه‬ ‫المنطقة التي تعرف (بالزنئورة) التي كان اعتقاده الم ؤ�كد – عندما ي�صعد‬ ‫فوق �سطوح بيتهم قبيل المغرب في رم�ضان – أ�ن �صوت (حماده) حين‬ ‫يرتفع بالآذان ‪ ،‬كان ي�صرح لل�شم�س أ�ن تغط�س في هذا المكان بال�ضبط ‪،‬‬ ‫ويباركها ‪ ..‬ويحميها من (الم�سحور) ‪ ،‬الذي ي�سكن المنطقة هو وزوجته‬ ‫(جن ّية البلح الأحمر) التي طالما �شاهد طيفها المراوغ أ�ثناء بحثه عن ثمار‬ ‫الجوافة المت�ساقطة في الليل بين أ�عواد الملوخية والحندقوق ‪..‬‬ ‫تلك الجنية التي كان ينتظرها بال�ساعات �أيام الفي�ضان – كي تظهر‬ ‫له �أ�صابعها الم�صبوغة بالدم ا ألحمر كالبلح على �سطح الماء لتغريه بوهم‬ ‫الح�صول عليها ‪ ،‬ثم ت�شده معها �إلى القرار العميق ‪ .‬وت�أخذه �إلى ق�صرها‬ ‫تحت الماء ‪ -‬دون جدوي ‪.‬‬ ‫كانوا يخدعوننا بقولهم �أنها غا�صت إ�لى ا ألبد في بئر الطنبو�شة التي‬ ‫تروي �أر�ض الطير ‪ ،‬ولم تعد تظهر إ�لا للموعود ‪ ..‬ثم قالوا ‪ ..‬لا إ�نها لم‬ ‫تعد ت أ�تي ب�سبب ال�سدود والكباري الأ�سمنتية التي حب�ستها ‪ ..‬ولذا لم تعد‬ ‫تظهر في �أي مكان ‪..‬‬ ‫لكنني كنت أ�حلم أ�نها �ستنجح في �أن تخدعني ‪ ..‬و�س�أنزل �إليها بكل‬ ‫�إرادتي حين أ�ب�صرها ‪ ،‬رغم �أنني مت�أكد �أن تلك ا أل�صابع لي�ست بلحا ‪..‬‬ ‫�س أ�ذهب �إليها و أ�جعلها ت�شدني ألغو�ص �إلى حيث ت�شاء ‪� ..‬سيقولون خطفته‬ ‫الجنية ‪ .‬و�س�أكون �أنا الذي حر�ضتها ‪ ،‬و�سيبكي �أبي ‪ ،‬وقد تموت �أمي حزنا‬ ‫علي‪ ..‬ولكني ‪ ،‬بعد أ�ن أ�عي�ش �سعي ًدا معها متمرغا في العز والحرير ‪،‬‬ ‫بين أ�ح�ضان بنات الحور والجن ّيات‪� ،‬س�أعود بالت�أكيد ‪ ،‬ومعي كنوز الملك‬ ‫(ال�شمردل) �ساعتها يكفكف �أبي دموعه ‪ ..‬ويعود �إليه ب�صره ‪ ..‬وتزغرد‬ ‫�أمي وهي تقر�ش ليمونة المحاياة التي �أح�ضرتها معي ‪ ..‬وابني لها ق�صرا‬ ‫‪84‬‬

‫الكيزان على النار النا�ضجة ‪ ..‬و أ��شتركنا جميعا في تقليبها م�ستمتعين بل�سع‬ ‫النار ألطراف �أ�صابعنا ونحن نتبادل الوحوحوة والت أ�وه ‪..‬‬ ‫حين اقتربت الكيزان من الن�ضج زغرت (عزيزة) لنا وحذرتنا ‪،‬‬ ‫وهي ترفع ع�صا يحترق طرفها ويتوهج ‪ ،‬مهددة ب�ضرب كل من ت�سول له‬ ‫نف�سه خطف أ�ي منها ‪� ..‬سوف توزع الذرة بالق�سطا�س‪( ..‬بعدل ربنا ‪)..‬‬ ‫فهي التي بقيت لن�سد بها جوعنا المتزايد ‪ .‬وافقنا ور�ضينا جمي ًعا ‪ ..‬لكن‬ ‫رائحة و�صوت ن�ضجها ‪ ،‬كاد يغرينا بتحمل ل�سوعة الع�صا الملتهبة لولا أ�ن‬ ‫(ح�سن العربي) انحاز لر�أيها‪ ..‬وحذرنا وهو يدعونا نحن (الرجال) لل�صبر‬ ‫وانتحى جان ًبا ف أ��سرعنا معه تاركين البنات لا�ستكمال إ�عداد الغذاء ‪..‬‬ ‫�أخرج (ح�سن) كي�ًسا به عدة أ�وراق بفرة و أ�خذ ‪ ،‬بحرفنة ‪ ،‬يلف‬ ‫�سجائره بالدخان الم�صنوع من �شوا�شي كيزان الذرة الجافة ‪ ،‬التي كان يتقن‬ ‫لفها وتدخينها بحذق ومهارة نح�سده عليها ‪ ..‬رغم أ�نها قتلته فيما بعد‬ ‫مبك ًرا بداء ال�سل ‪..‬‬ ‫كنا نراقبه ب�إعجاب وانبهار ‪ .‬وهو ي�شعل طرف ال�سيجارة المبروم ‪،‬‬ ‫وي�شد الأنفا�س باقتدار مطل ًقا �سح ًبا كثيفة من الدخان ‪ ..‬ي�صنع حلقات منه‬ ‫في �إعجاز ‪ ..‬بينما نحن ن�سعل ونكح ونكاد نفط�س من أ�ول �شفطة وتحمر‬ ‫وجوهنا وتزرد وت�سيل دموعنا ‪ ..‬ندوخ ونف�شل في تكرارها ‪ ..‬بينما هو‬ ‫يعايرنا وي�سخر منا ‪ ،‬نحن الذين ن�ستند في �ضعف إ�لى الجدار غائبين عن‬ ‫الوعى �أو نكاد‬ ‫ت�أتي (عزيزة) في غيامة الدخان والدموع توزع علينا ن�صيبنا من‬ ‫‪87‬‬

‫الآن تماما ‪ ،‬حتى �ساعة الغروب موعد عودة الرعاة بالقطيع ‪ .‬هناك ن�ضمن‬ ‫ا ألمان الكامل لنفعل ما ن�شاء دون تدخل أ�ي من الكبار ‪ ..‬حتي لو غلبنا‬ ‫النوم ونحن نلعب عر�سان وعراي�س ‪ .‬لأنهم حين يعودون ف�سوف ننتبه‬ ‫لهم‪ ،‬ون�ستيقظ على �ضجة علب ال�صفيح والأجرا�س المعلقة في رقاب‬ ‫الماعز ‪ ..‬أ�و على هوهوة الكلاب المتعبة من المطاردة فنهرب في لحظات‬ ‫عبر نف�س الجدار ‪..‬‬ ‫جمعنا ح�صيلة ال�سطو والتعب ‪..‬‬ ‫�أفرغ (ح�سن العربي) عبه المنتفخ ‪ ،‬حبتان نا�ضجتان من الرمان‬ ‫الع�سل ‪ ..‬ع�شر حبات جوافة من ذوات القلب ا ألحمر ثمرة كمثري نية‬ ‫خ�ضراء ‪( .‬عزيزة) أ�خرجت �ست كيزان دره ‪ .‬حين ق�شرتها فرحنا و�صحنا‬ ‫‪ ،‬ألنها كانت نا�ضجة مر�صو�صة فيها �صفوف الحبات في انتظام معجز ‪..‬‬ ‫طرية وعز الطلب ‪ .‬وعلى ورقة موز خ�ضراء أ�ح�ضرها (عبد ال�سلام) ‪� ،‬أفرغ‬ ‫الباقون ما في جيوبهم وحجورهم من البلح ‪..‬‬ ‫كانت ح�صيلة هائلة ‪..‬‬ ‫تخاطفنا الثمار حتى تدخلت (�أوطان) ونهرتنا ‪ ،‬وهي تق�سمها‬ ‫بالعدل ‪� ..‬أكلنا ب�شهية ولهفة ‪ ..‬تعفرنا بتراب الدوار المختلط بزبل الغنم‬ ‫ذي الرائحة النفاذة ‪ ،‬حين ت�صارعنا حول قطعة من الجوافة تبقت مع أ�حدنا‬ ‫‪ ..‬ومازلنا جائعين ‪� ،‬أح�ضرت (نوال) حزمة من حطب القطن القديم من‬ ‫فوق عري�شة البهائم ‪ .‬و أ�خرج (ح�سن العربي) كبريته الذي لا يفارقه‬ ‫كمدخن (�أراري) ‪� .‬أ�شعل حزمة من الق�ش الجاف ‪ ،‬دقت النار ف أ�خذنا‬ ‫نهوي عليها حتي �صهرجت وا�ستوت واختلطت طقطقتها بكركرة‬ ‫�ضحكاتنا ‪ ،‬وت�أوهاتنا من ل�سع ال�شرر والدخان ‪ ..‬ر�صت (عزيزة) بحرفنة‬ ‫‪86‬‬

‫ونف�س وما �س َّواها ‪..‬‬ ‫‪� ‬سامحني يا تو أ�م روحي أ�ن تذرعت‬ ‫بالكتابة عنك ‪ ..‬أ�خاف أ�ن أ�كتفى بنف�سي ف�أكذب‬ ‫�أو أ�ج َمل تلك ال�سنين العجيبة وا ألفعال الغريبة‬ ‫والحوادث ذات الأوجة المريبة التي مرت بنا م ًعا‬ ‫منذ �صرخت أ�مي ولفظتني إ�لى هذا الوجود الذي لم‬ ‫�أفهم حتى ا آلن جدواه مع كل المحاولات الد�ؤوبة‬ ‫والفا�شلة لفهم معناه ‪..‬‬ ‫الحديث عنك �سي�سهل ا ألمر عل َّي كثي ًرا ف�أنا‬ ‫�أراك �أكثر مما أ�رى نف�سي ‪ ،‬وهذا �سيجعل الأمر أ�كثر‬ ‫�صد ًقا وواقعية ‪� .‬س أ�ختفي خلف قناعك كما تعودت‬ ‫أ�ن �أفعل دائ ًما لأح�سن الت�صرف ولأكون �أكثر جر�أة‬ ‫‪89‬‬

‫الدرة ‪ ،‬بعد �أن ق�سمت الكيزان بالعدل والق�سطا�س ‪ ،‬لنجترها على مهل‬ ‫‪ ..‬ثم ننام دائخين حيث نحن ‪ ،‬فوق بقايا الغنم الرطبة �سكارى بطراوة‬ ‫الن�سيم في الظلال الغائمة !‬ ‫•••‬ ‫‪88‬‬

‫ال�شيء الخ�شبي الجميل الوحيد ذي القيمة في منزل جدي نجار ال�سواقي‬ ‫‪ ..‬حيث يحتفظ خالي (�إبراهيم) بكتبه العجيبة و أ�وراقه ال�سرية الخا�صة‬ ‫‪� .‬أوحيت لي �أن هناك مفتا ًحا ‪ ،‬بعد محاولاتي الكثيرة لفتحه عنوة ‪ ..‬و�أن‬ ‫المفتاح يخفيه تحت مخدة أ�خته الكبيرة التي لا تعرف القراءة والتي ت�ساعده‬ ‫على الانتقال من مكان لمكان وت�ساعده على النوم وعلى الو�ضوء وعلى‬ ‫الأكل منذ �سقط م�شلول ًا ‪..‬‬ ‫حر�ضتني على تجاوز كتب خالي ‪ ،‬إ�لى تلك الكرا�سة ال�سرية التي‬ ‫تحتوي على مذكراته القليلة ‪ ..‬والتي يعادل ما بها كل ما في هذه الكتب‬ ‫من حكايات و أ��ساطير ‪ ..‬ألن فيها ك�شف الم�ستور عن ال�سر الغام�ض‬ ‫وراء عودته م�شلول ًا مع �أخيه الكبير الذي كان قد �سافر للعودة به فخو ًرا‬ ‫بنجاحه ال�ساحق وح�صوله على �شهادة العالمية بتفوق ؛ معلنا أ�ن زمن الفقر‬ ‫والحاجة قد ولىَّ ‪ .‬ذلك الزمن الذي داهم ا أل�سرة كلها بعد موت الجد‬ ‫الم�سرف المتلاف ‪ ،‬عا�شق الن�سوان (بالحلال) والذي ترك في كل مديرية‬ ‫امر�أة و�أولا ًدا لم نعرف معظمهم ‪ ..‬وفترت علاقتنا بمن نعرفهم بعد �ضياع‬ ‫ال�شــادر ومغلق الخ�شب كله �سدا ًدا للديون ‪..‬‬ ‫كانت �سعادة الأخ الكبير في الأجازات تفوق كل �سعادة ‪ ..‬فها هو‬ ‫�شقيقه يت�شكل �شي ًخا جليل ًا من العلماء تفاخر به الأ�سرة البلد كلها وتباهي‬ ‫به العائلات التي لهفت ما عليها من ديون بلا وثائق ‪َ ..‬ف ْن َجر بها الجد في‬ ‫ثقة على الجميع فك�شفت بعد موته عن حديدة عري�ضة جل�س عليها الجميع‬ ‫‪ .‬فكانت بعر�ض �أقفيتهم جمي ًعا ‪ ..‬رجال ًا ون�ساء و�أطفال ًا قادمين ‪..‬‬ ‫وما كان �أ�شد تعا�سته وهو ينزل به من القطار ‪ ،‬حامل ًا �إياه على‬ ‫كتفه كطفل �صغير �صريع المر�ض ‪ ..‬وقد تهدمت كل ق�صور الوهم على‬ ‫ر أ��سه (هو) بالذات ‪ .‬فالكل مع َّلق في رقبته (هو) ‪ .‬ولا خلا�ص يبدو في‬ ‫‪91‬‬

‫في التعامل مع ا آلخرين محتم ًيا بظلك ‪ ،‬مقتف ًيا آ�ثارك ‪ ،‬ت�شجعني كلما‬ ‫ترددت ‪ ،‬وتن�صحني إ�ن ا�س أ�ت الت�صرف أ�و أ�خطات ‪ ..‬وتدفعني ل ألمام‬ ‫كلما رغبت في النكو�ص ‪ ،‬وتنطقني إ�ذا ما فكرت في ال�صمت ‪ ..‬أ�حيا ًنا‬ ‫ب إ�رادتي و أ�حيا ًنا رغم أ�نفي ‪ .‬وفي كل الأحوال ‪ ،‬لم يكن تخطر لي مطل ًقا‬ ‫في وجودك فكرة الاعترا�ض ‪..‬‬ ‫لا ت�سخر مني ‪ .‬فقد تحملت الحرمان ؛ ألنك علمتني بل�سان أ�مي‬ ‫( أ�ن الغني هو القادر دائ ًما على الا�ستغناء) ‪ ،‬و�صمدت في ال�سجن ؛ ألنك‬ ‫أ�قنعتني بقدرة ا إلن�سان الأ�سطورية على تحمل �صفاقة ا آلخرين و�صلابة‬ ‫الجدران ‪ ..‬وق�سوة الانتظار ‪ ،‬كنت ت ؤ�كد لي ب�صوت (ف�ؤاد حداد) (�أن‬ ‫�أ�صغر ما في الدنيا هو �أكبر ما فيها ‪ ..‬البذرة إ�ذا ما رويتها بالعرق) ‪ ..‬فتتفجر‬ ‫خ�ضرة و�أزها ًرا وثما ًرا وزودتني بحكمة ثوري لم تذكر لي ا�سمه أ�ب ًدا (�أن‬ ‫أ�جمل ما في الحلم هو الإيمان ب�إمكانية تحقيقه _(حتى لو كان م�ستحيل ًا)‬ ‫؛ رغم �أنني �سمعتها كثي ًرا �صرخة ملتاعة متحدية يطلقها �سجناء كثيرون‬ ‫في ليل �سجن المن�صورة (يبلى الحديد واحنا الب�شر لم بلينا) ‪�..‬ساعتها كنت‬ ‫دائ ًما �أ�ستح�ضر �صوتك ووجهك خا�صة كلما كانوا يجهزونني لل�صلب‬ ‫على العرو�سة‪� ..‬أو يلقون بي في الزنزانة الانفرادية ‪ ..‬كنت �أرتدي جلدك‬ ‫فلا أ�ح�س تمزيق ال�سياط لجلدي ‪ ..‬وك�أن المجلود �شخ�ص �آخر يمتلك �صلابة‬ ‫بلا حدود ‪..‬‬ ‫�أ�ستح�ضرك فت ؤ�ن�س وحدة الزنزانة ‪ .‬و�أتذكر و أ�نا �أتمثل ابت�سامتك‬ ‫الواثقة عندما تتطاير روحي هل ًعا من طول الليل وبطء الوقت ‪� ..‬أنت الذي‬ ‫أ�خذت بيدي �إلى عالم الأ�ساطير فعرفت ( أ�خيل) و( أ�بوللو) وطرت بعربة‬ ‫ال�شم�س ‪ ،‬وغ�صت في بحار الجنيات ‪ ..‬أ�نت الذي دفعتني إ�لى �سرقة مفتاح‬ ‫ذلك الدولاب البوريه الغام�ض الم�صنوع من خ�شب ال�صندل الذي كان‬ ‫‪90‬‬

‫هي حمته من الوحو�ش وهو ا ألمير الطيب ‪ .‬أ�طعمته وغ�سلت همومه‬ ‫وهدومه وبالحلال يا معلم ‪ ..‬لم تقد قمي�صه من دبر ‪ ..‬ولكنها ك�سته‬ ‫بالحرير ‪ .‬القدي�س كان بحاجة للدخول في تجربة ‪ ،‬وهي منحته الفر�صة كي‬ ‫(يتدقدق) ويتفوق ‪ ..‬الولي ال�شاطر الذي كنت تعده كي يحمل �سل�سلة‬ ‫مفاتيح �أبواب الجنة ألهل (ال َكفر) الب�سطاء ‪ ..‬وجد با ًبا وحي ًدا داف ًئا �أخ�ضر‬ ‫العتبات ‪ ،‬فدخل ‪..‬‬ ‫ما أ�ن طالع الوجه ال�صبوح ل (زليخا) عطفة ( أ�بو جبة) حتى انهار‬ ‫وطار لل�سما ال�سابعة على نغمات نف�س هذه ال�ضحكة التي جعلتك يا معلم‬ ‫(م�سعد) ترتع�ش ‪ ..‬وهي ترد عليك حين �س أ�لتها أ�ول م َّرة عنه ‪ ،‬ور َّدت هي‬ ‫عليك ب�صوت ك�سلا�سل الذهب من خلف بابه ‪ -‬بنت ال�شيطان الجميلة‬ ‫ال�ساحرة ‪ ..‬والمك�شوفة الكتفين والذراعين على الآخر ‪ ..‬والتي لم ت�سلم‬ ‫من مقارنة عابرة بينها وبين عرو�سك العان�س الم�سكينة التي لا يبدو لعر�سها‬ ‫�أفق في الم�ستقبل المنظور ‪ ..‬انقب�ض قلبك يا معلم وتفتت هل ًعا ورع ًبا حين‬ ‫انهار بين يديك نبيك الجميل النبيل‪ ،‬حتى قبل �أن ينطق كلمة تطفئ لهيب‬ ‫غ�ضبك �أو تبدد غمام �شكك الثقيل �أو تف�سر كل الذي حدث مما لي�س له‬ ‫�أي تف�سير ‪..‬‬ ‫كدت �أظن ‪ -‬بعد �أن قر�أت المذكرات التي تحكي عن الفترة ال�سابقة‬ ‫من حياته في الغربة ‪ ..‬وانطباعاته عندما داخ ال�سبع دوخات ليجد لنف�سه‬ ‫مكا ًنا رخيـ ً�صا وقري ًبا من الأزهر ‪ .‬وكيف د َّله أ�ولاد الحلال على الم�صير‬ ‫الذي لم يكن منه مفر ‪ ..‬وكيف �شافها ألول مرة ‪ ..‬وكيف كان يظل �ساه ًرا‬ ‫طول الليل يقر�أ �آية الكر�سي مئات المرات ليطرد �صوتها ‪ ..‬وكيف بكى بين‬ ‫يدي �شيخه طال ًبا الن�صح ‪ .‬وكيف لم ينت�صح أ�ب ًدا ‪ ..‬وظل ي�ستعذب ر ؤ�يتها‬ ‫‪93‬‬

‫الم�ستقبل القريب بعد اليوم من م�صير طابور البنات والعوان�س والعجائز‬ ‫بكل �أر�صدتهم من ا ألمرا�ض والقهر ‪..‬‬ ‫أ��صبح الحزن والفقر ‪ -‬مثلك ‪ -‬واح ًدا من ا أل�سرة ‪ ،‬له ح�ضور مر‬ ‫على كل ال�شفاه ‪ ..‬خا�صة تلك التي لم تذق طعم القبلات �إلا خل�سة ‪.‬‬ ‫إ�ذ هدم ال�شلل حائط الدفاع الأخير ‪ ..‬و أ��صبح الا�ست�سلام للمر�ض‬ ‫هو المخرج الوحيد للهروب من عا�صفة اللوم ‪ ،‬والفرار من ق�سوة نظرات‬ ‫العتاب والتجريم ‪..‬‬ ‫فكيف للولي الطاهر حافظ كلام ربنا ‪ ،‬والذي كانت البلدة تبكي‬ ‫هل ًعا وخ�شية من غ�ضب الله عندما كان ي�أتي في ا ألجازات ليخطب ‪ ،‬مجر ًبا‬ ‫قدراته البلاغية والعقلية وليعود للبيت في موكب من الراغبين في الو�صول‬ ‫والتوبة ‪ ،‬كيف له أ�ن يع�شق امر أ�ة تك�شف عن بيا�ض كتفيها ولا تخ�شى �أن‬ ‫ت�ستقبل ا ألخ الكبير وهي تلوك اللبان وهي تفتح له الباب ‪ ،‬تفاجئه دون �أن‬ ‫ير َّف لها جفن ‪ ،‬بل وتجادله بالعين والحاجب وت�س�أله دون خجل ‪:‬‬ ‫عايز مين يا ح�ضرة ‪..‬؟‬ ‫أ�هذه حجرة ال�شيخ إ�براهيم ‪..‬؟‬ ‫طب ًعا ‪ ..‬و�سيد الم�شايخ كمان ‪.‬‬ ‫أ�كدت له وهي تحاول إ�ذابة جليد عينيه وجحيم نظرته المنده�شة ‪..‬‬ ‫أ�نه لا أ�حد غريب و أ�ن لها على أ�خيه ال�شيخ حقو ًقا لا ترد بالغ�ضب ولا‬ ‫بالقم�صة ‪ ..‬ففي ح�ضنها ذ َّوب �سني الغربة وكروب الفل�س والحرمان ‪..‬‬ ‫نزعت عنه ثياب الوحدة ونقعتها في ال�صابون الفنيك ‪..‬‬ ‫م�صر يا معلم (م�سعد)‪ ،‬وانت راجل حدق ومجرب‪ ،‬لا تحب الغرباء ‪..‬‬ ‫خا�صة المفل�سين‪ ..‬تكرههم ‪ ..‬وتدو�سهم بنعال من ق�سوة الجوع والليالي‬ ‫الطويلة ال�ساهرة التي لا تنام ‪.‬‬ ‫‪92‬‬

‫ترتع�ش ‪ ..‬وهو يتحدث عن فظاعة ذنبه الرهيب الذي يخفيه عن الجميع‬ ‫وهو يعرف �أن أ�مثاله ممن يعدهم أ�هلهم ليحملوا ا ألمانة‪ ..‬وحمل مفاتيح‬ ‫أ�بواب الغفران للتع�ساء بحمل القر آ�ن ‪ ،‬مب�شرين بق�صور النعيم في الآخرة‬ ‫‪ ..‬لا يحق لهم �إطلا ًقا �أن ير�شفوا قطرة واحدة من ع�سل الدنيا الزائف ‪..‬‬ ‫ولا يجوز لهم لحظة �سقوط واحدة في أ��سرْ �أي �سحر لذيذ أ�و جمال �شيطاني‬ ‫‪..‬‬ ‫لم يكن من ح ِّقي أ�ن أ� َّطلع على هذا ‪ .‬ولكنك أ�نت الذي دفعتني‬ ‫لذلك ‪ ..‬ألقتنع ب�ضرورة الدفاع عن حقه وحق خالي (م�سعد) وحق‬ ‫العوان�س والأرامل من اخواته وبنات اخواته ‪ ،‬وكل �أهل الكفر وخا�صة‬ ‫(بنت حيدر) التعي�سة‪ ,‬حقهم في ال�سقوط ‪ ،‬ولو لمرة كي يتذوقوا فاكهة‬ ‫الدنيا دون ا إلح�سا�س بالذنب ‪ ،‬ودون ت أ�جيل ‪..‬‬ ‫دفعتني ل�سرقة مفتاح الدولاب فعرفت فداحة المدى الذي �أغويتني‬ ‫بارتياده ‪ ،‬و أ�تع�ستني بفك �سر الحروف لأ�شاهد م�صير الرجل الوحيد الذي‬ ‫تجر أ� فوط�أت قدماه جنة حقيقية لوهلة ق�صيرة ج ًّدا ‪ ،‬قادته لجحيم دائم لا‬ ‫خروج ولا فكاك منه ‪ ..‬لم ي�ستطع �أن ي�سترخطيئتة حين هبت الريح �صدفة‬ ‫ف أ�طف�أت جذوة �شمعته و أ�قعدته م�شلول ًا حتى الموت ‪ ،‬ألنه ف�شل �أن يخفي‬ ‫عورته عن �أخيه الكبير ‪ ،‬الذي قيل عنه فيما قيل إ�نه ولد بالمقلوب ‪..‬‬ ‫�صرخت الداية يومها ‪..‬‬ ‫�أنا ما �شفت�ش كده ف حياتي !‬ ‫ولكن الأمر تم بحمد الله ور�ضا ا ألولياء ال�صالحين من (�أبو خ�شبة)‬ ‫حتى (ابن �سلام) وبالذات ر�ضا (�سيدي مجاهد ابو عبد الوهاب) ‪ ..‬ومنذ‬ ‫ذلك الحين ‪ ،‬وكل ما فعله في حياته تم بحمد الله وقوة الأولياء ‪ -‬ولكن‬ ‫بالمقلوب ‪..‬‬ ‫‪95‬‬

‫وال�سهر متب ِّتلا لطرد �شبحها من فوق �صفحة جفونه ‪ ..‬م أ��ساة حقيقية يا‬ ‫�صديقي عندما يحب ولي من �أولياء الله ال�ُّس َّذج بن ًتا من بنات ال�شيطان‬ ‫العالمـات بكوامن النف�س المطهرة وخباياها ‪..‬‬ ‫كدت �أظن يا �صديقي ‪ -‬و�أنا أ�قر�أ الكرا�سة التي ح َّر ْ�ضتني للح�صول‬ ‫عليها ‪ -‬أ�نك أ�نت الذي قدته إ�لى هذه العطفة وهذا البيت وتلك الحجرة‬ ‫‪� ..‬أنت أ��ستاذ في ترتيب الم�صائر ‪ .‬و�أي ً�ضا ألنني وجدت ت�شاب ًها كبي ًرا بين‬ ‫هذه و أ�حداث �أخرى �سي أ�تي ذكرها ‪ ،‬يكاد ترتيبك ل ألمور فيها يقترب من‬ ‫هذا الترتيب الذي انتهى بم�أ�ساة ‪..‬‬ ‫الأ�سرة كلها قالت (�أمر الله) الذي لا يمكن ك�شف �أ�سرار حكمته �أو‬ ‫الو�صـول �إلى غاياته ‪ ..‬وي�صبح الا�ست�سلام له في �صبر و إ�يمان هو �سبيل‬ ‫ا ألمان الوحيد ‪..‬‬ ‫زاد عدد المع َّلقين في رقبتك يا خال (م�سعد) واح ًدا ‪ ..‬لكنه لي�س‬ ‫بواحد عادي ‪ ..‬إ�ن ا ألجر والثواب فيه �سيكون م�ضاع ًفا ‪ ..‬فهو حامل‬ ‫لكتاب الله ولعلومه ‪ .‬ولله حكمة أ�ن يحفظها في قلبه ولا يبددها مع خلق‬ ‫لا قيمة لهم ولا هم يفقهون ‪ ..‬فقط (بنت حيدر) التي طال �صبرها والتي‬ ‫تذبل في بيت أ�بيها يو ًما بعد يوم والتي ترف�ض أ�ن تنتقل لبيتك المزدحم‬ ‫بطابور العوان�س من الأخوات وبالأم التي لا تتحرك ‪ ..‬وكل من تحملهم‬ ‫على �ضهرك الجمل ‪ -‬الذين �ست�ضمن بهم ق�ص ًرا في الجنة ‪ -‬يتململون ‪.‬‬ ‫هذا ما قاله لي الولي ‪ -‬في مذكراته‪ .‬إ�ذ كانت في‬ ‫معظمها عنه ‪ ..‬وعن �أحقيته عند الله في نعيم الخلود‪ ,‬الذي‬ ‫ُأ�عد للم�ؤمنين ال�صابرين من �أمثاله المح َّ�صنين من الخطايا ‪..‬‬ ‫كان يكتب هذه ال�سطور ا ألخيرة بخط �صعب القراءة ‪ ..‬كانت ك ُّفه‬ ‫‪94‬‬

‫النجارة المقد�سة بحجة أ�نها �صنعة ا ألنبياء والمقد�سين وهو من الآثمين ‪.‬‬ ‫وكذلك ا ألخ الم�شلول المق َعد مخيب الآمال ‪..‬‬ ‫ترك الجميع إ�لى �شقة ح�ضرية وزوجة من �أهل المدينة ‪ ،‬هاج ًرا ذلك‬ ‫البيت الكئيب ال�سحنة لكل من يراه الآن من الخارج والذي كان بابه (في‬ ‫زمانه) لا يغلق أ�ب ًدا ‪ .‬ولا تكف �أ�صوات الن�شر والدق عن ا إلعلان �أنه مركز‬ ‫الكون ‪ ..‬لم يكن كئي ًبا ولا مـغلق الباب ‪ .‬كانت مائدة الغذاء تمد للنجارين‬ ‫والن�شارين بعد ال�صلاة في المندرة التي تفتح على ال�شارع ت�ستقبل في كرم‬ ‫كل من يمر عاب ًرا لي�شارك ويبارك ‪.‬‬ ‫الأمر اختلف الآن ‪ .‬لكن الحو�ش ظل رط ًبا (و ِبرح و�س َّتار) على ما فيه‬ ‫من هموم ‪ ..‬يمتد إ�لى جوار المندرة حو�ش ن�صف م�سقوف بخ�شب �س َّوده‬ ‫الدخان و�أفعال الزمان ‪ ..‬ي ؤ�دي إ�لى دهليز داخلي ي�سمونه (الح�ضير) حيث‬ ‫حجرتان رطبتان فوقهما مقعدان ي�ؤدي �إليهما �سلم عجيب ال�ش أ�ن لا‬ ‫يمكن و�صف انحنائه العبقري ‪� ..‬ضاعت ملامحة وحدوده من زمن طويل‬ ‫لكنه ظل يعمل بكفاءة لم يقدر عليها الب�شر ‪ .‬يو�صل ال�صاعدين للمقاعد‬ ‫ولل�سطح المليء ب أ�كوام من أ�حمال ق�ش �أرز قديم ترابي اللون مغطى وم�شبع‬ ‫بزبل الحمام والفراخ ‪ ،‬حوله �سور قديم من البو�ص الممزق بفعل الرياح‬ ‫وال�شم�س والمطر ‪ ،‬ت�سنده �سدايب من خ�شب م�س ّو�س ت�آكلت أ�جزاء كثيرة‬ ‫منه ومنها ‪ ..‬ولكنه بقي متما�س ًكا رغم ميله الحاد في الفراغ ‪ ،‬بف�ضل �سر‬ ‫مجهول لا �سبيل إلدراكه �سوى للوا�صلين والم�ؤمنين برحمة المولى ‪ .‬ففي‬ ‫�أق�صى طرفه وعند �أق�صى ميل يوجد ع�ش �ضبابير من نوع زنبور البلح‬ ‫المتوح�ش‪ ..‬ولكن رحمة الله التي و�سعت كل �شيء لا تقبل ت�شريدهم ‪..‬‬ ‫�سبحانه ‪..‬‬ ‫�سخرت مني يا �صديقى يوم قلت لك ذلك فلم أ�غ�ضب ‪.‬‬ ‫‪97‬‬

‫لم يبت�سم الحظ له أ�ب ًدا ‪ .‬فعندما مات المعلم الكبير وتبددت الثروة التي‬ ‫كانت ت�سترهم وتجعلهم م�سئولين عن �سواقي الكفر والمركز بل والمديرية‬ ‫غير �سواقي في ال�شرقية والغربية ‪ ..‬طارت نقودهم عند النا�س ولم يرحمهم‬ ‫من لهم نقود طرف المرحوم ‪ ..‬وتعلق برقبته جي�ش العوان�س وطابور‬ ‫اليتامى ‪..‬‬ ‫الليل فوق الكفر ليل ككل ليل فوق كل قرى خلق الله حتى �سابع مديرية‬ ‫‪.‬ولكنهر أ�ىفي�صفحةال�سماءنجو ًماوعفاريتلميرها أ�حدغيرهمنخلقالله‪..‬‬ ‫الكفر مثل غيره ‪�( ..‬أحمد) �شبه (ازدحمد) محطة و�سوق و�ساحة‬ ‫ومزلقان ودبان وروث وتراب �أكوام �أكوام وورم وا�ست�سقاء ‪ ،‬وحمير‬ ‫عنيدة ت�سير ذليلة كالب�شر ‪� ،‬أو تبرطع كالمجانين منهم ‪ .‬وكان ن�صيبه فتق‬ ‫مزمن لا علاج له إ�لا بذلك الحزام العجيب الذي �سافر لإح�ضاره من م�صر‬ ‫خ�صي ً�صا وكانت �أول مرة يذهب للقاهرة ‪ ..‬ولم يذهب بعدها إ�لا ليعود‬ ‫ب أ�خيه محمول ًا في تلك المرة الدرامية ‪.‬‬ ‫لكن القرية مع ذلك كانت عنده الدنيا وما فيها ‪ ..‬لا ألنه زهد‬ ‫في غيرها ‪ ،‬لكن لأنه ما غادرها يو ًما إ�لا لمثلها ‪ ..‬ولم ير م�صر �أم الدنيا �إلا‬ ‫للبحث عن �شيء ي�صلب طوله مع الفتق‪ ،‬أ�و ليعود بال�شيخ الطاهر محمول ًا‬ ‫إ�لى الأبد ‪..‬‬ ‫ي�شبع بها وي�شبع بهم ‪.‬‬ ‫قالها �أخوه ا ألو�سط المتعلم و�سافر �إلى (المن�صورة) التي لا تهد�أ ‪،‬‬ ‫ب�سبب مرور المراكب الكبيرة عليها في ر�أيه ‪ ..‬وترك في رقبته ا ألم المق َعدة‬ ‫والأختين العان�ستين والأخ البايظ الذي رف�ض �أن يكون عب ًدا ل�صنعة‬ ‫‪96‬‬

‫الذي لم يعد يطاق والذي لا ي�صرح به إ�لا عندما يكون هو في الخارج ‪..‬‬ ‫ف إ�ذا ما �سمعت نحنحته ‪ ،‬تجري الأخت الخالية لترد باب الكنيف ويكف‬ ‫الجميع عن الزربنة والنقار ‪..‬‬ ‫وقد تكون الأم في تلك اللحظة تعاني ‪ ،‬وهي تق�ضي حاجتها‬ ‫كالعادة في مكانها بم�ساعدة ا ألخت المتخ�ص�صة (قمر) ‪ ..‬عندها تكون‬ ‫قد ا�ضطرت لك�شف ن�صفها الأ�سفل ‪ .‬فا�ضحة اللحم ا ألبي�ض الهائل الذي‬ ‫ي�شي ب�شباب كان ‪ ،‬وغنج قديم لح�س عقل المعلم الكبير الذواقة زمان ‪ ،‬قبل‬ ‫�أن يفعل الزمان أ�فاعليه فيم أل ثناياه بخ�ضرة وعفونة ويفر�ش أ�ديمه الب�ض‬ ‫الناعم ببثور متقيحة لا علاج لها ‪ ..‬فت�سرع عندما ت�سمع نحنحته فت�ستر‬ ‫البنت �أمها ‪ ،‬ب�أي خرقة متاحة �إلى أ�ن يعبرها �إلى المقعدين ‪ ،‬لائ ًذا بال�سلم‬ ‫مغم�ض العينين مكلوم الف ؤ�اد ‪.‬‬ ‫وما دام �أ�صبح في البيت ي�صبح ال�صمت �أ�شد ثقلا وكثافة من‬ ‫الرطوبة‪ ..‬وتحل لغة ا إل�شارة والغمز والهم�س والهمهمة المكتومة محل‬ ‫الكلمات وال�شتائم ‪ ..‬نظرته المقطبة دائ ًما تثير البرودة في الأج�ساد وزعقته‬ ‫إ�ن خرجت ‪ ،‬تجمد الدم في العروق ‪ .‬ولأنه دائ ًما ما يكون هناك ما �سيغ�ضبه‬ ‫أ�و يثير حنقه ‪ ،‬فكانوا يكتفون �شره ‪ ..‬ويكفون عن تبادل الحديث باللغة‬ ‫العادية كما يفعلون في غيابه ‪..‬‬ ‫الاخ الأ�صغر(الخمي�سي) وحده هو الذي نجا بنف�سه عندما تحطمت‬ ‫المركب به على �صخور جبل المغنطي�س ‪ ،‬و�إياك أ�ن تظن أ�نه كان هار ًبا‬ ‫�أو �أنان ًّيا ‪ .‬لا ‪ ..‬الأمر �أكبر من ذلك كثي ًرا ‪ ،‬كان يعرف �أنه �سيكون �سب ًبا‬ ‫إ��ضاف ًّيا لتعا�ستهم لو أ�نه ظل بينهم في مواجهة دائمة مع ا ألخ الكبير‪..‬‬ ‫�سيعلو �صوتهم يوم ًّيا ‪ ..‬وت�صبح �سيرتهم على كل ل�سان ‪ -‬النار لا تتعاي�ش‬ ‫مع الماء‪ -‬والماء �سيظل يغلي لو �أجبر على البقاء فوق النار حتى ين�سكب �أو‬ ‫‪99‬‬

‫و لكن حين �سخرت منه ‪ ،‬غ�ضبت منك ب�شدة فلي�س لمثلك أ�ن‬ ‫ي�سخر من إ�يمان أ�مثاله ‪ .‬هكذا كنت تعلمني ‪ .‬فكيف ن�سيت ‪� .‬أم أ�نها‬ ‫كانت ن�صيحة للا�ستهلاك ‪ ،‬و أ�نا لم �أعهد فيك الخداع في الم�سائل المتعلقة‬ ‫بالعقائد ‪ ..‬فقد كنت ت�صر في عز اجتماعاتنا الحزبية �أن ت�سمح للمعلم‬ ‫(توفيق) ولعم (ال ّ�صديق) و(ابو �سلامة) �أن يقوموا ل�صلاة المغرب قبل أ�ن‬ ‫يروح عليهم عندما تحل الع�شاء ‪ ،‬ونحن في غمرة النقا�ش حول فائ�ض‬ ‫القيمة وقوانين الا�ستغلال !‬ ‫على كل حال حتى أ�نت كانت لك هفواتك وكان لي في �أحيان كثيرة‬ ‫ف�ضل تحذيرك وتنبيهك ‪ ..‬وهذا وحده الذي �سمح لعلاقتنا �أن ت�ستمر‬ ‫نتبادل فيها ا ألدوار ‪ ..‬والم�شاعر ‪ ..‬حتى م�شاعر الكراهية ‪ ..‬ما علينا ‪..‬‬ ‫يرجع مرجوعنا �إلى الأخ التعي�س الـ(م�سعد) ‪ ..‬الذي كان لابد �أن‬ ‫يدق الباب ‪ ..‬باب بيته في كل مرة ‪ ،‬ك أ�نه ي�ست�أذن في الدخول ‪ ..‬وكان‬ ‫ذلك يثير إ�عجاب المارة وي�ضيف لر�صيده المثير لل�شفقة �إعجا ًبا ما بعده‬ ‫�إعجاب ‪ ،‬حين ي�صل الكلام إ�لى بنت (حيدر) إ�ذ كان يريحها قليل ًا من‬ ‫عذاب الانتظار لأنه لي�س انتظا ًرا بدون جدوى ‪..‬‬ ‫كان يكح قبل أ�ن يزق الباب ليدخل زاع ًقا ‪( -‬يا �ستار) ‪ ..‬فينتبه �أهل‬ ‫البيت ‪ ..‬ويعدلون من �أو�ضاعهم ‪ ،‬فقد تكون �أخته (�سعيدة) في الكنيف‬ ‫تق�ضي حاجتها كعادتها دون أ�ن ترد الباب ‪ ،‬لكي ت�ستمر في النقار أ�خ ًذا‬ ‫وعطاء مع أ�ختها (قمر) �أو مع ا ألم المقعدة ‪ ،‬على المرتبة القديمة والح�صيرة‬ ‫الكالحة المت�آكلة الأطراف ‪ ،‬في �أول الح�ضير �أمام الكنيف تما ًما‪ ..‬حيث �أ�صبح‬ ‫ركنها ومقامها الدائم ‪ ،‬منذ َق ِبل �أن يتحملها دون غيره من �أركان الكرة‬ ‫الأر�ضية ‪ -‬نائمة أ�و قاعدة ‪� ..‬إلى أ�ن يفعل الله �شي ًئا في الغيب كان مقدو ًرا ‪.‬‬ ‫ا�ستجابة لدعوات بناتها أ�ن يرحمها من �آلامها طب ًعا ‪ ..‬ويرحمهم من قرفها‬ ‫‪98‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook