على كل حال هكذا أ�ح�سن ..لقد مرت ا ألزمة .وها أ�نت لا تكاد تتوقف عن الكتابة ..لا تجادل ..إ�ن حالتك الآن أ�ح�سن كثي ًرا عنها عندما كنت تبحث عن �آثار براز القط (مي�شكا) ولا تجدها وتحاول �أن تطمئن نف�سك �أن نفاياته أ�طهر كثي ًرا من نفايات (رفعت ال�سعيد) وعدم ظهورها �أمامك لي�س مه ًّما ،فلابد أ�نه فعلها مثله في مكان ما .. ها �أنت ترى بكل و�ضوح �أن كتابة الم�سل�سل الفكاهي لمحطة الإر�سال المبكر كانت �ضرورة واحتيا ًجا لا مفر منه ..فمن أ�ين �سي�أكل (مي�شكا) �سم ًكا طاز ًجا غير م�ستورد ؟ لا حل ا آلن �سوى �أن تجبر نف�سك على العودة إ�لى الجلو�س �إلى المن�ضدة الق�صيرة التي تحبها ..و أ�ن تم�سك بالكاتر وا ألقلام وتبد�أ في بريها بالطريقة المطلوبة المح�سوبة وتخ�ضع لواجبك المقدر لتظل قاد ًرا على إ��شباع حاجة كل من يحتاجونك ..وعلى �إغاظة كل من يكرهونك ..هيا .هل تمردت أ�ب ًدا ..على ما يكون واج ًبا و�ضرور ًّيا ؟ هل �ستفعلها بعد هذه ال�شيبة ..هيا أ�نت الآن �أف�ضل ..و�سل�س وهادئ ..فكر في المفيد ،قم وا�صنع فنجا ًنا من القهوة المغلية كما عودتك عليه البنت الحلبية الجنية التي خلبتك ف�سحرتك ذات مرة .. عد �إلى الكتابة ودع (مي�شكا) يتبرز في أ�ي مكان يريد ! ••• 301
و(مو�سكو) و(باري�س) و(بني غازي) ..و�أيام (بيروت) مرو ًرا (ببرلين) و(بوخار�ست) و(�صوفيا) ..و(فرانكفورت) ..و�ساحرات (�ساليم) .. وحكايات (ميفو�ستوفيلو�س) حامل درجة الدكتوراه في التاريخ ال�سري ل�ضحايا التاريخ العلني وخطته الجهنمية إلنهاء الحدوتة نهاية كوميدية لا تتنا�سب مع بحر الدم المهدر على الم�سرح وم ؤ�امرات (ياجو) وح�صار (بيروت) ،يااه ما فائدة كل ذلك وقد حدث وراح ولم تكن له جدوى ؟ ت أ�تي ا آلن لت�صدع ر�ؤو�سنا بمغامراتك مع (مي�شكا) ؟ هل بالحديث عنه �ستكون له الجدوى فى إ�عطاء الحكاية طاب ًعا روائ ًّيا ..أ�و درام ًّيا ؟ ع�شرات كتبوا عن نف�س ا ألماكن والنا�س والحوادث ،ولا أ�حد يذكر الحقيقة كاملة ..كلهم ينظرون من خرم الباب المواجه لعيونهم ال�شمال �أو اليمين دون محاولة لتو�سيع دائرة الر�ؤية التي هي �ضيقة ج ًّدا بال�ضرورة .. وبالغ�ضب ..هل يجدي أ�ن ت�ضيف تفاهة أ�خرى إ�لى كل هذا الركام من التفاهات ..الذى يجمل الوجوه الم�شوهة ،ألنها هي التي تفتى وتحكي وتطبع وتقول ..ثم على كل الموائد تبرر لتنول وتحظى بالر�ضا والقبول . ماذا �ستقول؟ ..وماذا �سيفعل لك �أ�صحاب محطة ا إلر�سال المبكر �إن لم تكتب ..لم يدفعوا لك مقد ًما �إلا الملاليم .من قبل طلب منك (ح�سن م�صيلحي) مدير عام مكتب مكافحة ال�شيوعية بنف�سه كتابة نف�س فكرة الم�سل�سل في قالب درامي �آخر ..ورف�ضت بكل �شمم وف�ضلت المعتقل والمنفى .والآن ها أ�نت قد �صمت و�صمت وفطرت على ب�صلة ..بينما طلع بع�ضهم بالهبر لأنه كتب ح�سب الاتفاق وفي المواعيد المقررة ..ا آلن فات الميعاد وال�سوق جبر وا آلخرون �سيتهمونك أ�نك تكتب للمحطات الرجعية التي تزيف الوعي ..الذي �سبق وزيفوه أ�كثر من مرة في براءة ولكن في �إطار العقيدة وبموافقة التنظيم ؟ 300
المزخرف ا ألطراف والزوايا يحيط بعدة �أ�سياخ �سميكة من الحديد لم تكن ت�سمح لر ؤ�و�سنا بالخروج من بينها ،فقط الولد (حلمي) ابن عمتي هو الوحيد الذي كان ي�ستطييع النفاذ من بينها بر أ��سه ال�صغير ..وكان ينفلت للخارج بمهارة مخر ًجا ر�أ�سه ثم حا�ش ًرا ج�سمه ليتعلق بال�شباك من الخارج حتى ي�أتي �أحدهم وينزله بعد أ�ن ينال قلمين �صف ًعا �أو ع�صايتين ل�س ًعا على م ؤ�خرته عقا ًبا له على الخروج .ولكننا كنا نح�سده ونتمنى أ�ن نفعل مثله .. وكان (بيت جدي) يمتد من بيت (ح�سنة أ�م عبد الله) حتى بيت (البيومي الحلو) م�سافة كنا نقطعها جريًا ونحن نلعب (ا�ستغماية) أ�و نطارد الدجاج ال�شارد ونحن نلهث ،كانت جدران البيت عري�ضة.. ي�ستطيع الجلو�س على حجر ال�شباك ثلاثة أ�و أ�ربعة منا نطل على ال�شارع من بين الق�ضبان متعلقين في ا أل�سياخ الحديدية بقب�ضاتنا ال�صغيرة ..وكان الولدان (فتحي الق�شلان) و(ح�سن عوي�ضة) يح�ضران �أعوا ًدا من الحطب �أو ال�صف�صاف لي�ضربا قب�ضاتنا ..كانا يغاران منا لأن بيت (عوي�ضة �شهاب) وبيت (الق�شلان) لم يكونا مثل بيت جدي ..كان لكل منهما باب كبير من �ضلفة واحدة هائلة يمكن أ�ن تدخل منها عربة كاملة لا فتحات فيه إ�لا فتحة واحدة ت�سمح ل�شخ�ص واحد بالدخول والخروج منها � .أما ال�ضلفة الكبيرة فلم تكن تفتح إ�لا لل�ضرورة لكنها تظل مفتوحة دائ ًما في الموا�سم ،و إ�لى جوار هذا الباب كان �شباك �صغير أ��شبه بالطاقة ي�سمح فقط للهواء بالدخول ب�صعوبة إ�لى حيث (طوالة) البهائم التي تمتد بطول الحو�ش حيث تبيت البهائم أ�مامهم مربوطة ت أ�كل طول الوقت . لم تكن البهائم التي لجدي تبيت في البيت ،كان لها دوار �آخر بجوار الخرابة حيث بيوت أ�خرى ي�سكنها أ�عمامي (عو�ض) و(محمد) و(عبد 303
الذي بـاركـنا حـولـه ... كان (بيت جدي) في زمانه كبي ًرا ممت ًدا في ال�شارع ،وا�س ًعا ،له باب �ضخم لا ت�صل عيناي إ�لى مداه ،باب من �ضلفتين هائلتين منقو�شتين بزخارف من �أغ�صان النبات وا ألزهار الخ�شبية. لكل �ضلفة �ش َّراعة طويلة من الحديد العري�ض الم�شكل في دوائر و�أقوا�س متداخلة ..وتعلو الباب فوق عار�ضة من الخ�شب ،ن�صف دائرة حديدية هائلة ت�ؤطر �شم�ًسا من الأ�شعة تقف عليها �أزهار وع�صافير من الحديد ،لم تكن تفتح �سوى �ضلفة واحدة ولا تفتح ا ألخرى معها �إلا عندما تدخل الحمير محملة بالزكائب المتخمة بالحبوب في المو�سم �أو محملة بالبر�سيم في ال�شتاء ،و�إلى ي�سار هذا الباب العملاق �شباكان �شديدا الطول لهما �إطار خارجي من الحديد 302
هي التي كانت ت�سكنها على �أيامي ...كنت �أراها دائ ًما في الحو�ش المواجه ،ن�صف الم�سقوف ..تجل�س على (عنجريب) ن�صف ،فوق بع�ض العباءات م�ستندة إ�لى جدار (الحا�صل) حيث خزين البيت من الحبوب وال�سمن (على مد ايدها) وتحت ب�صرها ،بعد ذلك كانت قاعة الفرن التي يمتد الحو�ش �أمامها غير م�سقوف �إلا قليل ًا .ي�ستند �إلى جداره البعيد ،أ�و ي�ستند الجدار عليه � ،سلم خ�شبي من فرعين �سميكين من الكافور له درجات عري�ضة متقاربة من كتل خ�شبية ق�صيرة نتقافز عليه طول الوقت مع المعزة والخروف �صعو ًدا �إلى ال�سطح وهبو ًطا منه ،متعر�ضين طول الوقت لع�صا جدتي التي لم تكن تطيق �ضجتنا .وتطالبنا طول الوقت بال�سكوت أ�و اللعب في ال�شارع .. عندما بنى �أبي المقعدين فوق ال�سطح لي�سكن فيهما مع زوجته ( أ�مي) ا�ستعمل هذا ال�سلم لفترة ،لكنه لم يكن �آم ًنا بما فيه الكفاية لزوجته ،فبنى �سل ًما في القاعة المك�شوفة التي في الو�سط حيث يربون الدواجن .ن�صفه درجات من الحجر ون�صفه من الخ�شب المتين ي�صعد إ�لى ب�سطة طويلة فوق الغرفة غير الم�سقوفة .ونقلت الدجاجات �إلى الداخل على غير هوى جدتي ،التي لم تكف عن احتجاجاتها ب�صور مختلفة ،خا�صة و�أننا �أنا و�أختي و أ�بناء وبنات عمتي (فرحة) وعمتي (فريدة) التي كانت تلازمها كل نهار ..لم نكف عن ا�ستعمال ال�سلم الخطر المحرو�س بل�سعات عود الحطب ،أ�و غ�صن ال�صف�صاف الذي كانت تو�صي يوم ًّيا عليه لتك�سره على ظهورنا وم ؤ�خراتنا حتى يذوب ،كانت لعبة تحلو لنا معها ،هي تطاردنا في غيظ ونحن نتفلت منها في مرح ..مهللين عندما نفلت وتطي�ش �ضرباتها ، و�صارخين في عناد عندما ت�ؤلمنا ل�سعاتها .كنا حري�صين طوال الوقت على 305
الهادي) و(عبد الكريم) و(فرحة) و(فريدة) ..الذين يلعب �أولادهم معنا طول الوقت في (بيت جدي) . خلف الباب ال�ضخم لبيت جدي كان دهليز طويل وا�سع وعري�ض �سقفه عال ج ًدا ..تع�ش�ش فيه بع�ض طيور ع�صافير الجنة في �أع�شا�ش طينية تبنيها باهتمام ود�أب �شديدين ،ولم أ�كن أ��صدق أ�نه يمكن الو�صول إ�لى ذلك ال�سقف العالي الذي يبدو غار ًقا طول الوقت في ظلام غام�ض حتى في عز النهار . على يمين الداخل كانت المندرة ذات ال�شباكين حيث كانت ثلاث م�صاطب كبيرة وعري�ضة تمتد �أ�سفل الجدران مفرو�شة بالح�صر �أو ال ِع ْبي ال�صوفية اليدوية ذات الملم�س الخ�شن .كانت ثقيلة لا أ�ذكر أ�نني كنت أ��ستطيع تحريكها �أو حملها ..الح�صر كانت �أ�سهل ولذلك �أحببتها ،فقد كانت باردة في ال�صيف تدعوك لتريح خدك م�ستمت ًعا بطراوة حقيقية محببة. كان هناك حاجز يف�صل بين آ�خر المندرة وداخل البيت يتكون من ن�صف جدار وباب بلا ملامح ،وخلفه يقع (الكنيف) الذي كان مجرد (حفيرة) في ا ألر�ض ال�سوداء الرطبة ..كنت �أخاف الاقتراب منه ..لا ب�سبب رائحته النفاذة فقط ،ولكن لظلمته الغام�ضة .ولأن �ستي لا تدخله �إلا بعد �أن تقر أ� (�آية الكر�سي) لطرد العفريت ..وكنت أ�ح�سب لذلك أ�نها تطلق عليه أ�حيا ًنا (الكر�سي) . وفي مواجهته كانت توجد غرفة غير م�سقوفة ،يربون فيها الدجاج وا إلوز والبط والأرانب .بعدها كان باب الو�سط مفتو ًحا على الدوام.. على يمين الداخل منه كانت قاعة غام�ضة بها عنجريب وكرويتة خ�شب . كان جدي ي�سكنها قبل أ�ن يموت ،في �أر�ض النبي �صلى الله عليه و�سلم أ�ثناء الحج ،قبل مولدي ولذلك لم �أره ..ولكن جدتي (�أم العز �أم علام) 304
فرا�ش جدتي ،وتنظيف حجرتها الغام�ضة التي كان محر ًما علينا دخولها .. كنت �أتح ًجج بهم و أ�ن�سب �إليهم كل ما يحدث من جرائم �سرقة بي�ض الدجاج ل�شراء الملب�س والحم�ص والأرواح أ�و لركوب مرجيحة (�أحمد همام) .كانت عمتي تتدخل ل�صالحي ،وتمنعه من عقابي م ؤ�كدة -له أ�ن �أولادها هم ال�سبب و أ�نني طيب لا أ�فعل �شي ًئا .. -جرى إ�يه يا (عبد الباقي) ؟ ده عيل ،الواد (مجاهد) و أ�خوه (�سيد) هما اللي ي�ستاهلوا قطم رقابيهم ..بلا�ش افترا . لكن حظي ال�سيئ كان دائ ًما يزوده بالبراهين ،أ�نني الفاعل ا أل�صلي، �أو على ا ألقل م�شترك أ��سا�سي ..ك�أن ي�ضبط في جيبي غلاف ( أ�رواحة) ملون لم �أ�ستطع الاقتناع بانعدام قيمته� ،أو عدم الوقوع في �إغراء (خرو�شته) كلما كعبلته في كفي داخل جيبي ،أ�و غواية و�ضعه على عيني في مواجهة ال�شم�س ،لأرى الدنيا خ�ضراء أ�و زرقاء �أو برتقالية .و�أحيا ًنا ما كان ي�ضبطني �شخ�ص ًّيا أ�بادل البي�ض الم�سروق باللب والملب�س من عند (ح�سني النملة) ، كان أ�ولاد عمتي يهربون في �صمت ،ولا ينبهونني ويتركونه يم�سك بي متلب�ًسا إلثبات تورطي على عك�س ادعاءات أ�مهم (عمتي) براءتي . ولم �أكن أ��سكت لهم طب ًعا ،وكنت �أي ً�ضا أ�دبر لهم ما يوقعهم في �شر �أعمالهم �أو �شر أ�عمالي ..كان ال�سلم �أمام الفرن ،الذي يحر�سه الخروف النطاح والمعزة الثرثارة التي كانت تتعمد الم أ�ماة �صارخة كلما نجحت في العبور دون أ�ن تلحظني الجدة ك�أنها تق�صد أ�ن تف�ضحني وت�شمت بي فت�صرخ جدتي : -إ�نت يا وله انت وه َّو رايحين فين ؟ لم نكن نرد طب ًعا .وكان (�سيد) يرف�س المعزة رف�سة قوية تح ِّول م�أم أ�تها الوا�شية �إلى م�أم�أة �شاكية .. 307
كتمان �ألمنا في �ضحكات ،مظهرين عدم الاهتمام لأغاظتها ،بينما نحن نحك موا�ضع ا أللم في وحوحة حارة .نجاهد لكتم لهاثنا ونحن نخرج لها أ�ل�سنتنا في ت�شف ممزوج بالألم والانت�صار . في بع�ض ا ألحيان كانت هناك بقرة .تظهر �أحيا ًنا في قاعة الفرن ،كنت أ�عتقد اعتقا ًدا جاز ًما �أنها واحدة من المداحات الغجر اللاتي لم تكن تطيقهن جدتي � ،سحرتها وحب�ستها لأنها لم تم�ض في حال �سبيلها ، وظلت ت�صدع ر�أ�س جدتي بطبلها المزعج و�صوتها القبيح .ولم تجد أ�ح ًدا من العيال لتر�سله �إليها برغيف أ�و بع�صا ليطردها ،فا�ستدرجتها إ�لى داخل البيت وعاقبتها وح َّولتها إ�لى بقرة ..كنت �أرى حز ًنا إ�ن�سان ًّيا غري ًبا في عيون البقرة ..كانت ت�سمعني عندما أ�ت�سلل �إليها �أ�س�ألها ،وكانت تحاول ا إلجابة ،ولكن عجزها عن ال�شكوى كان يفجر في عينيها دمو ًعا ..وكان �صراخ جدتي و�صياحها عل َّي كلما دخلت عند البقرة ي ؤ�كد لي خوفها من أ�ن �أك�شف �سرها �أو �أبطل �سحرها ..وكان ا ألمر دائ ًما ينتهي بعلقة ،لا لأنني �أغ�ضبت جدتي ولكن ألن �أبي لم يكن يريدني أ�ن �أعبر حدود المنطقة المحرمة الخا�صة بها �أ�صل ًا .خو ًفا من أ�ن تحولني �إلى كلب ! هو �شخ�ص ًّيا ،منذ بنى ال�سلم في حو�ش الدجاج ،لم يعد ي�ستعمل ال�سلم الخ�شبي ا آلخر للعبور �أمامها ،وحذرني من ذلك ،ولكنني لم �أ�ستطع �أن أ�فعل ،ف أ�ولاد عمتي (فريدة) لم يكونوا يلعبون �إلا معي ومع �أختي ، عندما يح�ضرون مع أ�مهم لق�ضاء حاجات جدتي � ،سواء إ�طعام الدواجن والخروف النطاح ،والمعزة ذات القرن الواحد ،الراب�ضين �أ�سفل ال�سلم الخ�شبي .أ�و لحلب البقرة الم�سحورة وكن�س الحو�ش ،وتنفي�ض عباءات 306
اخترعت طريقة عبقرية لامت�صا�ص اللبن والرائب من الطاقة ال�صغيرة الوحيدة التي في جدار الخزانة البحري ،والتي تركت للتهوية و�إن ح�صنت ب أ�عواد من جريد النخل ال�صلب بالطول وبالعر�ض لمنع القطط والفئران من الدخول للمخزن عبرها.. تفتق ذهني بعد ف�شلنا المتكرر في الت�سلل إ�لى الخزانة ،منذ �أ�صبحت العمة �أكثر حر ً�صا ويقظة ..أ�ح�ضرنا عدة �أعواد من �سيقان الفول الجافة التي عادة ما تكون مجوفة وكنا ن�ستعملها كمزامير أ�و موا�سير لنفخ الري�ش الزغبي في الهواء ومتابعته والرهان على الاحتفاظ به طائ ًرا ألطول مدة ممكنة ،لعبة كنت قد علمتها للعيال نمار�سها عندما يقتلنا ال�ضجر �أو ي�صعب علينا اختراق ح�صار عيون الجدة وع�صاها اللا�سعة . وجدت لتلك ال�سيقان وظيفة �أكثر فائدة وعلمتهم �أن نمدها من خلال المربعات بين �أعواد الجريد ،حرا�س الطاقة البحرية غير المك�شوفة ل�سكان الدور الثاني ..وتفننا في و�صلها و إ�طالتها لتنال من كل الطواجن وتند�س في حلوق ال�شوالي الفخار ..وحين نجحنا أ�ول مرة في �شفط دفعات ثرية من الحليب والرايب ،كادت �ضحكات فرحتنا بانت�صارنا أ�ن تك�شف مكمننا الخفي .. لم ي�صدق �أبي أ�ب ًدا عندما انك�شفت حيلتنا الجهنمية أ�ن هذه الفكرة لي�ست من بنات �أفكاري ،كان يعتقد اعتقا ًدا جاز ًما �أنني وراء كل هذه الم�صائب ..ف�أنا ال�سبب في ك�سر قرن المعزة التي �صارت بعدها عنزة وحيدة القرن ..و�أنني وراء ما �أ�صاب الخروف النطاح الذي كانت تربيه جدتي لذكرى وفاة جدي القادمة ،فع ّجلت بذبحه .وهي تدعو كا�شفة ر�أ�سها على من أ�طعمة (الداتورة) فكاد يق�ضى عليه ..لم يكن يثق في ذكاء عيال 309
-إ�نت يا وله �سيب المعزة يا وله !. نكتم �ضحكاتنا وهم�ساتنا ،ونو�سع المعزة �ضر ًبا مت�أكدين � ..أنها لن ترانا ،كانت عيناها كليلتين للغاية ،لا تميز على بعد �شبرين إ�لا �أ�شبا ًحا .. كما أ�نها كانت لا ت�ستطيع مغادرة مكانها منذ تحملها (فريدة) كالطفلة من �سريرها �إلى مكانها الدائم ،ما بين (الحا�صل) المليء بالخيرات والخزين وحجرة نومها الغام�ضة المحرمة علينا! ..كحار�س ( ،ت ُبك) عيونه �شرار نار ،غير مرئي ،يلب�ش كل من ت�سلطه عليه .. كان عندي �إيمان را�سخ م ؤ�كد �أن لديها كن ًزا يفوق كنز (الملك ال�شمردل) تخفيه في أ�ر�ض الحجرة �أو في (الخور�ستانة) التي في الحائط الغام�ض ،مغلقة بمفتاح له ثلاث �سنات من حديد �صلب نادر ،ي�شل من يم�سكه ،غير �صاحبته ،يبرق معل ًقا في حبل كتان غامق حول رقبتها . حذرت العيال من النظر �إليه لأنه مر�صود وقد ي�صيبنا بالعمى � ،إذا وقعت عيوننا عليه ونحن نعبرها مت�سللين �إلى المنطقة المحرمة . كنا في �أوقات معينة ن�صعد في �صمت على ال�سلم إ�لى ن�صف ال�سطح الممتد �أمام (ال�شكمة) البحرية في الدور الثاني .ونزحف تحتها في طابور كالنمل أ�و دود القطن ،حتى لا يرانا �أحد من �سكان المقاعد ،عابرين �إلى حيث الخزانة العامرة بطواجن الرائب و�شوالي الحليب و�أ�شولة ال�سم�سم .. كان عيال عمتي يعرفون متى يكون الغزو مجزيًا لنفوز بالغنيمة ..نراوغ العمة ،نت�سلل في فترات ان�شغالها في الحلب ،أ�و في �أي عمل وتكون قد �سهت فتركت باب (الخزانة) مفتو ًحا ..لكنها على ما يبدو ظنت أ�ن قط ًطا تدخل خفية لت�شرب اللبن الحليب �أو الرايب .ولكن �أقرا�ص الجبنة ال�ضاني لا تحملها القطط ،ولذلك قط ًعا لل�شك لم تعد تترك الباب مفتو ًحا ولو للحظة .. 308
حتى كان يوم ر أ�يتها ترج �سائل ًا ما في �شيء �صلب غريب� ،شبه مجوف، يلمع باطنه كرخام عتبة الجامع العاجية ويتعرج ظاهره القائم عرو ًقا بنية غريبة تتخللها �شروخ من بيا�ض يكاد ي�ضيء ..قالوا أ�نه قرن (الحنتيت) الذي عرفت فيما بعد أ�نهم يق�صدون (الخرتيت) وبعد أ�ن رجت القرن بال�سائل الذي و�ضعته فيه مع ع�شب نا�شف مطحون ..قر أ�ت عليه �أورا ًدا �أو �آيات على ر أ��س بنت عمتي المح�شور بين ركبتيها .وعمتي تفتح فم البنت غ�ص ًبا لا�ستقباله فزعة تحاول التخل�ص باكية من كلابة ركبتيها دون جدوى .. البنت �شفيت من المغ�ص القاتل -بعد أ�ن نامت طويل ًا غارقة في عرقها � ،صحت وقفزت على قدميها كالقردة .وعرفت من أ�حاديثهم �أن (قرن الحنتيت) هذا �أح�ضره جدي من �أر�ض الحجاز هو (ودهن إ�حليل تم�ساح) و(كبد عقاب حي) و أ�ن �ساح ًرا من ال�سودان لقنه كيفية ا�ستعمال ال�سحر في �شفاء ا ألمرا�ض ،وهو ع َّلم جدتي ال�سحر بدوره .كنت مت أ�ك ًدا بعدها �أن لدى جدتي أ��شياء �أخرى خفية كنت �أ�سمعها تتردد على �أل�سنة الكبار عن (نمل يتيم ...وعقارب عقيمة وهداهد �صامتة ..ودم أ�طفال يتامى) ثم اختلط كل هذا بما قر�أته في حكاية (جودر) وال�سحرة المغاربة الذين جاءوا إ�لى م�صر ي�سعون وراءه لك�شف كنز (ال�شمردل) وبغلة الحظ والم�سحور والجح�ش الذي ي أ�خذ �شكل المارد وتمثل لي كل ذلك متج�س ًدا في الظلام الذي يكلل الغرفة التي لا نوافذ لها� ،ضبا ًبا يحجب ال�سقف وا ألركان عن نظر من يجر�ؤ على التطلع �صدفة �أو على البحلقة عم ًدا في فراغها الرطب اللزج .. ••• 311
أ�خته ،فحكاية �شفط اللبن الرائب والحليب بوا�سطة أ�عواد الفول لا ترد إ�لا على ذهن يعرف �شي ًئا ما عن الأواني الم�ستطرقة � .أو �سمع عن نظرية ال�ضغط الأ�سموزي ،مع �أن كل النا�س الذين لم يذهبوا أ�ب ًدا للمدار�س يمار�سون �شي ًئا من هذا القبيل و�أنقح ،في كل القهاوي وبطرق أ�كثر تقد ًما وعلمية من نظرية عيدان الفول وذلك با�ستخدام �أعواد البو�ص الم�شذبة والغاب الرفيع المختار بعناية في �شرب وقربعة الدخان والكركرة بالجوزة ليل ًا ونها ًرا . الخ�سارة الفادحة لم تكن في معرفة و�ضبط من تو�صل إ�لى هذه الأفكار الجهنمية فقد عثرت عمتي على قطع من �سيقان الفول م�شبعة باللبن و على بو�صة جوزة كاملة (كانت قد �أفلتت من يد ابن عمتي عند محاولته (تن�شينها) في حلق �شالية مترعة بالحليب لم تكن مو�ضوعة في مكان منا�سب) . و أ�مام ا�ستمرار غزو (الخزانة) حتى بعد معرفة ال�سبب �سدت الطاقة تما ًما ..وحين اكت�شفوا اختراق حاجز الطين الذي لم يكد يجف نقلوا كل ما في الخزانة من خزين �إلى الحا�صل المحرو�س (بالر�صد ال�سحري المتربع) على العنجريب طول الوقت م�ستن ًدا على جدار بابه المحرم . تهدمت (الخزانة) مع الأيام وت�ساقط طين (ليا�ستها) ،وانك�شفت بو�ص �سقفها ولم تعد ت�صلح إ�لا كبيت مفتر�ض لحفلات زفافنا العيالي ، حين نلعب عرو�سة وعري�س في البيت ا�ضطرا ًرا .فقد كان الجو فيها بعد خرابها غاية في الطراوة المنع�شة خا�صة في قياييل �أيام ال�صيف الطويلة . تعرفت على �سر (جن ِّية الكنيف) التي كانت جدتي تكف �شرها ب�آية الكر�سي ،وهي تدخل كي تق�ضي حاجتها محمولة بوا�سطة ابنتها (فريدة). راقبتهم �أكثر من مرة ..وت�أكد لي أ�ن هذه الجنية لا ت�سكن الكنيف ،و�إنما هي ت�شارك جدتي في حجرتها المحرمة ،لكني لم أ�جر ؤ� على تجاوز العتبة . 310
�صرخت فيها العجوز غا�ضبة: -باقول لك تيجي تنامي معايا ،تيجي بعد ما ترتبي أ�مورك ..وما تزودي�ش في الكلام حين �شوحت بذراعها الجاف غا�ضبة رنت حول ع�ضمة �ساعدها كتلة من �أ�ساور ذهبية كانت تختفي تحت الكم الأ�سود الوا�سع ..ولمع الخزام الذهبي على �ضوء الم�سرجة .ولم تهد أ� إ�لا حين قالت (فريدة) التي اقتنعت على ما يبدو بحكمة وجودها �إلى جانبها في لحظتها الأخيرة: -ح �أ�شوف يا امه ،ه َّو �أنا يعني اللي بنتك لوحدي . همهمت ( أ�م العز) تغريها في �صوت م�ست�ضعف يثير ال�شفقة وي�شي بوعد خفي: -ما لي�ش غيرك يا بنتي ي�سترك ربنا ويعو�ض عليك . كانت (فريدة) �أحب بناتها إ�ليها وا ألقرب لقلبها ،فهي التي خدمتها ورعت م�صالحها منذ ف�ضيت الدار عليها ..كلهم ان�شغلوا بحياتهم .. و�أزواجهم وزوجاتهم بنات ورجالة ..لم يبق بالبيت �إلا (عبد الباقي) الذي كانت معه في نقار دائم لإيثارها (عو�ض) آ�خر العنقود بحبها .. و ألن (عبد الباقي) تزوج بدون �شورتها و أ�تى (بواحدة) غريبة طالعة فيها و(بندرية) تظن نف�سها أ�ف�ضل منها ومن بناتها وتريد منهن أ�ن يخدموها لا �أن تخدمهم هي .وجوزها �شجعها و�صار يتحكم (على كيفه) في البيت يبني فوقه مقاعد بالجب�س والطوب ا ألحمر والبلاط .هي ربطته من مناخيره ،جرته وراءها و�أن�سته حاجة �أمه « ..يا ريت كان (عو�ض) هو اللي اختار الدار وقعد جنبها بدل من اللي �سكن مراته فوقيها ،وليل ونهار قباقيبهم تدق على نافوخها». 313
فــي غيـابـة الجـب... قبيل موت جدتي ب�أ�سابيع �سمعتها تطلب من (فريدة) أ�ن تعمل ح�سابها على المبيت معها� .إذ �أنها �صارت تحلم كثي ًرا ،لو نامت ،بالحاج يناديها �أن تلحق به �إلى �أر�ض الر�سول .وفي يقظتها تطاردها كوابي�س و أ�حلام مرعبة ،لا تجر ؤ� بعدها أ�ن تنام .حكت لها أ�نها منذ وعت على الدنيا لم يمت أ�حد من عائلتها أ�و من عائلة الحاج �إلا حين يترك وحده -حتى ولو للحظة خاطفة -لذلك تريدها أ�ن تبيت معها . �سمعت (فريدة) تحتج ب�أولادها -و أ�نها �ستو�صي (عبد الباقي ومراته) أ�ن يطلوا عليها في غيابها . و�ستترك باب الو�سط مفتو ًحا لأي طارئ، 312
بدا بابها الخ�شبي كوجه �صنم من �أ�صنام (الملك النمرود) ،يراقبني وقد رفع حاجبين عري�ضين يلقيان تحتهما ظل ًّا يخفي لمعة عينيه المنطفئتين .. كانت �أركان الغرفة غارقة تما ًما في ظلام لا يمكن اختراقه ،بينما اختفى ن�صفها ا ألعلى وتعمق �سواده وامتد �إلى ال�سماء ..خطوت نحو (جدتي) فتعثرت بكر�سي خ�شبي ح�سبته كائ ًنا ما .ف�صدرت مني آ�هة �صامتة كتمها الرعب الذي �شل �ساقي ومنعني من القفز عائ ًدا إ�لى الخارج ..عدة أ�جولة مترعة بالحبوب كانت مر�صو�صة في الركن الأيمن بدت كرجال رماديين يبحلقون في �صمت مت�سائلين عن هوية ذلك المزعج الذي أ�يقظ �سباتهم .. تململت جدتي و�سمعتها تقول في حدة : -مين ؟ وله ..واد يا �سمير .. كدت أ��صرخ حين �سمعت ا�سمي م�شرو ًخا بل أ�ردت أ�ن �أ�صرخ ،لكن �صوتي مات في جلد حلقي واختنق ..وتخ�شبت �ساقاي وتحجر ج�سمي و�أحاطت بي هم�سات للم�سات باردة ولم �أدر هل مددت يدي لآخذ المفتاح من تحت ر�أ�سها ،أ�م �أنني وجدته في مو�ضعه بباب (الخور�ستانة) � ..أنا لا أ�ذكر أ�نه كان بقدرتي ا إلتيان ب أ�ي حركة ،أ�و أ�ن أ�فعل ما ظننت �أني فعلته إ�ن كان قد حدث فعل ًا ..فتحت باب (الخور�ستانة) ب�سهولة .. كانت م�ستطيلة بها ر َّفان من خ�شب قديم قاتم ق�سماها �إلى ثلاثة أ�ق�سام .. حين لم�ست (قرن الحنتيت) انتابتني رع�شة وكدت �أ�سقطه فوق ر أ��سها ..ولكنني �أبعدت يدي ب�سرعة ؟؟ وحين تناولت العلبة الخ�شبية الخ�شنة وفتحتها � ،ش َّع منها بريق أ�ع�شى عيوني وبهر أ�نفا�سي ،ع�شرات الجنيهات الذهبية وا أل�ساور والحلقان يعلوها خلخال ذهبي يتل َّوى راق ًدا فوقها ك�أنه ثعبان حي .ف َّح في وجهي ف أ�قفلت العلبة ب�سرعة ،ف�أحدثت �صو ًتا له رنين 315
ه َّد أ�ت (فريدة) من مواجعها وودعتها بعد أ�ن وعدتها �أنها �ست�أتي لتبيت معها من يوم الجمعة القادم �إن �شاء الله ( ..وعليها ب�س �أن ترتاح.. وربنا ح يديها ال�صحة وطولة العمر!). -طب خ�شي الحا�صل وخدي الع�شا لاولادك قبل ما تم�شي! وفعلت (فريدة) ما تفعله كل يوم .دخلت و أ�خذت ما لا �أعرف من حاجات و�أ�شياء وم�ضت.. �صار المكان (ا�سكت ه�س) ..لا �شيء يتحرك حتى العنزة �أم قرن واحد -رقدت واتخمدت ،والدجاج طار على جناحات الحلم ، وا�ستيقظت العفاريت تمار�س �ألعابها الليلية ..فا�ستجمعت �أنا ما ادخرته من �شجاعة وت�س َّحبت للدخول إ�لى تلك الحجرة الغام�ضة المكتظة ب�أدوات ال�سحر والم�سكونة بالأ�شباح والغرائب. حين دفعت الباب القاتم الثقيل �ص َّر وز َّيق محد ًثا �صو ًتا كالأنين الغام�ض لمارد يت أ�وه ه َّبت عل َّي منه ريح محملة بمزيج من روائح غليظة وه ْبو دخان ثقيل له قوام ي�ضغط على الجلد ويثير الرعب ،أ�غم�ضت عيني و�أخذت نف�ًسا عمي ًقا محاول ًا تهدئة قلبي الذي َ�ص َّمت دقاته أ�ذن َّي حتى ُخ ِّيل لي �أن كفين �ضخمين ي�صكانهما في بطء وانتظام .فتحت عيني و�أنا �أحاول تذكر �آية الكر�سي أ�و حتى الفاتحة .لكن الآيات اختلطت ول�ساني ت�ص َّلب ي�سد حلقي عن التنف�س.. �إ�صراري جعل عين َّي تتعودان الظلام الذي يغمر الحجرة ،رغم ال�ضوء البارد الكالح الذي ت�شعه في �ضعف اللمبة ال�سهاري ال�ضئيلة الم�ستقرة داخل طاقة خا�صة على �شمال الباب .على �ضوئها الباهت تبينت كتلة �ضئيلة من ال�سواد متكومة في طرف العنجريب ،تحت (الخور�ستانة) التي 314
وكـان �سعيـهم م�شـكو ًرا .. قبيل موت الجدة جاءت (كمال) بنت عمتي (فريدة) و�أقامت معها في الحجرة التي كانت محرمة علينا � ..أمي أ�ظهرت بع�ض الاحتجاج وال�شك وقالت : -طب ًعا ..بيرتبوا لحاجة كبيرة .. �أبي كعادته عندما لا يعجبه قول �أو ت�صرف لها برطم وقال : -طب كنتي اعمليها انتي . قالت في امتعا�ض : � -أنا ..بعد ال�شر .. ازدحم المكان ب أ�ولاد وبنات عمتي ودبت الحياة في الحو�ش ،لكن المدار�س كانت قد بد أ�ت 317
و�صدى عميق لا نهاية له ..خ ِّيل إ�ل َّي أ�نه �أيقظ كل الموتى وال�شياطين ، قفزت مرعو ًبا ولم أ�در �ساعتها هل �أغلقت (الخور�ستانة) و�أعدت المفتاح �إلى مكانه ..أ�م أ�نني لم �أجد القدرة على فعل ذلك .إ�ذ �أن ال�صرخة الحادة التي أ�عادت الوعي لي لم تعطني الفر�صة للت أ�كد من �أي �شيء .. -إ�لحق يا (عبد الباقي) الواد �سمير نايم تحت ال�سلم ..واحنا دايخين عليه من المغرب .يا قلب �أمه!! في ال�صباح لم أ�تذكر �شي ًئا مما حدث .جاءت عمتي (فريدة) كعادتها مبكرة .وعلى الفور أ�جل�ست امها على العنجريب ،مثلما تفعل كل يوم ، ت�سللت أ�تلك�أ بالقرب منهما أ�تن�صت لحديثهما لع ِّلي أ�تبين حقيقة ما حدث بالأم�س . هل اكت�شفا أ�نني اقتحمت حجرة الأ�سرار � ،أو أ�نني فتحت (الخور�ستانة) و أ�ب�صرت كنز (ال�شمردل)؟ لكنني لم �أت�أكد �أب ًدا . ••• 316
.إ�ذ كانت قائمة تتحرك في ن�شاط ،ت�أخذ ما ًء �ساخ ًنا من ال�صفيحة فوق الوابور وتخلطه في ماجور كبير من النحا�س مع ماء بارد ..ثم ت�صب على ج�س ٍم ما لم �أتبينه كانت تل ِّيفه في ن�شاط وحنان ..كان البخار المت�صاعد من ال�صفيحة ومن ماجور (الإنجاز) ومن الج�سد الغام�ض يم أل ف�ضاء الحجرة ويزيد غمو�ض المنظر ،لم تعد الأجولة المليئة بالحبوب في مكانها ..وغام وجه (الخور�ستانة) المرعب و�ضاع في فراغ الحائط الم�ضبب وانحنت (كمال) وهي ت�ضحك تطارد ال�صابونة الهاربة في رغاوي الط�شت فر أ�يت بين يديها ..ج�س ًدا هزيل ًا ي�شع بيا�ضه تحت �ضوء الم�صباح يغطيه �شعر طويل رمادي مهو�ش مبلول �صبغت معظمه حمرة الحناء ،ج�سم نحيل من جلد وعظم له �أطراف معروقة مقرف�ص فوق الكر�سي ،عظامه ناتئة بارزة تحت�ضنه ذراع (كمال) الب�ضة الفتية التي تبحث عن ال�صابونة وهي تكمل غناءها في مرح: -أ�مانة لو رحت للبندر تجيب لي هدية ..يا ليل الله .. ت أ�ملت المنظر الم�ضبب ،ولاحظت عدم وجود ا أل�ساور الذهب في ذراع الجدة الرفيعة ..ولا الخزام في �أنفها الوا�ضح ،ف�ضحتني �شهقتي فالتفتت (كمال) ناحيتي غا�ضبة في ع�صبية كاد أ�ن ي�سقط معها الج�سد الهزيل الغريق في ماء الحموم . � -إم�شي يا وله بلا�ش قلة �أدب ..اقفل الباب � ،ستك تاخد برد يا حمار .. ولم �أجد وق ًتا �إلا لأهرب في قفزة وحدة ،أللتقط غلق البلح من جانب ال�سلم و�أ�صعد به وقد تملكني �شك �أنني دخلت الحجرة الم�سحورة قبل ا آلن . 319
وق�صر النهار و�أ�صبحت �أق�ضي معظم الوقت خارج البيت و�إن ظل خيال و أ�حداث تلك الليلة لا يفارق خيالي ..كانت (كمال) ن�شيطة ولا تكف عن الحركة تطرد الجميع بعي ًدا طول الوقت ..حتى �أمها قل تواجدها في المكان ..الذي �صار نظي ًفا ..وذبحت العنزة �أم قرن واحد ولم تعد البقرة تظهر في قاعة الفرن ..وارتفع �صوت الغناء في الحجرة وفي الفناء وذات م�ساء كنت عائ ًدا من الغيط بعد يوم ق�ضيته مع �أولاد عمي (عبد الحليم) ( -محفوظ) و( أ�بو كلام) -ح َّملاني هدية من بلح (بنت عي�شة) من نخلة زي الع�سل ترمي مبكرة �أكلها اللذيذ ..وكنت �سعي ًدا لأنهما وعداني أ�ن ا�صحبهما في الأ�سبوع القادم ،بعد أ�ن ي�ست أ�ذنا أ�بي أ�ن �أح�ضر جمع �أول قطفة من قطن (غيط ال�سباخ) الذي رمى ب�شائره مبك ًرا هذا العام. حين اقتربت من باب الو�سط �سمعت (ن�شي�ش) وابور الجاز في حجرة جدتي و�سمعت (كمال) ت�ضحك وهي تغني أ�غنية فرح طالما �سمعتها في ليالي الحنة وبالذات عند حموم العرائ�س: �“ -أحمد ويا �أحمد ويا أ�بو الود يا غالي ..يا ليل الله.. أ�حمد على الكوبري �شاور لي بمنديله ..يا ليل الله”.. كانت تغني وترد على نف�سها في �سعادة ومرح ..فتركت َغ َلق البلح على أ�ول ال�سلم وت�سحبت نحو حجرة جدتي ..كان الباب موار ًبا .. وثمة بخار دافئ يم أل فراغ الغرفة ..دفعت الباب قليل ًا ومددت ر�أ�سي في حذر و�صمت � ..صوت الوابور ي�أتي من ركن الغرفة التي ت�ضيئها لمبة (نمرة ع�شرة) يلاعب �ضوءها البخار ال�ساخن .لم يكن �سرير الجدة في مكانه ..كان قد أ�زيح إ�لى الركن البعيد ،وثم في و�سط الحجرة ط�شت كبير في و�سطه كر�سي الحمام الذي تعثرت به ليلتها ..وكان ج�سم (كمال) �شبه العاري تحت قمي�صها المبلول يحجب الر ؤ�ية عن بقية المنظر 318
وكنت لا أ�حتمل هزاره و�أغ�ضب فعل ًا رغم ت�أكدي �أنه لا يعنيه ،لكنه كان يرد علي م�ؤك ًدا ليفر�سني �أكثر: -أ�يهه ؟! اللي على را�سه بطحة ..م�ش ب�أقول لكم . فكنت �أخفي غيظي و�أ�ضحك ألجاريه في �سخريته ،لكن قب�ضة باردة كات تع�صر قلبي دون �أن أ�دري لها �سب ًبا كلما جاءت هذه ال�سيرة . ••• 321
ماتت جدتي بعدها ب�أيام .. وثار بين �أعمامي وزوجاتهم وعماتي و أ�ولادهم وبناتهم ،بل وبين كل من له علاقة بالأمر ومن لي�س له علاقة ..جدل حاد وكلام كثير مختلط ب�صراخ وعويل ..واتهامات و�شتائم وتلميحات .وكان عراك كبير. لم يجدوا في (الخور�ستانة) �شي ًئا �سوى ب�ضع جنيهات ورقية و(كب�شة ريالات ف�ضة) ولم يكن هناك لا (قرن الحنتيت) ولا (طا�سة الخ�ضة)! والحا�صل الذي كان متر ًعا (لت ّمته) وجدوا به ب�ضع أ�وان فارغة بع�ضها مك�سور ،ع�ش�ش فيها العنكبوت وطب ًعا اختفت الأ�ساور التي كان الجميع يراها وي�سمعها ت�شخلل في ذراع الجدة العظمي . قيل �أن (فريدة) رف�ضت ما حر�ضها عليه �أولادها ودبروا لها ما تفعله .ولذا جاءت بنتها الكبيرة لتبا�شر -في �صمت � -ضمان ن�صيب اليتامى في ميراث تهدده �سطوة ا إلخوة الذكور.. هم�س البع�ض �أنها تعمدت �أن تح ِّميها بالماء ال�ساخن في البرد ،و�أنها تركت باب الحو�ش مفتو ًحا لت�صاب في رئتيها وتموت وهي ال�ضعيفة الواهنة التي لا تتحمل !! وظل ا ألمر ل�سنوات طويلة محل جدل .وخ َّلف غل ًّا وقطيعة بين الجميع حتى الآن .. لكن الواد �صاحبي (فاروق النملة) ظل ل�سنوات يلاحقني م�ستظر ًفا يغيظني وهو يعايرني �ضاح ًكا: -كل دي حركات يا آ�با ،إ�نت وابوك اللي طلعتوا بال�شخاليل والهبرة الكبيرة . 320
قبل حجة الوداع .وبينما كان ا إلخوة الآخرون أ�و بع�ضهم على الأقل يعار�ض في توريث أ�بناء الذين ماتوا من �إخوتهم ،وكان �أخوهم (عبد الكريم) قد توفى قبل وفاة أ�مهم .تم�سك أ�بي ب�شدة ب�ضرورة ح�صول أ�ولاده على ن�صيب والدهم ،وقاوم ا�ست�صدار ا آلخرين لفتاوى ترف�ض ذلك �شر ًعا .. وكان موقف أ�بي هذا من المواقف التي أ�عظمته فيها -وب�سببه زادت محبتي له واعتزازي به .لا لأن (محفوظ) ابن عمي (عبد الكريم) كان �صديقي وواح ًدا من أ�فراد �شلة العفرتة في البحر وفي أ�بو خ�شبة والغيط، ولا ألن (فتنات) بنته كانت جميلة وكثي ًرا ما تخيلت جنية البحر على �صورتها كلما جهزت نف�سي لها كي تخطفني �أو كلما حلمت بها تطير بي إ�لى مدينة النحا�س .ومازلت حتى الآن �أحفظ م َّوال ًا لا �أعرف قائله يقول : عجبي على بنت بي�ضا وا�سمها فتنات .. كانت الأفدنة الثلاثة أ�قل من �أن�صبة ا إلخوة الآخرين . ولم أ�علم لماذا ؟ لكن يبدو أ�نهم و�ضعوا في الح�ساب (تعليم) أ�بي ودخله .وم�صاريف تعليمه دونهم في الاعتبار ،لكن �أبي لم ي�شك من ذلك �أب ًدا بل وا�ستنكر �أن يذكره أ�حد به . توزعت ا ألفدنة الثلاثة على عدة �أماكن متفرقة متباعدة وانق�سمت �إلى قطع في أ�حوا�ض مختلفة لأن �أبي تم�سك ب�شدة أ�ن تكون القطعة ا أل�سا�سية ( أ�ر�ض ال�سباخ) -وهي (فدان إ�لا ربع) -التي بجوارها الدوار وال�ساقية ،والمحاطة بالنخل الذي زرعه جدي و�شتل بع�ضه أ�بي ،أ�ن تكون �ضمن ن�صيبه ،مما �أثار معار�ضة �شديدة لأن الكل كان طام ًعا فيها -واللي يلعب الدحة ما يقول�ش �أحه -ولذا توزع ن�صيبه ،كانت منه قطعة في ال�شمال. 323
لا ي�ضـركم كـيدهم �شيـ ًئا... خل�ص البيت بعد دفن جدتي لـ(عبد الباقي) طب ًعا .ووزعت بقايا التركة التي كان يمكن �أن يكون م�صيرها كم�صير (قرن الحنتيت) وكل ما ظنوا أ�نه كان يملأ (الخور�ستانة) و�سويت ملكية البيت فلم يكن أ�حد يود م�شاركة �أبي فيه . لقد بنوا بيو ًتا على و�ش البلد لا تف�صل بينها وبين مقام جدهم (�سيدي مجاهد) -الذي لم يكن قد �صار م�سج ًدا بعد � -سوى (الخرابة) �أو الج َّبانة القديمة التي ا�سمها (تل أ�بو خ�شبة) وقمينة الجير و(من�صل) �أو م�سرف دار (�أحمد) . كان ن�صيب �أبي ثلاثة �أفدنة نجت من تحيزات جدتي وميولها غير العادلة بين أ�بنائها وبناتها . وكان جدي قد باع كل ا ألر�ض لجدتي (بيع و�شرا) 322
وهكذا �أ�صبح عالم مغامراتي ال�صغيرة الهائلة ،ممت ًدا على م�ساحة يمتد براحها – كما أ�وحت لي ح�ص�ص وكتب الجغرافيا عبر حدود -قارات العالم -التي يقع غيط (ال�سباخ) منها موقع القلب بال�ضبط ،مثلما تتو�سط م�صر خارطة أ�حلامي التي بدت لي تت�سع وتتخطى خطوط الطول والعر�ض ..وتمتد إ�لى حيث بد أ�ت ت�أ�سرني مدن �أتعرف عليها مثل (تاني�س وبغداد والهند) .وتخلب روحي جبال (الأوليمب) و(الواق الواق) والتلول ، وفي القلب من هذا العالم كان البيت الذي �أ�صبح منذ ذلك التاريخ مملكة �أبي ومملكتنا ،تبد�أ وتنتهي �إليه الأيام ،وا ألحداث تولد وتحت�ضر فيه لحين تتحقق �أو تجه�ض ا ألحلام .والأوهام �أي ً�ضا .. بعد ا ألربعين مبا�شرة �ش َّمر أ�بي عن �ساعديه ليعيد ت�شكيل بيت الجد الذي �صار بيته .انهمك في تجديده و�صياغته ح�سب الحاجات التي كانت تتغير ب�إيقاع مت�سارع مع تغير ظروف الحياة ومطالب المعي�شة .. كان بيت جدي من أ�قدم البيوت في ال�شارع الذي عرف في (ميت �سل�سيل) من زمن قديم با�سم حارة (ال�ص ّياغ) لأن بها عدة بيوت ي�سكنها �أحفاد �صائغ قديم �صارت مهنته عل ًما عليه فت�سمى بها أ�ولاده تميي ًزا لهم عن �أولاد الفلاحين في الحارة والبلد .وكان معظمهم ي�شتغل ببيع الذهب وبالرهونات وال�سم�سرة . �أكد لي عم (عوي�ضة �شهاب) الفلاح ،في كراهية �شديدة� ،أن جدهم كان (ربو ًّيا) �أرار ًّيا ألنه كان (يهود ًّيا) هاجر �إلينا من حيث لا نعرف و�أعلن �إ�سلامه (وقب�ض ثمن تغيير دينه) لكنه لم يعمل بالزراعة �أب ًدا ..وحين بارت تجارة الذهب وانقطعت �صلاته و�صلات �أولاده بموطنه ال�سابق انفرط عقدهم ،وتفرقوا بين �أن�شطة مختلفة من التجارة في الحبوب وبع�ض الأعمال 325
�ضمن حو�ض ي�سمى ( أ�ر�ض الطير) بالقرب من البحر ال�صغير ..و�أخرى في الجنوب البعيد ،قبلي ال�سكة الزراعية وال�سكة الحديد فيما يعرف بحو�ض (ال ُخم�س) . كنت �أكثر النا�س فر ًحا لهذا الذي جرى .إ�ذ توزعت م�ساحات أ�ن�شطتي وملاعب طفولتي ..وتعددت الحجج التي �أ�سوقها لتواجدي خارج البيت بين �أركان الأر�ض وجهاتها ا ألربعة ...ما بين البيت �شر ًقا و(�أر�ض ال�سباخ) غر ًبا و(�أر�ض الطير) �شمال ًا وجنو ًبا غيط (الخم�س) . كانت (�أر�ض الطير) تعطيني فر�صة لل�صياعة في حقول (ال�شهايبة) المجاورة والا�ستحمام في البحر ال�صغير مع أ�ولاد وبنات عمي (عبد الحليم) و أ�ولاد عمي (محمد) وعمتي (فرحة) .وكانت �أر�ض (ال�سباخ) ت�سهل لي مغامرات ال�سطو على ا أل�شجار الكثيفة من الجوافة والتوت والجميز والبلح ،والبلبطة مع ع�صابتي في البحر القديم للعوم أ�و ل�صيد ال�سمك ، وال�سطو على ب�ستان (الزنئورة) وعنبة (�أبو مجاهد) ومطاردة (الم�سحور) ال�ساكن في �أعماق (الطنبو�شة) ..وكانت �أر�ض (الخم�س) تعيد الروابط المقطوعة مع �أولاد وبنات عمي (عو�ض) وعمتي (فريدة) وتقدم �سب ًبا للالتحاق ب�أ�صحابي من �أبناء (عوي�ضة �شهاب) حيث يقوم دواره ال�شهير على �أول طريق (الخم�س) الممتد �إلى الجنوب ،مختر ًقا عالم الغمو�ض �إلى �أر�ض مجهولة خالية من الب�شر لبعدها عن العمران .وكان الطريق �إليها �أحد طرق أ�هل بلدنا �إلى (بلاد ال�شرق) التي ظل معناها غام ً�ضا علي حتى كان وباء الكوليرا فقطع الطريق على العابرين ،لأن عبره انتقلت العدوى التي حملها بلح وتمر بلاد ال�شرقية و(القرين) .حيث كانت مع�سكرات ا إلنجليز -الذين قيل �إنهم د�سوه للم�صرين انتقا ًما بعد الحرب . 324
واجهته عن خم�سة أ�متار ،ثلاثة منها ت�شكل غرفة ذات �شباك واحد ن�صفه ا ألعلى من �ضلفتن زجاجهما مك�سور على الدوام ،والأ�سفل المنف�صل من �ضلفتين خ�شبيتين ي�ؤطرهما �إطار حديدي ي�شبه �شبابيك ال�سجون . كان باب البيت الم�صمت يفتح على �صالة �ضيقة ممتدة طويل ًا إ�لى العمق تنتهي ب�سلم خ�شبي �شبه قائم يرتفع لثلاثة أ�دوار ،وينحني ملت�ص ًقا بنف�سه لي�سمح للم�ساحة المجاورة �أن تكون غرفة بجوارها طرقة نحيفة تنتهي بكنيف .وكانت الأدوار الثلاثة منكم�شة على نف�سها كمزنوق جاهد طويل ًا كي يقف منت�ص ًبا ليعلو البيوت المجاورة � ،شا ًّقا ب�صدره طري ًقا �إلى ال�سماء ومان ًحا قفاه لن�سيم ال�شمال ورياحه ت�صفعه في همة ون�شاط دائم، م�ستمت ًعا بانف�ساح ا ألفق خلفه حتى �آخر الدنيا مجد ًدا الهواء في البيت المخنوق ومحول ًا �إياه �إلى جنة في ال�صيف وثلاجة في ال�شتاء. كان بيت جدي يحاول مناف�سة ذلك البيت المزنوق في الارتفاع، على ا ألقل ،في ر أ�يي ،رغم أ�نه بنى على راحته فكانت وجهته الممتدة �إلى �أكثر من اثنى ع�شر مت ًرا �أو يزيد ترتفع جدا ًرا �سمي ًكا من الطوب ا ألحمر و(الق�صرمل) يبرز فيه بابه ال�ضخم الم�شغول التاج وال�شراعتين بالحديد ا أل�سود ،و إ�لى جواره ال�شباكان الطويلان .يوحي بر�سوخ خا�ص لم يدم طويل ًا �أمام همة والدي ورغبته الدائمة في التحديث ! كان قد �أقام ال�سلم (الخا�ص) في حجرة الدجاج المك�شوفة على غير ر�ضا �أمه .فعزل ن�صف الدار الداخلي الذي كانت ت�سكنه عن مدخل البيت .وكان قبل موتها قد ا�ستكمل بناء الدور لثاني فبلط ال�سطح �أمام المقعدين .و�أحاطه ب�سور من الطوب الأحمر والجب�س .وكان بدعة في حينها ..ثم عاد و�أ�ضاف إ�لى المقعدين القبليين المطلين على الحارة - 327
الربوية .وغادر بع�ضهم الحارة وتزوجوا .وبع�ضهم رحل وعاد �إلى حيث جاء �أبوهم ،حتى ن�سى النا�س �أ�صولهم و�صاروا يغ�ضبون ويت�شاجرون لو ذكرهم �أحد ب�أ�صولهم �س ًبا �أو عايرهم بها .. وفي مواجهة بيتنا كان �أخوان �شقيقان من تلك العائلة � ،أحدهما اقترب من الزراعة فا�شتغل �سائ ًقا عند أ�غنى مالك في القرية وامتلك هو و أ�ختاه م�شتل ًا للزهور وتربية �شتلات ا أل�شجار المثمرة على الجانب المقابل لجنينة (علي أ�بو ح�سن) مناف�س �سيده اللدود على �شاطئ البحر القديم تظله أ�ربع �شجرات توت وجميز معمرات ،ت�شكل رك ًنا �ساح ًرا من الخ�ضرة الكثيفة على طريق يمتد من البحر ال�صغير �إلى جوار �ساقية (الأمير) حيث كان يحلو لنا �شبا ًبا �أن نق�ضي ظهيرة أ�يام ال�صيف في ظلها الرطب ال�ساحر حيث ت�شتبك رياح ال�شمال ال�صيفية القادمة بعر�ض ا ألفق مع البحر وتلاعب أ��شجار الكافور والنخيل والغاب الرومي التي ت�صنع من ال�شاطئ المقابل �سيا ًجا يمتد بطول (الجنينة) مهي ًئا أل�شجارها المثمرة طق�ًسا رائ ًعا يجعلها من �أخ�صب أ�را�ضي (ميت �سل�سيل) ،غنية بما تنتجه من فواكه وخ�ضروات تذكرني بق�صة (الجنتين) المذكورة في القر�آن ،و أ� َّهلتها لتعطي ل�صاحبها ال�شيخ (علي �أبو ح�سن) مكانة متميزة بين �أهل الناحية -الذين �أطلقوا على هذه القطعة الم�سروقة من الجنة ا�سم (ال�ساحل) و�أحاطوها بالكثير من الخرافات والأ�ساطير وحكايات الحيوان وعرائ�س الماء ..والع�شق أ�ي ً�ضا . في الحارة كان هناك عدة بيوت لعائلات من (ال�صياغ) ولم يكن يف�صلها عن بيت جدي �سوى بيت (ح�سنة أ�م عبد الله) -الذي لا يزيد عر�ضه عن ب�ضعة خطوات � ،أقربها كان بي ًئا عجي ًبا �ضي ًقا كثير ا ألخ�شاب يرتفع وحده عال ًيا نحي ًفا يف�صله عما يجاوره جدار �أ�صم من الطوب لا تزيد 326
ولكم حزنت عندما اختفى الباب ال�ضخم ذو التاج الحديدي . والذي كنا نزينه في �شم الن�سيم ب�أغ�صان ال�صف�صاف الخ�ضراء وجريد النخل والريحان ،وا�ستبدل بال�شباكين العملاقين �شباكين �أقل حج ًما ،وبلطت ا ألر�ض كلها � -صارت الم�ساحة على يمين الداخل مندرة وا�سعة ت�صلح لا�ستقبال ال�ضيوف و�صار بها كنب بلدي بدل ًا من الم�صاطب وامتدت ال�صالة أ�مامها ،وا�سعة برحة م�ضيئة على عك�س ما كانت أ�يام الجدة ،يدعم �سقفها قطوعان يق�سمانها قبيل الكنيف ،ويحجبان داخل الدار عن أ�عين الداخل ،لتنتهي بباب من �ضلفتين حديثتين ،يفتح على الحو�ش الذي كان ن�صف مك�شوف ،بعد �أن أ�زيلت العري�شة التي كانت تغطية ليتدفق النور والهواء البحري ح ًّرا إ�لى عمق البيت . وبعد �إزالة ال�سلم الخ�شبي � ،أ�صبح �أمام حجرة الفرن حو�ش كاف لتربية الدجاج وا ألرانب ..و�صار للحا�صل �شباك بحري و�أ�صبح بعد تجديده غرفة ،بينما �صار الكنيف (الكر�سي) محل ًّا ل ألدب أ�و (حمام) .كما كانت (ال�ست) تحب �أن تطلق عليه ،واختفت إ�لى الأبد (جنية) الكنيف المرعبة التي كان لا يحلو لها الظهور �إلا عندما ت�سمع وقع أ�قدامي على ال�سلم الخ�شبي و�أنا نازل لألحق بالقطار �إلى المدر�سة حامل ًا حقيبتي الخ�شبية الثقيلة والتي كنت عندما أ�راها �أغم�ض عيني و�أنا �أتقدم في الظلام أ�تمتم ب آ�ية (الكر�سي) و(قل هو الله �أحد) كما علمتني خالتي ،ف�أ�شلها و أ�جبرها على العودة إ�لى ظلام (الكنيف) بينما أ�فتح الباب مغم�ض العينين و(�أفل�سع) نحو المحطة دون أ�ن �أتبين ما �أمامي . وبعد اختفائها �إلى ا ألبد أ��صبح البيت �صال ًحا لا�ستقبال غيري وغير �أختي �آمال . رفع ا إليريال القديم �إلى �سطح الدور الثاني ف�صار ا�ستقبال الراديو 329
وكانت بينهما ترا�سينة من زجاج وخ�شب -غرفتين بحريتين ببلكونة (�شكمة) أ�خرى بعر�ض ال�صالة التي تو�سطها باب من �أربع �ضلف زجاجية بمف�صلات جاهزة حين يفتح في ال�صيف ت�صبح ال�شقة م�صي ًفا يرد الروح .. وبعد �أن اكتمل الدور الثاني م ّد ال�سلم ن�صف الخ�شبي �صاع ًدا �إلى ال�سطح الجديد ،ثم أ�عيدت �صياغته لي�صبح كله �سل ًما حجريًا من درجات م�ؤطرة بالخ�شب ومبلطة بالبلاط الملون .وتحول الك�شك البو�ص ،الذي كان في الما�ضي مخز ًنا لخزين ال�ست ( أ�م �سمير) ومكا ًنا لأزيار تنقية الماء ومنا ًما لمبيت الخادمة ال�سمراء (التي جاء بها لتخدم ال�ست وليغيظ من احتجوا على زواجه منها) � ،صار مطب ًخا وا�س ًعا ي�شرح القلب بنافذة بحرية .جرى بيا�ضه كامل ًا بالجير من الداخل والخارج ،لكن بع�ضهم هم�س في أ�ذنيه م�شك ًكا في قدرة الجدران التي بنى بها البيت القديم على التحمل ، �صحيح انها متينة ومبنية بذمة أ�هل زمان ،لكن الحياة الجديدة وا�ستعمال الماء ب إ��سراف كما تعودت (ال�ست) ،ومد مجاري من الحمام في الدور الثاني إ�لى �أ�سفل� ،سوف ي�شكل خط ًرا على الجدران الخلفية التي بنيت بها قاعة (الأ�سرار) والفرن والحا�صل -كلها بالطوب اللبن �أو على الأقل بالطين المعر�ض للت�آكل. �ش َّمر أ�بي عن �ساعديه وقرر �إعادة تدعيم جدران الدور ا ألول لتتحمل حداثة الدور الثاني ،وقد كان ،وح�سب �أوامره للعمال ،الذين كانوا يعملون ح�سب إ�ر�شادته وتحت �إ�شرافه ،تم تكحيل كل الجدران من ا ألر�ض لل�سقف بعد ك�شف كل الأحجار .ورغم ر أ�ي بع�ض البنائين ب أ�ن (الق�صرمل) والطين �سيطردان ا أل�سمنت .إ�لا أ�نه �أ�شرف على ملأ الم�سافات التي عمقت ألق�صى درجة بين الطوب وبع�ضه -بالأ�سمنت ثم �أعاد تمحير كل الجدران من الداخل والخارج (بمعلمة) ،ثم �أعاد تبيي�ضها بالجير الملون . 328
ما كان حدي ًثا ُيفترى ا�ستيقظت من نومي المتقطع القلق مكتئ ًبا فز ًعا ..لم �أ�ستطع تبينُّ موقع قدمي .كادت خطوتي الأولى ت�سقط ج�سدي غير المتزن ،في هوة �سحيقة بلا قرار ،لولا أ�ن تعلقت ب أ�كرة الباب ذي ال�ضلفة الواحدة ،التي ن�صفها ا ألعلى من الزجاج الم�صنفر الرمادي ،والمعلق على مدخل البلكونة ال�ضيقة ، فافتقدت براح بيتنا الخم�سيني ! حيث كان الحائط الن�صفي في نف�س المكان ي�شكل بالعر�ض ظه ًرا �آم ًنا للكنبة البلدي ذات الم�ساند والح�شايا الثرية - المجل�س المف�ضل لل�ست (علية) تدير من عليها �شئون البيت -تمتد �أمام ناظرها ال�صالة العميقة الممتدة حتى البلكونة القبلية .. تمرح الن�سمة ال�صيفية بحرية تكون معها ال�شقة 331
�أ�صفى و�أو�ضح ..و�س ّور ال�سطح كله بالطوب الأحمر والجب�س .و�صارت هناك إ�مكانية ل�صنع �أك�شاك �صغيرة لتربية الكتاكيت وللتمتع ب�شم�س ال�شتاء حين ت�شرق ..وبليالي ال�صيف تحت نجوم �صافية بعي ًدا عن �أعين المتطفلين من فوق �سطح بيت (ال�صياغ) وبيت ( أ�بو �سيد) القريبين. اكتمل البيت � ..صار الدور ا ألول مكا ًنا يتيح الفر�صة لا�ستقبال ال�ضيوف ،و�أ�صدقائي دون جرح �ستر البيت ..بل �صار على غير ما كنا نتوقع أ�كثر إ�غراء ألمي و أ�بي لق�ضاء �أيام وليالي ال�شتاء فيه ،لمن يطلب دف ًئا توفره الجدران ال�سميكة ،المبنية على الطريقة القديمة. و�أعادت هذه التجديدات نزناز الكلام وا إل�شاعات �أو هكذا خيل إ�ل َّي .فبالرغم من أ�ن �أولاد عمتي (فريدة) وبنتها البكرية بالذات ا�شتروا عدة فدادين ،و أ�عادوا بناء بيتها وبيوتهم وظهرت عليهم دلائل الي�سر ب�شكل فا�ضح -إ�لا أ�ن الولد (فاروق النملة) لم يكف عن إ�غاظتي أ�نا ومعايرتي �ضاح ًكا... -أ�هه! أ�نا جبت حاجة من عندي ؟ أ�هي ( ..ال�شخاليل) ..ظهرت يا عم . ويبدو �أنني كنت قد أ��صبحت مع ا أليام �أكثر عقل ًا مما كنت� .أ�صبحت نا�ض ًجا بع�ض ال�شيء ألتبين بع�ض ا ألمور التي تفرق بين مقت�ضيات الواقع وتخاريف الأوهام التي تف�سح مجال ًا للح�سد وللقر .جعلتني �أعتقد �أن أ��شياء غير حقيقية لا تحدث تطم�س معالم �أ�شياء حقيقية حدثت وتجعلها أ�قل أ�همية . كان البيت قبل هذه التغيرات وبعدها قد ا�ستقبل �أخي (�سامي) الذي �سقط من الدور الثالث في بيت خالي بالمن�صورة وودعنا بعده �أختي (�صفاء) التي اختطفها الموت فج أ�ة بحمى لم تمهلها .لقد ع َّمدته الأيام بما يكفي من �أحزان . ••• 330
تختلط في المدى الكالح ب�صوت مياه مندفعة من �صنابير مجهولة على أ�ر�ض �صلبة ،وب�أ�صوات ا�ستن�شاق وم�ضم�ضة وتكبيرات وتعويذات متبتلة تمتزج ب�آهات لذة غام�ضة ت�شد �أذني �إلى �أكثر المناطق �سوا ًدا . �أح�س�ست بحيرة من لا ي�ستطيع الت�أكد أ�ن ا ألمر اختلف إ�لى هذه الدرجة وك�أن الخم�س �سنوات التي غبتها في ال�سجن كانت �أربعين تحاول محو تفا�صيل كثيرة متداخلة غائمة تت�ضح قليل ًا حين ت�شق ال�صدر رائحة دخان قمائن الطوب المحروق .تلتهب باحتراق أ�عواد القطن الجافة المحملة بعذارى دودة القطن وعرق البنات وا ألولاد ودماء أ��صابعهم التي نه�شتها �إبر (الأو�شبر) الحادة الثلاثية الأطراف للوز القطن الجاف . ال�صدفة دفعتني لح�ضور م ؤ�تمر للديكة المتعبة .ا�ستمعت ب�إمعان فيه لخطاب تاريخي لجح�ش متوتر يتعجل أ�ن ي�صبح حما ًرا .. واقتحمت أ�ذني مظاهرة فجائية لفيلق من بط بلدي و أ�وز ثرثار، ا�ستيقظ قرفا ًنا من النوم عندما ده�ست فيه قدما امر�أة خرجت لتوها متحررة من ج�سد زوجها المرهق ،فانطلق ال�سرب �ساخ ًطا يبحث عن الذباب الذي لم يبد أ� نهاره بعد .. ات�ضحت ملامح ا أل�سود الباهت على �شمالي ،فتبينت �شبح امر أ�ة ن�صف عارية متعجلة تدلق ط�ش ًطا من الماء ذي الرائحة النفاذة ل�صابون رخي�ص ،بين قدم َّي مبا�شرة فت�صاعد منه ن�شي�ش ال�صابون الدافئ على الطين الجاف فل�سع حم�ضه أ�نفي .. تراجع الغامق ليك�شف و�ضوح �شكل البيوت القديمة القزمية البائ�سة مقنفدة تحت �أقدام �أخرى حديثة عالية تبدو أ��شد ب�ؤ�ًسا رغم الطوب ا ألحمر والجب�س . 333
(مملكة) خا�صة �إذا ما فتح باب الو�سط المكون من أ�ربع �ضلف زجاجية، ممتدة حتى ال�سقف ،والذي ي�صبح مترا�ًسا ثان ًيا �إذا ما �أغلق في وجه رياح ال�شتاء وبرد طوبة ،بينما لا يمنع زجاج الترا�سينة الملون الإطار ر ؤ�ية انهمار المطر فوق �سطوح لبيوت الق�ش التي لا تحجب عن الر ؤ�ية قمم �أ�شجار الكافور على �شاطئ البحر القديم.. قبل �أن يرتفع بينهم بيت (النبراوي) وبيت (عبد الحليم �أبو عو�ض) العالي اللذان يقطعان ا�ستر�سال النظر �إلى المدى البعيد...بعد �أن تقزم البيت فى �شكله الجديد إ�لى دورين فقط !! كان الرمادي ثقيل ًا ممت ًدا حتى �أنفي ،حامل ًا رائحة تراب التلول المالح الذي لم يعد يلوح لعيني ،ثمة ظلال �أكثر كثافة تحيط بي ،وتر�سم ما ي�شبه بقايا قرية م�صرية تحاول الخروج من أ��سر الطوب اللبن وال�سقوف المحملة بالق�ش الرطب وجدران الخزاين البو�ص المطلية بالطين المدهوك والحظائر القديمة الحميمة حيث يت�شارك فيها الب�شر والما�شية والدواجن . قرية تحاول ا إلنفلات إ�لى عالم البناء بالطوب الأحمر والأ�سمنت والبيوت العالية والمجاري الطافحة و�أكوام الزبالة الحديثة المفعمة بزناخة رائحة البلا�ستيك المحروق .. حولي كانت م�ساحات مربعة وم�ستديرة وكتل �ضخمة حادة الخطوط غام�ضة تتج�سد �صادمة �صامتة تتناثر في تحد لت�شكل �إطا ًرا ثقيل ًا من �سواد ،خلالها وبينها تلوح بقع م�ضيئة تر�سل مجهدة �أ�شعة �صفراء باهتة من م�صابيح جاز أ�و فتائل �سواريخ مرتع�شة تحدد ب�صعوبة حدود �أكوام الق�ش والحطب فوق ا أل�سطح وحول الجدران . ثمة همهمات دينية غام�ضة غطت على �صيحات الديوك ا ألخيرة 332
ترتفع على زاويتيه �ساريتان يمتد بينهما �سلك الإريال النموذجي للراديو ح�سب موا�صفات (محطة ال�شرق ا ألدنى) والتي َح ّلت محلها محطة (راديو لندن) فيما بعد . اختفت (المندرة) التي كانت ت�شكل واجهة البيت ب�شباكيها العاليين الذين يجاورهما الباب التاريخي المنحوت الرا�سخ ذي التاج الحديدي الذي ي�صنع حديدة ن�صف �شم�س ت�شكل مروحة �أ�سطورية من نجوم و�أقوا�س وع�صافير وتهاويل ودوائر تمكننا أ�ن نزرعه ب�أغ�صان ال�صف�صاف وجريد النخل الأخ�ضر ،و�أحيا ًنا بزهور عباد �شم�س احتفال ًا بقدوم �شم الن�سيم .وكان بتركيبه وعلوه الفذ والفني ي�ساعدنا على حمايته من غارات �أطفال الحواري ا ألخرى ،حيث ي�شتد ال�صراع من (�أربعاء �أيوب) حتى (�سبت النور) بين الحواري على �إ�شعال النيران �أمام �أبواب البيوت . بعد تزيين قممها بالخ�ضرة لتدور معارك �صبيانية لحماية ما يخ�صنا والإغارة على ما يخ�ص الحواري الأخرى ،في تناف�س لا يولد حق ًدا ولكن ي�صنع بهجة �إذا انت�صرنا وبعزقنا نيرانهم و أ��سقطنا زينة �أبوابهم ،ويخلف ح�سرة �إن نجحوا في بعزقة و إ�طفاء نيراننا وزينتنا . وكانت النيران الأجمل وا ألكثر جدارة بالحماية ،تلك التي يطقطق لهبها في فرقعات ي�صنعها ب�شدة الملح الخ�شن الذي نر�شها به �أو الذي ي�صنعه احتراق أ�عواد القمح وال�شعير الحية الجافة . ف إ�ذا ما �أتي (�سبت النور) وفات ،كفت حرب النيران المرحة هذه التي يتفاخر ويتباهى من ظلت نيرانهم م�شتعلة �إلى النهاية �أو من بقيت ب�ساتين خ�ضرتهم حية فوق هامات �أبوابهم ..تدور فرق من المنت�صرين والمغلوبين م ًعا لتفقد نتائج الحرب المرحة والتعليق ال�ساخر .والكل يح�ضر الب�صل ا ألخ�ضر ل�صباح (�شم الن�سيم) �سنلقي به مبك ًرا إ�لى البحر (الترعة �أو 335
انطف أ�ت دوائر ومربعات ب�ؤر النور الباهت ،وانق�شع الرمادي الممتزج بزرقة دغمي�شة ال�سحر عن ظلال �أ�شجار وقمم حزم الق�ش الممتدة حتى الأفق تتخللها بقايا من أ��سوار البو�ص المدهوك بالطين كدمن لزمن قديم .. ا�ستندت إ�لى �سور ال�شرفة ال�ضيقة المطلية بالجير والملح الملون والتي حلت محل الترا�سينة القديمة في بيتنا الخم�سيني التي كانت تطل على الخلفية البحرية لبيتنا ،فهالني مدى ما �صنع �أبي وما جرى به الزمان على بيتنا خلال تلك ال�سنوات الخم�س التي غبتها في ال�سجن ألعود بعدها لبيت جديد دفنت فيه مع القديم كل الذكريات التي غمرت في ال�سجن قلبي وعقلي تقاوم الن�سيان والموت .البيت الجديد لم ي أ�تنى فى الحلم بعد ذلك أ�بدا وظلت أ�حلامى تدور حول البيت القديم ،دهاليزه واركانه وروائحه وعفاريته وجنياته . اختفى ال�سلم العجيب الذي كان يمتد ليفتح على باب �ضيق في �أق�صى الجنوب ال�شرقي �صاع ًدا للدور الثاني .وكان ينزل بزاوية قائمة عدة درجات إ�لى داخل و�سط البيت � .إلى تلك الغرفة في و�سط الدور الأول والتي عثر عل ّي فيها ذات مرة نائ ًما �صباح ليلة اقتحمت فيها غرفة �ستي ( أ�م العز) بح ًثا عن �سر (الخر�ستانة) و(قرن الحنتيت) والتي كانت فيه العفاريت تتج�سد لي في �صورة أ�رانب بي�ضاء و�سوداء ورمادية و�أنا في طريقي �إلى مدر�سة (الجمالية) زمان .بينما كان �أمام الدور الثاني يمتد في ب�سطة ت�سلمه �إلى ال�صعود �إلى الدور الثالث وقد اخنلف �شكله و�ضاق عر�ض درجاته مثلما ي�ضيق الدور الثالث نف�سه لي�صبح ن�صف دور من غرفتين بحريتين ودورة مياه ..و�سطح ي�شغل ن�صف البيت الجنوبي ..يحيط به �سور عال 334
�أبي من الجمعية .ف�شن حر ًبا على هذا الت�صرف وعلى �إقراره من مجل�س الإدارة .وعجبت لف�ضح وت�شنيع والدي على من بقوا في المجل�س بعد طرد الوفديين منه . حاولت �أن أ��س�أل أ�بي عن �سر �سكوته على ذلك وهو في المجل�س .. ولكنه نهرني م�ؤك ًدا أ�نني لن أ�فهم -ولم أ�فهم !! ولكن ظل (للمندرة) نفوذها كمركز جذب واهتمام �أهل البلد عندما ا�شترى �أبي (ثاني أ�و ثالث) راديو ي�شتغل بالبطارية ال�سائلة في (ميت �سل�سيل) ..كنت أ�عرف �أن العمدة يملك واح ًدا وكان الآخر في بيت ( أ�حمد بيه الق�صبي) لأن �سائقه الذي ي�سكن في البيت المواجه لبيتنا علق عندما ر�أى الراديو معرو ً�ضا في ال�شباك ..قائل ًا : -لا ..راديو البيه قد ده مرتين .. ولكن هذ لم ينل من فخري �أن في بيتنا راديو ..خا�صة عندما كنت أ�عود في ال�ساعة الرابعة من ماكينة الطحين محت�ض ًنا البطارية على حمار (فتحي الق�شلان) جارنا الذي ي�سكن في �أول ال�شارع وقد ح�صنت نف�سي من ماء النار ومن حرارة البطارية -التي تكون قد ظلت ت�شحن منذ ال�صباح �أو منذ تدور الماكينة -ب�شوال من الجوت القديم ..حتى ابتدع �أبي عربة خا�صة لحملها على عجل � .سافرنا خ�صي ً�صا للمن�صورة ليح�ضره من النوع الذي يدور (برولمان البلي) من مخازن الخردة التي بهرني تنوع ا أل�شياء الموجودة بها .وكان �شارع (داير البندر) يزخر بالع�شرات التي تمتلئ بمئات بل �آلاف الأ�شياء الم�ستعملة القادرة على موا�صلة الخدمة . تبد�أ الإذاعة الم�صرية في الخام�سة م�ساء ،و أ�تولى �أنا تجهيز الراديو 337
البحر ال�صغير) ونحن نغط�س معه ليزيح الماء البكر خمول عام م�ضى عن �أج�سادنا ..كما أ�حرقت النيران ال�سابقة البراغيت في بيوتنا لعام قادم .. لم يعد ذلك الباب الجميل موجو ًدا ..وترقرقت في عيني دموع حقيقية عندما �س�ألتني �ساخ ًرا عن إ��صرار أ�بي الدائم على إ�عادة �صياغته : -إ�يه الل عمله أ�بوك في بيتكم يا وله وانت غايب ! لم يكن اختفاء الباب العالي الجميل وحده الذي حز في نف�سي ولكن (المندرة) ذات نف�سها اختفت ،وهي التي �شهدت �أيا ًما لها تاريخ منذ كان عمري أ�ربع �سنوات و أ�قل .. فكم وقفت ق�صي ًرا على �أر�ض ال�شباك ال�شرقي ..أ�ناول �أهل البلد كوبونات الجاز و إ�ي�صالات ا�ستلام الزيت وال�سكر ،التي كان �أبي يحررها ويناولها لي أل�سلمها بالا�سم لم�ستحقيها من أ�ع�ضاء الجمعية الزراعية التي كانت �أي ً�ضا توزع التموين ح�سب مقت�ضيات الحرب ..كنت �صغي ًرا لدرجة �أنه كان يثير عجب الفلاحين والفلاحات � ،أنني -الذي لا ت�صل هامتي إ�لى ن�صف ال�شباك العلوي المفتوح -أ�ناول كل واحد ما له دون �أن �أخطئ.. ت�صل إ�ل َّي همهمات ودعوات العجائز ا ألميات والن�ساء المتعبات والرجال الذين لا يقر أ�ون وتعليقاتهم . -محف�ض ،ربنا يحميه ..بيعرف يقرا .. -ربنا يخليه لابوه � ..شوفي يا اختي عارف كوبون الجاز من و�صل الزيت . كان كثيرون منهم ي�ستبدلون كوبونات المواد التموينية بالمقابل المادي ..ولم �أكن أ�عرف �أن هذا مخالف للقانون ..إ�لا بعد أ�ن خرج 336
كانت عملية انتزاع الجزء الذي �شغلته درجات ال�سلم (المبتكر) لفتح مدخل م�ستقل للدور الثاني من المندرة عملية هند�سية �صعبة . -هو فيه حاجة هند�سية ت�صعب على أ�بوك ..وه ّي دي �أول مرة يعملها ..م�ش هو اللي بنى الدور ا ألول بعد بناء الثاني .وال َّا خياله .؟ كان خيال �أبي في أ�مور البيت حا�ض ًرا ن�ش ًطا ..عدل وغير فيه منذ كان بي ًتا عاديًا جدرانه من الطوب ال َّن ّي -جدرانه �سميكة يتكون من نف�س تلك (المندرة) ذات ال�شباكين و أ�مامها الحو�ش الممتد حتى الحائط البحري لغرفة الفرن وغرفة الدواجن وا ألرانب .وبين الاثنين ذلك الكنيف المخيف الذي كانت �ستي لا تدخله إ�لا بعد قراءة �آية الكر�سي لطرد عفاريته ،وحجرة الخزين التي كانت منامة جدي قبل �أن يذهب للحج ولا يعود .. وفي مواجهتها الحجرة الغام�ضة التي ظلت م�ستق ًرا لجدتي (ال�ساحرة) التي حولت المر�أة الم َّداحة إ�لى بقرة والتي دفعني ف�ضولي إ�لى الت�سلل في ن�ص الليل ذات مرة لأكت�شف �سر (الخور�ستانة) وكنز ال�شمردل ..وقرن الحنتيت !! وعندما تزوج �أبي بنى لنف�سه �شقة كاملة بالطوب الأحمر والجب�س مكونة في البداية من حجرتين و�صالة ،ولها تلك البلكونة البحرية لت�ستقبل بنت المعلم (يو�سف النجار) أ�ق�صد يو�سف الخمي�سي البندرية ، وهي أ� لها مع ال�سطوح الممتد أ�مام ال�شقة �سك ًنا يليق بها ويحقق �شروط أ�بيها للر�ضا به كابن فلاحين رغم تعليمه و�أفنديته ! وما �أن ولد له الطفل الأول بعد البنت البكرية حتى �شمر عن �ساعديه .وكم كان يع�شق �أن يعمل بيديه قبل مخه حتى مع من ي�ستجلبهم للبناء من المتخ�ص�صين وا�ستطاع �أن يدح�ض حججهم ويقنعهم ب إ�عادة �صياغة الدور ا ألول (البيت القديم) بتكيحل جدرانه �إلى أ�بعد مدى بالأ�سمنت وتمحيره 339
ل إلر�سال من ال�شباك ال�شرقي لأنه ا ألقرب إ�لى ن�صف �شارعنا حيث ي�سكن (فتحي) الذي ي�سهم في �شحن البطارية بحماره يوم ًّيا ،كما �أن ال�شباك يواجه تقري ًبا م�ستعمرة (دار جبر) أ�كثر مناطق �شارعنا ازدحا ًما بال�سكان وبا ألطفال ،الذين يتزاحمون على م�صطبتهم في �شغف ل�سماع (بابا �شارو) و إ��شارته اللذيذة ..و إ�لى �أغنيات (�صف�صف نونو قد القطة ما�شي يتدقلج زي البطة) أ�و (عيد ميلاد �أبو ف�صادة ،وعوف ا أل�صيل ،وعلي بابا وا ألربعين حرامي) ..و(حتة جبنة قديمة تبقى ا ألكلة عظيمة) و(حبة فول حراتي تبقى ا ألكلة ذواتي !!) . هذا غير (عبد الوهاب و أ�م كلثوم) ..و(ط ِلب و�شهرزاد و�شافية �أحمد وال�شيخ رفعت والف�شني) ..يااااه عالم من الخيال خطفتني دوائره لتتقاطع مع عالم خالتي (ال�سيدة �أم يو�سف) وعوالم كتاب مدر�س الر�سم العبقري عن تلك ا آللهة التي تطلق ال�صواعق وتغو�ص في البحار ..و�ألف ليلة وليلة .. وكنت أ�نا ،وقد �صار من مهماتي ا أل�سا�سية �صيانة البطارية والتحكم في مواعيد الإر�سال � ،أ�شعر و أ�نا في موقعي المتميز في ال�شباك ال�شرقي بجوار ذلك الباب العالي الجميل ك�أنني من ي�صنع كل هذه الأحداث وا ألحاديث ،و أ�عطاني هذا هالة من التميز والجذب بال�ضبط مثلما عدت ذات يوم من المن�صورة ومعي �أول (كرة كفر) تلم�س �أر�ض �شارعنا ..تتزاحم �أقدام كل أ�ولاد �شارعنا وتوابعه على �ضربها في حرفنة وغ�شومية ! ثم انت�شرت الراديوهات وخا�صة في المقاهي وفي بيوت كثيرة ولم تعد كثيرات من �صديقات أ�مي ي�سهرن في بيتنا ل�سماع الجديد � .صارت ا إلذاعة بعد (يا مجاهد في �سبيل الله) ..م�شا ًعا في معظم البيوت �أو الدكاكين .. 338
ولا تتبع أ�هواءهم .. ن�صحني ( إ�رن�ست همنجواي) وهو كاتب كبير جدا ممن تعرفت على كتاباتهم فى �صباى المبكر �,أن �أتوقف عن التفكير فيما أ�كتب ..حتى لا أ�فقد حميمية ال�شيء الذي �أكتب عنه ..قال إ�ن لم تفعل فحت ًما لن ت�ستطيع الا�ستمرار �أو ا�ستئناف الكتابة في اليوم التالي ..ولكني لم أ�تعلم ذلك منه �أب ًدا ..رغم تحذيره لي �ألا أ�فكر فيما أ�كتب عنه ،ابتداء من اللحظة التي أ�توقف فيها عن الكتابة إ�لى وقت ا�ستئنافها في اليوم التالي ..م ؤ�ك ًدا �أن هذه هي الطريقة الوحيدة إلتاحة الفر�صة لكي ي�شتغل عليه �شعوري الداخلي ..بينما أ��ستطيع أ�نا �أن أ��ست�أنف حياتي و�أ�ستمتع في حرية بالحياة حولي ..و أ�راقب النا�س والدنيا و أ�عود عندئذ لما توقفت 341
من الداخل والخارج ليتحمل البناء فوقه وليمكنه من ا�ستقبال نظم المياه الحديثة ..حتى أ�نه أ�عاد �صياغة الكنيف المرعب (الكر�سي) ..و�صارت المندرة كالعرو�سة بعد �أن ُدهنت محارتها بالزيت .وكان هذا جدي ًدا على (ميت �سل�سيل) ..وزين ال�سقف بوردة �ضخمة من الجب�س الم�صبوب تتدلى من و�سطه تما ًما -و�سط المندرة -تلك اللمبة ذات ال�شريط ا أل�سطواني والزجاجة الطويلة ذات الكر�ش ..التي تهبط ب�سل�سلة حديدية دقيقة لتعمر بالجاز و ُتغ�سل زجاجتها ثم ترفع مرة �أخرى م�ضيئة مبهرة تجعل من ليل المندرة نها ًرا �ساط ًعا ي�ستقبل (بابا عبد الباقي) فيها �أ�صدقاءه من المدر�سين والموظفين وا ألعيان في مكان لائق لا يوجد مثله �إلا في قليل من بيوت القرية كلها .. وبعد وفاة جدتي ال�ساحرة �صاحبة الخور�ستانة وقرن الحنتيت وا�ستكمال �صياغة الدور الأول كله بنف�س الطرق الهند�سية التلقائية والمعقدة التي دعم خلالها ال�سقف ال�شا�سع بدعائم من الخ�شب الفلاري (كان يطلق على بع�ضها (�ضرط) ألنه �سميك وغليظ ونادر!) . ولم يكف �أبي عن التغيير والتعديل في البيت .كانت الأفكار تفاجئه فيعيد التعديل والتغيير .ولما انتزع جزء من المندرة ليخلي م�ساحة لل�سلم النازل �إلى المدخل ال�شرقي الخا�ص با ألدوار العليا ببناء جدار قال �أنه �سي�ساهم في تحمل ما �سيجد فوقه من حمول .لم تعد تلك اللمبة القمرية تتو�سط المندرة ،بل أ�زيحت �إلى الطرف ال�شرقي ولكن �أح ًدا لم يلحظ ذلك ولم ي�ؤثر هذا على مركزها ك�أهم مكان في البيت الذي �صار �إلى �أدوار ثلاثة مع الأيام . ••• 340
التي �أفاج�أ �أنها تتلبك وتتعقد بمجرد أ�ن يلام�س �سن القلم وجه الورق .. كل مرة يحدث هذا ويتكرر بنف�س الحدة .. كل مرة �أجدني عاج ًزا عن جملة الو�صل التي عليها أ�ن ت�صل ما أ�نتويه بما انتهيت منه ..فتعاودني فكرة �أنني ل�ست أ��صل ًا بكاتب ..وينف�سح مجال وا�سع لفكرة ال�شك في قيمة ما كتبت وفي �أهمية ما أ�كتب بعد كل ما كتبت ..رغم امتلاء البئر حتى حافتها ب أ�لف فكرة و أ�لف خاطرة -وك أ�نني أ�بد أ� كل مرة من جديد . ذلك أ�نني كما حذرني من البداية ال�سيد ( إ�رن�ست) ..وا�صلت التفكير فيما �أكتب بكل الطرق ومن كافة زوايا الر ؤ�ية .وك أ�نني أ�عاود اكت�شاف ال�شيء الذي �أكتب عنه ف�أجدني عاج ًزا عن الا�ستمرار حين تحق العودة .. مهما حاولت إ�قناع قلمي أ�ن هذه ا ألمور لي�ست أ�كثر من وجهات نظر .. و أ�ن لكل �شيخ طريقة ..وعل َّي أ�ن �أبحث عن طريقتي إلقناع قلمي بالكف عن الخوف من ملام�سة الورق وا�ستئناف الكتابة ..وغال ًبا ما أ�ف�شل رغم امتلاء البئر للحفافي.. و�أخي ًرا ..أ�قنعت نف�سي أ�و تظاهرت ب�إقناعها أ�ن هذه �سمة من �سمات طريقتي الخا�صة في الكتابة وعلي أ�لا �أحاول نفيها بل يجب الت�أكيد عليها والتعامل معها واكت�شاف قوانينها ..كميزة تعيدني دائ ًما إ�لى نقطة بداية جديدة ..و�أن أ�بحث لنف�سي عن حجج �أخرى لتبرير متاعبي مع ا�ستئناف الكتابة كل مرة ..مثل تلك الفكرة الطائ�شة التي تتملكني �إلى حد فظيع أ�نني �أهرب من الكتابة ومن إ�تمام رواياتي لقناعة خفية �أو لخوف مقنع �أنني �س�أموت عند الانتهاء منها ! �أو تلك الفكرة البلهاء التي ت�سيطر على نف�سي وت�شو�ش تفكيري .. 343
عنده و�أ�ست�أنف الكتابة ..هكذا بب�ساطة ؟ .ويبدو �أن عدم قدرتي على الالتزام بن�صيحة (همنجواي) تلك وراء ما ي�صيبني من عجز و�إحباط كلما عدت لا�ستئناف الكتابة ..ف أ�نا لم �أتوقف عن الحديث �أو التفكير فيما كتبت �أب ًدا ..أ�عيد قراءته ومراجعته و�أقترح �سبل ًا للتقدم به �إلى الأمام ونقد الطريقة التي �سارت بها طريقتي في �سرد ا ألحداث ..كنت �أحاول جاه ًدا أ�لا �أفكر فيما كتبت �أو فيما كتبت عنه و أ�ل ّا �أذكره �إلاحين �أ�ست�أنف الكتابة, دون جدوى ..فكنت أ�لج أ� للقراءة �أو للاندماج في تفا�صيل حياتي المملة كرجل �صار فوق ال�سبعين ويعي�ش وحده ..ف أ�قوم بغ�سل المواعين المتراكمة في المطبخ أ�و �أجمع غ�سيل ًا لم يحن وقت غ�سله و�أح�شره في الغ�سالة � ..أو �ألتهم �شي ًئا حتى ولو كان من المحرمات ..ولكن هذا لم يمكنني أ�ب ًدا من ا�ستئناف الكتابة ب�سهولة عند النقطة التي توقفت عندها .. (همنجواي) يفعلها كما يقول بب�ساطة ..وكان هذا يزيد إ�حباطي وي ؤ�كد لي �أنني ل�ست بكاتب �أ�صل ًا ..خا�صة و أ�نني أ�حاول �أن �أفعل (غال ًبا) مثله ..حيث ي ؤ�كد أ�نه تعلم �ألا ينزح البئر -بئر كتابته لآخره ..و�ألا يتركه قا ًعا �صف�ص ًفا ..بل كان يتوقف دائ ًما وفي قعر البئر �شيء ما يدعوه لا�ستكماله ..فعل ًا كما أ�حاول أ�ن أ�فعل .فلم يحدث أ�ب ًدا �أن كتبت في مو�ضوع أ�و حادث ..أ�و فكرة وا�ستنزفتها لآخر قطرة -ي�ؤكد (همنجواي) لي ( أ�ن هذا ي�سمح للبئر أ�ن تمتلئ مرة أ�خرى من الينابيع التي ترفدها )!. وهذا بالت أ�كيد �صحيح ألنه لا يمكن لمثلي �أن ي�شكك في قدرات من كان في قامة (همنجواي) !.ولكن لماذا أ�عجز دائ ًما عن الا�ستمرار في ب�ساطة في �شد الخيط حين أ�عود إ�ليه ..وت�شدني �ألف م�صيبة وم�صيبة بعي ًدا عن طرفه الوا�ضح الذي تركته ..ولم أ�كف عن التفكير في حل عقده . 342
لكنه لا ينا�سبني .ولذا عف ًوا يا �صديقي .. لقد ظللت لثلاثة �أيام أ�حاول الهرب من حكاية المندرة التي لم يعد لها وجود في بيتنا رغم كل ما كان لها من ح�ضور طوال �سنوات طفولتي و�صباي حتى عودتي من ال�سجن لأجد البيت الذي ع�شته و�ألفته �صار بي ًتا �آخر � ..أده�شني �ضيقه وتقزمه مع �أنه بني على نف�س م�ساحة البيت القديم.. وفج�أة اكت�شفت أ�و تذكرت �أن تلك (المندرة) التي ت�صدرت على الدوام واجهة بيت جدي القبلية و�شغلت معظم م�ساحة البيت على (حارة ال�صياغ) ..لم تكن دائ ًما مندرة � ..أو لم تكن دائ ًما تلك المندرة المدهونة بالزيت والتي �سمحت م�ساحتها البرحة أ�ن يقتطع ربعها لتكون ال�سلم ذو المدخل المنف�صل لل�صعود إ�لى الدور الثاني والثالث دون المرور في �صالة الدور ا ألول حيث منطقة نفوذ �ستي (�أم العز) . اكت�شفت بعد تفح�ص �صفحة ظهرت فج أ�ة من بين ركام �أوراق الذاكرة ال�صفراء ..أ�نها لم تكن كذلك في �سنوات الحرب وما قبلها ..وا�ستطعت بعد طول تفكير وتذكر ومتابعة فيما كتبته مع الاعتذار ل�صديقي (همنجواي) ..أ�ن �أتذكر �أنها لم تكن كما و�صفت بل كانت مجرد (حو�ش) ..بل وكان يطلق عليها نف�س الكلمة (الحو�ش) الذي كان يمتد لي�شغل م�ساحتها وم�ساحة الدهليز �أو الحو�ش القديم الممتد من الباب الأ�صلي للبيت حتى مجل�س الو�سط ،حيث كانت تقبع �ستي ( أ�م العز) طول النهار ما بين غرفة (الخر�ستانة) و(الح�ضير) الذي يزخر بخيرات البيت والغيط ،كحار�س فرعوني قديم . 345
في جدوى الكتابة �أ�صل ًا .وماذا �ست�ضيف �إلى ركام ما كتب عن نف�س المو�ضوعات التي ت�أخذ بخناقي وتطالبني بالا�ستمرار في تج�سيدها ..إ�ن كنت قد فعلت �أ�صل ًا � ..أو أ�ن ما أ�فعله ينتمي ب�أية و�شيجة لما كان يفعله (همنجواي) �أو لما يفكر فيه وما ين�صح به .. قررت الاعتذار فو ًرا ل�صديقي (همنجواي) ..لقد حاولت �أن أ�تبع ن�صحه وحاولت أ�لا أ�فكر فيما كتبت أ�و فيما �س أ�كتب ..لكنه يطاردني (ما �أكتب عنه) با�ستمرار ليل نهار .مرعوب دائ ًما �ألا يكون ما كتبت هو بال�ضبط ما ق�صدت ..أ�نا أ�قلب �صفحات ذاكرتي التي �صارت كمخطوط قديم ت أ�ثرت أ�وراقه حتى بليت والت�صقت وكادت تتهتر أ� من طول ا إلهمال ومخالب الزمن ..لا تعطيني نف�سها ب�سهولة ..و أ�جتهد في تف�سير ما يتاح لي من �شذرات وعبارات تكون أ�حيا ًنا ذات مدلول � ..أو تكون ملغزة �أو غام�ضة ..وقد تقت�صر على ب�ضع حروف أ�و نثائر من مزق �صور حالت أ�لوانها ..فكيف لا أ�فكر طول الوقت في دفعها �إلى ب ؤ�رة الو�ضوح .. خا�صة مع التزامي أ�لا �أ ؤ�لف �أحدا ًثا �أو أ�خمن حوادث ..أ�و �أبتكر أ�و �أبتدع على طريقة الم ؤ�لفين ..أ�نني أ�كتب عما ر أ�يت وع�شت و�أطمع أ�ن �أ�صنع مما يتاح لي �صورة ما �أقرب ما تكون إ�لى حقيقة ما حدث لي �أو ما �صنعته بيدي وقلبي ول�ساني!. كنت أ�حاول أ�ن أ�قنع نف�سي أ�ن (همنجواي) لم ي�ضع قواعد على الم�ؤلفين الالتزام بها ،بل هو يقترح ما يراه منا�س ًبا له ويظنه ينا�سب الآخرين.. 344
انظروا إ�لى ثمره كان الحو�ش فى موا�سم الح�صاد المختلفه يتحول الى �ساحه لعب لأطفال العيلة كلهم �سكان البيت و�سكان بيوت (الخرابة) التى كانت فى وجود جدى مازالت بيتا واحدا وزريبة واحدة �أمام تلال بقايا المقابر المعروفة بخرابه (�أبو خ�شبة) مبا�شرة حيث يعطيهم الجوار م�ساحة كافية لربط البهائم بعد العودة من الحقول ..ورعايتها أ�مام �أم أ�عينهم ..... كان جدى يبيت طبعا فى حجرة (الخور�ستانة) فى بيت الحارة الذى كانت غرف الدور الاول فيه �سداح مداح لأعمامى .ولما فعلت عوامل الزمن والتزاوج فعلها ،ق�سم بيت (الخرابة) الى عدة بيوت . عمتى (فرحة) �سكنت الجزء الاق�صى قبل بيت 347
وكان هذا (الحو�ش) الذي اقتطعت منه م�ساحة دكان على ي�سار الداخل لها باب ي�شبه �أبواب دكاكين ال�سوق يليه ذلك الكنيف المفزع ثم الح�ضير ويقتطع منه قبل (باب ومجل�س الو�سط) على اليمين حجرة ظلت مكا ًنا لخزين أ�دوات زراعية :أ�يدي فو�س ونورج وكواريك وقفف و�أي ً�ضا ت�ستخدم لتربية الأرانب والدواجن طوال ما قبل الحرب حتى حولها �أبي إ�لى بئر لل�سلم الجديد الذي ابتدعه لل�صعود �إلى الدور الثاني حيث تزوج ..وكان ال�صعود إ�لى المقعدين يتم قبلها من عمق (الحو�ش) بالعبور �أمام مجل�س (ال�ساحرة) عبر �سلم خطر من خ�شب ال�شجر .فابتدع �أبي هذا ال�سلم الحجر ليجنب زوجته المرور الحرج �أمام مجل�س �أمه التي لا تكف عن التعليق على كل �شاردة وواردة !. ••• 346
�ضجيجا .يتقافزون ويت�شاجرون حول الكبار الم�شغولين بالمح�صول ... �شتوى كان �أو �صيفي ...ف�إذا ما جن الليل �أح�ضروا (كلوبا) برتينة يحيل ليل الحارة والحو�ش إ�لى نهار ،فلا ينقطع الن�شاط والعمل وال�صراخ .. والبكاء طبعا . في مو�سم القطن تعلق الاكيا�س من م�صامها .ويدخل فيها �أطول الموجودين من �أبناء أ�عمامي ،ليدك ويكب�س القطن الذى ي�صب اليه وعليه. فيجعل الكي�س الواحد يت�سع لما كان يم أل �شنفين أ�و ثلاث من ف�صو�ص القطن .وي�صبح �صلبا مدكوكا ..فيهئ لنا نحن ال�صغار م�سرحا نتقافز عليه �أو نتزحلق ،دون أ�ن ينهرنا أ�حد... وفي مو�سم الغلة �أو القمح تعب�أ الزكايب التي كانت في العادة أ�قل طول ًا من ا ألكيا�س ون�سيجها أ�متن و�أثقل ...لتر�ص داخل الحو�ش كذلك في مو�سم ا ألرز ..لكن �شكاير الأرز كانت كالأطفال �أقل حج ًما ... ولكن ذلك لم يغير من علاقتنا بها ..وك أ�نهم يملأونها وير�صونها خ�صي ً�صا لكى نلعب ونتقافز عليها في حرية ... وحين يخف العمل في انتظار المر�سل من الحقل ..أ�و بعد الانتهاء من الكب�س والتعبئة ويحلو للكبار الجلو�س المريح ..لتناول الطعام �أو �شرب المع�سل ،هم ومن ي�ساعدهم من الأقارب �أو الجيران �أو المزارعين ...ننت�شر نحن ال�صغار حولهم وبينهم مثيرين �أكبر قدر من ا إلزعاج . وكانت �أمي في هذه الموا�سم تحاول جاهدة �أن تذيب الجليد بينها و أ�بى وبين �ستي (�أم العز) ...ف�أدوار ال�شاي تتوالى من فوق لل�ست وللعاملين ،في أ�كواب نظيفة مع الماء ال�ساقع في القلل المريحنة والمعطرة ،ووجبات الغذاء والع�شاء في �صواني لامعة و�أطباق مغ�سولة ...والكل ي�شيد بها 349
عمي (عبد الكريم) المجاور لدار (ا ألزرق) ..وعم (محمد) تزوج فى الجزء الاقرب ،على نا�صية �شارع (ابو�سيد) وفى الو�سط تزوج عم (عو�ض) بر أ�ى �أمه وم�شورتها التى اختارت له زوجته الجميلة من عائلة (�أبودهينة) الذين لعائلة (عو�ض) بهم ن�سب ولها بهم قرابة ... -نا�س متربيين على ايدينا وعارفين ا�صلهم وف�صلهم . كان هذا بع�ض ما وتر العلاقة بين �أبى و�أمه حين تزوج على غير رغبتها من غريبة ..ومن بلد ثانيه : -ه ٌو ع�شان ما اتعلم يقوم لما ي�شطح ينطح .؟! المهم أ�ن كل ذلك قديم ،قبل أ�ن أ�وجد أ�نا أ�و �أختى (�آمال) ..وحتى قبل ان يموت جدي .الذى تتهم جدتى والدى �أنه هو الذى �شجع �أبوه على الحج مرة ثانية فى ذلك العام النح�س وكانت هي تعار�ض �سفره ... لكن جدي �أ�صر ،و�أيده والدى �أو نزل على رغبته الجادة فى زيارة النبي... تلك الزيارة التى لم يعد منها ..وبدلا من أ�ن تعترف ( أ�م العز) ان هذا ق�ضاء الله وقدره � ،أ�ضافته الى �سل�سله ذنوب �أبي .فا�شتعلت بينهما النيران حتى وفاتها ب�أمر الله على ما اعتقد ،لا ب�سبب الح ّمام ال�ساخن الذى فر�ضته عليها بنت عمتى (فريدة) ...التى نهرتنى عندما فتحت الباب عليهما و�شاهدتها عارية وا أل�ساور الذهبية لم تزل فى ذراعها النحيل : (لأنني �س أ�ت�سبب في موتها من البرد) ...كما حدث غالبا ! كان الحو�ش قبل هذه الأحداث الم�أ�ساوية – (موت الجدة وموت الجد) وقبل إ�نتهاء الحرب العالمية و أ�ثنائها وقبل أ�ن يتحول إ�لى مندرة -في مو�سم الح�صاد �ساحة عيد يموج بالحركة ،التى يزيدها هرج العيال �صبيان وبنات 348
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210
- 211
- 212
- 213
- 214
- 215
- 216
- 217
- 218
- 219
- 220
- 221
- 222
- 223
- 224
- 225
- 226
- 227
- 228
- 229
- 230
- 231
- 232
- 233
- 234
- 235
- 236
- 237
- 238
- 239
- 240
- 241
- 242
- 243
- 244
- 245
- 246
- 247
- 248
- 249
- 250
- 251
- 252
- 253
- 254
- 255
- 256
- 257
- 258
- 259
- 260
- 261
- 262
- 263
- 264
- 265
- 266
- 267
- 268
- 269
- 270
- 271
- 272
- 273
- 274
- 275
- 276
- 277
- 278
- 279
- 280
- 281
- 282
- 283
- 284
- 285
- 286
- 287
- 288
- 289
- 290
- 291
- 292
- 293
- 294
- 295
- 296
- 297
- 298
- 299
- 300
- 301
- 302
- 303
- 304
- 305
- 306
- 307
- 308
- 309
- 310
- 311
- 312
- 313
- 314
- 315
- 316
- 317
- 318
- 319
- 320
- 321
- 322
- 323
- 324
- 325
- 326
- 327
- 328
- 329
- 330
- 331
- 332
- 333
- 334
- 335
- 336
- 337
- 338
- 339
- 340
- 341
- 342
- 343
- 344
- 345
- 346
- 347
- 348
- 349
- 350
- 351
- 352
- 353
- 354
- 355
- 356
- 357
- 358
- 359
- 360
- 361
- 362
- 363
- 364
- 365
- 366
- 367
- 368
- 369
- 370
- 371
- 372
- 373
- 374
- 375
- 376
- 377
- 378
- 379
- 380
- 381
- 382
- 383
- 384
- 385
- 386
- 387
- 388
- 389
- 390
- 391
- 392
- 393
- 394
- 395
- 396
- 397
- 398
- 399
- 400
- 401
- 402
- 403
- 404
- 405
- 406
- 407
- 408
- 409
- 410
- 411
- 412
- 413
- 414
- 415
- 416
- 417
- 418
- 419
- 420
- 421
- 422
- 423
- 424
- 425
- 426
- 427
- 428
- 429
- 430
- 431
- 432
- 433
- 434