Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore موَّال الصِّبا في المشيب #سمير_عبد_الباقى

موَّال الصِّبا في المشيب #سمير_عبد_الباقى

Published by ashrafsamir333, 2020-03-22 11:34:44

Description: موَّال الصِّبا في المشيب #سمير_عبد_الباقى

Keywords: موَّال الصِّبا في المشيب #سمير_عبد_الباقى

Search

Read the Text Version

‫من ثلاثة أ�دوار تناطح ال�سحاب وان ظل قائما على جدران و�أ�سا�س البيت‬ ‫القديم الذى �شهد ملاعب �صباى وطفولتى والذى مار�ست فيه �شقاوتى‬ ‫ومغامراتى ل�سلب جدتى حليب ال�شوالى ‪ .‬البيت الذى �شهد �أعجوبة بناء‬ ‫دوره الأول بعد �إ�ستقرار أ�دواره العليا والذى تغيرت �سبل الدخول �إليه‬ ‫مع كل عقد من الزمان ‪ ..‬و�شهد أ�وائل �سنوات الوعى بالوطن وبالنا�س‬ ‫وبدايات الانفتاح على آ�فاق ا إلن�سانيه الرحبة التى كان الطريق إ�ليها‬ ‫الانتماء �إلى العمل ال�سرى تحت ا ألر�ض ‪ ..‬لتحرير الوطن ابتداء من تحرير‬ ‫الجمعية الزراعية ‪!..‬‬ ‫اختفى هذا البيت المفعم بعطر ال�سنين والذكريات �أثناء غيابى الطويل‬ ‫هذه المرة ‪ ..‬وبنى مكانه بيت ي�شبه أ�ى بيت �آخر فى �أى مكان �آخر فى‬ ‫مدينة �أخرى ‪ ..‬قالوا لى (لقد �صمم ابوك البيت الجديد ن�سخة أ�خرى من‬ ‫البيت الذى �سكنا فيه بالايجار �سنة انتقلنا إ�لى (المن�صورة) ‪ ..‬بيت (ي�سن‬ ‫الترزى فى �شارع ا أل�سواق المتفرغ من داير البندر ‪ ).‬ف أ�يقنت يومها �أننى‬ ‫عدت ولكن �إلى بيت لي�س بيتى !‪.‬‬ ‫فقدت نغمة عجلات القطار الرتيبة إ�يقاعاتها القديمة ‪� ..‬ضاعت‬ ‫رائحة الزيت المحروق ‪ .‬وكل ما توحي به من أ�لفة الم�ساء بعد يوم مجهد‬ ‫طويل ‪ .‬هل أ�فقدت �سنوات ال�سجن روحه ما كانت تفي�ض به عند عودته‬ ‫�إلى (ميت �سل�سيل) من م�شاعر حنونة تبعثها رائحة الزيت المقدوح ‪ ،‬نكهة‬ ‫الأرز ال�ساخن الفقير في �صدور المجهدين ‪ ..‬ام كان ذلك كله ب�سبب‬ ‫فقدان بيتى القديم بيت جدى ‪.‬‬ ‫•••‬ ‫‪201‬‬

‫وعلى قدميه كم عاد �إليها بنف�س اللهفة ‪ ،‬من كل دروبها ‪ .‬ومن جميع‬ ‫جهاتها ‪ ،‬وفي كل ا ألوقات وعبر كل �سنوات العمر طفل ًا و�صب ًّيا و�شا ًّبا‪..‬‬ ‫تلمي ًذا و�شاع ًرا و�سيا�س ًّيا ‪ ،‬تثير قدمه أ�ينما تدب غبار الم�شاكل والمعارك ‪..‬‬ ‫كل عودة لها طعم مختلف لكن الم�شاعر نحوها دائ ًما غائرة في �أعماقه ‪ ،‬لا‬ ‫تتغير ولا تتبدل كمر�ض ع�ضال لا �شفاء منه ‪..‬‬ ‫رائحة ال�صبار وثمار التين ال�شوكي والذرة الخ�ضراء والبر�سيم تلحق‬ ‫به وت�سكره حين يدخلها عائ ًدا من متعته اليومية في ال�سباحة في البحر‬ ‫ال�صغير‪ .‬من جوار جنينة (علي �أبو ح�سن) ‪ ..‬تعلق بملاب�سه وجلده رائحة‬ ‫الحلفا وثمار (عنب الديب) ‪ .‬وهو عائد من حقل (ال�سباخ) و�أر�ض الطير‬ ‫عبر الخرابة أ�و جرن دار ( أ�حمد) ‪ ..‬رائحة التيل المعطن وال�سمك الميت‬ ‫ال�صغير حين يعود من البحر بعد ال�سباحة �أو مغامرات ال�صيد ‪.‬‬ ‫لكن عودته بعد �سنوات خم�س في المعتقل كانت فريدة لا مثيل ولا‬ ‫�شبيه لها ‪ ..‬يومها أ��صر على العودة بالقطار ‪ ،‬نف�س القطار القديم ‪ ..‬الذي لم‬ ‫ي�ستطع هذه المرة �أن يحرك فيه م�شاعر الطفولة �أو ال�صبا حز ًنا �أو فر ًحا ‪ .‬ولا‬ ‫أ�ن يج�سد �أمامه �أ ًّيا من تلك ال�صور التي لم ين�سها �أب ًدا ‪ .‬كان هناك خوف‬ ‫غام�ض يغزو قلبه ‪ ..‬يطم�س الذكريات على �صفحة روحه وينتزع منه �شي ًئا‬ ‫لا ملامح له ‪ ،‬ينتمي لتلك الأيام البريئة ‪ ..‬كانت العودة تلك المرة يكتنفها‬ ‫الكثير من عدم الثقة ‪ ..‬هل غيرَّ ه ال�سجن ؟ �أم أ�ن الدنيا تغيرت ؟ لقد هدم‬ ‫البيت كله ‪ ..‬بيت الجد الذى مات فى الحجاز وبيت الجدة (�أم العز) التى‬ ‫�سحرت المر�أة الغجرية المداحة وحولتها �إلى بقرة ‪ ..‬بيت (الحو�ش) الذى‬ ‫�شهد خيالات العفاريت والذى تحول �إلى مندرة �شهدت ح�ضور ال�شيخ‬ ‫(على �سعود) فى حياتى ومعه قيم العدالة فى الا�سلام ‪ ..‬بيت (عبد الباقى)‬ ‫خال�صا دون �شريك والذى مار�س عليه هوايته فى التغيير والتبديل ف�أ�صبح‬ ‫‪200‬‬

‫كلما انحنى على موتور العربة ‪ ..‬ومغامراتك مع زوجة الفقي ا ألعمى‬ ‫و�أنتما تحممانه م ًعا‪ .‬فتلتهب م�شاعرك وهي تثيرك بلم�ساتها وحركاتها مع‬ ‫�أع�ضائه ‪ .‬تل ِّيفه وتغمز لك ‪ ..‬وكيف �أنك لم تكن تطيق نف�سك وتكاد تجن‪.‬‬ ‫وهي تتركك لتجففه وتلب�سه لكي ت أ�خذه ل�صلاة الجمعة ‪� ..‬أقنعتني �أن كل‬ ‫الن�سوان �سواء ‪� ..‬أنهن يلتهبن تحت القما�ش ‪ .‬ت�ستوي في ذلك التي تلب�س‬ ‫الجلابية على اللحم وتلك التي تلف نف�سها كعرو�سة المولد !‬ ‫�أرجعت �أمري مع (نرج�س) لخيبتي الثقيلة ‪ ..‬لأنني لا أ�بدي أ�ي‬ ‫مبادرة للهجوم ‪ ..‬ذكرتني بيوم عودتي من امتحان ال�شهادة الابتدائية‬ ‫من (المن�صورة) ‪ ..‬وكان القطار مزدح ًما ‪ ..‬وجل�ست إ�لى جوار ال�شباك‬ ‫و�أمامي مبا�شرة امر�أة ب�ضة هائلة الحجم وانح�شرنا على الكرا�سي ‪ .‬ولم‬ ‫تكن الم�سافة بيننا ت�سمح إ�لا بتبادل الم�سافات ‪ ،‬فتداخلت ال�سيقان ‪ ..‬كانت‬ ‫أ��شيا ؤ�نا تزاحمنا‪ ..‬وكثير منها تمدد فوق ال�سيقان المتداخلة ‪ ..‬كان أ�بي‬ ‫فخو ًرا بما فعلته في الامتحان ‪ ..‬وكيف فهمت الأ�سئلة المراوغة وهزمت‬ ‫ذكاء وا�ضعيها ‪ ..‬كان الكل ينظر نحوي ب�إعجاب وخ�صلة ال�شعر الناعمة‬ ‫تن�سدل على جبيني العالي في زهو كخ�صلة �شعر ( أ�نور وجدي) ‪ ..‬في‬ ‫زمانه ‪..‬‬ ‫لمحت ابت�سامتها المعجبة تغمرني ‪ ،‬كان إ�علان فيلم (قلبي دليلي)‬ ‫على جدار المحطة ممز ًقا كال ًحا لك َّنه وا�ضح تما ًما ‪ ..‬ابت�سامة ( أ�نور وجدي)‬ ‫ووجه (ليلى مراد) م�شرق وله �سحر‪ ..‬غمرت وجهها ال�صبوح بقبلات‬ ‫عيني حين عادت عيناها من حملقة م�سحورة في ا إلعلان الغام�ض ‪ .‬في‬ ‫نف�س الوقت الذي �أطبقت فيه �ساقي النحيلتين على �سمانة �ساقها الممتلئة‪..‬‬ ‫وبينما �سندتها بال�ساق الي�سرى بد�أت �أحرك بطن قدمي اليمنى الذي‬ ‫انتزعته من الحذاء ‪� ..‬صعو ًدا وهبو ًطا في حنان ‪..‬‬ ‫‪203‬‬

‫طائره في عنقه ‪...‬‬ ‫‪ ‬فخور أ�نا لأن �أحدا لم ي�شق �صدري‬ ‫لينزع منه (حبة ال�شيطان) التي ظللت طوال عمري‬ ‫�أبحث عنها لأنتزعها بنف�سي دون جدوى ‪ ،‬كانت‬ ‫تزوغ مني وتختفي ‪ ،‬فلم أ�عثر لها على أ�ثر ب�سببك ‪،‬‬ ‫نعم‪ ..‬وك أ�نها كانت من �صنعك يا �صديقي المتعدد‬ ‫الوجوه تحتل م�ساحاتي وتتجول بين حوا�سي بعقلك‬ ‫وب أ�مر منك ‪ ..‬وكان علي أ�ن �أظل �أطاردها أ�ب ًدا ‪..‬‬ ‫وهي تتحداني وتمتلكني كالعبد وت�صحبني كالتو�أم‬ ‫الخفي ‪ ،‬تحر�ضني على الجدل في كل �شيء‪ ،‬وتغريني‬ ‫بالمحرم وتدفعني للتمرد ‪.‬‬ ‫حين حكيت لك عن (نرج�س) ‪ ،‬حا�صرتني‬ ‫بحكاياتك مع زوجة ا أل�سطى ال�سواق ‪ ،‬الذي كان‬ ‫يجعلك تمتطيه في الزريبة ‪ .‬وي�شدك للوقوف خلفه‬ ‫‪202‬‬

‫الا�ستماع لحفل تكريم نبوغي وذكائي الذي كان أ�بي لا يزال م�ص ًّرا على‬ ‫�إحيائه على قارعة الطريق ‪.‬‬ ‫ولأنك قلت ( إ�ن هذه �أمور عيال!) ‪ .‬فخيبت أ�ملي في الو�صول إ�لى‬ ‫مكانتك ودرجتك ‪ .‬قررت �أن أ�عاود الهجوم و�أن �أعيد ترتيب قواتي‬ ‫لمحا�صرة (نرج�س) ‪ .‬وكانت زوجة فلاح ق�صير نحيل من �أولئك الذين‬ ‫حكم عليهم �أن يلت�صقوا بالطين منذ ولادتهم ‪ ..‬حتى يغو�صون فيه مرة‬ ‫�أخيرة �إلى الأبد بعد وفاتهم دون أ�ن يلاحظهم أ�حد ‪..‬‬ ‫�أخوه الأكبر تعلم �صنعة (الترزية) وفتح الله عليه بدكان فتزوج‬ ‫في المندرة المطلة على ال�شارع ‪ ..‬وكان َر ْبع القوام أ�بي�ض الب�شرة حليوة‬ ‫‪ ..‬طويل القامة نظيف الملاب�س على الدوام ‪ ..‬على عك�س �أخيه زوج‬ ‫(نرج�س) ال ِق َّله الذي (يبيت الخنف�س في �شقوق كعبه !) ‪.‬‬ ‫ز َّوجوها منه رحمة بها و�ست ًرا ل ُيتمها ‪ ..‬إ�ذ كانت لها عين م�صابة ‪،‬‬ ‫فكانت رغم جمالها وامتلاء ج�سمها الفائر (معيوبة) ويتيمة ‪ .‬و أ�ق�صى‬ ‫ما تحلم به حجرة تلمها ‪ ،‬وزوج تجل�س في �ضل حائطه ‪ ..‬كانت را�ضية‬ ‫بن�صيبها من الدنيا ‪ ،‬لكنها لم تكن را�ضية عن ن�صيب زوجها ‪ ..‬بعد أ�ن‬ ‫أ�فاقت من �صدمة الفرحة بزواجها وعرفت حدودها ال�ضيقة ج ًّدا ‪ ..‬بد�أت‬ ‫في التبرم ‪ ..‬تدفع زوجها للمطالبة بحقه في �أن ي�ستحم و�أن ي�ستريح ‪..‬‬ ‫و�أن يكون بني �آدم ‪ ..‬ف�أخوه الذي لا ي�شركه في عائد �صنعته الرائجة‬ ‫‪ ..‬ي�شاركه في رغيف الدرة الذي يخرج بجهده من ا ألر�ض ‪ ..‬وعليه‬ ‫إ�ما (يبقى فيه َع ْدل ‪ ،‬يا ن�شيل ده عن ده يرتاح ده من ده ‪ . )..‬وخا�صة أ�ن‬ ‫ع َوج (ملوك) زوجة الترزي قد زاد عن حده ‪ ،‬فهي منذ زواجها لا تكف‬ ‫عن م�ضايقتها ‪ ،‬تريدها خادمة في البيت مثلما زوجها خادم في الغيط ‪..‬‬ ‫‪205‬‬

‫فوجئت ال�ست التي كان زوجها يقف في الطرقة المزدحمة بين‬ ‫الكرا�سي م�شار ًكا في حفل الأعجاب بي ‪ ..‬نظرت �إل َّي معاتبة منده�شة‬ ‫غير م�صدقة ‪ ،‬فكففت للحظة عن الحركة ‪ ..‬لكن توتر جفونها والدماء‬ ‫التي اندفعت لخديها ‪ ..‬كانت فيهما الكفاية ‪ -‬لدعوتي �أن �أ�ستمر ‪ ..‬في‬ ‫حنان بالغ م�ضت عيني تحاول النفاذ خل�سة �إلى عمق عينيها ‪ ،‬اللتين احم َّرتا‬ ‫بالدمع والانفعال ‪ .‬وجدت �ساقها تلين تحت ركام الأ�شياء الميتة فوق‬ ‫ركبتينا ‪ ،‬تحجبان عالم ال�صخب عن عالم الده�شة الخفي ‪ ..‬ف أ�خذت �أتحرك‬ ‫في معلمة ‪ .‬مقل ًدا خبرتك ‪ .‬و أ�نا أ�تذكر حركات يدك على ذراع زوجة‬ ‫الفقي التي تحت�ضن كتفيك وهي تداعبك وتدعوك لكي تلتحم بها و�أنت‬ ‫تحت�ضن الج�سد كله في بطن كفك الممتلئ ببطن كفها ‪..‬‬ ‫�أخذت تم�سح عرقها وهي تختل�س النظر لزوجها وللآخرين ‪ ..‬قبل‬ ‫أ�ن تقب�ض أ��سنانها على �شفتها ال�سفلى وهي ترمقني في ده�شة ‪ .‬وك�أن ل�سان‬ ‫حالها يقول ‪:‬‬ ‫‪ -‬كل ده يطلع منك انت ؟‬ ‫مع حركة القطار الذي بد أ� يهدئ من �سرعته لدخول المحطة ‪..‬‬ ‫هد�أت حركات باطن قدمي فوق ال�سمانة ‪ ..‬وبد�أت هي تلم �شتات نف�سها‬ ‫‪ ..‬وحين وقفت لخمت نف�سي في جمع (ال�سواتر) ووقفت ب�شكل طبيعي‬ ‫لأحت�ضنها مان ًعا �سقوطها على الجال�سين مع �صدمة وقوف القطار ‪..‬‬ ‫نزلت وزوجها ‪ ..‬اختل�ست النظر �إليها من النافذة ‪ ..‬كانت تقف‬ ‫مجهدة �إلى جواره ‪ ..‬تلهث كمن خرجت من معركة ‪ ،‬وهي تعيد ترتيب‬ ‫ثيابها ‪ ،‬وتعدل من و�ضع طرحتها ‪ ..‬وتجفف عرقها ‪ ..‬وتختل�س النظر إ�ل َّي‬ ‫‪ .‬و أ�نا واقف في النافذة أ�فلتها منت�ص ًرا من براثن نظرات عيوني ‪..‬‬ ‫عدت أ�جل�س مقتن ًعا وم�سل ًما لك و آلرائك في الن�ساء ‪ ..‬و أ�نا �أوا�صل‬ ‫‪204‬‬

‫إ�لى �شخطة لا�سعة ‪ ،‬أ�و تعليق لاذع يعيدها إ�لى �صدفة طيبتها وا�ست�سلامها‬ ‫الإلهي ‪..‬‬ ‫كانت ال�صينية النحا�س فوق كر�سي الع�شا الجريد ‪ ،‬عليها كوم من‬ ‫القمح المتجدد ‪ .‬يقمن بتنقيته من �أجل الطحين ‪ ..‬والتف الثلاثة حول‬ ‫القمح ‪ ،‬ر�ست أ�ت (ر�سمية) نف�سها في مواجهة الحياة الفاترة على ال�سكة‬ ‫والج�سر لكي لا تفوتها �شاردة ‪ .‬بينما جل�ست (نرج�س) في مواجهتها ‪،‬‬ ‫�أما خالتي فكانت غير م�ستقرة (تما ًما) بينهما لتعطي لنف�سها فر�صة للقيام‬ ‫والقعود ح�سب الحاجة!‪.‬‬ ‫وحين هللت من بعيد ‪ ،‬هللوا جميع ًها مرحبين ‪ .‬خالتي قامت‬ ‫واختطفتني إ�لى ح�ضنها ‪( ..‬ر�سمية) تظاهرت ب أ�نها �ستحاول رفع طن‬ ‫اللحم ‪ ،‬ف�ضحكت وملت عليها لتقبلني ‪ ..‬لمحت بهجة خا�صة في عين‬ ‫(نرج�س) التي قامت تحت�ضنني وتقبلني كعادتها ‪:‬‬ ‫‪� -‬أهل ًا بالحبيب ابن الغالية ‪..‬‬ ‫(ر�سمية) التي كانت لا يخيل عليها �شيء ‪ ،‬وتح�سب ح�ساب �سوء‬ ‫النية في كل �شيء ‪ ،‬جذبتها بعنف ف أ�جل�ستها ‪..‬‬ ‫‪ -‬أل يا حبيبتي ! كان زمان وجبر ‪ ..‬زمان كان (نونو) ‪ ..‬دلوقتي‬ ‫البو�س والأح�ضان عليها جمرك ‪ ،‬ن َف ُ�سه الوقتي يح ِّبل اللي زيك ‪ ..‬ما‬ ‫يحكم�ش ‪.‬‬ ‫أ�ح�ست (نرج�س) ك أ�نها �ضبطت عارية ‪ ..‬لكنني �سرعان ما قبلتها في‬ ‫خدها وبعمق لكي أ�غيظ (ر�سمية) ‪.‬‬ ‫‪ -‬ح �أف�ضل طول عمري إ�بنها الر�ضيع ‪ ..‬ب�س اخرجي انتي منها ‪..‬‬ ‫كانت �ضربة على الوتر الح�سا�س ‪( ..‬فنرج�س) لم تنجب ‪ ..‬ويبدو‬ ‫�أنها لن تنجب أ�ب ًدا‪ ،‬قر�أت ذلك ‪ ..‬في تلميحات (ر�سمية) عن جوزها‬ ‫‪207‬‬

‫ولكن (لا‪ ..‬دا بعدك ‪ ..‬دا انا قريبة الأم) و (ما حد�ش يك�سر عيني) ‪..‬‬ ‫(والحلوة تحلا ولو في الوحلة) ‪( ،‬م�ش أ�قل منها يا بنت النا�س) ‪ ..‬قبقاب‬ ‫بقبقاب و�ضفيرة مغ�سولة ومت�س َّرحة ب�ضفيرة مغ�سولة ومت�س َّرحة ‪ ..‬وهدوم‬ ‫و�إن كانت (باط�سطة) و(�شيت المحلة) لكن زاهية ومزهزهة ون�ضيفة ‪..‬‬ ‫(الع َدل ب َدل) ‪ ،‬وال ُق َّ�صة الم�س ْب�سبة تداري عيب العين المعيوبة زي الن�ضارة‪..‬‬ ‫و(ل ّم الجلة م�ش ع ّلة) ‪� ..‬آه ‪..‬‬ ‫كانت النار م�شتعلة في البيت دائ ًما ‪ ..‬وكن ُت �شبه زائر مقيم في بيت‬ ‫خالتي القريب ‪ .‬الذي كان ملاذ (نرج�س) الدائم من لهيب المعركة ‪..‬‬ ‫حيث تجد نف�سها في بيت (بندري) ح�ضري مع ابنة خالتي التي ت�ضرب‬ ‫بع�شرة أ�ل�سن ‪ ،‬وتقرا (�ألف ليلة وليلة) ولا تكف عن التعليق على الدنيا‬ ‫والحياة التي ظلمتها �شكل ًا ومو�ضو ًعا ‪ ..‬بل�سان �ساخر �سليط ‪ ،‬يوازي طيبة‬ ‫ل�سان الخالة ور�ضاها بالمق�سوم المبني على �إيمان لا تف�سير له ‪� ،‬سوى �أنها من‬ ‫�سلالة عيلة م ؤ�منة فيها اللي �شايل القر آ�ن على قلبه رحمة ونور ‪..‬‬ ‫كان بيت خالتي يقع عبر ترعة �صغيرة تروي الحقول قبلي (الكفر) له‬ ‫باحة �صغيرة �أمام الباب مبا�شرة ت�صنع برا ًحا تظلله الأ�شجار التي تتكاثف‬ ‫أ�مامه ‪ ..‬لتجعل منه بقعة نادرة من الرطوبة الحانية للجال�س فيها وتعطيه‬ ‫قدرة على الإحاطة بات�ساع الامتداد العابر للزراعية وج�سر ال�سكة الحديد‬ ‫(المقلي) في قيظ ال�شم�س ‪ ،‬في تعا ٍل و إ�ح�سا� ٍس بالتفوق والر�ضا بطراوة‬ ‫الظل والن�سمة ‪ .‬وتعطي (لر�سمية) بنت خالتي القدرة على ر�صد حركة‬ ‫مجتمع الكفر الجديد كله ‪ ..‬الذي يتحرك في بطء ‪ ،‬يتيح لها الفر�صة الكاملة‬ ‫للت�أمل وللتحليل والنميمة ال�ساخرة المنتقمة من الرايح والجاي ‪ ،‬والقايم‬ ‫والقاعد ‪ .‬أ�و على حد تعبيرها (المُق َعد) ‪ .‬رغم اعترا�ضات �أمها ال�سلبية‬ ‫التي لا تجر�ؤ على الإف�صاح عنها أ�مام نظراتها اللاهبة التي كثي ًرا ما تتحول‬ ‫‪206‬‬

‫‪ -‬طب والمقرو�صة (مديحة) يا فلاتي ‪..‬‬ ‫‪ -‬أل‪ ..‬دي حاجة تانية ‪ ..‬كل واحدة طعم يا بنت خالتي ‪..‬‬ ‫�ضربتني (نرج�س) على �ضهري محتجة ‪ ،‬لمحت احمرا ًرا في خديها‬ ‫‪ ،‬فمددت قدمي لت�ستقر تحت فخذها ‪ ..‬لم تعتر�ض ‪ ،‬بل خيل إ�لى �أنها‬ ‫�ضغطت عليها ‪.‬‬ ‫ف�ضلت �أن أ�خمن �أنها ظنتها نتو ًءا في الفر�ش الذي نجل�س عليه ‪..‬‬ ‫�أو أ�نها قدم (ر�سمية) نظرت في عينها الوحيدة مبا�شرة وحركت إ��صبع‬ ‫قدمي الكبير في �صمت �صاع ًدا وهاب ًطا في رقة تدق �شطوط فيافي لحمها‬ ‫الدافئ‪..‬‬ ‫نظرت �إل َّي نظرة خاطفة وك�أنها خافت �أن تفزعني ‪ ..‬فتجر أ�ت ‪..‬‬ ‫كان الحديث بيننا �صاخ ًبا ‪ ،‬تعر�ض لق�ص�ص كثيرة حقيقية ومخترعة عن‬ ‫(ال�سقا) الذي حاول مغازلة خالتي ‪ .‬وفط�ست (ر�سمية) من ال�ضحك‬ ‫وهي تدعوها للاعتراف �أنها (ك َمرة) �شجعته ‪ ..‬لكن الخالة كانت بمكر‬ ‫تخترع حكاية عن ابنها ناظر المحطة الذي كان في نف�س الوقت ‪ -‬ح�سب‬ ‫قولها ‪ -‬يحاول مغازلة راكبة من الركاب جاءت تقطع منه تذكرة �سفر ‪..‬‬ ‫لكنه (ر أ�ى برهان ربه)‪ ،‬فعدل ‪ ..‬ومثله مع (ال�سقا) تما ًما فعلت ! وقالتها له‬ ‫دون أ�ن تف�صح عندما اعترف لها ‪:‬‬ ‫‪ -‬دقة بدقة ولو كنت زدت لزاد ال�سقا ‪.‬‬ ‫�ضحكنا في �صخب ‪ ..‬الحديث وال�ضحك أ�تاحا الفر�صة لي ‪..‬‬ ‫�أخفيت ذراعي تحت ال�صينية ‪ ،‬ا�ستبدلت ب�أ�صبع قدمي باطن كفي الذي‬ ‫ا�ستقر على فخذ (نرج�س) في �أمان ‪ ..‬مدت يدها في البداية لتزيح يدي‬ ‫لكنها خافت �أن تلاحظ (ر�سمية) ا ألروبة أ�ن لها ي ًدا واحدة فوق ال�صينية‬ ‫‪ ..‬فتخمن ما هو أ��سو أ� ‪ .‬غمزتها راج ًيا ال�صبر ‪ .‬ف�سكتت وكفت عن‬ ‫‪209‬‬

‫القزعة ‪ ..‬النافر للغيط على طول ‪ ..‬و�س ؤ�الها الخبيث الدائم (لنرج�س) عن‬ ‫�أخبار المخدة والنامو�سية !‬ ‫�ضحكت (نرج�س) تداري جرحها و�ضربتني بحنية على كتفي ‪..‬‬ ‫‪ -‬تعي�ش لي انت طول العمر يا حبيبي ‪� ..‬أيوه كده �أجبر بخاطري‬ ‫كده قدام العوازل ‪..‬‬ ‫كانت تقول ذلك لت�شاغب (ر�سمية) في براءة مفتعلة ‪ .‬بينما هاجمني‬ ‫�صوتك الواثق المجرب ‪:‬‬ ‫‪� -‬أنا مت أ�كد �أنها تلك النظرة ال�شهوانية في عيونك ‪ ..‬ها هي أ�مامك‬ ‫يا فالح ‪ ..‬أ�ر�ض بكر عجز المحراث عن �شق أ�ح�شائها لت�ستقبل ال�شم�س‬ ‫وت�ؤجج رغبة الحياة في البذور ‪ ..‬عفية ‪ ،‬فائرة ‪ ،‬تطوي جوانحها على‬ ‫أ�حلام م�شروعة وقريبة ‪ ..‬تلتهب بال�شهوة عندما تقر�أ لها (ر�سمية) في‬ ‫�ساعات ال�صيف عن جواري الخليفة اللائي لا يزور الواحدة منهن �إلا مرة‬ ‫في العام ‪ .‬وهن حبي�سات الب�ستان والحمام وغرف النوم ‪ ،‬و�سط �أج�ساد‬ ‫العبيد ال�سمراء الم�شحونة بالقوة الغجرية المجه�ضة بالذل وا إلخ�صاء ‪..‬‬ ‫لكنها تظل قادرة على اله�صر والع�صر والإرواء‪ ..‬ب�ألف طريقة وطريقة ‪!..‬‬ ‫لمحت ظل غرغرة غائمة طافت بعين (نرج�س) المب�صرة ‪ ..‬لكن‬ ‫�سرعان ما ابتعلتها ودفنت كفها ا أل�سمر الخمري الخ�شن في كوم حبات‬ ‫القمح الدافئ ‪ ..‬ا ألمل�س الحاني ‪..‬‬ ‫قررت �أن أ�غيظك و�أن أ�ثبت لك أ�نني ل�ست أ�قل منك جر أ�ة ‪ ،‬خلعت‬ ‫ال�صندل وخطوت على الفر�ش ‪ ،‬نزلت مترب ًعا بجوارها جاعل ًا ال�صينية‬ ‫في ح�ضني ‪ ..‬اندمجنا على الفور في حديث مرح بد�أته (ر�سمية) بن�شرة‬ ‫�أخبار عاجلة لا تخلو من تلميحات مك�شوفة عن �سلفة (نرج�س) وزوجها‬ ‫العيوقة ‪..‬‬ ‫�س أ�لوني عن درا�ستي ‪ ،‬تطرق الحديث لبنت (الهواري) قريبتهم ‪..‬‬ ‫رجوت (ر�سمية) أ�ن تتو�سط لي عندها ‪ .‬كانت تلميذة تركب معنا الديزل‪،‬‬ ‫وكنت متعل ًقا بها وبالنم�ش الذي يغطي وجهها ويعطيه ح�س ًنا لا حدود‬ ‫له ‪.‬‬ ‫‪208‬‬

‫هــيـت لــك‪...‬‬ ‫‪� ‬أنت أ�غويتني وعلمتني أ�ن أ�طرق الحديد‬ ‫وهو �ساخن ‪..‬‬ ‫فما بالك و(نرج�س) كانت م�شتعلة ‪ ،‬عندما‬ ‫ه َّبت ناجية بنف�سها من نظرات ول�سان (ر�سمية) لو‬ ‫�أح�ست ب�شيء مما جرى في الخفاء ‪.‬‬ ‫تعمدت الانتظار قليل ًا ‪ ..‬ثم اعتذرت ‪ ،‬كي‬ ‫�أغادر ‪ .‬تعللت ب�ضرورة الذهاب لبيت جدي لأن‬ ‫هناك ر�سالة من �أمي لازم أ�و�صلها ‪ ..‬تجنبت نظرات‬ ‫(ر�سمية) ‪ ..‬وتركت نف�سي لخالتي التي أ��صرت �أن‬ ‫ترقيني من عيون النا�س ‪� .‬أم�سكت بيدي و�أحنت‬ ‫ر�أ�سي فوق �صدرها ‪ ،‬وبد�أت في تمتمات وهمهمات‬ ‫منغمة بلغة منقر�ضة ‪ ،‬لحروفها �سحر مجهول ‪ ،‬وهي‬ ‫تم ِّل�س ببطن كفها اليمنى على �شعري ور أ��سي ‪..‬‬ ‫‪211‬‬

‫المقاومة ‪ .‬امتدت يدي و�سط ال�ضجيج وال�صخب تفتح لنف�سها م�سالك‬ ‫خطرة ‪ ..‬فانتف�ضت (نرج�س) واقفة حتى كادت تقلب ال�صينية ‪ ..‬وعندما‬ ‫حاولت أ�ن تنطق معتذرة ‪ ،‬خرج �صوتها مبحو ًحا ‪ ..‬فا�ض ًحا لما يمور في‬ ‫خلايا ج�سمها الفوار من نمال وعناكب ‪ ،‬لم تفت (ر�سمية) ‪ ،‬لملمت نف�سي‬ ‫ونظرت �إليها في ده�شة بريئة ‪ .‬لكنها أ��سرعت ‪ ..‬تلب�س قبقابها الخ�شبي ‪..‬‬ ‫وهي تقول ‪:‬‬ ‫‪-‬ياح�سرتي‪..‬دااناكانلازم�أعملالع�شاالنهارده‪،‬حماتيحتدبحني‪..‬‬ ‫وجرت �إلى بيتها دون أ�ن تنتظر ر ًّدا من المحملقين ‪..‬‬ ‫فقط (ر�سمية) نظرت �إل َّي في اتهام مبا�شر نظرة من يقر�أ ما تخفيه‬ ‫ال�صدور ‪..‬‬ ‫‪ -‬إ�نت عملت فيها �إيه ياللي تن�ضرب في قلبك ‪..‬‬ ‫خالتي �أنقذتني كعادتها قائلة ‪..‬‬ ‫‪ -‬عمل فيها؟ هي اللي مروو�شة وم�ش على بع�ضها من �ساعة ما‬ ‫جت‪ ..‬بلا دلع مرئ ‪ ..‬تت�شطر على جوزها العجبة !‬ ‫لكن عيون (ر�سمية) تابعت فح�صي ‪ ،‬بعيني ب�صا�ص �ضبط حرامي‬ ‫فراخ متلب�ًسا ك أ�نها تكت�شف ملامح ال�شيطان ف َّي لأول مرة ‪..‬‬ ‫•••‬ ‫‪210‬‬

‫الباب‪ ..‬ثم وهي تمط رقبتها ‪ ،‬وبعد أ�ن تلفتت في الحو�ش �أخذت تكرر ‪..‬‬ ‫‪ -‬مين اللي دخل ؟‬ ‫جاء �صوت حماتها ت�سر�سع زهقانة من العرق والتراب ‪.‬‬ ‫‪� -‬شوفي يا (نرج�س) ملوك بتنادي ‪..‬‬ ‫جاء �صوت (نرج�س) من خلف باب الو�سط وروحها في مناخيرها‪،‬‬ ‫لأن حماتها على ما يبدو كانت قد أ�نبتها غا�ضبة لت�أخرها عند ال�ست ( أ�م‬ ‫يو�سف) ‪..‬‬ ‫‪ -‬فيه �إيه يا (ملوك) ‪ ..‬عايزه �إيه ؟‬ ‫‪ -‬فيه حد دخل من باب الدار ‪..‬‬ ‫‪ -‬ما في�ش حد يا أ�ختي ‪ ..‬يعني �شايفة الب�ساط أ�حمدي ‪ ،‬وال�ضيوف‬ ‫رايحين جايين ‪ ..‬خليكي في اللي انتي فيه ‪..‬‬ ‫‪ -‬جرى �إيه يا (نرج�س) ‪ ..‬بيتهي�ألي �إن حد مرق لجوه ‪..‬‬ ‫‪ -‬ما حد�ش (مر�أ) يا أ�ختي ‪ ..‬دا خيالات المراية ‪ ..‬والدلع ال ِم ِرئ ‪.‬‬ ‫م�صم�صت (ملوك) �شفتيها في تحد و�سخرية ودخلت المندرة‬ ‫خا�صتها‪ ..‬ورزعت الباب في غيظ ‪..‬‬ ‫تنهدت روحي في راحة ‪ ..‬فا ألمر كان يمكن �أن يتطور وتمد (ملوك)‬ ‫بوزها في �أودة (نرج�س) ‪ ..‬لكن ال�صمت �ساد ‪ ..‬رددت باب (نرج�س)‬ ‫بهدوء و�أخذت �أت أ�مل الغرفة ‪..‬‬ ‫ال�سرير الحديد الأ�سود عالي بدرجة غريبة ‪ .‬يحيط ب�أعمدته التي �ضاع‬ ‫�أحد فواني�سها كورني�ش داير من القما�ش ا ألبي�ض الم�شغول ‪ ..‬النامو�سية‬ ‫ملمومة كالقبة في �شكل جميل‪ ..‬وعلى ال�سرير مازال اللحاف ال�ساتان‬ ‫ذي ال�شرا�شيب البمبي ‪ ،‬ك أ�نه لم يم�س منذ فر�ش لأول مرة‪ ..‬يتدلى تحته‬ ‫كورني�ش داير �آخر ي�صل إ�لى ا ألر�ض ليخفي ما تحت ال�سرير ‪..‬‬ ‫‪213‬‬

‫‪ -‬روح ربنا يجعل في و�شك القبول ‪ ..‬وينجيك من كل ما يعاديك‪..‬‬ ‫كنت أ�حب دعواتها المنظومة المنغمة و أ�خاف منها ‪ .‬لكني كنت قد‬ ‫قررت الا�ستجابة لتحديك ‪..‬‬ ‫أ�عرف أ�ن (نرج�س) كذبت حين قالت �إن زوجها �سيعود مبك ًرا‬ ‫اليوم ‪ .‬و أ�ن عليها أ�ن تجهز له لقمة ‪ ..‬فاليوم لي�س يوم (خمي�س) ‪ ..‬كان ‪-‬‬ ‫زوجها قد تعود �أن يخت�صر مرات ا�ضطراره للمجاهدة والمعافرة اللامجدية‬ ‫مع (نرج�س) قدر ا إلمكان ‪ ..‬لذلك كان م�ستحيل ًا �أن يغير عادته ‪ .‬كنت‬ ‫مت�أك ًدا �أنها في البيت وحدها ا آلن ‪ ..‬وقد تكون منخرطة في البكاء ‪..‬‬ ‫(لي�س هناك مفر ‪ ،‬إ�ن كنت بالفعل تنوي الدخول في التحدي) ‪....‬‬ ‫العقبة الوحيدة كانت الدخول �إلى البيت دون لفت نظر �سلفتها ‪.‬‬ ‫النا�س العابرون والجيران تعودوا على دخولي وخروجي إ�لى البيت بحكم‬ ‫العلاقة الحميمية بين خالتي وبنتها وبين �سكان البيت‪ .‬فتظاهرت بعدم‬ ‫الاهتمام وعبرت العتبة‪ .‬في جر�أة‪..‬‬ ‫كان باب مندرة �سلفتها على الي�سار مفتو ًحا ‪ ..‬والمندرة التي على‬ ‫اليمين مغلقة ‪ ..‬وباب الو�سط الذي لا درف له كان مغمو ًرا بال�شم�س‬ ‫وحماتها تتحدث مع نف�سها �أو مع �شخ�ص ما فوق ال�سطح في غ�ضب ‪..‬‬ ‫باب مندرة (ملوك) كان موار ًبا ‪ ..‬مرقت ب�سرعة خاطفة ‪ .‬ودخلت‬ ‫حجرة (نرج�س)‪ ..‬مرت لحظة �صمت ‪ ،‬حب�ست فيها �أنفا�سي خلف الباب‬ ‫الموارب ‪ .‬ثم �سمعتها تقول في �شك ‪..‬‬ ‫‪ -‬مين ؟ مين اللي دخل ؟‬ ‫لم ت�سمع ر ًّدا ‪ ..‬لكن خيالا ما ‪ ،‬كان بالت�أكيد قد عبر المر�آة خلفها ‪..‬‬ ‫وقبل أ�ن تكذب ما ر أ�ته ‪� ،‬أرادت الت�أكد ‪..‬‬ ‫�سمعتها تقوم وتزيح كر�سيها الخ�شبي ‪ ..‬ثم وهي ‪ ،‬تخطو نحو‬ ‫‪212‬‬

‫كدت �أف�ضح وجودي ‪ ..‬تما�سكت ب�صعوبة ‪� ..‬ساد ال�صمت الغرفة ‪..‬‬ ‫أ�ح�س�ست بها تت�شمم الهواء ‪ ..‬و أ�نها ت�شك في �شيء ‪ ..‬راقبت قبقابها وهو‬ ‫يتحرك في ع�صبية ثم يتجه ب�سرعة ناحية الباب ‪ .‬و�سمعت �صوت التربا�س‬ ‫الحديدي يحكم إ�غلاقه ‪..‬‬ ‫ر أ�يتها تجل�س وظهرها للباب‪ .‬و أ�خذت تميل بر أ��سها إ�لى ا ألر�ض لترى‬ ‫ما تحت ال�سرير‪ .‬ملت مثلها و�أنا �أ�ضع أ��صبعي على فمي هام�ًسا ‪..‬‬ ‫‪� -‬أنا يا (نرج�س) ‪ ..‬ه�س ه�س ‪.‬‬ ‫‪ -‬يا م�صيبتي ‪..‬‬ ‫قالتها في فزع حقيقي ورعب و إ�ن لم تنطقها ‪..‬‬ ‫�أخذت تدق �صدرها في رعب وهي تتلفت ‪.‬‬ ‫‪ -‬إ�يه اللي جابك هنا ؟ بتعمل إ�يه ؟ أ��صوت ‪..‬‬ ‫‪ -‬وانتي ير�ضيكي تف�ضحيني ‪..‬‬ ‫‪ -‬ق�صدك أ�ف�ضح نف�سي ‪ ..‬يا نهار �أ�سود ‪ ..‬أ�عمل إ�يه دلوقتي يا نا�س ؟‬ ‫دي الم�ضروبة مق�صوفة الرقبة �شافتك ‪..‬‬ ‫كانت قد جل�ست على الأر�ض يائ�سة فخرجت من مكمني واقتربت‬ ‫منها زاح ًفا ‪..‬‬ ‫‪ -‬انتي اللي ح تخليها ت�شوفني ‪ ..‬ه�س ‪� ..‬إهدي ‪..‬‬ ‫و�ضعت يدي على كتفها ‪ ،‬ففزعت ونترت كفي وهي تقوم مرتجفة‪..‬‬ ‫‪ -‬تعالي يا (نرج�س) ‪ ..‬ما تتكلمي�ش وا�سمعيني ‪ ..‬أ�نا مزنوق هنا‬ ‫�أكثر منك ‪ ..‬غلطة ‪� .‬أنا دخلت من غير ما حد ي�شوفني ‪ .‬كنت فاكرك‬ ‫في ا ألودة‪ ..‬لكن �إنتي اللي قفلتي علينا الباب‪ ..‬دلوقتي �أنا وانتي في‬ ‫الم�صيدة‪ ..‬م�ش هنخرج من هنا �إلا إ�ذا هديتي ‪ ..‬وبطلتي لطم‪ ..‬تعالي ‪..‬‬ ‫�أيوه‪ ..‬تعالي ‪ ..‬الباب مقفول ‪ ..‬والمغدورة قفلت بابها عليها ‪ ..‬الحمد‬ ‫‪215‬‬

‫خلف الجدار المجاور للباب كانت الت�سريحة ‪ ،‬عليها �شوال رز �أبي�ض‬ ‫وتحتها �أكثر من �صندوق خ�شبي عليه ر�سوم بدائية ‪ ..‬وكر�سيها م�سنود‬ ‫عليها في مكانه ‪ ،‬رغم �إحالته على المعا�ش بدري ‪ ..‬الدولاب العمولة ذو‬ ‫ال�ضلفتين ‪ ،‬والبترينة مازال ال�صيني فيها لم يجد بعد الفر�صة كي ي�ستخدم ‪.‬‬ ‫رفعت الملاءة المتدلية من ال�سرير ‪ ،‬كانت هناك عدة إ��شولة مملوءة‬ ‫بالحبوب وبع�ض الحلل النحا�س وط�شت غ�سيل مملوء بالأرز ا ألبي�ض‬ ‫‪ .‬الم�ساحة التي بين ال�سرير والت�سريحة كانت نظيفة ‪ ،‬مغطاة بطبقة من‬ ‫الطين المعالج الناعم الم�ستوي ‪ ،‬تغطيها ح�صيرة أ�قرب �إلى �سجادة الجوامع‬ ‫الم�صنوعة من ال�سمار بها بع�ض الخطوط الملونة ‪ ،‬و إ�ن كانت �أطرافها قد‬ ‫ت آ�كلت من فعل الرطوبة والكن�س الم�ستمر ‪..‬‬ ‫كانت رائحة الغرفة مميزة و أ�ليفة ونظيفة تفوح برائحة ال�صابون‬ ‫المعطر ‪ .‬زجاج ال�شباك الملون أ�علاه ي�شيع ج ًّوا خيال ًّيا ‪� ..‬ساحر �شذاه ‪-‬‬ ‫مازال يهاجم أ�نفي وعيني حتى يومنا هذا ‪ -‬كحلم مفقود ‪..‬‬ ‫لم تكن عندي خطة ولكني كنت �أ�سير رغبة حارقة لتح ِّديك �أنت‬ ‫بالذات و إ�ثبات قدرتي على المبادرة ‪ ،‬لا يفوقها إ�لا رعبي �ألا يحدث ما‬ ‫يجعلك تر�ضى عني‪ ..‬وتدرك أ�نني تلميذ نجيب لك‪ .‬و أ�جعلك تغير من‬ ‫إ�ح�سا�سك الدائم بخيبة الأمل ف ّي وفي ن�ضوجي‪..‬‬ ‫دلفت تحت ال�سرير في هدوء و�صمت ‪ .‬عندما �أح�س�ست بخطى‬ ‫(نرج�س) ودقة قبقابها الذي تتعمد �أن تطرقع به في الحو�ش لتثبت للي ما‬ ‫يت�سمو �إنها م�ش �أقل منهم ‪ .‬و إ�نها و إ�ن كانت زوجة (الفلاح) إ�لا �أنها لا‬ ‫تقل (ت�س ُّت ًتا) عن ا آلخرين ‪ ،‬بل هي ت�صاحب �أي ً�ضا �ستات أ�كابر بحق مثل‬ ‫�ست ( أ�م فهمي) ‪.‬‬ ‫دخلت الغرفة ورزعت الباب ك أ�نها ت�صفع �أعداءها ‪ ،‬ف�أفزعتني حتى‬ ‫‪214‬‬

‫غاظتني ‪ ..‬وجدتني مكو ًما �أحاول جمع ما تبعثر مني ‪ ،‬لأعاود ‪:‬‬ ‫‪ -‬أل �إيه ؟ ليه ؟‬ ‫‪ -‬ما تف�ضحني�ش اعمل معروف ‪ ..‬ياللا ‪ ..‬لحد هنا كفاية ‪..‬‬ ‫‪� -‬إيه اللي كفاية ‪ ..‬انتي اتهبلتي يا هبلة انتي ‪ ..‬تعالي ب�س ‪ ..‬اقعدي‪..‬‬ ‫يا حبيبتي ‪ ..‬ما في�ش حد بيحبك قدي ‪..‬‬ ‫‪ -‬قوم والنبي �سايقة عليك النبي وحياة مع ِّزة خالتك ‪ ..‬أ�خرج ‪..‬‬ ‫‪ -‬ده هبل ر�سمي ‪� ..‬أخرج أ�زاي ؟ �إنتي لو ب�صيتي من خرم المفتاح‬ ‫ح تلتقي �صاحبتنا قاعدة م�ستنية لك ‪ ..‬ويجوز حا�سة باللي بيح�صل ‪..‬‬ ‫أ�كيد‪� ..‬أمال ليه قعدت ع العتبة ؟‬ ‫لطمت خديها ‪ ..‬مرعوبة ولم تكن تجر�ؤ على التنف�س ‪ ..‬كان �صراخها‬ ‫للداخل و�صوتها الأخر�س يكاد لا ي�سمع ‪ ،‬ومع ذلك كانت تظن بالفعل‬ ‫أ�ن وراء الباب ح�شد من العيون وا آلذان‪ ..‬و أ�ن هم�ساتها ت�صل حتى آ�خر‬ ‫البلد ‪ ..‬جذبتها ‪ ،‬فجل�ست �إلى جانبي على الح�صيرة �شبه م�ست�سلمة ‪.‬‬ ‫‪ -‬يا بنت النا�س ‪ ..‬خلا�ص ‪ ..‬ما في�ش فايدة ‪ ..‬إ�حنا اتربطنا لبع�ض‬ ‫ب�سلبة جمل ‪ ..‬م�ش ح �أخرج �إلا �إذا ح�صل ‪..‬‬ ‫تعجبت لجر أ�تي ‪ .‬لم �أتعود �أن أ�تكلم مع البنات أ�و الن�ساء بهذه الطريقة‬ ‫‪ .‬لم �أكن �أنا الذي يتكلم ‪ .‬كان �صوتك وعباراتك ‪� ..‬أنت الذي تل َّب�سني‬ ‫و�أعطاني هذه الجر�أة والمكر‪ ..‬خرج �صوتك مداه ًنا على ل�ساني ‪:‬‬ ‫‪ -‬إ�هدي ‪� ..‬إهدي ‪ ..‬دلوقتي ‪ ..‬إ�نتي تفتحي الباب وتخرجي ‪..‬‬ ‫وك إ�ن مافي�ش حاجة ح�صلت‪ ..‬ات�صرفي عادي ج ًّدا ‪..‬‬ ‫‪ -‬وانت ؟‬ ‫‪� -‬أنا ح �أنام هنا ‪ ..‬ح اب ّيت معاك ‪..‬‬ ‫‪ -‬يا م�صيبتي ‪..‬‬ ‫زحفت تحت ال�سرير‪� ..‬صعدت على زكيبة مليئة ب َح ٍّب ما ‪ .‬و�أ�سندت‬ ‫ظهري لأخرى واقفة م�ستندة إ�لى الحائط ‪ ..‬هبطت ورفعت الملاءة ‪..‬‬ ‫‪217‬‬

‫لله‪ ..‬وحماتك بينها وبين القيالة عهد ما تبطل�ش نك�ش ‪ ..‬و(بهابند) ما‬ ‫بين الفراخ والجلة ‪� ..‬أيوه كده ‪ ..‬إ��ضحكي ‪ ..‬النبي تب�سم ‪ ..‬يا �سلام ‪..‬‬ ‫إ�نتي عارفة �إني باحبك قد إ�يه ؟ �إنتي اللي بتجيبيني لبيت خالتي على ملا‬ ‫و�شي‪ ..‬طب م�ش فاكرة ؟‬ ‫كانت ت�ستمع لي مذهولة ‪ ..‬حائرة ‪ ..‬لا تجر ؤ� على �إخراج �صوتها‬ ‫للرد عل َّي ‪ ..‬تح�س �أن أ�نفا�سها المكرو�شة ت�صل للنا�س على الزراعية ‪..‬‬ ‫وكانت كفاي لا تكفان عن الحركة ‪� .‬أربت هنا و�أطبطب هناك ‪ ..‬و�ألم�س‬ ‫و�أتح�س�س في حنان �صعو ًدا وهبو ًطا ‪..‬‬ ‫تحول تهدجها من انفعال الرعب إ�لى انفعالات حانية ملهوفة وخافتة‬ ‫‪ ..‬لم أ�تعجلها‪ ..‬اقتربت ب�شفتي من وجنتيها ‪ ..‬وهبطت بهما إ�لى رقبتها‬ ‫‪ ،‬كانت تتلوى ‪ ،‬رغم �أن ج�سمها الفارع كان يفوقني طول ًا وعر ً�ضا ‪..‬‬ ‫ك َّنت طفلة بين ذراعي ‪ ..‬كانت لكلمة ‪( ..‬يا حبيبتي) فعل ال�سحر ‪..‬‬ ‫لمعة عينها الوحيدة اختفت تحت �سيل من الدموع ‪ ..‬هبطت ب�شفتي نحو‬ ‫�شفتيها البكر‪ ،‬التي لم تعرف على ما �أظن طعم القبلات ‪ ..‬فهبطت بي �إلى‬ ‫الح�صيرة مجهدة ‪ ..‬لينة ‪ ..‬مددتها ومدت يدي ف�سحبت إ�حدى الخداديات‬ ‫من على ال�سرير ب�سرعة البرق و أ�رحت ر�أ�سها عليها ‪� ..‬أحاطتني بذراعيين‬ ‫لا عظام فيهما وهبطت بي لوديان من زهر النرج�س ‪ .‬مرغت ر�أ�سي في‬ ‫�صدرها ال�صلب وهبطت إ�لى تلال الزبد والع�سل ‪ ..‬ولكنها نفرت فج�أة‬ ‫ك�أيل وح�شي‪ ،‬عندما بد أ�ت في فك الطل�سم ‪..‬‬ ‫انتف�ضت واقفة على حيلها ‪ ،‬ك�أنما أ�فاقت فج�أة ‪ ..‬ف�ألقت بي من �سابع‬ ‫�سما إ�لى جهامة الح�صيرة ال�صلبة ف�أوجعتني ‪ ..‬تحطمت �سفني على �صخور‬ ‫ال�شاطئ ‪ .‬وعادت تلطم وجهها ‪..‬‬ ‫‪ -‬أل ‪ ..‬يا نهار أ��سود ‪ ..‬يا ف�ضحيتي !!‬ ‫‪216‬‬

‫فقتلته ‪ ..‬لاحقتها فوق ال�سطح بين كيمان الق�ش ‪ .‬تاهت مني ‪ ،‬درت‬ ‫ك أ�ني في متاهة �شا�سعة أ�بحث عنها ‪ ..‬كانت م�ستغرقة في النوم م�ستلقية‬ ‫بين أ�كوام ق�ش الرز وقد تعرت �إلا من قمي�ص ممزق ‪ .‬وكان القمر ‪ ..‬يغمر‬ ‫الليل حولي يحيطني بوهج �ضياء لا حدود له‪ .‬كنت ن�شوانا ‪ ..‬تقدمت‬ ‫منها ‪ ..‬وجل�ست �أت أ�ملها وهي �ساكنة في �سلام ‪ ..‬وحين لم�ستها فزعت‪،‬‬ ‫لكنها �أخذتني في ح�ضنها ‪ ..‬حتى فاج أ�نا ع�سكر الخليفة وجرجرونا بعد‬ ‫أ�ن ربطونا من ا ألقدام بحبال من م�سد خلف الخيل ‪ ..‬و أ�نا �أحاول حمايتها‬ ‫دون جدوى ‪ ..‬ثم فرقوا بيننا ‪ ..‬إ��صطحبوها �إلى مقر ال�سلطان ‪ .‬أ�ما �أنا‬ ‫فجلدوني تحت �شباكها حتى تقطعت أ�نفا�سي ‪..‬‬ ‫لو كنت �ساعتها معي لما حدث لي ذلك ‪ ..‬نعم افتقدتك وافتقدت‬ ‫�أفكارك وحيلك وقدرتك على مواجهة مثل هذه المواقف ‪ ..‬كنت مت أ�ك ًدا‬ ‫أ�نني �س�أخرج من مخبئي في هدوء عندما تنتهي من أ�عمالها العادية ‪ ..‬وحين‬ ‫ينخمد الجميع �ست أ�تي هي إ�ل َّي ‪ .‬وعلى المفر�ش البمبي ال�ساتان الناعم الملم�س‬ ‫‪ .‬وتحت هذه النامو�سية التي ت�شبه خيمة من �ضوء القمر ‪� ،‬سنق�ضي ليلة من‬ ‫العمر حرمت منها ‪ ..‬ولكن هذه ال�صورة لم تتح لي أ�ب ًدا ‪ ..‬حتى عندما‬ ‫حاولت ‪ ،‬غلبتني هلاو�س ‪ ..‬حملتني بعي ًدا ‪ ..‬نعم كانت معي في كل هذه‬ ‫التخاريف ولكني لم أ�حتويها أ�ب ًدا ولم أ�ق�ضم تفاحتها ‪ ..‬فج أ�ة أ�ح�س�ست‬ ‫�أنني تجاوزت حدودي ‪ ،‬و�أنني ارتكبت حماقة كبيرة ‪ .‬و�أن الأمر لن ينتهي‬ ‫على خير ‪ ..‬كالعادة بد أ�ت في ت أ�نيب نف�سي ‪ ..‬أ�رهفت ال�سمع قد �أ�سمع‬ ‫�شي ًئا ‪ ..‬على الإطلاق ‪ ..‬وك أ�ن البيت ومن فيه ماتوا أ�و رحلوا ‪..‬‬ ‫تنبهت على خطوات متل�ص�صة ‪ ..‬كدت �أنادي عليها ولكني لم أ�جر ؤ�‬ ‫‪ ..‬ولح�سن الحظ لم أ�فعل ‪ ..‬فمن خلال �أحد ثقوب الدانتيلا اليدوية التي‬ ‫‪219‬‬

‫وت أ�ملت جل�ستي مترب ًعا للحظة ‪ .‬كادت تنفجر �ضاحكة ‪ ..‬كتمت‬ ‫�ضحكتها ب�صعوبة ‪ ..‬و�إن أ�عجبتها بل �أذهلتها فكرتي ‪�( -‬آن لك أ�ن‬ ‫ت�صدق أ�ن كل هذا يخرج مني)! ‪ -‬تمالكت نف�سها ‪:‬‬ ‫‪ -‬واللي ن َّبا النبي إ�نك اتجننت ‪ ..‬كل ده يطلع منك انت ‪..‬؟‬ ‫‪� -‬إنتي بتقولي فيها ‪� ..‬أنا �أ�صلي ج َّوايا عفريت ‪ ..‬م�ش قالولك ان �أنا‬ ‫بالليل با�صحى وازعق واهلو�س بكلام ‪ ..‬أ�نا كده ‪ ..‬وذنبك على جنبك‪..‬‬ ‫تعالي ‪ ..‬أ�نا عارف انك بتحبيني‪ ..‬ب�س م�ش قد حبي لك يا (نرج�س)‪.‬‬ ‫‪ -‬ح َّبك اللي ما يت�سمى ‪.‬‬ ‫لم �أعر اعترا�ضها أ�ي انتباه ‪( ..‬وا�ستمر �صوتك على ل�ساني) ‪.‬‬ ‫‪� -‬إنتي بالراحة تقومي تخرجي وتعملي اللي انتي عايزاه ‪ .‬زي كل‬ ‫يوم ‪� ..‬أنا م�ش منقول من هنا ‪ ..‬ولا الجن الأزرق ح يعرف طريقي ‪ .‬إ�لا‬ ‫إ�ذا انتي ح ّبيتي تف�ضحينا ‪ ..‬هه‪ ..‬انتي حرة‪..‬‬ ‫�سحبت نف�سي ونمت فوق الزكيبة و أ�غم�ضت عيني‪ ..‬بينما هي تنظر‬ ‫إ�ل َّي في ذهول وعجز ‪ ..‬بل وخوف ‪ ..‬نجحت فكرة العفاريت والجنون‬ ‫‪( ..‬علمتني أ�نت أ�نهن ي�صدقن كل ما يتعلق بالعفاريت ‪ ..‬الخرافة غذا�ؤهن‬ ‫اليومي ‪� ..‬صلاتهن ‪ ..‬رغبتهن في ال�سلام والأمان ‪� ..‬شوقهن �إلى الحياة‬ ‫والنعيم ‪� ..‬صدقتك ‪ ،‬وازداد �إيماني ب�سبلك الم�ؤكدة) ‪ ..‬لأنها �صدقتني‬ ‫وا�ست�سلمت ‪ ..‬و�أرخت ال�ستارة ‪ ..‬وفتحت الباب وخرجت ‪..‬‬ ‫بينما ر َّتبت �أنا مكا ًنا لائ ًقا بما يكفي ‪ .‬ونمت و(ابت�سامة انت�صارك)‬ ‫عري�ضة تكاد تنطلق في قهقهه فا�ضحة ‪..‬‬ ‫ل�ست أ�دري كم من الوقت م�ضى و أ�نا بين ال�صحو والنوم ‪ ،‬تدور‬ ‫بر أ��سي ا ألحلام ‪ ،‬وت�صورات ملونة لما �سيحدث ‪ ..‬كنت بين الحلم والعلم‬ ‫‪ ..‬بين ال�صحو والمنام ‪ ،‬لكنها كانت دائ ًما معي ‪ ..‬أ�خذتني من يدي ‪..‬‬ ‫نزلنا البحر ‪� ،‬سبحنا حتى غرقنا ‪� ..‬أنقذنا قر�صان عابر حاول اغت�صابها‬ ‫‪218‬‬

‫فزحفت مهرول ًا و�أنا في غاية من الرعب والا�ضطراب �أجر جثتي خار ًجا‬ ‫‪ ..‬لتلقفني يد خالتي و(ر�سمية) ي�سويان منكو�ش �شعري ‪ ..‬ويحذراني من‬ ‫النطق بكلمة ‪:‬‬ ‫‪ -‬انت اتجننت يا و َل ْه ‪ ..‬إ�يه اللي عملته ده ؟‬ ‫كاد يغمى عل َّي ‪ ..‬لكن (نرج�س) �ساعتها دخلت ‪ ..‬ولم تفاج أ�‬ ‫بوجودي ولم تنزعج‪ ..‬كانت تحمل �صينية عليها عدة ال�شاي و�ضعتها‬ ‫و�سطنا ‪ ..‬ورفعت ر أ��سها في ابت�سامة انت�صار وت�شف ‪:‬‬ ‫‪� -‬شرفتنا يا (�سي �سمير) ‪ ..‬والنبي خطوة عزيزة ‪ ..‬دا احنا زارنا النبي‬ ‫‪ ..‬دا احنا نا�س فلاحين م�ش قد المقام ‪.‬‬ ‫تفجر العرق بغزارة من جبيني ‪� .‬أح�س�ست به يغمر ج�سمي ‪ ..‬دارت‬ ‫بي الغرفة ‪ ..‬حاولت أ�ن أ�فهم ما حدث ‪ ..‬معقول !! هل جاءت بهم‬ ‫ال�صدفة ‪ ..‬لا ‪ ..‬لقد رحبوا بي قبل دخولهم ك أ�نهم يريدون ا إلعلان عن‬ ‫وجودي معهم ‪ ..‬غامت الدنيا �أمام عيني ‪..‬‬ ‫�أخذتني خالتي في ح�ضنها وهي ت�ضع كفها فوق جبيني ‪ ..‬و�صاحت‬ ‫‪ ..‬وهي تب�سمل وتقر أ� (ال�صمدية والكر�سي) و�أدعية أ�خرى بلغة غير‬ ‫مفهومة ‪ ..‬ترقيني لتطرد ال�شياطين التي ركبتني وغوتني ‪..‬‬ ‫‪ -‬يا ح�سرة قلبي ‪ ..‬معله�ش يا أ�ختي ‪ ..‬ما ت�صبي�ش ال�شاي ‪� ..‬إحنا‬ ‫قايمين ‪ ..‬ال�شاب قايد نار‪ ..‬فج�أة كده ؟ يا َح ِّبة قلبي ‪ ..‬قومي يا (ر�سمية)‬ ‫�إ�سنديه معايا ‪..‬‬ ‫‪ -‬يمكن ما عجبتو�ش عي�شة الفلاحين ‪..‬‬ ‫قالتها حماتها في �سخرية ولكن في براءة ‪..‬‬ ‫لكن نظرة (ملوك) التي فتحت الباب و�سلمت على (ر�سمية) وهي‬ ‫تم�صم�ص �شفتيها في ا�ستغراب ولهجة ت�شي ب�شك كبير ‪:‬‬ ‫‪221‬‬

‫تزين ال�ستارة ‪ ..‬لمحت الباب ينتفح في هدوء ‪ ..‬ور أ��س (ملوك) يند�س بين‬ ‫الدرفتين تبحث عن �شيء ما ‪ ..‬لم تهد أ� ‪ ..‬ولم تقتنع �أن أ�ح ًدا لم يدخل ‪..‬‬ ‫لخبط هذا كياني و�شل تفكيري ‪( ..‬فلابد �أنك تخليت عني تما ًما‪ ،‬وتركتني‬ ‫أ�واجه هذا الموقف وحدي) ‪ ..‬فلم أ��ستطع �سوى أ�ن أ�رتع�ش رع ًبا ‪ ..‬قالت‬ ‫(ملوك) في �صوت هام�س ‪:‬‬ ‫‪ -‬مين اللي هنا ‪..‬؟ و َل ْه !؟‬ ‫كتمت أ�نفا�سي ‪ .‬وتوقعت أ�ن تدخل فترفع القما�ش وتك�شفني‪ ،‬وتبين‬ ‫لي �أنني �شخ�ص مختلف كثي ًرا عما كنت عليه قبل �أن تتركني (نرج�س) ‪..‬‬ ‫ذلك ألنك اختفيت عني ورحلت حتى عن ذاكرتي ‪ ،‬و أ�نا في �أ�شد الحاجة‬ ‫�إليك ‪..‬‬ ‫�شيء ما جعل (ملوك) تعدل عن الدخول ‪ ،‬وت�سرع ب إ�غلاق الباب‬ ‫في هدوء ‪ ..‬و�سمعت باب غرفتها يغلق ب�صوت عال ‪ ..‬ثم �ساد ال�صمت‬ ‫للحظة ‪ ..‬بعده ‪� ..‬سمعت �صوت (نرج�س) يعلو في �صخب مرح ًبا ‪..‬‬ ‫‪ -‬يا �أهل ًا ‪ ..‬يا �أهل ًا ‪ ..‬دا احنا زارنا النبي ‪ ..‬معقولة ‪ ..‬أ�هل ًا يا �ست‬ ‫(ام فهمي) اتف�ضلي �أهل ًا يا (�ست ر�سمية) ‪ ..‬معقول ‪ ..‬و(�سي �سمير)‬ ‫كمان �إيه ده ؟ يا دي الهنا لما تزوروا نا�س فلاحين زينا ‪..‬‬ ‫فوجئت با�سمي يعلن عن ح�ضوره ‪ ..‬و�شاهدت خالتي و(ر�سمية)‬ ‫و(نرج�س) يدخلن �إلى الحجرة ور أ�يت خالتي وابنتها تفتر�شان ا ألر�ض‬ ‫بجواري مبا�شرة ‪ ..‬بينما ارتفع �صوت (نرج�س) تنادي حماتها �أن تنزل‬ ‫لت�سلم على ال�ضيوف ‪ ،‬في الوقت نف�سه �سمعت هم�س (ر�سمية) يدعوني‬ ‫في حزم لي�س غري ًبا عنها ‪:‬‬ ‫‪� -‬أخرج يا (�سم�سم) ‪ ..‬اظهر وبان يا اخويا وعليك الأمان ‪ ..‬ياللا‪..‬‬ ‫لم �أفهم �شي ًئا ‪ ..‬لكنها مدت يدها من تحت القما�ش ت�ستعجلني ‪..‬‬ ‫‪220‬‬

‫إ�ن الإن�سان ليطغى ‪...‬‬ ‫‪ ‬أ�عتقد أ�نك ت أ�كدت ا آلن �أن الذي يدفعني‬ ‫ويغريني مرة أ�خرة بمعاودة الكتابة عنك هو أ�نك‬ ‫بكل المقايي�س �أعز ما ابتلتني به الدنيا من أ��صدقاء في‬ ‫الطفولة والمدر�سة ‪ ،‬بين النا�س ‪ ،‬في ال�سجن والغربة‬ ‫‪ ،‬و ألنني �أ�شعر عندما أ�كتب و�أنت معي ‪ ،‬ي�صبح فعل‬ ‫الكتابة �أجمل و�أ�سهل مع �أنك مع كل جملة تتخلق‬ ‫على الورق‪ ،‬تغمغم معتر ً�ضا في غ�ضب �أو �سخرية‬ ‫على طريقتك‪.‬‬ ‫‪( -‬لا يا حبيبي) ‪� ،‬أنك تق�صد ( أ�نا) بالكتابة‬ ‫عني تعني (عنك) ت�ستطيع أ�ن تتحرر لتتجمل و�أنت‬ ‫تكذب فتحكي‪ ،‬تخترع وقائع لم تحدث‪� ،‬أو تغير‬ ‫في ترتيب الوقائع كما ت�شاء أ�و تبالغ في قيمة بع�ضها‬ ‫وتختلق �شخ�صيات تن�سب �إليها نقائ�صك ومعايبك‬ ‫‪223‬‬

‫‪ -‬ه َّو انتو لحقتوا ‪ .‬ما�شيين على طول كده ليه ؟ ال�شاي ما ات�شرب�ش ‪..‬‬ ‫ا�سم الله عليه ‪ ..‬إ�يه اللي ح�صل له؟ بعد ال�شر عليك يا �ضنايا ‪..‬‬ ‫لم تلتفت لها خالتي وخطت بي إ�لى الخارج ب�سرعة‪ ..‬تريد �أن تنهي‬ ‫الموقف الثقيل ‪..‬‬ ‫وقالت لها (ر�سمية) وهي تربت على �صدرها ‪ ..‬في لهجة انت�صار‬ ‫ن�سوي ‪:‬‬ ‫‪ -‬آ��شيته بعافية �شوية يا �أختي ‪� ..‬شوفتي ‪ ..‬ما لحقنا�ش نقعد ونت�سامر‬ ‫معاكي ‪ ..‬معله�ش يا (نرج�س) نجيلك مرة تانية ‪ ..‬خيرها في غيرها ‪..‬‬ ‫(نرج�س) ‪ -‬على ما �أعتقد ‪ -‬لم تحتمل ‪ .‬ف أ��سرعت �إلى غرفتها و�أغلقت‬ ‫الباب عليها‪ ..‬ولابد �أنها انخرطت في البكاء المكتوم حتى �أغمي عليها ‪..‬‬ ‫من الح�سرة وخيبة ا ألمل ‪ ..‬تلعن العي�شة واللي عاي�شينها ‪.‬‬ ‫بينما ( أ�نا مت أ�كد) ‪� -‬أن (ملوك) هم�ست لنف�سها غير مقتنعة بكل ما‬ ‫ر أ�ته ‪:‬‬ ‫‪ -‬لا والنبي واللي ن َّبا النبي‪ ..‬ده ملعوب كبير قوي ‪ ..‬الحكاية دي‬ ‫م�ش نازلة لي من زور‪.‬‬ ‫لكنها على ما يبدو بلعتها بعد ذلك على م�ض�ض ولم تحفر حولها ‪،‬‬ ‫عندما بلغها �أنني �سقطت بالفعل مري ً�ضا مر ً�ضا لم يعرف له (حامد �أفندي)‬ ‫حل َّاق ال�صحة وتومرجي الدكتور (حبيب) �سب ًبا ولا دواء‪ ..‬ون�صح‬ ‫ب�ضرورة ا�ستدعاء الدكتور (حبيب) نف�سه ‪ .‬أ�و نقلي إ�لى الم�ست�شفى ا ألميري‬ ‫بالمن�صورة على الفور ‪..‬‬ ‫•••‬ ‫‪222‬‬

‫‪ -‬حقائق إ�يه يا عم ؟ و�أكاذيب إ�يه يا �صاحبي وبطيخ �إيه؟ حيلك عل َّي‬ ‫‪ ،‬لماذا ذهبت بعي ًدا يا �صديقي؟‪ .‬أ�نا �أكدت منذ البداية أ�نك ‪ -‬وحدك ‪-‬‬ ‫كنت ومازلت أ�هم (�شيء) في حياتي حتى قبل أ�ن التحق بركبك (الينايري)‬ ‫�أو أ�عتنق مبادئك المارك�سية ‪ -‬ب�صرف النظر عن م�شاعرك من حيث ثقتك‬ ‫ف َّي �أو �شكك في مدى إ�خلا�صي لك واعترافي �أو عدمه بجميلك الدائم‬ ‫والم ؤ�ثر الملمو�س والم ؤ�كد علي م�ساري وتكوينه بل على م�سار الوطن‬ ‫لعقود طويلة ‪.‬‬ ‫�أنا يا عمي لم ولن أ�غيرَ ر�أيي فيك ‪ .‬و�أعترف مرة �أخرى أ�ن كل �شيء‬ ‫جميل وحي ودرامي وله �صلة بالحياة (الحقيقية) من حب وجن�س أ�و‬ ‫فيما يتعلق بالإبداع والموهبة وال�صداقة والمقدرة على الفعل �أو العجز عنه‬ ‫والإ�صرار على الحق واتخاذ الموقف ال�سليم كما أ�ت�صوره ير�ضيك (�سواء‬ ‫تمخ�ض هذا عن غباء عظيم أ�و ميزة فادحة) كان كله ب�سببك وبالت أ�كيد‬ ‫كان الف�ضل فيه عائ ًدا �إليك ب�صرف النظر عن خيبة فكرة (دكتاتورية‬ ‫البرولتياريا) التى انتهت فى الواقع الى دكتاتورية أ�جهزة الأمن ال�سرية‬ ‫وم�ستويات التنظيم العلنية والتى دفعتك ل إلنتحار الإرادى أ�و الق�سرى‬ ‫(مثلما �سيك�شف الم�ستقبل) فى منت�صف العام الخام�س وال�ستين حتى يحقق‬ ‫ال�سوفييت �إنهيارهم العظيم بعد �سقوط حائط برلين‪..‬‬ ‫فك ِّمل جميلك وتح َّم ْلني و�ساعدني على �أن �أكمل وبعدها حا�سبني ‪.‬‬ ‫لقد كان في نيتي ا آلن وقد �شجعني ذكرك على معاودة الكتابة بعد انقطاع‬ ‫دام �أكثر من عام محل‪ ،‬عجزت فيه عن إ��ضافة �سطر واحد �إلى ما كتبته من‬ ‫قبل عج ًزا وي أ��ًسا وقر ًفا برغم �صدور الرواية ال�سابقة (ولا هم يحزنون) ‪.‬‬ ‫‪225‬‬

‫بما يجعلك ت�ضفي على نف�سك ملامح رومان�سية مبر أ�ة من كل خط�أ‪ ،‬وتظهر‬ ‫بري ًئا لم تقترف أ�ي جريمة في حق الآخرين أ�و في حق نف�سك‪ ،‬وت�ستمرئ‬ ‫بكل خبث وبكل براءة أ�ن تن�سب لي تحري�ضك على كل الموبقات والخطايا‬ ‫التي تغطيك من �سا�سك لرا�سك‪.‬‬ ‫أ��صبح أ�نا الذي دفعك للتطاول على المر�أة في القطار رغم غيابي‬ ‫وح�ضور كل من كانوا حولك وبينهم أ�بوك وزوجها ‪ ..‬أ�نا الذي دفعتك‬ ‫دون أ�ن أ�دري ‪ -‬يا جبايرك ‪ -‬لاقتحام غرفة (نرج�س) بهذه الطريقة وك�أنني‬ ‫الذي أ�وحى �إليك بتلك الخطة التي لا يفكر فيها �إلا (خبا�ص) �أراري وبتاع‬ ‫ن�سوان متو ِّدك ‪� ..‬أنا طب ًعا الزنديق الذي و�سو�س لك وجعلك ت�سخر �أمام‬ ‫خالك من بناء ُفلك (نوح) في ال�صحراء ‪ .‬بل وتدعي �أنني جئتك هات ًفا‬ ‫ك�صوت مقد�س من ال�سماء و أ�دعوك و أ�حر�ضك على احت�ضان (زهزهان)‬ ‫الم�سكينة بحجة موا�ساتها بتجفيف دموعها ب�شفتيك إ�معا ًنا في الح ِّنية (يا‬ ‫راجل يا �ضلالي!) خلا�ص ‪ -‬تريدني أ�ن أ�كون �شيطانك �أم ملاكك‪ -‬هيا‬ ‫ا�ستمرئ �سكوتي وانتهز فر�صة وفاتى!‪ .‬وا�ستحل عدم قدرتي على الرد‬ ‫على ترهاتك وادعاءاتك ‪.‬‬ ‫اخت ِف ورائي ‪ ،‬توا َر ‪ -‬يا جبان‪ -‬لكن لا تكن ف ًّجا وتزودها فت�صبح‬ ‫اللعبة مك�شوفة والحجة ت�صبح مف�ضوحة ‪ .‬كن كما تدعي رجل ًا �شري ًفا ‪-‬‬ ‫واعترف ‪ -‬فهذا منذ البداية كان وعدك لمن �سي�سوقهم �سوء حظهم لقراءة‬ ‫هذا الهراء الذي تعاني كي ت�سكبه على الورق الذي لا يتعامل معه الآن �إلا‬ ‫القليلون و أ�قل منهم من �سي�صدقون ‪ ،‬بحكم الظروف التي �أحاطت بك‬ ‫وبي وحا�صرت كتاباتك وحا�صرت وجودي عبر كل هذا العمر ‪ .‬ولا‬ ‫�أعتقد �أن مزي ًدا من الأكاذيب �أو ‪ -‬يا �سيدي حتى لا تغ�ضب ‪ -‬مزي ًدا من‬ ‫فبركة الخيال والحرفنة �أو ادعائهما �سيغير من الحقائق �شي ًئا ‪.‬‬ ‫‪224‬‬

‫أ�مام ا آلخرين فى �سهرات ليالى ال�شتاء العائلية حول منقد النار ‪ ..‬فكنت‬ ‫أ�فعل متطاو�سا فى تمنع مفتعل يجعل الكل يحيطوننى بالاغراءات ألمار�س‬ ‫ما كنت تف�سره أ�نت با ألنانية وع�شق الذات ‪ ,‬وكل تلك التعبيرات المعقدة‬ ‫التى �أنكرها تماما ولكنك �أبدا لم تبر أ�نى منها ‪.‬‬ ‫�أريد أ�ن أ�ذكرها بب�ساطة فنية ‪ .‬تعوزني الكلمات ألقولها �أنك كنت‬ ‫‪ -‬كما قلت من قبل متحذل ًقا ‪ -‬كنت (جبريلي وخ�ضري وفيرجيلي) ‪.‬‬ ‫في �أجمل و�أ�سو أ� ما حدث لي طوال هذه الرحلة منذ وعيت على الدنيا‬ ‫وم�ضيت في مناكبها ‪� ،‬أعاني متاعبها من �سفر و�سجن وغربة و�صراعات‬ ‫وحب وكراهية وي أ��س وهزيمة ‪ .‬نعم ‪ ،‬ف أ�نت ‪� ،‬سواء كنت تدرك أ�و لا تدري‬ ‫‪ ،‬تذكر �أو لا تذكر ‪� ،‬أنت مثل ًا ‪ ..‬على �سبيل المثال ‪ ،‬لابد أ�نك كنت من‬ ‫ع َّرفني على (ح�سين عبد ربه)!!‬ ‫•••‬ ‫ ‬ ‫‪227‬‬

‫كان عا ًما كبي�ًسا تمت فيه �سيطرة �سيا�سة الت�صفية و(ال�سقوف الواطئة)‬ ‫على الي�سار وتمت �صياغة �سيا�سة (التمديد) �إلى الأبد و(التوريث) إ�لى ما‬ ‫�شاء الله ‪ ..‬وظهر مخطط بلقنة المنطقة بالكامل بم�شاركة ومباركة كل قادة‬ ‫المنطقة كل ح�سب الدور المنوط به !!‬ ‫وانتهى بتدمير (لبنان) وذبح �أطفاله ‪ .‬كان عا ًما ثقيل ًا وقاتل ًا ! ذكراك‬ ‫وحدها و أ�حلام �صعودك وعودتك مرة أ�خرى كانت دافعي الذاتى‬ ‫لتخطي وتجاوز عجزي ‪ ,‬وعودتي للكتابة ‪ ،‬مرة �أخرى ‪� .‬أق�سم م�ؤك ًدا‬ ‫على ح�ضورك ف َّي ‪ ،‬معتر ًفا ل ألبد بف�ضلك عل َّي وعلى حياتي كلها ‪ .‬فلابد‬ ‫أ�نه أ�نت �أو �شيء منك هو ما دفعني لاعتناق ال�شيوعية مثل ًا ‪ .‬نعم أ�نت �أو‬ ‫�شيء ما من طرفك ‪ ،‬زين لي ذلك الطريق ‪ ،‬وقادني �إليه واختار لي أ��صدقائي‬ ‫و أ�عدائي ‪ .‬والكتب التي أ�قر أ� والبنات اللاتي أ�حببت ‪ ،‬بل والطريقة التي‬ ‫أ�حببتهن بها‪ ،‬نعم كنت الدليل �أو الملهم لي إ�لى �أهم و�أتفه و�أجمل و�أرذل‬ ‫ما مر بي من أ�حداث ‪ .‬لا أ�ريد �أن �أبالغ فيكرهني القراء و�أهون عليهم ‪.‬‬ ‫ولا أ�ريد �أن أ�ه ِّول فتكرهني أ�نت �أو تفارقني راف ً�ضا كعادتك ميولى الفردية‬ ‫الا�ستعرا�ضية ‪ ,‬ورغبتى الدائمة فى الا�ستحواز على �أعجاب من حولى ‪..‬‬ ‫منذ نجاحى فى لعب دور (ا ألمين) على الم�سرح ‪ ,‬و�شيوع قدرتى عن ا�ستعادة‬ ‫أ�حداث و�صور تلك الحكايات العجيبة التى كان يقر�أها علينا مدر�سى‬ ‫الر�سم عن آ�لهة ا ألوليمب وابطال ا أل�ساطير وقدرتى على روايتها ك�أننى‬ ‫ع�شتها �أو أ�قر أ�ها من الكتاب بكل تفا�صيل �أحداثها و�سحرها ‪ .‬خا�صة وان‬ ‫خالاتى العوان�س كن يطلبن منى قراءة ( أ�لف ليلة) لهم ‪ ..‬وي�ستعدنها منى‬ ‫‪226‬‬

‫محدودة ومعزولة مثلها ‪ .‬ومن هنا كان افتتانهم الدائم والتحاقهم بكل‬ ‫حكومات ا ألقلية وتفانيهم فى خدمتها ‪ ,‬وخدمة الملك على مر العهود ‪,‬‬ ‫مما �ضمن لهم وللمتعلمين من �أبنائهم الح�صول على مراكز مهمة ووظائف‬ ‫محترمة فى كل الأجهزة ال�سيادية حتى فى عز ( أ�يام الا�شتراكية !) ‪ .‬أ�ما‬ ‫(علو البلد) الوفدى فقد كان ي�شكل الجزء الأكبر والأكثر من البلد �إذ يمتد‬ ‫على م�ساحة �شا�سعة تكتظ بالبيوت المتزاحمة ‪ ,‬فيما بين ترعة ال�سلطان ‪,‬‬ ‫عبر ج�سر �سكة حديد الفرن�ساوى والزراعية جنوب ًا ويتجاوز البحر القديم‬ ‫�شمال ًا ‪ ,‬محتفظ ًا بثلاثة كبارى خ�شبية �ضيقة تربط البيوت المنفلتة من الزحام‬ ‫بالج�سم الرئي�سى للقرية ‪..‬‬ ‫كان بيت جدى الذى أ��صبح بيتنا بعد انتهاء ع�صر �ستى ( أ�م العز) أ�م‬ ‫علام – التى كانت تحتل الن�صف الداخلى من الطابق الأر�ضى ‪ ,‬م�ؤكدة‬ ‫هيمنتها على بقية البيت من �أول الباب الفريد ذى التهاويل الخ�شبية الفاتح‬ ‫على ال�شارع حتى ال�سطوح العليا للدور الثانى حيث �إيريال الراديو الذى‬ ‫ي�شق عنان ال�سماء ملتقط ًا الاذاعة (الم�صرية وال�شرق ا ألدنى) ‪ .‬يقارع‬ ‫بمو�سيقاه و�أغانيه و�أحاديثه حدة �صوتها الذى لا تنقطع �أوامره لكل داخل‬ ‫�أو خارج من الدار من الب�شر أ�و الحيوانات والطيور ‪.‬‬ ‫وانتهى بموتها ال�صراع الذى كان حا ًَدا فى الن�صف الثانى من اليوم لأن‬ ‫لها وحدها الهيمنة طوال الن�صف الأول من النهار ‪ ,‬حيث تهمد حركة‬ ‫الب�شر بمغادرة ال�صغار وا ألب البيت �إلى أ�عمالهم ومدار�سهم وانقطاع‬ ‫ا إلر�سال بطبيعته ‪.‬‬ ‫بقية بيوت دار (عو�ض) حيث ي�سكن أ�عمامى وعماتى كانت بجوار‬ ‫الخرابة على م�سافة قريبة ‪ ,‬وعيلة دار (عو�ض) فرع من كيان كبير غير محدد‬ ‫‪229‬‬

‫ويخلق ما لاتعلمون‬ ‫‪ ‬طول عمر (ميت �سل�سيل ) قرية وفدية‪.‬‬ ‫وفى القرى الوفدية الم�صرية كثيرا ما تنمو وتزدهر‬ ‫الأفكار الثورية وتتنف�س هواء الحرية والتقدم فى‬ ‫مواجهة �أقلية من العائلات ا ألكثر ثراء وفيها كان‬ ‫معظمهم يقطنون الجزء ال�شرقى منها والمعروف بـ‬ ‫(واطى البلد) ‪.‬‬ ‫كانت عائلات (الق�صبى) و (قداح)‬ ‫و(عا�شور) و(مقبل) وكذلك (دار �أحمد) تكره‬ ‫الوفد على طول الخط ‪ .‬ويتعلقون دائما فى �أذيال‬ ‫�أعدائه ‪ ,‬من �أول ال�سراية حتى �أ�صغر �أحزاب ا ألقلية‪.‬‬ ‫لذلك تخلقت منهم وتحو�صلت بينهم ‪ ,‬كالأمبيا ‪,‬‬ ‫خلايا (ا إلخوان الم�سلمين) و(م�صر الفتاه) وغيرهم‬ ‫من �أ�صحاب ا ألفكار الفا�شية والرجعية ‪ .‬و إ�ن ظلت‬ ‫‪228‬‬

‫لديهم من الأحلام ما يجعلهم يناطحون الحياة لجعلها أ�ف�ضل ‪ .‬ولدى الجميع‬ ‫تحتدم رغبة عارمة لتعليم �أولادهم تحدي ًا للفقر‪ .‬كانت (بائعة الفجل) تكدح‬ ‫لتوفر م�صاريف ابنها ‪ ,‬وكان العربجى ال�سريح وعامل التراحيل الأرزقى‬ ‫يذوق الأمر َين لتوفير م�صاريف تعليم ابنه فى البندر ‪ .‬كان الطلبة ي�شكلون‬ ‫ظاهرة لا يمكن تجاهلها فى ت�شريح القرية الاجتماعى وخا�صة طلبة (علو‬ ‫البلد) الذين �شاع خبرهم فيما حولنا من بلاد كطلبة محترفين ‪.‬‬ ‫كانت بلدنا قبل قرار (طه ح�سين) وحكومة الوفد �أن يكون التعليم‬ ‫كالماء والهواء للجميع –ت�شرب وتتنف�س قدر الإمكان هواء وماء العلم ‪,‬‬ ‫لكنها فرحت فرح ًا لا يقدر لأن ذلك القرار‪ -‬الذى ت أ�خر كثيراً فى ر أ�ى‬ ‫أ�هلها ‪ ,‬وفر على الكثيرين منهم وعلى �أبنائهم مذلة تقديم �شهادة إ�دارية‬ ‫موثقة تعترف (بالفقر) والعوز ‪ ,‬مذلة كانت ال�سبيل ا ألوحد لح�صول‬ ‫الكثيرين على فر�صة تعليم مجانى ثمن ًا لاعتراف ور�ضا بالتدنى الاجتماعى‬ ‫و�إقراراً بذل الفقر والعوز ‪.‬‬ ‫لذلك كان من الطبيعى �أن ي�سعى رجال (علو البلد) ب�شدة لفتح‬ ‫المدر�سة الابتدائية الأولى فى (ميت �سل�سيل) حتى قبل و�صول الوفد �إلى‬ ‫الحكم ‪ ,‬بجهود ذاتية عبقرية ت ؤ�كد أ�ن الابداع كان �سمة من �سمات ال�شعب‬ ‫الم�صرى ‪ ,‬الذى كان أ�يامها قد �صك �شعاره العبقرى (الجلاء بالدماء) !!‬ ‫فى تلك الأيام بالذات تعرفت على (ح�سين عبد ربه) ‪ .‬ولكى لا‬ ‫تغ�ضب أ� ؤ�كد �أننى ل�ست مت�أكداً يا�صديقى تمام ًا – ف�ضلك فى هذا ‪ .‬ولكنها‬ ‫طبيعة البدايات الغائمة التى تمتد ملامحها فى المنطقة العالقة فى �أعماق‬ ‫الذاكرة بين حبال التذكر وغيام الن�سيان ‪ ,‬و إ�ن كانت ا ألحداث �ستك�شف‬ ‫كعادتها دون اى ق�صد �أو تعمد ‪ ,‬عن دورك فى انعقاد تلك ال�صداقة التى‬ ‫دامت برعايتك طبع ًا – بل وفى بع�ض الأحيان رغم �أنفك – حتى نهايات‬ ‫العمر ‪.‬‬ ‫‪231‬‬

‫ا�سمه (عيلة ال�شرفا ) ي�ضم العديد من الفروع مثل (النبراوى) و(�شهاب)‬ ‫و(مجاهد) و(حجازى) و(طه) و(الحلو) و(نايل) و(عطا) و(الح�سنين)‬ ‫و(جبر) و(�شطا) و(عابدين) يختلطون فى (عل ْو) البلد بعائلات �أخرى‬ ‫كثيرة مثل (قنديل) و(البرمبالى) و(البراوى) و(�أبو العز) و(�أبو الف�ضل)‬ ‫و(الع�صفورى) و(على) و(الزفتاوى) و(رخا) و(بدر) و(عبد ربه) و‬ ‫(النملة) و(الع�شماوى) و(القوا�سم) و(الب�ص) و(الد�سوقى) و (�أبو م�سعد)‬ ‫و(�أبو دهينة) و(النحا�س) و(ا ألزرق) و(جعطيط) و(حبيب) و(الموافى) و‬ ‫(عبد النبى) و(ها�شم) و(زبلة) و (ال�ضهيرى) و( أ�بو الح�سن) و(العربى)‬ ‫و(الطنطاوى) و(البيومى) و(مطاوع ) و(الق�شلان) ومعظمهم من الملاك‬ ‫ال�صغار ‪ ,‬أ�و المتو�سطين ومن �أهل التجارة وا أل�سواق ومن �أ�صحاب الحرف‬ ‫وال�صنائع ‪ ,‬من فقهاء وجزارين و�سماكين وحلاقين وق�صا�صين حمير‬ ‫ونجارين وتجار وقهوجية وعربجية وباعة ومدر�سين و�صغار موظفين‬ ‫وعمال تراحيل ‪.‬‬ ‫لذا كان �أهل (واطى البلد) يطلقون علينا �أ�سم �أو �صفة (!!) (ال�س َوقية)‬ ‫ن�سبة �إلى ال�سوق ولم نكن نعتز بهذه الت�سمية ‪ ,‬لكننا لم نكن نغ�ضب منها‬ ‫‪ .‬بل كانت أ�حيان ًا مو�ضع فخر لدى الكثيرين ‪ ,‬وتوحي لهم بالرجولة‬ ‫والفتونة والخ�شونة والتمرد ‪ .‬بل كان ابن عمى عبد الحليم (عبد الرحمن)‬ ‫وهو فلاح انقطع عن الدرا�سة بعد �أن نال ق�سط ًا متوا�ضع ًا كافي ًا �أن يميزه‬ ‫عن ا آلخرين وي ؤ�هله ل�شراء جريدة (الم�صري) بانتظام ‪ ..‬وليعطيه الحق أ�ن‬ ‫يطلق علينا �سكان هذا الجزء الحى من القرية بكل ب�ساطة وتعال – ال�شعب‬ ‫(الدمهاء)!!‬ ‫وبالرغم من �أن حدود العي�ش فى الغالب ا ألعم كانت �ضيقة كحدود‬ ‫الرزق فى علو البلد إ�لا أ�نهم جميع ًا (مي�سورين و�أرزقية) كانوا طموحين‬ ‫‪230‬‬

‫�أفندى عا�شور) العمدة ‪ .‬وطبعا كان هناك آ�خرون –بين بين‪ -‬تطوح‬ ‫بهم الظروف ال�سيا�سية والاقت�صادية فيما بين ه�ؤلاء و أ�ولئك مثل (محمد‬ ‫أ�فندى العزبى) وال�شيخ(ح�سن أ�بو م�سعد) وال�شيخ(على الد�سوقى) كبير‬ ‫عزبة الدقون ‪ .‬وطبع ًا كان يتخلل هذا الن�سيج متمردون على الت�صنيف‬ ‫والت�سكين لكنهم حا�ضرون ولهم ح�ساب عند الجميع �سلب ًا أ�و �إيجاب ًا –‬ ‫مثل (مجاهد أ�حمد طه) و(العدل مجاهد) و(ح�سن �أبو م�صطفى) و (�أبو‬ ‫ن�ضارة) و(ال�سيد الغرباوى ) و(محمد ال�سقا) و (�إبراهيم رخا) و(ي�سن‬ ‫�أفندى) و(ال�سعيد حمزة) ‪.‬‬ ‫اقول (رجالات) ألتجنب كلمة (�أعيان) التى كان لها مدلول‬ ‫�أقت�صادى و�سلطوى طبقى آ�خر فى أ�دبيات تاريخ تلك الفترة ‪ .‬فلم يكن‬ ‫(رجالات) (علو البلد) جميع ًا من أ��صحاب الملكيات الزراعية الكبيرة ‪,‬‬ ‫ولا كانوا كلهم ر�ؤ�ساء عائلات كبيرة يكت�سبون من خلالها مكانتهم ‪ .‬قد‬ ‫ينطبق هذا ب�شكل أ�كبر على بتوع (واطى البلد) ‪ ,‬فـ(توفيق بك قداح) أ�و(‬ ‫أ�حمد �أفندى الق�صبى) و(ح�سين بك عا�شور) مثل ًا ‪ ,‬يمتلك كل منهما على‬ ‫ا ألقل ما يقرب من مائتى فدان‪ ..‬و إ�ن كان معظمهم لا يقع فى زمام (ميت‬ ‫�سل�سيل) فقلل ذلك من نفوذهم على فقرائها ّ!‪.‬‬ ‫�أما بتوع (علو البلد) فلم تكن لمعظمهم ملكيات كبيرة ملحوظة ‪,‬‬ ‫بل كان بينهم من لم يكن يمتلك أ�ر�ض ًا على ا إلطلاق ‪� .‬أو من كان مجرد‬ ‫�صاحب دكان وتجارة مميزة كالخ�شب �أو الجاز �أو تاجر �أقطان (مو�سمى)‬ ‫�أو (تاجر �أقم�شة) أ�و مقاول عمليات أ��شغال أ�و تاجر حبوب ‪ .‬ومنهم من‬ ‫كان �صاحب عقل راجح ‪ ,‬أ�و كبير عائلة كثيرة العدد �أ ْوكل له رجالها‬ ‫التحدث با�سمهم ‪ ,‬مثل عائلة (القوا�سم) �أو (الع�شماوى) ‪� ,‬أو كان مجرد‬ ‫�صاحب وظيفة لها هيبة ومكانه مثل �شيخ الجامع (�أبو بكر) ‪ ,‬ومتعلم‬ ‫‪233‬‬

‫كان (كامل أ�فندى م�صطفى عبد ربه) أ�و (م�صطفى كامل �أفندى‬ ‫م�صطفى عبد ربه ) الذى أ�خذ ا�سمه على ا ألرجح تيمن ًا با�سم الزعيم‬ ‫ال�شاب ‪ ,‬م�شعل �شمعة الوطنية فى ليل الهزيمة بعد (هبة عرابى) – والد‬ ‫(ح�سين كامل م�صطفى عبد ربه) واحداً من (رجالات) (ميت �سل�سيل)‬ ‫‪ .‬ولي�ست (رجالات) هذه تعبيراً أ�دب َي َا (من وقتئذ فقط) و�إنما هو تعبير عن‬ ‫حقيقة �أو ظاهرة لا يمكن تجاهلها ‪ .‬ولعلها كانت ظاهرة عامة فى كثير من‬ ‫قرى ا ألربعينات نعم �أ�شهد أ�نه كان هناك (رجالات) فعل ًا ‪.‬‬ ‫فـ(كامل أ�فندى عبد ربه) وال�شيخ(على �أبو الح�سن) وال�شيخ( مجاهد‬ ‫أ�بو د�سوقى ) و(محمد أ�بو على أ�بو عابدين) وال�شيخ( أ�بو بكر) �شيخ الجامع‬ ‫الكبير و(عبد الرءوف أ�فندى) وال�شيخ (�شطا) وال�شيخ (محمد �أبو مجاهد)‬ ‫و(عبد الباقى أ�فندى عو�ض) وال�شيخ (�أحمد �أبو ح�سانين) و(جاد �أفندى‬ ‫عبد النبى) و (محمد �أفندى الطنطاوى) و (ال�شيخ( عوي�ضة �شهاب)‬ ‫و(ح�سن أ�بو موافى) و(محمد أ�بو د�سوقى النملة) وال�شيخ(على أ�بو على‬ ‫الأمير) وال�شيخ (عبد الحليم النبراوى) و(ال�سيد أ�بو �سيد) و(محمد �أبو‬ ‫نبراوى) و(عبد الجليل النبراوى) و(محمود �أفندى �شطا) كانوا وغيرهم‬ ‫ممن تعجز ذاكرتى عن �إ�ستح�ضارهم جميع ًا (وقد ي�أتى ذكرهم مع توالى‬ ‫ا ألحداث التى من �ش أ�نها إ�نعا�ش م�ضادات الن�سيان) كانوا هم رجالات‬ ‫(علو البلد) وطبع ًا كان هناك مثلهم فى (واطى البلد) يجبرنى روح العدل‬ ‫– التى ربيتنى عليها يا�صديقى – أ�ن �أذكرهم وال�شئ بنقي�ضه يذكر نعم كان‬ ‫لـ(واطى البلد) رجالاتها �أي�ض ًا بالطبع ولكن مع الفارق الذى لم �أ�ضعه �أنا ‪.‬‬ ‫كان هناك (توفيق بك قداح) و(�أحمد بك الق�صبى ) و(محمد‬ ‫أ�بو مقبل) و(م�صطفى أ�فندى مقبل) و(ح�سين بك عا�شور) و ( إ�براهيم‬ ‫العزبى) و(عرفات الغندور) و(�أحمد أ�بو �أحمد) و(عو�ض قداح) و (ن�صر‬ ‫‪232‬‬

‫اللازم ؟ �أو ألننى ن�سيت البع�ض ؟ أ�نا �أذكر معلومات لا ر�أي ًا لنختلف ‪ ,‬فلماذا‬ ‫تعتر�ض ؟‪� ..‬أنت الذى علمتنى أ�ن �أحترم الب�شر ‪ ,‬خا�صة عوام النا�س من‬ ‫الرجال والن�ساء فلماذا تغ�ضب ‪ ,‬أ� ألننى أ�ريد �أن أ��ؤكد فكرتك �أن ا إلن�سان‬ ‫هو أ�ثمن ر�أ�سمال ؟ و�أنه فى �أيامها رغم الاحتلال والملك وال�سراية والخيانة‬ ‫‪ ...‬كان الرجال يت�صدون لا بالكلام فقط ‪ ,‬ولكن بالفعل وبالجهد‪ .‬وكان‬ ‫لهم اعتبار ومكانة كبيرة لي�س لدى اهلهم فقط �أو لدى قراهم فح�سب ‪,‬‬ ‫ولكن الكل كان يعمل لهم أ�لف ح�ساب عند الحكومات‪ ,‬حتى حكومات‬ ‫ا ألقلية ‪ .‬وعند ا إلدارة كان �صوتهم م�سموع ًا ي�صل لقمة الجبل ا إلدارى –‬ ‫لاحظ أ�نهم لم يكونوا رجال ًا فى خدمة ال�سلطة كما يحدث الآن ‪� .‬صدقنى‬ ‫– انزل �أى قرية م�صرية ا آلن لن تجد مثلهم ‪� ,‬إلا �أولئك الجال�سين على‬ ‫حجر التنظيم الر�سمى �أو الحزب الحكومى أ�و أ�جهزة الأمن ‪ ,‬و �ستجد‬ ‫مثلهم مقهوراً مقموع ًا مطارداً إ�لى الهام�ش يبحث عن ظل حيط ‪ .‬و إ�لا قل‬ ‫لى بربك ‪ :‬لماذا اختفى (الطلبة) كظاهرة ثورية من حياة قراهم و�صاروا‬ ‫مجرد �آحاد‪� ,‬أعداد ‪� ,‬أرقام‪ ,‬خيالات ظل ؟ ولم يعد يظهر لنا مثل ه�ؤلاء‬ ‫(الرجالات) التى كانت تقود القرى وتن�سى ما بينها من خلافات �سيا�سية‬ ‫�إذا تعلق الأمر ب�إنجاز أ�و تحقيق م�صلحة لخدمة القرية ؟‪� ..‬سك َت ‪ ..‬طبع ًا ‪.‬‬ ‫ولعلك فهمت لماذا �أذكر كل هذه الأ�سماء فى معر�ض حديثى عن علاقتى‬ ‫بــ(ح�سين عبد ربه) تلك التى بد أ�ت – كما لا �أتذكر – على يديك ‪ ,‬ولكن‬ ‫اعذرنى هذه حيلة رديئة من حيل الكتابة ‪ .‬وعلى فكرة حتى ولو �أنكرت‪,‬‬ ‫�أنت الذى علمتنى اللجوء إ�لى مثلها �ضمن ما علمتنى من عادات �سيئة !‬ ‫الحارة الغريبة الثعبانية ت�ستدق وت�ضيق فى معظم أ�جزائها حتى ت�صبح‬ ‫مجرد زقاق يتعمد تق�سيم (ميت �سل�سيل) ق�سمة جغرافية غريبة ‪ ,‬تكاد تتفق‬ ‫‪235‬‬

‫�صاحب �شهادة – مدر�س مثل (محمود �أفندى �سالم) و (ي�س �أفندى) او‬ ‫رجل طيب على قده مثل عم(ال�صديق ال�صح�صاح) �أو رجل مهمات‬ ‫�صعبة مثل (�إبراهيم أ�بو رخا ) �أو (ال�سيد الكداب) و إ�ذا مددنا الخطوط‬ ‫على آ�خرها ف�سوف ن�صل إ�لى رجال لا يمتلكون من �ضهر الدنيا �شيئ ًا ي�صنع‬ ‫جاه ًا أ�و نفوذاً فى أ�عراف ذلك الزمان ‪ .‬لكن البلد لايمكن �أن تتجاهلهم‬ ‫إ�ذا ما �ألمت بها كارثة ‪� ,‬أو اندفعت لتحقيق �شئ قيه م�صلحة عامة ‪� ,‬أو درء‬ ‫م�صيبة فادحة كبناء مئذنة الجامع المنهارة أ�و ا�ستكمال ف�صل ثالثة ابتدائى‬ ‫على الأقل ‪ ,‬والح�صول على وعد بال�سنة الرابعة قبل البدء بت�أ�سي�سها ‪,‬‬ ‫�أو بناء مقر للإخوان الم�سلمين ‪� ,‬أو مواجهة الوباء �أو ردم البركة �أو �إزالة‬ ‫الخرابة ‪ ,‬وبيع أ�ر�ضها لي�ساعد ثمنها فى بناء المدر�سة الجديدة ‪ .‬يوم ي�ضيق‬ ‫بيت ال�شيخ (على ابو الح�سن) على تلاميذ البلد الذين يتكاثرون بمتوالية‬ ‫هند�سية – وغير ذلك‪ -‬خا�صة �إذا ما �سمحت الظروف أ�و حتمت حدوث‬ ‫انتخابات حرة أ�و غير حرة في�ستنفرون لتعلن (ميت �سل�سيل) ر�أيها الوفدى‬ ‫دائم ًا رقم مقاوحات (واطى البلد) ‪.‬‬ ‫وكان من ه�ؤلاء مثلا (�سعد الطنطاوى) الزجال و(احمد �أبو جبر)‬ ‫و(عبد الحميد عثمان) و(ال�سعيد ال�ضهيرى) و(م�أمون عبد الحى) ال�ضابط‬ ‫الذى حكم عليه بالاعدام بعد الثورة و(الخواجه �سبيرو) ناظر المحطة‬ ‫وال�شيخ(محمد أ�بو عبد الله) و(�شاكر أ�فندى الدغيدى) وطبع ًا (يو�سف‬ ‫أ�فندى عبد ربه) و (محمد عبده ح�سنين) اللذين كانا على أ�يامها من‬ ‫ال�شباب الناه�ض –الذى ظهرفى القرية بعد الحرب العالمية محمل ًا بافكار‬ ‫وخبرة (لجنة الطلبه والعمال) و(الطليعة الوفدية) – وما أ�دراك‬ ‫لماذا �أ�شعر أ�نك تتململ وتكاد تنفجر غيظا ؟ هل ألننى �أثرثر �أكثر من‬ ‫‪234‬‬

‫الحركة لا تهد�أ ولا تهمد ولا تنام فى النهار كما فى الليل مثلها مثل دكاكين‬ ‫(علو البلد) التى كان لكل منها طابع المنتدى الليلى ‪.‬‬ ‫دكان (محمود �شطا) مجل�س جماعات ال�سيا�سة الوفدية ‪ ,‬ودكان‬ ‫(محمد النحا�س) ملتقى ال�شباب من الطلبة ‪ ,‬ودكان (جاد عبد النبى)‬ ‫ودكان ( ال�شيخ �شطا) ‪ ,‬مجل�س أ�هل العقل والحكمة ممن هم فوق ا ألربعين ‪.‬‬ ‫وبرغم ذلك جاء وقت �ضاقت فيه �شعاب (علو ميت �سل�سيل) باهلها‬ ‫المتكلمة فظهرت عدة نوا�صي وم�صاطب ت�شتبك فيها وتحتدم عليها‬ ‫ا ألحاديث ال�صاخبة وال�سمر الهادئ ‪ ,‬كما انت�شرت إ�لى جوارها منتديات‬ ‫ع�شوائية فى أ�ماكن مختلفة ‪.‬‬ ‫عاي�شنا ذلك منذ ال�صبا‪ ,‬واعتدنا هذا ال�ضجيج المحا�صر بظلام‬ ‫ال�صمت بعد حراك الم�ساء والذى لا يهد�أ ولا ينى ي أ��سرنا ويجذبنا‬ ‫كالفرا�شات‪ ,‬ويندفع البع�ض منا للاقتراب فى ت�شوف ‪ ,‬م�صطنع ًا الجدية‪ ,‬ثم‬ ‫منده�ش ًا منفعل ًا ثم م�شارك ًا ‪ ,‬إ�ن كان له ثمة قرابة �أو انتماء لبع�ض الممار�سين‬ ‫الكبار‪ ,‬وقد يجد الفر�صة للاندماج ح�سب �سنه طبع ًا ‪ ,‬وح�سب طبيعة‬ ‫المو�ضوع‪ ,‬ولياقة التدخل ولو ب�س ؤ�ال ‪.‬‬ ‫على خ�شب بنكات الدكاكين وعلى ترابيزات المقاهى ‪ ,‬بل وعلى‬ ‫التراب وفى ال�ساحات والنوا�صى ‪ ,‬كم ُر�سمت الخرائط ‪ ,‬وو�ضعت الخطط‬ ‫لتحركات جيو�ش (هتلر) والمحور‪ ,‬ولتجمعات قوات الحلفاء‪ ,‬وع�صابات‬ ‫(البارتيزان) ‪ ,‬والمقاومة الفرن�سية‪ ,‬وكارثة تقهقر (الجي�ش ا ألحمر) أ�مام‬ ‫النازى ‪ ,‬ثم عودته لاكت�ساح (ا إللمان) فيما بعد و�أ�ساطير (�ستالينجراد)‬ ‫ورجال الأن�صار الحمر !! وكم ا�ُستخدمت قطع الدومينو أ�و الزلط أ�و‬ ‫ا ألحجار �أو �أى �شئ متاح للدلالة على مواقع (رومل) و (مونتجومري)‬ ‫‪237‬‬

‫مع ق�سمتها الاجتماعية إ�لى (علو وواطى البلد) ‪ .‬الحارة تبد أ� من الجنوب‬ ‫حيث البركة‪ ,‬عند نهاية مخزن محطة القطار ومبنى جمعية ا إلخوان الم�سلمين‬ ‫الذى �أقامته القرية عقب خيبة �أملهم فى الوفد عقب (‪ 4‬فبراير) ‪ ,‬ثم تندفع‬ ‫�شمال ًا فى �صعود حاد لتف�صل بين بيوت ( آ�ل جعطيط) ‪ ,‬و(الغنادرة) و‬ ‫( آ�ل مقبل) إ�لى جوار (دار �أحمد) موا�صلة �صعودها مخترقة عدة و�سعايات‬ ‫‪ ,‬وتتقاطع مع �شارع ال�سوق ثم ت�شقه فى حدة ما بين إ�حدى دور آ�ل‬ ‫(رخا) ودار (م�سعد) ‪ ,‬لتهوى فى انحدار حاد ملحوظ نحو معدية (عزبة‬ ‫الدقون) هذه الحاره التى �شق بها القدر (ميت �سل�سيل) بالعر�ض‪ ,‬تجعلك‬ ‫تلاحظ بقوة أ�ن �شرقها حيث (واطى البلد) تكاد تختفى فيه كل حركة‬ ‫ر ْجل ‪ ,‬ليلا ويخر�س كل �صوت ‪ ,‬فلا يوجد مقاهى �أو دكاكين �ساهرة فى‬ ‫كل هذا ال ِعب الذى ينتهى عند (ترعة الجوابر)‪.‬‬ ‫فيما عدا (من أ�جل خاطر عيون الحقيقه ) دكان (عم خلف) الذى‬ ‫يعتلى انحداراً �آخر حاداً نحو البحر ‪ ,‬ت�صل الحركة لدرجة ال�سكون فى‬ ‫معظم �شوارع وحوارى (واطى البلد) ‪.‬‬ ‫أ�ما فى (علو البلد) فالأمر على العك�س ‪� .‬إذ تقع فيه كل مقاهى (ميت‬ ‫�سل�سيل) ودكاكينها وور�ش مهنها المختلفة ‪ ,‬التى تتكد�س إ�ما على المحطة‬ ‫�أو على جانب الجزء الغربي والأو�سط من �شارع ال�سوق ‪ ,‬فى دهاليز‬ ‫و�سراديب �شوارع (علو البلد) وحواريها قهوة ( أ�بو را�شد) وقهوة(ال�سعيد‬ ‫حمزة) وقهوة( �أحمد النادي) وفى ال�سوق قهوة(ح�سن �أبو م�صطفى)‬ ‫وقهوة (العدل مجاهد) على المحطة ‪ .‬وقد راج �ش أ�نها ‪ ,‬بعد �أن ا�شترك هو‬ ‫و(مجاهد أ�حمد طه) فى إ�قامة �سينما (ميت �سل�سيل) مواكبة �أوفى مواجهة‬ ‫النكبة ‪ ,‬ف�صارت المحطة بف�ضلها ت�شغى بالب�شر والأ�صوات ‪ .‬و�صارت‬ ‫‪236‬‬

‫على �أل�ستنا �صغاراً وكباراً أ�غنية (على ياعمر ارفع العلم ل ألميرة فوزية‬ ‫وا ألمير إ�يران) ‪.‬‬ ‫التحقنا �صغاراً بمدر�سة ال�سيا�سة الحرة هذه على الم�صاطب والنوا�صى‬ ‫فى م�ساحات ال�ضوء التى ت�سكبها كلوبات الجاز أ�م رتينة فى الليالى التى بلا‬ ‫قمر ‪ ,‬تبدد ظلمات الليل والجهل وتدفعنا دون وعي كامل للاحتفاء با�سماء‬ ‫و�صور �أبطال تلك الحروب ‪ ,‬من (فل�سطين) �إلى (ال�صين) والاحتفال‬ ‫با�سماء الزعماء‪( ,‬النحا�س زعيم ا ألمة) ‪ ,‬و (�ستالين بطل �ستالينجراد)‪,‬‬ ‫وكذلك ا إلعجاب بمناورات (روميل ثعلب ال�صحراء) ‪ ,‬وحكايات‬ ‫�أبطال الفالوجة ‪ ,‬واعتقالات ا إلخوان الم�سلمين ‪ ,‬وحواديت ملك م�صر‬ ‫وال�سودان ‪ ,‬والع�سكرى ا أل�سود ‪ ,‬والعجوز (م�صدق) الذى أ�مم بترول‬ ‫إ�يران ف�صار عندنا فى معزة (النحا�س ) الذى الغى المعاهده ب أ��سم الامه‪.‬‬ ‫و�سمح للفدائين بالذهاب �إلى القناة لقتال الانجليز ‪ ,‬مما دفع و�شجع (ح�سين‬ ‫عبد ربه )‪ ,‬على الهرب من منزله لين�ضم للمقاتلين ‪ ,‬وهو لم يبلغ الرابعة‬ ‫ع�شر بعد ‪ ,‬فقلب كيان البلد ‪ ,‬وغزا ا�سمه م�ساحات الكلام فى مقاهيها‬ ‫ودكاكينها ‪ ,‬و�ساحات ال�ضوء فيها لأ�سابيع لي�ست قليلة ‪ .‬وثبتت له مكانة‬ ‫فى قلوب الطلبة والنا�س ‪� ,‬إلى أ�ن عرف والده مكانه فى (الق�صا�صين)‪,‬‬ ‫فذهب وعاد به مظهراً �أ�شد مظاهر الغ�ضب بينما هو فرحان فى �سره ولكن‬ ‫لي�س لمثله من رجالات البلد ال�صارمين �أن يظهر فرح ًا لنزوة ولد جاهل‬ ‫مراهق ‪.‬‬ ‫•••‬ ‫‪239‬‬

‫‪ ,‬و(ديجول) ‪ ,‬و (�ستالين ‪ ,‬و(ت�شر�شل) ‪ ,‬و(�شكاي �شيك)! تتناثر‬ ‫على ا ألر�ض غ�ضب ًا �أو زهق ًا �أو ا�ست�سلام ًا ح�سب طبيعة الاختلاف ‪ ,‬وحدة‬ ‫موقف كل متكلم ‪.‬‬ ‫طوال (الأربعينات) وحتى �سنة (اثنين وخم�سين) وجدت هذه‬ ‫التجمعات ما تخو�ض فيه بكل حما�س ‪ ,‬عن الحرب العالمية الثانية ‪,‬‬ ‫وحرب الحب�شة و إ�يطاليا ‪ ,‬وكوريا‪� ,‬أو ذكريات الحرب العالمية ا ألولى وثورة‬ ‫‪ 19‬ومواقف ال�سلطات المختلفة إ�ذا ما احتاج الأمر �إلى �ضرب ا ألمثال ‪:‬‬ ‫إ�لى ف�ضائح (الملك فاروق) وق�ص�صة ‪ ,‬وحكايات (نازلى) و (فريدة) ‪,‬‬ ‫و(�أحمد ح�سانين) ثم زواج (فتحية) و (غالى) و (ناريمان) ‪ ,‬كل هذه‬ ‫ا ألحداث وال�شخ�صيات كانت تطرح �أر�ض ًا على تراب ال�ساحات وعلى‬ ‫أ�خ�شاب المنا�ضد لت�أكيد الجدل المحتدم والنقا�ش الذي لا ينتهى ‪.‬‬ ‫حتى فى �أيام الملاريا ‪ ,‬وبعدها الكوليرا ‪ ,‬لم تنقطع هذه المجادلات‬ ‫ال�صاخبة حول �أ�سباب الوباء وطرق العلاج الكافى ال�شافى ‪ ,‬وما لليمون‬ ‫من فوائد فى علاج كل تلك الأرزاء‪.‬‬ ‫فتاوى و�آراء ي�شارك فيها حتى من لي�س له فى الطور ولا فى الطحين‪.‬‬ ‫ولما حلت حرب فل�سطين ‪ ,‬أ�خذت المجادلات والمناق�شات ت�شتد وتحتد ‪,‬‬ ‫وتفاخر �أو ت�سخر من اجتماعات ملوك ور�ؤ�ساء الدول العربية ‪ ,‬وتحركات‬ ‫الجيو�ش ‪ ,‬والأ�سلحة الفا�سدة والفدائيين ‪ ,‬ا�ستخدمت هذه المرة �أ�سماء‬ ‫مبتكرة لك َل ما ينا�سبه ‪.‬‬ ‫فـ(عبد الهادى) كلب الوادى و(عبد الله ) جون بول و(ال�ضبع‬ ‫ا أل�سود) (ال�سيد طه) واللواء (المواوى ) الفلفل والملح �أبطال (الفلوجة)‬ ‫والبطل( أ�حمد عبد العزيز) وما ن�سج حولهم من أ��ساطير ن�ضالية فاقت‬ ‫�أ�ساطير و أ�غانى زواج ا ألميرة (فوزية) من (�شاه �إيران) ‪ .‬حيث انت�شرت‬ ‫‪238‬‬

‫القديمة ‪ ،‬أ�كثر ما كان يميزها تلك الجميزة القديمة المعمرة التي تعتليها في‬ ‫�سطوة وا�ضحة كرمة عنب (بز الناقة) ‪ .‬كنا نظن أ�ل َّا �صاحب لها ولذا‬ ‫كانت عناقيدها الفذة غنيمة مغرية لنا في أ�ي وقت ‪.‬‬ ‫كنا نغزوها �صغا ًرا في جماعات كغربان الحقول ‪ ،‬معر�ضين أ�نف�سنا‬ ‫لمطاردات عنيفة ‪-‬عفاريتية مجهولة من �أي من كان ‪ ،‬وغال ًبا ما كانت‬ ‫تنتهي تلك المطاردات ب�سقوط �أحدنا في تلك البئر الدوامة المياه ‪ ،‬فتنقلب‬ ‫المطاردة أ� ًّيا كانت وح�شيتها إ�لى ت�ضامنية رائعة بين المطارد الغا�ضب‬ ‫والمطاردين المذعورين لإنقاذ ال�ضحية ‪ ،‬التي كان ُيعتقد اعتقا ًدا را�س ًخا أ�نها‬ ‫يمكن �أن تغو�ص به فلا تظهره ‪ -‬ح�سب اعتقادنا ‪ -‬إ�ل َّا في الجانب الآخر‬ ‫من الكرة الأر�ضية !!‬ ‫يو ًما ما �ستمتد بيوت دار (عبد ربه) فيما يلي ال�سراية على ال�شاطئ‬ ‫الغربي للترعة ‪ ،‬الذي تحجبه وتحجبها غابة هائلة من الغاب البلدي ‪ ،‬ترتفع‬ ‫متما�سكة كجدار حاجز ي�ستر �سو ًرا من النباتات ال�شائكة يحيط ال�سراية ‪،‬‬ ‫ويمتد حتى بيت (ف ؤ�اد عبد ربه) يليه بيت (�إبراهيم عبد ربه) �أو (ف َّلتيهما)‬ ‫�إن �شاء الله ‪ .‬قبل أ�ن ي ؤ�ول ا ألخير إ�لى الأ�ستاذ (�إبراهيم العزبي) مدر�س اللغة‬ ‫الإنجليزية وزوج �أختهم ‪.‬‬ ‫وبعدها كانت م�سافة خالية عامرة ب�أ�شجار الخوخ والبرتقال والنخيل‬ ‫والعنب‪ ،‬حيث الم�ساحة التي �سيقام عليها بيت (م�صطفى أ�فندي كامل �أو‬ ‫كامل أ�فندي م�صطفى) ا ألخ ا ألكبر‪ .‬ولم يكن م�سمو ًحا لأحد غيرهم (�آل‬ ‫عبد ربه) ومزارعيهم بالمرور على ذلك ال�شاطئ‪ ،‬خا�صة �أن (يو�سف عبد‬ ‫ربه) �سيبني بي ًتا له �شمال ال�سراية بعد خرابها‪ ،‬وي�صبح من ال�ضروري اقتحام‬ ‫حرمته للمرور على المدق النحيل المح�صور في ما بين ال�سور الكثيف‬ ‫ال�شائك وغاب ال�شاطئ الخا�ص ‪.‬‬ ‫‪241‬‬

‫ي�سقى بماء واحد ‪...‬‬ ‫‪ ‬كانت بيوت (دار عبد ربه) تقع في‬ ‫�صف واحد على ال�شاطئ الغربي لترعة (ال�سلطان)‬ ‫‪ .‬في الم�سافة ما بين البحر القديم الذي يبد�أ من نقطة‬ ‫مجهولة ما بين (الكردي) و(المنية) في الغرب من‬ ‫غيطنا المعروف بغيط (ال�سباخ) والذي كان ينتهي‬ ‫ملتق ًيا بالبحر (الترعة) الأكبر منه قليل ًا ‪ ،‬الذي يبد�أ‬ ‫من (البحر ال�صغير) أ�و البحر الجديد ‪ .‬كما �أطلقنا‬ ‫عليه عند ما يعرف (بالمغذي) ولكنه في نقطة ما ‪،‬‬ ‫بين بداية (عزبة ال�سلطان) و(�سراي عبد ربه الكبيرة)‬ ‫وبيت (�أبو دهينة) ‪ ،‬ي�صنع ما ي�شبه اللغز ‪ .‬حيث‬ ‫يختفي طرفه فج�أة تحت الأر�ض في مقابل بئر �ساقية‬ ‫مهجور مبني ب�صخور تاريخية عتيقة بازلتية �سوداء‪،‬‬ ‫ت�شبه ما تر�صف بها بع�ض �شوارع (المن�صورة)‬ ‫‪240‬‬

‫يتنفذ ‪ .‬نقوم نعطله إ�حنا ‪ ،‬لا �إله �إلا الله‪!...‬‬ ‫‪ -‬محمد ر�سول الله يا �شيخ علي ‪...‬‬ ‫قاطعه (ح�سن موافي) وهو يفز فار ًدا ركبته التي كان يثنيها تحته ‪:‬‬ ‫‪ -‬إ�نت يا �شيخ علي اللي بتقفلها ‪ .‬فيها �إيه لما يفتحوا ف�صل �سنة ثالثة‬ ‫ونريح البلد ونريح ولادنا!! ب�شروا ولا تنفروا يا مولانا ‪.‬‬ ‫غ�ضب (ال�شيخ علي) ‪:‬‬ ‫‪ -‬أ�نا اللي (نفروا) والا أ�نت ع�شان ابنك وابن عبد الباقي ‪ ,‬عاوزين‬ ‫تعطلوا لنا فتح المدر�سة من أ��صله‪ ..‬فيها إ�يه ا َّما نحمد ربنا على اللي ح�صل‬ ‫وما ن�ضيع�ش الفر�صة ‪ .‬وطبيعي ح يبقى فيه ثالثة ال�سنة الجاية ‪ ..‬و�إذا‬ ‫عيالكم لا قدر الله �سقطوا يدخلوها ‪..‬‬ ‫�ضحك بع�ض الحا�ضرين لكن ا ألغلبية ا�ستنكرت ما قاله ‪.‬‬ ‫كانت عادة تر�سخت ملامحها في (ميت �سل�سيل) من عهد بعيد ‪،‬‬ ‫كانوا يتداعون بعد �صلاة الجماعة ‪ ،‬كلما ا�ستدعى الأمر ذلك أ�و طلبت‬ ‫م�شكلة حل ًا ‪ ،‬كان أ��صحابها ي�سرعون قبل ان�صراف الم�صلين ويطرحونها‬ ‫عليهم ‪ .‬وتتم مناق�شتها بح ًثا عن حل ‪ .‬وكان الأمر في بع�ض ا ألحيان‬ ‫يحتاج لعدة �صلوات للو�صول لر أ�ي م�شترك ‪.‬‬ ‫وقام (عبد الباقي أ�فندي) في �ضبط نف�س لم يتعود عليه وهو يقول ‪:‬‬ ‫‪ -‬عيالنا م�ش خايبة ع�شان ت�سقط ‪ .‬والمجل�س ح يوافق ح يوافق على‬ ‫الف�صل ‪ ،‬ب�س انت ريح نف�سك يا �شيخ واطلع منها ‪ ،‬أ�يوه يا �سيدي تفاءل‬ ‫معانا (ولا تنفروا) يا �شيخ علي وقادر ربنا يا �سيدي يكرمك ولا ي�سقط‬ ‫لك عيل !‬ ‫قام (ال�شيخ علي) منتف ً�ضا وهو ي�شوح غا�ض ًبا من تلقيح (عبد الباقي)‬ ‫القا�سي ‪:‬‬ ‫‪243‬‬

‫ورغم هذا التجاور المح�صن بحرمة ال�شط والحدائق المثمرة التي ت�ضم‬ ‫المنطقة ‪� ،‬ست�صبح العلاقات بين الأ�شقاء ‪ -‬الجيران ‪ -‬مقطوعة �إلى درجة �شبه‬ ‫عدائية م�ستترة وخفية �إلا على الحميمين من ا ألقارب والأ�صدقاء ‪ .‬وهي‬ ‫�سمة لي�ست غريبة نراها كثي ًرا في العائلات الكثيرة العدد ‪ ،‬حين تتمزق‬ ‫بينهم الملكية الموروثة بعد وفاة الرجل الكبير الذي أ�عطاهم ا�سمه ‪ ،‬بما‬ ‫يهدد العز الفخيم الذي كانت ت�ضمنه ملكيته الكبيرة التي كتب عليها ب أ�ن‬ ‫تنق�سم ح�سب ال�شريعة بين الإخوة الأ�شقاء �أو غير ا أل�شقاء ‪ ،‬المعترف بهم‬ ‫وغير المعروفين ‪ ،‬خا�صة عندما تك�شف الوفاة عن روابط وعلاقات ملتب�سة‬ ‫ومركبة ومعقدة‪ .‬ويدخل الأمر في الغالب بعد الف�شل الم�ؤكد للمحاولات‬ ‫العرفية ال�سلمية ‪� ،‬إلى �سراديب المحاكم و أ�لاعيب القانون مخلفة آ�ثا ًرا عدائية‬ ‫تمتد ألجيال و�أجيال ‪..‬‬ ‫و إ�ن ظلت ال�سراية والأر�ض محتمية بقدر هائل من الرهبة والغمو�ض ‪،‬‬ ‫قائمة في ما بين البحرين (بحر ال�سباخ) و(الترعة) ذات ال�شاطئ الغام�ض‪،‬‬ ‫في مواجهة كرمة العنب (بز الناقة) وجميزتها المنحنية لق�ضاء الله فوق‬ ‫البئر المفزعة ‪ .‬وفي مواجهة العزبة ‪ ،‬التي احتمى �ساكنوها بم�سجده‪ ،‬ذلك‬ ‫(ال�سلطان) الذي كان آ�ل (عبد ربه) يدعون انت�سابهم �إليه ‪� ..‬سلطان إ�يه ؟‬ ‫لا �أحد يعرف !‬ ‫‪ -‬إ�نت أ�ح�سن حاجة تقوم تروح يا (عبد الباقي أ�فندي) بالك�شف‬ ‫لكامل �أفندي وهو ح يحلها‪.‬‬ ‫اعتر�ض (علي أ�بو د�سوقي) ‪:‬‬ ‫‪ -‬ما تف�ضوها �سيرة وكفاية مجل�س المديرية وافق على المدر�سة‪� ،‬أولى‬ ‫وثانية ‪ ،‬فيها �إيه؟ لو ح تطلبوا ف�صل �سنة ثالثة ح تعطلوها! القرار �صدر وح‬ ‫‪242‬‬

‫يوم ًّيا في ال�شتاء مع أ�ذان الفجر في عز البرد لكي أ�لحق (ديزل) ال�ساد�سة‬ ‫�صبا ًحا وكنت �أركبه مجا ًنا ف�أنا (ابن �أخت فتوح أ�فندي) و أ�وفر ن�صف‬ ‫القر�ش الذي �أدفعه للأتوبي�س ‪ .‬إ�ذا ما فاتني الديزل ‪� .‬ساعتها تع�صر قلبي‬ ‫احتمالات ت�أخر ا ألتوبي�س ب�سبب المطر �أو م�شاكل الطريق غير المر�صوف‬ ‫والترب�ص الدائم (لها�شم أ�فندي) مدر�س ا أللعاب بالذين يت أ�خرون منا إ�لى‬ ‫ما بعد �صرف طابور ال�صباح وتحية العلم ‪.‬‬ ‫كانت تتناو�شني و أ�نا �أهرول خلف �أبي المتعجل م�شاعر غام�ضة‬ ‫حيال ال�شاطئ الغربي لترعة ذلك (ال�سلطان) ‪ ..‬كنت �أظن أ�ننا ذاهبون‬ ‫إ�لى (ال�سراية) فغمرتني ذكرى زيارة ما ‪ -‬ذات يوم �أثناء الحرب الم�شتعلة‬ ‫بين (الإنجليز وا أللمان) فوق أ�ر�ض و�سماء م�صر‪ .‬كان يقيم عندنا �أقاربنا من‬ ‫الإ�سكندرية‪ ،‬المهاجرين �إلينا من خطر القنابل الألمانية و�صواريخ (زبلن)‬ ‫‪( ..‬كان الا�سم �أيامها موح ًيا وله في نف�سي �صدى لغمو�ض �ساحر مثير‬ ‫يجعلني �أردده بين م�شاعر الإعجاب والخوف) ‪ .‬يومها ا�صطحبت أ�مي‬ ‫كبرى ا ألخوات الثلاثة اللاجئات إ�لينا ‪ ،‬في زيارة مجاملة وتعارف للهانم‬ ‫�ساكنة (ال�سراية) ‪ .‬وذهبت معها (�إذ لم يكن من اللائق �أن تقوم الن�ساء‬ ‫بزيارات نهارية في ظل الحرب أ�و ليلية طب ًعا ‪ ،‬دون �أن ي�صحبهم (رجل)‬ ‫حتى لو كان طفل ًا يدر�س في مدر�سة للبنات بطريقة غير ر�سمية ‪.‬‬ ‫لم تكن (ال�سراية) قد خربت بعد طب ًعا �إلى هذه الدرجة ولم يكن‬ ‫(يو�سف عبد ربه) قد بد�أ بناء البيت الذي احتل الجزء ال�شمالي من حديقتها‬ ‫المثمرة الغام�ضة ‪...‬‬ ‫تقدمتهما في جدية �أنادي على الجنايني ‪ .‬كنت أ�عرف أ�نني منتدب‬ ‫لمهام منها الزعيق ب�صوت عال فلا يليق بالن�ساء ال�صياح كما فعلت ‪.‬‬ ‫‪245‬‬

‫‪ -‬القعدة بقت ما�سخة ‪� ...‬أنا ما�شي ‪...‬‬ ‫قال (عبد الجليل النبراوي) في حزم ‪:‬‬ ‫‪ -‬ما تهمد يا �شيخ علي ‪ ..‬إ�نت لا لك ولد في ثانية ولا في ثالثة و�أبو‬ ‫موافي ح يح ِّول لابنه من دمياط مخ�صو�ص مع �أنه مرتاح هناك عند �أخته‬ ‫ع�شان يكمل الك�شف ‪ .‬و إ�يه المانع يبقى ابنه تحت جناحه ؟‬ ‫قال ال�شيخ علي م�ص ًّرا على الذهاب ‪...‬‬ ‫‪ -‬القرار بيقول لازم الف�صل يبقى ‪ 22‬تلميذ على الأقل ‪ ..‬والك�شف‬ ‫حتى بابن ابو موافي يا دوب ‪ . 16‬ح تعملوا إ�ليه في الباقي يا �سي عبد‬ ‫الباقي افندي !!‬ ‫ف أ�خرج (عبد الباقي أ�فندي) الك�شف وفرده �أمام الجميع قائل ًا ‪:‬‬ ‫‪ -‬الك�شف فيه �أ�سامي ‪ 18‬تلميذ معانا طلبات و�إقرارات �أولياء‬ ‫أ�مورهم ‪ .‬وفيه ولدين من (الكفر) بكرة إ�ن �شاء الله ح نجيب موافقة �أولياء‬ ‫أ�مورهم (كمال ابن طاهر الهواري)‪ ...‬وولد (لل�سيد الجعلي) ‪ ..‬ما باقي�ش‬ ‫غير اثنين ‪..‬‬ ‫‪ -‬خلا�ص يا عبد الباقي افندي ‪ .‬إ�نت ب�س تروح لكامل افندي‬ ‫وتعر�ض عليه المو�ضوع وهو يقدر يقنع (الكرادوة) و�أكيد ح تتحل ‪� ،‬إلحقه‬ ‫قبل نومة القيالة روح ‪.‬‬ ‫م�ضى (ال�شيخ علي) وهو يلوح بذراعه محت ًجا ويغمغم في قرف ‪:‬‬ ‫‪ -‬كل واحد ه ُّمه م�صلحته وب�س!‬ ‫مج�ذصبنم�ي أ�صباليبعم�نضذ�رشافعاييفهومهتعو يجقًبافدو‪..‬نقأ�ائنليًان ‪:‬طق ‪...‬‬ ‫أ�نا رايح أ�لحق كامل افندي ‪ ،‬وادعوا لنا يا اخوا َّنا ‪ .‬واقروا لنا الفاتحة‬ ‫بنية �صافية ح تتحل ان �شاء الله ‪...‬‬ ‫م�ضيت مهرول ًا وراء أ�بي أ�لاحقه ب�صعوبة و�أنا أ�ح�س بامتنان له كبير ‪،‬‬ ‫وب�إعجاب غير محدود به و أ�نا �أراه يبذل كل هذا الجهد لراحتي ‪ ..‬ولم �أفهم‬ ‫لم يعتر�ض (ال�شيخ علي) على اهتمام ا ألب براحة ابنه ؟ ‪ ..‬كنت �أ�ستيقظ‬ ‫‪244‬‬

‫حا�س ًما تردد �أمي و�ضيفتها ف�صعدتا خلفي ال�سلم الرخامي العتيق العري�ض‬ ‫الذي فقدت إ�حدى درجاته ن�صفها بفعل الزمن ‪.‬‬ ‫وقفنا �أمام الباب ال�ضخم الم�شغول بتهاويل حديدية معقدة ‪ ،‬تغلف‬ ‫وت�ؤطر �ضلفتين هائلتين ‪ ،‬ثلثهما ا ألول من خ�شب مهول منحوت عليه‬ ‫نحتا بارزا يمثل (�سب َعين )‪ ،‬كل منهما ي�ضع إ�حدى قدميه ا ألماميتين على‬ ‫غزال �صامت ‪ .‬لو كنت �أملك كلمة ال�سر ال�سحرية لا�ستعطت أ�ن أ�رفع قدم‬ ‫ال�سبع عن الغزال ‪ ،‬ولظهر مدخل الجب الذي به (الخاتم أ�و الم�صباح) ‪.‬‬ ‫تجاهلت ح�سرتي لعدم معرفة كلمة ال�سر ‪ .‬و�أخذت أ�ت أ�مل ثلث الباب الممتد‬ ‫إ�لى ال�سماء مزخر ًفا بزجاج رائق من �ألوان عديدة‪ ،‬و�إن �سقطت أ�جزاء من‬ ‫زجاج �ضلفته الثابتة ‪ .‬محد ًدا في ق�سوة امتدادها الذي بدا لي في البداية‪،‬‬ ‫ممت ًدا بلا نهاية ‪.‬‬ ‫وجدتنا في قاعة عالية ‪ ،‬محاطة ب أ�بواب �ضخمة ‪ ،‬حول أ�ر�ض لامعة لا‬ ‫ت�شبه �صالة ال�سرايات ا ألخرى‪ ،‬فهذه يتو�سطها �سلم له درابزين من خ�شب‬ ‫م�شغول‪ .‬وعلى كل درجة بقايا قطع لامعة من نحا�س كالح الخ�ضرة ‪.‬‬ ‫كانت في زمانها تلمع ‪ .‬وعلى ما عرفت فيما بعد كانت تم�سك ب�سجاد‬ ‫فاخر يغطي ال�سلالم ‪..‬‬ ‫�سبقتنا مهرولة إ�لى �أعلى امر�أة فلاحة عادية ‪ ،‬تت�سابق كلمات الترحيب‬ ‫مه�شمة على �شفتيها وهي تقودنا �صاعدة إ�لى حيث (ال�ست الكبيرة) ‪.‬‬ ‫حين دلفت من الباب لم أ�ر �شي ًئا ‪� .‬أع�شى عين َّي �ضوء ملون ي�شع من‬ ‫خلف الكتلة الرمادية الغام�ضة المكونة من عدة كرا�سي �ضخمة مذهبة تمتد‬ ‫أ�مامها في هدوء �سجادة كالحة عليها ر�سوم لغزلان وع�صافير ‪.‬‬ ‫بدت لي ال�ست تحت ال�شباك البحري الكبير ‪ -‬المكون من الزجاج‬ ‫الملون من عالم �أ�سطوري ‪ ،‬ر أ�يته في مكان ما ‪( ،‬ف�ضاء ف�سيح تن�سدل على‬ ‫‪247‬‬

‫فتح لنا رجل م�سن عتيق غام�ض ظهر فج�أة �أمامي ف�أفزعني ك�أنه‬ ‫�شبح �شيخ خارج للتو من قمقم إ�حدى حكايات أ�لف ليلة ‪ .‬فهذا الب�ستان‬ ‫(الجنينة) الم�سكون بالجنيات والحوريات كان دائ ًما مركز ت�صوراتي عن‬ ‫جناين حواديت خالتي ‪ ،‬عمامته المعقدة الكالحة المتربة ‪ ،‬ثوبه البالي المعقود‬ ‫حول و�سطه كا�ش ًفا عن �ساقي �شجرتى جوافة أ�و عنزة جرباء ‪ ..‬بالإ�ضافة‬ ‫�إلى لحيته الطويلة الرمادية التي ت�ؤطر في غمو�ض وج ًها جا ًّفا تبرق فيه عينان‬ ‫ثعلبيتان (جحاوتين)‪� ،‬س َّمرتني هيئته على الت ِّو حين فاج أ�تني لهجته ت�س أ�لني‬ ‫ب�صوت �صاعد من جب عميق عمن �أريد ‪.‬‬ ‫ت�صورت معه �أن (مق ًّ�صا مهول ًا �سوف ينق�ض ليق�ص طرف ل�ساني)‬ ‫حين أ�بوح بما أ�ريد ‪ ،‬لكني تمالكت نف�سي فور ر أ�يته يفتح البوابة مبت�س ًما‬ ‫قبل �أن يعرف من نحن ‪ .‬ولما عرف �أننا من نحن و�أننا في زيارة إ�لى ال�ست‬ ‫الكبيرة ‪ ،‬ت�سابقت كلماته المرحبة ترع�ش لحيته الم�سلوبة بطريقة م�ضحكة‬ ‫تليق (ب أ�بي نوا�س) ‪ .‬تما�سكت ولعبت ب�صعوبة دور الحادي ‪� ،‬أقود �أمي‬ ‫وقريبتنا (تانت �سعاد) �إلى الأمام وك�أنني �أعرف المكان منذ قديم الزمان ‪.‬‬ ‫لم يكن �شكل ال�سراية الهائلة ذات الدورين الكاملين والنوافذ‬ ‫الطويلة غريبا عل َّي فقد دخلت مثلها اثنتين في (الكفر الجديد) كانتا لعائلة‬ ‫(الهواري) التي كانت خالتي (ال�سيدة) �أرملة واحد منهم ‪� -‬سرايتين لا‬ ‫واحدة ‪ -‬الأولى دون ب�ستان وعلى �شريط (ال�سكة الحديد الفرن�ساوي)‬ ‫على م�سافة ق�صيرة �شرق المحطة ‪ .‬وا ألخرى في �شمال غرب البلد ولها‬ ‫ب�ستان يقع �أي ً�ضا على ترعة ‪ ،‬مثل هذه تما ًما وقد �سبق لي أ�ن زرتها مع خالتي‬ ‫‪ ،‬ومازلت �أذكر تما ًما ما بداخلها ‪ ...‬كانت هناك �أي ً�ضا (�ست كبيرة) وكان‬ ‫خالاتي يدعونها (اله َّوارية) وينطقن الا�سم بما يكفي من الاحترام الم�شوب‬ ‫ب�سخرية غام�ضة ‪ .‬هذه الخبرة أ�عطتني جر�أة على التقدم نحو (ال�سراية)‬ ‫‪246‬‬

‫‪ -‬تعال ‪ ..‬ما تخاف�ش (كيف عرفت �أنني خائف؟) ‪ ..‬م�ش �أنت �سمير‬ ‫بتاع مدر�سة البنات ؟‬ ‫�ضحكت ن�ساء كثيرات ‪� ،‬ساعتها تنبهت أ�ن هناك �أخريات في‬ ‫�ضيافتها ‪ ..‬وزاد تبيني لهياكلهن ووجوههن من ارتباكي ‪ ،‬لكن نظرة‬ ‫ت�أنيب من أ�مي �شجعتني فحركتني ‪ ،‬وعاد إ�ل َّي ما يعرف عني من جر�أة‬ ‫وتما ٍد ‪ ،‬فتما�سكت وتقدمت أ��سلم عليهن واحدة واحدة في �شجاعة مفتعلة‬ ‫‪ .‬وغرقت للحظات في أ�ح�ضان عرق وروائح متباينة ‪ .‬وغرق وجهي في‬ ‫قبلات �إعجاب ‪ ،‬وقبلات ترحيب منافقة و أ�خرى لزجة ‪ ..‬حتى و�صلت‬ ‫لل�ست الكبيرة فانحنت عل َّي تقبلني ‪� .‬سحرتني رائحة عطرية مجهولة‬ ‫م�سكرة ‪ ،‬ق َّبلتني على خدي من هنا ومن هنا ‪ ..‬فكدت �أقع من طولي ‪.‬‬ ‫ولما جل�ست �أجل�ستني إ�لى جانبها ‪ .‬وبعد لحظات ن�سيني الجميع وان�شغلن‬ ‫عني حتى هي ‪ .‬وانطلق حولي �سيل من الثرثرة التي كنت في حال لا �أتبين‬ ‫معها مخارج الحروف ولا معنى الكلمات‪..‬‬ ‫كنت مخ َّد ًرا م�سلوب الذهن تائ ًها ‪ ،‬حتى غمرني �إح�سا�س أ�ن هناك‬ ‫من يراقبني ‪ ،‬فانتبهت والتفت إ�لى باب �صغير بعيد موارب ‪ ،‬لمحت منه‬ ‫فتاة ترتكن إ�لى �ضلفته المتحركة ك�أنها تقبلها‪ ..‬وهي ت�شير �إل َّي بطرف إ��صبع‬ ‫ك ِّفها اليمنى في بطء وهي تركز عينيها في عين َّي كال�ساحرات ‪� -‬أن تعال !‬ ‫لم يح�س أ�حد بي و أ�نا �أقوم مذهول ًا من َّو ًما ‪� ..‬إليها ‪ ..‬ولما اقتربت منها‬ ‫تراجعت عن الباب ‪ .‬وما �أن خرجت وراءها أ�غلقت الباب وهي تقول‬ ‫ب�صوت خ�شن �صبياني ‪:‬‬ ‫‪� -‬إيه يا وله ؟ ح تقعد ت�سمع رغي الن�سوان ؟‬ ‫أ�فقت وا�ستنكرت ما قالته ‪( ،‬فال�سلطانة) و�ضيافتها لي�سوا (ن�سوان)‬ ‫‪ .‬ولم تعطني �أي فر�صة بل أ�م�سكت يدي وجذبتني على امتداد ذراعها‬ ‫‪249‬‬

‫جدرانه �ستائر مزرك�شة مليحة ‪ ،‬ذات تراكيب تحيط به م�صاطب وخزائن‬ ‫على �ستور مرخيات ‪ ،‬وفي الو�سط �سرير من المرمر مر�صع بالدر والجواهر‬ ‫‪ ،‬فوقه نامو�سية من ا ألطل�س ا ألحمر تجل�س عليها (ال�ست الهانم) بوجهها‬ ‫الم�ضيء ‪ ،‬يخجل ال�شم�س ‪ .‬وعلى جانبيها جاريتان �صبيتان ر�شيقتا القد ذاتا‬ ‫ح�سن وجمال وق ٍّد واعتدال ‪ ،‬وجبين كغرة الهلال ‪ ،‬تم�سكان بمروحتين‬ ‫من ري�ش النعام ‪ ،‬تروحان بهما في رقة ودلال ‪ ..‬وكان هناك طاوو�سان‬ ‫يفردان ذيليهما كمروحتين ملونتين ي�صيحان في غمو�ض) ‪ ،‬جعلني المنظر‬ ‫أ�ت�س َّمر في مكاني فاغ ًرا فمي مذهول ًا ‪� ..‬سبقتني �أمي لتلحق بم�ضيفتها قبل‬ ‫أ�ن تقوم لا�ستقبالنا مرحبة ‪ .‬ولا تجعلها تتج�شم عناء ملاقاتنا بما ن�ستحق‬ ‫من احترام ‪ .‬وبينما اندمجت أ�مي و�ضيفتنا في كتلة الظل التي ي�شع ال�ضوء‬ ‫الملون حولها ‪ ،‬وقفت م�شلول ًا أ�ت أ�مل ما ي�شع أ�مامي من �سحر ‪ ،‬و أ�نا أ�غمغم‬ ‫ب�صوت واهن ‪:‬‬ ‫‪ -‬ال�سلطانة ؟!‬ ‫وبينما كنت �أتمتم باكت�شافي الخا�ص ‪ ،‬وقد ت�سمرت �ساقي في الم�سافة‬ ‫ما بين باب القاعة الهائلة وب�سطة ال�سلم الغارقة في الظلال وا أل�ضواء الملونة‬ ‫التي ت�سقطها ال�شم�س من خلال النافذة القبلية ت�ضيء ال�سلم والفراغ الذي‬ ‫كان ممت ًّدا �إلى ال�سماء ‪ -‬بجد هذه المرة ‪ -‬حيث كانت قبة هائلة تغطي فراغ‬ ‫ال�سلم الكبير خلفي ‪� ،‬إلى حيث �أفكر في الهرب ‪� ..‬سمعت �صوتها بعد‬ ‫�أن فرغت من طقو�س الترحيب ب�أمي و�ضيفتها ‪ .‬انتبهت لي مت�سم ًرا عند‬ ‫الباب‪:‬‬ ‫‪ -‬تعالى يا حبيبي ‪..‬‬ ‫تنبهت �إلى �صوتها العميق الرنان ‪ ،‬الذي بدا لي آ�ت ًيا من عالم �آخر ‪.‬‬ ‫‪248‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook