من ثلاثة أ�دوار تناطح ال�سحاب وان ظل قائما على جدران و�أ�سا�س البيت القديم الذى �شهد ملاعب �صباى وطفولتى والذى مار�ست فيه �شقاوتى ومغامراتى ل�سلب جدتى حليب ال�شوالى .البيت الذى �شهد �أعجوبة بناء دوره الأول بعد �إ�ستقرار أ�دواره العليا والذى تغيرت �سبل الدخول �إليه مع كل عقد من الزمان ..و�شهد أ�وائل �سنوات الوعى بالوطن وبالنا�س وبدايات الانفتاح على آ�فاق ا إلن�سانيه الرحبة التى كان الطريق إ�ليها الانتماء �إلى العمل ال�سرى تحت ا ألر�ض ..لتحرير الوطن ابتداء من تحرير الجمعية الزراعية !.. اختفى هذا البيت المفعم بعطر ال�سنين والذكريات �أثناء غيابى الطويل هذه المرة ..وبنى مكانه بيت ي�شبه أ�ى بيت �آخر فى �أى مكان �آخر فى مدينة �أخرى ..قالوا لى (لقد �صمم ابوك البيت الجديد ن�سخة أ�خرى من البيت الذى �سكنا فيه بالايجار �سنة انتقلنا إ�لى (المن�صورة) ..بيت (ي�سن الترزى فى �شارع ا أل�سواق المتفرغ من داير البندر ).ف أ�يقنت يومها �أننى عدت ولكن �إلى بيت لي�س بيتى !. فقدت نغمة عجلات القطار الرتيبة إ�يقاعاتها القديمة � ..ضاعت رائحة الزيت المحروق .وكل ما توحي به من أ�لفة الم�ساء بعد يوم مجهد طويل .هل أ�فقدت �سنوات ال�سجن روحه ما كانت تفي�ض به عند عودته �إلى (ميت �سل�سيل) من م�شاعر حنونة تبعثها رائحة الزيت المقدوح ،نكهة الأرز ال�ساخن الفقير في �صدور المجهدين ..ام كان ذلك كله ب�سبب فقدان بيتى القديم بيت جدى . ••• 201
وعلى قدميه كم عاد �إليها بنف�س اللهفة ،من كل دروبها .ومن جميع جهاتها ،وفي كل ا ألوقات وعبر كل �سنوات العمر طفل ًا و�صب ًّيا و�شا ًّبا.. تلمي ًذا و�شاع ًرا و�سيا�س ًّيا ،تثير قدمه أ�ينما تدب غبار الم�شاكل والمعارك .. كل عودة لها طعم مختلف لكن الم�شاعر نحوها دائ ًما غائرة في �أعماقه ،لا تتغير ولا تتبدل كمر�ض ع�ضال لا �شفاء منه .. رائحة ال�صبار وثمار التين ال�شوكي والذرة الخ�ضراء والبر�سيم تلحق به وت�سكره حين يدخلها عائ ًدا من متعته اليومية في ال�سباحة في البحر ال�صغير .من جوار جنينة (علي �أبو ح�سن) ..تعلق بملاب�سه وجلده رائحة الحلفا وثمار (عنب الديب) .وهو عائد من حقل (ال�سباخ) و�أر�ض الطير عبر الخرابة أ�و جرن دار ( أ�حمد) ..رائحة التيل المعطن وال�سمك الميت ال�صغير حين يعود من البحر بعد ال�سباحة �أو مغامرات ال�صيد . لكن عودته بعد �سنوات خم�س في المعتقل كانت فريدة لا مثيل ولا �شبيه لها ..يومها أ��صر على العودة بالقطار ،نف�س القطار القديم ..الذي لم ي�ستطع هذه المرة �أن يحرك فيه م�شاعر الطفولة �أو ال�صبا حز ًنا �أو فر ًحا .ولا أ�ن يج�سد �أمامه �أ ًّيا من تلك ال�صور التي لم ين�سها �أب ًدا .كان هناك خوف غام�ض يغزو قلبه ..يطم�س الذكريات على �صفحة روحه وينتزع منه �شي ًئا لا ملامح له ،ينتمي لتلك الأيام البريئة ..كانت العودة تلك المرة يكتنفها الكثير من عدم الثقة ..هل غيرَّ ه ال�سجن ؟ �أم أ�ن الدنيا تغيرت ؟ لقد هدم البيت كله ..بيت الجد الذى مات فى الحجاز وبيت الجدة (�أم العز) التى �سحرت المر�أة الغجرية المداحة وحولتها �إلى بقرة ..بيت (الحو�ش) الذى �شهد خيالات العفاريت والذى تحول �إلى مندرة �شهدت ح�ضور ال�شيخ (على �سعود) فى حياتى ومعه قيم العدالة فى الا�سلام ..بيت (عبد الباقى) خال�صا دون �شريك والذى مار�س عليه هوايته فى التغيير والتبديل ف�أ�صبح 200
كلما انحنى على موتور العربة ..ومغامراتك مع زوجة الفقي ا ألعمى و�أنتما تحممانه م ًعا .فتلتهب م�شاعرك وهي تثيرك بلم�ساتها وحركاتها مع �أع�ضائه .تل ِّيفه وتغمز لك ..وكيف �أنك لم تكن تطيق نف�سك وتكاد تجن. وهي تتركك لتجففه وتلب�سه لكي ت أ�خذه ل�صلاة الجمعة � ..أقنعتني �أن كل الن�سوان �سواء � ..أنهن يلتهبن تحت القما�ش .ت�ستوي في ذلك التي تلب�س الجلابية على اللحم وتلك التي تلف نف�سها كعرو�سة المولد ! �أرجعت �أمري مع (نرج�س) لخيبتي الثقيلة ..لأنني لا أ�بدي أ�ي مبادرة للهجوم ..ذكرتني بيوم عودتي من امتحان ال�شهادة الابتدائية من (المن�صورة) ..وكان القطار مزدح ًما ..وجل�ست إ�لى جوار ال�شباك و�أمامي مبا�شرة امر�أة ب�ضة هائلة الحجم وانح�شرنا على الكرا�سي .ولم تكن الم�سافة بيننا ت�سمح إ�لا بتبادل الم�سافات ،فتداخلت ال�سيقان ..كانت أ��شيا ؤ�نا تزاحمنا ..وكثير منها تمدد فوق ال�سيقان المتداخلة ..كان أ�بي فخو ًرا بما فعلته في الامتحان ..وكيف فهمت الأ�سئلة المراوغة وهزمت ذكاء وا�ضعيها ..كان الكل ينظر نحوي ب�إعجاب وخ�صلة ال�شعر الناعمة تن�سدل على جبيني العالي في زهو كخ�صلة �شعر ( أ�نور وجدي) ..في زمانه .. لمحت ابت�سامتها المعجبة تغمرني ،كان إ�علان فيلم (قلبي دليلي) على جدار المحطة ممز ًقا كال ًحا لك َّنه وا�ضح تما ًما ..ابت�سامة ( أ�نور وجدي) ووجه (ليلى مراد) م�شرق وله �سحر ..غمرت وجهها ال�صبوح بقبلات عيني حين عادت عيناها من حملقة م�سحورة في ا إلعلان الغام�ض .في نف�س الوقت الذي �أطبقت فيه �ساقي النحيلتين على �سمانة �ساقها الممتلئة.. وبينما �سندتها بال�ساق الي�سرى بد�أت �أحرك بطن قدمي اليمنى الذي انتزعته من الحذاء � ..صعو ًدا وهبو ًطا في حنان .. 203
طائره في عنقه ... فخور أ�نا لأن �أحدا لم ي�شق �صدري لينزع منه (حبة ال�شيطان) التي ظللت طوال عمري �أبحث عنها لأنتزعها بنف�سي دون جدوى ،كانت تزوغ مني وتختفي ،فلم أ�عثر لها على أ�ثر ب�سببك ، نعم ..وك أ�نها كانت من �صنعك يا �صديقي المتعدد الوجوه تحتل م�ساحاتي وتتجول بين حوا�سي بعقلك وب أ�مر منك ..وكان علي أ�ن �أظل �أطاردها أ�ب ًدا .. وهي تتحداني وتمتلكني كالعبد وت�صحبني كالتو�أم الخفي ،تحر�ضني على الجدل في كل �شيء ،وتغريني بالمحرم وتدفعني للتمرد . حين حكيت لك عن (نرج�س) ،حا�صرتني بحكاياتك مع زوجة ا أل�سطى ال�سواق ،الذي كان يجعلك تمتطيه في الزريبة .وي�شدك للوقوف خلفه 202
الا�ستماع لحفل تكريم نبوغي وذكائي الذي كان أ�بي لا يزال م�ص ًّرا على �إحيائه على قارعة الطريق . ولأنك قلت ( إ�ن هذه �أمور عيال!) .فخيبت أ�ملي في الو�صول إ�لى مكانتك ودرجتك .قررت �أن أ�عاود الهجوم و�أن �أعيد ترتيب قواتي لمحا�صرة (نرج�س) .وكانت زوجة فلاح ق�صير نحيل من �أولئك الذين حكم عليهم �أن يلت�صقوا بالطين منذ ولادتهم ..حتى يغو�صون فيه مرة �أخيرة �إلى الأبد بعد وفاتهم دون أ�ن يلاحظهم أ�حد .. �أخوه الأكبر تعلم �صنعة (الترزية) وفتح الله عليه بدكان فتزوج في المندرة المطلة على ال�شارع ..وكان َر ْبع القوام أ�بي�ض الب�شرة حليوة ..طويل القامة نظيف الملاب�س على الدوام ..على عك�س �أخيه زوج (نرج�س) ال ِق َّله الذي (يبيت الخنف�س في �شقوق كعبه !) . ز َّوجوها منه رحمة بها و�ست ًرا ل ُيتمها ..إ�ذ كانت لها عين م�صابة ، فكانت رغم جمالها وامتلاء ج�سمها الفائر (معيوبة) ويتيمة .و أ�ق�صى ما تحلم به حجرة تلمها ،وزوج تجل�س في �ضل حائطه ..كانت را�ضية بن�صيبها من الدنيا ،لكنها لم تكن را�ضية عن ن�صيب زوجها ..بعد أ�ن أ�فاقت من �صدمة الفرحة بزواجها وعرفت حدودها ال�ضيقة ج ًّدا ..بد�أت في التبرم ..تدفع زوجها للمطالبة بحقه في �أن ي�ستحم و�أن ي�ستريح .. و�أن يكون بني �آدم ..ف�أخوه الذي لا ي�شركه في عائد �صنعته الرائجة ..ي�شاركه في رغيف الدرة الذي يخرج بجهده من ا ألر�ض ..وعليه إ�ما (يبقى فيه َع ْدل ،يا ن�شيل ده عن ده يرتاح ده من ده . )..وخا�صة أ�ن ع َوج (ملوك) زوجة الترزي قد زاد عن حده ،فهي منذ زواجها لا تكف عن م�ضايقتها ،تريدها خادمة في البيت مثلما زوجها خادم في الغيط .. 205
فوجئت ال�ست التي كان زوجها يقف في الطرقة المزدحمة بين الكرا�سي م�شار ًكا في حفل الأعجاب بي ..نظرت �إل َّي معاتبة منده�شة غير م�صدقة ،فكففت للحظة عن الحركة ..لكن توتر جفونها والدماء التي اندفعت لخديها ..كانت فيهما الكفاية -لدعوتي �أن �أ�ستمر ..في حنان بالغ م�ضت عيني تحاول النفاذ خل�سة �إلى عمق عينيها ،اللتين احم َّرتا بالدمع والانفعال .وجدت �ساقها تلين تحت ركام الأ�شياء الميتة فوق ركبتينا ،تحجبان عالم ال�صخب عن عالم الده�شة الخفي ..ف أ�خذت �أتحرك في معلمة .مقل ًدا خبرتك .و أ�نا أ�تذكر حركات يدك على ذراع زوجة الفقي التي تحت�ضن كتفيك وهي تداعبك وتدعوك لكي تلتحم بها و�أنت تحت�ضن الج�سد كله في بطن كفك الممتلئ ببطن كفها .. �أخذت تم�سح عرقها وهي تختل�س النظر لزوجها وللآخرين ..قبل أ�ن تقب�ض أ��سنانها على �شفتها ال�سفلى وهي ترمقني في ده�شة .وك�أن ل�سان حالها يقول : -كل ده يطلع منك انت ؟ مع حركة القطار الذي بد أ� يهدئ من �سرعته لدخول المحطة .. هد�أت حركات باطن قدمي فوق ال�سمانة ..وبد�أت هي تلم �شتات نف�سها ..وحين وقفت لخمت نف�سي في جمع (ال�سواتر) ووقفت ب�شكل طبيعي لأحت�ضنها مان ًعا �سقوطها على الجال�سين مع �صدمة وقوف القطار .. نزلت وزوجها ..اختل�ست النظر �إليها من النافذة ..كانت تقف مجهدة �إلى جواره ..تلهث كمن خرجت من معركة ،وهي تعيد ترتيب ثيابها ،وتعدل من و�ضع طرحتها ..وتجفف عرقها ..وتختل�س النظر إ�ل َّي .و أ�نا واقف في النافذة أ�فلتها منت�ص ًرا من براثن نظرات عيوني .. عدت أ�جل�س مقتن ًعا وم�سل ًما لك و آلرائك في الن�ساء ..و أ�نا �أوا�صل 204
إ�لى �شخطة لا�سعة ،أ�و تعليق لاذع يعيدها إ�لى �صدفة طيبتها وا�ست�سلامها الإلهي .. كانت ال�صينية النحا�س فوق كر�سي الع�شا الجريد ،عليها كوم من القمح المتجدد .يقمن بتنقيته من �أجل الطحين ..والتف الثلاثة حول القمح ،ر�ست أ�ت (ر�سمية) نف�سها في مواجهة الحياة الفاترة على ال�سكة والج�سر لكي لا تفوتها �شاردة .بينما جل�ست (نرج�س) في مواجهتها ، �أما خالتي فكانت غير م�ستقرة (تما ًما) بينهما لتعطي لنف�سها فر�صة للقيام والقعود ح�سب الحاجة!. وحين هللت من بعيد ،هللوا جميع ًها مرحبين .خالتي قامت واختطفتني إ�لى ح�ضنها ( ..ر�سمية) تظاهرت ب أ�نها �ستحاول رفع طن اللحم ،ف�ضحكت وملت عليها لتقبلني ..لمحت بهجة خا�صة في عين (نرج�س) التي قامت تحت�ضنني وتقبلني كعادتها : � -أهل ًا بالحبيب ابن الغالية .. (ر�سمية) التي كانت لا يخيل عليها �شيء ،وتح�سب ح�ساب �سوء النية في كل �شيء ،جذبتها بعنف ف أ�جل�ستها .. -أل يا حبيبتي ! كان زمان وجبر ..زمان كان (نونو) ..دلوقتي البو�س والأح�ضان عليها جمرك ،ن َف ُ�سه الوقتي يح ِّبل اللي زيك ..ما يحكم�ش . أ�ح�ست (نرج�س) ك أ�نها �ضبطت عارية ..لكنني �سرعان ما قبلتها في خدها وبعمق لكي أ�غيظ (ر�سمية) . -ح �أف�ضل طول عمري إ�بنها الر�ضيع ..ب�س اخرجي انتي منها .. كانت �ضربة على الوتر الح�سا�س ( ..فنرج�س) لم تنجب ..ويبدو �أنها لن تنجب أ�ب ًدا ،قر�أت ذلك ..في تلميحات (ر�سمية) عن جوزها 207
ولكن (لا ..دا بعدك ..دا انا قريبة الأم) و (ما حد�ش يك�سر عيني) .. (والحلوة تحلا ولو في الوحلة) ( ،م�ش أ�قل منها يا بنت النا�س) ..قبقاب بقبقاب و�ضفيرة مغ�سولة ومت�س َّرحة ب�ضفيرة مغ�سولة ومت�س َّرحة ..وهدوم و�إن كانت (باط�سطة) و(�شيت المحلة) لكن زاهية ومزهزهة ون�ضيفة .. (الع َدل ب َدل) ،وال ُق َّ�صة الم�س ْب�سبة تداري عيب العين المعيوبة زي الن�ضارة.. و(ل ّم الجلة م�ش ع ّلة) � ..آه .. كانت النار م�شتعلة في البيت دائ ًما ..وكن ُت �شبه زائر مقيم في بيت خالتي القريب .الذي كان ملاذ (نرج�س) الدائم من لهيب المعركة .. حيث تجد نف�سها في بيت (بندري) ح�ضري مع ابنة خالتي التي ت�ضرب بع�شرة أ�ل�سن ،وتقرا (�ألف ليلة وليلة) ولا تكف عن التعليق على الدنيا والحياة التي ظلمتها �شكل ًا ومو�ضو ًعا ..بل�سان �ساخر �سليط ،يوازي طيبة ل�سان الخالة ور�ضاها بالمق�سوم المبني على �إيمان لا تف�سير له � ،سوى �أنها من �سلالة عيلة م ؤ�منة فيها اللي �شايل القر آ�ن على قلبه رحمة ونور .. كان بيت خالتي يقع عبر ترعة �صغيرة تروي الحقول قبلي (الكفر) له باحة �صغيرة �أمام الباب مبا�شرة ت�صنع برا ًحا تظلله الأ�شجار التي تتكاثف أ�مامه ..لتجعل منه بقعة نادرة من الرطوبة الحانية للجال�س فيها وتعطيه قدرة على الإحاطة بات�ساع الامتداد العابر للزراعية وج�سر ال�سكة الحديد (المقلي) في قيظ ال�شم�س ،في تعا ٍل و إ�ح�سا� ٍس بالتفوق والر�ضا بطراوة الظل والن�سمة .وتعطي (لر�سمية) بنت خالتي القدرة على ر�صد حركة مجتمع الكفر الجديد كله ..الذي يتحرك في بطء ،يتيح لها الفر�صة الكاملة للت�أمل وللتحليل والنميمة ال�ساخرة المنتقمة من الرايح والجاي ،والقايم والقاعد .أ�و على حد تعبيرها (المُق َعد) .رغم اعترا�ضات �أمها ال�سلبية التي لا تجر�ؤ على الإف�صاح عنها أ�مام نظراتها اللاهبة التي كثي ًرا ما تتحول 206
-طب والمقرو�صة (مديحة) يا فلاتي .. -أل ..دي حاجة تانية ..كل واحدة طعم يا بنت خالتي .. �ضربتني (نرج�س) على �ضهري محتجة ،لمحت احمرا ًرا في خديها ،فمددت قدمي لت�ستقر تحت فخذها ..لم تعتر�ض ،بل خيل إ�لى �أنها �ضغطت عليها . ف�ضلت �أن أ�خمن �أنها ظنتها نتو ًءا في الفر�ش الذي نجل�س عليه .. �أو أ�نها قدم (ر�سمية) نظرت في عينها الوحيدة مبا�شرة وحركت إ��صبع قدمي الكبير في �صمت �صاع ًدا وهاب ًطا في رقة تدق �شطوط فيافي لحمها الدافئ.. نظرت �إل َّي نظرة خاطفة وك�أنها خافت �أن تفزعني ..فتجر أ�ت .. كان الحديث بيننا �صاخ ًبا ،تعر�ض لق�ص�ص كثيرة حقيقية ومخترعة عن (ال�سقا) الذي حاول مغازلة خالتي .وفط�ست (ر�سمية) من ال�ضحك وهي تدعوها للاعتراف �أنها (ك َمرة) �شجعته ..لكن الخالة كانت بمكر تخترع حكاية عن ابنها ناظر المحطة الذي كان في نف�س الوقت -ح�سب قولها -يحاول مغازلة راكبة من الركاب جاءت تقطع منه تذكرة �سفر .. لكنه (ر أ�ى برهان ربه) ،فعدل ..ومثله مع (ال�سقا) تما ًما فعلت ! وقالتها له دون أ�ن تف�صح عندما اعترف لها : -دقة بدقة ولو كنت زدت لزاد ال�سقا . �ضحكنا في �صخب ..الحديث وال�ضحك أ�تاحا الفر�صة لي .. �أخفيت ذراعي تحت ال�صينية ،ا�ستبدلت ب�أ�صبع قدمي باطن كفي الذي ا�ستقر على فخذ (نرج�س) في �أمان ..مدت يدها في البداية لتزيح يدي لكنها خافت �أن تلاحظ (ر�سمية) ا ألروبة أ�ن لها ي ًدا واحدة فوق ال�صينية ..فتخمن ما هو أ��سو أ� .غمزتها راج ًيا ال�صبر .ف�سكتت وكفت عن 209
القزعة ..النافر للغيط على طول ..و�س ؤ�الها الخبيث الدائم (لنرج�س) عن �أخبار المخدة والنامو�سية ! �ضحكت (نرج�س) تداري جرحها و�ضربتني بحنية على كتفي .. -تعي�ش لي انت طول العمر يا حبيبي � ..أيوه كده �أجبر بخاطري كده قدام العوازل .. كانت تقول ذلك لت�شاغب (ر�سمية) في براءة مفتعلة .بينما هاجمني �صوتك الواثق المجرب : � -أنا مت أ�كد �أنها تلك النظرة ال�شهوانية في عيونك ..ها هي أ�مامك يا فالح ..أ�ر�ض بكر عجز المحراث عن �شق أ�ح�شائها لت�ستقبل ال�شم�س وت�ؤجج رغبة الحياة في البذور ..عفية ،فائرة ،تطوي جوانحها على أ�حلام م�شروعة وقريبة ..تلتهب بال�شهوة عندما تقر�أ لها (ر�سمية) في �ساعات ال�صيف عن جواري الخليفة اللائي لا يزور الواحدة منهن �إلا مرة في العام .وهن حبي�سات الب�ستان والحمام وغرف النوم ،و�سط �أج�ساد العبيد ال�سمراء الم�شحونة بالقوة الغجرية المجه�ضة بالذل وا إلخ�صاء .. لكنها تظل قادرة على اله�صر والع�صر والإرواء ..ب�ألف طريقة وطريقة !.. لمحت ظل غرغرة غائمة طافت بعين (نرج�س) المب�صرة ..لكن �سرعان ما ابتعلتها ودفنت كفها ا أل�سمر الخمري الخ�شن في كوم حبات القمح الدافئ ..ا ألمل�س الحاني .. قررت �أن أ�غيظك و�أن أ�ثبت لك أ�نني ل�ست أ�قل منك جر أ�ة ،خلعت ال�صندل وخطوت على الفر�ش ،نزلت مترب ًعا بجوارها جاعل ًا ال�صينية في ح�ضني ..اندمجنا على الفور في حديث مرح بد�أته (ر�سمية) بن�شرة �أخبار عاجلة لا تخلو من تلميحات مك�شوفة عن �سلفة (نرج�س) وزوجها العيوقة .. �س أ�لوني عن درا�ستي ،تطرق الحديث لبنت (الهواري) قريبتهم .. رجوت (ر�سمية) أ�ن تتو�سط لي عندها .كانت تلميذة تركب معنا الديزل، وكنت متعل ًقا بها وبالنم�ش الذي يغطي وجهها ويعطيه ح�س ًنا لا حدود له . 208
هــيـت لــك... � أنت أ�غويتني وعلمتني أ�ن أ�طرق الحديد وهو �ساخن .. فما بالك و(نرج�س) كانت م�شتعلة ،عندما ه َّبت ناجية بنف�سها من نظرات ول�سان (ر�سمية) لو �أح�ست ب�شيء مما جرى في الخفاء . تعمدت الانتظار قليل ًا ..ثم اعتذرت ،كي �أغادر .تعللت ب�ضرورة الذهاب لبيت جدي لأن هناك ر�سالة من �أمي لازم أ�و�صلها ..تجنبت نظرات (ر�سمية) ..وتركت نف�سي لخالتي التي أ��صرت �أن ترقيني من عيون النا�س � .أم�سكت بيدي و�أحنت ر�أ�سي فوق �صدرها ،وبد�أت في تمتمات وهمهمات منغمة بلغة منقر�ضة ،لحروفها �سحر مجهول ،وهي تم ِّل�س ببطن كفها اليمنى على �شعري ور أ��سي .. 211
المقاومة .امتدت يدي و�سط ال�ضجيج وال�صخب تفتح لنف�سها م�سالك خطرة ..فانتف�ضت (نرج�س) واقفة حتى كادت تقلب ال�صينية ..وعندما حاولت أ�ن تنطق معتذرة ،خرج �صوتها مبحو ًحا ..فا�ض ًحا لما يمور في خلايا ج�سمها الفوار من نمال وعناكب ،لم تفت (ر�سمية) ،لملمت نف�سي ونظرت �إليها في ده�شة بريئة .لكنها أ��سرعت ..تلب�س قبقابها الخ�شبي .. وهي تقول : -ياح�سرتي..دااناكانلازم�أعملالع�شاالنهارده،حماتيحتدبحني.. وجرت �إلى بيتها دون أ�ن تنتظر ر ًّدا من المحملقين .. فقط (ر�سمية) نظرت �إل َّي في اتهام مبا�شر نظرة من يقر�أ ما تخفيه ال�صدور .. -إ�نت عملت فيها �إيه ياللي تن�ضرب في قلبك .. خالتي �أنقذتني كعادتها قائلة .. -عمل فيها؟ هي اللي مروو�شة وم�ش على بع�ضها من �ساعة ما جت ..بلا دلع مرئ ..تت�شطر على جوزها العجبة ! لكن عيون (ر�سمية) تابعت فح�صي ،بعيني ب�صا�ص �ضبط حرامي فراخ متلب�ًسا ك أ�نها تكت�شف ملامح ال�شيطان ف َّي لأول مرة .. ••• 210
الباب ..ثم وهي تمط رقبتها ،وبعد أ�ن تلفتت في الحو�ش �أخذت تكرر .. -مين اللي دخل ؟ جاء �صوت حماتها ت�سر�سع زهقانة من العرق والتراب . � -شوفي يا (نرج�س) ملوك بتنادي .. جاء �صوت (نرج�س) من خلف باب الو�سط وروحها في مناخيرها، لأن حماتها على ما يبدو كانت قد أ�نبتها غا�ضبة لت�أخرها عند ال�ست ( أ�م يو�سف) .. -فيه �إيه يا (ملوك) ..عايزه �إيه ؟ -فيه حد دخل من باب الدار .. -ما في�ش حد يا أ�ختي ..يعني �شايفة الب�ساط أ�حمدي ،وال�ضيوف رايحين جايين ..خليكي في اللي انتي فيه .. -جرى �إيه يا (نرج�س) ..بيتهي�ألي �إن حد مرق لجوه .. -ما حد�ش (مر�أ) يا أ�ختي ..دا خيالات المراية ..والدلع ال ِم ِرئ . م�صم�صت (ملوك) �شفتيها في تحد و�سخرية ودخلت المندرة خا�صتها ..ورزعت الباب في غيظ .. تنهدت روحي في راحة ..فا ألمر كان يمكن �أن يتطور وتمد (ملوك) بوزها في �أودة (نرج�س) ..لكن ال�صمت �ساد ..رددت باب (نرج�س) بهدوء و�أخذت �أت أ�مل الغرفة .. ال�سرير الحديد الأ�سود عالي بدرجة غريبة .يحيط ب�أعمدته التي �ضاع �أحد فواني�سها كورني�ش داير من القما�ش ا ألبي�ض الم�شغول ..النامو�سية ملمومة كالقبة في �شكل جميل ..وعلى ال�سرير مازال اللحاف ال�ساتان ذي ال�شرا�شيب البمبي ،ك أ�نه لم يم�س منذ فر�ش لأول مرة ..يتدلى تحته كورني�ش داير �آخر ي�صل إ�لى ا ألر�ض ليخفي ما تحت ال�سرير .. 213
-روح ربنا يجعل في و�شك القبول ..وينجيك من كل ما يعاديك.. كنت أ�حب دعواتها المنظومة المنغمة و أ�خاف منها .لكني كنت قد قررت الا�ستجابة لتحديك .. أ�عرف أ�ن (نرج�س) كذبت حين قالت �إن زوجها �سيعود مبك ًرا اليوم .و أ�ن عليها أ�ن تجهز له لقمة ..فاليوم لي�س يوم (خمي�س) ..كان - زوجها قد تعود �أن يخت�صر مرات ا�ضطراره للمجاهدة والمعافرة اللامجدية مع (نرج�س) قدر ا إلمكان ..لذلك كان م�ستحيل ًا �أن يغير عادته .كنت مت�أك ًدا �أنها في البيت وحدها ا آلن ..وقد تكون منخرطة في البكاء .. (لي�س هناك مفر ،إ�ن كنت بالفعل تنوي الدخول في التحدي) .... العقبة الوحيدة كانت الدخول �إلى البيت دون لفت نظر �سلفتها . النا�س العابرون والجيران تعودوا على دخولي وخروجي إ�لى البيت بحكم العلاقة الحميمية بين خالتي وبنتها وبين �سكان البيت .فتظاهرت بعدم الاهتمام وعبرت العتبة .في جر�أة.. كان باب مندرة �سلفتها على الي�سار مفتو ًحا ..والمندرة التي على اليمين مغلقة ..وباب الو�سط الذي لا درف له كان مغمو ًرا بال�شم�س وحماتها تتحدث مع نف�سها �أو مع �شخ�ص ما فوق ال�سطح في غ�ضب .. باب مندرة (ملوك) كان موار ًبا ..مرقت ب�سرعة خاطفة .ودخلت حجرة (نرج�س) ..مرت لحظة �صمت ،حب�ست فيها �أنفا�سي خلف الباب الموارب .ثم �سمعتها تقول في �شك .. -مين ؟ مين اللي دخل ؟ لم ت�سمع ر ًّدا ..لكن خيالا ما ،كان بالت�أكيد قد عبر المر�آة خلفها .. وقبل أ�ن تكذب ما ر أ�ته � ،أرادت الت�أكد .. �سمعتها تقوم وتزيح كر�سيها الخ�شبي ..ثم وهي ،تخطو نحو 212
كدت �أف�ضح وجودي ..تما�سكت ب�صعوبة � ..ساد ال�صمت الغرفة .. أ�ح�س�ست بها تت�شمم الهواء ..و أ�نها ت�شك في �شيء ..راقبت قبقابها وهو يتحرك في ع�صبية ثم يتجه ب�سرعة ناحية الباب .و�سمعت �صوت التربا�س الحديدي يحكم إ�غلاقه .. ر أ�يتها تجل�س وظهرها للباب .و أ�خذت تميل بر أ��سها إ�لى ا ألر�ض لترى ما تحت ال�سرير .ملت مثلها و�أنا �أ�ضع أ��صبعي على فمي هام�ًسا .. � -أنا يا (نرج�س) ..ه�س ه�س . -يا م�صيبتي .. قالتها في فزع حقيقي ورعب و إ�ن لم تنطقها .. �أخذت تدق �صدرها في رعب وهي تتلفت . -إ�يه اللي جابك هنا ؟ بتعمل إ�يه ؟ أ��صوت .. -وانتي ير�ضيكي تف�ضحيني .. -ق�صدك أ�ف�ضح نف�سي ..يا نهار �أ�سود ..أ�عمل إ�يه دلوقتي يا نا�س ؟ دي الم�ضروبة مق�صوفة الرقبة �شافتك .. كانت قد جل�ست على الأر�ض يائ�سة فخرجت من مكمني واقتربت منها زاح ًفا .. -انتي اللي ح تخليها ت�شوفني ..ه�س � ..إهدي .. و�ضعت يدي على كتفها ،ففزعت ونترت كفي وهي تقوم مرتجفة.. -تعالي يا (نرج�س) ..ما تتكلمي�ش وا�سمعيني ..أ�نا مزنوق هنا �أكثر منك ..غلطة � .أنا دخلت من غير ما حد ي�شوفني .كنت فاكرك في ا ألودة ..لكن �إنتي اللي قفلتي علينا الباب ..دلوقتي �أنا وانتي في الم�صيدة ..م�ش هنخرج من هنا �إلا إ�ذا هديتي ..وبطلتي لطم ..تعالي .. �أيوه ..تعالي ..الباب مقفول ..والمغدورة قفلت بابها عليها ..الحمد 215
خلف الجدار المجاور للباب كانت الت�سريحة ،عليها �شوال رز �أبي�ض وتحتها �أكثر من �صندوق خ�شبي عليه ر�سوم بدائية ..وكر�سيها م�سنود عليها في مكانه ،رغم �إحالته على المعا�ش بدري ..الدولاب العمولة ذو ال�ضلفتين ،والبترينة مازال ال�صيني فيها لم يجد بعد الفر�صة كي ي�ستخدم . رفعت الملاءة المتدلية من ال�سرير ،كانت هناك عدة إ��شولة مملوءة بالحبوب وبع�ض الحلل النحا�س وط�شت غ�سيل مملوء بالأرز ا ألبي�ض .الم�ساحة التي بين ال�سرير والت�سريحة كانت نظيفة ،مغطاة بطبقة من الطين المعالج الناعم الم�ستوي ،تغطيها ح�صيرة أ�قرب �إلى �سجادة الجوامع الم�صنوعة من ال�سمار بها بع�ض الخطوط الملونة ،و إ�ن كانت �أطرافها قد ت آ�كلت من فعل الرطوبة والكن�س الم�ستمر .. كانت رائحة الغرفة مميزة و أ�ليفة ونظيفة تفوح برائحة ال�صابون المعطر .زجاج ال�شباك الملون أ�علاه ي�شيع ج ًّوا خيال ًّيا � ..ساحر �شذاه - مازال يهاجم أ�نفي وعيني حتى يومنا هذا -كحلم مفقود .. لم تكن عندي خطة ولكني كنت �أ�سير رغبة حارقة لتح ِّديك �أنت بالذات و إ�ثبات قدرتي على المبادرة ،لا يفوقها إ�لا رعبي �ألا يحدث ما يجعلك تر�ضى عني ..وتدرك أ�نني تلميذ نجيب لك .و أ�جعلك تغير من إ�ح�سا�سك الدائم بخيبة الأمل ف ّي وفي ن�ضوجي.. دلفت تحت ال�سرير في هدوء و�صمت .عندما �أح�س�ست بخطى (نرج�س) ودقة قبقابها الذي تتعمد �أن تطرقع به في الحو�ش لتثبت للي ما يت�سمو �إنها م�ش �أقل منهم .و إ�نها و إ�ن كانت زوجة (الفلاح) إ�لا �أنها لا تقل (ت�س ُّت ًتا) عن ا آلخرين ،بل هي ت�صاحب �أي ً�ضا �ستات أ�كابر بحق مثل �ست ( أ�م فهمي) . دخلت الغرفة ورزعت الباب ك أ�نها ت�صفع �أعداءها ،ف�أفزعتني حتى 214
غاظتني ..وجدتني مكو ًما �أحاول جمع ما تبعثر مني ،لأعاود : -أل �إيه ؟ ليه ؟ -ما تف�ضحني�ش اعمل معروف ..ياللا ..لحد هنا كفاية .. � -إيه اللي كفاية ..انتي اتهبلتي يا هبلة انتي ..تعالي ب�س ..اقعدي.. يا حبيبتي ..ما في�ش حد بيحبك قدي .. -قوم والنبي �سايقة عليك النبي وحياة مع ِّزة خالتك ..أ�خرج .. -ده هبل ر�سمي � ..أخرج أ�زاي ؟ �إنتي لو ب�صيتي من خرم المفتاح ح تلتقي �صاحبتنا قاعدة م�ستنية لك ..ويجوز حا�سة باللي بيح�صل .. أ�كيد� ..أمال ليه قعدت ع العتبة ؟ لطمت خديها ..مرعوبة ولم تكن تجر�ؤ على التنف�س ..كان �صراخها للداخل و�صوتها الأخر�س يكاد لا ي�سمع ،ومع ذلك كانت تظن بالفعل أ�ن وراء الباب ح�شد من العيون وا آلذان ..و أ�ن هم�ساتها ت�صل حتى آ�خر البلد ..جذبتها ،فجل�ست �إلى جانبي على الح�صيرة �شبه م�ست�سلمة . -يا بنت النا�س ..خلا�ص ..ما في�ش فايدة ..إ�حنا اتربطنا لبع�ض ب�سلبة جمل ..م�ش ح �أخرج �إلا �إذا ح�صل .. تعجبت لجر أ�تي .لم �أتعود �أن أ�تكلم مع البنات أ�و الن�ساء بهذه الطريقة .لم �أكن �أنا الذي يتكلم .كان �صوتك وعباراتك � ..أنت الذي تل َّب�سني و�أعطاني هذه الجر�أة والمكر ..خرج �صوتك مداه ًنا على ل�ساني : -إ�هدي � ..إهدي ..دلوقتي ..إ�نتي تفتحي الباب وتخرجي .. وك إ�ن مافي�ش حاجة ح�صلت ..ات�صرفي عادي ج ًّدا .. -وانت ؟ � -أنا ح �أنام هنا ..ح اب ّيت معاك .. -يا م�صيبتي .. زحفت تحت ال�سرير� ..صعدت على زكيبة مليئة ب َح ٍّب ما .و�أ�سندت ظهري لأخرى واقفة م�ستندة إ�لى الحائط ..هبطت ورفعت الملاءة .. 217
لله ..وحماتك بينها وبين القيالة عهد ما تبطل�ش نك�ش ..و(بهابند) ما بين الفراخ والجلة � ..أيوه كده ..إ��ضحكي ..النبي تب�سم ..يا �سلام .. إ�نتي عارفة �إني باحبك قد إ�يه ؟ �إنتي اللي بتجيبيني لبيت خالتي على ملا و�شي ..طب م�ش فاكرة ؟ كانت ت�ستمع لي مذهولة ..حائرة ..لا تجر ؤ� على �إخراج �صوتها للرد عل َّي ..تح�س �أن أ�نفا�سها المكرو�شة ت�صل للنا�س على الزراعية .. وكانت كفاي لا تكفان عن الحركة � .أربت هنا و�أطبطب هناك ..و�ألم�س و�أتح�س�س في حنان �صعو ًدا وهبو ًطا .. تحول تهدجها من انفعال الرعب إ�لى انفعالات حانية ملهوفة وخافتة ..لم أ�تعجلها ..اقتربت ب�شفتي من وجنتيها ..وهبطت بهما إ�لى رقبتها ،كانت تتلوى ،رغم �أن ج�سمها الفارع كان يفوقني طول ًا وعر ً�ضا .. ك َّنت طفلة بين ذراعي ..كانت لكلمة ( ..يا حبيبتي) فعل ال�سحر .. لمعة عينها الوحيدة اختفت تحت �سيل من الدموع ..هبطت ب�شفتي نحو �شفتيها البكر ،التي لم تعرف على ما �أظن طعم القبلات ..فهبطت بي �إلى الح�صيرة مجهدة ..لينة ..مددتها ومدت يدي ف�سحبت إ�حدى الخداديات من على ال�سرير ب�سرعة البرق و أ�رحت ر�أ�سها عليها � ..أحاطتني بذراعيين لا عظام فيهما وهبطت بي لوديان من زهر النرج�س .مرغت ر�أ�سي في �صدرها ال�صلب وهبطت إ�لى تلال الزبد والع�سل ..ولكنها نفرت فج�أة ك�أيل وح�شي ،عندما بد أ�ت في فك الطل�سم .. انتف�ضت واقفة على حيلها ،ك�أنما أ�فاقت فج�أة ..ف�ألقت بي من �سابع �سما إ�لى جهامة الح�صيرة ال�صلبة ف�أوجعتني ..تحطمت �سفني على �صخور ال�شاطئ .وعادت تلطم وجهها .. -أل ..يا نهار أ��سود ..يا ف�ضحيتي !! 216
فقتلته ..لاحقتها فوق ال�سطح بين كيمان الق�ش .تاهت مني ،درت ك أ�ني في متاهة �شا�سعة أ�بحث عنها ..كانت م�ستغرقة في النوم م�ستلقية بين أ�كوام ق�ش الرز وقد تعرت �إلا من قمي�ص ممزق .وكان القمر ..يغمر الليل حولي يحيطني بوهج �ضياء لا حدود له .كنت ن�شوانا ..تقدمت منها ..وجل�ست �أت أ�ملها وهي �ساكنة في �سلام ..وحين لم�ستها فزعت، لكنها �أخذتني في ح�ضنها ..حتى فاج أ�نا ع�سكر الخليفة وجرجرونا بعد أ�ن ربطونا من ا ألقدام بحبال من م�سد خلف الخيل ..و أ�نا �أحاول حمايتها دون جدوى ..ثم فرقوا بيننا ..إ��صطحبوها �إلى مقر ال�سلطان .أ�ما �أنا فجلدوني تحت �شباكها حتى تقطعت أ�نفا�سي .. لو كنت �ساعتها معي لما حدث لي ذلك ..نعم افتقدتك وافتقدت �أفكارك وحيلك وقدرتك على مواجهة مثل هذه المواقف ..كنت مت أ�ك ًدا أ�نني �س�أخرج من مخبئي في هدوء عندما تنتهي من أ�عمالها العادية ..وحين ينخمد الجميع �ست أ�تي هي إ�ل َّي .وعلى المفر�ش البمبي ال�ساتان الناعم الملم�س .وتحت هذه النامو�سية التي ت�شبه خيمة من �ضوء القمر � ،سنق�ضي ليلة من العمر حرمت منها ..ولكن هذه ال�صورة لم تتح لي أ�ب ًدا ..حتى عندما حاولت ،غلبتني هلاو�س ..حملتني بعي ًدا ..نعم كانت معي في كل هذه التخاريف ولكني لم أ�حتويها أ�ب ًدا ولم أ�ق�ضم تفاحتها ..فج أ�ة أ�ح�س�ست �أنني تجاوزت حدودي ،و�أنني ارتكبت حماقة كبيرة .و�أن الأمر لن ينتهي على خير ..كالعادة بد أ�ت في ت أ�نيب نف�سي ..أ�رهفت ال�سمع قد �أ�سمع �شي ًئا ..على الإطلاق ..وك أ�ن البيت ومن فيه ماتوا أ�و رحلوا .. تنبهت على خطوات متل�ص�صة ..كدت �أنادي عليها ولكني لم أ�جر ؤ� ..ولح�سن الحظ لم أ�فعل ..فمن خلال �أحد ثقوب الدانتيلا اليدوية التي 219
وت أ�ملت جل�ستي مترب ًعا للحظة .كادت تنفجر �ضاحكة ..كتمت �ضحكتها ب�صعوبة ..و�إن أ�عجبتها بل �أذهلتها فكرتي �( -آن لك أ�ن ت�صدق أ�ن كل هذا يخرج مني)! -تمالكت نف�سها : -واللي ن َّبا النبي إ�نك اتجننت ..كل ده يطلع منك انت ..؟ � -إنتي بتقولي فيها � ..أنا �أ�صلي ج َّوايا عفريت ..م�ش قالولك ان �أنا بالليل با�صحى وازعق واهلو�س بكلام ..أ�نا كده ..وذنبك على جنبك.. تعالي ..أ�نا عارف انك بتحبيني ..ب�س م�ش قد حبي لك يا (نرج�س). -ح َّبك اللي ما يت�سمى . لم �أعر اعترا�ضها أ�ي انتباه ( ..وا�ستمر �صوتك على ل�ساني) . � -إنتي بالراحة تقومي تخرجي وتعملي اللي انتي عايزاه .زي كل يوم � ..أنا م�ش منقول من هنا ..ولا الجن الأزرق ح يعرف طريقي .إ�لا إ�ذا انتي ح ّبيتي تف�ضحينا ..هه ..انتي حرة.. �سحبت نف�سي ونمت فوق الزكيبة و أ�غم�ضت عيني ..بينما هي تنظر إ�ل َّي في ذهول وعجز ..بل وخوف ..نجحت فكرة العفاريت والجنون ( ..علمتني أ�نت أ�نهن ي�صدقن كل ما يتعلق بالعفاريت ..الخرافة غذا�ؤهن اليومي � ..صلاتهن ..رغبتهن في ال�سلام والأمان � ..شوقهن �إلى الحياة والنعيم � ..صدقتك ،وازداد �إيماني ب�سبلك الم�ؤكدة) ..لأنها �صدقتني وا�ست�سلمت ..و�أرخت ال�ستارة ..وفتحت الباب وخرجت .. بينما ر َّتبت �أنا مكا ًنا لائ ًقا بما يكفي .ونمت و(ابت�سامة انت�صارك) عري�ضة تكاد تنطلق في قهقهه فا�ضحة .. ل�ست أ�دري كم من الوقت م�ضى و أ�نا بين ال�صحو والنوم ،تدور بر أ��سي ا ألحلام ،وت�صورات ملونة لما �سيحدث ..كنت بين الحلم والعلم ..بين ال�صحو والمنام ،لكنها كانت دائ ًما معي ..أ�خذتني من يدي .. نزلنا البحر � ،سبحنا حتى غرقنا � ..أنقذنا قر�صان عابر حاول اغت�صابها 218
فزحفت مهرول ًا و�أنا في غاية من الرعب والا�ضطراب �أجر جثتي خار ًجا ..لتلقفني يد خالتي و(ر�سمية) ي�سويان منكو�ش �شعري ..ويحذراني من النطق بكلمة : -انت اتجننت يا و َل ْه ..إ�يه اللي عملته ده ؟ كاد يغمى عل َّي ..لكن (نرج�س) �ساعتها دخلت ..ولم تفاج أ� بوجودي ولم تنزعج ..كانت تحمل �صينية عليها عدة ال�شاي و�ضعتها و�سطنا ..ورفعت ر أ��سها في ابت�سامة انت�صار وت�شف : � -شرفتنا يا (�سي �سمير) ..والنبي خطوة عزيزة ..دا احنا زارنا النبي ..دا احنا نا�س فلاحين م�ش قد المقام . تفجر العرق بغزارة من جبيني � .أح�س�ست به يغمر ج�سمي ..دارت بي الغرفة ..حاولت أ�ن أ�فهم ما حدث ..معقول !! هل جاءت بهم ال�صدفة ..لا ..لقد رحبوا بي قبل دخولهم ك أ�نهم يريدون ا إلعلان عن وجودي معهم ..غامت الدنيا �أمام عيني .. �أخذتني خالتي في ح�ضنها وهي ت�ضع كفها فوق جبيني ..و�صاحت ..وهي تب�سمل وتقر أ� (ال�صمدية والكر�سي) و�أدعية أ�خرى بلغة غير مفهومة ..ترقيني لتطرد ال�شياطين التي ركبتني وغوتني .. -يا ح�سرة قلبي ..معله�ش يا أ�ختي ..ما ت�صبي�ش ال�شاي � ..إحنا قايمين ..ال�شاب قايد نار ..فج�أة كده ؟ يا َح ِّبة قلبي ..قومي يا (ر�سمية) �إ�سنديه معايا .. -يمكن ما عجبتو�ش عي�شة الفلاحين .. قالتها حماتها في �سخرية ولكن في براءة .. لكن نظرة (ملوك) التي فتحت الباب و�سلمت على (ر�سمية) وهي تم�صم�ص �شفتيها في ا�ستغراب ولهجة ت�شي ب�شك كبير : 221
تزين ال�ستارة ..لمحت الباب ينتفح في هدوء ..ور أ��س (ملوك) يند�س بين الدرفتين تبحث عن �شيء ما ..لم تهد أ� ..ولم تقتنع �أن أ�ح ًدا لم يدخل .. لخبط هذا كياني و�شل تفكيري ( ..فلابد �أنك تخليت عني تما ًما ،وتركتني أ�واجه هذا الموقف وحدي) ..فلم أ��ستطع �سوى أ�ن أ�رتع�ش رع ًبا ..قالت (ملوك) في �صوت هام�س : -مين اللي هنا ..؟ و َل ْه !؟ كتمت أ�نفا�سي .وتوقعت أ�ن تدخل فترفع القما�ش وتك�شفني ،وتبين لي �أنني �شخ�ص مختلف كثي ًرا عما كنت عليه قبل �أن تتركني (نرج�س) .. ذلك ألنك اختفيت عني ورحلت حتى عن ذاكرتي ،و أ�نا في �أ�شد الحاجة �إليك .. �شيء ما جعل (ملوك) تعدل عن الدخول ،وت�سرع ب إ�غلاق الباب في هدوء ..و�سمعت باب غرفتها يغلق ب�صوت عال ..ثم �ساد ال�صمت للحظة ..بعده � ..سمعت �صوت (نرج�س) يعلو في �صخب مرح ًبا .. -يا �أهل ًا ..يا �أهل ًا ..دا احنا زارنا النبي ..معقولة ..أ�هل ًا يا �ست (ام فهمي) اتف�ضلي �أهل ًا يا (�ست ر�سمية) ..معقول ..و(�سي �سمير) كمان �إيه ده ؟ يا دي الهنا لما تزوروا نا�س فلاحين زينا .. فوجئت با�سمي يعلن عن ح�ضوره ..و�شاهدت خالتي و(ر�سمية) و(نرج�س) يدخلن �إلى الحجرة ور أ�يت خالتي وابنتها تفتر�شان ا ألر�ض بجواري مبا�شرة ..بينما ارتفع �صوت (نرج�س) تنادي حماتها �أن تنزل لت�سلم على ال�ضيوف ،في الوقت نف�سه �سمعت هم�س (ر�سمية) يدعوني في حزم لي�س غري ًبا عنها : � -أخرج يا (�سم�سم) ..اظهر وبان يا اخويا وعليك الأمان ..ياللا.. لم �أفهم �شي ًئا ..لكنها مدت يدها من تحت القما�ش ت�ستعجلني .. 220
إ�ن الإن�سان ليطغى ... أ�عتقد أ�نك ت أ�كدت ا آلن �أن الذي يدفعني ويغريني مرة أ�خرة بمعاودة الكتابة عنك هو أ�نك بكل المقايي�س �أعز ما ابتلتني به الدنيا من أ��صدقاء في الطفولة والمدر�سة ،بين النا�س ،في ال�سجن والغربة ،و ألنني �أ�شعر عندما أ�كتب و�أنت معي ،ي�صبح فعل الكتابة �أجمل و�أ�سهل مع �أنك مع كل جملة تتخلق على الورق ،تغمغم معتر ً�ضا في غ�ضب �أو �سخرية على طريقتك. ( -لا يا حبيبي) � ،أنك تق�صد ( أ�نا) بالكتابة عني تعني (عنك) ت�ستطيع أ�ن تتحرر لتتجمل و�أنت تكذب فتحكي ،تخترع وقائع لم تحدث� ،أو تغير في ترتيب الوقائع كما ت�شاء أ�و تبالغ في قيمة بع�ضها وتختلق �شخ�صيات تن�سب �إليها نقائ�صك ومعايبك 223
-ه َّو انتو لحقتوا .ما�شيين على طول كده ليه ؟ ال�شاي ما ات�شرب�ش .. ا�سم الله عليه ..إ�يه اللي ح�صل له؟ بعد ال�شر عليك يا �ضنايا .. لم تلتفت لها خالتي وخطت بي إ�لى الخارج ب�سرعة ..تريد �أن تنهي الموقف الثقيل .. وقالت لها (ر�سمية) وهي تربت على �صدرها ..في لهجة انت�صار ن�سوي : -آ��شيته بعافية �شوية يا �أختي � ..شوفتي ..ما لحقنا�ش نقعد ونت�سامر معاكي ..معله�ش يا (نرج�س) نجيلك مرة تانية ..خيرها في غيرها .. (نرج�س) -على ما �أعتقد -لم تحتمل .ف أ��سرعت �إلى غرفتها و�أغلقت الباب عليها ..ولابد �أنها انخرطت في البكاء المكتوم حتى �أغمي عليها .. من الح�سرة وخيبة ا ألمل ..تلعن العي�شة واللي عاي�شينها . بينما ( أ�نا مت أ�كد) � -أن (ملوك) هم�ست لنف�سها غير مقتنعة بكل ما ر أ�ته : -لا والنبي واللي ن َّبا النبي ..ده ملعوب كبير قوي ..الحكاية دي م�ش نازلة لي من زور. لكنها على ما يبدو بلعتها بعد ذلك على م�ض�ض ولم تحفر حولها ، عندما بلغها �أنني �سقطت بالفعل مري ً�ضا مر ً�ضا لم يعرف له (حامد �أفندي) حل َّاق ال�صحة وتومرجي الدكتور (حبيب) �سب ًبا ولا دواء ..ون�صح ب�ضرورة ا�ستدعاء الدكتور (حبيب) نف�سه .أ�و نقلي إ�لى الم�ست�شفى ا ألميري بالمن�صورة على الفور .. ••• 222
-حقائق إ�يه يا عم ؟ و�أكاذيب إ�يه يا �صاحبي وبطيخ �إيه؟ حيلك عل َّي ،لماذا ذهبت بعي ًدا يا �صديقي؟ .أ�نا �أكدت منذ البداية أ�نك -وحدك - كنت ومازلت أ�هم (�شيء) في حياتي حتى قبل أ�ن التحق بركبك (الينايري) �أو أ�عتنق مبادئك المارك�سية -ب�صرف النظر عن م�شاعرك من حيث ثقتك ف َّي �أو �شكك في مدى إ�خلا�صي لك واعترافي �أو عدمه بجميلك الدائم والم ؤ�ثر الملمو�س والم ؤ�كد علي م�ساري وتكوينه بل على م�سار الوطن لعقود طويلة . �أنا يا عمي لم ولن أ�غيرَ ر�أيي فيك .و�أعترف مرة �أخرى أ�ن كل �شيء جميل وحي ودرامي وله �صلة بالحياة (الحقيقية) من حب وجن�س أ�و فيما يتعلق بالإبداع والموهبة وال�صداقة والمقدرة على الفعل �أو العجز عنه والإ�صرار على الحق واتخاذ الموقف ال�سليم كما أ�ت�صوره ير�ضيك (�سواء تمخ�ض هذا عن غباء عظيم أ�و ميزة فادحة) كان كله ب�سببك وبالت أ�كيد كان الف�ضل فيه عائ ًدا �إليك ب�صرف النظر عن خيبة فكرة (دكتاتورية البرولتياريا) التى انتهت فى الواقع الى دكتاتورية أ�جهزة الأمن ال�سرية وم�ستويات التنظيم العلنية والتى دفعتك ل إلنتحار الإرادى أ�و الق�سرى (مثلما �سيك�شف الم�ستقبل) فى منت�صف العام الخام�س وال�ستين حتى يحقق ال�سوفييت �إنهيارهم العظيم بعد �سقوط حائط برلين.. فك ِّمل جميلك وتح َّم ْلني و�ساعدني على �أن �أكمل وبعدها حا�سبني . لقد كان في نيتي ا آلن وقد �شجعني ذكرك على معاودة الكتابة بعد انقطاع دام �أكثر من عام محل ،عجزت فيه عن إ��ضافة �سطر واحد �إلى ما كتبته من قبل عج ًزا وي أ��ًسا وقر ًفا برغم �صدور الرواية ال�سابقة (ولا هم يحزنون) . 225
بما يجعلك ت�ضفي على نف�سك ملامح رومان�سية مبر أ�ة من كل خط�أ ،وتظهر بري ًئا لم تقترف أ�ي جريمة في حق الآخرين أ�و في حق نف�سك ،وت�ستمرئ بكل خبث وبكل براءة أ�ن تن�سب لي تحري�ضك على كل الموبقات والخطايا التي تغطيك من �سا�سك لرا�سك. أ��صبح أ�نا الذي دفعك للتطاول على المر�أة في القطار رغم غيابي وح�ضور كل من كانوا حولك وبينهم أ�بوك وزوجها ..أ�نا الذي دفعتك دون أ�ن أ�دري -يا جبايرك -لاقتحام غرفة (نرج�س) بهذه الطريقة وك�أنني الذي أ�وحى �إليك بتلك الخطة التي لا يفكر فيها �إلا (خبا�ص) �أراري وبتاع ن�سوان متو ِّدك � ..أنا طب ًعا الزنديق الذي و�سو�س لك وجعلك ت�سخر �أمام خالك من بناء ُفلك (نوح) في ال�صحراء .بل وتدعي �أنني جئتك هات ًفا ك�صوت مقد�س من ال�سماء و أ�دعوك و أ�حر�ضك على احت�ضان (زهزهان) الم�سكينة بحجة موا�ساتها بتجفيف دموعها ب�شفتيك إ�معا ًنا في الح ِّنية (يا راجل يا �ضلالي!) خلا�ص -تريدني أ�ن أ�كون �شيطانك �أم ملاكك -هيا ا�ستمرئ �سكوتي وانتهز فر�صة وفاتى! .وا�ستحل عدم قدرتي على الرد على ترهاتك وادعاءاتك . اخت ِف ورائي ،توا َر -يا جبان -لكن لا تكن ف ًّجا وتزودها فت�صبح اللعبة مك�شوفة والحجة ت�صبح مف�ضوحة .كن كما تدعي رجل ًا �شري ًفا - واعترف -فهذا منذ البداية كان وعدك لمن �سي�سوقهم �سوء حظهم لقراءة هذا الهراء الذي تعاني كي ت�سكبه على الورق الذي لا يتعامل معه الآن �إلا القليلون و أ�قل منهم من �سي�صدقون ،بحكم الظروف التي �أحاطت بك وبي وحا�صرت كتاباتك وحا�صرت وجودي عبر كل هذا العمر .ولا �أعتقد �أن مزي ًدا من الأكاذيب �أو -يا �سيدي حتى لا تغ�ضب -مزي ًدا من فبركة الخيال والحرفنة �أو ادعائهما �سيغير من الحقائق �شي ًئا . 224
أ�مام ا آلخرين فى �سهرات ليالى ال�شتاء العائلية حول منقد النار ..فكنت أ�فعل متطاو�سا فى تمنع مفتعل يجعل الكل يحيطوننى بالاغراءات ألمار�س ما كنت تف�سره أ�نت با ألنانية وع�شق الذات ,وكل تلك التعبيرات المعقدة التى �أنكرها تماما ولكنك �أبدا لم تبر أ�نى منها . �أريد أ�ن أ�ذكرها بب�ساطة فنية .تعوزني الكلمات ألقولها �أنك كنت -كما قلت من قبل متحذل ًقا -كنت (جبريلي وخ�ضري وفيرجيلي) . في �أجمل و�أ�سو أ� ما حدث لي طوال هذه الرحلة منذ وعيت على الدنيا وم�ضيت في مناكبها � ،أعاني متاعبها من �سفر و�سجن وغربة و�صراعات وحب وكراهية وي أ��س وهزيمة .نعم ،ف أ�نت � ،سواء كنت تدرك أ�و لا تدري ،تذكر �أو لا تذكر � ،أنت مثل ًا ..على �سبيل المثال ،لابد أ�نك كنت من ع َّرفني على (ح�سين عبد ربه)!! ••• 227
كان عا ًما كبي�ًسا تمت فيه �سيطرة �سيا�سة الت�صفية و(ال�سقوف الواطئة) على الي�سار وتمت �صياغة �سيا�سة (التمديد) �إلى الأبد و(التوريث) إ�لى ما �شاء الله ..وظهر مخطط بلقنة المنطقة بالكامل بم�شاركة ومباركة كل قادة المنطقة كل ح�سب الدور المنوط به !! وانتهى بتدمير (لبنان) وذبح �أطفاله .كان عا ًما ثقيل ًا وقاتل ًا ! ذكراك وحدها و أ�حلام �صعودك وعودتك مرة أ�خرى كانت دافعي الذاتى لتخطي وتجاوز عجزي ,وعودتي للكتابة ،مرة �أخرى � .أق�سم م�ؤك ًدا على ح�ضورك ف َّي ،معتر ًفا ل ألبد بف�ضلك عل َّي وعلى حياتي كلها .فلابد أ�نه أ�نت �أو �شيء منك هو ما دفعني لاعتناق ال�شيوعية مثل ًا .نعم أ�نت �أو �شيء ما من طرفك ،زين لي ذلك الطريق ،وقادني �إليه واختار لي أ��صدقائي و أ�عدائي .والكتب التي أ�قر أ� والبنات اللاتي أ�حببت ،بل والطريقة التي أ�حببتهن بها ،نعم كنت الدليل �أو الملهم لي إ�لى �أهم و�أتفه و�أجمل و�أرذل ما مر بي من أ�حداث .لا أ�ريد �أن �أبالغ فيكرهني القراء و�أهون عليهم . ولا أ�ريد �أن أ�ه ِّول فتكرهني أ�نت �أو تفارقني راف ً�ضا كعادتك ميولى الفردية الا�ستعرا�ضية ,ورغبتى الدائمة فى الا�ستحواز على �أعجاب من حولى .. منذ نجاحى فى لعب دور (ا ألمين) على الم�سرح ,و�شيوع قدرتى عن ا�ستعادة أ�حداث و�صور تلك الحكايات العجيبة التى كان يقر�أها علينا مدر�سى الر�سم عن آ�لهة ا ألوليمب وابطال ا أل�ساطير وقدرتى على روايتها ك�أننى ع�شتها �أو أ�قر أ�ها من الكتاب بكل تفا�صيل �أحداثها و�سحرها .خا�صة وان خالاتى العوان�س كن يطلبن منى قراءة ( أ�لف ليلة) لهم ..وي�ستعدنها منى 226
محدودة ومعزولة مثلها .ومن هنا كان افتتانهم الدائم والتحاقهم بكل حكومات ا ألقلية وتفانيهم فى خدمتها ,وخدمة الملك على مر العهود , مما �ضمن لهم وللمتعلمين من �أبنائهم الح�صول على مراكز مهمة ووظائف محترمة فى كل الأجهزة ال�سيادية حتى فى عز ( أ�يام الا�شتراكية !) .أ�ما (علو البلد) الوفدى فقد كان ي�شكل الجزء الأكبر والأكثر من البلد �إذ يمتد على م�ساحة �شا�سعة تكتظ بالبيوت المتزاحمة ,فيما بين ترعة ال�سلطان , عبر ج�سر �سكة حديد الفرن�ساوى والزراعية جنوب ًا ويتجاوز البحر القديم �شمال ًا ,محتفظ ًا بثلاثة كبارى خ�شبية �ضيقة تربط البيوت المنفلتة من الزحام بالج�سم الرئي�سى للقرية .. كان بيت جدى الذى أ��صبح بيتنا بعد انتهاء ع�صر �ستى ( أ�م العز) أ�م علام – التى كانت تحتل الن�صف الداخلى من الطابق الأر�ضى ,م�ؤكدة هيمنتها على بقية البيت من �أول الباب الفريد ذى التهاويل الخ�شبية الفاتح على ال�شارع حتى ال�سطوح العليا للدور الثانى حيث �إيريال الراديو الذى ي�شق عنان ال�سماء ملتقط ًا الاذاعة (الم�صرية وال�شرق ا ألدنى) .يقارع بمو�سيقاه و�أغانيه و�أحاديثه حدة �صوتها الذى لا تنقطع �أوامره لكل داخل �أو خارج من الدار من الب�شر أ�و الحيوانات والطيور . وانتهى بموتها ال�صراع الذى كان حا ًَدا فى الن�صف الثانى من اليوم لأن لها وحدها الهيمنة طوال الن�صف الأول من النهار ,حيث تهمد حركة الب�شر بمغادرة ال�صغار وا ألب البيت �إلى أ�عمالهم ومدار�سهم وانقطاع ا إلر�سال بطبيعته . بقية بيوت دار (عو�ض) حيث ي�سكن أ�عمامى وعماتى كانت بجوار الخرابة على م�سافة قريبة ,وعيلة دار (عو�ض) فرع من كيان كبير غير محدد 229
ويخلق ما لاتعلمون طول عمر (ميت �سل�سيل ) قرية وفدية. وفى القرى الوفدية الم�صرية كثيرا ما تنمو وتزدهر الأفكار الثورية وتتنف�س هواء الحرية والتقدم فى مواجهة �أقلية من العائلات ا ألكثر ثراء وفيها كان معظمهم يقطنون الجزء ال�شرقى منها والمعروف بـ (واطى البلد) . كانت عائلات (الق�صبى) و (قداح) و(عا�شور) و(مقبل) وكذلك (دار �أحمد) تكره الوفد على طول الخط .ويتعلقون دائما فى �أذيال �أعدائه ,من �أول ال�سراية حتى �أ�صغر �أحزاب ا ألقلية. لذلك تخلقت منهم وتحو�صلت بينهم ,كالأمبيا , خلايا (ا إلخوان الم�سلمين) و(م�صر الفتاه) وغيرهم من �أ�صحاب ا ألفكار الفا�شية والرجعية .و إ�ن ظلت 228
لديهم من الأحلام ما يجعلهم يناطحون الحياة لجعلها أ�ف�ضل .ولدى الجميع تحتدم رغبة عارمة لتعليم �أولادهم تحدي ًا للفقر .كانت (بائعة الفجل) تكدح لتوفر م�صاريف ابنها ,وكان العربجى ال�سريح وعامل التراحيل الأرزقى يذوق الأمر َين لتوفير م�صاريف تعليم ابنه فى البندر .كان الطلبة ي�شكلون ظاهرة لا يمكن تجاهلها فى ت�شريح القرية الاجتماعى وخا�صة طلبة (علو البلد) الذين �شاع خبرهم فيما حولنا من بلاد كطلبة محترفين . كانت بلدنا قبل قرار (طه ح�سين) وحكومة الوفد �أن يكون التعليم كالماء والهواء للجميع –ت�شرب وتتنف�س قدر الإمكان هواء وماء العلم , لكنها فرحت فرح ًا لا يقدر لأن ذلك القرار -الذى ت أ�خر كثيراً فى ر أ�ى أ�هلها ,وفر على الكثيرين منهم وعلى �أبنائهم مذلة تقديم �شهادة إ�دارية موثقة تعترف (بالفقر) والعوز ,مذلة كانت ال�سبيل ا ألوحد لح�صول الكثيرين على فر�صة تعليم مجانى ثمن ًا لاعتراف ور�ضا بالتدنى الاجتماعى و�إقراراً بذل الفقر والعوز . لذلك كان من الطبيعى �أن ي�سعى رجال (علو البلد) ب�شدة لفتح المدر�سة الابتدائية الأولى فى (ميت �سل�سيل) حتى قبل و�صول الوفد �إلى الحكم ,بجهود ذاتية عبقرية ت ؤ�كد أ�ن الابداع كان �سمة من �سمات ال�شعب الم�صرى ,الذى كان أ�يامها قد �صك �شعاره العبقرى (الجلاء بالدماء) !! فى تلك الأيام بالذات تعرفت على (ح�سين عبد ربه) .ولكى لا تغ�ضب أ� ؤ�كد �أننى ل�ست مت�أكداً يا�صديقى تمام ًا – ف�ضلك فى هذا .ولكنها طبيعة البدايات الغائمة التى تمتد ملامحها فى المنطقة العالقة فى �أعماق الذاكرة بين حبال التذكر وغيام الن�سيان ,و إ�ن كانت ا ألحداث �ستك�شف كعادتها دون اى ق�صد �أو تعمد ,عن دورك فى انعقاد تلك ال�صداقة التى دامت برعايتك طبع ًا – بل وفى بع�ض الأحيان رغم �أنفك – حتى نهايات العمر . 231
ا�سمه (عيلة ال�شرفا ) ي�ضم العديد من الفروع مثل (النبراوى) و(�شهاب) و(مجاهد) و(حجازى) و(طه) و(الحلو) و(نايل) و(عطا) و(الح�سنين) و(جبر) و(�شطا) و(عابدين) يختلطون فى (عل ْو) البلد بعائلات �أخرى كثيرة مثل (قنديل) و(البرمبالى) و(البراوى) و(�أبو العز) و(�أبو الف�ضل) و(الع�صفورى) و(على) و(الزفتاوى) و(رخا) و(بدر) و(عبد ربه) و (النملة) و(الع�شماوى) و(القوا�سم) و(الب�ص) و(الد�سوقى) و (�أبو م�سعد) و(�أبو دهينة) و(النحا�س) و(ا ألزرق) و(جعطيط) و(حبيب) و(الموافى) و (عبد النبى) و(ها�شم) و(زبلة) و (ال�ضهيرى) و( أ�بو الح�سن) و(العربى) و(الطنطاوى) و(البيومى) و(مطاوع ) و(الق�شلان) ومعظمهم من الملاك ال�صغار ,أ�و المتو�سطين ومن �أهل التجارة وا أل�سواق ومن �أ�صحاب الحرف وال�صنائع ,من فقهاء وجزارين و�سماكين وحلاقين وق�صا�صين حمير ونجارين وتجار وقهوجية وعربجية وباعة ومدر�سين و�صغار موظفين وعمال تراحيل . لذا كان �أهل (واطى البلد) يطلقون علينا �أ�سم �أو �صفة (!!) (ال�س َوقية) ن�سبة �إلى ال�سوق ولم نكن نعتز بهذه الت�سمية ,لكننا لم نكن نغ�ضب منها .بل كانت أ�حيان ًا مو�ضع فخر لدى الكثيرين ,وتوحي لهم بالرجولة والفتونة والخ�شونة والتمرد .بل كان ابن عمى عبد الحليم (عبد الرحمن) وهو فلاح انقطع عن الدرا�سة بعد �أن نال ق�سط ًا متوا�ضع ًا كافي ًا �أن يميزه عن ا آلخرين وي ؤ�هله ل�شراء جريدة (الم�صري) بانتظام ..وليعطيه الحق أ�ن يطلق علينا �سكان هذا الجزء الحى من القرية بكل ب�ساطة وتعال – ال�شعب (الدمهاء)!! وبالرغم من �أن حدود العي�ش فى الغالب ا ألعم كانت �ضيقة كحدود الرزق فى علو البلد إ�لا أ�نهم جميع ًا (مي�سورين و�أرزقية) كانوا طموحين 230
�أفندى عا�شور) العمدة .وطبعا كان هناك آ�خرون –بين بين -تطوح بهم الظروف ال�سيا�سية والاقت�صادية فيما بين ه�ؤلاء و أ�ولئك مثل (محمد أ�فندى العزبى) وال�شيخ(ح�سن أ�بو م�سعد) وال�شيخ(على الد�سوقى) كبير عزبة الدقون .وطبع ًا كان يتخلل هذا الن�سيج متمردون على الت�صنيف والت�سكين لكنهم حا�ضرون ولهم ح�ساب عند الجميع �سلب ًا أ�و �إيجاب ًا – مثل (مجاهد أ�حمد طه) و(العدل مجاهد) و(ح�سن �أبو م�صطفى) و (�أبو ن�ضارة) و(ال�سيد الغرباوى ) و(محمد ال�سقا) و (�إبراهيم رخا) و(ي�سن �أفندى) و(ال�سعيد حمزة) . اقول (رجالات) ألتجنب كلمة (�أعيان) التى كان لها مدلول �أقت�صادى و�سلطوى طبقى آ�خر فى أ�دبيات تاريخ تلك الفترة .فلم يكن (رجالات) (علو البلد) جميع ًا من أ��صحاب الملكيات الزراعية الكبيرة , ولا كانوا كلهم ر�ؤ�ساء عائلات كبيرة يكت�سبون من خلالها مكانتهم .قد ينطبق هذا ب�شكل أ�كبر على بتوع (واطى البلد) ,فـ(توفيق بك قداح) أ�و( أ�حمد �أفندى الق�صبى) و(ح�سين بك عا�شور) مثل ًا ,يمتلك كل منهما على ا ألقل ما يقرب من مائتى فدان ..و إ�ن كان معظمهم لا يقع فى زمام (ميت �سل�سيل) فقلل ذلك من نفوذهم على فقرائها ّ!. �أما بتوع (علو البلد) فلم تكن لمعظمهم ملكيات كبيرة ملحوظة , بل كان بينهم من لم يكن يمتلك أ�ر�ض ًا على ا إلطلاق � .أو من كان مجرد �صاحب دكان وتجارة مميزة كالخ�شب �أو الجاز �أو تاجر �أقطان (مو�سمى) �أو (تاجر �أقم�شة) أ�و مقاول عمليات أ��شغال أ�و تاجر حبوب .ومنهم من كان �صاحب عقل راجح ,أ�و كبير عائلة كثيرة العدد �أ ْوكل له رجالها التحدث با�سمهم ,مثل عائلة (القوا�سم) �أو (الع�شماوى) � ,أو كان مجرد �صاحب وظيفة لها هيبة ومكانه مثل �شيخ الجامع (�أبو بكر) ,ومتعلم 233
كان (كامل أ�فندى م�صطفى عبد ربه) أ�و (م�صطفى كامل �أفندى م�صطفى عبد ربه ) الذى أ�خذ ا�سمه على ا ألرجح تيمن ًا با�سم الزعيم ال�شاب ,م�شعل �شمعة الوطنية فى ليل الهزيمة بعد (هبة عرابى) – والد (ح�سين كامل م�صطفى عبد ربه) واحداً من (رجالات) (ميت �سل�سيل) .ولي�ست (رجالات) هذه تعبيراً أ�دب َي َا (من وقتئذ فقط) و�إنما هو تعبير عن حقيقة �أو ظاهرة لا يمكن تجاهلها .ولعلها كانت ظاهرة عامة فى كثير من قرى ا ألربعينات نعم �أ�شهد أ�نه كان هناك (رجالات) فعل ًا . فـ(كامل أ�فندى عبد ربه) وال�شيخ(على �أبو الح�سن) وال�شيخ( مجاهد أ�بو د�سوقى ) و(محمد أ�بو على أ�بو عابدين) وال�شيخ( أ�بو بكر) �شيخ الجامع الكبير و(عبد الرءوف أ�فندى) وال�شيخ (�شطا) وال�شيخ (محمد �أبو مجاهد) و(عبد الباقى أ�فندى عو�ض) وال�شيخ (�أحمد �أبو ح�سانين) و(جاد �أفندى عبد النبى) و (محمد �أفندى الطنطاوى) و (ال�شيخ( عوي�ضة �شهاب) و(ح�سن أ�بو موافى) و(محمد أ�بو د�سوقى النملة) وال�شيخ(على أ�بو على الأمير) وال�شيخ (عبد الحليم النبراوى) و(ال�سيد أ�بو �سيد) و(محمد �أبو نبراوى) و(عبد الجليل النبراوى) و(محمود �أفندى �شطا) كانوا وغيرهم ممن تعجز ذاكرتى عن �إ�ستح�ضارهم جميع ًا (وقد ي�أتى ذكرهم مع توالى ا ألحداث التى من �ش أ�نها إ�نعا�ش م�ضادات الن�سيان) كانوا هم رجالات (علو البلد) وطبع ًا كان هناك مثلهم فى (واطى البلد) يجبرنى روح العدل – التى ربيتنى عليها يا�صديقى – أ�ن �أذكرهم وال�شئ بنقي�ضه يذكر نعم كان لـ(واطى البلد) رجالاتها �أي�ض ًا بالطبع ولكن مع الفارق الذى لم �أ�ضعه �أنا . كان هناك (توفيق بك قداح) و(�أحمد بك الق�صبى ) و(محمد أ�بو مقبل) و(م�صطفى أ�فندى مقبل) و(ح�سين بك عا�شور) و ( إ�براهيم العزبى) و(عرفات الغندور) و(�أحمد أ�بو �أحمد) و(عو�ض قداح) و (ن�صر 232
اللازم ؟ �أو ألننى ن�سيت البع�ض ؟ أ�نا �أذكر معلومات لا ر�أي ًا لنختلف ,فلماذا تعتر�ض ؟� ..أنت الذى علمتنى أ�ن �أحترم الب�شر ,خا�صة عوام النا�س من الرجال والن�ساء فلماذا تغ�ضب ,أ� ألننى أ�ريد �أن أ��ؤكد فكرتك �أن ا إلن�سان هو أ�ثمن ر�أ�سمال ؟ و�أنه فى �أيامها رغم الاحتلال والملك وال�سراية والخيانة ...كان الرجال يت�صدون لا بالكلام فقط ,ولكن بالفعل وبالجهد .وكان لهم اعتبار ومكانة كبيرة لي�س لدى اهلهم فقط �أو لدى قراهم فح�سب , ولكن الكل كان يعمل لهم أ�لف ح�ساب عند الحكومات ,حتى حكومات ا ألقلية .وعند ا إلدارة كان �صوتهم م�سموع ًا ي�صل لقمة الجبل ا إلدارى – لاحظ أ�نهم لم يكونوا رجال ًا فى خدمة ال�سلطة كما يحدث الآن � .صدقنى – انزل �أى قرية م�صرية ا آلن لن تجد مثلهم � ,إلا �أولئك الجال�سين على حجر التنظيم الر�سمى �أو الحزب الحكومى أ�و أ�جهزة الأمن ,و �ستجد مثلهم مقهوراً مقموع ًا مطارداً إ�لى الهام�ش يبحث عن ظل حيط .و إ�لا قل لى بربك :لماذا اختفى (الطلبة) كظاهرة ثورية من حياة قراهم و�صاروا مجرد �آحاد� ,أعداد � ,أرقام ,خيالات ظل ؟ ولم يعد يظهر لنا مثل ه�ؤلاء (الرجالات) التى كانت تقود القرى وتن�سى ما بينها من خلافات �سيا�سية �إذا تعلق الأمر ب�إنجاز أ�و تحقيق م�صلحة لخدمة القرية ؟� ..سك َت ..طبع ًا . ولعلك فهمت لماذا �أذكر كل هذه الأ�سماء فى معر�ض حديثى عن علاقتى بــ(ح�سين عبد ربه) تلك التى بد أ�ت – كما لا �أتذكر – على يديك ,ولكن اعذرنى هذه حيلة رديئة من حيل الكتابة .وعلى فكرة حتى ولو �أنكرت, �أنت الذى علمتنى اللجوء إ�لى مثلها �ضمن ما علمتنى من عادات �سيئة ! الحارة الغريبة الثعبانية ت�ستدق وت�ضيق فى معظم أ�جزائها حتى ت�صبح مجرد زقاق يتعمد تق�سيم (ميت �سل�سيل) ق�سمة جغرافية غريبة ,تكاد تتفق 235
�صاحب �شهادة – مدر�س مثل (محمود �أفندى �سالم) و (ي�س �أفندى) او رجل طيب على قده مثل عم(ال�صديق ال�صح�صاح) �أو رجل مهمات �صعبة مثل (�إبراهيم أ�بو رخا ) �أو (ال�سيد الكداب) و إ�ذا مددنا الخطوط على آ�خرها ف�سوف ن�صل إ�لى رجال لا يمتلكون من �ضهر الدنيا �شيئ ًا ي�صنع جاه ًا أ�و نفوذاً فى أ�عراف ذلك الزمان .لكن البلد لايمكن �أن تتجاهلهم إ�ذا ما �ألمت بها كارثة � ,أو اندفعت لتحقيق �شئ قيه م�صلحة عامة � ,أو درء م�صيبة فادحة كبناء مئذنة الجامع المنهارة أ�و ا�ستكمال ف�صل ثالثة ابتدائى على الأقل ,والح�صول على وعد بال�سنة الرابعة قبل البدء بت�أ�سي�سها , �أو بناء مقر للإخوان الم�سلمين � ,أو مواجهة الوباء �أو ردم البركة �أو �إزالة الخرابة ,وبيع أ�ر�ضها لي�ساعد ثمنها فى بناء المدر�سة الجديدة .يوم ي�ضيق بيت ال�شيخ (على ابو الح�سن) على تلاميذ البلد الذين يتكاثرون بمتوالية هند�سية – وغير ذلك -خا�صة �إذا ما �سمحت الظروف أ�و حتمت حدوث انتخابات حرة أ�و غير حرة في�ستنفرون لتعلن (ميت �سل�سيل) ر�أيها الوفدى دائم ًا رقم مقاوحات (واطى البلد) . وكان من ه�ؤلاء مثلا (�سعد الطنطاوى) الزجال و(احمد �أبو جبر) و(عبد الحميد عثمان) و(ال�سعيد ال�ضهيرى) و(م�أمون عبد الحى) ال�ضابط الذى حكم عليه بالاعدام بعد الثورة و(الخواجه �سبيرو) ناظر المحطة وال�شيخ(محمد أ�بو عبد الله) و(�شاكر أ�فندى الدغيدى) وطبع ًا (يو�سف أ�فندى عبد ربه) و (محمد عبده ح�سنين) اللذين كانا على أ�يامها من ال�شباب الناه�ض –الذى ظهرفى القرية بعد الحرب العالمية محمل ًا بافكار وخبرة (لجنة الطلبه والعمال) و(الطليعة الوفدية) – وما أ�دراك لماذا �أ�شعر أ�نك تتململ وتكاد تنفجر غيظا ؟ هل ألننى �أثرثر �أكثر من 234
الحركة لا تهد�أ ولا تهمد ولا تنام فى النهار كما فى الليل مثلها مثل دكاكين (علو البلد) التى كان لكل منها طابع المنتدى الليلى . دكان (محمود �شطا) مجل�س جماعات ال�سيا�سة الوفدية ,ودكان (محمد النحا�س) ملتقى ال�شباب من الطلبة ,ودكان (جاد عبد النبى) ودكان ( ال�شيخ �شطا) ,مجل�س أ�هل العقل والحكمة ممن هم فوق ا ألربعين . وبرغم ذلك جاء وقت �ضاقت فيه �شعاب (علو ميت �سل�سيل) باهلها المتكلمة فظهرت عدة نوا�صي وم�صاطب ت�شتبك فيها وتحتدم عليها ا ألحاديث ال�صاخبة وال�سمر الهادئ ,كما انت�شرت إ�لى جوارها منتديات ع�شوائية فى أ�ماكن مختلفة . عاي�شنا ذلك منذ ال�صبا ,واعتدنا هذا ال�ضجيج المحا�صر بظلام ال�صمت بعد حراك الم�ساء والذى لا يهد�أ ولا ينى ي أ��سرنا ويجذبنا كالفرا�شات ,ويندفع البع�ض منا للاقتراب فى ت�شوف ,م�صطنع ًا الجدية ,ثم منده�ش ًا منفعل ًا ثم م�شارك ًا ,إ�ن كان له ثمة قرابة �أو انتماء لبع�ض الممار�سين الكبار ,وقد يجد الفر�صة للاندماج ح�سب �سنه طبع ًا ,وح�سب طبيعة المو�ضوع ,ولياقة التدخل ولو ب�س ؤ�ال . على خ�شب بنكات الدكاكين وعلى ترابيزات المقاهى ,بل وعلى التراب وفى ال�ساحات والنوا�صى ,كم ُر�سمت الخرائط ,وو�ضعت الخطط لتحركات جيو�ش (هتلر) والمحور ,ولتجمعات قوات الحلفاء ,وع�صابات (البارتيزان) ,والمقاومة الفرن�سية ,وكارثة تقهقر (الجي�ش ا ألحمر) أ�مام النازى ,ثم عودته لاكت�ساح (ا إللمان) فيما بعد و�أ�ساطير (�ستالينجراد) ورجال الأن�صار الحمر !! وكم ا�ُستخدمت قطع الدومينو أ�و الزلط أ�و ا ألحجار �أو �أى �شئ متاح للدلالة على مواقع (رومل) و (مونتجومري) 237
مع ق�سمتها الاجتماعية إ�لى (علو وواطى البلد) .الحارة تبد أ� من الجنوب حيث البركة ,عند نهاية مخزن محطة القطار ومبنى جمعية ا إلخوان الم�سلمين الذى �أقامته القرية عقب خيبة �أملهم فى الوفد عقب ( 4فبراير) ,ثم تندفع �شمال ًا فى �صعود حاد لتف�صل بين بيوت ( آ�ل جعطيط) ,و(الغنادرة) و ( آ�ل مقبل) إ�لى جوار (دار �أحمد) موا�صلة �صعودها مخترقة عدة و�سعايات ,وتتقاطع مع �شارع ال�سوق ثم ت�شقه فى حدة ما بين إ�حدى دور آ�ل (رخا) ودار (م�سعد) ,لتهوى فى انحدار حاد ملحوظ نحو معدية (عزبة الدقون) هذه الحاره التى �شق بها القدر (ميت �سل�سيل) بالعر�ض ,تجعلك تلاحظ بقوة أ�ن �شرقها حيث (واطى البلد) تكاد تختفى فيه كل حركة ر ْجل ,ليلا ويخر�س كل �صوت ,فلا يوجد مقاهى �أو دكاكين �ساهرة فى كل هذا ال ِعب الذى ينتهى عند (ترعة الجوابر). فيما عدا (من أ�جل خاطر عيون الحقيقه ) دكان (عم خلف) الذى يعتلى انحداراً �آخر حاداً نحو البحر ,ت�صل الحركة لدرجة ال�سكون فى معظم �شوارع وحوارى (واطى البلد) . أ�ما فى (علو البلد) فالأمر على العك�س � .إذ تقع فيه كل مقاهى (ميت �سل�سيل) ودكاكينها وور�ش مهنها المختلفة ,التى تتكد�س إ�ما على المحطة �أو على جانب الجزء الغربي والأو�سط من �شارع ال�سوق ,فى دهاليز و�سراديب �شوارع (علو البلد) وحواريها قهوة ( أ�بو را�شد) وقهوة(ال�سعيد حمزة) وقهوة( �أحمد النادي) وفى ال�سوق قهوة(ح�سن �أبو م�صطفى) وقهوة (العدل مجاهد) على المحطة .وقد راج �ش أ�نها ,بعد �أن ا�شترك هو و(مجاهد أ�حمد طه) فى إ�قامة �سينما (ميت �سل�سيل) مواكبة �أوفى مواجهة النكبة ,ف�صارت المحطة بف�ضلها ت�شغى بالب�شر والأ�صوات .و�صارت 236
على �أل�ستنا �صغاراً وكباراً أ�غنية (على ياعمر ارفع العلم ل ألميرة فوزية وا ألمير إ�يران) . التحقنا �صغاراً بمدر�سة ال�سيا�سة الحرة هذه على الم�صاطب والنوا�صى فى م�ساحات ال�ضوء التى ت�سكبها كلوبات الجاز أ�م رتينة فى الليالى التى بلا قمر ,تبدد ظلمات الليل والجهل وتدفعنا دون وعي كامل للاحتفاء با�سماء و�صور �أبطال تلك الحروب ,من (فل�سطين) �إلى (ال�صين) والاحتفال با�سماء الزعماء( ,النحا�س زعيم ا ألمة) ,و (�ستالين بطل �ستالينجراد), وكذلك ا إلعجاب بمناورات (روميل ثعلب ال�صحراء) ,وحكايات �أبطال الفالوجة ,واعتقالات ا إلخوان الم�سلمين ,وحواديت ملك م�صر وال�سودان ,والع�سكرى ا أل�سود ,والعجوز (م�صدق) الذى أ�مم بترول إ�يران ف�صار عندنا فى معزة (النحا�س ) الذى الغى المعاهده ب أ��سم الامه. و�سمح للفدائين بالذهاب �إلى القناة لقتال الانجليز ,مما دفع و�شجع (ح�سين عبد ربه ) ,على الهرب من منزله لين�ضم للمقاتلين ,وهو لم يبلغ الرابعة ع�شر بعد ,فقلب كيان البلد ,وغزا ا�سمه م�ساحات الكلام فى مقاهيها ودكاكينها ,و�ساحات ال�ضوء فيها لأ�سابيع لي�ست قليلة .وثبتت له مكانة فى قلوب الطلبة والنا�س � ,إلى أ�ن عرف والده مكانه فى (الق�صا�صين), فذهب وعاد به مظهراً �أ�شد مظاهر الغ�ضب بينما هو فرحان فى �سره ولكن لي�س لمثله من رجالات البلد ال�صارمين �أن يظهر فرح ًا لنزوة ولد جاهل مراهق . ••• 239
,و(ديجول) ,و (�ستالين ,و(ت�شر�شل) ,و(�شكاي �شيك)! تتناثر على ا ألر�ض غ�ضب ًا �أو زهق ًا �أو ا�ست�سلام ًا ح�سب طبيعة الاختلاف ,وحدة موقف كل متكلم . طوال (الأربعينات) وحتى �سنة (اثنين وخم�سين) وجدت هذه التجمعات ما تخو�ض فيه بكل حما�س ,عن الحرب العالمية الثانية , وحرب الحب�شة و إ�يطاليا ,وكوريا� ,أو ذكريات الحرب العالمية ا ألولى وثورة 19ومواقف ال�سلطات المختلفة إ�ذا ما احتاج الأمر �إلى �ضرب ا ألمثال : إ�لى ف�ضائح (الملك فاروق) وق�ص�صة ,وحكايات (نازلى) و (فريدة) , و(�أحمد ح�سانين) ثم زواج (فتحية) و (غالى) و (ناريمان) ,كل هذه ا ألحداث وال�شخ�صيات كانت تطرح �أر�ض ًا على تراب ال�ساحات وعلى أ�خ�شاب المنا�ضد لت�أكيد الجدل المحتدم والنقا�ش الذي لا ينتهى . حتى فى �أيام الملاريا ,وبعدها الكوليرا ,لم تنقطع هذه المجادلات ال�صاخبة حول �أ�سباب الوباء وطرق العلاج الكافى ال�شافى ,وما لليمون من فوائد فى علاج كل تلك الأرزاء. فتاوى و�آراء ي�شارك فيها حتى من لي�س له فى الطور ولا فى الطحين. ولما حلت حرب فل�سطين ,أ�خذت المجادلات والمناق�شات ت�شتد وتحتد , وتفاخر �أو ت�سخر من اجتماعات ملوك ور�ؤ�ساء الدول العربية ,وتحركات الجيو�ش ,والأ�سلحة الفا�سدة والفدائيين ,ا�ستخدمت هذه المرة �أ�سماء مبتكرة لك َل ما ينا�سبه . فـ(عبد الهادى) كلب الوادى و(عبد الله ) جون بول و(ال�ضبع ا أل�سود) (ال�سيد طه) واللواء (المواوى ) الفلفل والملح �أبطال (الفلوجة) والبطل( أ�حمد عبد العزيز) وما ن�سج حولهم من أ��ساطير ن�ضالية فاقت �أ�ساطير و أ�غانى زواج ا ألميرة (فوزية) من (�شاه �إيران) .حيث انت�شرت 238
القديمة ،أ�كثر ما كان يميزها تلك الجميزة القديمة المعمرة التي تعتليها في �سطوة وا�ضحة كرمة عنب (بز الناقة) .كنا نظن أ�ل َّا �صاحب لها ولذا كانت عناقيدها الفذة غنيمة مغرية لنا في أ�ي وقت . كنا نغزوها �صغا ًرا في جماعات كغربان الحقول ،معر�ضين أ�نف�سنا لمطاردات عنيفة -عفاريتية مجهولة من �أي من كان ،وغال ًبا ما كانت تنتهي تلك المطاردات ب�سقوط �أحدنا في تلك البئر الدوامة المياه ،فتنقلب المطاردة أ� ًّيا كانت وح�شيتها إ�لى ت�ضامنية رائعة بين المطارد الغا�ضب والمطاردين المذعورين لإنقاذ ال�ضحية ،التي كان ُيعتقد اعتقا ًدا را�س ًخا أ�نها يمكن �أن تغو�ص به فلا تظهره -ح�سب اعتقادنا -إ�ل َّا في الجانب الآخر من الكرة الأر�ضية !! يو ًما ما �ستمتد بيوت دار (عبد ربه) فيما يلي ال�سراية على ال�شاطئ الغربي للترعة ،الذي تحجبه وتحجبها غابة هائلة من الغاب البلدي ،ترتفع متما�سكة كجدار حاجز ي�ستر �سو ًرا من النباتات ال�شائكة يحيط ال�سراية ، ويمتد حتى بيت (ف ؤ�اد عبد ربه) يليه بيت (�إبراهيم عبد ربه) �أو (ف َّلتيهما) �إن �شاء الله .قبل أ�ن ي ؤ�ول ا ألخير إ�لى الأ�ستاذ (�إبراهيم العزبي) مدر�س اللغة الإنجليزية وزوج �أختهم . وبعدها كانت م�سافة خالية عامرة ب�أ�شجار الخوخ والبرتقال والنخيل والعنب ،حيث الم�ساحة التي �سيقام عليها بيت (م�صطفى أ�فندي كامل �أو كامل أ�فندي م�صطفى) ا ألخ ا ألكبر .ولم يكن م�سمو ًحا لأحد غيرهم (�آل عبد ربه) ومزارعيهم بالمرور على ذلك ال�شاطئ ،خا�صة �أن (يو�سف عبد ربه) �سيبني بي ًتا له �شمال ال�سراية بعد خرابها ،وي�صبح من ال�ضروري اقتحام حرمته للمرور على المدق النحيل المح�صور في ما بين ال�سور الكثيف ال�شائك وغاب ال�شاطئ الخا�ص . 241
ي�سقى بماء واحد ... كانت بيوت (دار عبد ربه) تقع في �صف واحد على ال�شاطئ الغربي لترعة (ال�سلطان) .في الم�سافة ما بين البحر القديم الذي يبد�أ من نقطة مجهولة ما بين (الكردي) و(المنية) في الغرب من غيطنا المعروف بغيط (ال�سباخ) والذي كان ينتهي ملتق ًيا بالبحر (الترعة) الأكبر منه قليل ًا ،الذي يبد�أ من (البحر ال�صغير) أ�و البحر الجديد .كما �أطلقنا عليه عند ما يعرف (بالمغذي) ولكنه في نقطة ما ، بين بداية (عزبة ال�سلطان) و(�سراي عبد ربه الكبيرة) وبيت (�أبو دهينة) ،ي�صنع ما ي�شبه اللغز .حيث يختفي طرفه فج�أة تحت الأر�ض في مقابل بئر �ساقية مهجور مبني ب�صخور تاريخية عتيقة بازلتية �سوداء، ت�شبه ما تر�صف بها بع�ض �شوارع (المن�صورة) 240
يتنفذ .نقوم نعطله إ�حنا ،لا �إله �إلا الله!... -محمد ر�سول الله يا �شيخ علي ... قاطعه (ح�سن موافي) وهو يفز فار ًدا ركبته التي كان يثنيها تحته : -إ�نت يا �شيخ علي اللي بتقفلها .فيها �إيه لما يفتحوا ف�صل �سنة ثالثة ونريح البلد ونريح ولادنا!! ب�شروا ولا تنفروا يا مولانا . غ�ضب (ال�شيخ علي) : -أ�نا اللي (نفروا) والا أ�نت ع�شان ابنك وابن عبد الباقي ,عاوزين تعطلوا لنا فتح المدر�سة من أ��صله ..فيها إ�يه ا َّما نحمد ربنا على اللي ح�صل وما ن�ضيع�ش الفر�صة .وطبيعي ح يبقى فيه ثالثة ال�سنة الجاية ..و�إذا عيالكم لا قدر الله �سقطوا يدخلوها .. �ضحك بع�ض الحا�ضرين لكن ا ألغلبية ا�ستنكرت ما قاله . كانت عادة تر�سخت ملامحها في (ميت �سل�سيل) من عهد بعيد ، كانوا يتداعون بعد �صلاة الجماعة ،كلما ا�ستدعى الأمر ذلك أ�و طلبت م�شكلة حل ًا ،كان أ��صحابها ي�سرعون قبل ان�صراف الم�صلين ويطرحونها عليهم .وتتم مناق�شتها بح ًثا عن حل .وكان الأمر في بع�ض ا ألحيان يحتاج لعدة �صلوات للو�صول لر أ�ي م�شترك . وقام (عبد الباقي أ�فندي) في �ضبط نف�س لم يتعود عليه وهو يقول : -عيالنا م�ش خايبة ع�شان ت�سقط .والمجل�س ح يوافق ح يوافق على الف�صل ،ب�س انت ريح نف�سك يا �شيخ واطلع منها ،أ�يوه يا �سيدي تفاءل معانا (ولا تنفروا) يا �شيخ علي وقادر ربنا يا �سيدي يكرمك ولا ي�سقط لك عيل ! قام (ال�شيخ علي) منتف ً�ضا وهو ي�شوح غا�ض ًبا من تلقيح (عبد الباقي) القا�سي : 243
ورغم هذا التجاور المح�صن بحرمة ال�شط والحدائق المثمرة التي ت�ضم المنطقة � ،ست�صبح العلاقات بين الأ�شقاء -الجيران -مقطوعة �إلى درجة �شبه عدائية م�ستترة وخفية �إلا على الحميمين من ا ألقارب والأ�صدقاء .وهي �سمة لي�ست غريبة نراها كثي ًرا في العائلات الكثيرة العدد ،حين تتمزق بينهم الملكية الموروثة بعد وفاة الرجل الكبير الذي أ�عطاهم ا�سمه ،بما يهدد العز الفخيم الذي كانت ت�ضمنه ملكيته الكبيرة التي كتب عليها ب أ�ن تنق�سم ح�سب ال�شريعة بين الإخوة الأ�شقاء �أو غير ا أل�شقاء ،المعترف بهم وغير المعروفين ،خا�صة عندما تك�شف الوفاة عن روابط وعلاقات ملتب�سة ومركبة ومعقدة .ويدخل الأمر في الغالب بعد الف�شل الم�ؤكد للمحاولات العرفية ال�سلمية � ،إلى �سراديب المحاكم و أ�لاعيب القانون مخلفة آ�ثا ًرا عدائية تمتد ألجيال و�أجيال .. و إ�ن ظلت ال�سراية والأر�ض محتمية بقدر هائل من الرهبة والغمو�ض ، قائمة في ما بين البحرين (بحر ال�سباخ) و(الترعة) ذات ال�شاطئ الغام�ض، في مواجهة كرمة العنب (بز الناقة) وجميزتها المنحنية لق�ضاء الله فوق البئر المفزعة .وفي مواجهة العزبة ،التي احتمى �ساكنوها بم�سجده ،ذلك (ال�سلطان) الذي كان آ�ل (عبد ربه) يدعون انت�سابهم �إليه � ..سلطان إ�يه ؟ لا �أحد يعرف ! -إ�نت أ�ح�سن حاجة تقوم تروح يا (عبد الباقي أ�فندي) بالك�شف لكامل �أفندي وهو ح يحلها. اعتر�ض (علي أ�بو د�سوقي) : -ما تف�ضوها �سيرة وكفاية مجل�س المديرية وافق على المدر�سة� ،أولى وثانية ،فيها �إيه؟ لو ح تطلبوا ف�صل �سنة ثالثة ح تعطلوها! القرار �صدر وح 242
يوم ًّيا في ال�شتاء مع أ�ذان الفجر في عز البرد لكي أ�لحق (ديزل) ال�ساد�سة �صبا ًحا وكنت �أركبه مجا ًنا ف�أنا (ابن �أخت فتوح أ�فندي) و أ�وفر ن�صف القر�ش الذي �أدفعه للأتوبي�س .إ�ذا ما فاتني الديزل � .ساعتها تع�صر قلبي احتمالات ت�أخر ا ألتوبي�س ب�سبب المطر �أو م�شاكل الطريق غير المر�صوف والترب�ص الدائم (لها�شم أ�فندي) مدر�س ا أللعاب بالذين يت أ�خرون منا إ�لى ما بعد �صرف طابور ال�صباح وتحية العلم . كانت تتناو�شني و أ�نا �أهرول خلف �أبي المتعجل م�شاعر غام�ضة حيال ال�شاطئ الغربي لترعة ذلك (ال�سلطان) ..كنت �أظن أ�ننا ذاهبون إ�لى (ال�سراية) فغمرتني ذكرى زيارة ما -ذات يوم �أثناء الحرب الم�شتعلة بين (الإنجليز وا أللمان) فوق أ�ر�ض و�سماء م�صر .كان يقيم عندنا �أقاربنا من الإ�سكندرية ،المهاجرين �إلينا من خطر القنابل الألمانية و�صواريخ (زبلن) ( ..كان الا�سم �أيامها موح ًيا وله في نف�سي �صدى لغمو�ض �ساحر مثير يجعلني �أردده بين م�شاعر الإعجاب والخوف) .يومها ا�صطحبت أ�مي كبرى ا ألخوات الثلاثة اللاجئات إ�لينا ،في زيارة مجاملة وتعارف للهانم �ساكنة (ال�سراية) .وذهبت معها (�إذ لم يكن من اللائق �أن تقوم الن�ساء بزيارات نهارية في ظل الحرب أ�و ليلية طب ًعا ،دون �أن ي�صحبهم (رجل) حتى لو كان طفل ًا يدر�س في مدر�سة للبنات بطريقة غير ر�سمية . لم تكن (ال�سراية) قد خربت بعد طب ًعا �إلى هذه الدرجة ولم يكن (يو�سف عبد ربه) قد بد�أ بناء البيت الذي احتل الجزء ال�شمالي من حديقتها المثمرة الغام�ضة ... تقدمتهما في جدية �أنادي على الجنايني .كنت أ�عرف أ�نني منتدب لمهام منها الزعيق ب�صوت عال فلا يليق بالن�ساء ال�صياح كما فعلت . 245
-القعدة بقت ما�سخة � ...أنا ما�شي ... قال (عبد الجليل النبراوي) في حزم : -ما تهمد يا �شيخ علي ..إ�نت لا لك ولد في ثانية ولا في ثالثة و�أبو موافي ح يح ِّول لابنه من دمياط مخ�صو�ص مع �أنه مرتاح هناك عند �أخته ع�شان يكمل الك�شف .و إ�يه المانع يبقى ابنه تحت جناحه ؟ قال ال�شيخ علي م�ص ًّرا على الذهاب ... -القرار بيقول لازم الف�صل يبقى 22تلميذ على الأقل ..والك�شف حتى بابن ابو موافي يا دوب . 16ح تعملوا إ�ليه في الباقي يا �سي عبد الباقي افندي !! ف أ�خرج (عبد الباقي أ�فندي) الك�شف وفرده �أمام الجميع قائل ًا : -الك�شف فيه �أ�سامي 18تلميذ معانا طلبات و�إقرارات �أولياء أ�مورهم .وفيه ولدين من (الكفر) بكرة إ�ن �شاء الله ح نجيب موافقة �أولياء أ�مورهم (كمال ابن طاهر الهواري) ...وولد (لل�سيد الجعلي) ..ما باقي�ش غير اثنين .. -خلا�ص يا عبد الباقي افندي .إ�نت ب�س تروح لكامل افندي وتعر�ض عليه المو�ضوع وهو يقدر يقنع (الكرادوة) و�أكيد ح تتحل � ،إلحقه قبل نومة القيالة روح . م�ضى (ال�شيخ علي) وهو يلوح بذراعه محت ًجا ويغمغم في قرف : -كل واحد ه ُّمه م�صلحته وب�س! مج�ذصبنم�ي أ�صباليبعم�نضذ�رشافعاييفهومهتعو يجقًبافدو..نقأ�ائنليًان :طق ... أ�نا رايح أ�لحق كامل افندي ،وادعوا لنا يا اخوا َّنا .واقروا لنا الفاتحة بنية �صافية ح تتحل ان �شاء الله ... م�ضيت مهرول ًا وراء أ�بي أ�لاحقه ب�صعوبة و�أنا أ�ح�س بامتنان له كبير ، وب�إعجاب غير محدود به و أ�نا �أراه يبذل كل هذا الجهد لراحتي ..ولم �أفهم لم يعتر�ض (ال�شيخ علي) على اهتمام ا ألب براحة ابنه ؟ ..كنت �أ�ستيقظ 244
حا�س ًما تردد �أمي و�ضيفتها ف�صعدتا خلفي ال�سلم الرخامي العتيق العري�ض الذي فقدت إ�حدى درجاته ن�صفها بفعل الزمن . وقفنا �أمام الباب ال�ضخم الم�شغول بتهاويل حديدية معقدة ،تغلف وت�ؤطر �ضلفتين هائلتين ،ثلثهما ا ألول من خ�شب مهول منحوت عليه نحتا بارزا يمثل (�سب َعين ) ،كل منهما ي�ضع إ�حدى قدميه ا ألماميتين على غزال �صامت .لو كنت �أملك كلمة ال�سر ال�سحرية لا�ستعطت أ�ن أ�رفع قدم ال�سبع عن الغزال ،ولظهر مدخل الجب الذي به (الخاتم أ�و الم�صباح) . تجاهلت ح�سرتي لعدم معرفة كلمة ال�سر .و�أخذت أ�ت أ�مل ثلث الباب الممتد إ�لى ال�سماء مزخر ًفا بزجاج رائق من �ألوان عديدة ،و�إن �سقطت أ�جزاء من زجاج �ضلفته الثابتة .محد ًدا في ق�سوة امتدادها الذي بدا لي في البداية، ممت ًدا بلا نهاية . وجدتنا في قاعة عالية ،محاطة ب أ�بواب �ضخمة ،حول أ�ر�ض لامعة لا ت�شبه �صالة ال�سرايات ا ألخرى ،فهذه يتو�سطها �سلم له درابزين من خ�شب م�شغول .وعلى كل درجة بقايا قطع لامعة من نحا�س كالح الخ�ضرة . كانت في زمانها تلمع .وعلى ما عرفت فيما بعد كانت تم�سك ب�سجاد فاخر يغطي ال�سلالم .. �سبقتنا مهرولة إ�لى �أعلى امر�أة فلاحة عادية ،تت�سابق كلمات الترحيب مه�شمة على �شفتيها وهي تقودنا �صاعدة إ�لى حيث (ال�ست الكبيرة) . حين دلفت من الباب لم أ�ر �شي ًئا � .أع�شى عين َّي �ضوء ملون ي�شع من خلف الكتلة الرمادية الغام�ضة المكونة من عدة كرا�سي �ضخمة مذهبة تمتد أ�مامها في هدوء �سجادة كالحة عليها ر�سوم لغزلان وع�صافير . بدت لي ال�ست تحت ال�شباك البحري الكبير -المكون من الزجاج الملون من عالم �أ�سطوري ،ر أ�يته في مكان ما ( ،ف�ضاء ف�سيح تن�سدل على 247
فتح لنا رجل م�سن عتيق غام�ض ظهر فج�أة �أمامي ف�أفزعني ك�أنه �شبح �شيخ خارج للتو من قمقم إ�حدى حكايات أ�لف ليلة .فهذا الب�ستان (الجنينة) الم�سكون بالجنيات والحوريات كان دائ ًما مركز ت�صوراتي عن جناين حواديت خالتي ،عمامته المعقدة الكالحة المتربة ،ثوبه البالي المعقود حول و�سطه كا�ش ًفا عن �ساقي �شجرتى جوافة أ�و عنزة جرباء ..بالإ�ضافة �إلى لحيته الطويلة الرمادية التي ت�ؤطر في غمو�ض وج ًها جا ًّفا تبرق فيه عينان ثعلبيتان (جحاوتين)� ،س َّمرتني هيئته على الت ِّو حين فاج أ�تني لهجته ت�س أ�لني ب�صوت �صاعد من جب عميق عمن �أريد . ت�صورت معه �أن (مق ًّ�صا مهول ًا �سوف ينق�ض ليق�ص طرف ل�ساني) حين أ�بوح بما أ�ريد ،لكني تمالكت نف�سي فور ر أ�يته يفتح البوابة مبت�س ًما قبل �أن يعرف من نحن .ولما عرف �أننا من نحن و�أننا في زيارة إ�لى ال�ست الكبيرة ،ت�سابقت كلماته المرحبة ترع�ش لحيته الم�سلوبة بطريقة م�ضحكة تليق (ب أ�بي نوا�س) .تما�سكت ولعبت ب�صعوبة دور الحادي � ،أقود �أمي وقريبتنا (تانت �سعاد) �إلى الأمام وك�أنني �أعرف المكان منذ قديم الزمان . لم يكن �شكل ال�سراية الهائلة ذات الدورين الكاملين والنوافذ الطويلة غريبا عل َّي فقد دخلت مثلها اثنتين في (الكفر الجديد) كانتا لعائلة (الهواري) التي كانت خالتي (ال�سيدة) �أرملة واحد منهم � -سرايتين لا واحدة -الأولى دون ب�ستان وعلى �شريط (ال�سكة الحديد الفرن�ساوي) على م�سافة ق�صيرة �شرق المحطة .وا ألخرى في �شمال غرب البلد ولها ب�ستان يقع �أي ً�ضا على ترعة ،مثل هذه تما ًما وقد �سبق لي أ�ن زرتها مع خالتي ،ومازلت �أذكر تما ًما ما بداخلها ...كانت هناك �أي ً�ضا (�ست كبيرة) وكان خالاتي يدعونها (اله َّوارية) وينطقن الا�سم بما يكفي من الاحترام الم�شوب ب�سخرية غام�ضة .هذه الخبرة أ�عطتني جر�أة على التقدم نحو (ال�سراية) 246
-تعال ..ما تخاف�ش (كيف عرفت �أنني خائف؟) ..م�ش �أنت �سمير بتاع مدر�سة البنات ؟ �ضحكت ن�ساء كثيرات � ،ساعتها تنبهت أ�ن هناك �أخريات في �ضيافتها ..وزاد تبيني لهياكلهن ووجوههن من ارتباكي ،لكن نظرة ت�أنيب من أ�مي �شجعتني فحركتني ،وعاد إ�ل َّي ما يعرف عني من جر�أة وتما ٍد ،فتما�سكت وتقدمت أ��سلم عليهن واحدة واحدة في �شجاعة مفتعلة .وغرقت للحظات في أ�ح�ضان عرق وروائح متباينة .وغرق وجهي في قبلات �إعجاب ،وقبلات ترحيب منافقة و أ�خرى لزجة ..حتى و�صلت لل�ست الكبيرة فانحنت عل َّي تقبلني � .سحرتني رائحة عطرية مجهولة م�سكرة ،ق َّبلتني على خدي من هنا ومن هنا ..فكدت �أقع من طولي . ولما جل�ست �أجل�ستني إ�لى جانبها .وبعد لحظات ن�سيني الجميع وان�شغلن عني حتى هي .وانطلق حولي �سيل من الثرثرة التي كنت في حال لا �أتبين معها مخارج الحروف ولا معنى الكلمات.. كنت مخ َّد ًرا م�سلوب الذهن تائ ًها ،حتى غمرني �إح�سا�س أ�ن هناك من يراقبني ،فانتبهت والتفت إ�لى باب �صغير بعيد موارب ،لمحت منه فتاة ترتكن إ�لى �ضلفته المتحركة ك�أنها تقبلها ..وهي ت�شير �إل َّي بطرف إ��صبع ك ِّفها اليمنى في بطء وهي تركز عينيها في عين َّي كال�ساحرات � -أن تعال ! لم يح�س أ�حد بي و أ�نا �أقوم مذهول ًا من َّو ًما � ..إليها ..ولما اقتربت منها تراجعت عن الباب .وما �أن خرجت وراءها أ�غلقت الباب وهي تقول ب�صوت خ�شن �صبياني : � -إيه يا وله ؟ ح تقعد ت�سمع رغي الن�سوان ؟ أ�فقت وا�ستنكرت ما قالته ( ،فال�سلطانة) و�ضيافتها لي�سوا (ن�سوان) .ولم تعطني �أي فر�صة بل أ�م�سكت يدي وجذبتني على امتداد ذراعها 249
جدرانه �ستائر مزرك�شة مليحة ،ذات تراكيب تحيط به م�صاطب وخزائن على �ستور مرخيات ،وفي الو�سط �سرير من المرمر مر�صع بالدر والجواهر ،فوقه نامو�سية من ا ألطل�س ا ألحمر تجل�س عليها (ال�ست الهانم) بوجهها الم�ضيء ،يخجل ال�شم�س .وعلى جانبيها جاريتان �صبيتان ر�شيقتا القد ذاتا ح�سن وجمال وق ٍّد واعتدال ،وجبين كغرة الهلال ،تم�سكان بمروحتين من ري�ش النعام ،تروحان بهما في رقة ودلال ..وكان هناك طاوو�سان يفردان ذيليهما كمروحتين ملونتين ي�صيحان في غمو�ض) ،جعلني المنظر أ�ت�س َّمر في مكاني فاغ ًرا فمي مذهول ًا � ..سبقتني �أمي لتلحق بم�ضيفتها قبل أ�ن تقوم لا�ستقبالنا مرحبة .ولا تجعلها تتج�شم عناء ملاقاتنا بما ن�ستحق من احترام .وبينما اندمجت أ�مي و�ضيفتنا في كتلة الظل التي ي�شع ال�ضوء الملون حولها ،وقفت م�شلول ًا أ�ت أ�مل ما ي�شع أ�مامي من �سحر ،و أ�نا أ�غمغم ب�صوت واهن : -ال�سلطانة ؟! وبينما كنت �أتمتم باكت�شافي الخا�ص ،وقد ت�سمرت �ساقي في الم�سافة ما بين باب القاعة الهائلة وب�سطة ال�سلم الغارقة في الظلال وا أل�ضواء الملونة التي ت�سقطها ال�شم�س من خلال النافذة القبلية ت�ضيء ال�سلم والفراغ الذي كان ممت ًّدا �إلى ال�سماء -بجد هذه المرة -حيث كانت قبة هائلة تغطي فراغ ال�سلم الكبير خلفي � ،إلى حيث �أفكر في الهرب � ..سمعت �صوتها بعد �أن فرغت من طقو�س الترحيب ب�أمي و�ضيفتها .انتبهت لي مت�سم ًرا عند الباب: -تعالى يا حبيبي .. تنبهت �إلى �صوتها العميق الرنان ،الذي بدا لي آ�ت ًيا من عالم �آخر . 248
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210
- 211
- 212
- 213
- 214
- 215
- 216
- 217
- 218
- 219
- 220
- 221
- 222
- 223
- 224
- 225
- 226
- 227
- 228
- 229
- 230
- 231
- 232
- 233
- 234
- 235
- 236
- 237
- 238
- 239
- 240
- 241
- 242
- 243
- 244
- 245
- 246
- 247
- 248
- 249
- 250
- 251
- 252
- 253
- 254
- 255
- 256
- 257
- 258
- 259
- 260
- 261
- 262
- 263
- 264
- 265
- 266
- 267
- 268
- 269
- 270
- 271
- 272
- 273
- 274
- 275
- 276
- 277
- 278
- 279
- 280
- 281
- 282
- 283
- 284
- 285
- 286
- 287
- 288
- 289
- 290
- 291
- 292
- 293
- 294
- 295
- 296
- 297
- 298
- 299
- 300
- 301
- 302
- 303
- 304
- 305
- 306
- 307
- 308
- 309
- 310
- 311
- 312
- 313
- 314
- 315
- 316
- 317
- 318
- 319
- 320
- 321
- 322
- 323
- 324
- 325
- 326
- 327
- 328
- 329
- 330
- 331
- 332
- 333
- 334
- 335
- 336
- 337
- 338
- 339
- 340
- 341
- 342
- 343
- 344
- 345
- 346
- 347
- 348
- 349
- 350
- 351
- 352
- 353
- 354
- 355
- 356
- 357
- 358
- 359
- 360
- 361
- 362
- 363
- 364
- 365
- 366
- 367
- 368
- 369
- 370
- 371
- 372
- 373
- 374
- 375
- 376
- 377
- 378
- 379
- 380
- 381
- 382
- 383
- 384
- 385
- 386
- 387
- 388
- 389
- 390
- 391
- 392
- 393
- 394
- 395
- 396
- 397
- 398
- 399
- 400
- 401
- 402
- 403
- 404
- 405
- 406
- 407
- 408
- 409
- 410
- 411
- 412
- 413
- 414
- 415
- 416
- 417
- 418
- 419
- 420
- 421
- 422
- 423
- 424
- 425
- 426
- 427
- 428
- 429
- 430
- 431
- 432
- 433
- 434