-إ�نت �سمير ؟ البنوتة ؟ غ�ضبت .وتوقفت .انتزعت ذراعي من قب�ضة يدها في حدة. � -أنت زعلت ؟ ما تزعل�ش دول الولاد غيرانين منك .ع�شان انت في المدر�سة قبل ال�سن ا إللزامي و�شاطر . � -سن إ�يه ؟ ..أ�نا كبير كفاية . -يا عم بيقولوا ع�شان خاطر �أبوك � ،سابوك تقعد و�سط البنات على تختة واحدة . كانت تقف أ�مامي محاولة الاعتذار ..لكن الكلمات التي كانت تجري على ل�سانها في �صوت �أقرب ل�صوت البالغين من ال�صبيان ،كانت تفر في الاتجاه الم�ضاد بعك�س ما تريد ،لكنها نبهتني أ�ن أ�ت�أمل ملامحها ألول مرة .كانت �أ�شبه بالأولاد بالفعل ،أ�نفها الطويل ال�شديد الح�ضور و�شعرها الم�ضفر في خ�شونة ..وحاجباها الثقيلان ..قالت : � -أنا بذاكر في البيت ؟ بابا خرجني من المدر�سة ،كنت أ��شطر منك ! فتاة عادية إ�ذن .و أ�نا الذي ظننتها طول الوقت �إحدى م�ساعدات (ال�شيخ عثمان) أ�ر�سلها لتدلني على الطريق ،وتك�شف لي أ��سرار الب�ستان . ُ�صدمت وته َّي أ�ت للعودة ،لكنها لم تتح لي الفر�صة و�شدتني بقوة : -تعالى ح اجيب لك كمترى عمر ابوك ما داقها . الإغراء غفر لها طولة ل�سانها .فطاوعتها حذ ًرا ألعطيها فر�صة �أخيرة. كانت عناقيد العنب الذهبية تتدلى من �سقف التكعيبة .قفزت فج�أة �إلى �أعلى في قوة ف�أم�سكت واح ًدا ،فرط منها أ�كثره على الأر�ض .لكن قب�ضتها لم تفلت معظمه .قدمته لي بعد أ�ن هبرت بفمها الوا�سع جز ًءا كبي ًرا منه .. 251
هابطة ال�سلم و�أنا �أحاول أ�ن أ�تما�سك حتى لا أ�ندلق على الدرجات .. � -سيبك منهم تعالى نلعب .. لم �أعتر�ض ..فهي لم تعطني �أي فر�صة للكلام .ووجدتني معها في الجنينة الغام�ضة الغنية الظلال الرطبة .ت�سري بين �أغ�صان أ��شجارها الغ�ضة الثرية �أنفا�س جنيات غام�ضة .تهم�س بنداءات مثيرة وتتدلى منها عناقيد من ثمار فواكه �شهية أ�عرف بع�ضها و أ�خرى لا أ�عرفها تكاد تنفجر ع�صائرها ممزقة ب�شرتها ال�شفافة .وثمة أ��صوات طيور �أ�سطورية متخمة وح�شرات لا تكف عن الطنين والثرثرة ،تطير في بطء منتفخة من ال�شبع نهمة وعدوانية � ،سكرانة بع�سل الفاكهة النا�ضجة .ت ؤ�كد لي �أن هذه الجنينة هي (الب�ستان) الذي كان منذ بدء الخليقة ميدا ًنا لكل ا ألحداث التي جرت في كل ب�ساتين حواديت خالتي ال�سيدة من �أول (يا مق�ص ق�ص طرف ل�سانه !!) إ�لى جنيات ال�شاطر (جاهن�شاه) اللائي ر�آهن طيو ًرا ،يخلعن ثياب الري�ش لي�صبحن حوريات رائعات .خا�ض من أ�جل �أحداهن الهول في ب�ستان (الملك �سليمان) الذي يحر�سه (عم عثمان) الذي يعرف لغات الطير والعفاريت . تحت كرمة العنب الممتدة إ�لى مدى الب�صر � ،سرت خلف البنت �سريعة الحركة مبهور ا ألنفا�س ..أ�توقع في كل لحظة أ�ن أ��صل �إلى البركة التي ت�ستحم فيها الطيور المتحولة .تتوقع �أذني أ�ن �أ�سمع رنين �ضحكاتهن بعد �أن ر أ�يت ب أ�م عيني الطاوو�سين المغرورين الم�ست أ�ن�سين يم�شيان بخيلاء بين يدي (ال�سطانة) .قالت البنت : -ا�سمي حياة ،ا�سمك �إيه ؟ � -سمير . 250
ال�شجرة وهي تغمم في فجاجة : -ح �أد َّوقك كمثرى عمر أ�بوك ما �شافها . �صفعتني كلماتها ..فعدت أ�دراجي دون كلمة .حتى و�صلت �إلى عتبات الباب الخلفي (لل�سراية) حيث وجدت الرجل العجوز الهزيل الذي قادنا �إلى بابها الرئي�سي ،جال�ًسا يبت�سم بفم خال من ا أل�سنان يت�ضاحك مناف ًقا ،وهو منهمك في ت�سليك �أن�سجة التيل وبرمها لفتل حبل جديد: -بيد َّوروا عليك فوق ع�شان ما�شيين .. وكركر �ضحكة ت�شبه �صوت الجوزة الم�سدودة .ف أ��سرعت بالدخول حين و�صلني �صوت ال�سعدانة قاطفة الكمثرى ي�صرخ باح ًثا عني : � -إنت يا وله يا اهبل م�ش عايز كمثرى ؟ لم �أرها ولم �أهتم بالتحقق إ�ن كان ذلك �صوتها ..و أ�خذت ال�سلم قف ًزا حتى و�صلت إ�لى باب الدور الثاني ..مبهور ا ألنفا�س ،فوقفت �أ�ستعيد نف�سي .ثم دفعت �ضلفة الباب ال�ضخمة مت�سلل ًا ،لكن الكل لاحظني . التفتت وجوههن جمي ًعا نحوي مرة واحدة ،ف�شلت حركتي � .س أ�لتني �أمي في غ�ضب . -كنت فين ؟ لكن (ال�سلطانة) التي تبينت �أنها لي�ست �سلطانة حقيقية كما ظننت - �إنما �ست هانم زي (الهوارية) وال�ست ( أ�م ح�سني) -عادية بيا�ضها عادي مثل �أمي ،لكنها قالت في حنان مفتعل يليق ب�ست هانم أ��صيلة : -تعالى يا حبيبي كل كمثرى وعنب ..ح تم�شي من غير ما ن�ضيفك ! لكنني لم �أتحرك ..وقلت لأمي في طهق لا يليق : -م�ش هنر َّوح بقى؟ ياللا.. 253
قلت معتر ً�ضا : -من غير غ�سيل ؟ ف�ضحكت �ضحكة حادة جافة �ساخرة وهي تقول : -ده على بز امه ..يا عبيط ،نظيف . ومدت يدها م�ستقيمة ت�ضعه أ�مام وجهي بل تكاد تد�سه في فمي : -أ�ن�ضف من بقك .خد . كدت أ�عاود الغ�ضب محت ًّجا ..ولكني أ�دركت �أنها لا تعني ما تقول بال�ضبط ،وغفر ع�سل الحبات التي ق�ضم ُتها ك َّل �إهاناتها ..كان طع ًما �ساح ًرا لم �أذق مثله في حياتي ،أ�ده�شني و�أعاد لي اليقين �أن هذا بالفعل الب�ستان الذي طالما و�صفته خالتي ،وعبرت غام�ضة في خيالي �صورة (ال�سلطانة) تحت ومي�ض الزجاج الملون كامر�أة غير ب�شرية .يبدو بيا�ض وجه أ�مي إ�لى جوار ما ي�شعه وج ًها عاد ًّيا ،و�سمعت �صوت تلك الطواوي�س التي تتحرك بحرية و�سط القاعة الهائلة الغام�ضة ..كان ع�سل العنب ثر ًّيا و�صاف ًيا مخاد ًعا ،أ�ده�شني وجعلني �أرى حركتها العنزية ناعمة في خفة غزالات الحكايات التي ت�صر على �إخ�ضاع ما �أراه لفكرتي الغام�ضة عن �سحر المكان الذي �أتخيله .مدت يدها مرة �أخرى .ناولتني ما تبقى من العنقود وح�شرته في فمي فخدرني ..ثم �صدمني �صوتها ف�أيقظني : -حا�سب يا مفجوع .إ�نت عمرك ما دقت عنب . توقفت محت ًّجا .كانت هي قد بد�أت كال�سعدان في ت�سلق �شجرة كمثرى عتيقة تتدلى منها ثمارها ك�شلول ب�صل الخزين .و أ�يقظتني من غيبوبتي �صرخات و أ��صوات عيال يتقافزون في ماء الترعة التي كانت قريبة بدرجة قا�سية ،لتبدد أ�ي أ�مل في العثور على البركة الم�سحورة التي ت�ستحم فيها فتيات هن في ا أل�صل طيور وجنيات ،ولمَّا اختفت هي بين أ�غ�صان 252
مثـقــال ذرة .. وها �أنا أ�هرول خلف والدي (المتجهم) ذاهبين لحل تلك الق�ضية ال�شديدة ا ألهمية . و�س�أدخل بيت (كامل �أفندي) لأول مرة .قابلنا في الطريق (عو�ض عبد ربه) فوجئنا أ�نه عرف ما نحن ب�صدده دون �أن ي�س�أل أ��سرع يقول لوالدي : -يا عبد الباقي �أفندي ،كامل أ�فندي و�ضيوفه عند الأ�ستاذ يو�سف . كنا عند �شادر الخ�شب .ا�ستقرب أ�بي �سكة (ال�سلطان) مخت�ص ًرا الطريق لنلحق بهم هناك ، وفرحت أ�نا ألنني �س أ�رى (ال�سراية) مرة أ�خرى من الداخل .و أ��شاهد الطواوي�س ذات الذيول الملونة وا أل�سود التي ت�ضع �أيديها على الغزلان ا أل�سيرة ،وقد �أقابل البنت الطويلة الهايفة ذات ال�صوت 255
وقالت �أمي وهي تنه�ض معتذرة : -ياللا يا حبيبي كنا م�ستنيينك ! وقبل أ�ن أ�غرق في �ضحكات و�سلامات طق�س الوداع المتعمدة ، وقبلات المحبة الزائفة وثرثرة ا ألحاديث ا ألخيرة الفارغة ،كنت قد �سبقت الجميع إ�لى ال�سلم الرخامي البارد ال�ضخم ذي ال�سلمة المك�سورة . �سرت وراء والدي الذي كان يرتدي قناع ا ألهمية وير�سم ب�شدة تلك الـ( )111التي تتج�سم بين حاجبيه ،توحي بالجدية الق�صوى � ،أنه يخو�ض معركة فا�صلة .فحتى فتح ف�صل جديد و�إ�ضافي للمدر�سة التي لم تقم بعد ،ظهر له معار�ضون لا ل�شيء إ�لا لأن البع�ض تحم�س �أكثر من اللازم لأن له م�صلحة وا�ضحة والبع�ض لي�س له هذه الم�صلحة . كان ا�سمي �أول ا�سم في الك�شف الذي يحمله ويجمع فيه �أ�سماء الأولاد الذين يفتر�ض أ�ن ينتقلوا ب إ�ذن الله مع العام الدرا�سي الجديد �إلى �سنة (ثالثة) ابتدائي من كل القرى المجاورة . لم يبق �سوى ا�سمين ،ولم يتبق �أولاد لائقون لتلك ال�سنة الثالثة لا في (ميت �سل�سيل) ،ولا في ما جاورها من بلاد وعزب ،وكان الجميع يائ�سين من �إمكانية فتح الف�صل الجديد ،لولا �أن �صرح بع�ضهم �أن (كامل أ�فندي) ي�ستطيع الت أ�ثير على أ�هل تلميذين من أ�بناء (الكردي) �أو على ا ألقل ي�ستطيع أ�ن يقنع مجل�س المديرية إ�ن تعذر ذلك بفتح الف�صل بع�شرين تلمي ًذا بدل ًا من اثنين وع�شرين .فالدنيا لن تنهد ،إ�ذا نق�ص الف�صل تلميذان ، ومجل�س المديرية لن يخذله والانتخابات على ا ألبواب . ••• 254
-لو كنت قدمت دقيقتين كنت ح َّ�صلتهم .اتف�ضل تعالى ا�ستريح وبعدين ح َّ�صلهم . لكن أ�بي الم�ستعجل �شكره وهو ي�شدني كي أ��سرع ،بينما أ�ح�س�ست قلبي ثقيل ًا يل�صق أ�قدامي با ألر�ض . (ال�سراية) لم تعد في هيبتها القديمة التي أ��سرتني من قبل .كانت أ�وراق ال�شجر المهمل تتراكم حول الجدران وعلى ال�سلم الرخامي الذي انتزعت منه الآن درجتان على ا ألقل . الجدران ك�شفت عن الطوب ا ألحمر الذي بدا مر�صو ً�صا فى الفراغ. وتحولت المونة إ�لى غبار ..الرطوبة �أكلت البيا�ض ،وت�ساقط البهاء الذي كان يغلف الجدران . الجنينة التي كانت ثرية الظلال والثمر � ،صارت �أ�شجا ًرا جرداء تثمر قط ًعا قديمة من القما�ش والورق ،ترفرف كرايات جي�ش مهزوم ،و�أوراق متغ�ضنة جافة ،وقطع من خ�شب بالي ،وحطب و أ�ع�شا�ش زنابير .هربت الطيور إ�لى ريا�ض أ�خرى ،لم ت ْجدبها الخلافات ،ويتحدث فيها الب�شر �أحاديث ودية . كانت ال�سراية تبدو خالية .تطير الطيور عبر فراغها ،خلال النوافذ المك�سورة والمخلوعة بينما ظل الباب الكبير مغل ًقا ب�إحكام ،وقد علاه ال�صد�أ وفقد �أكره التي كانت تلمع ،عديد من ال�سحالي الخ�ضراء والرمادية تمرح تحت �أكوام ا ألوراق المتراكمة الجافة ،التي �أ�صبح من ال�صعب �إزاحتها ،فتركت لحالها م أ�وى لجعارين �سوداء وخناف�س ولبع�ض الثعابين المحتملة غير المرئية ،والقنافذ المعتزلة ،كنت �أح�س بع�شرات من عيونها ال�سرية تراقبنا في حذر توق ًيا ألي حركة غدر ت�صدر م ّنا . 257
الأج�ش الذي لا يتحكم في معاني ما تقول فتطلق �شتائم قا�سية لا تق�صدها ،وقد �أ�ستطيع �ساعتها أ�ن أ�جد فر�صة لرد إ�هانتها القديمة .وعلى الأقل �س�أ�ستعيد ذات ال�شعور ال�ساحر� ،أيام ما كانت الجنينة تعني لي ب�ستان ال�شيخ (عثمان) العارف كل لغات الطير والجان ،ونائب (�سيدنا �سليمان) . ابت�سمت �ساخ ًرا من نف�سي .ألنني كنت في �أيامها على هذه الدرجة من العباطة لأ�صدق كل ذلك ،لكني ما �أن اقتربت من باب الجنينة حتى ارتع�ش �شيء ما داخلي وغمرني �شعور بالرهبة وعاد إ�ل َّي اعتقادي الذي �سخرت منه ،لكن التغيير الذي حدث جعلني أ�تما�سك و�أ�ستعيد نف�سي ،فبيت الأ�ستاذ (يو�سف) الذى لم يكتمل اقتطع م�ساحة كبيرة من الجنينة ودمر قد�سيتها القديمة . �صفق �أبي أ�مام الباب الخارجي المفتوح م�ست أ�ذ ًنا وهو يدخل دون انتظار ،خرج ا أل�ستاذ (يو�سف) إ�لى ال�شرفة وهو يزعق قبل �أن يرانا ب�صوت عال : -إ�تف�ضل ..إ�تف�ضلوا .. ولما ر آ�نا رحب ب أ�بي ، كنت أ�دور بعيني مذهول ًا لما �أ�صاب الحديقة وال�سراية . كانت الخ�ضرة قد اختفت من �أجزاء كبيرة ،وتناثرت �أكمات وح�شية من الح�شائ�ش ،بينما بدا النخل مهو�ًشا غير مق�ضب . -كامل أ�فندي ر َّوح ه َّو و�ضيوفه يا (عبد الباقي �أفندي) .يمكن ل�سة ما خرجو�ش من ال�سور القبلي . انتبهت على يد أ�بي تقب�ض على ذراعي وت�سحبني في اتجاه الطريق الذي �أ�شار �إليه الأ�ستاذ (يو�سف) . 256
تق�سيم التركة بين ا إلخوة .فاز (يو�سف) بالجزء البحري ولكن بدون جنينة إ�لا الم�ساحة حول حوائط المخازن والزريبة ،بينما احتفظ (عبد ال�سلام) بال�سراية وما حولها حفا ًظا على ذكرة والدته (ال�سلطانة) ،ولكن الإهمال �سرعان ما �أ�صاب كل �شيء بحكم ابتعاده أ��صل ًا عن المكان . زوجته لم تكن تطيق (ميت �سل�سيل) ولا �أهلها ،فتركت ال�سراية نهيبة لكل من ا�ستطاع إ�لى ذلك �سبيل ًا ،نزعت النوافذ وال�سلالم الرخامية ،وتكفلت الرياح ،وزلط ا ألطفال �صيادي الع�صافير ،بتدمير الزجاج الملون ،ومات الرجل الذي كان يرعى ا أل�شجار ،فاكت�أبت كروم العنب ، واهتر�أت قوائمها ولم يهتم أ�حد . و�أخي ًرا باعها (عبد ال�سلام) أ�نقا ً�ضا .فخلعت ا أل�شجار وا�ستبدل الب�ستان حتى حدود بيت (ف ؤ�اد) ،تحول إ�لى أ�ر�ض �ستزرع يو ًما بالقطن والقمح وما �أ�شبه . �أما (�إبراهيم) زوج �أختهم الذي كان قد قرر العودة إ�لى (ميت �سل�سيل) ،فكان في نيته بناء البيت محاف ًظا على ما يحيط من أ��شجار مثمرة، ولكنها لن تكون في بهاء العز القديم . أ�ما (كامل) وهو الكبير فقد كان من ن�صيبه الم�ساحة الأكبر إ�لى جوار ال�سكة الحديد ،حيث ترك جزء كجرن بين البيت الجديد والزراعية و�شريط ال�سكة الحديد لكنه أ�عاد الحياة �إلى الجزء البحري فازدهرت به بع�ض أ��شجار الخوخ والكمثرى والم�شم�ش والق�شطة ،علاوة على كرم عنب (م�ش بطال) . لمحناهم من فوقه يتخذون مجال�سهم على الفراندة ،مجموعة من ا ألفندية المطرب�شين ولاب�سي القفاطين والجلاليب البلدي ال�صوفية ،و�أخرى أ�فرنجية بي�ضاء ي�شرب من عليها الع�صفور تلوح فوق بع�ضها طرابي�ش فاقعة الحمرة تبدو ك�أعراف ديكة بي�ضاء . 259
كان كرم العنب الممتد لا يزال ممت ًدا حتى آ�خر الجنينة ،لكن احتمال وجود برك للجنيات الم�سحورة فكرة �أ�صبحت �ساذجة ،وغير ممكنة على ا إلطلاق .اختفت الأغ�صان الخ�ضراء والكوخ الذي ي�سكنه �أو الذي كنت أ�ظن �أنه ي�سكنه عم (عثمان) ذو ال�ساقين العنزيتين ،تع َّرى من �سقفه واخترقته ال�شم�س فطردت كل ظلال الخيال التي من المحتمل أ�ن توحي ب�أنفا�س إ�ن�سانية ،فقدت الأمل في لقاء تلك البنت التي �أغاظتني .ووجدتني �أفتقدها بحق ،و�أغفر لها كل ما طجنت به من كلام معي . عبرنا البوابة الخ�شبية ،كان جزء منها مدفو ًنا في طين القناة الجافة التي تم�ضي �إلى الترعة .مليئة بالع�شب الأ�صفر ن�صف الجاف .تقودنا إ�لى المدق الوحيد بجوار غابة البو�ص على �شاطئ الترعة ،يحجب عنا تما ًما ال�شط ال�شرقي ،حيث العزبة و أ�ر�ض دار (�أحمد) . على اليمين كانت الم�ساحة التي ينتوي (ف�ؤاد عبد ربه) بناء بيته الع�صري عليها فيما بعد ،ف�أهمل ال�شجر لتنك�شف ا ألر�ض عن م�ساحة فراغ جرداء ممتدة ،حيث يو ًما ما �سيكون فيها بيت ( إ�براهيم عبد ربه) ال�شقيق ا أل�صغر للأ�ستاذ (كامل أ�فندي) وحينها �ستكون مرت ًعا لق�ص�ص حب وم�شاعر م�ستقبلية لم يحن �أوانها بعد . انتبهت على �شخطة من �أبي لألحق به ،فقد كنت �أحمل ا ألوراق التي بها ك�شف أ��سماء التلاميذ وكانت ت�ضفي عل َّي بع�ض ا ألهمية ،تبري ًرا �شرع ًّيا لح�شر نف�سي في مو�ضوع هو في ذاته من �ش�أن الكبار . لمحناهم ي�صعدون الفراندة البحرية لبيت (كامل أ�فندي) الجديد - الذي لم يكتمل �سوى ن�صفه ال�شرقي -من خلال ا ألغ�صان الثرية للجزء الذي بقى ح ًّيا من الب�ستان القديم والذي نجا من عاديات الزمن ،وعواقب 258
مقامة في �صالة كبيرة لم ت�سقف بعد ،تقع بين الجزء الذي تم بنا ؤ�ه من البيت والجزء الغربي الذي مازال تحت الإن�شاء . كانت مائدة عامرة يتو�سطها ديك رومي كالخروف ،وعديد من الأطباق الكبيرة المتخمة بالحمام والدجاج وال�سمك المقلي ،و�صواني مختلفة فاحت منها رائحة البطاط�س الم�سبكة في الفرن والفتة بالخل ،فقلبت معدتي . لمحني �أقف بعي ًدا ،فتجنبت نظراته و أ��سرعت بالابتعاد من�سح ًبا وراء الجدار ف�صاح بي غا�ض ًبا : -ا�ستنى يا ولد ..إ�يه يا (عبد الباقي) م�ش تقول ان معاك المحرو�س ..تعالى يا (�سمير) تعالى يا �شاطر ،بتهابر زي ابوك ع�شان ترتاح من ال�سفر (للجمالية) ومن أ�هلها الهم اللي ما يتعا�شرو�ش . حاولت الاختباء عن نظرته ووا�صلت الهرب ،ف أ��سرع مناديًا بلهجة �شلت حركتي .. -يا ح�سين تعالى يا ولد هات الواد ده غ�صب عنه . خرج (ح�سين) من الداخل متثاقل ًا يبحث عن ذلك الولد المزعج الذي يهتم به �أبوه لهذه الدرجة ،وجدني أ�جل�س م�ستت ًرا بالجدار على ال�سلم .ابت�سم �ساخ ًرا ابت�سامة لا تحمل أ�ي معنى للترحيب .وقال .. -ه َّو انت ؟ ما تقوم يا و َله تتغ َّدى هو احنا بنلعب ؟ كان �صوته مثل �صوتها ،نف�س النبرة وا إليقاع المتعثر في فراغ ا ألنف ،تذكرتها على الفور الفتاة التي قابلتها بالجنينة زمان .كان ي�شبهها فعل ًا ومثلها كانت الكلمات تخرج متعالية من فمه .لم �أتحرك ..وقلت بحدة : -أ�نا �شبعان م�ش جايين ناكل . كانت �صيحات (كامل �أفندي) تطارده وتتعجلني �أن �أطيع . 261
و�صلتنا �أطراف �ضحكاتهم و�أ�صداء مناق�شتهم الزاعقة مختلطة ب أ��صوات احتكاك خ�شب الكنب البلدي والكرا�سي الجريد بالبلاط الجديد ،مع عبارات الترحيب والمجاملة ،كانوا أ�كثر من خم�سة ع�شرة رجل ًا يحت�ضنهم وي�سلم عليهم مرح ًبا بهم (كامل أ�فندي) الذي كان يبت�سم في كرم لهم ،وهو يزعق بغ�ضب على من في الداخل ل إل�سراع بتجهيز ال�سفرة ،ومنهم ًكا دون توقف في المناق�شة ،متاب ًعا ا إل�شراف على راحة الجميع وا�ستقرارهم في مجال�سهم . كنا قد و�صلنا �إلى درجات ال�سلم في الوقت الذي كان ي�ستعد فيه للجلو�س بعد �أن اطم أ�ن على راحة الجميع ،في نف�س الوقت جاءه خبر انتهاء كل الا�ستعدادات فه َّب قائ ًما على الفور يدعو الجميع للطعام . لمحنا فالتفت نحونا قائل ًا ب�صوته ا ألج�ش المقتحم ا آلمر الذي لا يقبل معار�ضة : -طول عمر حماتك بتحبك يا (عبد الباقي) يالله يا جماعة اتف�ضلوا. حاول والدي التمنع ،م�سر ًعا ب�شرح �سبب مجيئه وعجلته ،لكن .. (كامل أ�فندي) تجاهل كل ذلك وم َّد له ذرا ًعا عملا ًقا ي�صافحها ليجذبه بها �إلى الداخل : -يلا ..يلا يا راجل ..دي ح�صة غدا ومحد�ش فا�ضي يتكلم عن الف�صل ولا عن المدر�سة والم�شاكل دي ..اطمئن ..إ�ن �شاء الله محلولة محلولة .خ�ش انت ب�س واقعد وخد نف�سك . و�أخذ يقدمه للحا�ضرين مع �أن الجميع كانوا يعرفون بع�ضهم بع ً�ضا بالت�أكيد .و أ�ن اهتم كثي ًرا بترتيب جلو�سهم حول ال�سفرة ،التي كانت 260
في (الكفر الجديد) ،ويكون هو في طريقه إلنجاز مهمة ما -لإ�صلاح �ساقية قديمة �أو ت�سليم �ساقية جديدة في عزبة ما أ�و قرية بعيدة -وكنت أ�ذهب �سعي ًدا لأنني �س أ�تعرف على أ�نا�س و�أماكن لا �أعرفها .كان خالي يقابل بترحيب كبير ،وكنت �أ�صبح بينهم الطفل المدلل ،يتبارى الرجال والن�ساء في �إر�ضائي و إ�كرامي ،إ�كرا ًما ل�سيرة جدي وخالي ،لم �أكن �أح�س حر ًجا �أو خجل ًا في التعامل معهم بندية � ،أجل�س مثلهم على الأر�ض ، منت�ش ًيا لرائحة وملم�س الطين والنباتات ،وعطر المتعبين من العمل ! فعملية �إقامة �ساقية جديدة وتثبيتها في مكانها لم يكن با ألمر ال�سهل . إ�نها عملية تكاد تكون حربية ،تتكاتف فيها �أيدي و أ�ذرع و�أكتاف عديدة ..حبال وروافع ،كتل خ�شبية و�أ�شجار� ،سلالم و�شواكي�ش ومنا�شير ، نداءات آ�مرة ،و أ�خرى راجية وكثيرة منها داعية ،تقر أ� ا آليات و أ�خرى تغني . فلي�س �سهل ًا زحزحة (التابوت) أ�و (الطنبو�شة) و�إحكام تثبيتهما في المحور الحديدي المثبت في حائط البئر إ�لا بح�سابات دقيقة ت�سمح له أ�و لها بالدوران في ي�سر ر أ��س ًّيا .تلي ذلك عملية �إلحاق (ال�صغير) بها ،وهو تر�س خ�شب �ضخم (رغم ا�سمه) ،يثبت ر�أ�س ًّيا معها بدقة كي يدورا م ًعا �أو بالأ�صح يديرها هو بحركته ،ليخرج الماء من البئر ،إ�ذ يكون التابوت الذي يغرق ثلثه الأ�سفل في الماء قد جربت �سهولة دورانه قبل تثبيتهما م ًعا تما ًما . ثم تبد أ� عملية تدكيك �ضرو�س (الكبير) والذي ي�شبه (ال�صغير) في تركيبه .ولكنه يطرح أ�فق ًّيا في فراغ مجهز (بدقة) مع تثبيته في الأر�ض كي يدور .وتعمل �ضرو�سه على تحريك �ضرو�س (ال�صغير) الر أ��سي مع 263
�صاح ح�سين في زهق : -طب قوم بلا�ش هزار .ومتاكل�ش انت حر � ،إنما قوم اقعد مع الرجالة .محد�ش فا�ضي للهج�ص ده . ا�ست�سلمت وتبعته مثلما فعلت مع الفتاة في الجنينة .دخلنا ،كان أ�بي منهم ًكا في الحديث مع أ�حد ال�ضيوف ف�ضايقني ذلك ،أ�ف�سحوا لي مكا ًنا بطرف المائدة ،لكنني ظللت ممتن ًعا عن الم�شاركة. لاحظ (كامل أ�فندي) الذي لا تفوته �شاردة ذلك .ف�صاح : أ�يه يا (عبد الباقي) الواد ده طالع بخيل لمين ؟ ده اخواله �أهل الكرم ولا �إيه ؟ كل يا ابني كل . أ�لتفت والدي نحوي وقال بدون حما�س ونظراته تلومني وتنهرني: -ما تاكل ،ا�سمع الكلام . ثم عاد للحديث مع ال�ضيف قائل ًا : � -سيبوه براحته . لكن (كامل أ�فندي) لم يتركني براحتي .. -يا (ح�سين) تعال يا ابني خد �صاحبك ده .ياكل معاك جوه ما دام مك�سوف و�سط الجرم أ� ده . لم أ�كن مك�سو ًفا ،لكنني كنت غا�ض ًبا من نف�سى ومحر ًجا ف�أ�سرعت مع (ح�سين) لأنجو من هذه الورطة حيث لم أ�فهم لماذا يجعلني هذا الجمع �أت�صرف على غير طبيعتي .وتعجبت من حالي ،لم أ�كن مرتا ًحا لموقفي ، لم يكن ذلك ت�صرفي في وجود الكبار ،حتى لو كانوا من الغرباء وكرهت نف�سي لأنني ت�صرفت هكذا كا ألولاد (العاهات) في وجود الطعام . كان خالي (يو�سف) ل�سنوات ي�صحبني معه عندما يت�صادف وجودي 262
ينتابني حرج ولا خجل .على العك�س ،كان الجميع يح�سدون خالي على كرم ابن �أخته ،الذي لا يتحرج �أمام الطعام ،بل يعتبر نف�سه �صاحب مكان و�صاحب مطرح ،وكان خالي يتباهى بت�صرفي هذا الذي كنت أ�جده عاد ًّيا ولا �أح�س معه تلك الحواجز المبهمة بيني وبين الآخرين من الكبار ،حتى ولو كانوا غرباء �أقابلهم لأول مرة ،كما حدث لي حين وجدت نف�سي و�سط هذا الجمع من ا ألفندية والبهوات من �آل (عبد ربه) ورجالات الوفد ،كان بينهم (عبد ال�سلام عبد ربه) ذلك الذي تزوج �أخت (ي�س بك �سراج الدين) �شقيق (ف�ؤاد با�شا �سراج الدين) والتي لم تطق العي�ش في بلدنا ،وكان بينهم النائب الوفدي الجديد (محمد �سويلم) الذي اختارته لجنة الوفد في الدقهلية لخو�ض معركة الانتخابات القادمة . ••• 265
(التابوت) أ�و (الطنبو�شة) ح�سب نوع البئر ونوع ال�ساقية ،ومن محور هذا الكبير ترتفع (ال�شعبة) ،وهي �شجرة متو�سطة لها فرعان ُ ،هذبت بعد ق�ِّص فرعيها بطول منا�سب لت�صبح محو ًرا ،يرتفع ألعلي فوق الفراغ وفوق (الطنبو�شة) �أو (التابوت) إ�لى ال�سماء ،حيث يحت�ضن ذراعاه �شجرة �أخرى من جذعها ،تمتد م�ستقيمة نحو ( المدار) لت�ستقر فوقه على إ�رتفـاع منا�سب مح�سوب يربط بها (ال�سـ َلب) الذي �سيمتد إ�لي (الناف) الذي يعلق برقبة (الما�شية) �سواء واحدة أ�و اثنتين ح�سب �سعة (الطنبو�شة) وحجمها وكمية المياه . كانت عملية �صعبة ودقيقة ُ ،خطط لها و أ�نجزت �أجزا ؤ�ها على ح�سب ح�سابات معلومة ،من حيث الحجم والطول والثقل و�سلا�سة دوران المحاور المختلفة .كان خالي وم�ساعدوه من النجارين يتولون الم�سائل الدقيقة ل�ضبط ا أل�صول الفنية ،بينما ع�شرات من (الفلاحين) يتكاتفون للحمل والنقل والتثبيت و�إعادة التثبيت ،ح�سب نتائج التجارب في كل خطوة ،وبعد كل مرحلة حتى يتم ا�ستقرار ال�ساقية ،رهيبة مهيبة ،غاية في الجمال والاكتمال ،حين تدور وتخرج أ�ول دفعة من المياه تبعث في الوجوه المتعبة المرهقة فرحة الراحة والانت�صار ،وتنطلق الزغاريد البهيجة من الن�ساء اللائي �أح�ضرن الطعام . كنت أ��شارك في كل هذا وك أ�نني أ�حمل معهم و�أدفع و�أحزق و�أتمطع ،مع �أن دوري كان قا�ص ًرا دائ ًما على مناولة حبل �أو �شاكو�ش �أو م�سمار ح َّدادي �أو �إبعاد خ�شبة �أو طوبة عن الطريق ،ولكنني في كل الأحوال كنت أ�ح�س أ�نني فعلتها معهم ،إ�ذا كانت تغمرني م�شاعرهم ،ولذا عندما يو�ضع الطعام كنت بكل ب�ساطة �أزاحم ألجد لنف�سي مكا ًنا بينهم ،لا 264
لإح�ضار ماء لل�شرب ..وعرفت �أنها �أخته الكبيرة ،كانت الملامح موحية ..ال�صوت وطريقة ا ألداء كلها ت�ؤكد انتماءها إ�لى (كامل أ�فندي) �صاحب ال�صوت الم�سيطر الذي لا يقبل جدل ًا أ�و رف ً�ضا ،ويطلق الكلام عدوان ًّيا بلا مجاملة . أ�ثناء الأكل حكيت (لح�سين) مبر ًرا موقفي الذي بدا طفول ًّيا .. حكيت له عن ال�سواقي وطريقة �إقامتها ،عن �صناعتها و�أجزائها وعن خالي والجميزة الم�سحورة التى زرعها �شيخ طريقة �سودانى على إ��سمه والمرهونة خ�ضرتها بحياته منذ ارتبط اخ�ضرارها بمولده و عن بيت جدي لأمى ،وعن المدر�س الذي يحكي لنا الحكايات فى مدر�سة (الجمالية) عن الآلهة والوحو�ش ذات العين الواحدة وعرائ�س البحر وال�ساحرات .. وحكى لي هو عن حياته في (المن�صورة) وا ألفلام التي ي�شاهدها ،وحكى لي عن �أمه التي لم تكن مرتاحة لوجوده في (المن�صورة) وحده ،و�إ�صرارها الدائم على إ�لحاقه بمدر�سة المنزلة ليكون بين �أح�ضانها .كانت تعيره بي عندما يتحجج بقرف ال�سفر وتعبه ،وال�صحيان بدري وقرفه ،وكيف كانت تحاول إ�ثارة غيرته مني ،إلقناعه مع أ�نه كان في ال�سنة الرابعة : -تعال �شوف ابن عبد الباقي القزعة اللي قد الفار � ،شوفهم بيطلعوه ح�شر في الأتوبي�س من �شباك العربية ،و�شنطته الخ�شب قده مرتين �شايلها على قلبه .يا حبيبي الغربة كربة ،اقعد زيه في ح�ضن امك . وعرفت �ساعتها أ�ن منهج الكلام وطريقة ا ألداء التي �أزعجتني منذ قابلت فتاة الب�ستان �سمة من �سمات عيلة (عبد ربه) كلها وعل َّي �أن أ�تعاي�ش معها ..لو �صرنا �صديقين في الم�ستقبل! بعد �أن أ�كلنا �صحبني لأغ�سل يدي في حمام لم تغط جدرانه بعد محارة ولا �ضهارة .حيث كان �أبريق نحا�س �ضخم ي�شغل ن�صف المكان .يكاد 267
ما لـم تـكن تـعـلم .. حين جل�ست مع (ح�سين) في الداخل.. جاءت فتاة الب�ستان بنف�سها حاملة �صينية عليها طعامنا ..وعندما حطت ال�صينية على الترابيزة المجهزة لنا لاحظتني ..فقالت : -ه َّو انت ؟! رحب بيه يا ح�سين ده خواف! بلا خيبة دا جري وما ر�ضي�ش ياكل الكمثرى اللي... وحتى لا تكمل ب�صوتها المتعالي وطريقة �أدائها العدوانية قاطعتها : -أ�نا مار�ضيت�ش �آكلها م�ش مغ�سولة .. ف�ضحكت �ضحكة خ�شنة �ساخرة .. -طب كل ..الأكل ده كله مغ�سول .. نهرها (ح�سين) وطلب منها �أن تذهب 266
-يرجع (على ماهر) ! -يا راجل ا إلنجليز حير�ضوا (بعلى ماهر) ؟ والدنيا مقلوبة ،ما يقدرو�ش على كده .فيه آ�لاف في ال�سجون و ْلعلمك همه بقي ع�شان تعرف اللي بي�ضغطوا ع�شان الانتخابات .. وفج�أة قال (ح�سين) ب�صوت عال م�ستنك ًرا طريقة التعامل مع الجراح التي ما تزال تنزف بهذه الب�ساطة : -الإنجليز ه َمه اللي ح ي�ضغطوا ع�شان الانتخابات ؟! قطعت الجملة المت�سائلة فى ا�ستنكار تيار التداعي الذي تعودوا عليه في مناق�شاتهم ،كان �صوت ال�صبي غير م�ألوف ،التفتوا �إليه جمي ًعا في �صمت وده�شة .قطعه (كامل افندي) بم�شاعر بين الغ�ضب والإعجاب الخفي بابنه الذي �أ�صبح يفهم في ال�سيا�سة ويتحدث كرجل نا�ضج بعد أ�ن خاب �أمله في أ�ن يجذب ولديه ا ألكبر �إلى الاهتمام العام � ..أحدهم ف َّ�ضل �أن يظل في وظيفة (ابن كامل �أفندي) ..وا آلخر ع�صفت به هواية التمثيل ويريد �أن ي�صبح نج ًما �سينمائ ًّيا فلم يفلح ،ولكن ها هو (ح�سين) يب�شر �أن يكون خليفة له وزعي ًما يتحدث و�سط الرجال ويدلي بدلوه ..رغم حدة �آرائه التي طالما أ�زعجته قال : -أ�يوه يا �سيدي ،يعني ر�أيك �إن ما في�ش انتخابات قريب . تردد (ح�سين) فهو يعرف والده جي ًدا .. � -أكيد ح تكون فيه انتخابات ،ب�س الملك وا إلنجليز عارفين إ�ن لو ح�صل ح ييجي الوفد ..وما حد�ش منهم عايزه دلوقتي �إلا �إذا كانوا عايزين يورطوه . � -إحنا اللي عايزين يا �أخي .ولازم الوفد يرجع مرفوع الر أ��س بعد اللي ح�صل . -الوفد راجع غ�صب عن عين التخين .. 269
يلام�س ال�سقف محمول ًا على حامل من الحديد القوي ،وله حنفية تحتها ط�شت لتل ِّقي ماء الغ�سيل .فتح الحنفية ودعاني كي أ�غ�سل يدي بالماء وهو يناولني �صابونة ن�صف م�ستعملة ..وقال معتذ ًرا في �سخرية هو يطوح بالفوطة فوق كتفي : -ل�سه ما عملنا�ش موا�سير في الحيطان يا �سيدي ! تجاهلت �سخريته وتلميحه �أن �أبي كان يتفاخر ب أ�نه أ�دخل الموا�سير �إلى بيتنا وقلت منده�ًشا ومتجاهل ًا بجد : -ب�س ا إلبريق ده دخل هنا ازاي ؟ دا �ضخم ج ًّدا . �ضحك متنازل ًا وهو يقول : -لا ..دا احنا بنينا حواليه البيت . وتبادلنا نظرات عدم الت�صديق المرحة .ثم م�ضينا لنلحق بال�شاي مع الرجال الذين كانوا قد �سبقونا إ�لى الفراندة وجل�سوا يحت�سونه في ا�ستمتاع علني م�ستر ٍخ وممتلئ ،في دوامة من الكلمات وا أل�صوات �صنعت غيمة من الزعيق الر�صين و�ضحكات المجاملة جل�سنا عند �أطرافها لن�سمع . -خلا�ص وزارة (النقرا�شي) بتودع . -ه َّي لحقت ؟ دول كام �شهر .. -إ�يه يعني ! الملك ممكن يجيب (�صدقي) تاني ،ولا يمكن ح يعمل انتخابات م�ش �ضامن نتيجتها . -يا عم مين قال لك .الم َّرة دي غ�صب عنه .كل الدلائل بتقول كـده ،الحالة متدهورة وما يقدر�ش يكرر غلطة (�صدقي) . -الوفد هو ا إلنقاذ ! -ما ت�ضمنو�ش ..يا ما في الجراب يا حاوي فيه ع�شرات جاهزين .. عنده (مكرم) جاهز �أ�صوات ا�ستنكار . 268
البحر ال�صغير .و�أخوه هو اللي ح ي�شرف علي بناء المدر�سة الجديدة.. و�أب�سط يا عم �أكيد ح يفتحوا لك ف�صل �سنة ثالثة ورابعة كمان ..ألن النا�س في مجل�س المديرية بر�ضه خايفين من الانتخابات ..ورجوع الوفد فبيجاملوا (ميت �سل�سيل) . �أ�سرني حديثة ولجمني � ،سكت أ��سمع مبهو ًرا و�س�ألته : -وانت عرفت ده كله منين؟ �ضحك في قلاطة وقال لي : -اللي ي�س�أل ما يتوه�ش يا �شاطر ،والعقل موجود في نافوخ كل واحد ..ب�س ت�ش َّغله .. قلت في �سذاجة حقيقية : -وت�ش َّغله ازاي ؟ -بالقراية يا ابني ..دول كلهم زعما �شفوي .ما بيقرو�ش إ�لا (الوفد الم�صري) ،انت ما لاحظت�ش ان عمي (يو�سف) ما جا�ش معاهم يتغدى .. ألنه ما بيحب�ش ال�سيا�سة ال�سماعي ولا المناق�شات ا أل ل َاوى -بيقول عليهم دول نا�س (طوباويين) .. -إ�يه؟ فاج أ�تني الكلمة وبطحتني ، -يعني �إيه ؟ طوباويين دي ؟ -مت�أ�سف ..ق�صدي خياليين ..هواة م�ش فاهمين الواقع . -واقع ؟ � -أيوه . -عاي�شين على أ�وهام �سنة 19و أ�حلام الما�ضي ..الوفد ما بقا�ش هو اللي في دماغهم بيقي�سوه على م�سطرة م�صالحهم وب�س ،الفقر مالي الدنيا 271
هبت موجة حما�س غير مبررة ،فاختلطت ا أل�صوات .وك�أنما كان �صوت الحقيقة المزعج فا�ض ًحا لطبيعة تلك الغمامة اله�شة من المناق�شات المتكررة فت�ساقط متبد ًدا في تراب ا ألوهام الأرخ�ص وا أل�سهل . وغمغم (ح�سين) معر ً�ضا عن الم�شاركة في الجدل والتفت لي : -م�ش عايزين يفهموا إ�ن الوفد ما بقا�ش الوفد .كلهم م�ستنظرين معجزة على نار ،ع�شان اللي عايز يخل�ص تاره من العمدة واللي عايز ينتقم من رفده من الجمعية التعاونية ..واللي ...واللي ... ا�ستمعت مبهو ًرا .لا أ�ت�صور �أن هذا الكلام يمكن أ�ن ي�صدر عن (�صبي) لا يزيد عمره عن عمري �إلا ب�سنوات قليلة .وعرفت منه كثي ًرا مما بدد رعبي حين وجدت نف�سي و�سط هذه الكوكبة من ا ألفندية ورجالات الحل والعقد في مجل�س واحد .أ�ربكني وجعلني لا �أت�صرف على طبيعيتي .و أ�نا الذي تعودت أ�ن أ�ح�شر نف�سي في مجال�س الكبار أ�مام دكان (محمود �شطا) (لكن م�ش للدرجة دي) مر�شح الوفد ،ون�سيب (ي�س �سراج الدين) ،و أ�ع�ضاء لجنة الوفد بالدقهلية .ومن (ح�سين) عرفت �إنهم بيرتبوا للانتخابات التي يظنونها على ا ألبواب .وي�ستعدون حتى لا يفاج�أوا ،يخططون كيف يزيلون أ�ثر ( 4فبراير) مت�سلحين ب إ�نجازات حكومة (النحا�س) أ�ثناء الحرب –( كوبونات الجاز وقانون ا إلن�صاف وا إلفراج عن المعتقلين و إ�طلاق الحريات) ،وك�أن موقف الوفد هو الذي ت�سبب في انت�صار الحلفاء على (هتلر) وهزيمه (رومل) .و�أن ينتقموا لما فعله الملك حين �أقال (النحا�س) و�ألغى معظم قرارات حكومته وطالبه بفلو�س التبرعات بتاع الملاريا . -لكن الحقيقة أ�ن (مجاهد �أبو د�سوقي) ح يطلع بمقاولة تطهير تلت 270
�أح�س�ست لبكائي �شج ًنا ولذة وراحة لا تعادلها راحة ..كنت في قادم �أيامي ،كلما تذكرت ما حدث لي مع (المعذبون في ا ألر�ض) �أقول باعتزاز :يخرب بيت معرفتك يا ابن عبد ربه !!! ••• 273
لكن ه َّم مالهم .المهم تم�شي معاهم وتقول (يحيا الوفد ولو فيها رفد) ن�سيوا �صدقى و 46وم�ش داريين أ�و بيتجاهلوا �إن تحرير م�صر بقى محتاج �سيا�سيين من نوع جديد وان الا�شتراكية بقت ه َى الحل لبلد زى بلدنا . -لكن دول نا�س بيخدموا البلد . -ما قلنا�ش ،ه َّو �أنا قلت انهم خاينين للبلد .لكن م�ش قادرين يفهموا �إن الدنيا بعد الحرب بقت دنيا تانية فيها الاتحاد ال�سوفيتى وال�صين، والوفد بقى يحكمه (�سراج الدين) و(زينب) ،وبالعك�س ه َّم مب�سوطين بكده ما احنا ن�سايبهم بر�ضه . لم �أ�ستوعب في الحقيقة ما يعنيه .ولكنني كنت قد �سحرت به رغم نبرة ا�ستكبار وقلاطة ملحوظة في اللهجة � .س�ألني فج�أة.. � -إنت قريت (المعذبون في ا ألر�ض) بتاع الدكتور (طه ح�سين) . فغرت فمي ..فلم أ�كن قد �سمعت بهم أ��صل ًا .. � -إ�سمع ،أ�نا ح اعطيك كتاب (طه ح�سين) ده تقراه وتجيبه تاني .ده مت�صادر ولا انت م اللي بيبلطجوا على الكتب .. أ�نكرت ب�سرعة واع ًدا ب إ�رجاعه ،رغم أ�نها المرة ا ألولى التي يتطوع �أحد ليعيرني كتا ًبا� ..صحيح أ�نني حكيت له عن حكايتي مع دولاب خالي ( إ�براهيم) ..وقراءتي لألف ليلة وليلة لخالاتي من خلف ظهره .حينما حكى لي عن الكتب التي يتبادلها الطلبة في المن�صورة �س ًّرا !! كانت المرة ا ألولى التي يعيرني �أحد فيها كتا ًبا ..ولي�س �أي كتاب ..فقد قلب كياني الغ�ض .وع�صر ف ؤ�ادي حز ًنا ..كنت أ�بكي بجد حين �أكون وحدي .لم �أحك عن هذا له ولا لغيره ،فهذا عيب ،كنت �أعي�ش على وهم �أن الرجال -الرجال لا يبكون ،كنت خجل ًا .وكلما فعلتها 272
تغالب دموعها وهي تربت عل َّي .ولما ا�ستيقظت أ�خذتني في ح�ضنها و أ�طلقت لنهنهاتها العنان.. اكت�شفت بعدها �أن الهواء ثقيل ،و�أن نف�سي قد ان�سدت عن الدنيا ، ولم �أعد ذلك ال�صبي الذي لا يكف عن الحركة وت�سلق ا أل�شجار ،واختراق ال�سياجات المحرمة لاقتنا�ص فاكهتها .ولا ذلك الفتى الذي يلقي بنف�سه في �أي مياه جارية ي�سبح ويغو�ص ويعبر إ�لى ال�شطوط ا ألخرى ..وفقدت �شلة ال�شقاوة وع�صابة الليل بهجتها و إ�غراءاتها .. كنت (جميل ًا) تحبني البنات .وتتمل َّاني الن�سوة وهن يتوحمن . لكني كنت كالقط البري �أخرب�ش و�أخم�ش كل من يحاول تخطي حدود ا ألدب معي من ال�صبية وال�شبان المنحرفين.. ذات يوم فوجئ رواد مقهى (ح�سن م�صطفى) في و�سط ال�سوق بي و�أنا �أنهال بع�صا �صف�صاف كالكرباج على ر أ��س و�ضهر ووجه الواد (�سامي) الذي كان �صدي ًقا لي ..تبعته وقد جهزت ع�صاي حتى دخل دائرة ال�ضوء و�ضجيج الزهر والقوا�شيط لأفعل فعلتي ..حتى يكون ت أ�ديبي له عل ًنا جها ًرا نها ًرا ..وحين اندفع الجميع لتخلي�صه من ق�سوتي � ،س�ألوني.. قلت :إ��س أ�لوه ه َّو ..لو عنده رجولة يقول ليه ؟ ..لازم يفهم ان م�ش كل الطير اللي يتاكل لحمه .. وربت (�سعيد الم ْر َيح) ( فى خبث رجل فلاتى لا تترك يده زهر الطاولة ولا يغادر القهوة �أبدا )على خدي مهد ًئا بطريقة وجدتها تجاوزت حدودها ف�صفعته على وجهه �أمام الكل �صفعة أ�طلقت من عينيه �شرارات ت ؤ�كد �أنني �أعني ما أ�قول ( .م�ش كل الطير اللي يتاكل لحمه) .. 275
اقـر أ� كتـابـك ... لم يكن (المعذبون في ا ألر�ض) �أول كتاب أ�قر أ�ه ،لكنه كان أ�ول كتاب أ�عيد قراءته و أ�حفظ منه بكل �إرادتي فقرات كاملة .كان ترديدها يجعلني أ�بكي ..ذات يوم �ضبطتني �أمي و أ�نا �أغلق غرفتي عل َّي معه ،فحاولت أ�ن �أخفيه لكنها لاحظت احمرار عيني � ..ضربت �صدرها بملء كفها وهي ت�صيح : -يا ح�سرتي ،مالك يا عين امك ..بتعيط ليه � ..إيه ده ؟ هات اللي بتخبيه ده .. ولم أ��ستطع الرف�ض .فلما ر أ�ته كتا ًبا � ،ضحكت ،ف أ��سرعت ب إ�خفاء وجهي الذى يبلله الدموع تحت اللحاف ،لكنها لم تترك الكتاب إ�لا بعد �أن قر�أته .. وعادت �إل َّي ووجدتني نائ ًما ..ف�أيقظتني وجل�ست 274
البيوت يت أ�وهون في ظل الحيطان ،مهجورين �إلا من أ�م عجوز توا�سي بلا حيلة ،أ�و زوجة متبرمة تلبي نداءاتهم في ا�ست�سلام وبلا أ�ي ن�صير على الإطلاق �سوى ال�صمت والفقر والرعب حين ت�شتد نوبات المر�ض المجهول ..لم أ�كن �أفعل �شي ًئا �سوى � ,أن �أم�ص�ص �شفتي �إ�شفا ًقا ..قد أ�ناول هذا القلة لي�شرب �أو أ�غلق الباب المك�سور إ�ذا طلب مني ذلك � ،أو أ�قرب له رغيف الخبز الجاف المغم�س ببع�ض الم�ش ليكون أ�حن على أ��سنانه ،و أ�فعل ذلك و�أنا �أح�س �أنني ملاك الرحمة ..و أ�ن�سى الأمر بمجرد ابتعادي . لم أ�كن �أح�سن ب�أي م�شاعر حادة حيال معاناة عمتي (فريدة) وزوجها (ح�سين) ،الذي عاد من م�ست�شفى المجانين ،عاج ًزا م�ست�سل ًما لقدره . يجل�س طول اليوم في مكانه أ�مام الدار على قرافي�صه ,وك أ�نه يتهي أ� لرحيل لا يحدث أ�ب ًدا .يت�أمل الرائحين والغادين ،يقتله العجز لعدم ا�ستطاعته م�ساعدة زوجته في تروي�ض �أطفالها ،وفي �سد حاجات الغيط والبيت .. ولا يعتر�ض على إ�ر�سال ابنه للخدمة عند بع�ض �أقاربه الطلبة في م�رص ,لقاء لقمته وهدمته وقرو�ش قليلة .. لم �أكن �أجد غرابة في ذلك ،فهذه هي حياتهم �أراها منذ وعيت على الدنيا دون �أن تقلقني أ�و تثير ده�شتي ،بل إ�نها �أحيا ًنا ت�صبح مادة لعبثنا الطفولي � ،إذ كنا �أحيا ًنا �إذا ما لم نجد �شي ًئا آ�خر ي�شغلنا ..نغني للم�سكين الراب�ض عاج ًزا يهوم في عالمه ،با ألغنية التي �أطلقها البع�ض �سخرية من ق�صة حبه لعمتي �أيام ال�شباب .وكيف أ��شعلت ب�أحداثها النارية غيرة الكثيرين فغنوا لهما مر ًحا ما نغنيه نحن ا آلن إ�زعاجا و�سخرية وقد تبدلت الأحوال وتهدلت المعاني وجفت : (جلاوين جلاوين جلاوين وفريدة بتحب ح�سين /وح�سين ما بحبها�شي !) 277
كانت كل أ�حوا�ش و�سطوح البيوت التي حولنا من �أقارب �أقربين و�أبعدين مفتوحة لي ..وكنت أ�ت�أمل ما حولي في لا مبالاة ..بل أ�حيا ًنا في براءة و�سعادة .لا �أح�س بق�سوة الفرق بين بيتنا وحياتنا وبين حياتهم وبيوتهم ،بل قل جحورهم وزرائبهم.. لم �ألاحظ �أن معظمها لا توجد بها �سراير ،ولا كنب ولا مرايات . ينامون على الم�صاطب أ�و على ا ألفران أ�و في أ�ركان غرف عارية ...على ح�صير �أو عباءة تحت�شد فيها الح�شرات ..والبع�ض ينام على ال�سطوح ،داف ًنا نف�سه في أ�كوم الق�ش .وكم كنت أ�فرح إ�ذا ما ت�صادف ودخلت زريبة (ال�ص ّديق) المعتمة التى تفتح عليها نافذة المندرة يعي�ش فيها عندما تقوم زوجته (عاقلة) بحلب الجامو�سة التي ولدت حدي ًثا ..وتغريها (بال َب ّو)، وهو هيكل م�صنوع من جلد عجل �صغير ،تخدعها به لتدر لبنها ك�أنه لر�ضيعها ..و أ��شارك في مرح عندما يعود زوجها وابنها من الغيط ،فيلقي بحمل البر�سيم في قرف ويزعق طال ًبا الطعام ..فت�سرع لت�ضع أ�مامهم على الأر�ض ،فوق ح�صيرة مهترئة ،حلة البامية أ�و الملوخية (القرديحي) وتلقي أ�مامهم بعدة ر�صات من الخبز وب�ضع ب�صلات أ�و حزمة �سري�س .. ف أ�جل�س بينهم في �سعادة � ،أ�شاركهم طعامهم ال�شه َى ،م�ستطع ًما م�ستل ًّذا م ؤ�ك ًدا لنف�سي أ�نه أ�لذ كثي ًرا من طعامنا المجهز بالم�ستكة والحبهان ،والمط َّعم (بالظفر) ،في �أطباقه المغ�سولة ..مبر ًرا أ�ن هذا يرجع للفرق بين الطهي على (الموقدة) والطهي على وابور الجازلأننى لا أ��ستطيع أ�ن أ�تخيل �أن هناك امر أ�ة تفوق �أمى فى طهى الطعام. وكنت في خ�ضم اندماجي مع الأولاد والبنات ونحن نتجول كالعا�صفة في كل مكان ،نطارد الكلاب ونزعج البط والدجاج ون�صيد الزرازير � ،أو الجعارين �أو أ��سماك الترع ،حين أ��شاهد المر�ضى من �أهل تلك 276
لمطاردتها ع�شوائ ًّيا ..بتطويح ما جهزناه من ع�صي طويلة وفروع �شجر أ�و جريد نخيل وبو�ص ريح ،ويتفاخر كل منا بعدد ما أ��سقط من (وطاويط) كنا نظنها ع�صافير جنة ..ونخافها طول الوقت حذرين �أن يلت�صق أ�حدها بوجه �أحدنا � ،ساعتها لن يترك المبلي البائ�س ولا (بالطبل البلدي) حتى يمت�ص دمه ..وكنت �ألاحظ هذه (الوطاويط) في غير أ�وقات هيجانها معلقة في هدوء من �أرجلها في �أ�سقف الزرائب وا ألفران ،حيث ينام �أ�صحابي و�أهلهم تحتها في تعاي�ش ولا �أجد �ساعتها في ذلك أ�ي غرابة !! أ��سمع �أن والد �صاحبي (مو�سى) مات فج�أة مع �أن الكل كان يتوقع موته من زمن طويل ،كان كر�شه المنفوخ �أمامه يكبر يو ًما بعد يوم ،لم يقعده عن الذهاب كل يوم للغيط وممار�سة �شئون الفلاحة ..حتى انفجر فج أ�ة ونزف د ًما �أ�صفر كال ِم َّدة من فمه و أ�ذنيه وا�سته ..وفاحت رائحة زنخة لم تفلح و�صفات الحانوتي في منعها �إلا لما �أطبق عليها غطاء القبر .. وكنت �أ�شاهد في ذهابي و�إيابي ( أ�بو الرو�س) يجل�س على الم�صطبة العالية أ�مام بيتهم المواجه لأبي خ�شبة (الخرابة) و�أمه ال�ضئيلة الج�سم تقوم على خدمته و�إ�سناده حتى لا ي�سقط ب�سبب ت�ضخم ر أ��سه التي تبلغ �ضعف ج�سمه ،منت�صبة كهرم مرعب مقلوب ..بل وكنا نداعبه ونلاعبه �سخرية في غيبة أ�مه ل�ش�أن من �شئونها ..ولما تعود تطردنا وتنعتنا بالكفرة ..ألنها ت�صر على �أن ربنا �أكرمها به .فهو ولي من �أولياء الله ،تخدمه طول الوقت لتك�سب ثوابه ،فالله يبتلي عباده المخل�صين ..بينما كان بع�ضنا يت�ساءل في خبث ..كيف خرج هذا الر أ��س المخروطي ال�ضخم من فرج تلك المر أ�ة الهزيلة الواهنة التي ت�شبه خنف�ساء بلا �أرجل . 279
لم �أكن �أح�س ق�سوة �شم�س القطن و�أح�سد ال�صغار الذين ي�ساقون إ�لى جمع لطع الدودة من الأ�شجار الم�صابة في عز نقحة ال�شم�س ..و�أح�شر نف�سي معهم (ببيجامتي) النظيفة ك أ�نني أ�ريد �أن أ��شاركهم (لعبهم) .وكان الخولي يطردني برقة إ�كرا ًما (لعبد الباقي أ�فندي) � ..أو يطاردني ملوحا بل�سوعة خرزانته التي ي�سوق بها غيري للعمل ..مهد ًدا ب�ضربي بجد إ�ن نزلت الغيط ولم �أرجع إ�لى البلد وي�صرخ ف َّي محت ًجا : -ايه يا اخوان البلاوي دي انت جاي تبلينا ما تروح لأهلك يا ابن عبد الباقى �أما م�صايب.. ولكنني لم أ�كن أ�جد في ذلك أ�ي م�صائب ..فبع�ض من يحترقون في ال�شم�س �أ�صحابي ،لماذا لا �أ�شاركهم ،وك أ�ننا ن�ستحم في الترعة �أو نجمع التوت �أو نت�آمر لغزو الجنينة .و�أنده�ش ج ًّدا ولا أ�جد إ�جابة ل�س ؤ�ال يلح عل َّي لماذا لا ي�سمحون لي ؟! �أعود �شاك ًيا ألمي ..فتموت على روحها من ال�ضحك ..وتناولني كعكة مما أ�ح�ضره �أبي من المدينة ،ول�سنا في مو�سم الكعك ف�أتظاهر ب أ�كلها ..و أ�خفيها في جيب البيجامة لأ�شارك فيها �أيًا من أ��صحابي ..وكثي ًرا ما كان يحدث أ�ن أ�ن�ساها فتزيت ملاب�سي .وتنهرني أ�مي وهي تغيرها لي ب�أخرى نظيفة ،مثلما تفعل كلما عدت لها آ�خر النهار ملوث الثياب بطين الم�صارف ،أ�و بتراب الم�صاطب المندي أ�و بغبار ال�ساحات الذي لا يكف عن الا�ستجابة ألقدامنا و أ�ج�سادنا التي لا تهد أ� ولا تكف عن العفرتة.. كنا مع المغرب نخو�ض معا المعركة اليومية مع (الخفافي�ش) ،جيو�ش م�ؤلفة منها كانت تنطلق مع الغروب من �أ�سقف الزرايب والعراي�ش والأحوا�ش المظلمة .تطير بجنون عبر ال�شوارع والحواري فن�سرع نحن 278
عل َّي ه ٌّم لم يفارقني وامتزج بدمي �إح�سا�س قاتل بالذنب فيما لا ذنب لي ..واكت�شفت مرارة في ل�ساني لا تزول ..وده�شة مبعثها اكت�شافي أ�نني �أعاي�ش طول الوقت �أولئك المعذبين في ا ألر�ض ،دون أ�ن أ�ح�س بتلك الم�شاعر ،التي �أطلقت دموعي ح�سرة وحز ًنا عليهم ..حين قر أ�ت عنهم كلمات مكتوبة �( .أي �سر تملكه تلك (الكتابة) لتدمر هنائي ،وت�سلبني براءتي � ..أي �سر ..؟!) -منك لله يا ابن عبد ربه !! ••• 281
كنت أ�تعاي�ش مع كل ذلك في غمرة ن�شوة ال�صبا ..ولا �أح�س تناق ً�ضا بين حياة بيتنا (البندري) الذي ي�شع بيا�ضه في الحارة ،المبلط ا ألر�ض ،ذو ال�سلالم البلاط ،والحمامات ذات الموا�سير ..والراديو �أبو بطارية �سايلة ، والإيريال العالي المزدوج ،والفراندة الملونة الزجاج واحدة بحرية و�أخرى قبلية على ال�شارع ،تمرح الن�سمة الطرية في ال�صيف بينهما لتجعل من ال�صالة العلوية في الدور الثاني م�صي ًفا ومتعة ..تت�صدرها (�أم �سمير) وهي تقور كو�سة المح�شي �أو تلف ورق العنب �أو تنظف ا أل�سماك �أو تنقي العد�س وا ألرز ..في دعة واطمئنان لتجهز الطقات الثلاث في مواعيدها .وتجعل منها طقو�ًسا ي�شارك فيها الجميع بلا �أي �أعذار لمن يك�سر النظام .. �أو تتبادل الأحاديث وا ألخبار مع (خلت خ�ضرة) التي تقعي على البلاط البارد م�ستمتعة بملم�سه ،و أ�مي تطوي وترتب غياراتنا المغ�سولة والمزهرة التي كانت منذ قليل ترفرف كالأعلام فوق ال�سطح على حبال غ�سيل مثبتة في م�سامير و�أعمدة .لترتب ملاب�س كل منا في غيارات معلومة ،لتو�ضع في تراتيب من�سقة في الدولاب ..لتخرج في موعدها ..حمام كل �أ�سبوع بالماء ال�ساخن في ال�صيف ..وكل �أ�سبوعين في ال�شتاء للجميع بلا ا�ستثناء مهما كان �شح المياه في ال�سدة ال�شتوية . العجيب أ�نه لم يكن يده�شني ذلك التناق�ض بين هذه ال�صورة التي ت أ��سرني كل م�ساء في مواعيد الطعام المنتظمة ..وبين تلك الحياة التي تخطفني طوال اليوم ولا أ��ستطيع �أن �أخل�ص نف�سي منها لتلبية نداءات البيت الجبرية ومواعيده المن�ضبطة إ�لا ب�صعوبة بالغة .. لكنني حين قر أ�ت (المعذبون في ا ألر�ض) فقدت براءتي ..وحط 280
فى نترة واحدة ..وانطلق بنا حماره رك�ضا إ�لى مكنة الطحين التى كان ل�صوتها المتقطع الحاد ذى الايقاع المتواتر رنينا خا�صا لم أ��سمعه فى أ�ية بقعة �آخرى من بقاع ا ألر�ض .ومازال يرن فى �أذنى حتى الأن كلما فا�ضت روحي �شوقا لذكريات �صبا وطفولة (ميت �سل�سيل) .. وب�سببه مازلت حتى الآن �أحفظ ف�ضلك يا�صديقى فى �إ�شتعال جذوة �شغفي (بال�شعر الأكرت والعيون التى �سرقها الحزن من البر�سيم) والنم�ش الذى جذبنى إ�لى وجه (مديحه) من بين وجوه البنات ال ألتى يتزاحمن لجمع (الرجيع) الناتج عن هر�س غلاف الأرز ال�شعير خلف ماكينة تبيي�ض الأرز .. بنات فقيرات من عائلات الكدح والتراحيل (المعذبون فى الأر�ض) .ي�ؤجرن لكل الأعمال الطارئة من حمل مون البناء إ�لى جمع الدودة أ�و ملء �أزيار الماء للبيوتات الم�ستورة أ�و جمع القطن أ�و تنقية الغلت والبخر و الحندقوق من غيطان الأرز أ�و القمح ..وكن حين لا يجدن ذلك لقاء قرو�ش قليلة ,يقمن ب�أعمال خا�صة متنوعة لح�ساب من يطلبهن لقاء ن�سبته من الناتج ايا كان ,فيقمن بجمع الجلة الحية ،بمتابعة البهائم لدى عودتها من الحقول حيث تكون قد ه�ضمت طعام اليوم كله ..أ�و بجمع (الرجيع) ه ْر�س ق�شر الأرز ،ح�سب طلب �أ�صحابه لقاء ن�سبة عينية منه لبيوتهن �أو لح�ساب �صاحب الماكينة نف�سه .وكان (ال�سيد البديوى) يجل�س فى ك�شك �صغير م�صنوع من نف�س ال�صاج الرمادى الم�صنوعة منه جدران مبنى الماكينة التى ت�ضم عنبرين � ،أحدهما لطحن القمح وهو الاكبر والآخر لتبي�ض الأرز .تزدحم فيه الفتيات يعر�ضن �أنف�سهن على �صاحبات الأرز المق�شور (المب ّي�ض) أ�و على كاتب الماكينة وابن �صاحبها (ال�سيد) ليختار المحظوظة التي تقوم بالعمل لح�سابه . 283
لا تق�ص�ص ر�ؤياك حين �سمعت �صوت (خالت حميدة �أم ق�شلان) تنادي ابنها (فتحي) على طريقتها -يا للا ياواد يا فتحى �أتفتحت في را�سك طاقة !! أ��سرعت انزل ال�سلم قف ًزا �إلى �أول ال�شارع حيث بيت (ا أل�ش ّنة) (جمع ق�شلان) ..فقد وعدني �صديقي (فتحي) أ�ن ي�صحبني إ�لى مكنة (البداوية) لنح�ضر الطحين و أ�ن يعطيني فر�صة ركوب (حماره الح�صان) ،نعم كان حما ًرا كالح�صان ف�أذنيه �أق�صر من الحمار العادي ..وذيله أ�غزر �شع ًرا وج�سمه �ضخم عال ب�شكل غير طبيعي ..ولم يكن ي�شكمة وي�سيطر على جموحة إ�لا قلة على ر�أ�سهم (فتحي الق�شلان) .. ر�أيته يركب (الحمار الح�صان) ولما لمحني قادما �إليه مد ذراعه القوي تعلقت به ورفعت نف�سى خلفه 282
وراءه داخل الوابور مجاملة له فقط ..بل كانت مجاملة لي بالدرجة الأولى يا �صديقى مثلما كانت مجاملة لك . فقد كانت حبيبته (هانم) بنت ال�صايغ جارتنا لزم ,ت�سكن فى مواجهة منزلنا ،وبما أ�نه ي أ�تي لزيارتها كثيرا وفي أ�وقات ملفتة للنظر ومثيرة ألقاويل ولغط كان لا يهتم لهما كثيرا .كان يهتم أ�كثر �أن يجدنى مبت�س ًما له كلما �صادفته داخلا أ�و مغاد ًرا في تحد ألخويها المتخا�صمين المقيمين بنف�س البيت ،مما عقد بيننا �صداقة رغم فارق ال�سن .لذا لا ت ؤ�اخذني يا �صديقي – فانا �أعرف �أنه �صديق لك قبلي و أ�كثر مني ألنكما بحبل الغرام مو�صولان هو يحب جارتنا وانت تحب �صديقتها إ�بنة (الع�صفوري) وكثيرا ما اجتمعنا على ر�أ�س حارتنا �أمام بيتكم �أو أ�مام بيتنا لتتمكن من ر ؤ�ية حبيبتك .حين ت أ�تى م�ستترة خل�سة لزيارة �صديقتها فى غب�شة الم�ساء . المهم �أنه – مجاملة لك �أولى أ�جل�سنى على دكة �سلطته حتى تنتهى من عملك .بل وتركنى أ�مار�س بع�ض مهامه ف أ�زن وزنة بين الحين والحين �أن �أراد القيام لبع�ض �ش�أنه أ�و ليظهر مزيدا من إ�عزازه لي .بجعلى ا�شاركه بع�ض �سلطته المطلقة ! وفي �إحدى هذه المرات ن�شب �صراع .وقامت خناقة بين الفتيات جامعات (الرجيع) كادت ت�صل إ�لى حد الت�شابك .وا�ضطررت لممار�سة �سلطته فى التدخل �صارخا فيهن ،من حيث �أنا وراء ال�شباك مهددا بطردهن جميعا ،ولده�شتى �إمتثلن ل�صرختي اله�شة و�صوتي الغر وتراجعن .أ�خذتني جلالة الموقف حين هد أ�ن ب�شكل لم أ�توقعه .ناديت عليهن أل�س أ�لهن عن �سبب النزاع .ولما ح�ضرن �أمامي متزاحمات م�ست�ضعفات ي�سترحمنني ..كدت افقد �سطوتى .ألننى ر�أيتها ألول مرة (تلك العيون التى �سرقها 285
يتقاتلن في �صخب طول الوقت م�ستجديات �أن يكلفن بالعمل . يحدثن �ضجي ًجا و�صخ ًبا يعلو على �صوت الماكينة نف�سه .بينما يجل�س (ال�سيد) �أمام �شباك فى واجهة الك�شك تخرج من �أ�سفله طبلية الميزان ، الذى تو�ضع عليه قفف �أو زكائب الأرز ،بينما يجل�س هو مزهوا بنف�سه متحكما ومراقبا كل ما يجري �أمام الك�شك والماكينة من ال�شباك الذى يقع وراءه مبا�شرة �صدر الميزان حيث الذراع ذى الرمانة .يراقب حدود مملكته من الخارج �سواء خارج المبنى �أو حو�ش ماكينة تبي�ض الأرز من خلال الباب الكبير الوا�سع الذى يكاد ي�شكل ن�صف الواجهة . ربط فتحي (حماره الح�صان) فى ال�شجرة الوحيدة التى تقع أ�مام الماكينة ،على �شاطئ القناة ال�صغيرة التى يندفع فيها الماء ال�ساخن من الماكينة بعد قيامة بتبريدها �إلى م�سرف (البوالي�ص) والتى ت�سببت �سخونتها فى تقزيم ال�شجرة العجوز ف أ��صبحت ذات منظر فريد لات�شبهها فيه �شجرة �أخرى .. �سمح لى (ال�سيد) بالجلو�س الى جواره على دكة �سلطته المطلقة ،وراء ال�شباك المطل على بانوراما الم�شهد .وهو مكان لاي�سمح بجلو�س أ�حد فيه أ�ثناء ذروة العمل إ�لا لمن يع َزه .حيث تتوافد أ�مامه �ستات وبنات البلد الم�ستورات اللائى يحجبن فى البيوت انتظاراً للزواج ,لكن يذهبن لبيا�ض الارز أ�و لطحن القمح لل�ضرورة .وغال ًبا لفر�صة �شم الهواء الحر خارج البيوت ،والأمر لا ي�سلم إ�ذ تنك�شف الوجوه وا ألذرع بل وبع�ض ال�سيقان اثناء المهابرة والتزاحم على �أولوية الدور ،لوزن حمول الأرز �أو القمح وو�ضعه على الميزان �أو رفعها عنه ثم دفع ا ألجر �أو الم�ساومة عليه .وما فى ذلك من مجاملة أ�و دلع وجبر خواطر ! وكانت دعوة (ال�سيد) لي أ�ن أ�جل�س إ�لى جواره حتى ينهي (فتحي) ما 284
مبت�سمة قبل �أن تدخل الماكينة .إ�بت�سامة �أ�شرق معها وجهها نظيفا لا �أثر عليه لغبار الرجيع �أولانك�سار الفقر . كان (ال�سيد) �إلى جوارى خلف النافذة ي�ضحك من القلب وينادى: -تعالى يا (فتحى) �شوف �صاحبك واللى جرى له .. ولاح (فتحى) فى باب وابور الطحين وهو ينف�ض ملاب�سه من غبار الدقيق : -ما له ؟ كفى الله ال�شر ..قدامى ل�سه �شويه يا أ��ستاذ (�سمير) وح نروح على طول . قاطعته حتى لا �أ�صبح محور حديثهما ،فيف�سدان عل َى الحالة التى قررت �أن �أخو�ضها محتفظا لها بخ�صو�صيتها .فلا ت�صبح حدثا يف�ضح قد�سيته ا أل�صدقاء ويتم�سخرون عليه مثلما حدث (لخطاب بنت الهوارى) المزعوم الذى د�سه البع�ض ع ّلى والذى أ�كت�شفه معى فى الف�صل ا أل�ستاذ (الن�شار) ..في ا أل�سبوع الما�ضى ..وكانت مرارته فى حلقى مازالت حادة حتى غ�سلها ع�سل عيون (مديحة) البر�سيمى .. لم أ�تعمد أ�ن تتقم�صنى �شخ�صية (دارتنيان) ولكننى قررت أ�ن �أ�ضع (مديحة) تحت حمايتى ! (كنت قد �شاهدت فيلم (الفر�سان الثلاثة ) منذ عدة �أ�سابيع حيث كانت �سينما (المنزله) قد افتتحت بفيلم (فتاه من فل�سطين) وك�أنه جاء �إحتفالا بعودة جي�شنا المحا�صر (المنت�صر) �إبان النكبة .فتقم�صتنى روح الطيار .الذى �أحبته الفل�سطينية وقررت �أن �أكون طيارا ثم تلاه (فيلم المجنونة) فغيرت طموح تخ�ص�صى ألكون دكتورا � ..إن�شاء الله ..وظللت �أغير مهنتى أ��سبوعا بعد أ��سبوع ح�سبما يكون بطل الفيلم الذى عادة مايقع 287
الحزن من البر�سيم وذلك ال�شعر الأكرت )..فتلعثمت كثيرا �إذ خطفت قلبي ك�أنما أ�نتزعته مني !! وعجزت عن ا أل�ستمرار فى دور القا�ضى .. ولولا و�صول (ال�سيد) وتوليه أ�مر النزاع لأغ�شى على ،ب�سبب حرجى من الخر�س الذى لجمن ّي . وك�أنما �ضرب �ساحة ماكنية الطحين (نيزك) �شارد �أو زلزلت ا ألر�ض زلزالها ألنه �ساد �سكون تام ..واختفت كل مخلوقات ا ألر�ض و أ�ثقالها فيما عدا ابت�سامتها الم�شرقة التى لم يخفها الغبار و�ضفيرتيها الخ�شنتين و�سكت العالم حولى و�إلى �إن �سمعت �صوت (ال�سيد البدوى) ي�صرخ ف ّي : -مالك يا ابو�سمره ..هوه �سرحت فى �إيه ؟ مالك؟ ثم عرفت �إ�سمها لما �سمعته ينهرها فى ق�سوة -إ�يه يابت (يا مديحة) �إيه يا بنت (�أم نمر) عملتي �إيه يابت ز َعل الأ�ستاذ ؟ ...هم�ست بلا �صوت ( .ز َعلتنى ازاي يا (�سيد)؟ .قول �سحرتنى �شلتني ..؟) .. كانت عيناها الزمردتين ت�شعان من تحت رمو�ش غطاها رجيع ا ألرز .وتبرقان فوق خديها الورديين المنم�شين المتربين ,وكان �شعرها الأكرت الذى يطل نافرا في �ضفرتين زعرورتين من تحت منديلها ا ألوية ا ألجرب الم ّغ رّب ..يج�سدان لي حلما �أخذ بلبى ،و�أ�سرنى منذ تعلقت ببنت (الهوارى) والتي تج�سدت لى (مديحة) نموذ ًجا نظي ًفا لها � .إ�ستبدل خبالى جلبابها الناحل الكالح الفقير بملاب�س مدر�سية نظيفة .. هزني (ال�سيد) ف أ�يقظ �سباتى وانتبهت أ�ن قلبى يكاد ينح�شر فى حلقومى ..و�شاهدت البنات يتفرقن ويعدن إ�لى العمل �إلا هي ..و�سمعت قلبي يعود من �إختناقته ويدق على طبلتي �أذني ..عندما ر أ�يتها تلتفت لي 286
فت�سللت متظاهرة �أنها تريد �أن تعرف ما أ�ريد .. كان �صوت ا آللات عاليا وله هدير ..لكنها بعد ألى التقطت ما �أود قوله ب�صعوبة � ..أن تلحق بى عند �سور الم�ست�شفى القريب حيث �س�أ�سبقها �إلى هناك راكبا الحمار . وعدت ب�سرعة و أ�نا �أ�سابق دقات قلبي المنفعل فقد كنت كمن �صعد جبل (الجيو�شى) عدوا .. لمحني (فتحى) �أحاول ركوب (الحمار الح�صان) فترك مابيده وجاء ب�سرعة و�ساعدنى على امتطائه وكانت المرة ا ألولى التى �أمتطيه وحدي . وناولنى مقوده وقال فى �سماحة : -ماتروح�ش بعيد �أنا قربت �أخل�َص . قلت له بلا مبالاة : � -أنا ح ا�ضرب بلطة ع الزراعية وارجع حالا .. �إبت�سم (فتحى) فى ثقة و�ضرب (الحمار الح�صان) على م ؤ�خرته ف أ�ندفع بى فج�أة كح�صان ،حتى كدت أ�فقد توازنى و�أف�شل فى أ�ول محاولة لتقم�ص روح الفر�سان .. عبرت �شريط ال�سكة الحديد بعد �أن تعمدت المرور أ�مام باب ماكينة الفرك حيث الفتيات أل�أكد (لمديحة) ما طلبته منها �إذ كنت أ��شك أ�نها إ��ستوعبت طلبى �أو وافقت عليه ب�سبب هدير الآلات المرتفع .. لكني عدت منت�شيا بحالة الفرو�سية التى تقم�صتنى ب�سبب طاعة (الحمار الح�صان) لتوجيهاتى على غير عادته مع ا ألغراب ،و أ�قنعت نف�سى �أنها واحدة من �أمارات الحب تح�سها الحيوانات والطيور القريبة من المحبين اذ ت�سرى اليهم كالكهرباء .. م�ضيت قليلا على الزراعية ،وكان القمر طفلا ير�سل ظلالا أ�كثر 289
فى الغرام وتحيط به الم�شاكل والد�سائ�س لينت�صر فى النهاية ويفوز بمع�شوقته رغما عن أ�نف الجميع �أو بمباركتهم و�سط فرحة وبهجة و�سعادة . وكان (دارتينان) رابع الفر�سان الثلاثة و�أظرفهم قد التقى وهو الريفى بخياطة الملكة التى ت�سكن فى بيت متوا�ضع فى أ�حد حوارى (باري�س) الفقيرة ..فقرر �أن ي�ضعها تحت حمايته و�أن ي�صد عنها عدوان وم�ؤامرات الحر�س ال�شرير ).. أ�خذت أ�حوم حول وابور الطحين و أ�نا أ�فكر فى طريقة للحديث معها بعيدا عن الأنظار .ظن (فتحى) عندما ر آ�نى �أمر من جانبه إ�لى حيث موتور الماكينة أ�ننى �أ�ستعجله : -ن�ص �ساعة بالكتير يا �سمير وح نروح .. �ضحكت وقلت له �أطمئنه -ما ت�شغل�ش بالك ،خد راحتك ،أ�نا ب�س باتفرج . ودخلت الجزء الخلفى حيث (الموتور) الذى تخرج منه ال�سيور ،التى تدير ماكينة طحن القمح والتى تدير ماكينة فرك (تبيي�ض) ا ألرز وكنت �أعرف المكان جيدا فقد �إرتدته كثيرا عندما كنت يوميا �أدخله ل�شحن بطارية الراديو .كانت الفتحة الم�ؤدية لماكينة الطحن كافية لمرورى عبر الجدار .ولكن التى تمر بها �سيور ماكينة الفرك لم تكن كافية ألعبرها �إلى حديث الفتيات .فوقفت و�سط �ضجيج ا آللات محاولا لفت �أنظارها .. ولما ر�أتني (مديحة) �شهقت خو ًفا من أ�ن أ�عبر بجوار ال�سيور .وانتهزتها فر�صة ف�أ�شرت �إليها �أن تقترب .لكنها خافت فالإقتراب من ال�سيور خلال عملها العنيف خطر وله كثير من ال�ضحايا ... �أ�شارت لي أ�ن �أبتعد و أ�عود ولكنى لاعبتها بالتهديد أ�ن �أقترب �أنا .. 288
ولا كيف أ�خاطبها ولكن �صوت (نهجانها) �شجعنى لأخفي (لهاثي) ف�أنحنيت عليها واختطفت ب�شفتى �شفتيها البكر و�أذوب فى ع�سل �أول قبلة تلهبها م�شاعر حقيقية ملمو�سة .وهمت في رعدة غامرة لم �أعرفها من قبل .لا في �أوهام غيبوبتى مع (زهزهان) ولا فى أ�حلام يقظني مع (نرج�س) . كانت قبلة �أبدية كونية لم يفارقنى طعمها الخ�شن المغبر فى يوم من ا أليام . ••• 291
مما ير�سل �ضوءا ..ولكننى �أح�س�سته بدرا و أ�درت ر�أ�س (الحمار الح�صان) وعدت مت�سللا بجوار �سور الم�ست�شفى الذى يغطيه اليا�سمين الزفر الذى بدا لى �سياجا مزهرا ك�أ�سوار ق�صور (باري�س) ..و�أخفيت معظم ج�ْسمينا تحت غ�صون اليا�سمين المن�سدلة �إلى منت�صف الم�سافة إ�لى الأر�ض ووقفت �أحملق في الم�ساحة الممتدة أ�مامى حتى ا�ضواء وابور الطحين . كان الليل قد تقدم بما يكفى كى تنقطع الرجل على الزراعية في الم�سافة الطويلة تلك التي تف�صل بين قهوة ( أ�بو را�شد) وج�سم القرية الرئي�سى .وبين وابور الطحين والم�ست�شفى حيث ترعة ال�سلطان .. لم يكن هناك �سوى ب�ضع رجال على الجانب الآخر بعيدا حيث (عزبة الغجر) من عمال التراحيل ،ي�صل إ�لى أ�حيانا طرف من حديثهم حول عمل الغد و�صوت خلافاتهم على ا ألجور . لمحتها بعد �أن �أرهقنى الانتظار فارتع�ش كيانى وارتع�ش الحمار تحتي ي�شاركنى فرحتي ،و أ�نا أ�تابعها تت�سلل محتمية بظلال الظلام مهتدية بظلال �ضوء الهلال الوليد حتى عبرت الزراعية وهى تتلفت وت�سرع حتى احت�ضنت رقبة (الحمار الح�صان) منفعلة وك أ�نها تريد ال�شعور با ألمان ..لم تكن هى ,بل كانت طيفا نورانيا لا يف�سد جماله غبار رجيع الأرز المختلط بعرق ال�شقاء طوال اليوم بل يزيده بهاء . قاومت رغبتى فى النزول ألتلقاها بدلا من رقبة (فر�سي) ،حتى لا يظهر عجزي عن امتطائه مرة أ�خرى ..ولكننى مددت يدى الحرة .. ومل�ست على �شعرها و�أل�صقتها ب�ساقى ..قالت : -عايز �إيه يا�سى �سمير مني .. عجزت عن الرد ..فقد كنت فى الحقيقة ال أ�عرف ما أ�ريده منها 290
ف�أكت�شف �أننى حملتها فى نافوخى بكل ما ي�صطرع فيها من �ضجيج وزحام وب�شر ي�ستيقظون كلما حاولت النوم لأ�ستجمع قواى كى اتمكن من ممار�سة هوايتي و�أم�سك بالقلم ..ف�أهرب من الكتابة و�أخترع لنف�سي �ألف حجة �أ�ضيفها لما لد َّي من الحجج الجاهزة � ،إذ تنتظرني هنا أ�لف مهمة ومهمة م ؤ�جلة ،مثل دق م�سمار لتعليق فوطة في المطبخ حتى لا �أ�ضطر كلما ابتلت يدي �أن أ�جففها في جلبابي وي�ضطرني منظره �إلى �إعادة غ�سله � ،أو عزق طرف الجنينة و إ�عادة غر�س ال�شجيرات التي ف�شلت في اختراق ا ألر�ض فظلت قزمية قزعة ،وتوقفت عن النمو ،و�إن �أ�صرت على تم�سكها بالحياة ورف�ضها الموت ..م�ؤيدة قرار الكف عن الا�ستمرار في كتابة ذلك الم�سل�سل الفكاهي -الذي كانت قد اتفقت معي على كتابته تلك المحطة (ل إلر�سال المبكر) التي عر�ضت يومها �أج ًرا خراف ًّيا دمر كل مقاومة أ�و رف�ض ي�ستند �إلى ر أ�يي في تلك المحطات ومن يكتبون لها ومن يمولونها - ليبدو لي �أنه �أعظم قرار يمكن به علاج حالتي .. فما حاجة النا�س إ�لى هراء جديد ي�ضاف إ�لى ع�شرات التفاهات التي تقي�أتها المطابع ولا تجد من يقر�أها � ،أو التي تزحم ال�شا�شات لتوقف الزمن وتطم�س الملامح ا إلن�سانية في وجوه وعقول النا�س ..ما حاجتهم إ�لى الفكاهة الم�ؤلفة ،والم�سخرة تحيط بهم وتحا�صرهم من كل جانب في مهزلة لا م�ؤلف لها ..تلعب ا ألدوار الرئي�سية فيها ( أ�ولبرايت) و(مبارك) و(البعث ال�سوري) و(ا ألمم المتحدة) و(القذافي) و(الطالبان) و(عرفات) ومع ذلك يديرون لها ظهروهم ويف�ضلون الفرجة على حركات (زينات �صدقي وعبد ال�سلام النابل�سي) .. لم يعد م�ضح ًكا أ�ن يجل�س الوفدان (ا إل�سرائيلي والفل�سطيني) كالأطفال الم�شاغبين في انتظار (الأل َفة) الذي خرج من ال�صف كي يق�ضي 293
قـدرنـاه تقـدي ًرا... � صار نومي متقط ًعا ،لكن العالم كله ظل حا�ض ًرا و�صاحيا في دماغي ..ترحل بي �أهوائي فيه عبر الم�سافات والأزمان .و�سط �ضجيج هائل من الرغي واللت والزمامير وال�صيحات والذقون (ال َلحى) والجثث والب�ضائع والكتب و�شخ�صيات الكتب ..أ�ح�س مرور الزمن ثقيل ًا و�أنا مغم�ض العينين .يخيل �إل َّي �أن �ساعات طوال قد م�ضت و أ�نا أ�ظن �أني نائم � .أت�صور هذا ب�سبب التعب والجوع �إلى النوم ..أ�فتح عيني ب�صعوبة بالغة و�أبذل جه ًدا خار ًقا للتحديق في ال�ساعة ..ف أ�كت�شف �أن الدهر الذي م َّر عل َّي منذ لقحت ج�سدي على ال�سرير لي�س �سوى ربع �أو ن�صف �ساعة ..ما هذا ؟ ما الذي يحدث لي ؟ كلما جئت إ�لى هذا المكان النائى الذى يبعد �إكثر من 300كم عن �ضجة العا�صمة 292
إ�ذا ما �صورت لهم عم ( ُبرق) مثل ًا وهو عريان ملط وقد انكم�ش �أيره ال�ضخم (الذي �أف�سد عليه حياته) من الرعب وهو م�ضروب وم�سلوخ متد�شد�ش تحت �شوم (ح�سن منير وعبد اللطيف ر�شدي) يجري فينكفئ على وجهه ويقوم متعث ًرا حامل ًا (نمرته) نحو باب (�أبو زعبل) المفتوح الدامي و�سط �صفين من الع�ساكر الجلاوذة يطحنون عظمه ..وحين يرفع ر�أ�سه في�شاهد دخان المازوت الذي تنفثه مدخنة المطبخ ،ي�صرخ في هي�ستريا راف ًعا إ��صبعيه ال�سبابتين ( ..لا إ�له �إلا الله محمد ر�سول الله) ينطق بال�شهادتين قبل أ�ن تلتهمه نار الفرن الم�شتعل والمجهز طب ًعا لالتهام �أج�ساد الم�ضروبين من دكاترة ومهند�سين وفنانين و�صحفيين و�أدباء وبرولوتارية ،و لومبين م�صريين من (المن�صورة) و(طنطا) و(�أخميم) .ماذا لو �س�ألوك عن معنى ( ُب ّرق) أ�و معنى كلمة (جلاوذة) أ�و ما هو ( أ�بو زعبل) .لن ي�صبروا حتى ت�شرح لهم العلاقة بين دخان المازوت ا أل�سود في (�أبو زعبل) ..و�أج�ساد ال�ضحايا في �أفران الغاز النازية في (بوخنوالد) .. ماذا �سيعني كل ذلك لهم � ..سوف يهزون أ�كتافهم وتقول �أقربهم �إليك( ..يا عم كبر را�سك ..هات م الآخر ..يعني �إيه (ب ّرق) نطق و�ستقلب ال�شريط).. إ�قلب راجل يعني ؟! بال�شهادتين .هو (ب ّرق) ده في الأ�صل )1(.. ال�شريط ..الذي هو مقلوب با ألم�س ذهبت لتنام بعد مكالمة � -سخيفة -مع ابنتك الوحيدة ، عكنن كل واحد منكما على ا آلخر رغم الثلاثمائة كيلو متر التي تف�صل (�سيدي عبد الرحمن) عن (القاهرة) ..وذلك ب�سبب (مي�شكا) .. �س�ألتك عن (مي�شكا) و�صحته ..ف�أغ�ضبك هذا ألنها لم ت�س�أل عن �صحتك �أنت بنف�س الاهتمام . ( )1أرجو من القارئ اللبيب إن كان يهمه الأمر أن يراجع (الفذلكة) التي تتصدر روايتي (ولا هم يحزنون) التي لها صلة عضوية بهذه الرواية!! 295
حاجة وتركهم لائ�صين لا يجر ؤ�ون على الت�صريح ب�شيء لل�صحفيين حتى يعود -بعد �أن يبلغوه بكل تفا�صيل ما قيل في غيابه -ليختلي بـ(عرفات) لي�شد �أذنه كي يفهم ويجعل في وجهه حبة دم ويرى كيف �ألغت ( إ��سرائيل) �صفقة الإنذار المبكر مع (ال�صين) دون أ�ن تطلب من (�أمريكا) �شي ًئا .. فيعتذر له (عرفات) ب�ضعف ال�سمع والعجز عن الهرتلة ..ويذهب بنف�سه ليجل�س مع الوفد المناكف لأنه من ناحيته يوافق على �أي �شيء ير�ضى �أولاد العم ،ولكن عنده من ه ؤ�لاء من �سوف ي�أكلون و�شه عندما يتنازل �أو ي�ساوم .ويزايدون عليه ويف�ضحونه ف�ضيحة (المطاهر نهار دخلته) ويعلن المتحدث الر�سمي �أن البقية في الحلقة القادمة . بماذا يجدي م�سل�سل كوميدى كئيب �آخر ..ومازال �سكان الحي الفقير يدفنون تحت الانهيار الطيني أ�و ال�صخري في كل مكان ..رغم تحذير ال�سلطات لهم أ�ن ينتقلوا إ�لى أ�حياء �أرقى ..لكنهم يف�ضلون الموت عنا ًدا (وع�ش ًقا) لع�ش�شهم ال�صفيح وبيوتهم الخي�ش التي لا تمنع �سقوفها الأمطار لأنها أ�كثر راحة طب ًعا !.لا يح�سون فيها بحرج الموت جو ًعا .. ولا النفوق عل ًنا رغم كل النفايات التي تبدعها ا ألقلام ..فلماذا تكتب نفاية �أخرى ..لن تزيد الأمر �سو ًءا في العالم �إن أ�نتجت -و إ�ن �أذيعت لو �أنتجت -و إ�ن �شوهدت لو �أذيعت ،لن ت�ضيف إ�لى الحياة إ�لا المزيد من الفجاجة وال�صفاقة وقلة الطهي ! أ�نت نف�سك تح�س أ�نك لم تعد تجد ما تقوله ولا تعرف كيف تقول إ�ن فر�ض ووجدت �شي ًئا يقال ..وماذا �ستقول ..لأجيال تتحدث لغات أ�خرى ..ولا تدري عما تحكي عنه �شي ًئا ..فماذا – وحياة �أمك – يعني لهم (�شهدي) �أو (ف ؤ�اد حداد) �أو (ف ؤ�اد مر�سي) .ه�ؤلاء ال�شبان �سي�ضحكون 294
مخلية ..بعد �أن �سلخت عنها البي�ض و البهار و الفيجيتار � ..أكل قطعتين �سنتوفتين ثم نظر لى ك أ�نه ي�سبني و م�ضى فى كبرياء يفلق الحجر �أ�سرعت وراءه �أ�ستر�ضيه ألر�ضعه الدواء ..فتزحلقت على البلاط وكادت تتكرر م أ��ساة وقوعي يوم الاحتفال بذكرى (�صلاح جاهين) في (المنيا) ..حين تمزقت كل أ�ربطة و�شرايين و�شعيرات �ساقي الي�سري ..وترتب على ذلك �شللي لمدة �شهر كامل� .شعرت بنف�س الخدر ال�شرير يجتاح �ساقي .و ُخ ِّيل إ�ل َّي أ�نني لن أ�قوم من �سقطتي ولي�س من �أحد ي�ساعدني ..تح�س�ست �ساقي في قلق ورعب لكنها جت �سليمة ..و�ضعتها تحت الد�ش البارد ..ثم جربت الم�شي ،فم�شيت بلا �ألم ،حمدت الرب . و�أخذت أ�نادي على القط و�أرجوه أ�ن يعود لي�شرب الدواء ..لكنه لم يعرني �أدنى اهتمام ولم يرد � ..صعدت �إليه في الطابق الثاني ..كان نائ ًما فلم يعرني �أي اهتمام واكتفى بتحريك إ�حدى إ�ذنيه لتلقط أ�ي حركة غدر أ�قوم بها لإجباره على ال�شرب.. نزلت ال�سلم كي �أح�ضر ال�سرنجة لأر�ضعه لب ًنا أ�و ماء مع نقط الدواء ف�أ�ساعد ح�ضرته على التبرز المريح .كنت قل ًقا عليه بعد بحث م�ضن في البيت كله ألرى �إن كان قد فعلها أ�م لا ..بحثت تحت ال�سراير في الحجرة الكبيرة في البلكونة وال�صالة ا ألولى والثانية � .صعدت إ�لى ال�سطح ،دققت في كل �شبر ..دخلت إ�لى الحمامات والمطبخ ..لم يكن هناك �أي �أثر لبراز في أ�ي مكان ..فانقب�ض قلبي� ،ضاعفت نقط الملين ..لكنه طب ًعا فهم �أنني �أ�ستعد لعمل �شيء ما لا يحبه ..ف أ�ختفى ..درت �أنادي عليه رفعت ملاءات ال�سراير ..زحفت على ركبتي تحت الكنب� ..صعدت ال�سطح مرة أ�خرى نظرت تحت الخزان وبين �أ�شولة (ال�ّسفنج) ..ثم عدت أ�دور حول المنزل ..فت�شت الحديقة � ،شب ًرا �شب ًرا ،مناديًا عليه ذلك النداء الذي تعوده مني 297
غرت من القط ؟ كنت قد أ�خبرتها �أن (مي�شكا) بعافية ..و�أن النا�صور قد عاد للظهور ..اكت�شفه ابن �أختك �صدفة ألنه كان مهت ًما بدرا�سة ت�صرفات (مي�شكا) معك وت�صرفاتك حياله ..و أ��سرار العلاقة الغربية التي ت ؤ�كد الت�شابه العجيب بينكما لدرجة التطابق ..انزعجت هي طب ًعا وطلبت منك �أن ت�أخذه للم�ست�شفى ،وتطلب من أ�ي تمرجي �أن يزيله �أو ينظفه له . -وهات له ملين �أطفال ..لازم ح�صل �إم�ساك .. وطب ًعا قاومت �أن ت�صرح لك �أن كل هذا ب�سبب الإهمال � ..إهمالك! كظمت غيظي ،فكيف يمكن �أن �آخذ القط إ�لى الم�ست�شفى و�أقف في طوابير ن�ساء العربان القادمات لتلقي علاج الأمهات والحوامل وهن ي�صحبن �أطفالهن ليخترقن معهم حواجز زمان وحقب من التخلف البدوي يف�ضلن معها العلاج ب�أع�شاب ال�صحراء وحبة (البركة. ).. ا�ستكبرت أ�ن تتقدم أ�نت ب�شيبتك الوقورة لتطلب و�سط ه ؤ�لاء من ا ألطباء أ�ن يرحموا (قط) قوم ذل . -حا�ضر �سم ًعا وطاعة .. �أح�ضرت له الملين و�أر�ضعته عدة مرات مع حذر كاف لعدد النقط خو ًفا �أن يت�سمم �أو يزيد عليه المر�ض .. هو نف�سه �أيقظني اليوم في ال�ساد�سة ألفتح له باب الغرفة ..و�أ�ضع له الطعام ..لم ي أ�كل ال�سمك ..ال�سمك المكرونة الذي قليته بعد تنظيفه. ف�أكدت طهيه خو ًفا �أن يكون عاد ًما ،لم يعجبه طعمه � ،س ّو ْي ُته في �شوربة بالب�صل والكمون والملح ..ف�ص�صته ..أ�خليته من أ�ي أ�ثر لل�شوك �أو الجلد. ومع ذلك لم ي أ�كله .ق ّطرت له اللبن في فمه ..ف�ص�صت له قطعة دجاج 296
والقلق والاكتئاب؟ بعد هذا العمر العري�ض وتلك الرحلة الطويلة ..منذ قيام الحرب العالمية الثانية ،مرو ًرا بوباء الكوليرا ونكبة (فل�سطين) ا ألولى .. وانتخابات عام خم�سين ..ثم قيام ال�ضباط بطرد الملك لح�سم الأمور و�شنق (البقري وخمي�س) وتوزيع الأر�ض على الفلاحين و(باندونج) والعدوان الثلاثي ويا (حمام البر�سقف) و(احنا اخترناك) (لت�شنق الإخوان الم�سلمين وتطبق مبادئهم) وا�ستقبال اللاجئين من (بور�سعيد) وت�سكينهم في مدار�س القرية والتدريبات للحرب بالع�صي في حو�ش المدر�سة .وحكاوي (محمود الفل�سطيني) وحواديت (�أحمد النادي) و(محمود الباز) ونوادر (ال�شقيط) و(ال�سقا) و(�شطا) و(�سلامة) و(عم ال�صح�صاح) وانتحار (عبد الحميد عثمان) ومقالب (�إبرهيم رخا ومغامرات بنته العم�شاء) وزكي الظروطي) وحكايات �أختي و(نجاة) ومعركة الجمعية والوحدة ..وال�سجن والاعتقال وموت (�شهدي) و أ�بو (زعبل) و(قراميدان) ..و(الواحات) .. و(ال�سوي�س) و�أيام المقاومة وندوات (ق�صر الثقافة) والجواز وحل الحزب والحب المجه�ض .وهلو�سات المراهقين وتراجيديا (جوزفين) و�أيام الحب والخلفة والنك�سة وهتافات الانتقام من �ضباط الطيران ..ومظاهرات 68 فى رم�سي�س والمطالبة بذبح (هيكل) و�سقوط دولة المباحث بعد �أن �صدقنا ب�سقوط دولة المخابرات و(بيان 30مار�س) ومعتقل (طره) ،وزيارات (نجلاء) ومقابلتها الجريئة (ل�شعراوى جمعة) .ووكيل النيابة (رفعت) وعودة (�سيد خمي�س) وظهور (ال�شيخ إ�مام) ،وعود (عدلي فخري)، و أ�غاني (في حب م�صر) و(جماعة الدراما) ..وا ألحقاد ال�صغيرة .. وموت (عبد النا�صر) ..وانتفا�ضة الحرامية ..و�ألاعيب (�شيحا) وملاعيب (تعاليبو) و(ال�سادات) ،وال�سفر للخارج وف�ضح الم�ستور ..ورحلات (ال�سندباد الحديث) ما بين (عدن) و(الكويت) و(دم�شق) و(بيروت) 299
المارة والجيران والعاملين في الم�ست�شفى القريب ( ..مي�شكا ااه) ..الذي �صار به أ��شهر حيوان في (�سيدي عبد الرحمن) و أ��صبحت به �سيرتنا على كل ل�سان ،و�أخي ًرا وجدته معتزل ًا فوق النتوء الخر�ساني في �سقف الدور الأول حيث لا يمكن الو�صول �إليه ( ..مي�شكا) ( ..مي�شكا) يا حبيبي .. تعالى � ..أووبه ..جعان ..تعالى ..جعان .. ما �أن نطقت بها حتى فعلت مفعولها ..الكلمة ال�سرية الوحيدة ال�سحرية التي يتجاوب معها عند نطقها �إذ يبدوا أ�نها تحمل نف�س المعنى في لغة القطط.. تقدم مني في حذر و�شك كعادته ..و�صبرت � ..صبرت حتى �صار في متناول يدي .انق�ض�ضت عليه غير عابئ بتف�سيره لت�صرفي .و�أجبرته على الرقاد بحيث أ�قطر له ما في ال�سرنجة من ماء اختلطت به قطرات الدواء.. همهم ب�ألفاظ أ�قرب �إلى لغة الب�شر مع كل زخة �سائل في فمه المغلق .. تمل�ص �أكثر من مرة وخد�ش بقدمه الخلفية في قوة وتهديد زام مزمج ًرا مهد ًدا ،ولكني لم أ�عره �أي اهتمام ( ..ففيروز) تتهمني ب إ�هماله ..و أ�نا لا �أطيق أ�ن يمر يومان حتى ا آلن دون �أن أ�ت�شرف بجمع بقاياه و إ�خراجه النادر .. وما �أن انتهيت من زخ ما بال�سرنجة و�إفراغها ..حتى تمل�ص مني فتركته .. وقف بعي ًدا يزغر لي من خلف ظهره �صام ًتا حتى انتبهت إ�ليه ،ف�شتمني في احتقار وقرف ..وحين هممت بالقيام ل�ش�أني ولي�س في نيتي الرد عليه �أطلق �ساقيه للريح واختفى في الدور العلوي .. -ما قيمة كل هذا وما دلالته يا �شيخ بعد كل هذه ال�سن ،وما فائدته ..ألي �إن�سان ..وماذا تريد أ�ن تقول به ..هل هو ي�ضفي علي نف�سك راحة حين تكتبه ؟هل يزيدك معرفة بنف�سك ؟�أم يعمق �إح�سا�سك بالوحدة 298
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210
- 211
- 212
- 213
- 214
- 215
- 216
- 217
- 218
- 219
- 220
- 221
- 222
- 223
- 224
- 225
- 226
- 227
- 228
- 229
- 230
- 231
- 232
- 233
- 234
- 235
- 236
- 237
- 238
- 239
- 240
- 241
- 242
- 243
- 244
- 245
- 246
- 247
- 248
- 249
- 250
- 251
- 252
- 253
- 254
- 255
- 256
- 257
- 258
- 259
- 260
- 261
- 262
- 263
- 264
- 265
- 266
- 267
- 268
- 269
- 270
- 271
- 272
- 273
- 274
- 275
- 276
- 277
- 278
- 279
- 280
- 281
- 282
- 283
- 284
- 285
- 286
- 287
- 288
- 289
- 290
- 291
- 292
- 293
- 294
- 295
- 296
- 297
- 298
- 299
- 300
- 301
- 302
- 303
- 304
- 305
- 306
- 307
- 308
- 309
- 310
- 311
- 312
- 313
- 314
- 315
- 316
- 317
- 318
- 319
- 320
- 321
- 322
- 323
- 324
- 325
- 326
- 327
- 328
- 329
- 330
- 331
- 332
- 333
- 334
- 335
- 336
- 337
- 338
- 339
- 340
- 341
- 342
- 343
- 344
- 345
- 346
- 347
- 348
- 349
- 350
- 351
- 352
- 353
- 354
- 355
- 356
- 357
- 358
- 359
- 360
- 361
- 362
- 363
- 364
- 365
- 366
- 367
- 368
- 369
- 370
- 371
- 372
- 373
- 374
- 375
- 376
- 377
- 378
- 379
- 380
- 381
- 382
- 383
- 384
- 385
- 386
- 387
- 388
- 389
- 390
- 391
- 392
- 393
- 394
- 395
- 396
- 397
- 398
- 399
- 400
- 401
- 402
- 403
- 404
- 405
- 406
- 407
- 408
- 409
- 410
- 411
- 412
- 413
- 414
- 415
- 416
- 417
- 418
- 419
- 420
- 421
- 422
- 423
- 424
- 425
- 426
- 427
- 428
- 429
- 430
- 431
- 432
- 433
- 434