Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore موَّال الصِّبا في المشيب #سمير_عبد_الباقى

موَّال الصِّبا في المشيب #سمير_عبد_الباقى

Published by ashrafsamir333, 2020-03-22 11:34:44

Description: موَّال الصِّبا في المشيب #سمير_عبد_الباقى

Keywords: موَّال الصِّبا في المشيب #سمير_عبد_الباقى

Search

Read the Text Version

‫‪ -‬إ�نت �سمير ؟ البنوتة ؟‬ ‫غ�ضبت ‪ .‬وتوقفت ‪ .‬انتزعت ذراعي من قب�ضة يدها في حدة‪.‬‬ ‫‪� -‬أنت زعلت ؟ ما تزعل�ش دول الولاد غيرانين منك ‪ .‬ع�شان انت‬ ‫في المدر�سة قبل ال�سن ا إللزامي و�شاطر ‪.‬‬ ‫‪� -‬سن إ�يه ؟ ‪ ..‬أ�نا كبير كفاية ‪.‬‬ ‫‪ -‬يا عم بيقولوا ع�شان خاطر �أبوك ‪� ،‬سابوك تقعد و�سط البنات على‬ ‫تختة واحدة ‪.‬‬ ‫كانت تقف أ�مامي محاولة الاعتذار ‪ ..‬لكن الكلمات التي كانت‬ ‫تجري على ل�سانها في �صوت �أقرب ل�صوت البالغين من ال�صبيان ‪ ،‬كانت‬ ‫تفر في الاتجاه الم�ضاد بعك�س ما تريد ‪ ،‬لكنها نبهتني أ�ن أ�ت�أمل ملامحها ألول‬ ‫مرة ‪ .‬كانت �أ�شبه بالأولاد بالفعل‪ ،‬أ�نفها الطويل ال�شديد الح�ضور و�شعرها‬ ‫الم�ضفر في خ�شونة ‪ ..‬وحاجباها الثقيلان ‪ ..‬قالت ‪:‬‬ ‫‪� -‬أنا بذاكر في البيت ؟ بابا خرجني من المدر�سة ‪ ،‬كنت أ��شطر منك !‬ ‫فتاة عادية إ�ذن ‪ .‬و أ�نا الذي ظننتها طول الوقت �إحدى م�ساعدات‬ ‫(ال�شيخ عثمان) أ�ر�سلها لتدلني على الطريق ‪ ،‬وتك�شف لي أ��سرار الب�ستان ‪.‬‬ ‫ُ�صدمت وته َّي أ�ت للعودة ‪ ،‬لكنها لم تتح لي الفر�صة و�شدتني بقوة ‪:‬‬ ‫‪ -‬تعالى ح اجيب لك كمترى عمر ابوك ما داقها ‪.‬‬ ‫الإغراء غفر لها طولة ل�سانها ‪ .‬فطاوعتها حذ ًرا ألعطيها فر�صة‬ ‫�أخيرة‪.‬‬ ‫كانت عناقيد العنب الذهبية تتدلى من �سقف التكعيبة ‪ .‬قفزت فج�أة‬ ‫�إلى �أعلى في قوة ف�أم�سكت واح ًدا ‪ ،‬فرط منها أ�كثره على الأر�ض ‪ .‬لكن‬ ‫قب�ضتها لم تفلت معظمه ‪ .‬قدمته لي بعد أ�ن هبرت بفمها الوا�سع جز ًءا كبي ًرا‬ ‫منه ‪..‬‬ ‫‪251‬‬

‫هابطة ال�سلم و�أنا �أحاول أ�ن أ�تما�سك حتى لا أ�ندلق على الدرجات ‪..‬‬ ‫‪� -‬سيبك منهم تعالى نلعب ‪..‬‬ ‫لم �أعتر�ض ‪ ..‬فهي لم تعطني �أي فر�صة للكلام ‪ .‬ووجدتني معها‬ ‫في الجنينة الغام�ضة الغنية الظلال الرطبة ‪ .‬ت�سري بين �أغ�صان أ��شجارها‬ ‫الغ�ضة الثرية �أنفا�س جنيات غام�ضة ‪ .‬تهم�س بنداءات مثيرة وتتدلى منها‬ ‫عناقيد من ثمار فواكه �شهية أ�عرف بع�ضها و أ�خرى لا أ�عرفها تكاد تنفجر‬ ‫ع�صائرها ممزقة ب�شرتها ال�شفافة ‪ .‬وثمة أ��صوات طيور �أ�سطورية متخمة‬ ‫وح�شرات لا تكف عن الطنين والثرثرة ‪ ،‬تطير في بطء منتفخة من ال�شبع‬ ‫نهمة وعدوانية ‪� ،‬سكرانة بع�سل الفاكهة النا�ضجة ‪ .‬ت ؤ�كد لي �أن هذه الجنينة‬ ‫هي (الب�ستان) الذي كان منذ بدء الخليقة ميدا ًنا لكل ا ألحداث التي جرت‬ ‫في كل ب�ساتين حواديت خالتي ال�سيدة من �أول (يا مق�ص ق�ص طرف‬ ‫ل�سانه !!) إ�لى جنيات ال�شاطر (جاهن�شاه) اللائي ر�آهن طيو ًرا ‪ ،‬يخلعن‬ ‫ثياب الري�ش لي�صبحن حوريات رائعات ‪ .‬خا�ض من أ�جل �أحداهن الهول‬ ‫في ب�ستان (الملك �سليمان) الذي يحر�سه (عم عثمان) الذي يعرف لغات‬ ‫الطير والعفاريت ‪.‬‬ ‫تحت كرمة العنب الممتدة إ�لى مدى الب�صر ‪� ،‬سرت خلف البنت �سريعة‬ ‫الحركة مبهور ا ألنفا�س ‪ ..‬أ�توقع في كل لحظة أ�ن أ��صل �إلى البركة التي‬ ‫ت�ستحم فيها الطيور المتحولة ‪ .‬تتوقع �أذني أ�ن �أ�سمع رنين �ضحكاتهن بعد‬ ‫�أن ر أ�يت ب أ�م عيني الطاوو�سين المغرورين الم�ست أ�ن�سين يم�شيان بخيلاء بين‬ ‫يدي (ال�سطانة) ‪ .‬قالت البنت ‪:‬‬ ‫‪ -‬ا�سمي حياة ‪ ،‬ا�سمك �إيه ؟‬ ‫‪� -‬سمير ‪.‬‬ ‫‪250‬‬

‫ال�شجرة وهي تغمم في فجاجة ‪:‬‬ ‫‪ -‬ح �أد َّوقك كمثرى عمر أ�بوك ما �شافها ‪.‬‬ ‫�صفعتني كلماتها ‪ ..‬فعدت أ�دراجي دون كلمة ‪ .‬حتى و�صلت �إلى‬ ‫عتبات الباب الخلفي (لل�سراية) حيث وجدت الرجل العجوز الهزيل الذي‬ ‫قادنا �إلى بابها الرئي�سي ‪ ،‬جال�ًسا يبت�سم بفم خال من ا أل�سنان يت�ضاحك‬ ‫مناف ًقا ‪ ،‬وهو منهمك في ت�سليك �أن�سجة التيل وبرمها لفتل حبل جديد‪:‬‬ ‫‪ -‬بيد َّوروا عليك فوق ع�شان ما�شيين ‪..‬‬ ‫وكركر �ضحكة ت�شبه �صوت الجوزة الم�سدودة ‪ .‬ف أ��سرعت بالدخول‬ ‫حين و�صلني �صوت ال�سعدانة قاطفة الكمثرى ي�صرخ باح ًثا عني ‪:‬‬ ‫‪� -‬إنت يا وله يا اهبل م�ش عايز كمثرى ؟‬ ‫لم �أرها ولم �أهتم بالتحقق إ�ن كان ذلك �صوتها ‪ ..‬و أ�خذت ال�سلم‬ ‫قف ًزا حتى و�صلت إ�لى باب الدور الثاني ‪ ..‬مبهور ا ألنفا�س ‪ ،‬فوقفت �أ�ستعيد‬ ‫نف�سي ‪ .‬ثم دفعت �ضلفة الباب ال�ضخمة مت�سلل ًا‪ ،‬لكن الكل لاحظني ‪.‬‬ ‫التفتت وجوههن جمي ًعا نحوي مرة واحدة ‪ ،‬ف�شلت حركتي ‪� .‬س أ�لتني‬ ‫�أمي في غ�ضب ‪.‬‬ ‫‪ -‬كنت فين ؟‬ ‫لكن (ال�سلطانة) التي تبينت �أنها لي�ست �سلطانة حقيقية كما ظننت ‪-‬‬ ‫�إنما �ست هانم زي (الهوارية) وال�ست ( أ�م ح�سني) ‪ -‬عادية بيا�ضها عادي‬ ‫مثل �أمي ‪ ،‬لكنها قالت في حنان مفتعل يليق ب�ست هانم أ��صيلة ‪:‬‬ ‫‪ -‬تعالى يا حبيبي كل كمثرى وعنب ‪ ..‬ح تم�شي من غير ما ن�ضيفك !‬ ‫لكنني لم �أتحرك ‪ ..‬وقلت لأمي في طهق لا يليق ‪:‬‬ ‫‪ -‬م�ش هنر َّوح بقى؟ ياللا‪..‬‬ ‫‪253‬‬

‫قلت معتر ً�ضا ‪:‬‬ ‫‪ -‬من غير غ�سيل ؟‬ ‫ف�ضحكت �ضحكة حادة جافة �ساخرة وهي تقول ‪:‬‬ ‫‪ -‬ده على بز امه ‪ ..‬يا عبيط ‪ ،‬نظيف ‪.‬‬ ‫ومدت يدها م�ستقيمة ت�ضعه أ�مام وجهي بل تكاد تد�سه في فمي ‪:‬‬ ‫‪ -‬أ�ن�ضف من بقك ‪ .‬خد ‪.‬‬ ‫كدت أ�عاود الغ�ضب محت ًّجا ‪ ..‬ولكني أ�دركت �أنها لا تعني ما تقول‬ ‫بال�ضبط ‪ ،‬وغفر ع�سل الحبات التي ق�ضم ُتها ك َّل �إهاناتها ‪ ..‬كان طع ًما‬ ‫�ساح ًرا لم �أذق مثله في حياتي ‪ ،‬أ�ده�شني و�أعاد لي اليقين �أن هذا بالفعل‬ ‫الب�ستان الذي طالما و�صفته خالتي ‪ ،‬وعبرت غام�ضة في خيالي �صورة‬ ‫(ال�سلطانة) تحت ومي�ض الزجاج الملون كامر�أة غير ب�شرية ‪ .‬يبدو بيا�ض‬ ‫وجه أ�مي إ�لى جوار ما ي�شعه وج ًها عاد ًّيا ‪ ،‬و�سمعت �صوت تلك الطواوي�س‬ ‫التي تتحرك بحرية و�سط القاعة الهائلة الغام�ضة ‪ ..‬كان ع�سل العنب ثر ًّيا‬ ‫و�صاف ًيا مخاد ًعا ‪ ،‬أ�ده�شني وجعلني �أرى حركتها العنزية ناعمة في خفة‬ ‫غزالات الحكايات التي ت�صر على �إخ�ضاع ما �أراه لفكرتي الغام�ضة عن‬ ‫�سحر المكان الذي �أتخيله ‪ .‬مدت يدها مرة �أخرى ‪ .‬ناولتني ما تبقى من‬ ‫العنقود وح�شرته في فمي فخدرني ‪ ..‬ثم �صدمني �صوتها ف�أيقظني ‪:‬‬ ‫‪ -‬حا�سب يا مفجوع ‪ .‬إ�نت عمرك ما دقت عنب ‪.‬‬ ‫توقفت محت ًّجا ‪ .‬كانت هي قد بد�أت كال�سعدان في ت�سلق �شجرة‬ ‫كمثرى عتيقة تتدلى منها ثمارها ك�شلول ب�صل الخزين ‪ .‬و أ�يقظتني من‬ ‫غيبوبتي �صرخات و أ��صوات عيال يتقافزون في ماء الترعة التي كانت قريبة‬ ‫بدرجة قا�سية ‪ ،‬لتبدد أ�ي أ�مل في العثور على البركة الم�سحورة التي ت�ستحم‬ ‫فيها فتيات هن في ا أل�صل طيور وجنيات ‪ ،‬ولمَّا اختفت هي بين أ�غ�صان‬ ‫‪252‬‬

‫مثـقــال ذرة ‪..‬‬ ‫‪ ‬وها �أنا أ�هرول خلف والدي (المتجهم)‬ ‫ذاهبين لحل تلك الق�ضية ال�شديدة ا ألهمية ‪.‬‬ ‫و�س�أدخل بيت (كامل �أفندي) لأول مرة ‪ .‬قابلنا في‬ ‫الطريق (عو�ض عبد ربه) فوجئنا أ�نه عرف ما نحن‬ ‫ب�صدده دون �أن ي�س�أل أ��سرع يقول لوالدي ‪:‬‬ ‫‪ -‬يا عبد الباقي �أفندي ‪ ،‬كامل أ�فندي و�ضيوفه‬ ‫عند الأ�ستاذ يو�سف ‪.‬‬ ‫كنا عند �شادر الخ�شب ‪ .‬ا�ستقرب أ�بي �سكة‬ ‫(ال�سلطان) مخت�ص ًرا الطريق لنلحق بهم هناك ‪،‬‬ ‫وفرحت أ�نا ألنني �س أ�رى (ال�سراية) مرة أ�خرى من‬ ‫الداخل ‪ .‬و أ��شاهد الطواوي�س ذات الذيول الملونة‬ ‫وا أل�سود التي ت�ضع �أيديها على الغزلان ا أل�سيرة‬ ‫‪ ،‬وقد �أقابل البنت الطويلة الهايفة ذات ال�صوت‬ ‫‪255‬‬

‫وقالت �أمي وهي تنه�ض معتذرة ‪:‬‬ ‫‪ -‬ياللا يا حبيبي كنا م�ستنيينك !‬ ‫وقبل أ�ن أ�غرق في �ضحكات و�سلامات طق�س الوداع المتعمدة ‪،‬‬ ‫وقبلات المحبة الزائفة وثرثرة ا ألحاديث ا ألخيرة الفارغة ‪ ،‬كنت قد �سبقت‬ ‫الجميع إ�لى ال�سلم الرخامي البارد ال�ضخم ذي ال�سلمة المك�سورة ‪.‬‬ ‫�سرت وراء والدي الذي كان يرتدي قناع ا ألهمية وير�سم ب�شدة‬ ‫تلك الـ(‪ )111‬التي تتج�سم بين حاجبيه ‪ ،‬توحي بالجدية الق�صوى ‪� ،‬أنه‬ ‫يخو�ض معركة فا�صلة ‪ .‬فحتى فتح ف�صل جديد و�إ�ضافي للمدر�سة التي لم‬ ‫تقم بعد ‪ ،‬ظهر له معار�ضون لا ل�شيء إ�لا لأن البع�ض تحم�س �أكثر من اللازم‬ ‫لأن له م�صلحة وا�ضحة والبع�ض لي�س له هذه الم�صلحة ‪.‬‬ ‫كان ا�سمي �أول ا�سم في الك�شف الذي يحمله ويجمع فيه �أ�سماء‬ ‫الأولاد الذين يفتر�ض أ�ن ينتقلوا ب إ�ذن الله مع العام الدرا�سي الجديد �إلى �سنة‬ ‫(ثالثة) ابتدائي من كل القرى المجاورة ‪.‬‬ ‫لم يبق �سوى ا�سمين ‪ ،‬ولم يتبق �أولاد لائقون لتلك ال�سنة الثالثة لا‬ ‫في (ميت �سل�سيل) ‪ ،‬ولا في ما جاورها من بلاد وعزب ‪ ،‬وكان الجميع‬ ‫يائ�سين من �إمكانية فتح الف�صل الجديد ‪ ،‬لولا �أن �صرح بع�ضهم �أن (كامل‬ ‫أ�فندي) ي�ستطيع الت أ�ثير على أ�هل تلميذين من أ�بناء (الكردي) �أو على ا ألقل‬ ‫ي�ستطيع أ�ن يقنع مجل�س المديرية إ�ن تعذر ذلك بفتح الف�صل بع�شرين تلمي ًذا‬ ‫بدل ًا من اثنين وع�شرين ‪ .‬فالدنيا لن تنهد ‪ ،‬إ�ذا نق�ص الف�صل تلميذان ‪،‬‬ ‫ومجل�س المديرية لن يخذله والانتخابات على ا ألبواب ‪.‬‬ ‫•••‬ ‫‪254‬‬

‫‪ -‬لو كنت قدمت دقيقتين كنت ح َّ�صلتهم ‪ .‬اتف�ضل تعالى ا�ستريح‬ ‫وبعدين ح َّ�صلهم ‪.‬‬ ‫لكن أ�بي الم�ستعجل �شكره وهو ي�شدني كي أ��سرع ‪ ،‬بينما أ�ح�س�ست‬ ‫قلبي ثقيل ًا يل�صق أ�قدامي با ألر�ض ‪.‬‬ ‫(ال�سراية) لم تعد في هيبتها القديمة التي أ��سرتني من قبل ‪ .‬كانت أ�وراق‬ ‫ال�شجر المهمل تتراكم حول الجدران وعلى ال�سلم الرخامي الذي انتزعت‬ ‫منه الآن درجتان على ا ألقل ‪.‬‬ ‫الجدران ك�شفت عن الطوب ا ألحمر الذي بدا مر�صو ً�صا فى الفراغ‪.‬‬ ‫وتحولت المونة إ�لى غبار ‪ ..‬الرطوبة �أكلت البيا�ض ‪ ،‬وت�ساقط البهاء الذي‬ ‫كان يغلف الجدران ‪.‬‬ ‫الجنينة التي كانت ثرية الظلال والثمر ‪� ،‬صارت �أ�شجا ًرا جرداء تثمر‬ ‫قط ًعا قديمة من القما�ش والورق ‪ ،‬ترفرف كرايات جي�ش مهزوم ‪ ،‬و�أوراق‬ ‫متغ�ضنة جافة ‪ ،‬وقطع من خ�شب بالي ‪ ،‬وحطب و أ�ع�شا�ش زنابير ‪ .‬هربت‬ ‫الطيور إ�لى ريا�ض أ�خرى ‪ ،‬لم ت ْجدبها الخلافات ‪ ،‬ويتحدث فيها الب�شر‬ ‫�أحاديث ودية ‪.‬‬ ‫كانت ال�سراية تبدو خالية ‪ .‬تطير الطيور عبر فراغها ‪ ،‬خلال النوافذ‬ ‫المك�سورة والمخلوعة بينما ظل الباب الكبير مغل ًقا ب�إحكام‪ ،‬وقد علاه‬ ‫ال�صد�أ وفقد �أكره التي كانت تلمع‪ ،‬عديد من ال�سحالي الخ�ضراء والرمادية‬ ‫تمرح تحت �أكوام ا ألوراق المتراكمة الجافة ‪ ،‬التي �أ�صبح من ال�صعب‬ ‫�إزاحتها‪ ،‬فتركت لحالها م أ�وى لجعارين �سوداء وخناف�س ولبع�ض الثعابين‬ ‫المحتملة غير المرئية‪ ،‬والقنافذ المعتزلة‪ ،‬كنت �أح�س بع�شرات من عيونها‬ ‫ال�سرية تراقبنا في حذر توق ًيا ألي حركة غدر ت�صدر م ّنا ‪.‬‬ ‫‪257‬‬

‫الأج�ش الذي لا يتحكم في معاني ما تقول فتطلق �شتائم قا�سية لا تق�صدها‬ ‫‪ ،‬وقد �أ�ستطيع �ساعتها أ�ن أ�جد فر�صة لرد إ�هانتها القديمة ‪ .‬وعلى الأقل‬ ‫�س�أ�ستعيد ذات ال�شعور ال�ساحر‪� ،‬أيام ما كانت الجنينة تعني لي ب�ستان ال�شيخ‬ ‫(عثمان) العارف كل لغات الطير والجان‪ ،‬ونائب (�سيدنا �سليمان) ‪.‬‬ ‫ابت�سمت �ساخ ًرا من نف�سي ‪ .‬ألنني كنت في �أيامها على هذه الدرجة‬ ‫من العباطة لأ�صدق كل ذلك ‪ ،‬لكني ما �أن اقتربت من باب الجنينة حتى‬ ‫ارتع�ش �شيء ما داخلي وغمرني �شعور بالرهبة وعاد إ�ل َّي اعتقادي الذي‬ ‫�سخرت منه ‪ ،‬لكن التغيير الذي حدث جعلني أ�تما�سك و�أ�ستعيد نف�سي‬ ‫‪ ،‬فبيت الأ�ستاذ (يو�سف) الذى لم يكتمل اقتطع م�ساحة كبيرة من الجنينة‬ ‫ودمر قد�سيتها القديمة ‪.‬‬ ‫�صفق �أبي أ�مام الباب الخارجي المفتوح م�ست أ�ذ ًنا وهو يدخل دون‬ ‫انتظار ‪ ،‬خرج ا أل�ستاذ (يو�سف) إ�لى ال�شرفة وهو يزعق قبل �أن يرانا ب�صوت‬ ‫عال ‪:‬‬ ‫‪ -‬إ�تف�ضل ‪ ..‬إ�تف�ضلوا ‪..‬‬ ‫ولما ر آ�نا رحب ب أ�بي ‪،‬‬ ‫كنت أ�دور بعيني مذهول ًا لما �أ�صاب الحديقة وال�سراية ‪.‬‬ ‫كانت الخ�ضرة قد اختفت من �أجزاء كبيرة ‪ ،‬وتناثرت �أكمات وح�شية‬ ‫من الح�شائ�ش ‪ ،‬بينما بدا النخل مهو�ًشا غير مق�ضب ‪.‬‬ ‫‪ -‬كامل أ�فندي ر َّوح ه َّو و�ضيوفه يا (عبد الباقي �أفندي) ‪ .‬يمكن ل�سة‬ ‫ما خرجو�ش من ال�سور القبلي ‪.‬‬ ‫انتبهت على يد أ�بي تقب�ض على ذراعي وت�سحبني في اتجاه الطريق‬ ‫الذي �أ�شار �إليه الأ�ستاذ (يو�سف) ‪.‬‬ ‫‪256‬‬

‫تق�سيم التركة بين ا إلخوة ‪ .‬فاز (يو�سف) بالجزء البحري ولكن بدون جنينة‬ ‫إ�لا الم�ساحة حول حوائط المخازن والزريبة‪ ،‬بينما احتفظ (عبد ال�سلام)‬ ‫بال�سراية وما حولها حفا ًظا على ذكرة والدته (ال�سلطانة) ‪ ،‬ولكن الإهمال‬ ‫�سرعان ما �أ�صاب كل �شيء بحكم ابتعاده أ��صل ًا عن المكان ‪.‬‬ ‫زوجته لم تكن تطيق (ميت �سل�سيل) ولا �أهلها ‪ ،‬فتركت ال�سراية‬ ‫نهيبة لكل من ا�ستطاع إ�لى ذلك �سبيل ًا ‪ ،‬نزعت النوافذ وال�سلالم الرخامية‬ ‫‪ ،‬وتكفلت الرياح ‪ ،‬وزلط ا ألطفال �صيادي الع�صافير ‪ ،‬بتدمير الزجاج‬ ‫الملون ‪ ،‬ومات الرجل الذي كان يرعى ا أل�شجار ‪ ،‬فاكت�أبت كروم العنب ‪،‬‬ ‫واهتر�أت قوائمها ولم يهتم أ�حد ‪.‬‬ ‫و�أخي ًرا باعها (عبد ال�سلام) أ�نقا ً�ضا ‪ .‬فخلعت ا أل�شجار وا�ستبدل‬ ‫الب�ستان حتى حدود بيت (ف ؤ�اد) ‪ ،‬تحول إ�لى أ�ر�ض �ستزرع يو ًما بالقطن‬ ‫والقمح وما �أ�شبه ‪.‬‬ ‫�أما (�إبراهيم) زوج �أختهم الذي كان قد قرر العودة إ�لى (ميت‬ ‫�سل�سيل) ‪ ،‬فكان في نيته بناء البيت محاف ًظا على ما يحيط من أ��شجار مثمرة‪،‬‬ ‫ولكنها لن تكون في بهاء العز القديم ‪.‬‬ ‫أ�ما (كامل) وهو الكبير فقد كان من ن�صيبه الم�ساحة الأكبر إ�لى جوار‬ ‫ال�سكة الحديد ‪ ،‬حيث ترك جزء كجرن بين البيت الجديد والزراعية‬ ‫و�شريط ال�سكة الحديد لكنه أ�عاد الحياة �إلى الجزء البحري فازدهرت به‬ ‫بع�ض أ��شجار الخوخ والكمثرى والم�شم�ش والق�شطة ‪ ،‬علاوة على كرم‬ ‫عنب (م�ش بطال) ‪.‬‬ ‫لمحناهم من فوقه يتخذون مجال�سهم على الفراندة ‪ ،‬مجموعة من‬ ‫ا ألفندية المطرب�شين ولاب�سي القفاطين والجلاليب البلدي ال�صوفية ‪ ،‬و�أخرى‬ ‫أ�فرنجية بي�ضاء ي�شرب من عليها الع�صفور تلوح فوق بع�ضها طرابي�ش فاقعة‬ ‫الحمرة تبدو ك�أعراف ديكة بي�ضاء ‪.‬‬ ‫‪259‬‬

‫كان كرم العنب الممتد لا يزال ممت ًدا حتى آ�خر الجنينة ‪ ،‬لكن احتمال‬ ‫وجود برك للجنيات الم�سحورة فكرة �أ�صبحت �ساذجة‪ ،‬وغير ممكنة‬ ‫على ا إلطلاق ‪ .‬اختفت الأغ�صان الخ�ضراء والكوخ الذي ي�سكنه �أو‬ ‫الذي كنت أ�ظن �أنه ي�سكنه عم (عثمان) ذو ال�ساقين العنزيتين‪ ،‬تع َّرى من‬ ‫�سقفه واخترقته ال�شم�س فطردت كل ظلال الخيال التي من المحتمل أ�ن‬ ‫توحي ب�أنفا�س إ�ن�سانية ‪ ،‬فقدت الأمل في لقاء تلك البنت التي �أغاظتني‬ ‫‪ .‬ووجدتني �أفتقدها بحق‪ ،‬و�أغفر لها كل ما طجنت به من كلام معي ‪.‬‬ ‫عبرنا البوابة الخ�شبية ‪ ،‬كان جزء منها مدفو ًنا في طين القناة الجافة التي‬ ‫تم�ضي �إلى الترعة ‪ .‬مليئة بالع�شب الأ�صفر ن�صف الجاف ‪ .‬تقودنا إ�لى المدق‬ ‫الوحيد بجوار غابة البو�ص على �شاطئ الترعة ‪ ،‬يحجب عنا تما ًما ال�شط‬ ‫ال�شرقي ‪ ،‬حيث العزبة و أ�ر�ض دار (�أحمد) ‪.‬‬ ‫على اليمين كانت الم�ساحة التي ينتوي (ف�ؤاد عبد ربه) بناء بيته‬ ‫الع�صري عليها فيما بعد‪ ،‬ف�أهمل ال�شجر لتنك�شف ا ألر�ض عن م�ساحة‬ ‫فراغ جرداء ممتدة ‪ ،‬حيث يو ًما ما �سيكون فيها بيت ( إ�براهيم عبد ربه)‬ ‫ال�شقيق ا أل�صغر للأ�ستاذ (كامل أ�فندي) وحينها �ستكون مرت ًعا لق�ص�ص‬ ‫حب وم�شاعر م�ستقبلية لم يحن �أوانها بعد ‪.‬‬ ‫انتبهت على �شخطة من �أبي لألحق به ‪ ،‬فقد كنت �أحمل ا ألوراق التي‬ ‫بها ك�شف أ��سماء التلاميذ وكانت ت�ضفي عل َّي بع�ض ا ألهمية ‪ ،‬تبري ًرا �شرع ًّيا‬ ‫لح�شر نف�سي في مو�ضوع هو في ذاته من �ش�أن الكبار ‪.‬‬ ‫لمحناهم ي�صعدون الفراندة البحرية لبيت (كامل أ�فندي) الجديد ‪-‬‬ ‫الذي لم يكتمل �سوى ن�صفه ال�شرقي ‪ -‬من خلال ا ألغ�صان الثرية للجزء‬ ‫الذي بقى ح ًّيا من الب�ستان القديم والذي نجا من عاديات الزمن ‪ ،‬وعواقب‬ ‫‪258‬‬

‫مقامة في �صالة كبيرة لم ت�سقف بعد ‪ ،‬تقع بين الجزء الذي تم بنا ؤ�ه من البيت‬ ‫والجزء الغربي الذي مازال تحت الإن�شاء ‪.‬‬ ‫كانت مائدة عامرة يتو�سطها ديك رومي كالخروف ‪ ،‬وعديد من‬ ‫الأطباق الكبيرة المتخمة بالحمام والدجاج وال�سمك المقلي ‪ ،‬و�صواني‬ ‫مختلفة فاحت منها رائحة البطاط�س الم�سبكة في الفرن والفتة بالخل ‪ ،‬فقلبت‬ ‫معدتي ‪.‬‬ ‫لمحني �أقف بعي ًدا ‪ ،‬فتجنبت نظراته و أ��سرعت بالابتعاد من�سح ًبا وراء‬ ‫الجدار ف�صاح بي غا�ض ًبا ‪:‬‬ ‫‪ -‬ا�ستنى يا ولد ‪ ..‬إ�يه يا (عبد الباقي) م�ش تقول ان معاك المحرو�س‬ ‫‪ ..‬تعالى يا (�سمير) تعالى يا �شاطر ‪ ،‬بتهابر زي ابوك ع�شان ترتاح من ال�سفر‬ ‫(للجمالية) ومن أ�هلها الهم اللي ما يتعا�شرو�ش ‪.‬‬ ‫حاولت الاختباء عن نظرته ووا�صلت الهرب ‪ ،‬ف أ��سرع مناديًا بلهجة‬ ‫�شلت حركتي ‪..‬‬ ‫‪ -‬يا ح�سين تعالى يا ولد هات الواد ده غ�صب عنه ‪.‬‬ ‫خرج (ح�سين) من الداخل متثاقل ًا يبحث عن ذلك الولد المزعج‬ ‫الذي يهتم به �أبوه لهذه الدرجة ‪ ،‬وجدني أ�جل�س م�ستت ًرا بالجدار على ال�سلم‬ ‫‪ .‬ابت�سم �ساخ ًرا ابت�سامة لا تحمل أ�ي معنى للترحيب ‪ .‬وقال ‪..‬‬ ‫‪ -‬ه َّو انت ؟ ما تقوم يا و َله تتغ َّدى هو احنا بنلعب ؟‬ ‫كان �صوته مثل �صوتها ‪ ،‬نف�س النبرة وا إليقاع المتعثر في فراغ ا ألنف‬ ‫‪ ،‬تذكرتها على الفور الفتاة التي قابلتها بالجنينة زمان ‪ .‬كان ي�شبهها فعل ًا‬ ‫ومثلها كانت الكلمات تخرج متعالية من فمه ‪ .‬لم �أتحرك ‪ ..‬وقلت بحدة ‪:‬‬ ‫‪ -‬أ�نا �شبعان م�ش جايين ناكل ‪.‬‬ ‫كانت �صيحات (كامل �أفندي) تطارده وتتعجلني �أن �أطيع ‪.‬‬ ‫‪261‬‬

‫و�صلتنا �أطراف �ضحكاتهم و�أ�صداء مناق�شتهم الزاعقة مختلطة‬ ‫ب أ��صوات احتكاك خ�شب الكنب البلدي والكرا�سي الجريد بالبلاط‬ ‫الجديد ‪ ،‬مع عبارات الترحيب والمجاملة ‪ ،‬كانوا أ�كثر من خم�سة ع�شرة‬ ‫رجل ًا يحت�ضنهم وي�سلم عليهم مرح ًبا بهم (كامل أ�فندي) الذي كان يبت�سم‬ ‫في كرم لهم ‪ ،‬وهو يزعق بغ�ضب على من في الداخل ل إل�سراع بتجهيز‬ ‫ال�سفرة ‪ ،‬ومنهم ًكا دون توقف في المناق�شة ‪ ،‬متاب ًعا ا إل�شراف على راحة‬ ‫الجميع وا�ستقرارهم في مجال�سهم ‪.‬‬ ‫كنا قد و�صلنا �إلى درجات ال�سلم في الوقت الذي كان ي�ستعد فيه‬ ‫للجلو�س بعد �أن اطم أ�ن على راحة الجميع ‪ ،‬في نف�س الوقت جاءه خبر‬ ‫انتهاء كل الا�ستعدادات فه َّب قائ ًما على الفور يدعو الجميع للطعام ‪.‬‬ ‫لمحنا فالتفت نحونا قائل ًا ب�صوته ا ألج�ش المقتحم ا آلمر الذي لا يقبل‬ ‫معار�ضة ‪:‬‬ ‫‪ -‬طول عمر حماتك بتحبك يا (عبد الباقي) يالله يا جماعة اتف�ضلوا‪.‬‬ ‫حاول والدي التمنع ‪ ،‬م�سر ًعا ب�شرح �سبب مجيئه وعجلته ‪ ،‬لكن ‪..‬‬ ‫(كامل أ�فندي) تجاهل كل ذلك وم َّد له ذرا ًعا عملا ًقا ي�صافحها ليجذبه بها‬ ‫�إلى الداخل ‪:‬‬ ‫‪ -‬يلا ‪ ..‬يلا يا راجل ‪ ..‬دي ح�صة غدا ومحد�ش فا�ضي يتكلم عن‬ ‫الف�صل ولا عن المدر�سة والم�شاكل دي ‪ ..‬اطمئن ‪ ..‬إ�ن �شاء الله محلولة‬ ‫محلولة ‪ .‬خ�ش انت ب�س واقعد وخد نف�سك ‪.‬‬ ‫و�أخذ يقدمه للحا�ضرين مع �أن الجميع كانوا يعرفون بع�ضهم بع ً�ضا‬ ‫بالت�أكيد ‪ .‬و أ�ن اهتم كثي ًرا بترتيب جلو�سهم حول ال�سفرة‪ ،‬التي كانت‬ ‫‪260‬‬

‫في (الكفر الجديد)‪ ،‬ويكون هو في طريقه إلنجاز مهمة ما ‪ -‬لإ�صلاح‬ ‫�ساقية قديمة �أو ت�سليم �ساقية جديدة في عزبة ما أ�و قرية بعيدة ‪ -‬وكنت‬ ‫أ�ذهب �سعي ًدا لأنني �س أ�تعرف على أ�نا�س و�أماكن لا �أعرفها ‪ .‬كان خالي‬ ‫يقابل بترحيب كبير ‪ ،‬وكنت �أ�صبح بينهم الطفل المدلل ‪ ،‬يتبارى الرجال‬ ‫والن�ساء في �إر�ضائي و إ�كرامي ‪ ،‬إ�كرا ًما ل�سيرة جدي وخالي ‪ ،‬لم �أكن �أح�س‬ ‫حر ًجا �أو خجل ًا في التعامل معهم بندية ‪� ،‬أجل�س مثلهم على الأر�ض ‪،‬‬ ‫منت�ش ًيا لرائحة وملم�س الطين والنباتات ‪ ،‬وعطر المتعبين من العمل !‬ ‫فعملية �إقامة �ساقية جديدة وتثبيتها في مكانها لم يكن با ألمر ال�سهل ‪.‬‬ ‫إ�نها عملية تكاد تكون حربية ‪ ،‬تتكاتف فيها �أيدي و أ�ذرع و�أكتاف عديدة‬ ‫‪ ..‬حبال وروافع ‪ ،‬كتل خ�شبية و�أ�شجار‪� ،‬سلالم و�شواكي�ش ومنا�شير ‪،‬‬ ‫نداءات آ�مرة ‪ ،‬و أ�خرى راجية وكثيرة منها داعية ‪ ،‬تقر أ� ا آليات و أ�خرى‬ ‫تغني ‪.‬‬ ‫فلي�س �سهل ًا زحزحة (التابوت) أ�و (الطنبو�شة) و�إحكام تثبيتهما في‬ ‫المحور الحديدي المثبت في حائط البئر إ�لا بح�سابات دقيقة ت�سمح له أ�و‬ ‫لها بالدوران في ي�سر ر أ��س ًّيا ‪ .‬تلي ذلك عملية �إلحاق (ال�صغير) بها ‪ ،‬وهو‬ ‫تر�س خ�شب �ضخم (رغم ا�سمه) ‪ ،‬يثبت ر�أ�س ًّيا معها بدقة كي يدورا م ًعا‬ ‫�أو بالأ�صح يديرها هو بحركته ‪ ،‬ليخرج الماء من البئر ‪ ،‬إ�ذ يكون التابوت‬ ‫الذي يغرق ثلثه الأ�سفل في الماء قد جربت �سهولة دورانه قبل تثبيتهما م ًعا‬ ‫تما ًما ‪.‬‬ ‫ثم تبد أ� عملية تدكيك �ضرو�س (الكبير) والذي ي�شبه (ال�صغير) في‬ ‫تركيبه ‪ .‬ولكنه يطرح أ�فق ًّيا في فراغ مجهز (بدقة) مع تثبيته في الأر�ض‬ ‫كي يدور ‪ .‬وتعمل �ضرو�سه على تحريك �ضرو�س (ال�صغير) الر أ��سي مع‬ ‫‪263‬‬

‫�صاح ح�سين في زهق ‪:‬‬ ‫‪ -‬طب قوم بلا�ش هزار ‪ .‬ومتاكل�ش انت حر ‪� ،‬إنما قوم اقعد مع‬ ‫الرجالة ‪ .‬محد�ش فا�ضي للهج�ص ده ‪.‬‬ ‫ا�ست�سلمت وتبعته مثلما فعلت مع الفتاة في الجنينة ‪ .‬دخلنا‪ ،‬كان أ�بي‬ ‫منهم ًكا في الحديث مع أ�حد ال�ضيوف ف�ضايقني ذلك‪ ،‬أ�ف�سحوا لي مكا ًنا‬ ‫بطرف المائدة ‪ ،‬لكنني ظللت ممتن ًعا عن الم�شاركة‪.‬‬ ‫لاحظ (كامل أ�فندي) الذي لا تفوته �شاردة ذلك ‪ .‬ف�صاح ‪:‬‬ ‫أ�يه يا (عبد الباقي) الواد ده طالع بخيل لمين ؟ ده اخواله �أهل الكرم‬ ‫ولا �إيه ؟ كل يا ابني كل ‪.‬‬ ‫أ�لتفت والدي نحوي وقال بدون حما�س ونظراته تلومني وتنهرني‪:‬‬ ‫‪ -‬ما تاكل ‪ ،‬ا�سمع الكلام ‪.‬‬ ‫ثم عاد للحديث مع ال�ضيف قائل ًا ‪:‬‬ ‫‪� -‬سيبوه براحته ‪.‬‬ ‫لكن (كامل أ�فندي) لم يتركني براحتي ‪..‬‬ ‫‪ -‬يا (ح�سين) تعال يا ابني خد �صاحبك ده ‪ .‬ياكل معاك جوه ما دام‬ ‫مك�سوف و�سط الجرم أ� ده ‪.‬‬ ‫لم أ�كن مك�سو ًفا ‪ ،‬لكنني كنت غا�ض ًبا من نف�سى ومحر ًجا ف�أ�سرعت‬ ‫مع (ح�سين) لأنجو من هذه الورطة حيث لم أ�فهم لماذا يجعلني هذا الجمع‬ ‫�أت�صرف على غير طبيعتي ‪ .‬وتعجبت من حالي‪ ،‬لم أ�كن مرتا ًحا لموقفي ‪،‬‬ ‫لم يكن ذلك ت�صرفي في وجود الكبار ‪ ،‬حتى لو كانوا من الغرباء وكرهت‬ ‫نف�سي لأنني ت�صرفت هكذا كا ألولاد (العاهات) في وجود الطعام ‪.‬‬ ‫كان خالي (يو�سف) ل�سنوات ي�صحبني معه عندما يت�صادف وجودي‬ ‫‪262‬‬

‫ينتابني حرج ولا خجل ‪ .‬على العك�س ‪ ،‬كان الجميع يح�سدون خالي على‬ ‫كرم ابن �أخته ‪ ،‬الذي لا يتحرج �أمام الطعام ‪ ،‬بل يعتبر نف�سه �صاحب مكان‬ ‫و�صاحب مطرح ‪ ،‬وكان خالي يتباهى بت�صرفي هذا الذي كنت أ�جده عاد ًّيا‬ ‫ولا �أح�س معه تلك الحواجز المبهمة بيني وبين الآخرين من الكبار‪ ،‬حتى‬ ‫ولو كانوا غرباء �أقابلهم لأول مرة ‪ ،‬كما حدث لي حين وجدت نف�سي‬ ‫و�سط هذا الجمع من ا ألفندية والبهوات من �آل (عبد ربه) ورجالات الوفد‬ ‫‪ ،‬كان بينهم (عبد ال�سلام عبد ربه) ذلك الذي تزوج �أخت (ي�س بك‬ ‫�سراج الدين) �شقيق (ف�ؤاد با�شا �سراج الدين) والتي لم تطق العي�ش في بلدنا‬ ‫‪ ،‬وكان بينهم النائب الوفدي الجديد (محمد �سويلم) الذي اختارته لجنة‬ ‫الوفد في الدقهلية لخو�ض معركة الانتخابات القادمة ‪.‬‬ ‫•••‬ ‫‪265‬‬

‫(التابوت) أ�و (الطنبو�شة) ح�سب نوع البئر ونوع ال�ساقية ‪ ،‬ومن محور‬ ‫هذا الكبير ترتفع (ال�شعبة) ‪ ،‬وهي �شجرة متو�سطة لها فرعان ‪ُ ،‬هذبت‬ ‫بعد ق�ِّص فرعيها بطول منا�سب لت�صبح محو ًرا ‪ ،‬يرتفع ألعلي فوق الفراغ‬ ‫وفوق (الطنبو�شة) �أو (التابوت) إ�لى ال�سماء ‪ ،‬حيث يحت�ضن ذراعاه �شجرة‬ ‫�أخرى من جذعها ‪ ،‬تمتد م�ستقيمة نحو ( المدار) لت�ستقر فوقه على إ�رتفـاع‬ ‫منا�سب مح�سوب يربط بها (ال�سـ َلب) الذي �سيمتد إ�لي (الناف) الذي يعلق‬ ‫برقبة (الما�شية) �سواء واحدة أ�و اثنتين ح�سب �سعة (الطنبو�شة) وحجمها‬ ‫وكمية المياه ‪.‬‬ ‫كانت عملية �صعبة ودقيقة ‪ُ ،‬خطط لها و أ�نجزت �أجزا ؤ�ها على ح�سب‬ ‫ح�سابات معلومة ‪ ،‬من حيث الحجم والطول والثقل و�سلا�سة دوران‬ ‫المحاور المختلفة ‪ .‬كان خالي وم�ساعدوه من النجارين يتولون الم�سائل‬ ‫الدقيقة ل�ضبط ا أل�صول الفنية ‪ ،‬بينما ع�شرات من (الفلاحين) يتكاتفون‬ ‫للحمل والنقل والتثبيت و�إعادة التثبيت ‪ ،‬ح�سب نتائج التجارب في كل‬ ‫خطوة ‪ ،‬وبعد كل مرحلة حتى يتم ا�ستقرار ال�ساقية ‪ ،‬رهيبة مهيبة ‪ ،‬غاية‬ ‫في الجمال والاكتمال ‪ ،‬حين تدور وتخرج أ�ول دفعة من المياه تبعث في‬ ‫الوجوه المتعبة المرهقة فرحة الراحة والانت�صار ‪ ،‬وتنطلق الزغاريد البهيجة‬ ‫من الن�ساء اللائي �أح�ضرن الطعام ‪.‬‬ ‫كنت أ��شارك في كل هذا وك أ�نني أ�حمل معهم و�أدفع و�أحزق و�أتمطع‬ ‫‪ ،‬مع �أن دوري كان قا�ص ًرا دائ ًما على مناولة حبل �أو �شاكو�ش �أو م�سمار‬ ‫ح َّدادي �أو �إبعاد خ�شبة �أو طوبة عن الطريق ‪ ،‬ولكنني في كل الأحوال‬ ‫كنت أ�ح�س أ�نني فعلتها معهم ‪ ،‬إ�ذا كانت تغمرني م�شاعرهم‪ ،‬ولذا عندما‬ ‫يو�ضع الطعام كنت بكل ب�ساطة �أزاحم ألجد لنف�سي مكا ًنا بينهم ‪ ،‬لا‬ ‫‪264‬‬

‫لإح�ضار ماء لل�شرب ‪ ..‬وعرفت �أنها �أخته الكبيرة‪ ،‬كانت الملامح موحية‬ ‫‪ ..‬ال�صوت وطريقة ا ألداء كلها ت�ؤكد انتماءها إ�لى (كامل أ�فندي) �صاحب‬ ‫ال�صوت الم�سيطر الذي لا يقبل جدل ًا أ�و رف ً�ضا ‪ ،‬ويطلق الكلام عدوان ًّيا بلا‬ ‫مجاملة ‪.‬‬ ‫أ�ثناء الأكل حكيت (لح�سين) مبر ًرا موقفي الذي بدا طفول ًّيا ‪..‬‬ ‫حكيت له عن ال�سواقي وطريقة �إقامتها ‪ ،‬عن �صناعتها و�أجزائها وعن‬ ‫خالي والجميزة الم�سحورة التى زرعها �شيخ طريقة �سودانى على إ��سمه‬ ‫والمرهونة خ�ضرتها بحياته منذ ارتبط اخ�ضرارها بمولده و عن بيت جدي‬ ‫لأمى ‪ ،‬وعن المدر�س الذي يحكي لنا الحكايات فى مدر�سة (الجمالية)‬ ‫عن الآلهة والوحو�ش ذات العين الواحدة وعرائ�س البحر وال�ساحرات ‪..‬‬ ‫وحكى لي هو عن حياته في (المن�صورة) وا ألفلام التي ي�شاهدها ‪ ،‬وحكى‬ ‫لي عن �أمه التي لم تكن مرتاحة لوجوده في (المن�صورة) وحده ‪ ،‬و�إ�صرارها‬ ‫الدائم على إ�لحاقه بمدر�سة المنزلة ليكون بين �أح�ضانها ‪ .‬كانت تعيره بي‬ ‫عندما يتحجج بقرف ال�سفر وتعبه ‪ ،‬وال�صحيان بدري وقرفه ‪ ،‬وكيف‬ ‫كانت تحاول إ�ثارة غيرته مني ‪ ،‬إلقناعه مع أ�نه كان في ال�سنة الرابعة ‪:‬‬ ‫‪ -‬تعال �شوف ابن عبد الباقي القزعة اللي قد الفار ‪� ،‬شوفهم بيطلعوه‬ ‫ح�شر في الأتوبي�س من �شباك العربية ‪ ،‬و�شنطته الخ�شب قده مرتين �شايلها‬ ‫على قلبه ‪ .‬يا حبيبي الغربة كربة ‪ ،‬اقعد زيه في ح�ضن امك ‪.‬‬ ‫وعرفت �ساعتها أ�ن منهج الكلام وطريقة ا ألداء التي �أزعجتني منذ‬ ‫قابلت فتاة الب�ستان �سمة من �سمات عيلة (عبد ربه) كلها وعل َّي �أن أ�تعاي�ش‬ ‫معها ‪ ..‬لو �صرنا �صديقين في الم�ستقبل!‬ ‫بعد �أن أ�كلنا �صحبني لأغ�سل يدي في حمام لم تغط جدرانه بعد محارة‬ ‫ولا �ضهارة ‪ .‬حيث كان �أبريق نحا�س �ضخم ي�شغل ن�صف المكان ‪ .‬يكاد‬ ‫‪267‬‬

‫ما لـم تـكن تـعـلم ‪..‬‬ ‫‪ ‬حين جل�ست مع (ح�سين) في الداخل‪..‬‬ ‫جاءت فتاة الب�ستان بنف�سها حاملة �صينية عليها‬ ‫طعامنا‪ ..‬وعندما حطت ال�صينية على الترابيزة‬ ‫المجهزة لنا لاحظتني ‪ ..‬فقالت ‪:‬‬ ‫‪ -‬ه َّو انت ؟! رحب بيه يا ح�سين ده خواف!‬ ‫بلا خيبة دا جري وما ر�ضي�ش ياكل الكمثرى‬ ‫اللي‪...‬‬ ‫وحتى لا تكمل ب�صوتها المتعالي وطريقة �أدائها‬ ‫العدوانية قاطعتها ‪:‬‬ ‫‪ -‬أ�نا مار�ضيت�ش �آكلها م�ش مغ�سولة ‪..‬‬ ‫ف�ضحكت �ضحكة خ�شنة �ساخرة ‪..‬‬ ‫‪ -‬طب كل ‪ ..‬الأكل ده كله مغ�سول ‪..‬‬ ‫نهرها (ح�سين) وطلب منها �أن تذهب‬ ‫‪266‬‬

‫‪ -‬يرجع (على ماهر) !‬ ‫‪ -‬يا راجل ا إلنجليز حير�ضوا (بعلى ماهر) ؟ والدنيا مقلوبة ‪ ،‬ما‬ ‫يقدرو�ش على كده ‪ .‬فيه آ�لاف في ال�سجون و ْلعلمك همه بقي ع�شان‬ ‫تعرف اللي بي�ضغطوا ع�شان الانتخابات ‪..‬‬ ‫وفج�أة قال (ح�سين) ب�صوت عال م�ستنك ًرا طريقة التعامل مع الجراح‬ ‫التي ما تزال تنزف بهذه الب�ساطة ‪:‬‬ ‫‪ -‬الإنجليز ه َمه اللي ح ي�ضغطوا ع�شان الانتخابات ؟!‬ ‫قطعت الجملة المت�سائلة فى ا�ستنكار تيار التداعي الذي تعودوا عليه‬ ‫في مناق�شاتهم ‪ ،‬كان �صوت ال�صبي غير م�ألوف ‪ ،‬التفتوا �إليه جمي ًعا في‬ ‫�صمت وده�شة ‪ .‬قطعه (كامل افندي) بم�شاعر بين الغ�ضب والإعجاب‬ ‫الخفي بابنه الذي �أ�صبح يفهم في ال�سيا�سة ويتحدث كرجل نا�ضج بعد أ�ن‬ ‫خاب �أمله في أ�ن يجذب ولديه ا ألكبر �إلى الاهتمام العام ‪� ..‬أحدهم ف َّ�ضل‬ ‫�أن يظل في وظيفة (ابن كامل �أفندي) ‪ ..‬وا آلخر ع�صفت به هواية التمثيل‬ ‫ويريد �أن ي�صبح نج ًما �سينمائ ًّيا فلم يفلح ‪ ،‬ولكن ها هو (ح�سين) يب�شر �أن‬ ‫يكون خليفة له وزعي ًما يتحدث و�سط الرجال ويدلي بدلوه ‪ ..‬رغم حدة‬ ‫�آرائه التي طالما أ�زعجته قال ‪:‬‬ ‫‪ -‬أ�يوه يا �سيدي ‪ ،‬يعني ر�أيك �إن ما في�ش انتخابات قريب ‪.‬‬ ‫تردد (ح�سين) فهو يعرف والده جي ًدا ‪..‬‬ ‫‪� -‬أكيد ح تكون فيه انتخابات ‪ ،‬ب�س الملك وا إلنجليز عارفين إ�ن لو‬ ‫ح�صل ح ييجي الوفد‪ ..‬وما حد�ش منهم عايزه دلوقتي �إلا �إذا كانوا عايزين‬ ‫يورطوه ‪.‬‬ ‫‪� -‬إحنا اللي عايزين يا �أخي ‪ .‬ولازم الوفد يرجع مرفوع الر أ��س بعد‬ ‫اللي ح�صل ‪.‬‬ ‫‪ -‬الوفد راجع غ�صب عن عين التخين ‪..‬‬ ‫‪269‬‬

‫يلام�س ال�سقف محمول ًا على حامل من الحديد القوي ‪ ،‬وله حنفية تحتها‬ ‫ط�شت لتل ِّقي ماء الغ�سيل ‪ .‬فتح الحنفية ودعاني كي أ�غ�سل يدي بالماء وهو‬ ‫يناولني �صابونة ن�صف م�ستعملة ‪ ..‬وقال معتذ ًرا في �سخرية هو يطوح‬ ‫بالفوطة فوق كتفي ‪:‬‬ ‫‪ -‬ل�سه ما عملنا�ش موا�سير في الحيطان يا �سيدي !‬ ‫تجاهلت �سخريته وتلميحه �أن �أبي كان يتفاخر ب أ�نه أ�دخل الموا�سير �إلى‬ ‫بيتنا وقلت منده�ًشا ومتجاهل ًا بجد ‪:‬‬ ‫‪ -‬ب�س ا إلبريق ده دخل هنا ازاي ؟ دا �ضخم ج ًّدا ‪.‬‬ ‫�ضحك متنازل ًا وهو يقول ‪:‬‬ ‫‪ -‬لا ‪ ..‬دا احنا بنينا حواليه البيت ‪.‬‬ ‫وتبادلنا نظرات عدم الت�صديق المرحة ‪ .‬ثم م�ضينا لنلحق بال�شاي مع‬ ‫الرجال الذين كانوا قد �سبقونا إ�لى الفراندة وجل�سوا يحت�سونه في ا�ستمتاع‬ ‫علني م�ستر ٍخ وممتلئ ‪ ،‬في دوامة من الكلمات وا أل�صوات �صنعت غيمة‬ ‫من الزعيق الر�صين و�ضحكات المجاملة جل�سنا عند �أطرافها لن�سمع ‪.‬‬ ‫‪ -‬خلا�ص وزارة (النقرا�شي) بتودع ‪.‬‬ ‫‪ -‬ه َّي لحقت ؟ دول كام �شهر ‪..‬‬ ‫‪ -‬إ�يه يعني ! الملك ممكن يجيب (�صدقي) تاني ‪ ،‬ولا يمكن ح يعمل‬ ‫انتخابات م�ش �ضامن نتيجتها ‪.‬‬ ‫‪ -‬يا عم مين قال لك ‪ .‬الم َّرة دي غ�صب عنه ‪ .‬كل الدلائل بتقول‬ ‫كـده‪ ،‬الحالة متدهورة وما يقدر�ش يكرر غلطة (�صدقي) ‪.‬‬ ‫‪ -‬الوفد هو ا إلنقاذ !‬ ‫‪ -‬ما ت�ضمنو�ش ‪ ..‬يا ما في الجراب يا حاوي فيه ع�شرات جاهزين ‪..‬‬ ‫عنده (مكرم) جاهز‬ ‫�أ�صوات ا�ستنكار ‪.‬‬ ‫‪268‬‬

‫البحر ال�صغير ‪ .‬و�أخوه هو اللي ح ي�شرف علي بناء المدر�سة الجديدة‪..‬‬ ‫و�أب�سط يا عم �أكيد ح يفتحوا لك ف�صل �سنة ثالثة ورابعة كمان‪ ..‬ألن‬ ‫النا�س في مجل�س المديرية بر�ضه خايفين من الانتخابات ‪ ..‬ورجوع الوفد‬ ‫فبيجاملوا (ميت �سل�سيل) ‪.‬‬ ‫�أ�سرني حديثة ولجمني ‪� ،‬سكت أ��سمع مبهو ًرا و�س�ألته ‪:‬‬ ‫‪ -‬وانت عرفت ده كله منين؟‬ ‫�ضحك في قلاطة وقال لي ‪:‬‬ ‫‪ -‬اللي ي�س�أل ما يتوه�ش يا �شاطر ‪ ،‬والعقل موجود في نافوخ كل‬ ‫واحد ‪ ..‬ب�س ت�ش َّغله ‪..‬‬ ‫قلت في �سذاجة حقيقية ‪:‬‬ ‫‪ -‬وت�ش َّغله ازاي ؟‬ ‫‪ -‬بالقراية يا ابني ‪ ..‬دول كلهم زعما �شفوي ‪ .‬ما بيقرو�ش إ�لا (الوفد‬ ‫الم�صري) ‪ ،‬انت ما لاحظت�ش ان عمي (يو�سف) ما جا�ش معاهم يتغدى ‪..‬‬ ‫ألنه ما بيحب�ش ال�سيا�سة ال�سماعي ولا المناق�شات ا أل ل َاوى ‪ -‬بيقول عليهم‬ ‫دول نا�س (طوباويين) ‪..‬‬ ‫‪ -‬إ�يه؟‬ ‫فاج أ�تني الكلمة وبطحتني ‪،‬‬ ‫‪ -‬يعني �إيه ؟ طوباويين دي ؟‬ ‫‪ -‬مت�أ�سف ‪ ..‬ق�صدي خياليين ‪ ..‬هواة م�ش فاهمين الواقع ‪.‬‬ ‫‪ -‬واقع ؟‬ ‫‪� -‬أيوه ‪.‬‬ ‫‪ -‬عاي�شين على أ�وهام �سنة ‪ 19‬و أ�حلام الما�ضي ‪ ..‬الوفد ما بقا�ش هو‬ ‫اللي في دماغهم بيقي�سوه على م�سطرة م�صالحهم وب�س ‪ ،‬الفقر مالي الدنيا‬ ‫‪271‬‬

‫هبت موجة حما�س غير مبررة ‪ ،‬فاختلطت ا أل�صوات ‪ .‬وك�أنما كان‬ ‫�صوت الحقيقة المزعج فا�ض ًحا لطبيعة تلك الغمامة اله�شة من المناق�شات‬ ‫المتكررة فت�ساقط متبد ًدا في تراب ا ألوهام الأرخ�ص وا أل�سهل ‪.‬‬ ‫وغمغم (ح�سين) معر ً�ضا عن الم�شاركة في الجدل والتفت لي ‪:‬‬ ‫‪ -‬م�ش عايزين يفهموا إ�ن الوفد ما بقا�ش الوفد ‪ .‬كلهم م�ستنظرين‬ ‫معجزة على نار ‪ ،‬ع�شان اللي عايز يخل�ص تاره من العمدة واللي عايز ينتقم‬ ‫من رفده من الجمعية التعاونية ‪ ..‬واللي ‪ ...‬واللي ‪...‬‬ ‫ا�ستمعت مبهو ًرا ‪ .‬لا أ�ت�صور �أن هذا الكلام يمكن أ�ن ي�صدر عن‬ ‫(�صبي) لا يزيد عمره عن عمري �إلا ب�سنوات قليلة ‪ .‬وعرفت منه كثي ًرا‬ ‫مما بدد رعبي حين وجدت نف�سي و�سط هذه الكوكبة من ا ألفندية‬ ‫ورجالات الحل والعقد في مجل�س واحد ‪ .‬أ�ربكني وجعلني لا �أت�صرف‬ ‫على طبيعيتي ‪ .‬و أ�نا الذي تعودت أ�ن أ�ح�شر نف�سي في مجال�س الكبار أ�مام‬ ‫دكان (محمود �شطا) (لكن م�ش للدرجة دي) مر�شح الوفد ‪ ،‬ون�سيب‬ ‫(ي�س �سراج الدين) ‪ ،‬و أ�ع�ضاء لجنة الوفد بالدقهلية‪ .‬ومن (ح�سين) عرفت‬ ‫�إنهم بيرتبوا للانتخابات التي يظنونها على ا ألبواب ‪ .‬وي�ستعدون حتى‬ ‫لا يفاج�أوا ‪ ،‬يخططون كيف يزيلون أ�ثر (‪ 4‬فبراير) مت�سلحين ب إ�نجازات‬ ‫حكومة (النحا�س) أ�ثناء الحرب –( كوبونات الجاز وقانون ا إلن�صاف‬ ‫وا إلفراج عن المعتقلين و إ�طلاق الحريات) ‪ ،‬وك�أن موقف الوفد هو الذي‬ ‫ت�سبب في انت�صار الحلفاء على (هتلر) وهزيمه (رومل) ‪ .‬و�أن ينتقموا لما فعله‬ ‫الملك حين �أقال (النحا�س) و�ألغى معظم قرارات حكومته وطالبه بفلو�س‬ ‫التبرعات بتاع الملاريا ‪.‬‬ ‫‪ -‬لكن الحقيقة أ�ن (مجاهد �أبو د�سوقي) ح يطلع بمقاولة تطهير تلت‬ ‫‪270‬‬

‫�أح�س�ست لبكائي �شج ًنا ولذة وراحة لا تعادلها راحة ‪ ..‬كنت في قادم‬ ‫�أيامي ‪ ،‬كلما تذكرت ما حدث لي مع (المعذبون في ا ألر�ض) �أقول باعتزاز‬ ‫‪ :‬يخرب بيت معرفتك يا ابن عبد ربه !!!‬ ‫•••‬ ‫‪273‬‬

‫لكن ه َّم مالهم ‪ .‬المهم تم�شي معاهم وتقول (يحيا الوفد ولو فيها رفد)‬ ‫ن�سيوا �صدقى و‪ 46‬وم�ش داريين أ�و بيتجاهلوا �إن تحرير م�صر بقى محتاج‬ ‫�سيا�سيين من نوع جديد وان الا�شتراكية بقت ه َى الحل لبلد زى بلدنا ‪.‬‬ ‫‪ -‬لكن دول نا�س بيخدموا البلد ‪.‬‬ ‫‪ -‬ما قلنا�ش ‪ ،‬ه َّو �أنا قلت انهم خاينين للبلد ‪ .‬لكن م�ش قادرين‬ ‫يفهموا �إن الدنيا بعد الحرب بقت دنيا تانية فيها الاتحاد ال�سوفيتى وال�صين‪،‬‬ ‫والوفد بقى يحكمه (�سراج الدين) و(زينب)‪ ،‬وبالعك�س ه َّم مب�سوطين‬ ‫بكده ما احنا ن�سايبهم بر�ضه ‪.‬‬ ‫لم �أ�ستوعب في الحقيقة ما يعنيه ‪ .‬ولكنني كنت قد �سحرت به رغم‬ ‫نبرة ا�ستكبار وقلاطة ملحوظة في اللهجة ‪� .‬س�ألني فج�أة‪..‬‬ ‫‪� -‬إنت قريت (المعذبون في ا ألر�ض) بتاع الدكتور (طه ح�سين) ‪.‬‬ ‫فغرت فمي ‪ ..‬فلم أ�كن قد �سمعت بهم أ��صل ًا ‪..‬‬ ‫‪� -‬إ�سمع ‪ ،‬أ�نا ح اعطيك كتاب (طه ح�سين) ده تقراه وتجيبه تاني ‪ .‬ده‬ ‫مت�صادر ولا انت م اللي بيبلطجوا على الكتب ‪..‬‬ ‫أ�نكرت ب�سرعة واع ًدا ب إ�رجاعه ‪ ،‬رغم أ�نها المرة ا ألولى التي يتطوع‬ ‫�أحد ليعيرني كتا ًبا‪� ..‬صحيح أ�نني حكيت له عن حكايتي مع دولاب خالي‬ ‫( إ�براهيم) ‪ ..‬وقراءتي لألف ليلة وليلة لخالاتي من خلف ظهره ‪ .‬حينما‬ ‫حكى لي عن الكتب التي يتبادلها الطلبة في المن�صورة �س ًّرا !!‬ ‫كانت المرة ا ألولى التي يعيرني �أحد فيها كتا ًبا ‪ ..‬ولي�س �أي كتاب‬ ‫‪ ..‬فقد قلب كياني الغ�ض ‪ .‬وع�صر ف ؤ�ادي حز ًنا ‪ ..‬كنت أ�بكي بجد حين‬ ‫�أكون وحدي ‪ .‬لم �أحك عن هذا له ولا لغيره ‪ ،‬فهذا عيب ‪ ،‬كنت �أعي�ش‬ ‫على وهم �أن الرجال ‪ -‬الرجال لا يبكون ‪ ،‬كنت خجل ًا ‪ .‬وكلما فعلتها‬ ‫‪272‬‬

‫تغالب دموعها وهي تربت عل َّي ‪ .‬ولما ا�ستيقظت أ�خذتني في ح�ضنها‬ ‫و أ�طلقت لنهنهاتها العنان‪..‬‬ ‫اكت�شفت بعدها �أن الهواء ثقيل ‪ ،‬و�أن نف�سي قد ان�سدت عن الدنيا ‪،‬‬ ‫ولم �أعد ذلك ال�صبي الذي لا يكف عن الحركة وت�سلق ا أل�شجار ‪ ،‬واختراق‬ ‫ال�سياجات المحرمة لاقتنا�ص فاكهتها ‪ .‬ولا ذلك الفتى الذي يلقي بنف�سه‬ ‫في �أي مياه جارية ي�سبح ويغو�ص ويعبر إ�لى ال�شطوط ا ألخرى‪ ..‬وفقدت‬ ‫�شلة ال�شقاوة وع�صابة الليل بهجتها و إ�غراءاتها ‪..‬‬ ‫كنت (جميل ًا) تحبني البنات ‪ .‬وتتمل َّاني الن�سوة وهن يتوحمن ‪.‬‬ ‫لكني كنت كالقط البري �أخرب�ش و�أخم�ش كل من يحاول تخطي حدود‬ ‫ا ألدب معي من ال�صبية وال�شبان المنحرفين‪..‬‬ ‫ذات يوم فوجئ رواد مقهى (ح�سن م�صطفى) في و�سط ال�سوق‬ ‫بي و�أنا �أنهال بع�صا �صف�صاف كالكرباج على ر أ��س و�ضهر ووجه الواد‬ ‫(�سامي) الذي كان �صدي ًقا لي ‪ ..‬تبعته وقد جهزت ع�صاي حتى دخل‬ ‫دائرة ال�ضوء و�ضجيج الزهر والقوا�شيط لأفعل فعلتي ‪ ..‬حتى يكون ت أ�ديبي‬ ‫له عل ًنا جها ًرا نها ًرا ‪ ..‬وحين اندفع الجميع لتخلي�صه من ق�سوتي ‪� ،‬س�ألوني‪..‬‬ ‫قلت ‪ :‬إ��س أ�لوه ه َّو ‪ ..‬لو عنده رجولة يقول ليه ؟ ‪ ..‬لازم يفهم ان م�ش‬ ‫كل الطير اللي يتاكل لحمه ‪..‬‬ ‫وربت (�سعيد الم ْر َيح) ( فى خبث رجل فلاتى لا تترك يده زهر‬ ‫الطاولة ولا يغادر القهوة �أبدا )على خدي مهد ًئا بطريقة وجدتها تجاوزت‬ ‫حدودها ف�صفعته على وجهه �أمام الكل �صفعة أ�طلقت من عينيه �شرارات‬ ‫ت ؤ�كد �أنني �أعني ما أ�قول ‪( .‬م�ش كل الطير اللي يتاكل لحمه) ‪..‬‬ ‫‪275‬‬

‫اقـر أ� كتـابـك ‪...‬‬ ‫‪ ‬لم يكن (المعذبون في ا ألر�ض) �أول كتاب‬ ‫أ�قر أ�ه ‪ ،‬لكنه كان أ�ول كتاب أ�عيد قراءته و أ�حفظ منه‬ ‫بكل �إرادتي فقرات كاملة ‪ .‬كان ترديدها يجعلني‬ ‫أ�بكي ‪ ..‬ذات يوم �ضبطتني �أمي و أ�نا �أغلق غرفتي‬ ‫عل َّي معه ‪ ،‬فحاولت أ�ن �أخفيه لكنها لاحظت‬ ‫احمرار عيني ‪� ..‬ضربت �صدرها بملء كفها وهي‬ ‫ت�صيح ‪:‬‬ ‫‪ -‬يا ح�سرتي ‪ ،‬مالك يا عين امك ‪ ..‬بتعيط ليه‬ ‫‪� ..‬إيه ده ؟ هات اللي بتخبيه ده ‪..‬‬ ‫ولم أ��ستطع الرف�ض ‪ .‬فلما ر أ�ته كتا ًبا ‪� ،‬ضحكت‬ ‫‪ ،‬ف أ��سرعت ب إ�خفاء وجهي الذى يبلله الدموع تحت‬ ‫اللحاف‪ ،‬لكنها لم تترك الكتاب إ�لا بعد �أن قر�أته ‪..‬‬ ‫وعادت �إل َّي ووجدتني نائ ًما ‪ ..‬ف�أيقظتني وجل�ست‬ ‫‪274‬‬

‫البيوت يت أ�وهون في ظل الحيطان ‪ ،‬مهجورين �إلا من أ�م عجوز توا�سي‬ ‫بلا حيلة ‪ ،‬أ�و زوجة متبرمة تلبي نداءاتهم في ا�ست�سلام وبلا أ�ي ن�صير‬ ‫على الإطلاق �سوى ال�صمت والفقر والرعب حين ت�شتد نوبات المر�ض‬ ‫المجهول ‪ ..‬لم أ�كن �أفعل �شي ًئا �سوى ‪� ,‬أن �أم�ص�ص �شفتي �إ�شفا ًقا ‪ ..‬قد أ�ناول‬ ‫هذا القلة لي�شرب �أو أ�غلق الباب المك�سور إ�ذا طلب مني ذلك ‪� ،‬أو أ�قرب له‬ ‫رغيف الخبز الجاف المغم�س ببع�ض الم�ش ليكون أ�حن على أ��سنانه ‪ ،‬و أ�فعل‬ ‫ذلك و�أنا �أح�س �أنني ملاك الرحمة ‪ ..‬و أ�ن�سى الأمر بمجرد ابتعادي ‪.‬‬ ‫لم أ�كن �أح�سن ب�أي م�شاعر حادة حيال معاناة عمتي (فريدة) وزوجها‬ ‫(ح�سين) ‪ ،‬الذي عاد من م�ست�شفى المجانين ‪ ،‬عاج ًزا م�ست�سل ًما لقدره ‪.‬‬ ‫يجل�س طول اليوم في مكانه أ�مام الدار على قرافي�صه ‪ ,‬وك أ�نه يتهي أ� لرحيل‬ ‫لا يحدث أ�ب ًدا ‪ .‬يت�أمل الرائحين والغادين ‪ ،‬يقتله العجز لعدم ا�ستطاعته‬ ‫م�ساعدة زوجته في تروي�ض �أطفالها ‪ ،‬وفي �سد حاجات الغيط والبيت ‪..‬‬ ‫ولا يعتر�ض على إ�ر�سال ابنه للخدمة عند بع�ض �أقاربه الطلبة في م�رص‪ ,‬لقاء‬ ‫لقمته وهدمته وقرو�ش قليلة ‪..‬‬ ‫لم �أكن �أجد غرابة في ذلك ‪ ،‬فهذه هي حياتهم �أراها منذ وعيت على‬ ‫الدنيا دون �أن تقلقني أ�و تثير ده�شتي ‪ ،‬بل إ�نها �أحيا ًنا ت�صبح مادة لعبثنا‬ ‫الطفولي ‪� ،‬إذ كنا �أحيا ًنا �إذا ما لم نجد �شي ًئا آ�خر ي�شغلنا ‪ ..‬نغني للم�سكين‬ ‫الراب�ض عاج ًزا يهوم في عالمه ‪ ،‬با ألغنية التي �أطلقها البع�ض �سخرية من ق�صة‬ ‫حبه لعمتي �أيام ال�شباب ‪ .‬وكيف أ��شعلت ب�أحداثها النارية غيرة الكثيرين‬ ‫فغنوا لهما مر ًحا ما نغنيه نحن ا آلن إ�زعاجا و�سخرية وقد تبدلت الأحوال‬ ‫وتهدلت المعاني وجفت ‪:‬‬ ‫(جلاوين جلاوين جلاوين‬ ‫وفريدة بتحب ح�سين ‪/‬وح�سين ما بحبها�شي !)‬ ‫‪277‬‬

‫كانت كل أ�حوا�ش و�سطوح البيوت التي حولنا من �أقارب �أقربين‬ ‫و�أبعدين مفتوحة لي ‪ ..‬وكنت أ�ت�أمل ما حولي في لا مبالاة‪ ..‬بل أ�حيا ًنا‬ ‫في براءة و�سعادة ‪ .‬لا �أح�س بق�سوة الفرق بين بيتنا وحياتنا وبين حياتهم‬ ‫وبيوتهم ‪ ،‬بل قل جحورهم وزرائبهم‪..‬‬ ‫لم �ألاحظ �أن معظمها لا توجد بها �سراير ‪ ،‬ولا كنب ولا مرايات ‪.‬‬ ‫ينامون على الم�صاطب أ�و على ا ألفران أ�و في أ�ركان غرف عارية‪ ...‬على‬ ‫ح�صير �أو عباءة تحت�شد فيها الح�شرات ‪ ..‬والبع�ض ينام على ال�سطوح ‪ ،‬داف ًنا‬ ‫نف�سه في أ�كوم الق�ش ‪ .‬وكم كنت أ�فرح إ�ذا ما ت�صادف ودخلت زريبة‬ ‫(ال�ص ّديق) المعتمة التى تفتح عليها نافذة المندرة يعي�ش فيها عندما تقوم‬ ‫زوجته (عاقلة) بحلب الجامو�سة التي ولدت حدي ًثا ‪ ..‬وتغريها (بال َب ّو)‪،‬‬ ‫وهو هيكل م�صنوع من جلد عجل �صغير ‪ ،‬تخدعها به لتدر لبنها ك�أنه‬ ‫لر�ضيعها ‪ ..‬و أ��شارك في مرح عندما يعود زوجها وابنها من الغيط ‪ ،‬فيلقي‬ ‫بحمل البر�سيم في قرف ويزعق طال ًبا الطعام ‪ ..‬فت�سرع لت�ضع أ�مامهم‬ ‫على الأر�ض ‪ ،‬فوق ح�صيرة مهترئة ‪ ،‬حلة البامية أ�و الملوخية (القرديحي)‬ ‫وتلقي أ�مامهم بعدة ر�صات من الخبز وب�ضع ب�صلات أ�و حزمة �سري�س ‪..‬‬ ‫ف أ�جل�س بينهم في �سعادة ‪� ،‬أ�شاركهم طعامهم ال�شه َى ‪ ،‬م�ستطع ًما م�ستل ًّذا‬ ‫م ؤ�ك ًدا لنف�سي أ�نه أ�لذ كثي ًرا من طعامنا المجهز بالم�ستكة والحبهان ‪ ،‬والمط َّعم‬ ‫(بالظفر) ‪ ،‬في �أطباقه المغ�سولة ‪ ..‬مبر ًرا أ�ن هذا يرجع للفرق بين الطهي‬ ‫على (الموقدة) والطهي على وابور الجازلأننى لا أ��ستطيع أ�ن أ�تخيل �أن هناك‬ ‫امر أ�ة تفوق �أمى فى طهى الطعام‪.‬‬ ‫وكنت في خ�ضم اندماجي مع الأولاد والبنات ونحن نتجول‬ ‫كالعا�صفة في كل مكان ‪ ،‬نطارد الكلاب ونزعج البط والدجاج ون�صيد‬ ‫الزرازير ‪� ،‬أو الجعارين �أو أ��سماك الترع‪ ،‬حين أ��شاهد المر�ضى من �أهل تلك‬ ‫‪276‬‬

‫لمطاردتها ع�شوائ ًّيا ‪ ..‬بتطويح ما جهزناه من ع�صي طويلة وفروع �شجر أ�و‬ ‫جريد نخيل وبو�ص ريح ‪ ،‬ويتفاخر كل منا بعدد ما أ��سقط من (وطاويط)‬ ‫كنا نظنها ع�صافير جنة ‪ ..‬ونخافها طول الوقت حذرين �أن يلت�صق أ�حدها‬ ‫بوجه �أحدنا ‪� ،‬ساعتها لن يترك المبلي البائ�س ولا (بالطبل البلدي) حتى‬ ‫يمت�ص دمه ‪ ..‬وكنت �ألاحظ هذه (الوطاويط) في غير أ�وقات هيجانها‬ ‫معلقة في هدوء من �أرجلها في �أ�سقف الزرائب وا ألفران ‪ ،‬حيث ينام‬ ‫�أ�صحابي و�أهلهم تحتها في تعاي�ش ولا �أجد �ساعتها في ذلك أ�ي غرابة !!‬ ‫أ��سمع �أن والد �صاحبي (مو�سى) مات فج�أة مع �أن الكل كان يتوقع‬ ‫موته من زمن طويل‪ ،‬كان كر�شه المنفوخ �أمامه يكبر يو ًما بعد يوم ‪ ،‬لم‬ ‫يقعده عن الذهاب كل يوم للغيط وممار�سة �شئون الفلاحة ‪ ..‬حتى انفجر‬ ‫فج أ�ة ونزف د ًما �أ�صفر كال ِم َّدة من فمه و أ�ذنيه وا�سته ‪ ..‬وفاحت رائحة‬ ‫زنخة لم تفلح و�صفات الحانوتي في منعها �إلا لما �أطبق عليها غطاء القبر ‪..‬‬ ‫وكنت �أ�شاهد في ذهابي و�إيابي ( أ�بو الرو�س) يجل�س على الم�صطبة‬ ‫العالية أ�مام بيتهم المواجه لأبي خ�شبة (الخرابة) و�أمه ال�ضئيلة الج�سم تقوم‬ ‫على خدمته و�إ�سناده حتى لا ي�سقط ب�سبب ت�ضخم ر أ��سه التي تبلغ �ضعف‬ ‫ج�سمه ‪ ،‬منت�صبة كهرم مرعب مقلوب ‪ ..‬بل وكنا نداعبه ونلاعبه �سخرية‬ ‫في غيبة أ�مه ل�ش�أن من �شئونها ‪ ..‬ولما تعود تطردنا وتنعتنا بالكفرة ‪ ..‬ألنها‬ ‫ت�صر على �أن ربنا �أكرمها به ‪ .‬فهو ولي من �أولياء الله ‪ ،‬تخدمه طول الوقت‬ ‫لتك�سب ثوابه ‪ ،‬فالله يبتلي عباده المخل�صين ‪ ..‬بينما كان بع�ضنا يت�ساءل في‬ ‫خبث ‪ ..‬كيف خرج هذا الر أ��س المخروطي ال�ضخم من فرج تلك المر أ�ة‬ ‫الهزيلة الواهنة التي ت�شبه خنف�ساء بلا �أرجل ‪.‬‬ ‫‪279‬‬

‫لم �أكن �أح�س ق�سوة �شم�س القطن و�أح�سد ال�صغار الذين ي�ساقون إ�لى‬ ‫جمع لطع الدودة من الأ�شجار الم�صابة في عز نقحة ال�شم�س ‪ ..‬و�أح�شر‬ ‫نف�سي معهم (ببيجامتي) النظيفة ك أ�نني أ�ريد �أن أ��شاركهم (لعبهم) ‪ .‬وكان‬ ‫الخولي يطردني برقة إ�كرا ًما (لعبد الباقي أ�فندي) ‪� ..‬أو يطاردني ملوحا‬ ‫بل�سوعة خرزانته التي ي�سوق بها غيري للعمل ‪ ..‬مهد ًدا ب�ضربي بجد إ�ن‬ ‫نزلت الغيط ولم �أرجع إ�لى البلد وي�صرخ ف َّي محت ًجا ‪:‬‬ ‫‪ -‬ايه يا اخوان البلاوي دي انت جاي تبلينا ما تروح لأهلك يا ابن‬ ‫عبد الباقى �أما م�صايب‪..‬‬ ‫ولكنني لم أ�كن أ�جد في ذلك أ�ي م�صائب ‪ ..‬فبع�ض من يحترقون في‬ ‫ال�شم�س �أ�صحابي ‪ ،‬لماذا لا �أ�شاركهم ‪ ،‬وك أ�ننا ن�ستحم في الترعة �أو نجمع‬ ‫التوت �أو نت�آمر لغزو الجنينة ‪ .‬و�أنده�ش ج ًّدا ولا أ�جد إ�جابة ل�س ؤ�ال يلح‬ ‫عل َّي لماذا لا ي�سمحون لي ؟!‬ ‫�أعود �شاك ًيا ألمي ‪ ..‬فتموت على روحها من ال�ضحك‪ ..‬وتناولني‬ ‫كعكة مما أ�ح�ضره �أبي من المدينة ‪ ،‬ول�سنا في مو�سم الكعك ف�أتظاهر ب أ�كلها‬ ‫‪ ..‬و أ�خفيها في جيب البيجامة لأ�شارك فيها �أيًا من أ��صحابي ‪ ..‬وكثي ًرا ما‬ ‫كان يحدث أ�ن أ�ن�ساها فتزيت ملاب�سي ‪ .‬وتنهرني أ�مي وهي تغيرها لي‬ ‫ب�أخرى نظيفة ‪ ،‬مثلما تفعل كلما عدت لها آ�خر النهار ملوث الثياب بطين‬ ‫الم�صارف‪ ،‬أ�و بتراب الم�صاطب المندي أ�و بغبار ال�ساحات الذي لا يكف‬ ‫عن الا�ستجابة ألقدامنا و أ�ج�سادنا التي لا تهد أ� ولا تكف عن العفرتة‪..‬‬ ‫كنا مع المغرب نخو�ض معا المعركة اليومية مع (الخفافي�ش) ‪ ،‬جيو�ش‬ ‫م�ؤلفة منها كانت تنطلق مع الغروب من �أ�سقف الزرايب والعراي�ش‬ ‫والأحوا�ش المظلمة ‪ .‬تطير بجنون عبر ال�شوارع والحواري فن�سرع نحن‬ ‫‪278‬‬

‫عل َّي ه ٌّم لم يفارقني وامتزج بدمي �إح�سا�س قاتل بالذنب فيما لا ذنب لي‬ ‫‪ ..‬واكت�شفت مرارة في ل�ساني لا تزول ‪ ..‬وده�شة مبعثها اكت�شافي أ�نني‬ ‫�أعاي�ش طول الوقت �أولئك المعذبين في ا ألر�ض ‪ ،‬دون أ�ن أ�ح�س بتلك‬ ‫الم�شاعر ‪ ،‬التي �أطلقت دموعي ح�سرة وحز ًنا عليهم ‪ ..‬حين قر أ�ت عنهم‬ ‫كلمات مكتوبة ‪�( .‬أي �سر تملكه تلك (الكتابة) لتدمر هنائي ‪ ،‬وت�سلبني‬ ‫براءتي ‪� ..‬أي �سر ‪ ..‬؟!)‬ ‫‪ -‬منك لله يا ابن عبد ربه !!‬ ‫•••‬ ‫‪281‬‬

‫كنت أ�تعاي�ش مع كل ذلك في غمرة ن�شوة ال�صبا ‪ ..‬ولا �أح�س تناق ً�ضا‬ ‫بين حياة بيتنا (البندري) الذي ي�شع بيا�ضه في الحارة ‪ ،‬المبلط ا ألر�ض ‪ ،‬ذو‬ ‫ال�سلالم البلاط ‪ ،‬والحمامات ذات الموا�سير ‪ ..‬والراديو �أبو بطارية �سايلة ‪،‬‬ ‫والإيريال العالي المزدوج ‪ ،‬والفراندة الملونة الزجاج واحدة بحرية و�أخرى‬ ‫قبلية على ال�شارع ‪ ،‬تمرح الن�سمة الطرية في ال�صيف بينهما لتجعل من‬ ‫ال�صالة العلوية في الدور الثاني م�صي ًفا ومتعة ‪ ..‬تت�صدرها (�أم �سمير) وهي‬ ‫تقور كو�سة المح�شي �أو تلف ورق العنب �أو تنظف ا أل�سماك �أو تنقي‬ ‫العد�س وا ألرز ‪ ..‬في دعة واطمئنان لتجهز الطقات الثلاث في مواعيدها‬ ‫‪ .‬وتجعل منها طقو�ًسا ي�شارك فيها الجميع بلا �أي �أعذار لمن يك�سر النظام ‪..‬‬ ‫�أو تتبادل الأحاديث وا ألخبار مع (خلت خ�ضرة) التي تقعي على البلاط‬ ‫البارد م�ستمتعة بملم�سه ‪ ،‬و أ�مي تطوي وترتب غياراتنا المغ�سولة والمزهرة‬ ‫التي كانت منذ قليل ترفرف كالأعلام فوق ال�سطح على حبال غ�سيل مثبتة‬ ‫في م�سامير و�أعمدة ‪ .‬لترتب ملاب�س كل منا في غيارات معلومة ‪ ،‬لتو�ضع‬ ‫في تراتيب من�سقة في الدولاب ‪ ..‬لتخرج في موعدها ‪ ..‬حمام كل �أ�سبوع‬ ‫بالماء ال�ساخن في ال�صيف ‪ ..‬وكل �أ�سبوعين في ال�شتاء للجميع بلا ا�ستثناء‬ ‫مهما كان �شح المياه في ال�سدة ال�شتوية ‪.‬‬ ‫العجيب أ�نه لم يكن يده�شني ذلك التناق�ض بين هذه ال�صورة التي‬ ‫ت أ��سرني كل م�ساء في مواعيد الطعام المنتظمة ‪ ..‬وبين تلك الحياة التي‬ ‫تخطفني طوال اليوم ولا أ��ستطيع �أن �أخل�ص نف�سي منها لتلبية نداءات‬ ‫البيت الجبرية ومواعيده المن�ضبطة إ�لا ب�صعوبة بالغة ‪..‬‬ ‫لكنني حين قر أ�ت (المعذبون في ا ألر�ض) فقدت براءتي ‪ ..‬وحط‬ ‫‪280‬‬

‫فى نترة واحدة ‪ ..‬وانطلق بنا حماره رك�ضا إ�لى مكنة الطحين التى كان‬ ‫ل�صوتها المتقطع الحاد ذى الايقاع المتواتر رنينا خا�صا لم أ��سمعه فى أ�ية بقعة‬ ‫�آخرى من بقاع ا ألر�ض ‪ .‬ومازال يرن فى �أذنى حتى الأن كلما فا�ضت‬ ‫روحي �شوقا لذكريات �صبا وطفولة (ميت �سل�سيل) ‪..‬‬ ‫وب�سببه مازلت حتى الآن �أحفظ ف�ضلك يا�صديقى فى �إ�شتعال جذوة‬ ‫�شغفي (بال�شعر الأكرت والعيون التى �سرقها الحزن من البر�سيم) والنم�ش‬ ‫الذى جذبنى إ�لى وجه (مديحه) من بين وجوه البنات ال ألتى يتزاحمن‬ ‫لجمع (الرجيع) الناتج عن هر�س غلاف الأرز ال�شعير خلف ماكينة تبيي�ض‬ ‫الأرز ‪..‬‬ ‫بنات فقيرات من عائلات الكدح والتراحيل (المعذبون فى الأر�ض)‬ ‫‪.‬ي�ؤجرن لكل الأعمال الطارئة من حمل مون البناء إ�لى جمع الدودة أ�و‬ ‫ملء �أزيار الماء للبيوتات الم�ستورة أ�و جمع القطن أ�و تنقية الغلت والبخر‬ ‫و الحندقوق من غيطان الأرز أ�و القمح ‪ ..‬وكن حين لا يجدن ذلك لقاء‬ ‫قرو�ش قليلة ‪,‬يقمن ب�أعمال خا�صة متنوعة لح�ساب من يطلبهن لقاء ن�سبته‬ ‫من الناتج ايا كان ‪ ,‬فيقمن بجمع الجلة الحية ‪ ،‬بمتابعة البهائم لدى عودتها‬ ‫من الحقول حيث تكون قد ه�ضمت طعام اليوم كله ‪ ..‬أ�و بجمع (الرجيع)‬ ‫ه ْر�س ق�شر الأرز ‪ ،‬ح�سب طلب �أ�صحابه لقاء ن�سبة عينية منه لبيوتهن �أو‬ ‫لح�ساب �صاحب الماكينة نف�سه ‪ .‬وكان (ال�سيد البديوى) يجل�س فى ك�شك‬ ‫�صغير م�صنوع من نف�س ال�صاج الرمادى الم�صنوعة منه جدران مبنى‬ ‫الماكينة التى ت�ضم عنبرين ‪� ،‬أحدهما لطحن القمح وهو الاكبر والآخر‬ ‫لتبي�ض الأرز ‪ .‬تزدحم فيه الفتيات يعر�ضن �أنف�سهن على �صاحبات الأرز‬ ‫المق�شور (المب ّي�ض) أ�و على كاتب الماكينة وابن �صاحبها (ال�سيد) ليختار‬ ‫المحظوظة التي تقوم بالعمل لح�سابه ‪.‬‬ ‫‪283‬‬

‫لا تق�ص�ص ر�ؤياك‬ ‫‪ ‬حين �سمعت �صوت (خالت حميدة �أم‬ ‫ق�شلان) تنادي ابنها (فتحي) على طريقتها ‪ -‬يا للا‬ ‫ياواد يا فتحى �أتفتحت في را�سك طاقة !!‬ ‫أ��سرعت انزل ال�سلم قف ًزا �إلى �أول ال�شارع‬ ‫حيث بيت (ا أل�ش ّنة) (جمع ق�شلان) ‪ ..‬فقد وعدني‬ ‫�صديقي (فتحي) أ�ن ي�صحبني إ�لى مكنة (البداوية)‬ ‫لنح�ضر الطحين و أ�ن يعطيني فر�صة ركوب (حماره‬ ‫الح�صان) ‪ ،‬نعم كان حما ًرا كالح�صان ف�أذنيه �أق�صر‬ ‫من الحمار العادي ‪ ..‬وذيله أ�غزر �شع ًرا وج�سمه‬ ‫�ضخم عال ب�شكل غير طبيعي ‪ ..‬ولم يكن ي�شكمة‬ ‫وي�سيطر على جموحة إ�لا قلة على ر�أ�سهم (فتحي‬ ‫الق�شلان) ‪..‬‬ ‫ر�أيته يركب (الحمار الح�صان) ولما لمحني قادما‬ ‫�إليه مد ذراعه القوي تعلقت به ورفعت نف�سى خلفه‬ ‫‪282‬‬

‫وراءه داخل الوابور مجاملة له فقط ‪ ..‬بل كانت مجاملة لي بالدرجة الأولى يا‬ ‫�صديقى مثلما كانت مجاملة لك ‪.‬‬ ‫فقد كانت حبيبته (هانم) بنت ال�صايغ جارتنا لزم ‪ ,‬ت�سكن فى‬ ‫مواجهة منزلنا ‪ ،‬وبما أ�نه ي أ�تي لزيارتها كثيرا وفي أ�وقات ملفتة للنظر ومثيرة‬ ‫ألقاويل ولغط كان لا يهتم لهما كثيرا ‪ .‬كان يهتم أ�كثر �أن يجدنى مبت�س ًما‬ ‫له كلما �صادفته داخلا أ�و مغاد ًرا في تحد ألخويها المتخا�صمين المقيمين‬ ‫بنف�س البيت ‪ ،‬مما عقد بيننا �صداقة رغم فارق ال�سن ‪ .‬لذا لا ت ؤ�اخذني‬ ‫يا �صديقي – فانا �أعرف �أنه �صديق لك قبلي و أ�كثر مني ألنكما بحبل‬ ‫الغرام مو�صولان هو يحب جارتنا وانت تحب �صديقتها إ�بنة (الع�صفوري)‬ ‫وكثيرا ما اجتمعنا على ر�أ�س حارتنا �أمام بيتكم �أو أ�مام بيتنا لتتمكن من‬ ‫ر ؤ�ية حبيبتك ‪ .‬حين ت أ�تى م�ستترة خل�سة لزيارة �صديقتها فى غب�شة الم�ساء ‪.‬‬ ‫المهم �أنه – مجاملة لك �أولى أ�جل�سنى على دكة �سلطته حتى تنتهى من‬ ‫عملك ‪ .‬بل وتركنى أ�مار�س بع�ض مهامه ف أ�زن وزنة بين الحين والحين �أن‬ ‫�أراد القيام لبع�ض �ش�أنه أ�و ليظهر مزيدا من إ�عزازه لي ‪ .‬بجعلى ا�شاركه بع�ض‬ ‫�سلطته المطلقة !‬ ‫وفي �إحدى هذه المرات ن�شب �صراع ‪ .‬وقامت خناقة بين الفتيات‬ ‫جامعات (الرجيع) كادت ت�صل إ�لى حد الت�شابك ‪ .‬وا�ضطررت لممار�سة‬ ‫�سلطته فى التدخل �صارخا فيهن ‪ ،‬من حيث �أنا وراء ال�شباك مهددا بطردهن‬ ‫جميعا ‪ ،‬ولده�شتى �إمتثلن ل�صرختي اله�شة و�صوتي الغر وتراجعن ‪ .‬أ�خذتني‬ ‫جلالة الموقف حين هد أ�ن ب�شكل لم أ�توقعه ‪ .‬ناديت عليهن أل�س أ�لهن عن‬ ‫�سبب النزاع ‪ .‬ولما ح�ضرن �أمامي متزاحمات م�ست�ضعفات ي�سترحمنني‬ ‫‪ ..‬كدت افقد �سطوتى ‪ .‬ألننى ر�أيتها ألول مرة (تلك العيون التى �سرقها‬ ‫‪285‬‬

‫يتقاتلن في �صخب طول الوقت م�ستجديات �أن يكلفن بالعمل ‪.‬‬ ‫يحدثن �ضجي ًجا و�صخ ًبا يعلو على �صوت الماكينة نف�سه‪ .‬بينما يجل�س‬ ‫(ال�سيد) �أمام �شباك فى واجهة الك�شك تخرج من �أ�سفله طبلية الميزان ‪،‬‬ ‫الذى تو�ضع عليه قفف �أو زكائب الأرز ‪ ،‬بينما يجل�س هو مزهوا بنف�سه‬ ‫متحكما ومراقبا كل ما يجري �أمام الك�شك والماكينة من ال�شباك الذى يقع‬ ‫وراءه مبا�شرة �صدر الميزان حيث الذراع ذى الرمانة ‪ .‬يراقب حدود مملكته‬ ‫من الخارج �سواء خارج المبنى �أو حو�ش ماكينة تبي�ض الأرز من خلال‬ ‫الباب الكبير الوا�سع الذى يكاد ي�شكل ن�صف الواجهة ‪.‬‬ ‫ربط فتحي (حماره الح�صان) فى ال�شجرة الوحيدة التى تقع أ�مام‬ ‫الماكينة ‪ ،‬على �شاطئ القناة ال�صغيرة التى يندفع فيها الماء ال�ساخن من الماكينة‬ ‫بعد قيامة بتبريدها �إلى م�سرف (البوالي�ص) والتى ت�سببت �سخونتها فى تقزيم‬ ‫ال�شجرة العجوز ف أ��صبحت ذات منظر فريد لات�شبهها فيه �شجرة �أخرى ‪..‬‬ ‫�سمح لى (ال�سيد) بالجلو�س الى جواره على دكة �سلطته المطلقة ‪ ،‬وراء‬ ‫ال�شباك المطل على بانوراما الم�شهد ‪ .‬وهو مكان لاي�سمح بجلو�س أ�حد‬ ‫فيه أ�ثناء ذروة العمل إ�لا لمن يع َزه ‪ .‬حيث تتوافد أ�مامه �ستات وبنات البلد‬ ‫الم�ستورات اللائى يحجبن فى البيوت انتظاراً للزواج ‪,‬لكن يذهبن لبيا�ض‬ ‫الارز أ�و لطحن القمح لل�ضرورة ‪ .‬وغال ًبا لفر�صة �شم الهواء الحر خارج‬ ‫البيوت ‪ ،‬والأمر لا ي�سلم إ�ذ تنك�شف الوجوه وا ألذرع بل وبع�ض ال�سيقان‬ ‫اثناء المهابرة والتزاحم على �أولوية الدور ‪ ،‬لوزن حمول الأرز �أو القمح‬ ‫وو�ضعه على الميزان �أو رفعها عنه ثم دفع ا ألجر �أو الم�ساومة عليه ‪ .‬وما فى‬ ‫ذلك من مجاملة أ�و دلع وجبر خواطر !‬ ‫وكانت دعوة (ال�سيد) لي أ�ن أ�جل�س إ�لى جواره حتى ينهي (فتحي) ما‬ ‫‪284‬‬

‫مبت�سمة قبل �أن تدخل الماكينة ‪ .‬إ�بت�سامة �أ�شرق معها وجهها نظيفا لا �أثر‬ ‫عليه لغبار الرجيع �أولانك�سار الفقر ‪.‬‬ ‫كان (ال�سيد) �إلى جوارى خلف النافذة ي�ضحك من القلب وينادى‪:‬‬ ‫‪ -‬تعالى يا (فتحى) �شوف �صاحبك واللى جرى له ‪..‬‬ ‫ولاح (فتحى) فى باب وابور الطحين وهو ينف�ض ملاب�سه من غبار‬ ‫الدقيق ‪:‬‬ ‫‪ -‬ما له ؟ كفى الله ال�شر ‪ ..‬قدامى ل�سه �شويه يا أ��ستاذ (�سمير) وح‬ ‫نروح على طول ‪.‬‬ ‫قاطعته حتى لا �أ�صبح محور حديثهما ‪ ،‬فيف�سدان عل َى الحالة التى‬ ‫قررت �أن �أخو�ضها محتفظا لها بخ�صو�صيتها ‪ .‬فلا ت�صبح حدثا يف�ضح‬ ‫قد�سيته ا أل�صدقاء ويتم�سخرون عليه مثلما حدث (لخطاب بنت الهوارى)‬ ‫المزعوم الذى د�سه البع�ض ع ّلى والذى أ�كت�شفه معى فى الف�صل ا أل�ستاذ‬ ‫(الن�شار) ‪ ..‬في ا أل�سبوع الما�ضى ‪ ..‬وكانت مرارته فى حلقى مازالت‬ ‫حادة حتى غ�سلها ع�سل عيون (مديحة) البر�سيمى ‪..‬‬ ‫لم أ�تعمد أ�ن تتقم�صنى �شخ�صية (دارتنيان) ولكننى قررت أ�ن �أ�ضع‬ ‫(مديحة) تحت حمايتى !‬ ‫(كنت قد �شاهدت فيلم (الفر�سان الثلاثة ) منذ عدة �أ�سابيع حيث‬ ‫كانت �سينما (المنزله) قد افتتحت بفيلم (فتاه من فل�سطين) وك�أنه جاء‬ ‫�إحتفالا بعودة جي�شنا المحا�صر (المنت�صر) �إبان النكبة ‪ .‬فتقم�صتنى روح‬ ‫الطيار ‪ .‬الذى �أحبته الفل�سطينية وقررت �أن �أكون طيارا ثم تلاه (فيلم‬ ‫المجنونة) فغيرت طموح تخ�ص�صى ألكون دكتورا ‪� ..‬إن�شاء الله ‪ ..‬وظللت‬ ‫�أغير مهنتى أ��سبوعا بعد أ��سبوع ح�سبما يكون بطل الفيلم الذى عادة مايقع‬ ‫‪287‬‬

‫الحزن من البر�سيم وذلك ال�شعر الأكرت ‪ )..‬فتلعثمت كثيرا �إذ خطفت‬ ‫قلبي ك�أنما أ�نتزعته مني !! وعجزت عن ا أل�ستمرار فى دور القا�ضى ‪..‬‬ ‫ولولا و�صول (ال�سيد) وتوليه أ�مر النزاع لأغ�شى على ‪ ،‬ب�سبب حرجى من‬ ‫الخر�س الذى لجمن ّي ‪.‬‬ ‫وك�أنما �ضرب �ساحة ماكنية الطحين (نيزك) �شارد �أو زلزلت ا ألر�ض‬ ‫زلزالها ألنه �ساد �سكون تام ‪ ..‬واختفت كل مخلوقات ا ألر�ض و أ�ثقالها فيما‬ ‫عدا ابت�سامتها الم�شرقة التى لم يخفها الغبار و�ضفيرتيها الخ�شنتين و�سكت‬ ‫العالم حولى و�إلى �إن �سمعت �صوت (ال�سيد البدوى) ي�صرخ ف ّي ‪:‬‬ ‫‪ -‬مالك يا ابو�سمره ‪ ..‬هوه �سرحت فى �إيه ؟ مالك؟‬ ‫ثم عرفت �إ�سمها لما �سمعته ينهرها فى ق�سوة‬ ‫‪ -‬إ�يه يابت (يا مديحة) �إيه يا بنت (�أم نمر) عملتي �إيه يابت ز َعل‬ ‫الأ�ستاذ ؟‪ ...‬هم�ست بلا �صوت ‪( .‬ز َعلتنى ازاي يا (�سيد)؟‪ .‬قول �سحرتنى‬ ‫�شلتني ‪..‬؟) ‪..‬‬ ‫كانت عيناها الزمردتين ت�شعان من تحت رمو�ش غطاها رجيع‬ ‫ا ألرز ‪ .‬وتبرقان فوق خديها الورديين المنم�شين المتربين ‪ ,‬وكان �شعرها‬ ‫الأكرت الذى يطل نافرا في �ضفرتين زعرورتين من تحت منديلها ا ألوية‬ ‫ا ألجرب الم ّغ رّب ‪ ..‬يج�سدان لي حلما �أخذ بلبى ‪ ،‬و�أ�سرنى منذ تعلقت ببنت‬ ‫(الهوارى) والتي تج�سدت لى (مديحة) نموذ ًجا نظي ًفا لها ‪� .‬إ�ستبدل خبالى‬ ‫جلبابها الناحل الكالح الفقير بملاب�س مدر�سية نظيفة ‪..‬‬ ‫هزني (ال�سيد) ف أ�يقظ �سباتى وانتبهت أ�ن قلبى يكاد ينح�شر فى‬ ‫حلقومى ‪ ..‬و�شاهدت البنات يتفرقن ويعدن إ�لى العمل �إلا هي ‪ ..‬و�سمعت‬ ‫قلبي يعود من �إختناقته ويدق على طبلتي �أذني ‪ ..‬عندما ر أ�يتها تلتفت لي‬ ‫‪286‬‬

‫فت�سللت متظاهرة �أنها تريد �أن تعرف ما أ�ريد ‪..‬‬ ‫كان �صوت ا آللات عاليا وله هدير ‪ ..‬لكنها بعد ألى التقطت ما �أود‬ ‫قوله ب�صعوبة ‪� ..‬أن تلحق بى عند �سور الم�ست�شفى القريب حيث �س�أ�سبقها‬ ‫�إلى هناك راكبا الحمار ‪.‬‬ ‫وعدت ب�سرعة و أ�نا �أ�سابق دقات قلبي المنفعل فقد كنت كمن �صعد‬ ‫جبل (الجيو�شى) عدوا ‪..‬‬ ‫لمحني (فتحى) �أحاول ركوب (الحمار الح�صان) فترك مابيده وجاء‬ ‫ب�سرعة و�ساعدنى على امتطائه وكانت المرة ا ألولى التى �أمتطيه وحدي ‪.‬‬ ‫وناولنى مقوده وقال فى �سماحة ‪:‬‬ ‫‪ -‬ماتروح�ش بعيد �أنا قربت �أخل�َص ‪.‬‬ ‫قلت له بلا مبالاة ‪:‬‬ ‫‪� -‬أنا ح ا�ضرب بلطة ع الزراعية وارجع حالا ‪..‬‬ ‫�إبت�سم (فتحى) فى ثقة و�ضرب (الحمار الح�صان) على م ؤ�خرته‬ ‫ف أ�ندفع بى فج�أة كح�صان ‪ ،‬حتى كدت أ�فقد توازنى و�أف�شل فى أ�ول محاولة‬ ‫لتقم�ص روح الفر�سان ‪..‬‬ ‫عبرت �شريط ال�سكة الحديد بعد �أن تعمدت المرور أ�مام باب ماكينة‬ ‫الفرك حيث الفتيات أل�أكد (لمديحة) ما طلبته منها �إذ كنت أ��شك أ�نها‬ ‫إ��ستوعبت طلبى �أو وافقت عليه ب�سبب هدير الآلات المرتفع ‪..‬‬ ‫لكني عدت منت�شيا بحالة الفرو�سية التى تقم�صتنى ب�سبب طاعة‬ ‫(الحمار الح�صان) لتوجيهاتى على غير عادته مع ا ألغراب‪ ،‬و أ�قنعت نف�سى‬ ‫�أنها واحدة من �أمارات الحب تح�سها الحيوانات والطيور القريبة من المحبين‬ ‫اذ ت�سرى اليهم كالكهرباء ‪..‬‬ ‫م�ضيت قليلا على الزراعية ‪ ،‬وكان القمر طفلا ير�سل ظلالا أ�كثر‬ ‫‪289‬‬

‫فى الغرام وتحيط به الم�شاكل والد�سائ�س لينت�صر فى النهاية ويفوز بمع�شوقته‬ ‫رغما عن أ�نف الجميع �أو بمباركتهم و�سط فرحة وبهجة و�سعادة ‪.‬‬ ‫وكان (دارتينان) رابع الفر�سان الثلاثة و�أظرفهم قد التقى وهو الريفى‬ ‫بخياطة الملكة التى ت�سكن فى بيت متوا�ضع فى أ�حد حوارى (باري�س)‬ ‫الفقيرة ‪ ..‬فقرر �أن ي�ضعها تحت حمايته و�أن ي�صد عنها عدوان وم�ؤامرات‬ ‫الحر�س ال�شرير ‪)..‬‬ ‫أ�خذت أ�حوم حول وابور الطحين و أ�نا أ�فكر فى طريقة للحديث‬ ‫معها بعيدا عن الأنظار‪ .‬ظن (فتحى) عندما ر آ�نى �أمر من جانبه إ�لى حيث‬ ‫موتور الماكينة أ�ننى �أ�ستعجله ‪:‬‬ ‫‪ -‬ن�ص �ساعة بالكتير يا �سمير وح نروح ‪..‬‬ ‫�ضحكت وقلت له �أطمئنه‬ ‫‪ -‬ما ت�شغل�ش بالك ‪ ،‬خد راحتك ‪ ،‬أ�نا ب�س باتفرج ‪.‬‬ ‫ودخلت الجزء الخلفى حيث (الموتور) الذى تخرج منه ال�سيور ‪ ،‬التى‬ ‫تدير ماكينة طحن القمح والتى تدير ماكينة فرك (تبيي�ض) ا ألرز وكنت‬ ‫�أعرف المكان جيدا فقد �إرتدته كثيرا عندما كنت يوميا �أدخله ل�شحن‬ ‫بطارية الراديو ‪ .‬كانت الفتحة الم�ؤدية لماكينة الطحن كافية لمرورى عبر‬ ‫الجدار ‪ .‬ولكن التى تمر بها �سيور ماكينة الفرك لم تكن كافية ألعبرها �إلى‬ ‫حديث الفتيات ‪ .‬فوقفت و�سط �ضجيج ا آللات محاولا لفت �أنظارها ‪..‬‬ ‫ولما ر�أتني (مديحة) �شهقت خو ًفا من أ�ن أ�عبر بجوار ال�سيور ‪ .‬وانتهزتها‬ ‫فر�صة ف�أ�شرت �إليها �أن تقترب ‪ .‬لكنها خافت فالإقتراب من ال�سيور خلال‬ ‫عملها العنيف خطر وله كثير من ال�ضحايا ‪...‬‬ ‫�أ�شارت لي أ�ن �أبتعد و أ�عود ولكنى لاعبتها بالتهديد أ�ن �أقترب �أنا ‪..‬‬ ‫‪288‬‬

‫ولا كيف أ�خاطبها ولكن �صوت (نهجانها) �شجعنى لأخفي (لهاثي)‬ ‫ف�أنحنيت عليها واختطفت ب�شفتى �شفتيها البكر و�أذوب فى ع�سل �أول‬ ‫قبلة تلهبها م�شاعر حقيقية ملمو�سة ‪ .‬وهمت في رعدة غامرة لم �أعرفها‬ ‫من قبل ‪ .‬لا في �أوهام غيبوبتى مع (زهزهان) ولا فى أ�حلام يقظني مع‬ ‫(نرج�س) ‪.‬‬ ‫كانت قبلة �أبدية كونية لم يفارقنى طعمها الخ�شن المغبر فى يوم من‬ ‫ا أليام ‪.‬‬ ‫•••‬ ‫‪291‬‬

‫مما ير�سل �ضوءا ‪ ..‬ولكننى �أح�س�سته بدرا و أ�درت ر�أ�س (الحمار الح�صان)‬ ‫وعدت مت�سللا بجوار �سور الم�ست�شفى الذى يغطيه اليا�سمين الزفر الذى‬ ‫بدا لى �سياجا مزهرا ك�أ�سوار ق�صور (باري�س) ‪ ..‬و�أخفيت معظم ج�ْسمينا‬ ‫تحت غ�صون اليا�سمين المن�سدلة �إلى منت�صف الم�سافة إ�لى الأر�ض ووقفت‬ ‫�أحملق في الم�ساحة الممتدة أ�مامى حتى ا�ضواء وابور الطحين ‪.‬‬ ‫كان الليل قد تقدم بما يكفى كى تنقطع الرجل على الزراعية في‬ ‫الم�سافة الطويلة تلك التي تف�صل بين قهوة ( أ�بو را�شد) وج�سم القرية‬ ‫الرئي�سى ‪ .‬وبين وابور الطحين والم�ست�شفى حيث ترعة ال�سلطان ‪..‬‬ ‫لم يكن هناك �سوى ب�ضع رجال على الجانب الآخر بعيدا حيث‬ ‫(عزبة الغجر) من عمال التراحيل ‪ ،‬ي�صل إ�لى أ�حيانا طرف من حديثهم‬ ‫حول عمل الغد و�صوت خلافاتهم على ا ألجور ‪.‬‬ ‫لمحتها بعد �أن �أرهقنى الانتظار فارتع�ش كيانى وارتع�ش الحمار‬ ‫تحتي ي�شاركنى فرحتي ‪ ،‬و أ�نا أ�تابعها تت�سلل محتمية بظلال الظلام مهتدية‬ ‫بظلال �ضوء الهلال الوليد حتى عبرت الزراعية وهى تتلفت وت�سرع حتى‬ ‫احت�ضنت رقبة (الحمار الح�صان) منفعلة وك أ�نها تريد ال�شعور با ألمان ‪ ..‬لم‬ ‫تكن هى ‪ ,‬بل كانت طيفا نورانيا لا يف�سد جماله غبار رجيع الأرز المختلط‬ ‫بعرق ال�شقاء طوال اليوم بل يزيده بهاء ‪.‬‬ ‫قاومت رغبتى فى النزول ألتلقاها بدلا من رقبة (فر�سي) ‪ ،‬حتى لا‬ ‫يظهر عجزي عن امتطائه مرة أ�خرى ‪ ..‬ولكننى مددت يدى الحرة ‪..‬‬ ‫ومل�ست على �شعرها و�أل�صقتها ب�ساقى ‪ ..‬قالت ‪:‬‬ ‫‪ -‬عايز �إيه يا�سى �سمير مني ‪..‬‬ ‫عجزت عن الرد ‪ ..‬فقد كنت فى الحقيقة ال أ�عرف ما أ�ريده منها‬ ‫‪290‬‬

‫ف�أكت�شف �أننى حملتها فى نافوخى بكل ما ي�صطرع فيها من �ضجيج‬ ‫وزحام وب�شر ي�ستيقظون كلما حاولت النوم لأ�ستجمع قواى كى اتمكن‬ ‫من ممار�سة هوايتي و�أم�سك بالقلم ‪ ..‬ف�أهرب من الكتابة و�أخترع لنف�سي‬ ‫�ألف حجة �أ�ضيفها لما لد َّي من الحجج الجاهزة ‪� ،‬إذ تنتظرني هنا أ�لف مهمة‬ ‫ومهمة م ؤ�جلة ‪ ،‬مثل دق م�سمار لتعليق فوطة في المطبخ حتى لا �أ�ضطر‬ ‫كلما ابتلت يدي �أن أ�جففها في جلبابي وي�ضطرني منظره �إلى �إعادة غ�سله‬ ‫‪� ،‬أو عزق طرف الجنينة و إ�عادة غر�س ال�شجيرات التي ف�شلت في اختراق‬ ‫ا ألر�ض فظلت قزمية قزعة ‪ ،‬وتوقفت عن النمو ‪ ،‬و�إن �أ�صرت على تم�سكها‬ ‫بالحياة ورف�ضها الموت ‪ ..‬م�ؤيدة قرار الكف عن الا�ستمرار في كتابة ذلك‬ ‫الم�سل�سل الفكاهي ‪ -‬الذي كانت قد اتفقت معي على كتابته تلك المحطة‬ ‫(ل إلر�سال المبكر) التي عر�ضت يومها �أج ًرا خراف ًّيا دمر كل مقاومة أ�و‬ ‫رف�ض ي�ستند �إلى ر أ�يي في تلك المحطات ومن يكتبون لها ومن يمولونها ‪-‬‬ ‫ليبدو لي �أنه �أعظم قرار يمكن به علاج حالتي ‪..‬‬ ‫فما حاجة النا�س إ�لى هراء جديد ي�ضاف إ�لى ع�شرات التفاهات التي‬ ‫تقي�أتها المطابع ولا تجد من يقر�أها ‪� ،‬أو التي تزحم ال�شا�شات لتوقف الزمن‬ ‫وتطم�س الملامح ا إلن�سانية في وجوه وعقول النا�س ‪ ..‬ما حاجتهم إ�لى‬ ‫الفكاهة الم�ؤلفة ‪ ،‬والم�سخرة تحيط بهم وتحا�صرهم من كل جانب في‬ ‫مهزلة لا م�ؤلف لها ‪ ..‬تلعب ا ألدوار الرئي�سية فيها ( أ�ولبرايت) و(مبارك)‬ ‫و(البعث ال�سوري) و(ا ألمم المتحدة) و(القذافي) و(الطالبان) و(عرفات)‬ ‫ومع ذلك يديرون لها ظهروهم ويف�ضلون الفرجة على حركات (زينات‬ ‫�صدقي وعبد ال�سلام النابل�سي) ‪..‬‬ ‫لم يعد م�ضح ًكا أ�ن يجل�س الوفدان (ا إل�سرائيلي والفل�سطيني)‬ ‫كالأطفال الم�شاغبين في انتظار (الأل َفة) الذي خرج من ال�صف كي يق�ضي‬ ‫‪293‬‬

‫قـدرنـاه تقـدي ًرا‪...‬‬ ‫‪� ‬صار نومي متقط ًعا ‪ ،‬لكن العالم كله‬ ‫ظل حا�ض ًرا و�صاحيا في دماغي ‪ ..‬ترحل بي �أهوائي‬ ‫فيه عبر الم�سافات والأزمان ‪ .‬و�سط �ضجيج هائل‬ ‫من الرغي واللت والزمامير وال�صيحات والذقون‬ ‫(ال َلحى) والجثث والب�ضائع والكتب و�شخ�صيات‬ ‫الكتب ‪ ..‬أ�ح�س مرور الزمن ثقيل ًا و�أنا مغم�ض‬ ‫العينين ‪ .‬يخيل �إل َّي �أن �ساعات طوال قد م�ضت و أ�نا‬ ‫أ�ظن �أني نائم ‪� .‬أت�صور هذا ب�سبب التعب والجوع‬ ‫�إلى النوم ‪ ..‬أ�فتح عيني ب�صعوبة بالغة و�أبذل جه ًدا‬ ‫خار ًقا للتحديق في ال�ساعة ‪ ..‬ف أ�كت�شف �أن الدهر‬ ‫الذي م َّر عل َّي منذ لقحت ج�سدي على ال�سرير‬ ‫لي�س �سوى ربع �أو ن�صف �ساعة‪ ..‬ما هذا ؟ ما‬ ‫الذي يحدث لي ؟ كلما جئت إ�لى هذا المكان النائى‬ ‫الذى يبعد �إكثر من ‪ 300‬كم عن �ضجة العا�صمة‬ ‫‪292‬‬

‫إ�ذا ما �صورت لهم عم ( ُبرق) مثل ًا وهو عريان ملط وقد انكم�ش �أيره‬ ‫ال�ضخم (الذي �أف�سد عليه حياته) من الرعب وهو م�ضروب وم�سلوخ‬ ‫متد�شد�ش تحت �شوم (ح�سن منير وعبد اللطيف ر�شدي) يجري فينكفئ‬ ‫على وجهه ويقوم متعث ًرا حامل ًا (نمرته) نحو باب (�أبو زعبل) المفتوح‬ ‫الدامي و�سط �صفين من الع�ساكر الجلاوذة يطحنون عظمه ‪ ..‬وحين يرفع‬ ‫ر�أ�سه في�شاهد دخان المازوت الذي تنفثه مدخنة المطبخ ‪ ،‬ي�صرخ في هي�ستريا‬ ‫راف ًعا إ��صبعيه ال�سبابتين ‪( ..‬لا إ�له �إلا الله محمد ر�سول الله) ينطق بال�شهادتين‬ ‫قبل أ�ن تلتهمه نار الفرن الم�شتعل والمجهز طب ًعا لالتهام �أج�ساد الم�ضروبين‬ ‫من دكاترة ومهند�سين وفنانين و�صحفيين و�أدباء وبرولوتارية ‪ ،‬و لومبين‬ ‫م�صريين من (المن�صورة) و(طنطا) و(�أخميم) ‪ .‬ماذا لو �س�ألوك عن معنى‬ ‫( ُب ّرق) أ�و معنى كلمة (جلاوذة) أ�و ما هو ( أ�بو زعبل) ‪ .‬لن ي�صبروا حتى‬ ‫ت�شرح لهم العلاقة بين دخان المازوت ا أل�سود في (�أبو زعبل) ‪ ..‬و�أج�ساد‬ ‫ال�ضحايا في �أفران الغاز النازية في (بوخنوالد) ‪..‬‬ ‫ماذا �سيعني كل ذلك لهم ‪� ..‬سوف يهزون أ�كتافهم وتقول �أقربهم‬ ‫�إليك‪( ..‬يا عم كبر را�سك‪ ..‬هات م الآخر‪ ..‬يعني �إيه (ب ّرق) نطق‬ ‫و�ستقلب‬ ‫ال�شريط)‪..‬‬ ‫إ�قلب‬ ‫راجل يعني ؟!‬ ‫بال�شهادتين‪ .‬هو (ب ّرق) ده‬ ‫في الأ�صل ‪)1(..‬‬ ‫ال�شريط ‪ ..‬الذي هو مقلوب‬ ‫با ألم�س ذهبت لتنام بعد مكالمة ‪� -‬سخيفة ‪ -‬مع ابنتك الوحيدة ‪،‬‬ ‫عكنن كل واحد منكما على ا آلخر رغم الثلاثمائة كيلو متر التي تف�صل‬ ‫(�سيدي عبد الرحمن) عن (القاهرة) ‪ ..‬وذلك ب�سبب (مي�شكا) ‪..‬‬ ‫�س�ألتك عن (مي�شكا) و�صحته ‪ ..‬ف�أغ�ضبك هذا ألنها لم ت�س�أل عن‬ ‫�صحتك �أنت بنف�س الاهتمام ‪.‬‬ ‫(‪ )1‬أرجو من القارئ اللبيب إن كان يهمه الأمر أن يراجع (الفذلكة) التي تتصدر‬ ‫روايتي (ولا هم يحزنون) التي لها صلة عضوية بهذه الرواية!!‬ ‫‪295‬‬

‫حاجة وتركهم لائ�صين لا يجر ؤ�ون على الت�صريح ب�شيء لل�صحفيين حتى‬ ‫يعود ‪ -‬بعد �أن يبلغوه بكل تفا�صيل ما قيل في غيابه ‪ -‬ليختلي بـ(عرفات)‬ ‫لي�شد �أذنه كي يفهم ويجعل في وجهه حبة دم ويرى كيف �ألغت ( إ��سرائيل)‬ ‫�صفقة الإنذار المبكر مع (ال�صين) دون أ�ن تطلب من (�أمريكا) �شي ًئا ‪..‬‬ ‫فيعتذر له (عرفات) ب�ضعف ال�سمع والعجز عن الهرتلة ‪ ..‬ويذهب بنف�سه‬ ‫ليجل�س مع الوفد المناكف لأنه من ناحيته يوافق على �أي �شيء ير�ضى �أولاد‬ ‫العم ‪ ،‬ولكن عنده من ه ؤ�لاء من �سوف ي�أكلون و�شه عندما يتنازل �أو‬ ‫ي�ساوم ‪ .‬ويزايدون عليه ويف�ضحونه ف�ضيحة (المطاهر نهار دخلته) ويعلن‬ ‫المتحدث الر�سمي �أن البقية في الحلقة القادمة ‪.‬‬ ‫بماذا يجدي م�سل�سل كوميدى كئيب �آخر ‪ ..‬ومازال �سكان الحي‬ ‫الفقير يدفنون تحت الانهيار الطيني أ�و ال�صخري في كل مكان ‪ ..‬رغم‬ ‫تحذير ال�سلطات لهم أ�ن ينتقلوا إ�لى أ�حياء �أرقى ‪ ..‬لكنهم يف�ضلون الموت‬ ‫عنا ًدا (وع�ش ًقا) لع�ش�شهم ال�صفيح وبيوتهم الخي�ش التي لا تمنع �سقوفها‬ ‫الأمطار لأنها أ�كثر راحة طب ًعا ‪ !.‬لا يح�سون فيها بحرج الموت جو ًعا ‪..‬‬ ‫ولا النفوق عل ًنا رغم كل النفايات التي تبدعها ا ألقلام ‪ ..‬فلماذا تكتب‬ ‫نفاية �أخرى ‪ ..‬لن تزيد الأمر �سو ًءا في العالم �إن أ�نتجت ‪ -‬و إ�ن �أذيعت لو‬ ‫�أنتجت ‪ -‬و إ�ن �شوهدت لو �أذيعت ‪ ،‬لن ت�ضيف إ�لى الحياة إ�لا المزيد من‬ ‫الفجاجة وال�صفاقة وقلة الطهي !‬ ‫أ�نت نف�سك تح�س أ�نك لم تعد تجد ما تقوله ولا تعرف كيف تقول‬ ‫إ�ن فر�ض ووجدت �شي ًئا يقال ‪ ..‬وماذا �ستقول ‪ ..‬لأجيال تتحدث لغات‬ ‫أ�خرى ‪ ..‬ولا تدري عما تحكي عنه �شي ًئا ‪ ..‬فماذا – وحياة �أمك – يعني لهم‬ ‫(�شهدي) �أو (ف ؤ�اد حداد) �أو (ف ؤ�اد مر�سي) ‪ .‬ه�ؤلاء ال�شبان �سي�ضحكون‬ ‫‪294‬‬

‫مخلية ‪..‬بعد �أن �سلخت عنها البي�ض و البهار و الفيجيتار ‪� ..‬أكل قطعتين‬ ‫�سنتوفتين ثم نظر لى ك أ�نه ي�سبني و م�ضى فى كبرياء يفلق الحجر‬ ‫�أ�سرعت وراءه �أ�ستر�ضيه ألر�ضعه الدواء‪ ..‬فتزحلقت على البلاط‬ ‫وكادت تتكرر م أ��ساة وقوعي يوم الاحتفال بذكرى (�صلاح جاهين)‬ ‫في (المنيا)‪ ..‬حين تمزقت كل أ�ربطة و�شرايين و�شعيرات �ساقي الي�سري‬ ‫‪ ..‬وترتب على ذلك �شللي لمدة �شهر كامل‪� .‬شعرت بنف�س الخدر ال�شرير‬ ‫يجتاح �ساقي ‪ .‬و ُخ ِّيل إ�ل َّي أ�نني لن أ�قوم من �سقطتي ولي�س من �أحد ي�ساعدني‬ ‫‪ ..‬تح�س�ست �ساقي في قلق ورعب لكنها جت �سليمة ‪ ..‬و�ضعتها تحت‬ ‫الد�ش البارد ‪ ..‬ثم جربت الم�شي ‪ ،‬فم�شيت بلا �ألم ‪ ،‬حمدت الرب ‪.‬‬ ‫و�أخذت أ�نادي على القط و�أرجوه أ�ن يعود لي�شرب الدواء ‪ ..‬لكنه لم يعرني‬ ‫�أدنى اهتمام ولم يرد ‪� ..‬صعدت �إليه في الطابق الثاني ‪ ..‬كان نائ ًما فلم‬ ‫يعرني �أي اهتمام واكتفى بتحريك إ�حدى إ�ذنيه لتلقط أ�ي حركة غدر أ�قوم‬ ‫بها لإجباره على ال�شرب‪..‬‬ ‫نزلت ال�سلم كي �أح�ضر ال�سرنجة لأر�ضعه لب ًنا أ�و ماء مع نقط الدواء‬ ‫ف�أ�ساعد ح�ضرته على التبرز المريح ‪ .‬كنت قل ًقا عليه بعد بحث م�ضن في‬ ‫البيت كله ألرى �إن كان قد فعلها أ�م لا‪ ..‬بحثت تحت ال�سراير في الحجرة‬ ‫الكبيرة في البلكونة وال�صالة ا ألولى والثانية ‪� .‬صعدت إ�لى ال�سطح ‪ ،‬دققت‬ ‫في كل �شبر ‪ ..‬دخلت إ�لى الحمامات والمطبخ ‪ ..‬لم يكن هناك �أي �أثر لبراز‬ ‫في أ�ي مكان‪ ..‬فانقب�ض قلبي‪� ،‬ضاعفت نقط الملين‪ ..‬لكنه طب ًعا فهم �أنني‬ ‫�أ�ستعد لعمل �شيء ما لا يحبه‪ ..‬ف أ�ختفى‪ ..‬درت �أنادي عليه رفعت ملاءات‬ ‫ال�سراير‪ ..‬زحفت على ركبتي تحت الكنب‪� ..‬صعدت ال�سطح مرة أ�خرى‬ ‫نظرت تحت الخزان وبين �أ�شولة (ال�ّسفنج) ‪ ..‬ثم عدت أ�دور حول المنزل‬ ‫‪ ..‬فت�شت الحديقة ‪� ،‬شب ًرا �شب ًرا ‪ ،‬مناديًا عليه ذلك النداء الذي تعوده مني‬ ‫‪297‬‬

‫غرت من القط ؟‬ ‫كنت قد أ�خبرتها �أن (مي�شكا) بعافية ‪ ..‬و�أن النا�صور قد عاد‬ ‫للظهور‪ ..‬اكت�شفه ابن �أختك �صدفة ألنه كان مهت ًما بدرا�سة ت�صرفات‬ ‫(مي�شكا) معك وت�صرفاتك حياله ‪ ..‬و أ��سرار العلاقة الغربية التي ت ؤ�كد‬ ‫الت�شابه العجيب بينكما لدرجة التطابق ‪ ..‬انزعجت هي طب ًعا وطلبت‬ ‫منك �أن ت�أخذه للم�ست�شفى ‪ ،‬وتطلب من أ�ي تمرجي �أن يزيله �أو ينظفه له ‪.‬‬ ‫‪ -‬وهات له ملين �أطفال ‪ ..‬لازم ح�صل �إم�ساك ‪..‬‬ ‫وطب ًعا قاومت �أن ت�صرح لك �أن كل هذا ب�سبب الإهمال ‪� ..‬إهمالك!‬ ‫كظمت غيظي ‪ ،‬فكيف يمكن �أن �آخذ القط إ�لى الم�ست�شفى و�أقف‬ ‫في طوابير ن�ساء العربان القادمات لتلقي علاج الأمهات والحوامل وهن‬ ‫ي�صحبن �أطفالهن ليخترقن معهم حواجز زمان وحقب من التخلف‬ ‫البدوي يف�ضلن معها العلاج ب�أع�شاب ال�صحراء وحبة (البركة‪. )..‬‬ ‫ا�ستكبرت أ�ن تتقدم أ�نت ب�شيبتك الوقورة لتطلب و�سط ه ؤ�لاء من‬ ‫ا ألطباء أ�ن يرحموا (قط) قوم ذل ‪.‬‬ ‫‪ -‬حا�ضر �سم ًعا وطاعة ‪..‬‬ ‫�أح�ضرت له الملين و�أر�ضعته عدة مرات مع حذر كاف لعدد النقط‬ ‫خو ًفا �أن يت�سمم �أو يزيد عليه المر�ض ‪..‬‬ ‫هو نف�سه �أيقظني اليوم في ال�ساد�سة ألفتح له باب الغرفة ‪ ..‬و�أ�ضع‬ ‫له الطعام ‪ ..‬لم ي أ�كل ال�سمك ‪ ..‬ال�سمك المكرونة الذي قليته بعد تنظيفه‪.‬‬ ‫ف�أكدت طهيه خو ًفا �أن يكون عاد ًما ‪ ،‬لم يعجبه طعمه ‪� ،‬س ّو ْي ُته في �شوربة‬ ‫بالب�صل والكمون والملح ‪ ..‬ف�ص�صته ‪ ..‬أ�خليته من أ�ي أ�ثر لل�شوك �أو الجلد‪.‬‬ ‫ومع ذلك لم ي أ�كله‪ .‬ق ّطرت له اللبن في فمه ‪ ..‬ف�ص�صت له قطعة دجاج‬ ‫‪296‬‬

‫والقلق والاكتئاب؟ بعد هذا العمر العري�ض وتلك الرحلة الطويلة‪ ..‬منذ‬ ‫قيام الحرب العالمية الثانية ‪ ،‬مرو ًرا بوباء الكوليرا ونكبة (فل�سطين) ا ألولى ‪..‬‬ ‫وانتخابات عام خم�سين ‪ ..‬ثم قيام ال�ضباط بطرد الملك لح�سم الأمور و�شنق‬ ‫(البقري وخمي�س) وتوزيع الأر�ض على الفلاحين و(باندونج) والعدوان‬ ‫الثلاثي ويا (حمام البر�سقف) و(احنا اخترناك) (لت�شنق الإخوان الم�سلمين‬ ‫وتطبق مبادئهم) وا�ستقبال اللاجئين من (بور�سعيد) وت�سكينهم في مدار�س‬ ‫القرية والتدريبات للحرب بالع�صي في حو�ش المدر�سة ‪ .‬وحكاوي (محمود‬ ‫الفل�سطيني) وحواديت (�أحمد النادي) و(محمود الباز) ونوادر (ال�شقيط)‬ ‫و(ال�سقا) و(�شطا) و(�سلامة) و(عم ال�صح�صاح) وانتحار (عبد الحميد‬ ‫عثمان) ومقالب (�إبرهيم رخا ومغامرات بنته العم�شاء) وزكي الظروطي)‬ ‫وحكايات �أختي و(نجاة) ومعركة الجمعية والوحدة ‪ ..‬وال�سجن‬ ‫والاعتقال وموت (�شهدي) و أ�بو (زعبل) و(قراميدان) ‪ ..‬و(الواحات) ‪..‬‬ ‫و(ال�سوي�س) و�أيام المقاومة وندوات (ق�صر الثقافة) والجواز وحل الحزب‬ ‫والحب المجه�ض ‪ .‬وهلو�سات المراهقين وتراجيديا (جوزفين) و�أيام الحب‬ ‫والخلفة والنك�سة وهتافات الانتقام من �ضباط الطيران ‪ ..‬ومظاهرات ‪68‬‬ ‫فى رم�سي�س والمطالبة بذبح (هيكل) و�سقوط دولة المباحث بعد �أن �صدقنا‬ ‫ب�سقوط دولة المخابرات و(بيان‪ 30‬مار�س) ومعتقل (طره) ‪ ،‬وزيارات‬ ‫(نجلاء) ومقابلتها الجريئة (ل�شعراوى جمعة) ‪ .‬ووكيل النيابة (رفعت)‬ ‫وعودة (�سيد خمي�س) وظهور (ال�شيخ إ�مام)‪ ،‬وعود (عدلي فخري)‪،‬‬ ‫و أ�غاني (في حب م�صر) و(جماعة الدراما) ‪ ..‬وا ألحقاد ال�صغيرة ‪..‬‬ ‫وموت (عبد النا�صر) ‪ ..‬وانتفا�ضة الحرامية ‪ ..‬و�ألاعيب (�شيحا) وملاعيب‬ ‫(تعاليبو) و(ال�سادات) ‪ ،‬وال�سفر للخارج وف�ضح الم�ستور ‪ ..‬ورحلات‬ ‫(ال�سندباد الحديث) ما بين (عدن) و(الكويت) و(دم�شق) و(بيروت)‬ ‫‪299‬‬

‫المارة والجيران والعاملين في الم�ست�شفى القريب ‪( ..‬مي�شكا ااه)‪ ..‬الذي‬ ‫�صار به أ��شهر حيوان في (�سيدي عبد الرحمن) و أ��صبحت به �سيرتنا على‬ ‫كل ل�سان ‪ ،‬و�أخي ًرا وجدته معتزل ًا فوق النتوء الخر�ساني في �سقف الدور‬ ‫الأول حيث لا يمكن الو�صول �إليه ‪( ..‬مي�شكا) ‪( ..‬مي�شكا) يا حبيبي ‪..‬‬ ‫تعالى ‪� ..‬أووبه ‪ ..‬جعان ‪ ..‬تعالى ‪ ..‬جعان ‪..‬‬ ‫ما �أن نطقت بها حتى فعلت مفعولها ‪ ..‬الكلمة ال�سرية الوحيدة‬ ‫ال�سحرية التي يتجاوب معها عند نطقها �إذ يبدوا أ�نها تحمل نف�س المعنى‬ ‫في لغة القطط‪..‬‬ ‫تقدم مني في حذر و�شك كعادته ‪ ..‬و�صبرت ‪� ..‬صبرت حتى �صار‬ ‫في متناول يدي ‪ .‬انق�ض�ضت عليه غير عابئ بتف�سيره لت�صرفي ‪ .‬و�أجبرته على‬ ‫الرقاد بحيث أ�قطر له ما في ال�سرنجة من ماء اختلطت به قطرات الدواء‪..‬‬ ‫همهم ب�ألفاظ أ�قرب �إلى لغة الب�شر مع كل زخة �سائل في فمه المغلق ‪..‬‬ ‫تمل�ص �أكثر من مرة وخد�ش بقدمه الخلفية في قوة وتهديد زام مزمج ًرا مهد ًدا‬ ‫‪ ،‬ولكني لم أ�عره �أي اهتمام ‪( ..‬ففيروز) تتهمني ب إ�هماله ‪ ..‬و أ�نا لا �أطيق‬ ‫أ�ن يمر يومان حتى ا آلن دون �أن أ�ت�شرف بجمع بقاياه و إ�خراجه النادر ‪..‬‬ ‫وما �أن انتهيت من زخ ما بال�سرنجة و�إفراغها ‪ ..‬حتى تمل�ص مني فتركته ‪..‬‬ ‫وقف بعي ًدا يزغر لي من خلف ظهره �صام ًتا حتى انتبهت إ�ليه‪ ،‬ف�شتمني في‬ ‫احتقار وقرف ‪ ..‬وحين هممت بالقيام ل�ش�أني ولي�س في نيتي الرد عليه‬ ‫�أطلق �ساقيه للريح واختفى في الدور العلوي ‪..‬‬ ‫‪ -‬ما قيمة كل هذا وما دلالته يا �شيخ بعد كل هذه ال�سن ‪ ،‬وما فائدته‬ ‫‪ ..‬ألي �إن�سان ‪ ..‬وماذا تريد أ�ن تقول به ‪ ..‬هل هو ي�ضفي علي نف�سك‬ ‫راحة حين تكتبه ؟هل يزيدك معرفة بنف�سك ؟�أم يعمق �إح�سا�سك بالوحدة‬ ‫‪298‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook