م َّوال ال ِّصبا في المشيب رواية قد تكتمل ..غ ًدا
على هام�ش ال�سيرة الذاتية م َّوال ال ِّصبا في المشيب رواية قد تكتمل ..غ ًدا 2013
م َّوال ال ِّصبا في المشيب رواية قد تكتمل ..غ ًدا النا�شر :دار �إيزي�س للفنون والن�شر العنوان� 2 :أ �شارع طه ح�سين -الزمالك القاهرة. هاتف )02(27361361 : محمول 0112695195 : بريد الكتروني dar¬[email protected] : �صورة الغلاف: ت�صوير :و�سام الدويك ت�صميم الغلاف : اهداء من الفنان محمد كامل (كامل جرافيك) الت�صميم الداخلي: �صالح عبدالعزيز المدير العام : �سوزان التميمي رقم الإيداع 2013/3026 : الترقيم الدوليI.S.B.N : 978-977-6367-53-1 : جميع الحقوق محفوظة © الطبعة ا ألولى 2013 -
حين ي�صير المراهق طفل ًا يجل�س ال�شيخ بينهما ويبكي عائدا إ�لى �صباه لكنني لا أ�تذكر غير �صورة الطفل وقد فاج أ�ه الجني ب�ضحكته المجلجلة .. وم�صباحه الذي لم يكن غير لعبة قديمة ! (عبد الكريم قا�صد) 5
عبدالباقى � ،سمير موال ال�صبا في الم�شيب :رواية قد تكتمل ..غدا � /سمير عبدالباقى -:طـ-.1 دار �إيزي�س للفنون والن�شر2013 ، �390ص ؛ �20سم تدمك 978 977 6367 53 1 -1الق�ص�ص العربيه �أ -العنوان 813 رقم الإيداع 2013 /3026 :التاريخ2013/1/16 :
وما أ�ن ِزل من َق ِبلك قلقا متوتراً كان يراقب حالته النف�سية والج�سدية منذ فترة ..أ��صبح يتوقع في كل لحظة �أن تداهمه فج أ�ة رغبته الحارقة في ا إلعتراف بخطاياه الخفية ..وكتابة تقريره ا ألخير وال�ضروري � ،شاملا فا�ضحا .طلبا للعفو وال�سماح ..والفهم.. ينتابه الرعب ويزلزل طم�أنينته اله�شة ،كلما ظن أ�ن اللحظة قد أ�زفت ،يقوم بتجهيز ا ألوراق الكافية والمنا�سبة ، و�سرعان ما يطفئ لهيب رع ْبه بتمزيقها بي�ضاء من غير �سوء. في كل مرة ي�شتري ما يكفي من �أقلام الر�صا�ص ،يبريها بنف�س طريقته الخا�صة ،التي تعلمها في طفولته المبكره.. وفي كل مرة ين�ساها ..فت�ستخدم في �أغرا�ض أ�خرى ولا تعود ت�صلح للكتابة ..ي�ؤرقه على الدوام �إح�سا�س عميق قا�س ب�أن ما يكتبه تمت قراءته من قبل و�سيكون عديم الفائده 7
في�سقط قلبه ال�صبي المنفعل في جب عميق ،مع�صورا في قب�ضة �ألم غام�ض مثقلا بحزن مجهول ،يمزق الأبيات التى خطها على هام�ش كرا�سة الجغرافيا ،أ�و الر�سوم التي م أل بها الم�ساحات البي�ضاء في كتاب ( المنتخب من �أدب العرب) . �أما أ�عدا�ؤه فقد رموا طوبته من زمن بعيد ،و أ�حاطوا ا�سمه بما يكفي من �أوامر إ�دارية و�أمنية ت�شكل حائطا �صعب ا ألختراق من أ��شواك وخوف وحبر �أ�سود ،ثم �شطبوا عليه و�أ�سقطوه في مربع الن�سيان.. وهكذا بين م�صلحة الم�ساحة التي يديرها �أ�صدقا�ؤه و�صحراء التجاهل التي يحر�سها أ�عدا�ؤه ..تناثرت ،ق�ص�صه وحكاياته و أ�حداث أ�يامه الطويلة وعلاقاته في كتب ودفاتر مختلفة الأ�شكال وا أللوان لا تجد فر�صه حقيقية لتقدير قيمتها أ�و ح�صرها ..أ�و أ�كت�شاف أ�ي قيمة لها ..ف أ��صبح هو نف�سه عاجزا عن ح�صر أ�عدادها أ�و �إحتمال ت�أمل �صفوفها مر�صو�صة مجلدة على الرفوف حوله ..وتجنب مع ا أليام الرغبة في �إح�صائها خ�شية �أن يفاجئه الموت وهو م�شغول با ألرقام ،التي عا�ش يكرهها طول حياته.. -ما العمل إ�ذن يا �صديقى؟ � ..أحتاج أ�ن ت أ�خذ بيدي يا رفيق العمر� ..أجرني ..الحلقة ت�ضيق حول عنقي والح�صار ي�شتد ..لم تعد بيوت ال�صحاب ت�ستقبل خطواتي المرحة ،ولا تنتظرها ..ولا تواجهني إ�لا وجوه القدامى منهم ترتدي �أقنعة تخفى خلف ب�سمتها ما تكل�س على �أديم بع�ضها من كراهية وخوف ..وتناءت عبر العقود بينها الم�سافات.. واختفت ابت�سامات الحنان و�شاب الزمان وتفرق الخلان.. طفرت دموع مالحة من عينيه حرقت أ�جفانه ،وامت أل برغبة معاك�سة حارقة متحدية م�شاعر الي أ��س ..تطالبه أ�ن يعيد نثر ملامح �سنوات عمره 9
وبلا أ�ي �أهمية تقريبا ..فما قيمة تقرير �آخر كتب مثله – بل و�أف�ضل و أ�عمق منه – ع�شرات المرات من قبل .. هو نف�سه كتب كثيرا ..كتب طويلا ..ولم تظهر علامات الاهتمام عند �أحد ما – بكل هذا الزمن الم�سفوح على الأوراق – على �أوراقه هو – ق�صائده و�أفكاره ..وحكايات وم�سرحيات. كان �أ�صدقا�ؤه عادة مايبت�سمون في عطف بارد وهم يتظاهرون بمباركة ما يكتب دون قراءة ..وتظل إ�فرازاته على الورق �صامته لا يفكر أ�حد منهم في جدية أ�و جدة ما يكتبه أ�و حتى جدواه � .إذ تعودوا على الثقة في خ�صوعه لهم إ�لى درجة يعتبرون معها كل ما يكتبه وما يفعله �صالح بال�ضرورة ،متطابقا مع خطهم ال�سيا�سي والدعائي ب�شكل �أو ب�آخر.. لقد تعودوه لا ي�شكل �أي خطر م�ضاد �أو مقلق ،فهو ملتزم التزاما ( بيوريتانيا ) ولا ينوي التمرد على حدود التزامه – حتى لو خطر له ذلك – على �أية �صورة ولأي �سبب ،لذلك فكل ممار�ساته العملية � ..أو �إبداعاته الفنية تكون أ�و تكاد تكون متوقعة ،في العادة ،وا�ضحة وجليه لديهم كخرائط م�صلحة الم�ساحة لا تثير كثيرا من ال�شك �أو الده�شة. ردود فعلهم تكون بال�ضبط كرد فعل أ�مه الطيبة المنهمكة في توزيع وجبة الع�شاء على دواجنها عندما – في فرح وده�شة – يلفت نظرها لكل هذا الجمال الذي يغمر أ�فق ال�سماء الغربي ،فوق �سطح بيتهم فتم�صم�ص �شفتيها في إ�بت�سامة منهكة مجاملة له ،وهي تقول دون أ�ن تنظر إ�لى حيث ي�شير في انفعال: � -سبحانه يا ابني ..قادر على كل �شيء.. ثم تعاود الانهماك في نثر الحبوب �أو عجن الردة في ال�سمك الم�سلوق: 8
كان هذا ما ينتابه في الحقيقة من م�شاعر وما يملأ قلبه من رعب وخوف ..و�أنا �أعرف كثيرين لهم ملامحه ..عا�شوا حياة مثل حياته وعانوا من ظروف م�شابهة ..لكنهم لا يتعذبون عذابه ..و�إذا ما فكروا في تق ّي ؤ� �سنوات عمرهم على الورق ..يلج أ�ون للكثير من المبالغة بحجة أ�و ب�أخرى� ..أو لغر�ض �أو آ�خر ..وفي الكتابة ي�صبح (الغر�ض مر�ض) �أي�ض ًا ..لكنهم لا يترددون ،فلهم من طوالع ال�سعد ما يكفي ليجعل المطابع على اختلاف �أ�ساليب إ�دارتها ( عامة �أو خا�صة) وبمختلف أ��شكال ملكيتها .. تنتظر ما يكتبونه في لهفة متعمد ًة ..لتن�شره على الر�صفان كتبا ومراجع.. ولتمتلئ ا ألعمدة الفارغة على �صفحات كل ال�صحف وعلى اختلاف م�شارب ومذاهب كتابها و�أغرا�ضهم ..بمظاهرات الترحيب الفج بها .. وا إل�شادة بقيمتها ..و أ�عرف غيرهم لا يكفون ولا يملون من إ�ثارة �أكبر �ضجة ممكنة يملأون بها الدنيا �صخبا �أمام الميكروفونات وعلى ال�شا�شات.. ووراء المن�صات للترويج لما تبولوه على الورق ..ويجدون الجر أ�ة للقتال من �أجل الح�صول على الجوائز التي ر�صدها الأعداء ل�شرائهم. وقد حيرّ ته هذه الظاهرة و أ�عتقد �أنها هي التي جعلته ي�شك في قيمة ما يكتب بل وقرر أ�كثر من مرة الكف عن ارتكاب جريمة الكتابة ،و أ�ن يبحث لنف�سه عن عمل �أكثر ملاءمة لقدراته الحقيقية ومهاراته ..فهو ي�ستخدم �أدوات النجارة بحرفنة متو�سطة ..وعنده فكرة لا ب أ��س بها عن طرق زراعة الب�صل البعلي والتين ال�شوكي ..والبر�سيم الحجازي ..كما كانت له محاولات في �شبابه لدق الو�شم في الموالد ..وكثيرا ما قام ب أ�عمال ال�سباكة ال�صحية في بيته وفي بيوت أ��صدقائه� ..أحيانا على �سبيل التفكه ولكنها كانت ناجحة بما يكفي للحديث عنها بفخر ..وكلها مهن �شريفة 11
على ا ألوراق من جديد ،للمرة الأخيرة – حروفا وكلمات ..وليكن ما يكون .لم يعد الوقت متاحا ل إلنتظار أ�كثر من ذلك � ..إن �أراد تحرير روحه مما يثقلها ..ما دام قرر أ�لا يتحمل وزر جريمة أ�خرى ..لن يبحث عن منهج فني بعينه ،فهو لي�س روائي ًا محترف ًا� ..سيكتب كل ما يعن له ويذكره بالطريقة التي يتذكره بها وعلى ال�صورة التي يتخلق عليها دون تعمد ..لن يكتب إ�لا عما يعرفه جيدا وخبره لم�س اليد ور ؤ�يا العين وح�س القلب .بكل ال�صدق والحرية الكافيينْ لجعل الحروف والكلمات وال�صور تتج�سد في تلقايئة .ولا تكون إ�لا هي ،لا زائدة ولا ناق�صة عما كانت عليه الأحداث والنا�س.. �صادقة طاهرة كقطرات الطل التي يخلقها جدل الليل والنهار على ورق ا أل�شجار ..ولن ي�سمح �أن يربت ا أل�صدقاء على كتفه في ت�شجيع كاذب فلن ي�ستطيع �أن يغ�ضب منهم �أكثر من ذلك ..و�سيرف�ض ب�شدة �أن يتجاهله �أعدا ؤ�ه �أو يمزقون �صورته �شامتين ،فلن يجد وقنا كي يحتقرهم – بعدم الاهتمام لهم – أ�قل مما فعل حتى ا آلن.. كل ما �سي�سعى �إليه ا آلن هو أ�ن ي�ضع حدا لهذا القلق القاتل ..وهذا الرعب الهائل الذي يزلزله كلما فكر في كل ما جرى منه وما جرى له.. وما جرى عليه ..فلي�س هناك �سبيل آ�خر للخروج من نفق الالتزام القا�سي الذي تخبط في قيوده طوال هذه ال�سنين ،ولا للتخل�ص من براثن العذاب الفادح الذي تح ّمل جراج أ�ظافره منذ ال�صبا المبكر � ..سوى ا إلنتحار .. أ�والكتابة دون أ�ن يق�صد بذلك �أي مبالغة أ�دبية �أو تركيبة ميلودرامية لإثارة �أهتمام القارئ ..فهو ممن ينتمون لتيار الواقعية و�أن وقف على �ضفافها محتميا بالم�شاعر الإن�سانية في �صورها البدائية الف ّجة ..ال�ساحرة البكر. 10
والرعب العادي والحزن النبيل ،الذي يعانيه ،مت�أكد تماما � ،أ ّن يوما �سوف ي�أتي يتب ّجج فيه كثير من ه ؤ�لاء و أ�ولئك ،على الم أل – و( أ�نا ) على ر أ��سهم- �صديقه ورفيق عمره وتو�أم روحه اللدود ،الذي كان (جبريله) و(فيرجيله) و( ِخ ْرض� ه) – �أننا كنا قريبين منه أ�كثر مما ظن هو بنا. و�أن كثيرين منا �سيندمون ب�شدة لأنهم لم يب�صروه جيدا ..وبع�ضنا �سوف يعتذر – لأن �صداقتهم له كانت �أكثر نذالة مما يجب و آ�خرون – ألن عداوتهم كانت �أقل �شرفا مما هو �ضروري ..لذلك � ،أتوقع منه ا آلن أ�ن يعلنها وا�ضحة �صارخة على أ�ول نا�صية �أو ميدان مزدحم يقابله ،غير مبال بنظرات الرعب أ�و ا إل�شفاق الي �ستحيط به وتترب�ص بدمائه على الورق قائلا: -ليفهم الجميع ..و أ�نت بالذات يا �صديقي التو أ�م – ا آلن �أموت، لأتحول على الورق �إلى حروف و�صور تبدو خيالية أ�و غير حقيقية كما �ألفتها ..لكن �أنا را�ض تماما عن نف�سي بقدر ما �أنا را�ض عنها وعنك .. وممتن لكل ما مر بي ب�إرادتي أ�و ب�إيحاء منك – ر�ضا �أو غ�صبا – من �أحداث وب�شر ..ورا�ض تماما عن تقريري هذا الذي �أتمنى �أن يكون كما �أريده، على درحة مفزعة من ال�صدق وال�صراحة ..بالقدر الذي يليق برحل يواجه الموت الحقيقي ( الرباني) ألول مرة ،بحق – بعد حياة أ�رادها أ�و أ�جبر عليها – واجه فيها الموت أ�لف مرة ..واختار كل ما يحبه فيها وكل ما كرهه ،بمح�ض �إرادته الحرة و أ�رادتك المتع�سفة ..لكنه أ�رادها للنهاية كما هي بالرغم من حد �سيفك الم�شهر على رقبته ،يحر�ض عليه الأ�صدقاء وا ألعداء على حد �سواء.. 13
يمكن �أن ت�ضمن له رغيفا حلالا ..وكافيا ي�ضمن ال�ستر بعيدا عن وجع الدماغ... إ�لى أ�ن و�صلت حيرته في تف�سير تردده في اتخاذ هذا القرار ذات مرة إ�لى قناعة عميقة أ�نه يمار�س الكتابة عمدا ..إ�معان ًا في التمتع المري�ض ب�شعور الا�ضطهاد والقهر.. وقد حيره �أكثر من عجزه الم�ستمر عن تنفيذ قراره بالكف عن الكتابة ،اكت�شافه �أن متعته في ممار�سة ال�شعور با إل�ضطهاد لن ت�ساوي على الاطلاق عذابه الممتع اللذيذ تحت وط�أة الرعب من الوحدة الذي يحا�صره كلما بد�أ في الكتابة ..ولا ذلك ا لحزن النبيل الذي يجتاحه كلما فكر في الطريقة التي ي�ستقبل بها �أ�صدقا�ؤه و�أعدا ؤ�ه كتاباة – التي لا يمكن ح�صرها أ�و ح�صارها ..وانهماك الجميع في الا�ستعداد لحب�سها في جدران م�صلحة الم�ساحة� ..أو لنفيها على الفور إ�لى �صحراء التجاهل.. �أر�أيتم؟ ..يخالجني �شعور م�ؤكد إ�زاء إ�عترافه هذا � ،أنه م�ستعد ألن يمار�س في متعة بالغة ذلك ال�شعور الأليف من القلق والرعب ،لأنه في هذه المرة م�صمم على تحويل عذاباته و أ�فراحه و�أحباطاته و�أحلامه المجه�ضة و أ�حداث حياته – ما خفي منها وما ظهر ولمرة واحدة و�أخيرة� ..إلى �شيء ما على الورق ..و أ�ن يقدمها بكل جر أ�ة للجميع أ�عداء و�أ�صدقاء ..معلنا أل�صدقائه م�سبقا ،رف�ضه النهائى لذلك التعالي ا ألبوي البغي�ض ومنذرا �أعداءه ب أ�نه لن يهتم لغلهم المقيت ،ولن يحاول أ�ن يكون مو�ضع ر�ضاهم – كما كان دائما.. م ؤ�كدا لنف�سه في ذات الوقت ،وبثقة ،يخلقها احت�ضان الأ�صابع للقلم و�شوق الحروف للتخلق على الورق� ،أنه رغم كل القلق الم�شروع 12
�أيها المراوغ يعاودك رعبك خل�سة ،يتجمد الدم في عروقك كلما تذكرت كيف كان يعتريك ،و�أنت عائد وحدك في �ساعة مت�أخرة من عمل �أو اجتماع ما ،عبر (كاركا�س) – و�سط �صفوف ال�سيارات ال�صامتة – التي لا بد �أن إ�حداها مفخخة بالت أ�كيد ،قد تنفجر فج�أة �سواء عند مرورك �أو بعد عبورك ..يكتم �أنفا�سك خوف جاف يلت�صق معه جلد حلقك . وتحرق جفونك دموع أ�ثرية ..تدور حولك بعيونك مقيما حوائط من حذر غير مرئي ،تحت جلد �أنفك الذي تحرقه رائحة دخان أ�كوام الزبالة.. المحترقة .بال�ضبط كما تداعبك (ا آلن) روائح (جبل النرج�س) ..أ�و كما كانت ن�سمة الع�صر �أمام (�صخرة العا�شقين) �أو في (مقهي عرو�س البحر) ال�صامت .تلوك في تعب ذكريات �أ�شعارك ونغمات عود (عدلي فخري) وت�صفيق ا آللاف في العيد (الخم�سين للحزب ال�شيوعي) حول جبل ( أ�ميون ) وتمثال (فرج الله الحلو) ال�شامخ فوق القمة ،تغطيه حلقات و�أطواق الزهر حتى الر أ��س � ..أزهار من (ال�صين ) و(مو�سكو) و(جنوب �أفريقيا) ..و(كوبا) ..يااااه ..حتى (اليمن) ..و(فل�سطين) ..وكنت �أنت نجما �أمم ّيا بامتياز . وحدك ا آلن والح�صار.. (بلطيم) لي�ست ر أ��س (بيروت) يا ابن (ميت �سل�سيل) ،البحر هناك لا �صوت له ..لكن له رائحة الدم المتخثر الذي لا يكاد ي�سمح ل�صوت (فيروز) �أن ي�صل �إليك إ�لا مجهدا ..و�سط �ضجيج ( لا تهزي كبو�ش التوتة) ي�ستحلفك بكل عزيز لديك �ألا ت�سمح لم ؤ�امرات وحيل �صديقك اللدود أ�ن تف�سد عليك حياتك أ�كثر مما فعلت ..أ�وتعطيك �صورة عن العالم ا�سو أ� مما هو عليه .. 15
حا�صرته عقب �صراخة نظرات الده�شة الم�شفقة ،وم�شاعر التعاطف ال�ساخر ..لكنها �سرعان ما اختفت وتبخرت ك�شبورة في �صباح �شتوي دافئ ..وان�صرف عنه كل من �سمعه ،على اختلاف درجات ت أ�ثرهم واهتمامهم وم�ضوا كل إ�لى حال �سبيله مقتنع ًا أ�ن الحياة �أ�صبحت �أ�صعب و�أعقد ،من �أن ي�ضيع لحظة منها في الاهتمام بما قاله �أو ما �سيقوله �أو يكتبه هذا �أو ذاك من هراء حتى لو كان �شديد ال�صدق �إلى حد الكذب.. اندفعوا متفرقين كلهم ،و�ضاعوا في الزحام الذي ي�صنعونه بد�أب كل يوم ..م�صم�صت بع�ض ال�سيدات �شفاههن متح�سرات على حاله، وهن يجذبن �صغارهن ال�ضاحكين عليه في حدة� ..أو و ّهن يغمزن جنوب �أزواجهن العاب�سين القلقين ليبتعدن بهم عنه ..بينما �صمت هو فج�أة مثلما �صرخ فج�أة ..وتلا�شى مثلهم في زحامهم وعاد كل �شيء إ�لى �سيرته الم أ�لوفه ك�أن �شيئا لم يكن.. وحدك مرة أ�خرى – والبحر.. بحر �آخر ..لكنه نف�س البحر بالت�أكيد � ..شاطئ �آخر ،ألر�ض �أخرى لي�ست نف�س ا ألر�ض التي تعرفها ..و إ�ن كانت مثلها تنبت الخيار والفوم والقثاء والبندورة والبطيخ – والقرع -وهي أ�ي�ضا تقتل ابناءها .لكن تحت �شروط أ�خرى وبو�سائل مختلفة ،ألنهم يتكاثرون بنف�س ال�سرعة حتى لا ينقر�ش �سل�سالهم اللعين ولا يكف في�ض مائهم المهين.. محا�صر �أنت مازلت على �شاطئ المتو�سط مثلما كنت �أيام رعب (الفهكاني) و(الرو�شة) و(المدينة الريا�ضية) و(ابن ع�ساكر) و (باب توما) و (بيروت �ستار) .لكن الح�صار هذه المرة لي�س الح�صار نف�سه ،ولا على نف�س الدرجة التى يبدو لك فيها مثل غيره.. 14
-دعني �أو�ضح عنك ما يلتب�س – في ظنك – علينا بكلامك هذا .. فمن الطبيعي أ�ن يدخل حلبة ال�سيا�سة من ي�شاء طمعا في ال�سلطة بعيدة المنال رغبة في الت�سلط والتحكم في رقاب الب�سطاء من خلق الله ،م�ستخدما كل الاقنعة ..وكل ا ألحلام وجميع الو�سائل. �أو َمن يمار�سها طمعا في عدل م�ستحيل ..رغبة في التحقق ا إلن�ساني.. مدفوعا ب إ�لهام غام�ض .أ�ن غدا لابد أ�ن يكون أ�جمل ..ووهم جميل �أن الب�شر �سيتغيرون �إلى ا ألف�ضل � ..أن عا�شوا بطريقة أ�ف�ضل.. �أعرف �أنك كنت من �أولئك الرومانتكيين ..كثيرون كنتم – لكنكم ع�شتم ن�شازا يف�سد اللحن الثوري – معوقين لم�سيرة الن�ضال الذي لا ي�ساوم ..ف�ضوليين تريدون معرفة كل �شيء ( وهذا �ضد (الان�ضباط) اللازم ..تثيرون �أ�سئلة أ�كثر من ال�ضروري حول كل �شيء ..حتى تلك التي لا ( إ�جابة لها ) تفتحون ا ألبواب المحظورة فتبدو ال�سوءات التي تدمر اليقين ..وتفوح رائحة العفونة التي تبعث القرف ..فلا تعودون كما ذهبتم ..لا تدركون حقيقة الاندحار العظيم في (يونيو) ..ولا تح�سون روعة الانهيار العظيم والهزيمة المروعة ف العام الت�سعين ..ولا تفهمون ما في ذلك ال�سقوط الهائل ألبنية (�ستالين) ال�سبعة المحيطة (لمو�سكو) و(الكريملين) من روعة و أ�بهة ..ت�ؤكد نبل الحلم بالعدالة ..وبراءته من دم ال�صغار وغباء الزعماء!!.. هل �أو�ضحت عنك بما يكفي ..أ�م �ست�سفهني كعادتك؟ ا آلن ..وحدك دون جيلك تجاوزن ال�سبعين وهي ميزة لي�س أل�صدقائك ف�ضل فيها ..بل يبدو أ�نها حدث ًت على غير رغبتهم .ورغم أ�نوفهم بعد �أن عجزوا عن النيل منك ،برحيلهم واحدا بعد ا آلخر وهم في الخم�سين �أو �أكبر قليل ًا ،..لكنك – بدرجة ما من الغباء �أو الخوف – تظن 17
لكنك ل�ست ( أ�خيل) يا ولد ولا ( أ�بو زيد ) ..ولا يمكن أ�ن تن�سى �أنك �سليل النجارين الذين هر�سهم قطار الزمن ،منذ دمار (تاني�س) وخلفهم �ضحايا ألطماعهم ال�صغيرة و�صرعى لقلة الحيلة وغباء ال�ضعف المنافق اللزج الذي يخلقه ال�صبر ا ألعمى والهروب الدائم �أمام جيو�ش الغزاة والتجار الجائلين والتكنولوجيا الحديثة ..ول�ست (عنترة) يا حفيد الفلاحين الذين انتزعوا الأر�ض �شبرا �شبرا من براثن هذا البحر المالح.. و�صارعوا دون جدوى كي يكون لهم ما للأ�سماك من حقوق. وحين ف�شلوا أ�ن يقنعوا الجباة والولاة والم�شايخ بقدرتهم على التحمل ،هربوا لل�صحراء ليموتوا عط�شا في برية �سيناء وتهامة أ�و لي�صبحوا خدما في (ال�سعودية) أ�و رعيان غنم في (ا ألردن) ..أ�و جثثا في (العراق) ..خلفوك وحدك بلا ح�صان خ�شبي تخترق به �أ�سوار مدنك المحا�صرة ،وكفورك ا أل�سيرة وح�صونك المدمرة ..تائها في أ�حرا�ش نف�سك الم�ستباحة لتلحق بالجنازات ا ألخيرة .التي �سلبت �أهلك قدرتهم على الحلم ،و�أرهقت قراك المهزومة المنتهكة ب�شكل دوري ك�أوجه القمر ودورات الف�صول ومواعيد الزرع والح�صاد ..كلما حل (ب�ؤونة) في كل عام مهما تغير ا�سمه بتغير ر�سالات ال�سماء ورايات المغت�صبين.. وك�أن كل ال�سهام كانت – من كل الجهات – موجهة �إليك .. وحدك – من الذين ظنوا في خطورتك المزعومة ما يدعو للترب�ص بك.. �سواء من الذين ت�أكدوا �أنه لا لك في العير ولا في النفير – العارفين مواطن �ضعفك � ..أو الخائفين عواقب �صمودك� ،أعدا ؤ�ك المنت�صرون الذين اعترفوا انت�صار أ��صدقائك الت ّواقين كل �صباح لتحقيق يهزيمتهم أ�مامك� ..أو من – من و�أمثالك من الحالمين ال�سذج والحمقى رخي�ص عليك ليقدموك �أن�صاف ال�شطار والموهوبين الذين لا ظهر لهم ولا بطن – قرابين لآلهة الكذب والحقد والكره التي يتعبد في محاريبها أ�هل ال�سيا�سة.. 16
من الذين بذلوا ما ا�ستطاعوا من جهد وعناء م�ضن ونميمة ،إللقائي ونفيي إ�لى �صحراء التجاهل ..فقد ذهبت جهودهم عبثا ..فها �أنذا رغم كل هذا الوقت والجهد ال�ضائع� ..أتجاوز ال�سبعين رغما عن �أنوفهم ..وابد أ� الكتابة من جديد ك�أنني قمر وليد أ�و برعم يتفتح في مو�سمه!.. ** م�ضى في زحامهم معتدا بنف�سه غير مهتم بالعيون ال�شامته أ�و المنده�شة التي تحا�صره ..إ�بت�سم را�ضيا بقدر كاف عن نف�سه و�أخذ نف�سا عميقا ليخفي ُخجله ..نعم كان خجله يحاول �أن يخفف من غلوائه دافعا به إ�لى غابة الندم و�أ�شواكه ..لكن الحزن النبيل الذي م أل قلبه .. حماه من الابتئا�س ..كان في أ�عماقه مبتهجا �سعيدا ..لم تكن تبدو عليه الفرحة ،لكنه كان يح�س بال�سعادة التي يم أل قلبه بها وعيه بتلك ال�سنوات الطويلة الحافلة التي عا�شها ..حيا ..لا عاجزاً ولا بليداً ..فله ابن وابنة و�أحفاد وبيت ،وكانت له زوجة �أحبته وكان عنده قط جميل رائع وب�ضع �أ�شجار زرعها بنف�سه ..ومازالت �أحلام ال�سفر تداعبه ..و�أمامه في �صفحة ال�سماء قمر و أ��صدقاء قليلين ..له محبين ومريدين كحبات المطر.. وفي قلبه انتماء عميق ،لقرية و�شاطئ وجدران �أقامها بنف�سه ومعه خلق كثيرون وقراء ومعارف� ،صنع لهم � ،أو معهم ،حلما من بع�ض أ�يامه.. ومن بع�ض دمه ،ومن الكثير من العرق والدموع ومن أ�يام ال�سجن� .سفنا و�أفقا بات�ساع المدى ..وبيوتا ب�سيطة لها �شمخة ق ّدحة الزيت في مغارب القرى المتعبة .ويمتلك ق�صيدة و أ�غنية طويلة لا تموت� ..أفلتت ب أ�عجوبة من الح�صار ..وعلى ل�سانه حكايات ل ألطفال بلا نهاية ..لا تكف عن بعث وخلق الب�سمة ال�صعبة على وجوههم الجميلة المده�شة ..ولديه �ساحة ت�ضج بال�صراعات وبالدراما وبالب�شر!! ••• 19
أ�ن كثيرا من الإحباطات منذ ا آلن �ستهاجمك و�أن أ��سبابها الخفية الحقيقية مو�صولة با ألقربين �إليك منهم .. أ�ل�ست بذلك تظهر �شيئا من نكران الجميل؟ -لا ل�ست ناكراً ألي جميل ..وهم لن يغ�ضبوا مني ،فالموتى لا يغ�ضبون أ�حدا ألنهم عاجزون ..أ�نا مت�أكد أ�ن كل من تكبد ب�سببي ذرة من عناء �أو قدر خردلة من عنتـ �سوف لا يغفر لي ،و�سيقت�ص مني في الوقت والزمن المنا�سب – ومن يدينني منهم بمثقال ،لن ي�سامحني فيه .. و�سيطالبني به �أ�ضعافا م�ضاعفة ..فطمئنهم و�أ�صرخ بقوة و�أبلغهم عني.. أ�علنها في وجوههم في ا أل�سواق ولا تبالي بنظرات الغ�ضب ولا همهمات ال�شماته التي �سيحا�صرونني بها .. �-أنا اقولها بكل ثقة ..اطمئنوا يا غجر ..أ�ني لن �أهرب من دين ،ولن �أتهرب من ذنب �أو جرم جنيت �أو ارتكبت .لقد ذهب �أكثركم والأقنعة على الوجوه لم تم�س ودفن بع�ضكم أ��سرار خيانته معه ..فاختلطت جثث المجرمين بال�ضحايا ..وامتزجت أ��شلاء الجانين با ألبرياء ..ليبتهج من بقى من الجناة والكذبة على قيد الحياة حتى �صدور هذا التقرير ..ف�أنا لن �أطالب من يدينون لي – حتى بحياتهم ..وما �أكثرهم .. ولن �أمن على من قدمت لهم عمري ..بمح�ض �إرادتي زادا و�ضياء.. وما �أغدرهم .ولن �أعاير من وهبتهم بع�ضا قل �أو كثر من موهبتي �أو عمري من �شعري أ�و من �صحتي -فما افقرهم . �أنا يا �أ�صدقاء . .ويا من ل�ستم كذلك ..ممتن حتى لأولئك الذين �أجهدوا �أنف�سهم من عرقلتي �أو في ت�ضليلي � ..أو في ( الو ّز) علي .. ولأولئك الذين اجتهدوا بثمن �أو بدون �أجر ليزرعوا الأ�شواك في طريقي ..ممتن لهم بنف�س القدر الذي أ�نا به �شامت � ،أ�سخر بكل جوارحي 18
على بلكونة البنت (ماي�سة) ذات اليا�سمينة الطارحة ،واللبلابة ال�سارحة ..وعلى زينه الخ�ضرجية التى كانت وراء نافذتها الحديدية تنتظر زوجها عارية لينفذ فيها حق الله ال�شرعى. �أنت يا من فتحت عيون البنت (نجاة) على حزن وب ؤ��س �أبيها ،حين حرم منها ومن أ�مها ليدخلوه م�ست�شفى المجانين ..لا ل�شيء إ�لا لأنه (يمتلك بندقية “لي انفيلد” من بقايا الحرب العالمية الأولى) ,ويحب (هتلر الذي �سين�صر الإ�سلام ويدمر أ�مة ا إلنجليز) ..م ّل�ست �شعرها المبلول لأول مرة في حياتها .وب�شفايفك م�سحت دموعها حتى اتفطرت من ال�سعادة .. ظلمت (ر�سمية) بنت خالتك بح�سن نية ،حملتها �أكثر من طاقتها حين كنت تتعمد إ�يقاظ �شهوات (نرج�س) الغافية أ�مامها عمدا دون مراعاة لم�شاعر حرمانها ..حتى ماتت وحيدة لا أ�م ولا أ�ب ولا �إخوات مع �إنكو كتير ت�سدوا عين ال�شم�س .ولم تجد من يغلق عينيها آلخر مرة وينطقها ال�شهادتين .. �شعبطت أ�ختك الكبيرة في حبال الهوا الدايبة � .صدقت و آ�منت بقوانين الجدل وال�صراع الطبقى .فبكت أ�مام �صليب (�سبارتاكو�س) . وحلمت �أن �أح ًدا (يو ًما ما) �سيذكر ف�ضلها على الثورة العالمية من أ�ول (هو�شي منه ـ لجيفارا) ..إ�ذ كلهم انت�صروا ،بف�ضل قرو�ش وبرايز درج ماكينة الخياطة الذي لم يغلق في وجه كل التنظيمات (الثورية) ،من (الهند) لغاية (دكرن�س) يدفع ثمن حبر المن�شورات الزفر و�أجرة الموا�صلات وثمن عجينة البالوظه ور�سوم البرقيات التي �سجنت ب�سببها ..مع �أنها لم تفهم كيف تدفن (الا�شتراكية) بلاد النوبة ..ولا كيف يموت (�شعبان حافظ) بعد كل هذا ال�سن في غربة الواحات ..ويموت (�شهدي) ب�ضربة �شومة م�صرية ،ولا كيف ي�صبح (رفعت ال�سعيد) بعد كل العذاب هذا محافظ بنك 21
ولكن �أنف�سهم يظلمون .. قوم ..ف ّز اعترف ُ ..حق نف�سك ل ألفراح ا ألولى ولأحزان ال�صبا ..لهدهد (�سيدي مجاهد) وجميزة غيط ال�سباخ ومراجيح (�أحمد همام) ..لم�شنة جرجير خلت (خ�ضرة أ�م بيومي) .. ا�ستغفر خطاياك ا ألولى -منديل (مديحة) بنت ( أ�م نمر) �أول بو�ســة تحت (خيمة اليا�ســـمين) .طرحة خ ْل ِت (مقبولة) وعينيها القديمة – يوم اتهمتها بالكذب لانها كانت ترتديها عندما ر�أتك ت�سرق الفول الحراتي ،ور�أت �صاحبك (فاروق) ملقح في الترعة مرعوب .و�صاحب الفول ي�صر على أ�ن يطاردك �أنت يا من وجدت لك عين جديدة ..تغم�ضها ،مق�سما بكل عزيز �أنك لم تذهب �إلى غيط (العواي�ضة) من �سنين ..اعتذر عن تل�ص�صك 20
منكم بكثير ،عندما أ�علن �أن المغرب �أقرب من الفجر ..وان ال�شيطان هو اللي طبخ الطبخة من يوم ما نف�ضك �ضهر �أبوك في بطن أ�مك ،فوقف يتحدى على �سطح (�سيدي مجاهد) عريان ملط كا�شفا وقاب�ضا على عورته ال�ضامرة ليراه الجميع -ن�سوان ورجال -على ر أ��سهم �ضابط ا ألمن الكبير ابن �شيخ البلد ..لي�شهدوا معه �أنه لي�س �شيوع ًّيا ..و�أنه لم يعا�شر �أخته في الحرام ولا في الحلال ،ولا عا�شر حتى زوجته ولم يظلمها ..لأنه لا يمتلك �أ�صل ًا أ�ي �إمكانية لإ�سعادها ..و�أنه عندما هتف من قلبه (لعبد النا�صر) والخلق تبكي أ�ولادها الذين ُدفنوا في هجير �سيناء ،لم يكن يق�صد أ�ي احتجاج ولا (تقلي�س) فقد عا�ش عمره جنب الحيط ،يا دوب يدق على الطبلة في ال�سحور وي ؤ�ذن المغرب عند ا إلفطار ولا يقر�أ غيرهما �سورة (�أهل الكهف) و (عب�س وتولى). قوم ..ف ّز ..ا�ستغفر الكل وا�ست�سمحهم ،يمكن تلحق ن�صيب في �أحزانهم ويعذروك ..وي�سامحوك في حقهم عليك ،وذنبك يغفروه . لأنك �صدقت تخاريف (ال�شيخ الخ�شان) و أ�حلام (ابن عبد ربه) و(ف�ؤاد حداد) و(�أبوك �سل ّيم) ..اللي ده�ستها بوابير الحرت التي بعث بها (الزعيم الم�ؤمن) لت�ستولي على أ�ر�ض (الدومين) وتدفن (طيور ابو الخ�ضير) تحت عواميد �أ�سمنت كوبري (القناة الجديد) ,وجمرك (بور�سعيد الحرة !!) ، محبة لليهود تنفي ًذا لاتفاقية الكامب ..ويقيم على �أحدث طرق الديمقراطية، التلات منابر العجيبة اللي ح تنقذ (م�صر) من م�صير العالم التالت ،مرهونة ب�شيكات �صندوق النقد الدولي ..اللي م ِّك ِن ُته فى لحظة �صفا �أن ي�ستجيب لطلب خدمه من الكتاب المخبرين أ�ن ي�ضاعف منح تفرغ ا ألدباء والفنانين ويعفيهم من �ضرايب الكتب من �أجل بناء م�صر الع�صرية! ••• 23
التمويل ا ألممي ،ومدير عام إ�دارة عموم ت�صفية الي�سار كما (ادعيت عليه أ�نت عيني عينك) ..فت�ضطر �أن تعلن ا�ست�سلامها وي�أ�سها من رجوعك . إ��ست�سمحها و ِح ّب على �إيديها ،يمكن تغفر لك �آهات م�شاوير ال�سكك الكعابي في عز نقرة ال�شم�س �إلى طلمبات ال�سرو وعزبة �أكالة العي�ش ..و�صداع المناق�شات اللي م�ش جايبة فى المندرة التى تحملت كل ماعن لمزاج والدك المتقلب من تغيرات وا�ضطرت �أن ت�شارك فى الخناقات الخايبة ..حول من �سوف يدفع ثمن العمر الم�سروق ..وعي�ش الغربة المحروق ،وم�صاريف عيال عقلهم زى حلقهم مفتوح و أ�حلامهم بو�سع الوطن .. �أعترف وقل مثلما قالت �أمك ( ..خايب بلاده خايب بلاد النا�س) ..و اللي �سرق عيني عينك من تحت لتحت � ..أكيد ي�سمح لنف�سه يخطف الكحل من عيون ا أليتام .عيني عينك �أي ً�ضا -لكن من فوق لفوق ..بعد ما انكتبت أ��سامينا في ك�شوف العملاء ،واتف َّرق د ِّمنا بين (البنتاجون) و(الكريملين) ونفينا (ميت �سل�سيل) من التاريخ ،وبعنا (بولاق) و(دقهلة) لح�ساب بور�صة (مجموعة روما) وتجار ورق الد�شت ا ألممي !! ف�سر لهم لماذا م�ضت بك وبهم الحياة فى ا�صرار مح�سوب فى م�سارها المحتم واللى كان مكتوب ومقدر حتمي معه أ�ن يتحول (كفاح ال�شعب الم�صري) والطبقة العاملة -ا�سم الله عليك وعليها -لمطبعة م�سروقة ، وحزب معفن وفيللا في اله�ضبة الو�سطي ،وق�صر ف (مارينا) وعزب ومزارع حديثة في الأر�ض البكر على امتداد الخط الثوري من (�سينا) (لوادي النطرون) ت�شرب آ�خر نقطة في عرق أ�بوك (�سل ّيم) ،و�آخر �ضي في نن عيونه ..من �أجل أ�ن يرحمه زمانه فلا يرى ابناء الزعماء يعملون لح�ساب ال�شركات المتعدية الجن�سية ويقب�ضون بالعملة ال�صعبة ولا يقر أ� الكتب الكدابة ،التي ت�ؤكد أ�ن ال�شيخ (�أبو �صبح) الأعمى كان �أ�شطر 22
وكن َت (�أنت) ف أ� ًرا بر ًّيا يت�سلل عبر ال�سطوح إ�لى ا ألحوا�ش والمناور وا ألفران وقاعات الخزين و�أركان حموم الن�ساء ال�سرية يتل�ص�ص ويداعب وي�سرق ويعانق ويغازل . لم تحمل ه ًّما ،فهناك دائما من كان يتولى عنك حل كل م�شاكلك وي�ضمن لك كل مطالبك ،مع �أنك لم تكن تجر�ؤ على الحديث مع ابيك ، أ�و الجلو�س على حجره مثلما يفعل كل ا ألطفال .لم تعرف جو ًعا �أو حاجة فالقر�ش يجري بين يديك من يديه ،حتى عندما يجف نهر المقاولات وتفتر ح َّمى ال�صراعات .لم تقهرك حاجة ،فبيوت العائلة الكثيرة والكبيرة مفتوحة لك و�إن �ص َّكت وجهك بع�ض �أبوابها ..وغ َّلقت دونك بع�ض قلوبها ح�س ًدا �أو قر ًفا .لكن الطين لم يلوث كفيك إ�لا حين كنت تك ِّوره لتحفظ داخله ديدان ا ألر�ض عندما تخرج ل َّلهو ب�صيد ال�سمك من (الم�سرف) �أو عند (الهدار) .الذي يقوم على �آخر زمام أ�ر�ضكم التي لا تعرف ولم تهتم �أن تعرف يو ًما حدودها -إ�لا بعد �أن ت�سرب معظمها بفعل الزمن والديون والتنا�سل الذي لا يتحكم فيه �شيء -ف أ�نت م�شغول طول الوقت بما ي�شتعل داخلك من لهب (الجمر) الخفي للتمرد الذي يجعلك كطير بري ج َّواب فوق �سطوح القرية وفي دهاليز الحواري وال�سراديب الخفية ..لتمار�س كل ما لا يخطر على بال من في �سنك من حماقات ونزوات. في عز الظهر وبعد الخروج من ماء البحر ال�صغير إ�لى ظل �صف�صاف (المغذي) تجمع ا ألج�ساد العارية حولك و أ�نت تمار�س بالطين الناعم اللزج العادة ال�سرية ,جها ًرا نها ًرا فتدفع ال�صبيان المبهورين ,بممار�ستك لجر�أتك علانية ,لمحاولة تقليدك .ولكن هيهات وهم لا يملكون مثل هذا (الفرع) الداكن الذي لا ينا�سب لونه بيا�ض ب�شرتك وك�أنه ع�ضو م�ضاف لج�سدك 25
مرج البحرين .. ليتني أ��ستطيع �أن �أخمن يا �صاحبي متى التقينا بال�ضبط ،ولو أ�نني �أعتقد �أن ذلك لا يهم أ�ح ًدا �سوانا ،فنحن فى الحقيقة �أ�صدقاء منذ ما قبل الولادة و�أ�صحاب عبر �أيام الطفولة وال�صبا الخ�ضراء في تلك القرية التي تمتد بين البحر القديم وج�سر قطار وجه بحرى (الفرن�ساوى) كالكذبة الجميلة ..ورفاق خلال �أيام ال�شباب والكهولة وحيث كان الحلم ُيخفف عنا عذابات الزنازين فى كل هذه المدن الظالمة المحترقة التي عبرنا �أمجادها المد َّمرة وهزائمها النبيلة -ظل ًّا و�صاحبه. كن ُت ( أ�نا) �أيام الطفولة وال�صبا فرا�شة تجوب الحقول ..ترتع حرة بين ج�سور الفول الحراتي و أ��سوار التين ال�شوكي و�شوالي الحليب في خزانات الطين القديمة التي لا أ�قفال لها .. 24
(فرج) وتحول الجن في حجرهما من أ�رانب ألحذية قديمة .. وحكاياتك �أنت مع المارد الذي لقيته مع (ح�سن العربي) أ�مام بيت (ال�شهايبة) جح�ًشا م�سالمًا �أحقر من جح�شة (ظاظا) يدعوك للركوب بل�سان ف�صيح ..وبينما ف َّر (ح�سن) ركبت أ�نت .وحين فاج�أك الجح�ش بالارتفاع أ�على من نخلة (يا�سين) ،أ�نقذتك ن�صاحتك ومعرفتك اللا محدودة ب�أمور العفاريت ،التي تدفعك للاحتفاظ بالم�سلة جاهزة دائ ًما في جيبك ،تخرجها ب�سرعة البرق وتنخ�سه بقوة ( ..فن َّخ وفقد ارتفاعه و�سار بك طائ ًعا ك�أي جح�ش �أليف تدور به في حواري القرية !) (تب�صر من �ش َّراعات نوافذها وفتحات مقاعدها ،خلفيات الرجال العارية وهي منكفئة على �أج�ساد الن�سوة العلوق وهن يت�أوهن ويت�أودن). لكل امر�أة طعم نح�سه ،و�صوت ن�سمع هم�سه ،لكل واحدة نغمة تختلف عن ا ألخرى (وجيدة) غير (بهية) و(زينب) الم َ�س ْلوعة غير (زكية) ذات الج�سم ال�ضخم التي يبلغ حجم فردة ثديها حجم طفل �صغير �سمين ،والتي (ت أ�خذ زوجها النحيل كال�سحلية بين فخديها الهائلين لينزلق فوق بطنها القبة متقاف ًزا في هو�س فوق ت�ضاري�سها كالبرغوت اللا�سع ) ،لكنه قادر دائ ًما �أن يحكمها وي�شكمها .فت�صدر �آهاتها الم�سر�سعة الملتوية التي ي�ضحكنا من القلب تقليدك لها ..وكلهن غير(ام بهلول) التي تبوح ب�أغنية خا�صة لكل رجل يركبها .فهي (ترتل) كال�شيخة ( آ�منة) عندما تكون في ح�ضن زوجها الكهل ..و(تلعلع) مثل بنت (دعب�س) في ا ألفراح و( تئن) تحت وط�أة عنفوان الواد (بكير) العربجي �صديق ابنها ..و(تنفخ) محمومة مثل ناقة (ال�صح�صاح) في أ�نفا�س طويلة ملتذة مع الرجل ال�ساهي ؛ جارها المدر�س الذي من ع�شر �سنوات ي ؤ�جل زواجه من بنت ال�شيخ (ابو حامد) 27
النحيل .منتزع من جثة رجل لها �صورة �أخرى ..ليعقد لك الزعامة عليهم ويجعلهم يخ�ضعون ل�سلطانك وي�ستمعون �شغوفين لحكاياتك عن البنات والن�ساء والحيوانات ودور النوم مع الحمير في زيادة حجم �آلتك .. عن بنت (غانم) التي تتلوى وتتمرغ عارية تحت �أقدامك في ع�شة فراخ أ�مها ال�شلق ,التي تجل�س على را�س الحارة تخانق طوب ا ألر�ض وتبيع بقايا خيرات الحقول ..بينما ابنتها تمار�س الجن�س معك في خزانة الحبوب .. وعن زوجة ابن جاركم ال�صبية التي تحت�ضنك لاهثة فيما بين البرميل والزير في الركن متح�صنة من اللوم بحنان أ�مومي كاذب لا يخفي زيفه القمي�ص ال�شفاف المبلول ,لتعو�ض بحرارتك برودة ليال طويلة من الحرمان ال�شرعي ! وعن ذلك الأ�سطى الفت َّوة ذي ال�شارب المبروم وال�صوت العالي ، الذي يتحكم في ميدان المحطة وال�سوق كله ,بكلمة لا ترد وهو ملقى تحتك فوق كوم التبن القذر يت أ�وه ككلبة لائدة . الكل يتبعونك فج أ�ة عندما ترتدي ملاب�سك وتعود جريًا إ�لى القرية ،ك�أنما �ضربتك نزوة مفاجئة ليتابعوا في �شغف يدك ال�ساحرة وهي تر�سم على الأوراق بالقلم ،وبا أللوان الطبا�شير على الحيطان القليلة المب َّي�ضة بالجير � ،أ�شكال ًا تكاد تكون حقيقية لحمير وبط وب�شر� ..أو ت�شكل من طين ال�صل�صال �أ�شكال ًا على هيئة الطير والحيوانات ,تطلقها فتكاد تم�شي �أو تخور مرددة ا�سمك أ�و كلماتك الملحنة الملحونة ..التي تعطيها أ�نغا ًما من فمك نرددها خلفك م�سحورين . وعند (خرنف�شة) عيو�شة في الليل ت�ستح�ضرجنياتك وعفاريتك تبعث في قلوبنا ال�ساذجة الرعب الذي ي�ضخمه في ليالي ال�شتاء رعد ال�سماء وخيالات ظلمة الأر�ض .و�أنت تحا�صرنا بحكايات (فريحة) وزوجها 26
كذباب �ضخم .ن�سقطها بالجريد والغاب ونظل نطاردها حتى يحول بيننا وبينها الظلام الحالك .وتحر�ضنا في أ�وقات الفراغ على �صيد الدبابير �أو الرعا�شات تثقب بطونها وتدخل خيو ًطا طويلة فيها ..لتطير وهي مربوطة أليدينا فنغزوا بها حواري القرية �صائحين ب أ��صواتها لنفزع أ�طفال ك َّتاب ال�شيخ (محمد الأزرق) ..الذي يطاردنا ويمد الولد الذي يطوله منا في الفلكة ،فنعود ونحاول تحريره بالطوب ..ويغ�ضب أ�بي دائ ًما عندما ت�صله (ال�شكاوى) وك أ�ننى وحدى الذى يفعل كل ذلك يكون غ�ضبه أ�كبر ألنه يراني �أتبعك كالمريد و�أجري وراءك كالم�سحور فيثور ,وت َورم الخرزانة م ؤ�خرتي ولا �أتوب ! ف�أنت ..كنت ال�ساحر المده�ش الخلاق ..و�أنا في جلبابك تحت جلدك أ�حاول اللحاق بك مثقل ًا بمواعظ خالي (ال�سعيد) مرعو ًبا من قر�صاته ألذني ..محمل ًا بن�صائح أ�مي بنت (يو�سف) أ�رزح تحت أ�كوام كتب بليدة وم�سائل ح�ساب معقدة وكلمات أ�جنبية �سخيفة .بينما أ�نت الذي تخففت منها ،تخفف عني ..وتدفعني لتجاهلها أ�و تحديها والانت�صار عليها . ت�صعد بي نخل (ال�شهايبة) لآكل من ع�سل بلحه النادر ،تعبر بي البحر ال�صغير في ن َف�س واحد ..فوق الماء وتحت الماء لنترب�ص بطيور (ابو الخ�ضير) التي تحفر بيوتها في �سباخ التلول المالح ..نطارد الغربان التي تبني �أع�شا�شها فوق كافورة (ال�شيخ علي) العملاقة ونواجه زعيقها بنعيق أ��شد و�أقوى ،فتفر من أ�مامنا كالغربان . و أ�نت الذي علمتني تلك العادة ال�سحرية المفعمة باللذة الغام�ضة حتى قبل أ�ن �أفلح في التع ّرف على ذلك ال�سائل المده�ش ،الذي لم يكن 29
البكرية هر ًبا من �سطوة أ�مها ال�شعنونة التى تتلذذ بعقابه على نجاحه في امتلاك قلب بنتها الحلوة التي تع�شقه لإتقانه غناء أ�غنية (�صالح عبد الحي) (ليه يا بنف�سج) ب�صوت �ساحر مغر ومثير . كل حكايات الن�ساء عندك ملونة ملحنة حية .تجعلنا نعي�ش حالة �شجن وانبهار تجعلنا .نح�س نعومة ملم�س الح�صر والبطاطين ,وخ�شونة الق�ش المهرو�س تحت وط أ�ة ا ألج�ساد المحمومة ..ون�شم رائحة العرق بل ورائحة المن ّي ونحن نخو�ض الليل الدام�س عند خرنف�شة (عيو�شة) أ�و نخلة (يا�سين) أ�و نعبر خلفك في تح ٍّد مقبرة (علي ابو ح�سن) ..أ�و نتلا�صق في فتحات مقابر ( أ�بو خ�شبة) الخالية �إلا من بقايا عظام الجدود المتح ِّللين لتراب ناعم ،نكب�شه في انفعال ونر�ش به بع�ضنا البع�ض ،حين تحتدم الحكايا وتحركنا نعومة ا أللحفة الحريرية على �سراير العرائ�س� ..أو تخم�شنا خ�شونة العباءات على ا ألفران وتل�سعنا �سخونة الانفعال وليونة الانحناءات وح َّدة ا آلهات .و�أنت تلقي حولنا بعفاريتك ال�صغيرة .تحيط بنا هم�ساتها ال�شيطانية فتتج�سد لنا ولا يراها إ�لا أ�نت .ون�سمعها ولا يفهمها إ�لا أ�نت ..فتملكنا �أ�سرى الرغبة في ا�ستمرار حديثك �إلى الأبد ..نتر َّجاك لو �سك َّت ،نحايلك لو �صم َّت ..ونتر�ضاك لو غ�ضبت .. ن�سلم زمامنا لك ..م�سلوبي الإرادة ..فتقودنا لغزو (توتة عبد الجليل) ..تعلمنا �صيد الأ�سماك الكبيرة التي لا ت�أبه ب�صنانيرنا الهايفة � .أو ت�سوقنا ل�سرقة �صندوق نذور (�سيدي مجاهد) أ�و( �سيدى االبهلول ) ول إلغارة على ب�ستان (على ابو ح�سن) المليء كالجنة بما لذ وطاب من فاكهة و�أعناب ..تدربنا عند قدوم الم�ساء على حرب الوطاويط التي تنطلق مع �ضجة الم�ساء من مراب�ضها في �سكون النهار ،تم أل �سماء القرية طائرة بين البيوت 28
النجاة من الأ�سر ..يغط�سون في عيون ماء لها روائح ت�سكر الع�شاق .. يعبرون في ُي�سرْ مياه ا ألنهار ،ويط�أون النار غير عابئين بلهب الجمرات ولا رمال ا أل�شواك ..تحيط بهم نغمات مو�سيقى إ�لاهية �سحرية تعزفها �آلات خفية تملأ بروعتها الم�سافة بين ظلام القاعات الفقيرة الوهمي ونور ال�شا�شات الملون . حتى أ��صل معك ومعهم ,حين انتقلنا �إلى (المن�صورة) .إ�لى ذلك الك�شك العجيب ال�ساحر المزدحم بالكتب القديمة في �شارع (�سيدي عبد القادر) .ت�سكرني رائحة ا ألوراق حيث يبهرك أ�ن الكتاب تمتلكه بخم�سة مليمات ليحملك عبر بوابات الخيال إ�لى مدن لا تنام ول�صو�ص لا يموتون ..ولا ت�صد إ�راداتهم �أبواب أ�و جدران ،ب�صحبة فر�سان لا يكفون عن إ�نقاذ الن�ساء وممار�سة الحب والغرام فوق ال�شرفات أ�و تحت ظلال ا أل�شجار، وحيث فى كرم يدعونك لم�شاركتهم تعرية الن�ساء في أ��س َّرتهن ال�شرعية التي يمتلكها أ�زواج كريهين مت�سلطين بلهاء ذوو كرو�ش وعرو�ش ،ولهم نفوذ و�سلطات غا�شمة تقهر النا�س وتعجز عن قهر القلوب.. ب�شر لا يكفون عن ممار�سة الحب وهم يقاتلون ..وقرا�صنة �أفذاذ لهم هالات مقد�سة ،يدمرون الممالك الفا�سدة ويغرقون �سفن الملوك والحكام الج�شعين الذين في قتلهم بلا رحمة خلا�ص العبيد والم�ساكين والفقراء و�سعادة الع�شاق الذين �شاركتهم الرق�ص والقتال والغناء . فن�ستطيع بف�ضلهم أ�ن نكتب أ�غنيات ذات �إيقاع ونغم يبعث على الحزن والألم اكثر مما ي�شي بال�سرور ..تدفعنا م ًعا �إلى ع�شق البنت (عزيزة) بنت (عبا�س) ..التي ربطتنا كثورين م�سالمين �إلى عربتها ننقل لها الطمي للتتريب تحت البهائم في الزريبة ..كي ت�صنع من عجينته المخلوطة ببول 31
قد تك َّون بعد ،لي�ضعني على أ�عتاب ال�شباب .والذي يوم تدفق فج�أة و�أنا أ�حلم اننى أ�نام فى �أح�ضان (زهزهان) .ف أ�رعبني و�أثار ده�شة لم تنطفئ ق�شعريرتها حتى ا آلن .. كيف يمكن إ�ذن أ�ن أ�نف�ضك عن كاهلي يا �صديقي و�أن �أنزع �أقنعتك عن وجهي ،دون أ�ن �أذكر كل التفا�صيل ..كل الحكايات بال�ضبط .مثلما يطرد كهنة البدائيين الجن من أ�ج�ساد المم�سو�سين بدقات الطبول البدائية، �أو تلاوة كلمات الذكر الحكيم و�أدعية ا إليمان القد�سية � ..أو بذكر لفظ الجلالة و�أ�سمائه ال�سرية والتعوذ بها من ال�شياطين ،مثلما يف�سد �سحرة القبائل �سحر الأعمال ال�سرية بك�شف �شفرات رموزها وقراءتها �صراحة ، وف�ضح معنى حروفها الغريبة وكلماتها التي بلا معنى ظاهر ..فتنفك ُعقد ا ألل�سنة و ُتهتك أ��ستار �صانعيها ،فت�صبح عادية لا قوة لها ..لا ت�ضر بعد ولا تنفع .ف أ�ملك قوة للتطاول عليك ..أ�طاول بهامتي هامتك .وتقوي قب�ضتي لأتخل�ص من قب�ضتك ..أ�نظر في عيونك دون خوف و�أتحرر من جبروتك الذي ملكني حتى ا آلن منذ أ�طلعتني على �أول كتاب انتهك براءة مخي ..وح�شاه بخيالات ور�سوم وب�شر و�آلهة عجيبة ت�شبه مخلوقاتها ، وعمالقة �صارمين لا يعرفون الرحمة يطلقون �سهام �صواعقهم على خيول نارية لعربة تعبر بال�شم�س من ق�صر ا آللهة (�شرق الهند) إ�لى حيث تنام فيما وراء قبة (�سيدي مجاهد) بعد أ�ن يجهدها جلد أ�ج�ساد ب�شر لهم ر ؤ�و�س ثيران في متاهات لا فكاك منها .وحقول مجدبة لا تكف عن �إنجاب ب�شر يتنا�سلون .ولا يموتون ب�ضربات خناجر م�سمومة ولا ينزفون دماء تحت طعنات الرماح وال�سيوف ،لكنهم ي�ستطيعون ال�صعود لل�سماء كلما �شاءوا يقاتلون ال�شياطين وا آللهة وهم يرتدون ملاب�س من ري�ش .عندما يريدون التحول �إلى طيور .أ�و يحتمون بقرون �صلبة لغزلان برية عندما يطلبون 30
تعانقنا نحن الثلاثة مرة أ�خرى حتى جفت ملاب�سنا ..و�ضحكنا من القلب عندما اعترفت لنا �أنها كانت تراقبنا �سعيدة ونحن ننه�ش بع�ضنا .ولم تتدخل .كتمنا �ضحكتنا مذهولين ثم اندفعنا نحوها دون اتفاق غا�ضبين ،فارتعبت .ولم نتركها إ�لا بعد �أن أ��شبعناها �ضر ًبا ..ثم ركل َتها �أنت ركلة �ألقتها �صامتة مذهولة في القناة حيث كنا ..وم�ضينا دون �أن ننظر إ�ليها ولم نبادلها كلمة واحدة ولم يقترب �أحدنا منها بعد ذلك .. وك�أنما هو مقدر لنا الا تختفى �شم�س البنات من حياتى بغيابها الدرامى الم�ؤ�سف ظهرت (عزيزة) �أخرى فج�أة لتطلب مني طل ًبا غري ًبا - (عزيزة) بنت (رزق) تلك التي وقع ُت دونك في غرامها وا�شترطت لكي تم�شي معي (م�شي النا�س اللي ُه َّمه) أ�ن �أح�ضر لها زجاجة بنج �صغيرة ، ألنها كانت حامل وتريد �إ�سقاط الجنين تجن ًبا للف�ضيحة ..والداية طلبت منها ذلك البنج لتقوم بالمهمة دون أ�خطار . و�سرق َت لي زجاجة البنج من الم�ست�شفى � .أعطيتها لي في كرم و إ�يثار � ،أخذ ُتها إ�ليها و أ�نا �أكاد أ�موت من الحزن والرعب ..ألنك بخبرتك حذرتني (�أن الحكاية �ستكون م�صيبة لو جرى للبنت حاجة وماتت أ�ثناء العملية) ،واعترفت بمن �أح�ضر لها البنج .لكن الله �سلم ونجت (عزيزة) . ف�سخر َت مني فى البداية ألنها لم تنفذ وعدها لي ..لكنك �أجبرتها أ�ن تعود إ�ل َّي غ�ص ًبا .بعد أ�ن �سحبتها �إلى غابة (ال�ساحل) لقاء حبتين طماطم وبي�ضة ورغيف أ�بي�ض .وعندما ظهرت أ�نا -ظلت ترف�ضني خو ًفا من الف�ضيحة لأنني ع َيل وكثير الكلام ..ورغم �إحباطي ،أ�عطيتها خم�سة قرو�ش كاملة جعلتها ت�شهق وترتمي على ظهرها ،وحين تركتنا أ�نت لن�أخذ حريتنا ..لم �أفعل �شي ًئا� ،سوى �أن �سترتها وجل�ست �إلى جانبها �أتكلم كلاما كثيرا اعتذر لها و�أوا�سيها و�أنا �أبكي بدموع حقيقية ،فقبلتني وم�ضت.. 33
الثور والبقرة �سما ًدا ُيك�سب �أر�ض النيل خ�صوبتها على الدوام ،نغ�سل لها جامو�ستها في البحر ال�صغير ،ونحن نتقافز كال�ضفادع حولها وفوقها نتح�ّس�س أ�ع�ضاءها لنثير �شهوة البنت الجال�سة دون تحفظ وقد ك�شفت �أ�شياءها المحتقنة على ال�شاطئ .ت�ضاحكنا لنر�شها بالماء ..وننقل لها التبن للزريبة -خزين المو�سم كله ونح�ش لعنزاتها البر�سيم .. وفي وقت راحتنا نخطفها لنقبلها (�شركة) في مخزن الدري�س والعليق ،و�سط رائحة ال َّر َوث النفاذة ..تعطي نه ًدا لكل م َّنا فنر�ضع ك�أطفال النيل ..ثم �أن�شغل بالغناء .بينما ت�ستحوذ أ�نت على معظم �أر�ض المعركة ،ف أ�حاول لملمة فلول جيو�شي متعث ًرا عند ا ألطراف في الكلمات المنظومة .و�أغار منك يغيظني تماديك حتى الغ�ضب ,فنظل نت�ضارب تحت المطر في ال�ضحى الوح�شي ال�شتوي ..و�سط الحقل الخالي الذي أ�نهينا (ح�ش بر�سيمه) إ�ر�ضاء لها.. لا �أحد قريب يخل�ص �أحدنا من ا آلخر .ولا �أحد عابر نحتكم �إليه ، حتى يه َّدنا ال�صراع والت�ضارب ،فنرتمى �إلى جوار بع�ضنا في القناة الغارقة في المياه نلهث ونبكي ثيابنا المدر�سية التي تلطخت بالطمي والخ�ضرة �إلى �أن نرتاح فنعاود الا�شتباك �ضر ًبا ورف�ًسا وع ًّ�ضا ككلبين ا�شتبكا دون �أمل في الخلا�ص .و انفجر باك ًيا حين ك َّف المطر ..وت�صرخ بي ناد ًما (�أنت ال�سبب) ألنني قلت لها كلا ًما منغ ًما يغيظك ،و ألنني أ�عرف أ��سماء بلدان أ�كثر منك ..لت�صالحنى وتم�سح دموعي في حنان .. يومها �صالحتني وتنازلت لي عنها .بعد أ�ن �ساعدتني في غ�سل ملاب�سي ون�شرها على غ�صون �شجرة الجميز ..وبقينا نرتع�ش بجوار جدار الزريبة القبلي ن�ستجدي ال�شم�س حتى جاءت �ضاحكة و أ��شعلت لنا راكية نار هائلة .. 32
�أجل�س فاغ ًرا فمي �أرفرف حول حبال خيالك � .أذوب ع�ش ًقا في كلماتك و�أحفظها � .أنت ال�ساحر الذي ي�ستطيع أ�ن ي�ض َّم العالم في ك ِّفه ليفرده �أمامى .خلفك �أجوب الأفراح والموالد ،مت َّيم �أنا بتراتيلك و�شعرك .. مجذوب بالخيط ال�سحري الذي ل�ضمنا م ًعا في كيان واحد � .أ�سير لا تف ُّك الم�سافات أ��سري فيك ..ولا يقطعه الرحيل إ�لى المدن البعيدة ..أ�حملك تحت جلدي إ�لى بلاد تف�صل بينها وبين �أر�ض (عزيزة بنت عبا�س) و(عزيزة بنت رزق) و(مديحة بنت ام نمر) و(نجاة بنت حمادة الم�صري) وعزيزات كثر �أخر و�صحاري وبحار و�أهواء �صغيرة .تحول بينها وبيننا أ�حداث مهولة وهزائم �أكبر حج ًما من قدرات كينونتك التي لا تكف عن التوا�ؤم والتوالد والإبداع .لت�شكل ملامح كينونتي .وتعطيني ملامحي ،ولكنها تكبل روحي لفلكك الذي لم يكف أ�ب ًدا حتى في عتمة الزنازين الانفرادية ,عن الدوران حول المركز ،الذي تم َّرغنا م ًعا في طميه النيلى المقد�س الممزوج بخ�ضرة بر�سيمه الرطب ،ذات نهار �شتوي ممطر على مرمى ب�صر (عزيزة بنت عبا�س) . ••• 35
�أنت لم ت�صدقني أ�بدا وتح َّججت ب أ�نك لا تذكر �شيئا من تلك التفاهات ..ف أ�نت كما تقول (لك دماغ واحد وذاكرة عادية و إ�ن كنت ب�ألف يد و�ألف عين ).لك حق ..كيف يذكر مثلك هذه التفا�صيل التافهة ال�صغيرة التي تحدث لعامة الب�شر ،ف أ�نت ربيت �أ�سواق ،ج َّواب آ�فاق ,غ َّرا�س �أ�شجار وفت َّوة ..وح َّفار ترع و�صانع ومحطم �أقفال ,و�شرا�شر وف ؤ�و�س . أ�نت المـغ ِّني ،عازف الربابة � .سحبتني خلفك إ�لى بلاد وعزب وكفور ت�سهر حتى ال�صباح في الليالي الباردة وا ألم�سيات المقمرة ..على �ضوء كلو َّبات الجاز ت�أ�سرنا �سهارى حتى الفجر نحارب مع (�أبو زيد) ون�أ�سى (لدياب) ونتناف�س على ع�شق (الجازية) .كنت وحدك من يحفظ كل هذه الكلمات التي بلا نهاية والتي ت�ضج ب�أحداث الحروب والقتال والمبارزات والمجاعات التي ت�ضطر الجوعى للهجرة والغربة. كنت تخترع وتقول في و�سط هذه الموالد ما يده�شنا وي�أخذ بقلوبنا .تعزفها على أ�وتار الربابة أ�و تلوح بها على طرف ع�صا الموال ،المز َّوقة بالورق الملون و أ�نت تخترع �صو ًرا مده�شة �ضاحكة ..لا تتوقف الكلمات الفا�ضحة على ل�سانك : عجبي على حداد بي�ضرب في مرازبه �سهران طول الليل وعينه على مرازبه لا ينام ولا يهدا إ�لا وفى المرة !....... تنفجر ال�سهرة ب آ�اهات ال�ساهرين وترتفع �صيحة (الله اكبر) ..إ�عجابا بهذا ا إلعجاز ..أ�نت الذي لم يقر أ� ولم يف ّك الخط مثلي في المدار�س . ولم تعرف الجغرافيا ولا الإنجليزي ،تتلقي �إعجاب الجميع بينما �أنا الذي يكتب كلا ًما منغ ًما -أ�غ َ�ضبك ذات يوم وجعلك ت�ضربني �أمام (عزيزة) - 34
وينزل بالفا�س على ر�أ�س الج�سر ليح ِّول المياة �إلى �أر�ض الطير وي�ضحك من قلبه ألن أ�ح ًدا لم ير المماليك يرق�صون ويعربدون .. -ن�سوان وخمرة ؟! ..حلو قوي ،إ�حنا بقى ما �شفنا�ش �إلا الن�سوان أ�مات عراقيب تدبح الأرنب والم� ّش ابو دوده ..يا عمي اترك الملك للمالك. يقولها ويم�ضي ،وك�أنه يخزي العين ..فقد تزوج بامر�أة ذات جمال ملحوظ ! �أجيال ..وراء أ�جيال ا�ستهلكوا �أجيال ًا بعد �أجيال من تلك البيوت الطينية ،وا�ستهلكتهم .وهي تتراكم طبقات من ا ألنقا�ض فوق بع�ضها وفوقهم ..ع�ضم ولحم طوب وطمى .ليت�شكل ذلك الارتفاع الملحوظ لو�سط البلد ،حيث يقع الجامع الكبير ذو المئذنة الفارهة ،التي ُبنيت لتباهي القرية بها القرى المجاورة ..منت�صبة في منت�صف �شارع ال�سوق ، الذي يمتد مختر ًقا القرية من غربها ل�شرقها ،منحن ًيا يتل َّوى كثعبان أ��سطوري طويل الذيل ..لا ر أ��س له ..تنحدر منه الحواري وال�شوارع �شمال ًا نحو �شط البحر القديم ،الذي يندفع جنو ًبا من (المغذي) عاب ًرا (اله َّدار) منحن ًيا عند جنينة (علي ابو ح�سن) التي تف�صله عن تل ( أ�بو خ�شبة) الذي تراكمت عليه المقابر القديمة فا�صل ًة غرب البلد عن مقام (�سيدي مجاهد �أبو عبد الوهاب) حامي حمى القرية ،وحار�سها وج ّد عائلة (ال�شرفا) ليم�ضى بعد تلك الانحناءة الفجائية م�ستقيما نحو ال�شرق حتى ترعة الجوابر حيث (ه ْرى) �ساقية العفاريت الممتد ككهف مظلم طويل تحت ج�سره قاطعا الم�ساحة الغام�ضة �شرق (بيت احمد ابو ق�صبى) حتى ال�ساقية المهجورة التى تحيطها غابة من �أ�شجار الجميز ت�صنع معها مكانا �سحريا يليق �أن 37
بع�ضهم لبع�ض .. لا أ�حد من �أهالي (ميت �سل�سيل) المعا�صرين إ�هتم أ�ن يعرف �سر هذه الت�سمية ولا معناها ..لا أ�حد يريد .فا ألقدار هي التي تختار لنا في �أي �أر�ض نولد وعلى �أي �أر�ض نموت ..وما الفائدة وراء �أ�سئلة لن تغير من ا ألمر �شي ًئا .وماذا يفيدنا �أن تكون (ميت) هذه كلمة فرعونية تعنى (طريق) �أو أ�ن (ميت �سل�سيل) تعني مكان الطرب واللهو .. �أطلقه المماليك الذين كانوا ير ِّوحون عن أ�نف�سهم على �شاطئ البحيرة ..فما علاقتنا بالفراعين �أو المماليك ..والخلق تدور في طاحونة الرزق ال�ضيق. �سي�شوح لك أ�ي فلاح بذراعه في �ضيق �إذا ما ذكرت له �شي ًئا من ذلك مثلما فعل (حلمي) ابن عمتك (فرحة)حين قال لك : -الفراعنة ؟! ..كان فرعون جبار كافر والعياذ بالله.. 36
ناف ًرا تحت طربو�ش (عبد اللطيف افندي) الذي يكتب �شع ًرا منظو ًما مق ًّفى منذ كان على حجر أ�مه في كل منا�سبات القرية و�أعيادها وجنائزها .. بذلت جهو ًدا كبيرة -لا أ�دري لها �سب ًبا أ�و هد ًفا �سوى �أنك أ�غويتنى -لمعرفة �سر هذا الا�سم ومعناه ..قبل �أن أ�كت�شف ذكره في بع�ض الكتب القديمة والخطط و�آثار البلدان .. �سمعت و�سجلت كلا ًما كثي ًرا من رجال ون�ساء عجائز � ..ص ِّييتة وفقيهات وخلابي�ص وكوديات �سودانيات وغجر وحلبيات ع َّمر بع�ضهم �أو بع�ضهن حتى �صاروا من ا ألعاجيب و أ��صبحت �أقوالهم حك ًما أ�و الغا ًزا ..وحواديت ..كت ًبا حية من لحم ودم ،مفتوحة ال�صفحات بلا حواجز لمن يريد أ�ن يقر أ� خطوط الزمن ،على جلد وجوههم وخ�شونة أ�يديهم و�صفحات عظامهم البالية ،ي�ؤكدون ما تطرحه القراءة من تخمينات . وما تدح�ضه من أ�د َّلة �أو ما ت ؤ�كده من حقائق ..ي�شكلون -وهم لا يدرون -ذلك الج�سر الغام�ض الوا�صل بين ر ؤ�ى الحلم وحقائق الطين . الج�سر الذي بدونه لم يكن من ال�سهل أ�ن ت�ستحوذ على قلبي وروحي أ�حاديث خالتي (ال�سيدة) ،التي ت أ��سر لي الخيال الجامح الفذ وت�ضعه واق ًعا ملمو�ًسا في قب�ضة يدي ال�صغيرة وقلبي البكر .ف أ�وقن �أن ذلك التعلب الماكر ( أ�بو الح�صين) الذي ُق ِّدر له أ�ن يحر�س جثث الموتى من الذئاب ب�أمر (فرعون) من بداية الزمان هو نف�سه الذي ا�ستدرج الذئب (�سرحان) وج َّره من �شهوة ج�شعه عاب ًرا به جرن دار (�أحمد) والم�سرف �إلى غيط (ال�سباخ) حيث دوار (اولاد الو�صيف) الذي تبيت فيه �أغنام (زكي الزروطي) بعد أ�ن أ�قنعه بوا�سطة قطعة من الورق قال له أ�نها دعوة ملكية لهما ألول م َّرة في التاريخ كي يلتهما ما ي�شاء لهما جوعهما ونهمهما من جديان وخرفان 39
يختاره ليعمره الم�سحور وجنياته ويتخذه معهن �سكنا و ملاذا ومكمنا للهو والعربدة طول �أيام الفي�ضان ,تفور المياه فيه و تعلو وك�أنها تغلى محدثة أ�كبر �ضجة تليق بالعفاريت ,دافعة في�ض المياه الى (البركة) التى تف�صل بين �شريط ال�سكة الحديد وبيوت واطى البلد (البركة) .التى ميزت (ميت �سل�سيل) ل�سنوات واحتفظت با�سمها رغم تحولها بعد جفافها لجرن �شا�سع ي�ستوعب محا�صيل الدرا�س طوال العام بعد انقطاع مياه الفي�ضان وهرب الجنيات إ�لى الأبد وكان اهل ميت �سل�سيل يعتقدون فى غالبيتهم و يتم�سكون ب َن�سبهم ( ألبو خ�شبة) ولي الله ال�صالح ،الذي مات وهو يقاتل ال�صليبيين -الذين هدموا (تاني�س) – بخ�شبة طول �صاري المركب ،ف�شتت �شملهم قبل �أن ي�ست�شهد ويدفن على �شاطئ (ترعة ال�سلطان) التي تحد القرية من الغرب ..وتقع على �شاطئها الغربي �سراية (عبد ربه) وفيلات �أبنائه التى �سوف ت�شيد فى قادم ا أليام على الطرز الحديثة ..وحيث أ�مامها مبا�شرة تقع (عزبة ال�سلطان) تف�صلهما عن ج�سم القرية م�ساحات من خ�ضرة ا ألر�ض الخ�صبة حول جرن (دار �أحمد) المرتفع ،الذي يظهر معل ًنا عن نف�سه ك�ساحة للمولد ،وملعب �شتوي لل�صبيان وال�شباب العاطل والطلبة ..ومكا ًنا لدر�س المحا�صيل في الموا�سم ،حيث يكاد غبار وتبن المداري يردم (الم�سرف) الذي يحيط به مندف ًعا نحو الجنوب ،عاب ًرا ال�سكة الحديد الفرن�ساوي ،ما ًّرا بمكنة (البداوية) ليف�صل عزبة الغجر إ�لى الجنوب الغربى ا ألق�صى ،بعد �أن يلازم الزراعية لم�سافة طويلة ,ثم يتركها ليمتد في ا�ستقامة إ�لى ال�شرق ،ك�ساق م�ستقيم ل�شجرة �سرو .تبدو القرية على جانبه الي�سار كع�ش (فر�س النبي) أ�و كورم ،أ�و طلوع في رقبة بني آ�دم مثل الذي يبرز 38
اليوم في (بحر ماهر) و(الخطرية) ،عبر الم�ساحات ال�شا�سعة من المياه ال�ضحلة التي تغطيها غابات (البو�ص) و(الدي�س) و(الب�شنين) والتى كانت قديمًا مغطاة ب�أ�صداف (الل ؤ�ل�ؤ) و(المرجان) ،تغ�سلها المياه الهادئة العذبة التي لم تف�سدها بعد ملوحة البحر الذي يحيط من الأربع جهات تلك المدينة البائدة المدمرة .والتي (كلام في �سرك) هي نف�سها على ما كنت اعتقد (مدينة النحا�س) المذكورة في الكتب القديمة .وكان حولها �سور عال �إذا ما �صعد فوقه الع�شاق الم�ساكين و أ�ب�صروا ما بداخلها ..لا يجدون مف ًّرا من �إلقاء �أنف�سهم من الح�سرة ..رغبة في الح�صول على بع�ض ما بها من نعم وعجائب تفتن العابد ..ب�ساتين و�أرائك م�صفوفة وزرابى مبثوثة تحت كروم العنب والفواكه ,والن�ساء الحور العاريات البكارى كالجواري ال�ساحرات .قادرات على أ�ن يتحولن �إلى طيور ..و�أن يحولن الرجال الأ�شرار إ�لى خراف أ�و كلاب �أو حجارة .ك ٌّل وقد ُره المكتوب ح�سب عمله ونيته ..ومن يذهب لا يعود .. وهل يرجع من الجنة �سوى �أهبل أ�و مجنون . يفرط كيف ؟ فيما يهبنه مع حبهن من قوة تك�سبه القدرة على تحريك الجماد ..و �سخط ا ألحياء �إلى حجارة لو �شاء � ..إذ يك�شفن له أ��سرار (ال�سيميا والكيميا) وعلم (الروكا) وال�شفاء بال�صلاة على النبي وقراءة القر�آن .وال�سحر الذي لا يدركه �سوى الموعودين . كنت مت أ�ك ًدا ،بل م ؤ�م ًنا �أن خالتي ( -و�إن �أنكرت) -واحدة ممن يمتلكون بع�ض هذه القدرات ال�سحرية والمزايا الخفية .فهى ترى ب�صعوبة �شديدة في النهار ،ال�شم�س تغ�شي عينيها ولكنها في الليل ترى لم�سافات طويلة مثلها مثل القطط والثعالب وغيرها (من طواطم �أجداد أ�جدادها 41
�أوزى بلا مقابل أ�و تعب احتفال ًا ب�سلام مزعوم بين الكلاب والذئاب . و أ�ن ذلك الرجل القليل الجرم المحني الظهر ..الذي ي�سكن بجوار الجامع الكبير كان بالأم�س البعيد عترة و أ�بهة ..و�أن زوجته (زقمانة) هي نف�سها المر أ�ة التي ا�شترت ا�سم (فاطمة النبوية) بثمن الجامو�سة اليتيمة التي يملكانها ..وهو الذي ُفجع حين حدث ذلك ؛ و إ�ن �صعبت عليه غباوتها وحلاوتها فلم يطلقها ألنه كان يحبها ..لكنه قرر �أن يطف�ش وي�سيح في الدنيا ،ف�إن وجد من هو ( أ�عبط) منها عاد �إليها ..وغفر لها لكنه يقع - لم�شيئة ربنا -على زوجة الطبيب (حبيب) قاطن ذلك البيت الذي يلوح منف�صل ًا عن قرية (الجمالية) في تعا ٍل و أ�نفة ..فتعطيه مال ًا وطعا ًما ألبيها المتوفى حين �أقنعها لما �س أ�لته عن احواله عن الدار ا آلخره �أنه ر�آه بعينيه ي�سوق القطار الذي يز ِّود (جهنم) بالفحم اللازم لإ�شعال نارها العظيمة ، التي وقودها النا�س والحجارة .. فيتبادر إ�ل َى �أن هذا هو بع�ض المكتوب والم�سجل على حجارة ال�شيخ (الم َ�سيد) ،بحروف ت�شبه نب�ش الفراخ -التي هي في الحقيقة كتابات �سريانية كما خ َمنت .ي�ستطيع �أن يقر أ�ها العارفون والوا�صلون من مريديه الذين ي ؤ�كدون في كل منا�سبة � ،أنه جاء طائ ًرا من �أر�ض الر�سول ليرابط ، وليحمي قريتنا من ال�صليبيين الغزاة هو (وابن �سلام) و(القعقاع) وباقي الأولياء الأربعين ،الذين يحيطون المنطقة ويحمون �شواطئ البحيرة التي رابطوا عليها و ليفر�ضوا نفوذهم وحمايتهم على كل �أر�ض (ال�سبخاية) و(التلول) و(الهي�ش) المحيط با ألر�ض حتى بحر الظلمات .حيث َم َرج البحرين يلتقيان ،وحيث كانت تقع (تاني�س) التي كانوا يعبرون إ�ليها في (ال�صوالي) المقطرنة الم�سحوبة ا ألطراف التي ت�شبه ما ي�ستخدمه �ص َّيادو 40
الربابة �أو ا ألراغيل مواجدهم ومواجعهم ،عبرة لمن يريد �أن يعتبر. هي قر أ�ت لي ما جاء في الكتب :أ�ن الله �أراد خي ًرا ب أ�هل هذه القرى التي تواجه (تاني�س) بعد �إ�سلامهم ..ف�أعاد الخ�صوبة إ�لى ا ألر�ض المالحة التي حرقها غ�ض ًبا عليها في الما�ضي ..فعادت �أكثر عطاء و�أوفر ثما ًرا مما كانت ..و�أعطاها من و�َسع ،فز َّود عقول أ�هلها بالعلم و أ�يديهم بالمهارة ..ف�صار ت َّجا ُرهم �أ�شطر التجار وفلاحوهم �أمهر الفلاحين ،و أ��سطواتهم أ�حرف من ي�صنع ال�سفن والمراكب .ونفخ في �صور طلاب العلم من أ�ولادها ف�صاروا من �أذكى خلق الله ( ..مثل خالك �إبراهيم) . لكنه لحكمة لا يعرفها �إلا هو -ترك بع�ض هذه القرى من قديم الزمن م�ستمرة على كفرها ..ت أ�بى الخ�ضوع ل�سلطان أ�و ملك ..وهي القرى الهالك أ�هلها ،التي كانت تمد (تاني�س) بالطعام والمياه ..ولكن ذلك كان �إلى حين .إ�ذ عاد ف�سلط عليها من خرب م�صدر قوتهم وافترائهم .. وح َّولها �إلى �أنقا�ض و�سبخ لتكون عبرة لمن يعتبر ..ولا أ�حد يعتبر .. كان الخليفة بنف�سه ،ينزل إ�ليها من (بغداد) متخف ًيا في زي التجار .أ�و في ثياب الهائمين في حب الله -ليعرف أ�حوال الرعية ويمنع ظلم ع َّماله الق�ساة ،الذين امت�صوا دمها على مدار ال�سنين ،وليرفع عن الغلابة الكم�مسااكحيدن الثظ.ل.ملبونيقييم(�اسللع�دسيلل.).نعخمو ًف.ا .أ�(ن�يسل��صسي َّبلا)للههذعاليكهاانغم�لضب ًكهام َّعرةظ�أي ًمخار.ى. مار ًدا ( ..كالفرعون) ر�أ�سه يطول ال�سحاب ..وقدمه حافية أ�كبر من الجامو�سة ،وكان عنده �أبناء كثيرون ل�سانهم طويل ..ما �شاء الله مثلك ,و ُملك لا ُملك مثله ..كانت بلدكم هذه ت�سمى (منية بني �سل�سيل) �أر أ�يت ..؟ �سميت با�سم أ�بنائه ما �شاء الله ..ولكن كان له ابنان هما المق َّدمان لديه دون إ�خوتهم �أجمعين . 43
الغابرين) .أ�و على ا ألقل هي من المك�شوف عنهم الحجاب .فما ت�صنعه من العجائب -أ�قلها قدرتها على قراءة اللغة ال�سريانية ..فحين �أح�ضرت لها بع ً�ضا من حروفها المنقو�شة على ذلك الحجر من بقايا (الم�سيد) قر�أ ْتها وف�سرَّ ْت لي معانيها ،لكنها عندما عرفت كيف ومن �أين جئت بها ،في منت�صف ليلة كحل م�ضلمة -فزعت وا�ستعاذت بالله ورقتني وب َّخرتني .وظلت طوال الليل تتلو تعاويذ غام�ضة و ُرقى ،لكي تمنع العفاريت من التم ُّكن من ج ِّتتي ،وقد فعلتها ..نعم كانت ت�ستطيع ذلك ..هذا م ؤ�كد ،هي تعرف كل ذلك ..و�إلا من أ�ين عرفت �أخبار كل ه�ؤلاء الذين تحكي عنهم � ..أولئك الذين ت�أكد لي معا�شرتها لهم ،وقربها الحميم منهم لدرجة �أنها ر أ�تهم ر أ�ي العين ولم�ستهم ..و�صاحبتهم وهم يركبون الريح وي�صعدون �إلى ال�سماء لي�سترقوا ال�سمع لت�سبيح الملائكة -مع أ�نهم كفرة لا يعرفون الله ولا يركعونها .. لذا ترميهم الملائكة بال�شهب لي�سقطوا محترقين .لكنهم يعاودون . فقد ُكتب عليهم �ألا يفلتوا �أب ًدا من هذه اللعنة الربانية ،فلا يك ُّفون عن محاولة ال�صعود ،ب�أجنحة خفية تنبت لهم ك َّلما حرق الملائكة ري�ش �أجنحتهم القديمة .. نعم هي منهم وتعرف �سر تحكمهم في طاقات ال�سر ا ألعظم وحق (كن فيكون) ..و إ�لا ما �سمعتها تحدث الن�ساء الخفيات ،اللائي يظهرن فقط لمن يحببن .ويختفين عمن يردن �سلب عقله منهم ،بعد �إ�شعال مواجد القلوب ،فيتركون الدنيا وما فيها ويهيمون على وجوههم ين�شدون ال�شعر زاهدين في ُمتع الج�سد ..أ�و ملتجئين �إلي حماية الأولياء .هائمين في مدح أ�هل (بيت النبي) اعتذا ًرا وتوبة وذوبا ًنا في حب الر�سول يحكون على 42
..هو مجرد حار�س عليها فقط .نعم ،خالتي أ�كدت �أنها (ج ِّن َّية) ورقتني وع َّوذتني بالله من �شر �سحرها ..فهي من �سلالة الذين تز َّوجوا جن َّيات البحيرة ..وتعلموا على �أيديهن �صناعة الحرير الذي ا�ش ُتهرت به (تاني�س) . ِمث ُله كذلك ( ،نعيمة العامية) التي ُك�شف عنها الحجاب فكانت ترى (عزرائيل) ..وتب�صره حين يحوم حول القرية في ن�صا�ص الليالي ،ليقب�ض أ�رواح ال�صبايا العذارى فت�صرخ محذرة ..لي�سود القرية �صمت غام�ض . تن�ش ُّل معه حركة العذارى البكارى في فرا�شهن � .إلا تلك التي وقع عليها الاختيار ..تت�سلل خارجة إ�لى الخلاء خفية ،ليجدوها في ال�صباح جثة هامدة في البحر غريقة � ،أو على التل مذبوحة أ�و محروقة �صعدت منها الروح إ�لى ال�سماء لحكمة لا يعلمها إ�لا علام الغيوب !! زهقت من ا إللحاح على كل من لهم في تواريخ البلدان والقرى .. لكن �أح ًدا لم ي ؤ�كد كلام خالتي ولا وافق على ما تقول كتب خالي ..فلا أ�حد يذكر بال�ضبط متى بد�أت هذه الخرافة .وي َّدعون أ�نه لا �أحد يذكرها �إلا �أنا ..لغر�ض في نف�سي . ال�شيخ (علي �أبو د�سوقي) حذرني �أن أ�خو�ض فيما لا أ�عرف ،ف�أكفر � ..أكثر مما �أنا فيه ..وطلب �أن أ�نتبه لدرو�سي �أح�سن و�أف�ضل ..اترك الخلق للخالق ..فالنا�س ما ُخلقت �إلا لتعبد الله وتت�أمل في عظمة خلقه لا أ�ن ت�س أ�ل عما وراء الحجب وتخو�ض بلا علم فيما لا ق َبل للب�شر بفهمه.. (الجدل يفتح الباب لموت القلب) ..والدنيا على ما هي عليه منذ أ�ر�سى روا�سيها ملك الملوك ،على هذه الأر�ض ( .وما خلقت الإن�س والجن إ�لا ليعبدون) فكن في حالك واتق الله .لكنني لم أ�رعو .وكنت أ�جادله و أ��صر 45
كان لكل منهما (جنة) .فيها ما لا عين ر أ�ت ولا خطر على قلب ب�شر ..كانت ا ألولى ا�سمها ( ..منية بدر بن �سل�سيل) والتانية (منية مرجا بن �سل�سيل) ومازالت حتى ا آلن ا�سمها (ميت مرجا �سل�سيل) � .أما (منية بدر) فقد حرقتها لعنة الله ..نعم ..مذكور ذلك في القر�آن (جنتان عن يمين و�شمال) ..مثل جنة ربنا الأولى .هكذا �شاءت �إرادته ..نعم �( ..إذ قال ل�صاحبه وهو يحاوره) ! ..وارجع بنف�سك �إلى الم�صحف ال�شريف تعرف كل �شيء ..كان (بدر) يم�شي مختال ًا ..وك أ�نه هو الذي خ َّرض� و أ�ثمر ..فتخطى حدوده .و�س أ�ل في كبر وتجبر �أر أ�يت مثل هذا؟ ..قيل له لو قلت (ما �شاء الله) لكنه �ضحك و�سخر منه ..ور ُّبك لا يقبل ال�سخرية.. �صبح لقاها بلقع !. -ندم ..ولكن هل ينفع الندم ؟ ..كل ده مكتوب ..وم�سجل في الكتب ..وا�س أ�ل خالك ( إ�براهيم) ..والكتاب �أهه.. �أ�شارت لي .ف�ألقت بي في خ�ضم �صاخب من ال�صفحات والحكايات ..تكاد كل منها �أن تتج�سد �أمامي وحولي واق ًعا ماد ًّيا كدت �ألم�سه في الجدران وال�شجر والحجر ..بيوت و�أماكن لا تموت ..و ك�أنما عاينت بنف�سي (تاني�س) القديمة تتحدث إ�ل َّي بل�سانهم ..تبعث لي ب�إ�شارات و�صور ..ر أ�يتهم مثلها -ر أ�ي العين -نعم ..ف أ�نا لا يمكن �أن �أخ ِّمن متى ُولد هذا ال�شيخ الذي يقولون إ�نه وعي على البلد وهي أ�ع�شا�ش .ولا يدخل �أحد بيته ولا يرى مخلوق أ�هله ..ولا ينظر أ�حد أ�خته ال�ساحرة (زهزهان) التي لي�ست من دمه كما يدعي ،فهي لا ت�شبهه بل ولا ت�شبه أ�ح ًدا من ا إلن�س 44
نظام ولا وعي حتى تتلا�شى في تلك ال�ساحة أ�مام الجامع � .أو تندفع هابطة كمجاري مياه المطر نحو الأطراف ا ألربعة للقرية ك�شرايين باهته ت�ضج بالأولاد والحمير والبنات والكلاب ..تترك فيما بينها بلا نظام و�سعايات وخربات كا ألورام تختلف م�ساحتها ح�سب حاجات �أ�صحاب الدور حولها لتكوم فيها بقايا روث الموا�شى وما يطرح تحتها من تراب أ�ر�ض النيل عندما تترك لتجف ثم تنتقل إ�لى الأر�ض متخمرة بين حين وحين ح�سب حاجة المحا�صيل والموا�سم . تتجمع وتتفرق هذه ال�شوارع والحوارى والخرابات حول (�سيدي مجاهد) ومكنة (البداوية) وجرن دار ( أ�حمد) وال�شادر و(عزبة الغجر) و(ابو خ�شبة) و(الم�سيد) �أو عبر �ساحة (ابو الرايات) و َمن َزل كتاب (ابو عبد الله) وحارة (ال�صياغ) وال�سبيل ودكان (زينب) وم�صطبة (خ�ضرة) وقهوة (�أحمد النادي) ودكان (�شطا) ..ودار (حبيب) و(زنئور ال�صليبة) و(البركة) ومدر�سة (ال�شيخة) و(الجامع ال�صغير) وبيوت (القدادحة) (والطاحونة) وال�شيخ (البهلول) وحارة (الجع َّطة) و(ابو ق�صبي) في �شبكة عنكبوتية خرافية ،لعنكبوت عجوز .ج َّفت عروقه ونبتت حولها - بال�صدفة �أو ق�ص ًدا -بيوت لا عدد لها ولا ح�صر ولا �شكل .يفتح بع�ضها على بع�ض ،ويركب بع�ضها فوق بع�ض .ويتكالب بع�ضها لي�سد منافذ النور على البع�ض .فيتحجر القلب وال�سطح والعتبة وتن�شرخ الحيطان والدهاليز بفعل الرطوبة والقهر . ويك ُّف الجميع عن التململ ،تع ًبا من جهد أ�زلي لا تبدو له نهاية ولا طائل وراءه ..توالى على بذله ال�سابقون من الب�شر لحكمة ربانية .. ت�صر على �أن يولد الخلق كال�ضفادع -من الماء المهين -مه َّي�أين للت آ�لف مع 47
على أ�نني قر�أت �أنها ( إ�لا ليعرفون) وبع�ضهم تجاهل ذلك لغر�ض في نف�س يعقوب . و ألني ع�شقت هذه ا ألر�ض ودفعني ع�شقي �أن �أبحث عن خرافاتها وتاريخ أ�هلها الطويل ؛ حيث ظلت ا ألجيال تنجب ا ألجيال من الفلاحين وال�صيادين ورعاة الغنم والن َّجارين و�صانعي الف ؤ�و�س وال�شباك والعبيد والم�ساخيط والمجاذيب والجواري و�أ�صحاب الحرف من القزازين نا�سجى القما�ش والزعابيط والب�شوت والعبى والفواخرية من �صانعى القلل والدوارق والمحالب والقدور والبلالي�ص والمناقد و �صانعى القفف والمقاطف والفرد وا ألطباق والابرا�ش والزنابيل والمرجونات والا�سمطة من الخو�ص والحلفا وال�سمار .وغيرهم من حلاقين ونجارين و�سروجية وق َّ�صا�صين الحمير وغيرهم من ع َّطارين وق َّبانية وف َعلة وب َّنايين وح َّمارين وخ َّياطين وف َّوالين و ُ�ص َّناع ط�شوط وحلل النحا�س إ�لى جانب الم�شايخ والفقهاء و أ��صحاب العاهات والفقراء والمُل َّاك والغفر والدايات و�أبناء ال�سبيل و أ�قرانهم من الج ِّن َّيات والعفاريت . و إ�ن كنا لم ن�شاهد جنيات ولا �شياطين ..فذلك ألنه لا �أحد من العقلاء يخو�ض في مثل هذا �أو يحكي عنه حتى لو كان قد حدث ..لأن من ا�ؤتمن على ال�سر لا يبوح به ..والله �أعلم .. أ�جيال تركب �ضهر �أجيال ..كما ركبت البيوت أ�نقا�ض ما ُهدم منها ..كل جيل يلعن �سل�سفيل الجيل الذي رماه عن ظهره ..ومن د َفنه في التراب ألنهم لم يو ِّرثوه إ�لا ال ُغلب ..والفقر والنكد ..والالت�صاق بالطين الرطب في الحقول �أو في هذه الدروب والحارات ال�شعرية التي تتفرع وتنق�سم وتتوالد وت�ستدق وت�ستعر�ض ،بين كتل البيوت الطينية بلا 46
ِرمَ ًا مع التيار في كل الموا�سم ما بين نوبات الري والتحاريق ،تخنقنا روائحها الكريهة ..ويل�سعنا ذبابها الأزرق المخلوق من �أرواح الأطفال الموتى وال�صبايا العذارى المغتالات ..يط ّن ويز ّن ولا يك ّف عن نه�ش لحمها البنف�سجي المائل لل�سواد ..يجبرنا غيظنا منه �أن نرجمها بالحجارة ونحن نت�شهد كما علمونا في الك ّتاب .ون�ستعيذ -كما أ�و�صانا �آبا�ؤنا -دون حقد جدي .ونحن ن�سد أ�نوفنا مفتعلين التقزز والقرف ..دون رغبة حقيقية �أو �أمل في انقطاع ورودها المق َّدر ..حتى لا تلحق بنا لعنتها � ،إن �أثرنا غيظ أ�و غ�ضب من ير�سلها كالم�صائب على ر ؤ�و�سنا ب إ��صرار ،يليق ب إ��صرار الأحياء ،على موا�صلة رحلة التعب والنكد والكدح وراء لقمة العي�ش ،وه ّد الحيل المهدود .. جيل ي�سلم جيل ًا -منذ كانت أ�ع�شا�ًشا في خدمة (تاني�س) المخروبة و�إلى أ�ن يرث الله ا ألر�ض ومن عليها ..حتى و�إن ظلت ت ؤ�رقها وت�ؤرقهم كما أ�رقتنا �شهوة الت�سا�ؤل عن �سر هذا التناكب والتكالب والتناكح والتوالد والعذاب .منذ �صرخة المولود ا ألولى حتى �آهة طلوع الروح والنف�س الأخير ..دون إ�جابة � ..إلا �أن (الحكيم العلي القدير) يدفعنا �إلى ذلك دف ًعا ويجبرنا عليه قه ًرا ،كي نظل نتكاثر ونتنا�سل لن�س َّد عين ال�شم�س ،ونم أل وجه الأر�ض ،إ�لى �أن يحين نفخ ال�صور يوم قيام الجثث ،كي يباهي �سيدنا ومولانا ر�سول الله بنا ا ألمم -كافة -يوم القيامة !! ••• 49
المياه الراكدة ،متعاي�شين مع �ضحالتها و أ��سانتها ..لا يعرف الواحد منهم أ�بعد مما يراه منها ..ولا تعي ذاكرته أ�كثر مما مر به ؛ دون محاولة تف�سير �سر تخثر حبها في عروقه .ولا يلفت نظره تك أ�ك�ؤها المريب فوق بع�ضها هل ًعا ورع ًبا من المجهول والمعروف ،ولا يعرف ال�ضرورة الحتمية ..لتكالبها وتزاحمها على تلك البقعة الرطبة من ا ألر�ض القديمة البالية الممتدة من باط (البحر القديم) حتى (ترعة الجوابر) ؛ حيث ينبعج مجراه ويت�سع فات ًحا �شطه لذيول الفئران الملتوية على هيئة حواري بين البيوت .ت�ص ُّب فيه �أنا�ًسا ونفايات وحيوانات نافقة و�أطفال ًا عراة ون�سوة كا�شفات ال�سيقان .. ليندفع بعد (مدر�سة ال�شيخة) القديمة محرو ًما من أ�ن�س الب�شر وح�سهم، و�سط غابة من البو�ص ال�صامت المريب .و�أكمات من أ��شجار �شعر البنت والنخيل غير المق�ضب ،و�أ�شجار ال�صف�صاف القزمية والبرنوف والحلفا، تت�شابك قممها فوق المجرى ال�ضيق المح�صور بين �شاطئين كثيفين غام�ضين يحجبان الر�ؤية عما يجري في الليل والنهار فوق �سطح مياهه العكرة المل َّوثة المزدحمة بالج ِّن َّيات وبنات الم�سحور .. مثي ًرا في قلوبنا الغ�ضة �آلاف ا أل�سئلة ..بلا إ�جابة ت�شفي الغليل وتريح القلوب البكر من قهر تحذيرات (ال�شيخ علي �أبو دقن) التي لا تترك في قلوبنا أ�و فوق رمو�شنا غير مخلفات حيرتنا و�ش ِّكنا ،في ماهية الجهة الخفية التي ي�سيل إ�ليها الماء المندفع �شر ًقا خارج قريتنا بعد أ�ن غ�سلنا فيه �أج�سادنا و أ�ج�ساد الحيوانات والبهائم وحلل الطبيخ ود�سوت الأرز المفلفل ، و�صواني الموالد وقدور الفول النابت وخ�شب نعو�ش الجنازات وخرق الر�ضع والعرق وال�صد�أ والبراز وجثث الحمير بعد موتها لأ�سباب مجهولة.. بينما نحن مازال ي�ؤرقنا جهلنا بم�صدرها .ولماذا تظل ت�أتي إ�لينا الجثث 48
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210
- 211
- 212
- 213
- 214
- 215
- 216
- 217
- 218
- 219
- 220
- 221
- 222
- 223
- 224
- 225
- 226
- 227
- 228
- 229
- 230
- 231
- 232
- 233
- 234
- 235
- 236
- 237
- 238
- 239
- 240
- 241
- 242
- 243
- 244
- 245
- 246
- 247
- 248
- 249
- 250
- 251
- 252
- 253
- 254
- 255
- 256
- 257
- 258
- 259
- 260
- 261
- 262
- 263
- 264
- 265
- 266
- 267
- 268
- 269
- 270
- 271
- 272
- 273
- 274
- 275
- 276
- 277
- 278
- 279
- 280
- 281
- 282
- 283
- 284
- 285
- 286
- 287
- 288
- 289
- 290
- 291
- 292
- 293
- 294
- 295
- 296
- 297
- 298
- 299
- 300
- 301
- 302
- 303
- 304
- 305
- 306
- 307
- 308
- 309
- 310
- 311
- 312
- 313
- 314
- 315
- 316
- 317
- 318
- 319
- 320
- 321
- 322
- 323
- 324
- 325
- 326
- 327
- 328
- 329
- 330
- 331
- 332
- 333
- 334
- 335
- 336
- 337
- 338
- 339
- 340
- 341
- 342
- 343
- 344
- 345
- 346
- 347
- 348
- 349
- 350
- 351
- 352
- 353
- 354
- 355
- 356
- 357
- 358
- 359
- 360
- 361
- 362
- 363
- 364
- 365
- 366
- 367
- 368
- 369
- 370
- 371
- 372
- 373
- 374
- 375
- 376
- 377
- 378
- 379
- 380
- 381
- 382
- 383
- 384
- 385
- 386
- 387
- 388
- 389
- 390
- 391
- 392
- 393
- 394
- 395
- 396
- 397
- 398
- 399
- 400
- 401
- 402
- 403
- 404
- 405
- 406
- 407
- 408
- 409
- 410
- 411
- 412
- 413
- 414
- 415
- 416
- 417
- 418
- 419
- 420
- 421
- 422
- 423
- 424
- 425
- 426
- 427
- 428
- 429
- 430
- 431
- 432
- 433
- 434