Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

Published by آيه الشوابكه, 2021-04-03 00:56:36

Description: الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

Search

Read the Text Version

‫حتى السلوك البشري؛ إذ \"يعتقد هيوم أ َّن الإرادة البشرية تحدث وفق ًا لقوانين سيكولوجية‬ ‫يمكن ملاحظتها ووصفها‪ \".‬وتكمن أهمية هيوم في تاريخ الفلسفة الحديثة في جانبين؛‬ ‫الأول‪ :‬تطوير هيوم المنهج التجريبي والسيكولوجي في نظرية \"المعرفة\" والإبستمولوجيا‪،‬‬ ‫والثاني‪ :‬استخدام هيوم هذا المنهج في ميدان الأخلاق والعلوم الاجتماعية‪(((.‬‬ ‫‪ -‬فولتير ‪( Voltaire‬فرانسوا ماري آروويه)‪:‬‬ ‫إذا كان هيوم أحد أعلام التنوير في بريطانيا‪ ،‬فقد ظهر في الوقت نفسه عل ٌم آخر من أعلام‬ ‫التنوير في فرنسا؛ ذلك هو فولتير ‪1778-1794( Voltaire‬م) الذي كان من \"أكثر ك ّتاب‬ ‫الأدب‪ ،‬والدعاة إلى الحرية في التفكير‪ ،‬ومحاربة الاضطهاد في السياسة‪ ،‬والخرافة في العلم‬ ‫والدين‪ ،‬ونجح مع عدد من الفلاسفة المعاصرين له‪\" :‬في أ ْن يجعلوا ا ِّدعاءات الكنيسة والدولة‬ ‫مدعاة للسخرية والاستهزاء والازدراء العام‪ ،‬وفقدت الحكومة ثقة الأُ َّمة تمام ًا‪ ،‬وعندما لم‬ ‫يصبح هناك أمل في تح ُّسن الظروف الاقتصادية‪ ،‬أصبحت ثورة ‪1789‬م أمر ًا محتم ًا‪(((\".‬‬ ‫‪ -‬جان جاك رو ّسو‪:‬‬ ‫من أعلام التنوير كذلك جان جاك رو ّسو ‪1778-1712( Rousseau‬م) الذي ُع ِرف‬ ‫بنظرته المتفائلة إلى الإنسان؛ فقد كان رو ّسو \"مقتنع ًا بأ َّن الإنسان خ ِّير بطبيعته‪ \".‬لك َّن‬ ‫الحضارة هي التي أدخلت الشرور والفقر والعبودية والترف والتكاسل إلى حياة الناس‪.‬‬ ‫أ ّما شهرته الأكبر فكانت في كتابه \"العقد الاجتماعي\" في الفلسفة السياسية‪ ،‬الذي كان له‬ ‫أثر في تطوير المثل العليا لفكرة \"الجمهورية\"‪ ،‬حيث تتساوى الحقوق المدنية والسياسية‬ ‫للمواطنين‪ .‬ولك َّن رو ّسو اش ُت ِهر كذلك بصفته من ر ّواد الفكر التربوي؛ فقد كان على قناعة‬ ‫بأ َّن مشكلة العصر الذي عاشه هي مشكلة التعليم العام‪ ،‬وأسهم في حل هذه المشكلة‬ ‫بوضع مقترحات مح َّددة في كتابه \"إميل‪ :‬تربية الطفل من المهد إلى الرشد\"‪ .‬وفيه ق َّدم‬ ‫رو ّسو منهج ًا عملي ًا‪ ،‬ونظرية تعليمية تتم َّيز عن كثير من النظريات غير العملية‪ .‬وكانت‬ ‫الأسس التي ق َّدمها رو ّسو ُمل ِهمة لعدد من فلاسفة التربية اللاحقين‪ ،‬ولا سيما بستالوزي‬ ‫(‪1827-1746‬م)‪ ،‬وهيربارت (‪1841-1776‬م)‪ ،‬وفروبل (‪1852-1782‬م)‪(((.‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.223-217‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.234‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.242-237‬‬ ‫‪100‬‬

‫‪ -‬إيمانويل كانط‪:‬‬ ‫ظهر إيمانويل كانط ‪1804-1724( Immanuel Kant‬م) في ألمانيا‪ .‬وبعد أ ْن‬ ‫مارس كانط التعليم الجامعي سنوات طويلة‪ ،‬ودرس الفلسفات العقلية والتجريبية‪ ،‬أخذ‬ ‫يحاول التأليف بينهما من خلال رؤية فلسفية خاصة س ّماها الفلسفة النقدية‪ ،‬وأصدر‬ ‫في مجال المعرفة الرياضية والفيزيائية والميتافيزيقا كتابه \"نقد العقل الخالص\"‪ ،‬وأتبعه‬ ‫بكتاب \"نقد العقل العملي\" في مجال الأخلاق‪ ،‬ث َّم بكتاب \"نقد ملكة الحكم\" في مجال‬ ‫البيولوجيا وعلم الجمال‪ .‬وواض ٌح أ َّن كانط كان مهتم ًا بتطوير نظرية للمعرفة‪ ،‬مثله مثل‬ ‫َمن سبقه ِمن الفلاسفة‪ ،‬ولا سيما لوك‪ ،‬وهيوم‪ ،‬لكنَّه تم َّيز عن غيره بالنظر في المعرفة‬ ‫اليقينية المطلقة التي يستطيع الإنسان امتلاكها في الرياضيات والفيزياء‪ ،‬وتص َّور أ َّن الذهن‬ ‫البشري ينقسم إلى ثلاث ملكات أولية‪ ،‬هي‪ :‬ملكة المعرفة‪ ،‬والإرادة‪ ،‬والشعور‪ ،‬وأفرد‬ ‫لك ٍّل منها كتاب ًا من كتبه النقدية الثلاثة‪ .‬وامتاز كانط في مجال التدريس الجامعي بالجدية‬ ‫والأمانة والإخلاص‪ ،‬وبمهارة خاصة في إثارة طلبته للتع ُّلم‪ ،‬وممارسة النقد فيما ي َّطلعون‬ ‫عليه من مذاهب فلسفية‪ (((.‬وقد اشتغل على أعمال كانط مجموعة من الفلاسفة الألمان‪،‬‬ ‫منهم فيشته ‪1815-1762( Fechte‬م)‪ ،‬وهيجل ‪1831-1770( Hegel‬م)‪ ،‬وشوبنهاور‬ ‫‪1860-1788( Schopenhauer‬م) الذي أ َّسس الفلسفة المثالية الألمانية‪.‬‬ ‫‪ -‬فريدريك نيتشه ‪1900-1844( Friedrich Nietzsche‬م)‪:‬‬ ‫ُي َع ُّد نيتشه مؤ ِّسس اللاعقلانية والعدمية في الفكر الأوروبي الحديث؛ فقد دعا إلى‬ ‫تجاوز كل القيم التي تع ِّلمها الكنيسة‪ ،‬ون َّدد بالديمقراطية والنفعية والاشتراكية‪ ،‬وتمنّى‬ ‫العودة إلى قيم النبلاء والأرستقراطيين القديمة‪ ،‬التي تع ِّبر عن إرادة الق َّوة في الفن القديم‬ ‫الديونيسي الذي يم ِّثل تحرير الغريزة وتفكيك الحدود‪ ،‬وأثنى على الحروب لأ َّنها‬ ‫ُتر ّبي الق َّوة والشجاعة‪ ،‬و ُتن ّمي روح السيطرة‪ .‬وهو ينكر وجود معايير مطلقة في المنطق‬ ‫والأخلاق‪ ،‬مع أ َّنه يعتقد أ َّن فلسفته الخاصة به هي حقيقة مطلقة‪ .‬وقد ع َّبرت كتاباته عن‬ ‫تو ُّجهات عنصرية شديدة‪ .‬ولا عجب أ َّن النازية وجدت في أفكاره مادة لثقافتها وإعلامها‪.‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.260-256‬‬ ‫‪101‬‬

‫ورأى نيتشه أ َّن مشكلة التربية لا تكمن في الأطفال الذين يحتاجون إلى تربية‪،‬‬ ‫وإ َّنما تتم َّثل في امتلاك الرجل والمرأة الصحة والق َّوة والمكانة ليأتي الأطفال الأصحاء‬ ‫الأقوياء‪ .‬ومن أقواله في ذلك‪\" :‬لا صلاح لأُ َّمة فسدت منابت أطفالها‪ ،‬وهذه عبر التاريخ‬ ‫ماثلة لعيان َمن يريد أ ْن يرى‪ ...‬لا بترقية الزراعة والصناعة‪ ،‬ولا بنشر التعليم والتهذيب‪،‬‬ ‫ولا بجعل البلاد جنَّة ثرا ًء وتنظيم ًا‪ ،‬تنشأ الأُ َّمة‪ ،‬ويخلق الشعب الحر السعيد‪ .‬إ َّن الجنين‬ ‫الذي يحمل أسباب شقائه وهو في بطن أ ِّمه لا يمكنه أ ْن يصير رجل ًا حر ًا وقوي ًا يفهم حقيقة‬ ‫الحياة ويتمتع بالعظمة الكامنة فيها‪ .‬إ َّن الاهتمام بإيجاد الطفل الصالح َأ ْولى من العمل‬ ‫لإعداد العلم والتهذيب لطفل ُت ْص َقل مظاهره صقل ًا‪ ،‬وتتحطم كل محاولة للنفوذ إلى ع َّلته‬ ‫المستقرة فيه منذ تكوينه‪(((\".‬‬ ‫‪ .4‬نماذج من المذاهب والتو ُّجهات الفلسفية‪:‬‬ ‫أدركت المجتمعات البشرية منذ ال ِق َدم حاجتها إلى منظومة من الأفكار والمعتقدات‪،‬‬ ‫ومناهج البحث عن الحكمة‪ ،‬وتحديد نظام الحياة‪ ،‬ومعايير سلوك الإنسان فيها‪ .‬وقد‬ ‫ُأط ِلق على هذه المنظومة مصطلح \"فلسفة\"‪ .‬وعندما ُنط ِّبق هذه الفلسفة على مسائل التربية‬ ‫تصبح لدينا فلسفة تربوية تتمحور وظيفتها في تحديد أهداف التربية وسياساتها ومناهجها‪،‬‬ ‫وتحكم عمل المؤسسات التربوية وأنظمتها‪(((.‬‬ ‫وفيما يأتي أمثلة على بعض الفلسفات‪ ،‬أو المذاهب التربوية‪:‬‬ ‫‪ -‬مذهب \"المدرسية\" ‪:Scholasticism‬‬ ‫من أكثر هذه التو ُّجهات شهرة التو ُّجه المدرسي ‪ Scholastic‬الذي بدأ في القرون‬ ‫الوسطى في صورة إعادة الاعتبار إلى الفلسفات اليونانية القديمة‪ ،‬ولا سيما منطق أرسطو‬ ‫((( نيتشه‪ ،‬فريدريك‪ .‬هكذا تكلم زرادشت‪ ،‬ترجمة‪ :‬فليكس فارس‪ ،‬بيروت‪ :‬دار القلم‪( ،‬د‪.‬ت)‪ ،‬ص‪ .12‬انظر أيض ًا‪:‬‬ ‫‪ -‬طرابيشي‪ ،‬جورج‪ .‬معجم الفلاسفة‪ ،‬بيروت‪ :‬دار الطليعة‪2006 ،‬م‪ ،‬مادة نتشه‪ ،‬ص‪.680‬‬ ‫((( انظر أهمية الفلسفة للتربية في‪:‬‬ ‫‪- Snauwaert, Dale T. The Importance of Philosophy for Education in a Democratic Society,‬‬ ‫‪Journal of Peace Education and Social Justice, Volume 6 No. 2, 2012، page 73-84.‬‬ ‫وانظر مكانة فلسفة التربية في العملية التربوية في‪:‬‬ ‫‪ -‬الكيلاني‪ ،‬ماجد عرسان‪ .‬فلسفة التربية الإسلامية‪ :‬دراسة مقارنة بالفلسفات التربوية المعاصرة‪ ،‬ع ّمان‪ :‬دار‬ ‫الفتح‪2009 ،‬م‪ ،‬ص‪.36 -31‬‬ ‫‪102‬‬

‫القياسي‪ ،‬والتوفيق مع الرؤية الدينية‪ ،‬وهو في الأساس منهج فلسفي وتربوي اعتمدته‬ ‫المدارس الكاتدرائية‪ ،‬ونما وتط َّور فيما بعد بمقترحات توما الأكويني (‪1274-1225‬م)‪،‬‬ ‫واستعاد حيويته بطلب من بابا الكنيسة الكاثوليكية ليون الثالث عشر عام ‪1879‬م‪(((.‬‬ ‫ومذهب \"المدرسية\" ‪ Scholasticism‬طريقة في التع ُّلم بدأها راهب بريطاني اسمه‬ ‫أنسيلم ‪ Anselm‬عام ‪1100‬م تقريب ًا‪ ،‬وتو ّلى التعليم فيها \"رجال مدرسة\" ‪schoolmen‬‬ ‫في جامعات القرون الوسطى‪ ،‬وهم أيض ًا رجال دين‪ ،‬وقد استمرت حتى عام ‪1600‬م‪،‬‬ ‫ولك َّن تأكيد المدرسية على الجدل لا يزال يؤ ِّثر في ُن ُظم التعليم المعاصرة‪ .‬وفي هذه‬ ‫الطريقة يش َّجع الطلبة على مواجهة التناقضات الظاهرة في الأشياء التي يتع َّين عليهم أ ْن‬ ‫يتع َّلموها‪ ،‬بهدف الوصول إلى توا ُفق بين ما يبدو من متناقضات‪ .‬و ُيتو َّقع منهم أ ْن يو ِّظفوا‬ ‫عقولهم وخبراتهم من جهة‪ ،‬والمعرفة المقبولة من سلطة آباء الكنيسة و ُمع ِّلميها من جهة‬ ‫ُأخرى لبناء ُحججهم‪ .‬وحاولت هذه المدرسة أيض ًا التوفيق بين التعاليم المسيحية المختلفة‬ ‫والفلسفات الأُخرى‪ ،‬لا سيما الأرسطية‪ ،‬والأفلاطونية المحدثة‪ .‬وكان المدرسيون يهت ّمون‬ ‫بالدقة المنطقية والحقيقة الفلسفية من تقديم نتائجهم بشكل مفهومي‪،‬مع إتاحتها للاختبار‬ ‫عن طريق الملاحظة التجريبية‪.‬‬ ‫وقد وجدت الفلسفة المدرسية قبولاً واسع ًا مع جهود القديس توما الأكويني الذي‬ ‫دعا إلى تع ُّلم كل أشكال المعرفة المتاحة في عصره‪ ،‬مع التوفيق بين المرجعيات الدينية‬ ‫والفلسفية‪ ،‬لك َّن مسألة التوفيق هذه لم تكن لتستمر في النجاح مع دخول المجتمع‬ ‫الأوروبي في بداية عصر النهضة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر‪ ،‬حيث بدأ‬ ‫الفلاسفة يمارسون دور ًا متم ِّيز ًا في أعمالهم المستقلة عن تعاليم الكنيسة‪ ،‬ولا سيما عندما‬ ‫تزايد ا ِّطلاعهم على الفلسفات اليهودية والإسلامية‪ ،‬والعلوم الطبيعية والرياضيات‪،‬‬ ‫وعلى قيمة المنهج التجريبي‪ .‬وتب َّين لهم \"أ َّن عا َلم الطبيعة لا يكشف عن نفسه بصورة‬ ‫كافية عن طريق الاستخدام المحض للأقيسة المنطقية بالطريقة الإسكولائية‪ ،‬كما أ َّنه‬ ‫يمكن ‪-‬من ناحية ُأخرى‪ -‬تحقيق اكتشافات جديدة بطرق ُأخرى‪(((\".‬‬ ‫((( رايت‪ ،‬تاريخ الفلسفة الحديثة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.44-37‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.42‬‬ ‫‪103‬‬

‫‪ -‬مذهب \"الإنسانية\" ‪:Humanism‬‬ ‫من المذاهب الفكرية التي شهدها التاريخ الأوروبي كذلك مذهب \"الإنسانية\"‬ ‫‪ .Humanism‬فقد شهد القرنان الخامس عشر والسادس عشر تغ ُّير ًا جذري ًا في الفكر‬ ‫الأوروبي من المرجعية الدينية إلى الرؤية العلمانية‪ ،‬ومن الجمعية إلى الفردية‪ ،‬ومن‬ ‫الخرافة إلى العلم‪ .‬واعتبر المؤ ِّرخون هذا التح ُّول انتقالاً من \"المدرسية\" التقليدية إلى‬ ‫\"الإنسانية\"‪ .‬وهذه النزعة ‪ Trend‬عقيدة واتجاه ونمط حياة يتمركز حول مصالح الإنسان‬ ‫وقيمه‪ ،‬وهي ترفض الإيمان بما وراء الطبيعة‪ ،‬وتؤ ِّكد كرامة الفرد الإنساني‪ ،‬وقدرته على‬ ‫تحقيق ذاته عن طريق العقل‪ .‬وقد حمل معنى \"الإنسانية\" معاني ِع َّد ًة عبر القرون؛ فمع أ َّن‬ ‫المعنى الأساسي كان التمركز حول مصالح الإنسان وقيمه من مرجعية دينية تؤمن بالغيب‪،‬‬ ‫أصبح معناها فيما بعد يتمحور حول فهم الأخلاق اعتماد ًا على العقل‪ ،‬وأفكار العدل‪،‬‬ ‫وتدريب المواطنين على الكلام والكتابة وإقناع الآخرين‪ ،‬عن طريق دراسة مدى واسع‬ ‫من الأعمال الكلاسيكية بدلاً من التعاليم الدينية والغيبية‪.‬‬ ‫وفي الظروف المتقلبة في القرن الخامس عشر تط َّورت لدى الفلاسفة فكرة \"الحقيقة‬ ‫ذات الوجهين\"؛ فلا مانع من قبول مسألة معينة في مجال الفلسفة‪ ،‬حتى لو لم تكن مقبولة‬ ‫في مجال اللاهوت‪ .‬لقد تسارعت حركة البحث عن فلسفة جديدة بعد هجرة العلماء من‬ ‫القسطنطينية‪ ،‬بعد سقوطها في يد المسلمين العثمانيين عام ‪1453‬م‪ ،‬حيث بدأ هؤلاء‬ ‫العلماء يدرسون بحماس الفلسفة اليونانية القديمة‪ ،‬ويجدون فيها متعة‪ ،‬فانتشرت فكرة‬ ‫\"التربية الحرة\"‪ ،‬وأصبح إنسان القرن الخامس عشر أكثر إنسانية‪ ،‬وأكثر بشرية (بمعنى‬ ‫أ ْن يكون أكثر عقلانية وثقافة ومعرفة بكل ما له قيمة في الفن والأدب والعلم) عن‬ ‫طريق دراسة الآداب الكلاسيكية التي اعتقد رجال عصر النهضة أ َّنها كانت تعبير ًا عن‬ ‫مقصد المؤ ِّلفين الأصليين ووجهات نظرهم‪ .‬ولذلك ُع ِرفت الآداب الكلاسيكية باسم‬ ‫الإنسانيات‪ ،‬و ُع ِرف الباحث الذي يدرسها بطريقة جديدة باسم الباحث الإنساني‪ ،‬في‬ ‫مقابل الباحث الإسكولائي‪(((.‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.43‬‬ ‫‪104‬‬

‫ومع الدخول في القرن السابع عشر أخذ العلماء يدركون قصور الفلسفة الإنسانية؛‬ ‫لافتقارها إلى المنهج المناسب في البحث الفلسفي‪ ،‬فتص ّدى عد ٌد من العلماء لتطوير‬ ‫عدد من المسارات‪ ،‬منها‪ :‬مسار \"منهج البحث التجريبي\" القائم على الملاحظة والتجربة‬ ‫والاستقراء‪ ،‬كما فعل فرانسيس بيكون (‪1626-1561‬م)‪ ،‬ومسار \"منهج البحث العقلي\"‬ ‫الذي يقوم على البرهان الرياضي والهندسي والحدس‪ ،‬لا بوصفه المصدر الأول للمعرفة‬ ‫أو الإحساس‪ ،‬كما فعل رينيه ديكارت ‪1650-1596( Descartes‬م)‪ ،‬وباروخ اسبينوز‬ ‫‪1677-1632( Spinoza‬م)‪ ،‬وجوتفريد ليبنتس ‪1716-1646( Leibniz‬م)‪(((.‬‬ ‫والإنسانية موقف فلسفي وأخلاقي يؤ ِّكد على الكائن الإنساني فرد ًا ونوع ًا‪ ،‬و ُي ْعلي من‬ ‫قيمته‪ ،‬ويستخدم التفكير الناقد والاستدلال التجريبي‪ ،‬بديل ًا عن حالة الإنسان التي كانت‬ ‫الكنيسة المسيحية تدعو إليها؛ من‪ :‬رهبانية‪ ،‬وزهد في الحياة‪ ،‬وإيمان أعمى‪ ،‬وخرافات‬ ‫الغفران والحرمان‪ .‬وبدأت في تعليم الفنون الحرة والدراسات الكلاسيكية‪ ،‬مؤ ِّكد ًة فكرة‬ ‫الحرية والتق ُّدم الإنساني‪ .‬وقد ظهر المذهب عبر التاريخ بصور مختلفة‪ ،‬منها‪ :‬الإنسانية‬ ‫الدينية‪ ،‬والإنسانية الأخلاقية‪ ،‬والإنسانية العلمانية‪ .‬ويب ِّين الموقع الإلكتروني لمؤسسة‬ ‫تس ّمى \"مجلس الإنسانية العلمانية\" أسماء عدد من المؤسسات القائمة في العا َلم اليوم‪،‬‬ ‫وهي تتبنّى هذا المذهب بتل ُّوناته المختلفة‪ (((.‬وتتبنّى هذا المذهب اليوم حركات متعددة‬ ‫تتخذ موقف ًا لاديني ًا في الحياة‪ ،‬وتؤمن بالعلم‪ ،‬وتنكر الحاجة إلى الوحي والغيب في فهم‬ ‫العا َلم‪ ،‬وتتساوق مع ما ُيع َرف بالعلمانية ‪.Secularism‬‬ ‫لقد استعرض جيم هيريك حضور المذهب الإنساني لدى الفلاسفة من أيام اليونان‪،‬‬ ‫مرور ًا بالقرون الوسطى وعصر التنوير في أوروبا‪ ،‬وانتها ًء بمطلع القرن الحادي والعشرين‪.‬‬ ‫وتو َّصل بصورة ر َّبما تتصف بالمبالغة إلى أ َّن عناصر هذا المذهب حاضرة في أفكار معظم‬ ‫الفلاسفة‪ (((.‬ث َّم ختم هذا المؤ ِّلف كتابه بالنصوص السبعة التي تم ِّثل مبادئ المذهب‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪ ،64‬وص‪( 96-95‬ديكارت)‪ ،‬وص‪( 116-115‬اسبينوزا)‪.‬‬ ‫((( انظر الموقع في الرابط‪:‬‬ ‫‪- http: //www.secularhumanism.org/index.php/13‬‬ ‫‪(3) Herrick, Jim. Humanism: An Introduction. Amherst and New York: Prometheus Books,‬‬ ‫‪2005, pp1-6.‬‬ ‫‪105‬‬

‫الإنساني‪ ،‬والتي ُح ِّددت في المؤتمر السنوي الخمسين \"الاتحاد العالمي للإعلان‬ ‫‪2002‬م\" في أمستردام‪-‬هولندا‪ ،‬وصدرت بعنوان \"إعلان أمستردام\"‪ ،‬ون َّصت على أ َّن‬ ‫المذهب الإنساني \"أخلاقي‪ ،‬عقلاني‪ ،‬يؤمن بالديمقراطية وحقوق الإنسان‪ ،‬ويوازن بين‬ ‫الحرية الفردية والمسؤولية الاجتماعية‪ ،‬ويم ِّثل بديل ًا للمعتقدات الدينية الغيبية‪ ،‬ويق ِّدر‬ ‫الإبداع الفني‪ ،‬وهو نمط حياة لكل إنسان في كل مكان‪(((\".‬‬ ‫ويرى بعض الباحثين أ َّن الفكر الغربي الذي يتم تطويره في أوروبا الغربية وامتداداتها‬ ‫في أمريكا لا يزال يتصف بنوع من المذهب الإنساني‪ ،‬يس ّمونه الإنسانية الليبرالية ‪Liberal‬‬ ‫‪ ،Humanism‬وهو فكر ينضح بالتح ُّيز ضد الآخر‪ ،‬ولا سيما الآخر التاريخي الهندي‬ ‫والصيني والعربي‪ ،‬في أبعاده التاريخية‪ ،‬أو الآخر الأحدث المتم ِّثل في الآخر الإفريقي‬ ‫وسكان العا َلم الجديد الأصليين‪ .‬فبالرغم من الجهود المق َّدرة التي ُب ِذلت في عدد من‬ ‫المؤسسات الغربية ومؤسسات الأمم المتحدة لتعزيز التع ُّددية واحترام الآخر في العا َلم‬ ‫المعاصر‪ ،‬فإ َّن هذه الجهود ُمنِيت بفشل ذريع؛ ر َّبما لأ َّن الفلسفات غير الغربية ُتذ َكر بطريقة‬ ‫هامشية حين ترد في مناهج التعليم المدرسي والجامعي‪ ،‬ولا تستحق الاهتمام المنهجي‬ ‫والفلسفي؛ فهي ‪-‬في نهاية المطاف‪ -‬تعبير عن ثقافة الآخر‪ .‬يضاف إلى ذلك أ َّن هذه الفلسفة‬ ‫الإنسانية الغربية تجد إحالات تاريخية بهدف تضخيمها عن طريق البحث عن جذورها في‬ ‫العبقرية اليونانية القديمة‪ .‬وقد تع َّرضت الفلسفة الإنسانية إلى كثير من الانتقاد‪ ،‬من حيث‬ ‫المنطلقات الفكرية التي تأ َّسست عليها سياسة الغرب‪ ،‬فقادت إلى حربين عالميتين في‬ ‫مدى نصف قرن‪ ،‬وكادت تعصف بالتوا ُزن البيئي و ُن ُظم الحياة الطبيعية‪ ،‬فضل ًا ع ّما تم ِّثله‬ ‫من تح ُّيز غربي‪ .‬وعلى كل حال‪ ،‬فإ َّن \"الإنسانية\" التي أصبحت مذهب ًا فلسفي ًا فيما بعد قد‬ ‫بدأت في عصر النهضة مسألة تعليمية بحتة‪ ،‬تدعو إلى تدعيم المنهج التربوي بالآداب‬ ‫الكلاسيكية‪ ،‬والبلاغة‪ ،‬والفنون الحرة‪((( .‬‬ ‫‪(1) Ibid., pp 101-102.‬‬ ‫‪(2) Peters, Michael A. The Humanist Bias in Western Philosophy and Education. Educational‬‬ ‫‪Philosophy and Theory, Vol. 47, Issue. 11, 2015, PP. 1128-1135.‬‬ ‫يمكن الحصول على النسخة الإلكترونية من المجلة من الرابط‪:‬‬ ‫‪- http: //www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/00131857.2014.991497.‬‬ ‫‪106‬‬

‫‪ -‬المذهب الوضعي ‪:Positivism‬‬ ‫\"الوضعية\" مصطلح وضعه الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت ‪Auguste Comte‬‬ ‫(‪1857-1798‬م)‪ ،‬وأراد به أ ْن يكون نظام ًا فلسفي ًا للمجمع الصناعي الذي بدأ يتش َّكل‪.‬‬ ‫وقد اقترح أ ْن يستخدم المنهج العملي في دراسة الاقتصاد والسياسة والسلوك الاجتماعي؛‬ ‫فهذه الدراسة العلمية ستقود إلى بناء المجتمع‪ ،‬واستمرار تق ُّدمه‪ .‬ويرفض المذهب‬ ‫الوضعي عند كونت كل ما لا يقع تحت المشاهدة الحسية المباشرة ليكون موضوع ًا‬ ‫للدراسة‪ .‬لقد كان هناك قانونان للمذهب الوضعي؛ الأول‪ :‬قانون تاريخي أو منطقي‪ ،‬وهو‬ ‫قانون المراحل الثلاث في تط ُّور التفكير في المجتمعات البشرية‪ :‬المرحلة اللاهوتية‪،‬‬ ‫ث َّم المرحلة الميتافيزيقية‪ ،‬وأخير ًا المرحلة العلمية‪ .‬وقد ب َّين كونت كيف أ َّن ذلك واضح‬ ‫في التاريخ الأوروبي‪ ،‬وفي حياة كل فرد‪ .‬أ ّما القانون الثاني فهو قانون معرفي يخت ُّص‬ ‫بالتصنيف التراتبي الذي يراه لتط ُّور حقول المعرفة‪ ،‬و ِم ْن َث َّم تع ُّقدها بدء ًا بالرياضيات‪ ،‬ث َّم‬ ‫الفلك‪ ،‬ث َّم الفيزياء‪ ،‬ث َّم الكيمياء‪ ،‬ث َّم البيولوجيا‪ ،‬ث َّم علم الاجتماع‪ .‬ورفض كونت أ ْن ُي َع َّد‬ ‫علم النفس من العلوم‪ ،‬ورأى أ َّن المعرفة في كل علم تتأ َّسس جزئي ًا على العلم السابق له‪.‬‬ ‫أ ّما أكثر العلوم تط ُّور ًا وتعقيد ًا ‪-‬في رأيه‪ -‬فهو علم الفيزياء الاجتماعية‪ ،‬أو علم الاجتماع؛‬ ‫وهو العلم الذي يحكم سلوك الإنسان على المستوى العام‪ ،‬والطرق التي تسلكها الأعراف‬ ‫والمؤسسات الاجتماعية في نظام معقد يمكن التنبؤ به‪ .‬وقد شرح تفاصيل هذه الرؤية‬ ‫تحت عنوان \"المجتمع الوضعي\"‪ ،‬واقترح فيه مفهوم ًا لدين جديد س ّماه دين الإنسانية‪،‬‬ ‫حيث يكون ما يستحق العبادة تلك الشخصيات التي تق ِّدم خدمة أفضل للمجتمع‪(((.‬‬ ‫تظهر آثار الفلسفة الوضعية في المجال التربوي في مناهج البحث التربوي؛ ذلك أ َّن‬ ‫\"صورة البحث التي ق َّدمتها كتب العلوم الاجتماعية في النصف الأول من القرن العشرين‬ ‫طغت عليها الفلسفة الوضعية‪ ،‬على الرغم من أ َّن هذه الفترة نفسها شهدت القصور‬ ‫الواضح في هذه الفلسفة‪ .‬ويعزى طغيان هذه الفلسفة في ميدان البحث التربوي إلى جهود‬ ‫عالِم النفس الأمريكي سكينر ‪ Skinner‬وفلسفته السلوكية ‪ Behaviorism‬ذات التو ُّجه‬ ‫‪(1) Craig, Edward (Editor). Concise Routledge Encyclopedia of Philosophy. London and New‬‬ ‫‪York: Routledge, 2000, p. 158.‬‬ ‫‪107‬‬

‫الوضعي المباشر‪ (((\".‬ويرفض سكينر \"الممارسات الشائعة في تفسير سلوك الإنسان عن‬ ‫طريق عوامل داخلية عقلية ‪ mental‬أو نفسية ‪ psychie‬تفتقد إلى الأبعاد الفيزيائية‪ ،‬ولا‬ ‫يقبل إلا التفسير العلمي الذي يعتمد على المشاهدات والقياسات الحسية‪(((\".‬‬ ‫وتتم َّثل تطبيقات الوضعية في المجال التربوي كذلك في موضوع \"القيم\"؛ فالقيم في‬ ‫هذه الفلسفة هي أدوات ووسائل المجتمع في تحقيق أغراضه‪ .‬والقيم الخلقية ‪-‬مثل ًا‪-‬‬ ‫هي ما يتواضع عليه مجتمع معين في زمن معين‪ ،‬وتكون مفيدة ما دامت تح ِّقق أهداف ًا‬ ‫عملية لذلك المجتمع‪ .‬وتتغ َّير هذه القيم‪ ،‬ويستبدل بها غيرها‪ ،‬تبع ًا لتغ ُّير وضع المجتمع‬ ‫وحاجاته‪ .‬وفيما يخ ُّص علم المستوى النظري‪ ،‬فإ َّن القيم في الفلسفة الوضعية هي من‬ ‫أمور ما وراء الطبيعة‪ ،‬ولا تقع تحت الحس‪ ،‬ولذلك لا تصلح أ ْن تكون موضوع ًا للعلم‬ ‫والتع ُّلم‪ .‬وقد تع ِّبر عن مشاعر فردية‪ ،‬لك َّن الفرد سرعان ما يتك َّيف مع متط َّلبات المجتمع‪.‬‬ ‫‪ -‬المذهب النفعي ‪:Pragmatism‬‬ ‫يمكن تت ُّبع فكرة \"المذهب النفعي\" وتط ُّور هذه الفكرة في أعمال عدد من‬ ‫الفلاسفة‪ ،‬ولا سيما وليم جيمس ‪1910-1842( William James‬م)‪ ،‬وتشارلز بيرس‬ ‫‪1914-1839( Charles Sanders Peirce‬م)‪ ،‬وجون ديوي‪-1859( John Dewey‬‬ ‫‪1952‬م)‪ ،‬ولك َّن التت ُّبع التفصيلي يجد حضور ًا لهذا المذهب في أعمال غيرهم من الفلاسفة‪،‬‬ ‫أمثال‪ :‬كوين‪ ،‬وهيجل‪ ،‬وهيديجر‪ ،‬وبوتنام‪ ،‬ورورتي‪ ،‬وغيرهم‪ (((.‬بيد أ َّن جون ديوي يتم َّيز‬ ‫بأ َّنه ط َّور هذا المذهب‪ ،‬ومارس تطبيقه في مجال التعليم‪ ،‬وأ َّثرت أفكاره البراغماتية تأثير ًا‬ ‫عميق ًا في النظام التعليمي الأمريكي منذ مطلع القرن العشرين‪ .‬وقد انتشرت هذه الأفكار‬ ‫‪(1) Phillips, Denis Charles & Burbules, Nocholas C. Postpositivism and Educational Research,‬‬ ‫‪New York and Oxford: Rowman & Littlefield Publ. Inc., 2000, p. 5.‬‬ ‫‪(2) Skinner, B. F. Science and Human Behavior, New York: Pearson Education Inc., First published,‬‬ ‫‪1953, reprint 2000, p. 29.‬‬ ‫‪(3) Malachowski, Alan (Editor). The Cambridge Companion to Pragmatism, New York: Cambridge‬‬ ‫‪University Press, 2013.‬‬ ‫الكتاب كله عن المذهب النفعي (البراغماتي)‪ .‬وتكشف قائمة المحتويات في الكتاب عن تخصيص فصل‬ ‫كامل عن حضور المذهب النفعي في أعمال هؤلاء الفلاسفة‪.‬‬ ‫‪108‬‬

‫في كثير من أنحاء العا َلم‪ ،‬وانتقلت بالاهتمام الفلسفي بال ُمع ِّلم‪ ،‬وأهداف اكتسابها من التأ ُّمل‬ ‫والتفكير المج َّرد وقضايا المثل إلى استهداف النتائج المادية الملموسة‪ ،‬وما يمكن أ ْن تؤديه‬ ‫المعرفة من وظائف‪ .‬ولذلك أخذت الفلسفة البراغماتية معنى الأداتية ‪،Instrumentalism‬‬ ‫والوظيفية ‪ ،Functionalism‬والعملياتية ‪ .Operationalism‬ونظر ًا لأ َّن التو ُّجه العام في‬ ‫الفلسفة الأوروبية قد طغت عليه الفلسفة الوضعية؛ فإ َّن معظم المذاهب الفلسفية أصبحت‬ ‫لا تكاد تخرج عن هذه الفلسفة‪ ،‬بما في ذلك البراغماتية‪.‬‬ ‫لقد تأ َّثر ديوي فكري ًا بدراسات \"هيجل\" الفلسفية‪ ،‬و\"فروبل\" النفسية‪ ،‬و\"دارون\"‬ ‫التط ُّورية‪ ،‬وكانت فلسفته امتداد ًا لتشارلز بيرس ووليم جيمس في فلسفتهما البراغماتية‬ ‫القائمة على المنفعة‪ ،‬والعائد الملموس‪ ،‬أو الذي يمكن أ ْن يلاحظ بالقياس‪ (((.‬وقد تص َّور‬ ‫ديوي في كتابه \"المدرسة والمجتمع\" المدرسة مجتمع ًا ُمص َّغر ًا يصبح فيه الأطفال مواطنين‬ ‫أذكياء ونافعين عن طريق صنع أشياء بصورة مشتركة‪ ،‬وأشار في كتابه \"الديمقراطية والتربية\"‬ ‫إلى أ َّن التربية هي العملية التي ُت ِعين الجماعات على استمرار وجودها‪ ،‬وأ َّن المدرسة‬ ‫مجتمع يتم فيه إثراء تجربة التلاميذ وتنظيمها عن طريق أنشطة مشتركة‪ .‬وإذا كانت الفلسفة‬ ‫الذرائعية تشبه براغماتية جيمس ذات الاهتمام الديني‪ ،‬فإ َّن ذرائعية ديوي ه ُّمها الإصلاح‬ ‫الاجتماعي والمواطنة‪ .‬ويتلخص هدف التربية عند ديوي في تنشئة الناس وتدريبهم على‬ ‫التك ُّيف مع وسطهم‪ ،‬وعلى إعادة بناء هذا الوسط بحيث يتناسب ‪-‬إلى أبعد ما يمكن‪ -‬مع‬ ‫رغباتهم وحاجاتهم‪(((.‬‬ ‫نكتفي بهذه الأمثلة الأربعة للتو ُّجهات أو المذاهب الفلسفية وتف ُّرعاتها‪ ،‬التي أ َّثرت‬ ‫في نظريات التعليم وممارستها حتى النصف الأول من القرن العشرين‪ .‬ونكتفي كذلك‬ ‫بالإشارة إلى مراجعة مفيدة للفلسفات التي سادت هذه الحقبة‪ ،‬والتضمينات التربوية‬ ‫لهذه الفلسفات في مجال النظرية والممارسة‪ (((.‬وقد لاحظ ك ٌّل من سعيد إسماعيل‬ ‫((( ديوي‪ ،‬جون‪ .‬المدرسة والمجتمع‪ ،‬ترجمة‪ :‬أحمد حسن الرحيم‪ ،‬مراجعة‪ :‬محمد ناصر‪ ،‬بيروت‪ :‬دار مكتبة‬ ‫الحياة بالمشاركة مع مؤسسة فرانكلين للطباعة في نيويورك‪ ،‬ط‪1978 ،2‬م‪ .‬مقدمة الكتاب بلغته الأصلية‬ ‫مؤ َّرخة في ‪1915‬م‪ .‬انظر الصفحات‪.101-98 :‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬مقدمة الكتاب بلغته الأصلية‪ ،‬مؤرخة في ‪1915‬م‪.‬‬ ‫((( علي‪ ،‬سعيد إسماعيل‪ .‬وفرج‪ ،‬هاني عبد الستار‪ .‬فلسفة التربية‪ :‬رؤية تحليلية ومنظور إسلامي‪ ،‬هرندن والقاهرة‪:‬‬ ‫المعهد العالمي للفكر الإسلامي ودار الفكر العربي‪2009 ،‬م‪ ،‬ص‪.93-69‬‬ ‫‪109‬‬

‫علي وهاني عبد الستار فرج في هذه المراجعة أ َّن أدبيات الفلسفة التربوية تو َّزعت على‬ ‫ثلاثة نماذج؛ نموذج عرض المدارس الفلسفية‪ ،‬مثل‪ :‬الواقعية‪ ،‬والمثالية‪ ،‬والبراغماتية‪،‬‬ ‫وغيرها‪ ،‬والمضامين التربوية لهذه المدارس؛ ونموذج عرض الفلسفة التربوية لفيلسوف‬ ‫بعينه‪ ،‬مثل‪ :‬أفلاطون‪ ،‬ولوك‪ ،‬ورو ّسو‪ ،‬وغيرهم؛ ونموذج ما ُس ِّمي النظريات التربوية‬ ‫المعاصرة المشتقة من المدارس الفلسفية‪ ،‬مثل‪ :‬الفلسفة التواترتية‪ ،‬وفلسفة الديمومة‬ ‫‪ Perennialism‬المشتقة من الفلسفة المثالية‪ ،‬والفلسفة الجوهرية ‪ Essentialism‬المشتقة‬ ‫من الفلسفة الواقعية‪ ،‬والفلسفة التقدمية ‪ Progressivism‬المشتقة من الفلسفة البراغماتية‪.‬‬ ‫‪110‬‬

‫المبحث الثالث‬ ‫فلسفات تربوية معاصرة ومرجعياتها الغربية‬ ‫أولاً‪ :‬بعض الأمثلة على فلسفات تربوية معاصرة‪:‬‬ ‫تتح َّدث معظم كتب فلسفة التربية ‪-‬حتى حديثة النشر منها‪ -‬عن التضمينات‬ ‫التربوية للفلسفات التقليدية القديمة‪ ،‬مثل‪ :‬المثالية‪ ،‬والواقعية‪ ،‬والطبيعية‪ ،‬والذرائعية‪.‬‬ ‫لك َّن الكتابات الأحدث تتح َّدث عن نظريات تربوية مشتقة في الغالب من تلك الفلسفات‬ ‫التقليدية‪ ،‬وتذكر تداخل الأفكار فيها عند الإجابة عن موقع ك ٍّل من‪ :‬ال ُمتع ِّلم‪ ،‬وال ُمع ِّلم‪،‬‬ ‫والمنهاج التعليمي‪ ،‬وأهداف التعليم في الفكر التربوي والممارسة التربوية‪ .‬وفي كل‬ ‫فلسفة من الفلسفات التي ُت َع ُّد حديثة أو معاصرة‪ُ ،‬تذ َكر عشرات الأسماء من الفلاسفة‬ ‫والمف ِّكرين والتربويين الذين كان لهم صلة قريبة أو بعيدة بكل فلسفة؛ من‪ :‬حديث عن‬ ‫درجة تبنّي هذه الفلسفة أو نقدها‪ ،‬وما لها من إيجابيات وسلبيات‪ .‬ومن بين الفلسفات التي‬ ‫ُتذ َكر في هذا السياق‪ :‬التق ُّدمية ‪ ،Progressivism‬والمعمرة ‪ ، Perennialism‬والوجودية‬ ‫‪ ،Existentialism‬والسلوكية ‪ ،Behaviorism‬والأساسية أو الجوهرية ‪،Essentialism‬‬ ‫والبنيوية ‪ ،Structuralism‬والتحليلية ‪ ،Analyticism‬واللسانية ‪ ،Linguistic‬والنقدية‬ ‫‪ ،critical‬والانتقائية ‪ ،eclecticism‬وغيرها كثير‪.‬‬ ‫ومن الجدير بالملاحظة أ َّن هذه الأدبيات ق َّدمت الفلسفات التربوية في صورة‬ ‫فلسفات مستقلة لا تداخل بينها‪ ،‬أو أ َّنها نظريات متصارعة‪ ،‬تنقض ك ٌّل منها الأُخرى؛‬ ‫ما ُيض ِعف القدرة على التفكير الفلسفي في التربية‪ ،‬أو توظيف الرؤى الفلسفية في حل‬ ‫مشكلات التربية‪ ،‬و ُيس ِّوغ لبعض الباحثين القول بالإفلاس الفكري في فلسفة التربية‪(((.‬‬ ‫وقد رفض بعض الفلاسفة الغربيين القول بأ َّن النظريات والممارسات التربوية ُتش َت ُّق‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪ .89‬نقل الدكتور هاني فرج هذا المقولة عن التربوي الأمريكي المتخصص في فلسفة‬ ‫التربية من بحث ق َّدمه \"نيوسم\" للمؤتمر الحادي والعشرين لجمعية فلسفة التربية‪ ،‬عام ‪1965‬م‪ .‬انظر‪:‬‬ ‫‪- Newsome, George. \"Some Propositions Concerning the Teaching of Educational‬‬ ‫‪Philosophy\", in the Proceeding of the Twenty-First Annual Meeting of Philosophy of‬‬ ‫‪Education Society, 1965, p. 45.‬‬ ‫‪111‬‬

‫من مدرسة فلسفية معينة‪ ،‬وأعطوا أمثل ًة على أ َّن بع َض الفلاسفة قد ك َّونوا أفكار ًا تربوية‪،‬‬ ‫ور َّبما مارسوها قبل أ ْن تتش َّكل عندهم رؤية فلسفية متم ِّيزة‪ (((،‬ووصل الأمر ببعضهم إلى‬ ‫التساؤل عن حاجة التربية للفلسفة‪(((.‬‬ ‫في بعض الأحيان يصعب تمييز الفلسفة التي يتبنّاها مف ِّكر تربوي أو مجتمع من بين‬ ‫الفلسفات المتمايزة عن بعضها؛ نظر ًا لعدم تق ُّيد ذلك المف ِّكر أو المجتمع بعناصر فلسفة‬ ‫مح َّددة‪ .‬فعندما يكون المف ِّكر على ا ِّطلاع بمزايا كل فلسفة‪ ،‬فإ َّنه سيكون قادر ًا على وضع‬ ‫فلسفته في الإطار المناسب؛ لتقوية موقفه و ُح َّجته‪ ،‬ور َّبما يختار بعض العناصر من فلسفة‬ ‫معينة وعناصر ُأخرى من فلسفات ُأخرى‪ ،‬وفق ما يراه مناسب ًا لمعالجة الحالة التي يجد‬ ‫نفسه فيها‪ ،‬فتكون فلسفته المطبقة هي فلسفة توليفية انتقائية ‪ ،eclecticism‬تل ّبي الحاجات‬ ‫التربوية القائمة‪ ،‬لا سيما في مجتمع معاصر يتصف بالتع ُّددية‪.‬‬ ‫إ َّن حضور فلسفة التربية لا يقتصر على وجود هذا العنوان موضوع ًا للدراسة في‬ ‫صورة مساق دراسي جامعي‪ ،‬أو جزء ًا من مساق دراسي‪ ،‬وإ َّنما يتع ّدى ذلك إلى أ ْن يكون‬ ‫موضوع ًا حاضر ًا في العمل التربوي؛ المدرسي والجامعي‪ ،‬في دراسة معظم مساقات‬ ‫التربية‪ ،‬وفي التعامل مع معظم قضايا التعليم المدرسي‪ .‬فالمنهاج التربوي يستند إلى‬ ‫فلسفة تربوية‪ ،‬وبرامج إعداد ال ُمع ِّلمين تستند إلى فلسفة تربوية‪ ،‬وهكذا التقويم التربوي‪،‬‬ ‫والبحث التربوي‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬ولا تظهر فلسفة التربية بالضرورة بهذا العنوان؛ فقد تظهر‬ ‫بعناوين متعددة‪ ،‬مثل‪ :‬هدف التربية‪ ،‬ونظام الاعتقاد ‪ ،belief system‬أو النموذج المعرفي‬ ‫‪ ،Paradigm‬أو رؤية العا َلم ‪ ،Worldview‬أو المذهب ‪.Ideology‬‬ ‫والتضارب والتناقض بين الفلسفات أو المذاهب أو الرؤى التربوية قد يظهر بين‬ ‫الافتراضات الأساسية لها‪ ،‬أو يظهر في تطبيقاتها في قضايا تربوية مح َّددة‪ ،‬مثل‪ :‬بناء‬ ‫المناهج‪ ،‬والأهداف التربوية‪ ،‬وتدريب ال ُمع ِّلمين‪ ،‬والإدارة التربوية‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬فعلى‬ ‫‪(1) Hook, Sidney. The Scope of philosophy of education, In: Lucas, Christopher L. (Editor).‬‬ ‫‪What is Philosophy of Education? New York: Collier Macmillan Ltd, 1969, Part 3 Chapter 6.‬‬ ‫‪(2) Cahn, Steven M. Philosophical Foundations of Education, New York: Harpercollins College‬‬ ‫‪Div, (June 1970), p. 369.‬‬ ‫‪112‬‬

‫سبيل المثال نجد تضارب ًا ظاهر ًا في المفاهيم المتضاربة عن المنهاج التربوي لدى مجموعة‬ ‫من الفلسفات التربوية التي يعرضها أحد المؤ َّلفات‪ (((،‬ويتح َّدث فيه أحد المؤ ِّلفين ع ّما‬ ‫يس ّميه الحرب القائمة بين التربويين منذ نحو قرن من الزمن عن مفهوم \"المنهاج\"‪ ،‬وكل‬ ‫مفهوم منها يستند إلى مذهب تربوي ‪ ،Ideology‬أو فلسفة تربوية ‪ ،philosophy‬أو رؤية‬ ‫للتمدرس ‪ .vision of schooling‬ويختار المؤ ِّلف أ ْن يتح َّدث عن أربعة من هذه المفاهيم‬ ‫المتضاربة‪ :‬المفهوم الأكاديمي الذي ير ِّكز على المجال المعرفي‪ ،‬ومفهوم \"الفاعلية‬ ‫الاجتماعية\" الذي ُي ِع ُّد ال ُمتع ِّلمين لتلبية حاجات المجتمع‪ ،‬ومفهوم \"التمركز حول‬ ‫ال ُمتع ِّلم\" الذي يروم التعليم وفق القدرات الخاصة بكل فرد‪ ،‬ومفهوم \"البناء الاجتماعي\"‬ ‫الذي يستهدف بناء مجتمع يبسط العدل‪ ،‬ويح ِّقق رضا الجميع‪ .‬ث َّم يقارن المؤ ِّلف دلالات‬ ‫وعناوين هذه المفاهيم الأربعة بمعانيها ودلالاتها عند عشرة من المؤ ِّلفين الذين ظهرت‬ ‫مؤ َّلفاتهم ما بين سنة ‪1977‬م وسنة ‪2008‬م‪ ،‬فيجد أ َّن هذه المفاهيم تقع تحت عناوين‬ ‫كثيرة‪ ،‬تشمل التن ُّوع الواسع الذي عرفته الفلسفات التربوية‪ :‬الإنسانية‪ ،‬والليبرالية‪،‬‬ ‫والسلوكية‪ ،‬والعقلية‪ ،‬والخبراتية‪ ،‬والتق ُّدمية‪ ،‬والبنائية‪ ،‬وغيرها‪.‬‬ ‫وقد يظهر التناقض في ممارسات المستويات الإدارية في العمل التربوي؛ من‪ :‬إدارة‬ ‫مركزية‪ ،‬وإدارة محلية‪ ،‬ومشرفين‪ ،‬و ُمع ِّلمين‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬ويؤ ِّثر ذلك في إمكانية التنسيق‬ ‫والتعا ُون لتحقيق أهداف العمل التربوي على الوجه الأمثل‪ ،‬ويكون السبب في ذلك هو أ َّن‬ ‫بعض أفراد هذه المستويات الإدارية يحملون ُن ُظم اعتقاد مختلفة‪ .‬وقد تمنع ُن ُظم الاعتقاد‬ ‫المختلفة لدى ال ُمع ِّلمين من ُفرص التعا ُون مع ًا لتحقيق أهداف المدرسة‪ .‬وفي هذا‬ ‫السياق‪ ،‬م َّيز أحد الباحثين بين ستة أنواع من المعتقدات التي تسود بين ُمع ِّلمي المدارس‬ ‫هذه الأيام‪ ،‬وهي‪ :‬الأصولية الدينية‪ ،‬والمعرفية‪ ،‬ومطلب تحقيق الذات‪ ،‬والتكنولوجية‪،‬‬ ‫والأكاديمية‪ ،‬وإعادة البناء الاجتماعي‪(((.‬‬ ‫‪(1) Schiro, Michael Stephen. Curriculum Theory: Conflicting Visions and Enduring Concerns,‬‬ ‫‪2nd Edition, Volume 2, New York: SAGE Publications, Inc; 2nd edition (April 24، 2013)، pp 4-8.‬‬ ‫‪(2) Costa, Arthur. & Garmston, Robet. Cognitive Coaching: Developing Self-Directed Leaders‬‬ ‫‪and Learners, 3rd Edition, Maryland: Rowman & Littlefield Publishers، 2015, pp 177-184.‬‬ ‫‪113‬‬

‫وقد اعتم َد ْت إحدى الباحثات ُن ُظم الاعتقاد الستة هذه لدى ال ُمع ِّلمين‪ ،‬وب َّينَ ْت أ َّن‬ ‫الاختلاف بينها ليس بالضرورة شيئ ًا س ِّيئ ًا‪ ،‬ور َّبما يكون من المفيد أ ْن يحمل العاملون في‬ ‫المدرسة هذا التن ُّوع من المعتقدات أو الرؤى الفكرية‪ .‬وتظهر مشكلة التناقض فقط عندما‬ ‫لا يعرف أ ٌّي منهم معتقدات زملائه التي تح ِّدد طريقة تفكيرهم وا ِّتخاذهم للقرارات‪(((.‬‬ ‫أشرنا فيما سبق إلى بعض إشارات موجزة عن بعض الاتجاهات الفكرية السائدة‬ ‫في هذه الأيام‪ ،‬حيث لا نزال نجد حضور ًا ملموس ًا لمعظم الفلسفات التربوية القديمة‬ ‫والحديثة‪ ،‬ولكنَّنا نجد كذلك اتجاهات فلسفية معاصرة‪ ،‬لم تظهر من قبل بالصورة التي‬ ‫نراها اليوم‪ ،‬ونحن ندلف إلى نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين‪ .‬وفيما يأتي‬ ‫إشارات موجزة عن عدد من هذه الاتجاهات الذي نذكرها على سبيل المثال لا الحصر‪:‬‬ ‫‪ .١‬فلسفة التعليم العالمي‪:‬‬ ‫من الفلسفات التربوية التي أخذت طريقها إلى نظريات التربية المعاصرة على‬ ‫نطاق يزداد اتساع ًا يوم ًا بعد يوم فلسفة التعليم العالمي ‪ Global Education‬الذي يكاد‬ ‫يذيب الفوارق في الفلسفات التربوية بين الشعوب والأمم؛ أمل ًا في إيجاد ُموا ِط ٍن عالمي‬ ‫‪ . global citizen‬ف َث َّمة دعوا ٌت لإنشاء نظام تعليم لا يعرف الحدود بين الشعوب في‬ ‫إدارته وتطبيقه‪ .‬وبعض المجتمعات ترغب في تبنّي مثل هذا النظام؛ أمل ًا في النمو والتط ُّور‬ ‫واللحاق بغيرها من المجتمعات الأكثر تق ُّدم ًا‪ .‬وليس س ّر ًا أ َّن الولايات المتحدة الأمريكية‬ ‫وبعض الدول الأوروبية تمارس ضغوط ًا سياسية واقتصادية على مجتمعات ُأخرى لتغيير‬ ‫أنظمتها التعليمية والثقافية ب ُحجج مختلفة‪(((.‬‬ ‫ومن المفاهيم التي حاولت استشراف تو ُّجهات التعليم في القرن الحادي والعشرين‪،‬‬ ‫مفهوم \"مجتمع التع ُّلم\" ‪ Learning Society‬الذي ُين َظر إليه على أ َّنه أصبح ظاهرة دولية‬ ‫‪(1) Aguilar, Elena. Teacher Collaboration: When Belief Systems Collide, California: Edutopia‬‬ ‫‪(George Lucas Educational Foundation), Pulished March, 22, 2016, see the link:‬‬ ‫‪- https: //www.edutopia.org/blog/educational-beliefs-collide-teachers-elena-aguilar‬‬ ‫‪(2) Srisa-an, Wichit. Global Education for Asia in the Twenty-first Century, Asia-Pacific‬‬ ‫‪Journal of Cooperative Education, Volume 3, No.1, 2002, pp. 1-4.‬‬ ‫‪114‬‬

‫و\"عولمية\"‪ .‬ويرتبط هذا المفهوم ‪-‬كما يبدو‪ -‬بمفهوم أكثر شيوع ًا‪ ،‬وهو ما يشير إليه‬ ‫مصطلح \"مجتمع المعرفة\"‪ ،‬وتر ِّوج له مؤسسات إقليمية ودولية‪ ،‬مثل‪ :‬منظمة التعا ُون‬ ‫والتنمية الاقتصادية‪ (((،‬والمفوضية الأوروبية‪ (((،‬واليونسكو‪ ،‬وغيرها‪ .‬فبالرغم من أ َّن‬ ‫الثقافات المحلية والمؤسسات الوطنية لا تزال عوامل قوية في معظم المجتمعات‪ ،‬فإ َّن‬ ‫التمازج البشري عن طريق السياحة والا ِّطلاع على ممارسات ج ّذابة أصبح عوامل تع ُّلم‬ ‫تخترق الحدود؛ ما يب ِّشر بمجتمع تع ُّلم عالمي‪(((.‬‬ ‫‪ .٢‬تدويل التعليم ‪:Internationalization of Education‬‬ ‫بالرغم من أ َّن تبادل الخبرات والاقتراض الثقافي بين المجتمعات‪ ،‬لا سيما في مجال‬ ‫التعليم العالي‪ ،‬كان ظاهر ًة قديمة في التاريخ‪ ،‬وأ َّن ظهورها قد تسارع طوال القرن العشرين‪،‬‬ ‫فإ َّنها أصبحت مع نهاية القرن العشرين حرك ًة نشط ًة تسعى لبناء إطار مرجعي لها‪ (((،‬وتحليل‬ ‫القوى التي تدفع بها ُق ُدم ًا في مقابل تلك القوى التي تحاول استخدام التعليم العالي‬ ‫لأغراض وطنية محلية‪ (((.‬وقد تخ َّصصت بعضها في بيان المعاني والدوافع المختلفة لهذه‬ ‫الحركة وعلاقتها بالعولمة‪ ،‬وجهود التوفيق التي يمكن للدولة أ ْن تقوم بها بين التك ُّيف مع‬ ‫عمليات العولمة الخارجية‪ ،‬واحترام تف ُّرد الدولة وأولوياتها التاريخية والثقافية‪ (((.‬وتتم َّثل‬ ‫حركة التدويل في تعميم ُن ُظم التعليم الجامعي وبرامجه وكتبه المنهجية والمرجعية‪،‬‬ ‫وفي فتح فروع للجامعة الأُ ِّم الأوروبية أو الأمريكية في عدد من البلدان الأُخرى‪ ،‬وفي‬ ‫‪(1) Organisation for Economic Co-operation and Development (OECD).‬‬ ‫‪(2) European Commission.‬‬ ‫‪(3) Kuhn, Michael (Ed.). New Society Models for a New Millennium: The Learning Society in‬‬ ‫‪Europe and Beyond, New York: Peter LANG, 2007, p. 223.‬‬ ‫‪(4) Qiang, Zha. Internationalization of Higher Education: towards a conceptual framework,‬‬ ‫‪Policy Futures in Education, Volume 1, Number 2, 2003, pp. 248- 270.‬‬ ‫‪(5) Kerr, Clark. The Internationalisation of Learning and the nationalization of the purpose‬‬ ‫‪of Higher Education: two 'laws of motion' in conflict, European Journal of Education, Vol.‬‬ ‫‪25, No. 1, 1990, p 5-22.‬‬ ‫‪(6) Kreber, Carolin. Different Perspectives on Internationalization in Higher Education, New‬‬ ‫‪Direvtions for Teaching and Learning, Volume 2009, Issue 118, Summer 2009, pp. 1–14.‬‬ ‫‪115‬‬

‫وضع معايير دولية للاعتماد‪ ،‬و ُن ُظم دولية لتصنيف الجامعات‪ ،‬وتعزيز الثنائيات اللغوية‪،‬‬ ‫وغير ذلك‪ (((.‬ولا تقتصر جهود حركة التدويل على التعليم الجامعي‪ ،‬وإ َّنما تنشط كذلك‬ ‫في مجال التعليم العام؛ فظاهرة \"المدارس الدولية\" و\"المناهج الدولية\" و\"الامتحانات‬ ‫الدولية\" آخذ ٌة في الانتشار‪ ،‬والمراجع التي تدرس هذه الظاهرة وتحاول توجيهها يتوالى‬ ‫صدورها في بلدان مختلفة‪(((.‬‬ ‫وتش ِّجع منظمة اليونسكو اتجاهات التدويل؛ فقد جاء في أحد تقاريرها المنشورة‬ ‫\"أ َّنه ينبغي مساعدة البلدان على تعزيز ال ُب ْعد الدولي للتعليم (المناهج الدراسية‪ ،‬واستخدام‬ ‫تكنولوجيات المعلومات‪ ،‬والتعا ُون الدولي)‪ .‬وينبغي تقديم المساعدة لتعزيز النُّ ُظم‬ ‫التعليمية الوطنية عن طريق تشجيع علاقات التحالف والتعا ُون بين الوزارات على‬ ‫مستوى الإقليم‪ ،‬وفيما بين البلدان التي تواجه مشكلات متماثلة‪ .‬وينبغي تعزيز النشاط‬ ‫التقنيني لليونسكو لخدمة الدول الأعضاء‪ ،‬ومن ذلك على سبيل المثال تحقيق التوا ُفق بين‬ ‫التشريعات الوطنية والاتفاقيات الدولية‪(((\".‬‬ ‫‪ .٣‬تعليم ما بعد الحداثة ‪:Postmodernity Education‬‬ ‫إذا كانت الحداثة ‪ Modernism‬التي اجتاحت أوروبا مع حركة التنوير في الحقبة ما‬ ‫بين القرن الرابع عشر والقرن السابع عشر للميلاد‪ ،‬وانتقلت إلى بلدان العا َلم الأُخرى فيما‬ ‫بعد‪ ،‬قد أحدثت تغييرات جذرية في واقع العا َلم كله‪ ،‬فقد بدأت ظاهرة \"الحداثة\" تجد نقد ًا‬ ‫شديد ًا‪ ،‬اعتبار ًا من نهاية العقد الرابع من القرن العشرين‪ ،‬ولا تزال‪ .‬وعرفت هذه الجهود‬ ‫النقدية محاولة لنقض الأسس التي قامت عليها الحداثة‪ ،‬ولا سيما الإفراط في الاعتماد‬ ‫((( الأدبيات المتوافرة عن تدويل التعليم الجامعي كثيرة‪ ،‬ومن آخرها‪:‬‬ ‫‪- Deardorff, Darla K. & Smith, Lily A. Arasaratnam (Editors). Intercultural Competence in‬‬ ‫‪Higher Education: International Approaches, Assessment and Application, Internation-‬‬ ‫‪alization in Higher Education Series, London and New York: Routledge, 1 edition, 2017.‬‬ ‫‪- Wit, Hans De. & Cacel-Avila, Jocelyne. & Jones, Elspeth. & Jooste, Nico. (Editors).The‬‬ ‫‪Globalization of Internationalization: Emerging Voices and Perspectives, Internationali-‬‬ ‫‪zation in Higher Education Series, London and New York: Routledge, 1 edition, 2017.‬‬ ‫‪(2) McGrath, Simon. & Gu Qing. Routledge Handbook of International Education and‬‬ ‫‪Development, London and New York: Routledge, 1 edition, 2017.‬‬ ‫((( اليونسكو‪ .‬التع ُّلم ذاك الكنز المكنون‪ ،‬تقرير اللجنة الدولية في اليونسكو المعنية بالتربية للقرن الحادي والعشرين‬ ‫\"تقرير ديلور\"‪ ،‬باريس‪ :‬منظمة اليونسكو‪1996 ،‬م‪ ،‬ص‪.42‬‬ ‫‪116‬‬

‫على اليقين العقلي‪ ،‬والمنهجية العلمية‪ ،‬والحرية الفردية‪ .‬ورافق هذا النقد إشاعة فلسفة‬ ‫بديلة‪ ،‬جاءت في صورة ر ِّد فعل على فلسفة الحداثة‪ ،‬وتجاوز ًا لها؛ لذا ُس ِّميت فلسفة ما‬ ‫بعد الحداثة ‪ .postmeodernism‬ويدخل ضمن هذه الفلسفة تو ُّجهات الفلسفة العدمية‬ ‫‪ ،nihilism‬والنسوية ‪ ،feminism‬والتفكيكية‪ ،Deconstructivism ،‬وغيرها‪.‬‬ ‫ومع أ َّن ما بعد الحداثة تأخذ كثير ًا من الفلسفة البنيوية‪ ،‬التي ترى أ َّن كل فرد يبني‬ ‫رؤيته الخاصة للأشياء والأفكار‪ ،‬حيث لا توجد حقائق ثابتة أو مطلقة‪ ،‬وكل شيء يتصف‬ ‫بالنسبية؛((( فإ َّن ما بعد الحداثة خليط من الأفكار والتو ُّجهات العملية التي لا تش ِّكل‬ ‫فلسفة متم ِّيزة بمبادئها وافتراضاتها‪ ،‬وإ َّنما يسعى ر ّوادها إلى الخروج بالبشرية من مرحلة‬ ‫الحداثة؛ بموضوعيتها وعلمها ويقينها‪ ،‬إلى مرحلة تؤ ِّسس لعا َلم جديد يسوده التع ُّدد في‬ ‫الفهم والتفسير‪ ،‬والشك فيما كان ُي َع ُّد يقين ًا‪ ،‬والتناقض فيما كان يبدو متسق ًا‪ ،‬والنقض لما‬ ‫ُع ِرف من النظريات التي قامت عليها الثقافة الغربية منذ عهد التنوير‪ .‬وفي هذه الأجواء‬ ‫يكون هدف التعليم هو تمكين الطلبة من إحداث قطيعة معرفية بينهم وبين ُن ُظم الحقيقة‬ ‫التي تم تطويرها في عهد الحداثة‪ ،‬ويكون هدف المؤسسة التعليمية هو الكشف عن‬ ‫العلاقة بين المعرفة والق َّوة‪ ،‬ويكون ال ُمع ِّلم مف ِّكك ًا محترف ًا‪ ،‬ويكون هدف المنهج الدراسي‬ ‫ن ّص ًا مفتوح ًا للقراءة وسوء القراءة عن طريق آليات التفكيك‪(((.‬‬ ‫‪ .٤‬التعليم في عهد الحداثة الرقمية ‪Education for Digimodernism‬‬ ‫لم تتوقف الجهود فيما يخ ُّص تط ُّور الرؤى الفلسفية؛ ف َث َّمة ما ُكتِب عن \"ما بعد‪ ،‬ما بعد‬ ‫الحداثة‪ ،‬من خلال تحليل الواقع الذي فرضته تكنولوجيا المعلومات ومجتمع المعرفة‬ ‫والشابكة العالمية \"الإنترنت\"‪ ،‬وأصبح على مؤسسات التعليم ملاحقة التغيرات التي‬ ‫تحدث في العا َلم‪ ،‬التي ر َّبما يعرفها الطلبة قبل ُمع ِّلميهم‪ .‬وقد ُأط ِلقت على الرؤى النقدية‬ ‫لما بعد الحداثة ِع َّدة تسميات‪ ،‬منها \"الحداثة الرقمية ‪(((\".Digimodernism‬‬ ‫‪(1) Siegel, Harvey (Editor). The Oxford Handbook of Philosophy of Education, London:‬‬ ‫‪Oxford University Press, 1 edition, 2012, pp524-534.‬‬ ‫‪(2) Parker, Stuart. Reflective Teaching In The Postmodern World: A Manifesto of Education‬‬ ‫‪in Postmodernity, Buckingham: Open University Press, 1997, pp 139-158.‬‬ ‫‪(3) Kirby, Alan. Digimodernism: How New Technologies Dismantle the Postmodern and‬‬ ‫‪Reconfigure Our Culture, London & New York: Bloomsbury Academic, 1 edition, 2009.‬‬ ‫‪117‬‬

‫لقد قادت هذه الحداثة الرقمية إلى تمكين الطلبة‪ ،‬ولا سيما طلبة الجامعات‪،‬‬ ‫من استخدام التكنولوجيا الرقمية لتطوير المعلومات والآراء والتص ُّورات والأفكار‪،‬‬ ‫وامتلاكها‪ ،‬وتحويلها‪ ،‬ومناقشتها‪ ،‬واستبدال غيرها بها‪ ،‬والمشاركة بها‪ ،‬وتخزينها‪ ...‬و ِم ْن‬ ‫َث َّم بناء وتحويل الهويات والمجتمعات‪ .‬وقاد استخدام الأجهزة الرقمية إلى ثورة معرفية‬ ‫ر َّبما غ َّيرت من موقع الجامعات بوصفها سدنة المرجعية التقليدية للمعرفة الموثوقة‪(((.‬‬ ‫‪ .٥‬فلسفة تربوية من أجل السلام ‪:Educational Philosophy for Peace‬‬ ‫لاحظ بعض الباحثين الحاجة ال ُم ِل َّحة إلى فلسفة تربوية \"تو ِّفر تربية من أجل السلام\"‪،‬‬ ‫وتتعامل مع الاختلافات الدينية والعرقية والفوارق الطبقية‪-‬الاجتماعية والاقتصادية‪ ،‬وما‬ ‫تقود إليه من تش ُّدد وتع ُّصب وتط ُّرف‪ ،‬لا سيما في عا َلم اليوم الذي توافرت فيه عوامل‬ ‫عوامل عديدة جعلت الناس يعرفون عن بعضهم بعض ًا أكثر من أ ِّي وقت مضى‪ .‬فوسائل‬ ‫الإعلام والاتصال‪ ،‬والسفر والسياحة الدولية‪ ،‬والهجرة عبر البلدان‪ ،‬والتبشير الديني؛ كلها‬ ‫ي َّسرت معرفة الناس عن أديان ُأخرى غير ما ألفوه‪ ،‬وم َّكنتهم من اكتساب خبرات مباشرة‬ ‫ساعدتهم على معرفة كيف تتج ّلى المعتقدات الدينية المختلفة في حياة أتباعها‪ ،‬وق َّدمت‬ ‫لهم بصيرة حول معنى هذه المعتقدات وأثرها‪ ،‬وأصبح التن ُّوع الديني مسألة حقيقية في‬ ‫الحياة المعاصرة‪ .‬وهذه الحقيقة م َّثلت لبعض الناس مصدر تهديد لمعتقداتهم؛ ما جعلهم‬ ‫يبحثون عن مصادر الأمان‪ ،‬وم َّثلت لبعضهم الآخر تحدي ًا لاختبار درجة إيمانهم‪ ،‬أو‬ ‫لإيجاد علاقات جديدة ضمن تع ُّددية المعتقدات‪ ،‬وإمكانية تعايش أهلها‪ ،‬والعيش في بيئة‬ ‫يسودها الأمن والسلام‪(((.‬‬ ‫‪(1) Traxler, John. Modernity, mobility and the digital divides, Paper presented at the 15th‬‬ ‫‪International Conference of the Association for Learning Technology at University of‬‬ ‫‪Leeds, England, with a theme: Rethinking the digital divide, Leeds, UK, 9-11 September‬‬ ‫‪2008, P. 123-130. See link:‬‬ ‫‪- https: //www.researchgate.net/publication/306088626_Inclusion_in_an_age_of_mobility‬‬ ‫‪[accessed Sep 2, 2017].‬‬ ‫‪(2) Engebreston, Kathleen. & De Souza, Marian. & Durka, Gloria. & Gearon, Liam (Editors).‬‬ ‫‪International Handbook of Inter-religious Education, London & New York: Springer,‬‬ ‫‪2010, P. 6.‬‬ ‫‪118‬‬

‫‪ .٦‬تربية دينية بينية ‪:interreligious education‬‬ ‫أطلق الباحثون المشار إليهم في الفقرة السابقة على الفلسفة التربوية المطلوبة لهذا‬ ‫الغرض اسم الأسس الفلسفية للتربية الدينية البينية ‪ .interreligious education‬ففي العا َلم‬ ‫المعاصر الذي تتسارع فيه ظاهرة \"العولمة\"‪ ،‬لا ُب َّد للتعليم العام‪ ،‬ولا سيما في المرحلة‬ ‫الثانوية‪ ،‬من مناهج تو ِّفر البيئة الضرورية لتربية دينية بينية‪ ،‬يحترم فيها الناس بعضهم بعض ًا‬ ‫بقطع النظر عن نوع الإيمان الديني لغيرهم‪ ،‬ويتح َّقق هدف التعليم من أجل السلام‪(((.‬‬ ‫وبالرغم من سيادة المذهب العلماني في حياة معظم المجتمعات في العا َلم‪ ،‬فإ َّن‬ ‫الاتجاه الديني في فلسفة التربية لا يزال يجد حضور ًا في الجدل القائم في فلسفات التربية‪،‬‬ ‫بل إ َّن َث َّمة شعور ًا متزايد ًا ‪-‬لدى الباحثين والمف ِّكرين على المستوى الأكاديمي الجامعي‪،‬‬ ‫ومراكز البحوث‪ ،‬ودراسات المناطق‪ ،‬والدراسات السياسية والاجتماعية‪ -‬بالحاجة الما َّسة‬ ‫إلى دراسة نوع التربية الدينية التي تق ِّدمها المجتمعات المختلفة للطلبة‪ .‬وقد تخ َّصص أحد‬ ‫المراجع الحديثة بذلك‪ ،‬فعرض لواقع التربية الدينية في ‪ 53‬بلد ًا من بلدان العا َلم‪ .‬ولاحظ‬ ‫الكتاب ثلاثة نماذج تسيطر على حضور الدين في البرامج التعليمية؛ فالبلدان ذات التقاليد‬ ‫الدينية القوية تر ِّكز على دين أغلبية السكان‪ ،‬وتتبنّى نموذج بناء الهوية الدينية للمجتمع‪،‬‬ ‫ولا تهتم بالأديان الأُخرى‪ .‬والبلدان التي تفصل ما بين الدين والدولة تتبنّى نموذج الفصل‬ ‫الذي لا يعلم إلا القليل عن الدين‪ ،‬تارك ًا الأمر للمؤسسات الدينية والأسرة‪ ،‬ور َّبما ُيع ِّرف‬ ‫تعريف ًا بسيط ًا بمعظم الأديان المألوفة في المجتمع‪ .‬ونوع ثالث من البلدان لا يعلم دين ًا‬ ‫واحد ًا‪ ،‬ولا يعلم عن معظم الأديان‪ ،‬وإ َّنما يتيح تعليم ًا عن عدد قليل من التقاليد الدينية‪(((.‬‬ ‫إ َّن حضور الدين بكثافة في جدل السياسات التربوية في العا َلم اقتضى إعادة فهم‬ ‫العلاقة بين الدين والعلمانية‪ .‬والأدبيات التي تع ِّبر عن هذا الشعور كثيرة‪ ،‬منها ‪-‬على سبيل‬ ‫المثال‪ -‬كتا ٌب صدر حديث ًا‪ ،‬وشارك في كتابة فصوله مجموعة من المف ِّكرين من تخ ُّصصات‬ ‫أكاديمية متن ِّوعة في التاريخ‪ ،‬والفلسفة‪ ،‬والعلوم السياسية‪ ،‬وعلم الاجتماع‪ ،‬وغيرها‪ (((.‬وقد‬ ‫‪(1) Ibid., p. 50.‬‬ ‫‪(2) Davis, Derek. & Miroshnikova, Elena (Editors). The Routledge International Handbook‬‬ ‫‪of Religious Education, London: Routledge, 2013.‬‬ ‫‪(3) Calhoun, Craig. & Juergensmeyer, Mark. & BanAntwerpan, Jonathan. (Editors). Rethinking‬‬ ‫‪Secularism, London: Oxford University Press, 1 edition, August 12, 2011.‬‬ ‫‪119‬‬

‫لاحظ المؤ ِّلفون وجود صحوة دينية في الحياة العامة‪ ،‬تفرض على المف ِّكرين إعادة النظر‬ ‫ليس فقط في الفهم السائد للعلمانية‪ ،‬وإ َّنما في تعريف ما تتض َّمنه الافتراضات العلمانية‬ ‫ومواقف العلمانيين؛ لإعادة فهم وإدراك المعاني ذات الصلة بالدين والعلمانية‪.‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬المرجعيات الغربية للتربية‪:‬‬ ‫كشفت لنا هذه السياحة الفكرية عن بعض الظواهر التي لا تخطئ عي ُن البصير‬ ‫ملاحظ َتها‪ ،‬ونكتفي في هذا المقام بالإشارة إلى ظاهرتين‪ :‬ظاهرة \"التح ُّيز الفكري\"‪،‬‬ ‫وظاهرة \"عدم اليقين التربوي\"‪.‬‬ ‫‪ .١‬ظاهرة \"التح ُّيز الفكري الغربي\"‪:‬‬ ‫يم ِّثل التح ُّيز واحدة من المشكلات التي لا تقتصر على نظرة الغربيين إلى غيرهم‪ ،‬وإ َّنما‬ ‫تتغلغل في واقع المجتمع الغربي نفسه‪ .‬ومن الجدير بالذكر أ َّن إحدى جمعيات البحث‬ ‫الأمريكية أنشأت منذ عام ‪2016‬م مجل ًة متخ ِّصصة في قضايا التح ُّيز والهوية والتع ُّدد في‬ ‫التربية‪ ،‬باسم المجلة الدولية للتح ُّيز والهوية والتن ُّوع في التربية‪ (((.‬وهي مجلة نصف سنوية‪،‬‬ ‫تصدرها جمعية أمريكية في ولاية بنسلفانيا‪ ،‬هي جمعية إدارة مصادر المعلومات‪(((.‬‬ ‫وقد اقترح عبد الوهاب المسيري إنشاء فرع علمي متخ ِّصص باسم فقه التح ُّيز‪،‬‬ ‫قائل ًا‪\" :‬التح ُّيز حتمي‪ ،‬ولكنَّه ليس نهائي ًا‪ :‬حتمي فلا يمكن تجاوزه‪ ،‬وليس نهائي ًا‪ ،‬فهو ليس‬ ‫نهاية المطاف‪ .‬فالنهائي هو الإنسانية المشتركة (والقيم الأخلاقية) التي تسبق أ َّي تن ُّوع‬ ‫أو تح ُّيز‪ (((\".‬وقد ذكر المسيري نماذج من التح ُّيز للنموذج الحضاري الغربي في الحياة‬ ‫العربية وهيمنته عليها‪(((.‬‬ ‫والتح ُّيز ‪-‬على أ ِّي حال‪ -‬يرتبط بعقل الإنسان وطريقته في إدراك الأمور‪ .‬فالعملية‬ ‫الإدراكية ليست عشوائية‪ ،‬والتح ُّيزات الإدراكية ‪ Attentional biases‬تستطيع أ ْن تف ِّسر فشل‬ ‫‪(1) International Journal of Bias, Identity and Diversitys in Education (IJBIDE).‬‬ ‫‪(2) Information Resources Management Association.‬‬ ‫((( المسيري‪ ،‬عبد الوهاب‪ .‬فقه التحيز في كتاب إشكالية التحيز‪ ،‬هرندن‪ :‬المعهد العالمي للفكر الإسلامي‪،‬‬ ‫‪1995‬م‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.21‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.70-27‬‬ ‫‪120‬‬

‫الفرد في النظر إلى البدائل الممكنة؛ ف َث َّمة أفكا ٌر مح َّددة تقود تيار التفكير بطريقة معينة‪(((.‬‬ ‫إ َّن الغرب الأوروبي والأمريكي هو مصدر معظم الاتجاهات الفلسفية التربوية في‬ ‫العا َلم المعاصر‪ .‬ومعظم هذه الاتجاهات َت ْم َت ُح من الفلسفة الوضعية بتج ِّلياتها المتعددة‪:‬‬ ‫العقلية‪ ،‬والعلمية‪ ،‬والعلمانية‪ ،‬والإنسانية‪ ،‬والنقدية‪ ،‬والبراغماتية‪ ... ،‬ويملك الغرب‬ ‫اليوم من مؤسسات الضعط والهيمنة السياسية والاقتصادية‪ ،‬بما في ذلك مؤسسات الأمم‬ ‫المتحدة‪ ،‬ما يجعل الفلسفة الغربية الوضعية بألوانها الفكرية المتعددة وامتداداتها في‬ ‫التربية تزداد انتشار ًا وتج ُّذر ًا‪ ،‬بالرغم م ّما ينتاب الفكر التربوي الغربي من تح ُّيز ظاهر‪(((.‬‬ ‫ولا نعدم أ ْن نجد من الباحثين في الغرب نفسه َمن لاحظ ظواهر \"التح ُّيز في الفكر‬ ‫الغربي\" عموم ًا‪ ،‬وأشار إلى جوانب التح ُّيز فيها‪ (((.‬ومن ذلك ما نشره أحد الباحثين ع ّما‬ ‫س ّماه فجوة النشر‪ :‬التح ُّيز الغربي في مجلات علم النفس التربوي‪ ،‬المنشور على الموقع‬ ‫الإلكتروني لكلية التربية بجامعة مينيسوتا الأمريكية‪ ،‬وعنوان الموقع‪CEHD Vision :‬‬ ‫‪2020‬؛ أي كلية التربية‪ -‬النمو الإنساني رؤية ‪ .2020‬فقد ح َّلل الباحث ما ُن ِشر في‬ ‫ثلا ٍث من أشهر المجلات العالمية في علم النفس التربوي‪ ،‬ووجد تح ُّيز ًا مزعج ًا ينتاب‬ ‫الدراسات الغربية‪ ،‬ولاحظ أ َّن ما في هذه الدراسات لا ينطبق على أبناء العا َلم غير الغربي‪،‬‬ ‫وق َّدم بعض الأمثلة على التح ُّيز الذي يه ِّدد صدق نتائج البحث‪ ،‬والشك في إمكانية إعادة‬ ‫البحث أو تعميم نتائجه‪(((.‬‬ ‫‪(1) Baron, Jonathan. Thinking and Deciding, London & New York: Cambridge University‬‬ ‫‪Press, 2007, p. 137.‬‬ ‫((( ملكاوي‪ ،‬فتحي حسن‪\" .‬التحيز في الفكر التربوي الغربي\"‪ ،‬مجلة إسلامية المعرفة‪ ،‬العدد (‪ ،)38-37‬صيف‬ ‫وخريف ‪2004‬م‪ ،‬ص‪.202-181‬‬ ‫‪(3) Peters, Michael A. The Humanist Bias in Western Philosophy and Education, Educational‬‬ ‫‪Philosophy and Theory, Vol. 47, Iss. 11, 2015, pp. 1128-1135.‬‬ ‫‪(4) Yussen, Steve. The publication Gap: Western Bias, Educational Psychology Journal,‬‬ ‫‪College of Education and Human Development (CE-HD VISION 2020 BLOG), Posted‬‬ ‫‪Apr 22, 2016. See link:‬‬ ‫‪- https: //cehdvision2020.umn.edu/blog/western-bias-educational-psychology/‬‬ ‫انظر كذلك تقرير ًا عن التح ُّيز الغربي في التعليم‪ ،‬في منشور يختص بالجامعات البريطانية‪ُ ،‬ن ِشر في ‪21‬‬ ‫سبتمبر ‪2016‬م‪:‬‬ ‫‪- https: //glasgowguardian.co.uk/2016/09/21/western-bias-in-education/‬‬ ‫‪121‬‬

‫إ َّن النُّ ُظم التربوية السائدة في بلدان العا َلم العربي الإسلامي جاءت منذ بدايتها امتداد ًا‬ ‫للنُّ ُظم المعرفية والتربوية الغربية‪ ،‬التي تنضح بالتح ُّيز ضد حاجات هذه البلدان ومصالحها‪،‬‬ ‫ويتم َّثل ذلك في برامج التعليم العام والتعليم الجامعي‪ ،‬والسياسات التعليمية‪ ،‬و ُن ُظم‬ ‫التقويم والاعتماد‪ ،‬ومناهج البحث التربوي‪ ،‬وغيرها‪ .‬وتجد هذه البرامج والنُّ ُظم دعم ًا‬ ‫كبير ًا من الغرب‪ ،‬بوصفه وسيلة أساسية للسيطرة الأيديولوجية على التعليم‪ .‬أ ّما مخرجات‬ ‫أنظمة التعليم فإ ّنها تر ِّسخ التش ُّوه التنموي‪ ،‬والسلوك الاستهلاكي‪ ،‬والتبعية الاقتصادية‪،‬‬ ‫والطبقية الاجتماعية‪ ،‬وتغريب الأجيال الجديدة عن ثقافة الأُ َّمة وهويتها‪(((.‬‬ ‫ونود أ ْن نؤ ِّكد أ َّن الحديث عن التح ُّيز في الفكر التربوي الغربي لا يعني الدعوة إلى‬ ‫قطيعة فكرية مع الغرب في مجال الإصلاح التربوي‪ ،‬بقدر ما هو تأكيد على الدعوة إلى‬ ‫بناء رؤية كلية عن الفكر التربوي الغربي‪ ،‬تم ِّكن التربويين المسلمين من امتلاك الوعي‬ ‫بخصائص هذا الفكر‪ ،‬وتطوير منهجية مناسبة للتعامل معه‪(((.‬‬ ‫‪ .٢‬ظاهرة \"عدم اليقين التربوي\"‪:‬‬ ‫شهد النصف الثاني من القرن العشرين نقد ًا شديد ًا للفلسفات التربوية التي سادت‬ ‫العا َلم الغربي‪ ،‬وامت َّدت تطبيقاتها إلى معظم أنحاء العا َلم‪ .‬وقد ع َّزز هذا النقد بعض‬ ‫الاتجاهات الفكرية والتربوية التي ر َّكزت على المشكلات التي أحدثتها الحداثة الغربية‪،‬‬ ‫مثل‪ :‬زيادة الفوارق بين المجتمعات‪ ،‬وتعظيم ثقافة الاهتمام بالأشياء على حساب‬ ‫الإنسان‪ ،‬وتوجيه التربية إلى خدمة المجتمع الرأسمالي ومؤسساته المتوحشة‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬ ‫وقد لاحظ مؤ ِّلفا كتاب \"مستقبل مؤسسات التعليم في العصر الرقمي\"((( أ َّن أنظمة‬ ‫التعليم النظامي الحالية بقيت مماثلة لما كانت عليه طوال القرنين الماضيين‪ ،‬في إشارة إلى‬ ‫الظاهرة المألوفة؛ وهي أ َّن أنظمة التعليم بطيئة التغ ُّير‪ .‬ففي عقدي الستينيات والسبعينيات‬ ‫((( علي‪ ،‬سعيد إسماعيل‪\" .‬إشكالية التحيز في التعليم\"‪ ،‬في‪ :‬إشكالية التحيز؛ رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد‪ ،‬تحرير‪:‬‬ ‫عبد الوهاب المسيري‪ ،‬هرندن‪ ،‬فيرجينيا‪ :‬المعهد العالمي للفكر الإسلامي‪ ،‬المجلد الثاني‪ ،‬ط‪1997 ،2‬م‪،‬‬ ‫ص‪.470-439‬‬ ‫((( ملكاوي‪\" ،‬التحيز في الفكر التربوي الغربي\"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.202-181‬‬ ‫‪(3) Davidson, C.N. & Goldberg, D. T. The Future of Learning Institutions in the Digital‬‬ ‫‪Age, Cambridge, MA: MIT Press (MacArthur Foundation Report on digital Media‬‬ ‫‪and Learning). 2010.‬‬ ‫‪122‬‬

‫من القرن العشرين ظهرت تط ُّورات عديدة في أهداف التعليم وأساليبه‪ (((،‬كانت تب ِّشر بتغيير‬ ‫جذري في واقع التعليم ومؤسساته‪ ،‬بما في ذلك اختفاء الصفوف المدرسية والمدارس‬ ‫نفسها‪ (((.‬ومع ذلك بقيت المدارس وصفوفها الدراسية صامدة‪ ،‬رغم التغ ُّيرات الكثيرة‬ ‫التي أصابت ُن ُظم الحياة الاجتماعية في الصناعة‪ ،‬والتكنولوجيا‪ ،‬والإدارة‪ ،‬وغيرها‪.‬‬ ‫وبالرغم من كثرة التغييرات والتحديثات في النظرة التعليمية الغربية التي عرفها‬ ‫القرن العشرون‪ ،‬فقد ساد في هذا القرن نظا ُم تعليم تقليدي صمد لاختبار الزمن‪ ،‬حتى إ َّن‬ ‫بعض المجتمعات كانت تشعر بأ َّن التعليم فيها لا يحتاج إلا إلى بعض التحسينات الطفيفة‬ ‫بين فترة و ُأخرى‪ ،‬ولك َّن النصف الثاني من القرن العشرين شهد نقد ًا شديد ًا لهذا النظام‬ ‫ومخرجاته‪ ،‬وصل ح َّد التشكيك في قيمة مؤسساته‪ .‬وقد وجدنا أجيالاً شا َّبة ترفع صوتها‬ ‫بالاحتجاج ضد النماذج التربوية وأنواع المؤسسات المفروضة عليها‪(((.‬‬ ‫وفي توضيح عدم اليقين التربوي في الفكر الغربي‪ ،‬حتى بعد الدخول في القرن‬ ‫الحادي والعشرين‪ ،‬نعرض مثالاً يخت ُّص بمشاريع التغيير التربوي في العا َلم الغربي‪ .‬ففي‬ ‫نهاية عقد التسعينيات من القرن العشرين‪ُ ،‬ن ِشر كتاب \"الدليل الدولي للتغيير التربوي\" في‬ ‫مجلدين ضخمين (‪ 1365‬صفحة)‪ ،‬وشارك في كتابة فصوله نحو ‪ 80‬باحث ًا من مختلف‬ ‫أنحاء العا َلم‪ (((.‬وقد لاحظ مح ِّررو الكتاب الأربعة أ َّن حقبة نهاية القرن العشرين شهدت‬ ‫اهتمام ًا كبير ًا بواقع التعليم وضرورة التغيير فيه‪ ،‬حتى أصبح التغيير التربوي قريب ًا من ق َّمة‬ ‫برامج السياسات الوطنية‪ ،‬ليس فقط أولوية على مستوى السياسات‪ ،‬وإ َّنما في الأخبار‬ ‫الرئيسية العامة‪.‬‬ ‫((( عمل المؤ ِّلف في حقل التعليم المدرسي وتدريب ال ُمع ِّلمين وتصميم المناهج الدراسية في وزارة التربية والتعليم‬ ‫من ‪1978-1966‬م‪ ،‬ث َّم عمل بعد ذلك في التعليم الجامعي في مجال إعداد المعلمين حتى عام ‪1996‬م‪.‬‬ ‫((( من أمثلة هذه الأدبيات‪:‬‬ ‫‪- Goodman, Paul. Compulsory Miseducation, Harmandsworth & New York: Penguin‬‬ ‫‪Education specials, 1964.‬‬ ‫‪- Illich, Ivan. Deschooling Society. London: Penguin Education/ Penguin Books, 1973.‬‬ ‫‪(3) Faure, Edgar. Learning to be: The world of education today and tomorrow, Paris:‬‬ ‫‪Unesco, (First edition was in 1972), Seventh impression, August 1982, p xix.‬‬ ‫‪(4) Hargreaves, Andy. & Lieberman, Ann. & Fullan, Michael. & Hopkins, david.‬‬ ‫‪International Handbook of Educational Change, (2 Volumes), London: Kluwer‬‬ ‫‪Academic Publishers, Springer, 1998.‬‬ ‫‪123‬‬

‫وبعد أ ْن و َّضحت مقدمة هذا الكتاب المرجعي المجالات التي حدثت فيها جهود‬ ‫التغيير التربوي في كثير من بلدان العا َلم‪ ،‬ذكرت أ َّن نتائج هذه الجهود أدت إلى وض ٍع جع َل‬ ‫ال ُمع ِّلمين والإداريين في العمل التربوي يشعرون بأ َّن النُّ ُظم التي يعملون فيها ليست معقدة‬ ‫فحسب‪ ،‬بل تتدهور بصورة فوضوية‪ ،‬وأ َّن هذه الفوضي أم ٌر موروث في المجتمعات‬ ‫والمنظمات التي ُتن َشر فيها المعلومات‪ ،‬و ُت َّت َخذ فيها القرارات بسرعة متزايدة‪ ،‬وهي كذلك‬ ‫نتيجة لسياسات تتش َّكل وتتغ َّير باستمرار من جماعات ذات مصالح متنافسة ومعارك‬ ‫أيديولوجية بهدف اكتساب عقول الشباب‪ ،‬وفي بعض الأحيان نتيجة \"عدم يقين مصطنع\"‬ ‫‪ manufactured uncertainty‬تصنعه بعض الحكومات؛ لخلق الهلع في الميدان‪ ،‬وتبرير‬ ‫التد ُّخل‪ ،‬وإبقاء التربويين والجميع في حالة عدم توا ُزن‪.‬‬ ‫وتجدر الإشارة إلى أ َّن التغييرات الحقيقية في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن‬ ‫العشرين كانت نادرة وعرضية‪ ،‬ولم ُتح ِدث تأثير ًا حقيقي ًا‪ ،‬أو ُتعالِج ُص ْلب المسائل التي‬ ‫يف ِّكر فيها ال ُمع ِّلمون‪ ،‬واقتصرت على مسائل شكلية‪ ،‬مثل‪ :‬تنظيم الموضوعات الدراسية‪،‬‬ ‫ومستويات تحصيل الطلبة في المدارس المختلفة‪ ،‬وتوزيع الطلبة في داخل المدرسة على‬ ‫أساس القدرة والجنس والعرق‪ .‬وما تزال التغييرات التي تحدث في مطلع القرن الحادي‬ ‫العشرين تصيب ال ُمع ِّلمين بالقلق‪.‬‬ ‫وفي ضوء ذلك عرض مح ِّررو الكتاب \"مجموعة من النظريات والاستراتيجيات‬ ‫في التغيير التربوي التي يمكن أ ْن ُت ِعين في التعامل مع هذه البيئة المعقدة المملوءة‬ ‫بالفوضى والتناقض‪(((\".‬‬ ‫وبعد عشر سنوات من نشر الكتاب المذكور أصدر المح ِّررون كتاب ًا آخر في الموضوع‬ ‫نفسه‪ ،‬وجاء كذلك كتاب ًا ضخم ًا على نمط الكتاب السابق في حجمه (‪ 1077‬صفحة)‪،‬‬ ‫وموضوعاته‪ ،‬وعدد الباحثين المشاركين في إعداد بحوث فصوله‪ ،‬وتمثيلهم لكثير من‬ ‫بلدان العا َلم‪ (((.‬وجاء هذا الكتاب الثاني لرصد التغيير التربوي الذي حدث في السنوات‬ ‫‪(1) Ibid., pp 1-5.‬‬ ‫‪(2) Hargreaves, Andy. & Lieberman, Ann & Fullan, Michael. & Hopkins, david. Second International‬‬ ‫‪Handbook of Educational Change, (Springer International Handbooks of Education), Dordrecht‬‬ ‫‪Heidelberg London New York: Springer Science+Business Media B.V, 2010.‬‬ ‫‪124‬‬

‫العشر الأُولى من القرن الحادي والعشرين الميلادي‪ .‬ويستخلص المح ِّررون أ َّن التغيير‬ ‫التربوي واستراتيجيات الإصلاح واتجاهات البحث المصاحبة أصبحت أكبر حجم ًا‪،‬‬ ‫وأشد ضبط ًا‪ ،‬وأكثر تعقيد ًا‪ ،‬وأكثر تم ُّلق ًا ‪bigger, tighter, harder and flatter.‬‬ ‫وفي توضيح هذه الخصائص الأربع‪ ،‬أشار المح ِّررون في مقدمتهم للكتاب إلى‬ ‫الإحباط الناتج عن الفشل في نشر نتائج التغيير‪ ،‬والضعف في تصميم الإجراءات عبر‬ ‫النظام التعليمي‪ ،‬وقصر زمن التطبيق بحيث لا تظهر نتائجه‪ُ ،‬مب ِّينين أ َّن جهود التغيير التربوي‬ ‫في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين استندت إلى بيانات وأرقام وإحصائيات‬ ‫الاختبارات ال ُمقنَّنة‪ ،‬التي أقصت الخبرة والقدرة على التأ ُّمل والحكم السليم‪ .‬ومع أ َّن‬ ‫هذه البيانات \"ال ُّص ْلبة\" ق َّدمت لل ُمع ِّلمين فائد ًة لتع ُّرف الطلبة والمجموعات التي تحتاج‬ ‫إلى مساعدة أكثر من غيرها‪ ،‬فإ َّن الحماس للتعليم والتحسين بنا ًء على هذا الأساس قد‬ ‫أنتج بعض المخاطر والسلبيات؛ فالأهداف التربوية الناتجة على أساس هذا التعليم ليست‬ ‫ملائمة لأهداف مجتمع المعرفة المنشود‪ ،‬ولا تح ِّقق أهداف ًا أكثر أهمية تخت ُّص بالنوعية‬ ‫العالية والممارسات الإبداعية‪ .‬أ ّما الجهود التي ُب ِذلت عبر التحديثات والتغييرات التربوية‬ ‫فقد انشغلت كثير ًا بتقليص الفجوات بين مجموعات الطلبة والمدارس‪ ،‬إلى درجة ر َّسخت‬ ‫خرافة المدارس التي لا تحوي فجوات‪.‬‬ ‫لقد اعتمدت معظم برامج التغيير على ضبط إداري مركزي يأتي من فوق‪ ،‬بشروط‬ ‫ومواصفات ونماذج تقويم‪ ،‬تبحث عن التغيير السريع الذي ر َّبما لا يستمر أثره‪ ،‬و ُتو ِّجه‬ ‫نشاطات التعليم لخدمة الاختبارات ال ُمقنَّنة‪ ،‬علم ًا بأ َّن النتائج المستدامة إ َّنما يمكن‬ ‫ضمانها من التطوير التربوي الحقيقي بمبادرات وجهود ميدانية‪.‬‬ ‫إ َّن هذه التوجيهات المركزية في الإصلاح التربوي ببريطانيا انتزعت الابتكار‬ ‫والإبداع‪ ،‬والاحتياجات الأساسية للاكتشاف والنمو عند الأطفال‪ ،‬من المناهج المدرسية‪،‬‬ ‫وو َّجهت طاقة ال ُمع ِّلمين نحو الاختبارات الحكومية؛ حتى إ َّن هيئة المراجعة الخاصة في‬ ‫حكومة المملكة المتحدة أشارت إلى بعض الاستنتاجات نفسها‪((( .‬‬ ‫‪(1) Hargreaves, Andy. & Lieberman، Ann. & Fullan, Michael. & Hopkins, david. Second‬‬ ‫‪International Handbook of Educational Change (Springer International Handbooks of‬‬ ‫‪Education), Dordrecht Heidelberg London New York: Springer Science+Business Media‬‬ ‫‪B.V., 2010, Volume one, pp. xii-xviii.‬‬ ‫‪125‬‬

‫لقد تك َّررت ظاهرة \"عدم اليقين التربوي\" في كثير من الكتابات‪ ،‬ولا سيما في‬ ‫الولايات المتحدة الأمريكية تحديد ًا‪ .‬فقد أورد أحد الباحثين ملاحظاته على استراتيجيات‬ ‫إصلاح التعليم‪ ،‬التي جاءت على شكل موجات متلاحقة في المدارس الأمريكية‪ ،‬على‬ ‫مدار الأربعين سنة الماضية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فقليل منها تم َّكن من اختراق النظام‪ ،‬وأ َّثر فيه‬ ‫بصورة عميقة‪ ،‬وذلك في الوقت الذي كشفت لنا التقارير المتتابعة عن الحالة المزعجة‬ ‫في المدارس الأمريكية ومشكلاتها الحادة‪ .‬فالمفارقات التي تدعو إلى السخرية في‬ ‫قضايا الإصلاح في التعليم المدرسي كثيرة‪ ،‬على الأقل عند النظر إلى المسألة من منظور‬ ‫دولي‪ .‬وهذا يدعو إلى التساؤل عن استراتيجيات الإصلاح الف ّعالة‪ ،‬وما تخضع له هذه‬ ‫الاستراتيجيات في الظروف السياسية‪ ،‬أو الثقافية‪ ،‬أو المؤسسية‪ ،‬أو حتى الفردية!(((‬ ‫\"في الستينات والسبعينات كنّا نظن أ َّن لدينا بعض الإجابات على استراتيجيات‬ ‫الإصلاح العملي‪ ،‬وتب َّين لنا أ َّن هذه الاستراتيجيات هي أفكار وتجارب جزئية محدودة‬ ‫النتائج‪ .‬وساد عقد الثمانينات في معظم بلدان العا َلم نه ٌج أكثر شمولية لإصلاح التعليم‬ ‫المدرسي‪ ،‬وغالب ًا ما كان يجمع بين مشاركة قوية للدولة مع محاولة لتحقيق اللامركزية‬ ‫في صنع القرار‪ .‬والدرس المستخلص من الثمانينات هو أ َّن إعادة الهيكلة كان ُحلم ًا أكثر‬ ‫م ّما كان واقع ًا‪ .‬أ ّما جهود إصلاح التعليم في التسعينات فقد تب َّين أ َّن هذا المجال هو ح ّق ًا‬ ‫مجال مفتوح على مصراعيه‪(((\".‬‬ ‫وقد اهتمت منظمة اليونسكو بشأن التعليم في العا َلم‪ ،‬وأوكلت دراسة واقع التربية‬ ‫والتعليم في بلدان العا َلم إلى عدد من اللجان التي أصدرت مجموعة من الوثائق والتقارير‬ ‫التي تكشف عن خلل كبير في أنماط التعليم السائدة في العا َلم‪ ،‬والفكر التربوي الذي‬ ‫يقود هذه الأنماط‪ .‬وهو ما يع ِّزز ظاهرة \"عدم اليقين\" في الممارسات التربوية في أنحاء‬ ‫العا َلم‪ .‬ففي تقرير اليونسكو عن التعليم في العا َلم عام ‪1972‬م \"تقرير إديجار فور\"‪ ،‬ع َّبر‬ ‫مح ِّررو التقرير عن تفاجئهم عندما تب َّين أ َّن مشكلات التعليم‪ ،‬مم َّثل ًة في الفشل في تحقيق‬ ‫الأهداف‪ ،‬والتك ُّيف الخطأ للتلاميذ‪ ،‬لا تقتصر على البلدان النامية‪ ،‬فـ \"من وجهة النظر‬ ‫‪(1) DALIN, PER. Developing the Twenty-First Century School: A Challenge to Reformers in: David,‬‬ ‫‪Hopkins (Ed.). The Practic and Theory of School Improvement. (Handbook of Educational‬‬ ‫‪Change) Dordrechtm The Netherlands: Springer Academic Publishers, 2005, pp. 25-39.‬‬ ‫‪(2) Ibid., p. 26.‬‬ ‫‪126‬‬

‫التعليمية‪ ،‬يعني ذلك أ َّن التعليم فيما يس ّمى بـ\"البلدان المتقدمة\" يواجه بشكل مفاجئ‬ ‫وضع ًا داخلي ًا متخ ِّلف ًا‪ .‬فالتك ُّيف الخاطئ‪ ،‬والفشل في هذه البلاد‪ ،‬على الأقل نسبي ًا‪ ،‬هي‬ ‫أعراض مم ِّيزة للتلاميذ كما هي في سائر الناس‪ ،‬وهي حالة مماثلة لتلك التي توجد في‬ ‫البلدان المستع َمرة سابق ًا‪ ،‬فالتلاميذ فيها هم منتجات التعليم على النمط الغربي الذي‬ ‫استوردته هذه البلاد بكل تفاصيله؛ البرميل‪ ،‬والمحتوى‪ ،‬والقفل‪(((\".‬‬ ‫ومن بين وثائق اليونسكو وثيقة صدرت عام ‪2015‬م‪ ،‬وحملت عنوان \"إعادة التفكير‬ ‫في التربية والتعليم‪ :‬نحو صالح مشترك عالمي\"(((‪ ،‬وهي \"تؤ ِّيد الرؤية التي ق َّدمها مطبوعا‬ ‫اليونسكو الم ْع َلمان‪\" :‬تع َّلم لتكون‪ :‬عالم التربية اليوم وغد ًا‪ -‬تقرير فو\" (‪1972‬م)؛‬ ‫و\"التع ُّلم‪ :‬ذلك الكنز المكنون‪ -‬تقرير ديلور\" (‪1996‬م)‪\".‬‬ ‫والشاغل المحوري في هذه الوثيقة هو مفهوم \"التنمية المستدامة\" التي لم تتح َّقق‬ ‫من خلال ممارسات المذهب الاقتصادي‪ ،‬والمذهب النفعي؛ فهذان المذهبان لم يمنعا‬ ‫تزايد \"ضعف الحال واللامساواة‪ ،‬والاستبعاد‪ ،‬والعنف عبر العا َلم داخل المجتمعات‬ ‫وفيما بينها‪ \".‬وهو ما دعا اللجنة التي أع َّدت التقرير إلى تأكيد \"أ َّن النظر من جديد في‬ ‫مقاصد التربية والتعليم‪ ،‬وفي تنظيم التع ُّلم‪ ،‬هو حاجة ما َّسة في هذه الأيام أكثر م ّما في‬ ‫أ ِّي وقت‪( ...‬و) حاجة متنامية إلى التوفيق بين إسهام النواظم الثلاثة للسلوك الاجتماعي‪:‬‬ ‫المجتمع‪ ،‬والدولة‪ ،‬والسوق‪ \".‬ولذلك دعت الوثيقة المشار إليها إلى تجاوز المذهبين‬ ‫النفعي والاقتصادي الض ِّيقين‪ ،‬واقترح \"نهج ًا إنساني ًا شامل ًا يستطيع‪ ،‬وينبغي له‪ ،‬أ ْن ُيس ِهم‬ ‫في تحقيق نموذج إنمائي جديد‪ُ ...‬يعلي شأن الناس الذين كثير ًا ما يما َرس بحقهم التمييز‪،‬‬ ‫مثل‪ :‬النساء‪ ،‬والفتيات‪ ،‬والسكان الأصليين‪ ،‬والأشخاص المعوقين‪ ،‬والمهجرين‪،‬‬ ‫والمسنين‪ ،‬والمقيمين في بلدان تخوض حالة نزاع‪(((\".‬‬ ‫‪(1) Faure, Edgar. Learning to be: The world of education today and tomorrow, Paris: Unesco, (First‬‬ ‫‪edition was in 1972)، Seventh impression, August 1982, xxviii.‬‬ ‫((( اليونسكو‪ .‬إعادة التفكير في التربية والتعليم‪ :‬نحو صالح مشترك عالمي‪ ،‬باريس‪ :‬منظمة الأمم المتحدة للتربية‬ ‫والعلوم والثقافة‪2015 ،‬م‪.‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.10-9‬‬ ‫‪127‬‬

‫خاتمة‪:‬‬ ‫نأمل أ ْن يكون هذا الفصل بموضوعاته الثلاثة وتف ُّرعات كل موضوع قد ق َّدم صورة‬ ‫عامة ع ّما احتواه عنوان الفصل من مفهوم \"الفكر التربوي\"‪ ،‬وموقع المفهوم من المفاهيم‬ ‫ذات الصلة‪ ،‬والتط ُّور التاريخي لهذا المفهوم‪ ،‬وموضوعه‪ ،‬وصلته بالفلسفات والنظريات‬ ‫التربوية‪ ،‬وموقع ذلك في الفكر التربوي الإسلامي‪.‬‬ ‫م َّيز الموضوع الأول في الفصل بين مفهوم \"الفكر التربوي\" ومفهوم \"التراث‬ ‫التربوي\"‪ ،‬وبين النظرية التربوية والفلسفة التربوية‪ .‬وق َّدم فكر ًة عن حضور الفكر‬ ‫التربوي في الكتابات الحديثة والمعاصرة باللغة العربية‪ ،‬وعدد من اللغات الأُخرى‪،‬‬ ‫لا سيما الإنجليزية‪ ،‬ولغات الشعوب الإسلامية‪ .‬ث َّم ب َّين موقع الفكر التربوي الإسلامي‬ ‫من جهود النهوض الحضاري لل ُأ َّمة المسلمة‪ ،‬وما ناله ‪-‬ولا يزال يناله‪ -‬من استهداف‬ ‫منذ مطلع القرن الحادي والعشرين الميلادي‪.‬‬ ‫والفكر التربوي الإسلامي الذي يستهدفه الكتاب بصورة عامة هو مجال خاص من‬ ‫مجال عام‪ ،‬هو الفكر التربوي البشري‪ .‬لذلك رأينا أ ْن نخ ِّصص موضوع ًا ُمط َّولاً نسبي ًا‬ ‫عن تط ُّور الفكر التربوي في الحضارات البشرية القديمة في مصر والعراق والصين‬ ‫واليونان‪ ،‬وحضوره في السياق الديني اليهودي والمسيحي‪ ،‬وفي التاريخ الأوروبي‬ ‫الوسيط والحديث‪ .‬وعرضنا نماذج من مف ِّكري عصر النهضة والتنوير الأوروبي‪ .‬وأخير ًا‬ ‫أشرنا إشارات موجزة إلى عدد من المذاهب والتو ُّجهات الفلسفية التقليدية في الفكر‬ ‫التربوي الحديث‪.‬‬ ‫وإذا كان الموضوع الثاني قد تت َّبع بعض محطات التط ُّور في الفكر التربوي البشري‬ ‫في الإطار التاريخي‪ ،‬فقد بقي علينا أ ْن نتح َّدث عن الفكر التربوي البشري المعاصر‪،‬‬ ‫والفلسفات التي تحكمه‪ ،‬والمرجعيات الغربية لهذه الفلسفات‪ .‬وهذا ما كان موضوع ًا‬ ‫للموضوع الثالث من الفصل‪.‬‬ ‫‪128‬‬

‫وقصدنا من هذا التو ُّسع في مادة الفصل الأول أ ْن نم ِّهد السبيل للفصول القادمة‬ ‫من الكتاب‪ ،‬التي سوف تتناول الفكر التربوي الإسلامي تحديد ًا في سياقه التاريخي؛‬ ‫لذا جاء الفصل الثاني عن التراث التربوي الإسلامي‪ ،‬ث َّم مصادره ومقاصده وموضوعاته‬ ‫وخصائصه في الفصول الأربعة التالية‪ ،‬ونعود في الفصل السابع والأخير لنختم الكتاب‬ ‫بالحديث عن واقع الفكر التربوي الإسلامي المعاصر و ُسبل النهوض به‪.‬‬ ‫ونحسب أ َّن بناء الفصل الأول بهذه الطريقة سيكون أمر ًا مفيد ًا في وضع الفكر‬ ‫التربوي الإسلامي في الإنجاز الحضاري البشري في السياق التاريخي والمعاصر‪ .‬فقد‬ ‫أسهمت الأُ َّمة المسلمة في تاريخها إسهام ًا كبير ًا في تطوير الفكر التربوي‪ ،‬لكنَّها اليوم‬ ‫تعاني حال َة التبعية والاستلاب في مجال الفكر التربوي‪ ،‬وفي الكثير من المجالات‬ ‫الأُخرى‪ .‬ونحسب كذلك أ َّن إعادة بناء الفكر التربوي الإسلامي في ضوء التح ِّديات‬ ‫القائمة سيكون وسيلة لإعادة حضور الأُ َّمة على مسرح العا َلم المعاصر؛ ليس لأ َّن الفكر‬ ‫التربوي الإسلامي وسيلة لبناء أجيال الأُ َّمة المسلمة فحسب‪ ،‬بل لأ َّن هذا الفكر هو الأكثر‬ ‫تأهيل ًا ليكون فكر ًا تربوي ًا عالمي ًا‪.‬‬ ‫‪129‬‬



‫الفصل الثاني‬ ‫التراث التربوي الإسلامي‬ ‫مقدمة ‬ ‫المبحث الأول‪ :‬مفهوم \"التراث\" وتط ُّور موضوعاته ومؤسساته‬ ‫أولاً‪ :‬مفهوم \"التراث التربوي\"‬ ‫ثاني ًا‪ :‬جدل القديم والحديث في التراث التربوي الإسلامي‬ ‫المبحث الثاني‪ :‬بعض معالم التط ُّور في التراث التربوي الإسلامي‬ ‫أولاً‪ :‬تط ُّور في علم التفسير‬ ‫ثاني ًا‪ :‬تط ُّور في مسؤولية التعليم‬ ‫ثالث ًا‪ :‬تط ُّور في مكانة ال ُمع ِّلم ومهنة التعليم‬ ‫رابع ًا‪ :‬تط ُّور في علاقة العلماء بالحكام‬ ‫خامس ًا‪ :‬التط ُّور في أخذ الأجرة على التعليم‬ ‫سادس ًا‪ :‬التط ُّور في المؤسسات التعليمية‬ ‫سابع ًا‪ :‬التط ُّور في الاتجاهات والمدارس الفكرية في التراث التربوي الإسلامي‬ ‫المبحث الثالث‪ :‬أعلام التراث التربوي ومص ّنَفاته ومدارسه‬ ‫أولاً‪ :‬أعلام التراث ومصنَّفاته‬ ‫ثاني ًا‪ :‬مدارس التراث التربوي‬ ‫المبحث الرابع‪ :‬أدبيات التراث التربوي الإسلامي في الكتابات المعاصرة‬ ‫أولاً‪ :‬الجهود البحثية المشتركة‬ ‫ثاني ًا‪ :‬الأطروحات والرسائل الجامعية التربوية‬ ‫ثالث ًا‪ :‬التراث التربوي في المجلات الدورية‬ ‫رابع ًا‪ :‬التراث التربوي الإسلامي في الكتب المنشورة‬ ‫خاتمة‬



‫الفصل الثاني‬ ‫التراث التربوي الإسلامي‬ ‫مقدمة‪:‬‬ ‫حين نتح َّدث عن \"التراث التربوي الإسلامي\" في كتاب عن \"الفكر التربوي‬ ‫الإسلامي\"‪ ،‬فنحن ُنؤ ِّكد أهمية التراث في تطوير الفكر المعاصر‪ ،‬ولك َّن الفكر الذي‬ ‫نعنيه أوسع نطاق ًا وأكثر شمولاً من التراث؛ فالتراث مصدر من مصادر الفكر‪ ،‬وهو خبرة‬ ‫بشرية تك َّونت من جهود علماء المسلمين في التنظير والممارسة‪ ،‬ولك َّن موقعه لا يتح َّدد‬ ‫إلا بالنظر في المصادر الثلاثة الأُخرى‪ ،‬وهي‪ :‬القرآن الكريم‪ ،‬وال ُّسنة النبوية‪ ،‬والخبرة‬ ‫البشرية المعاصرة؛ فالقرآن الكريم وال ُّسنة النبوية هما المرجعية التي تحكم تقويمنا‬ ‫للتراث وللخبرة البشرية المعاصرة‪ .‬والخبرة البشرية للماضي (أ ِي التراث)‪ ،‬والخبرة‬ ‫البشرية المعاصرة هما مصدران مهمان في فهمنا وتنزيلنا لمقاصد القرآن الكريم وال ُّسنة‬ ‫النبوية‪ .‬ومن هنا‪ ،‬يأتي التكا ُمل بين هذه المصادر الأربعة‪ :‬القرآن الكريم‪ ،‬وال ُّسنة النبوية‪،‬‬ ‫والتراث الإسلامي‪ ،‬والخبرة البشرية المعاصرة‪.‬‬ ‫ولذلك سيكون من المفيد أ ْن نتذ َّكر هذا التمييز بين التراث التربوي الماضي والفكر‬ ‫التربوي المعاصر‪ ،‬لا سيما حين نلاحظ أ َّن كثير ًا من المؤ َّلفات التي ُكتِبت تحت عنوان‬ ‫\"الفكر التربوي الإسلامي\" كانت ‪-‬في الحقيقة‪ -‬حديث ًا عن التراث التربوي الإسلامي‪.‬‬ ‫وإذا كان التراث التربوي الإسلامي موضع نظر وتقويم في ضوء مرجعية القرآن‬ ‫الكريم وال ُّسنة النبوية‪ ،‬فمن المهم أ ْن ننظر إليه نظر ًة موضوعي ًة لا تبخسه قيمته‪ ،‬ولا تعطيه‬ ‫أكثر من ذلك‪ .‬فقد كان هذا التراث في عصره هو الفكر التربوي وقتئ ٍذ‪ ،‬وليس بالضرورة‬ ‫أ ْن تتساوى قيمته في عصره مع قيمته في عصرنا هذا‪ .‬وقد لاحظنا أ َّن كثير ًا من الدراسات‬ ‫المعاصرة عن التراث لم تكن تقويم ًا موضوعي ًا‪ ،‬لا في بيان قيمته في عصره‪ ،‬ولا في بيان‬ ‫قيمته لعصرنا‪ ،‬بل اقتصر في معظم الأحيان على الإعلاء من شأن هذا التراث وتمجيده‪،‬‬ ‫ومقارنته (أو مقاربته) بما استقر في عصرنا من أفكار وممارسات‪.‬‬ ‫‪133‬‬

‫والتراث التربوي الإسلامي ُيم ِّثل جهود علماء الأُ َّمة الإسلامية على امتداد تاريخها‬ ‫واتساع بلادها‪ ،‬وهو تعبي ٌر عن اجتهاد هؤلاء العلماء في فهم مقاصد الإسلام‪ ،‬في نصوصه‬ ‫الأساسية في القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية‪ ،‬وتوثي ٌق لممارسات المجتمع الإسلامي‬ ‫في ميدان التع ُّلم والتعليم والتأديب والتنشئة والتربية‪ ،‬في ضوء الاجتهاد في فهم تلك‬ ‫النصوص وتنزيلها على واقعهم في الزمان والمكان‪ .‬ومع أ َّن التراث الإسلامي ‪-‬في كثير‬ ‫من موضوعات الفقه‪ ،‬والتفسير‪ ،‬والحديث‪ ،‬ورواية الشعر‪ ،‬والأدب‪ ،‬واللغة‪ ،‬والتاريخ‪،‬‬ ‫والتصوف‪ -‬كان ُيك َتب ليكون موضوعات للتعليم‪ ،‬فإ َّننا نقصر دلالة التراث التربوي‬ ‫على كتابات مح َّددة تخت ُّص بعناوين‪ ،‬من مثل‪ :‬أدب الطلب‪ ،‬وآداب العالِم وال ُمتع ِّلم‪،‬‬ ‫وما تض َّمنته هذه الكتابات من موضوعات‪ ،‬مثل‪ :‬فضل العلم والتعليم‪ ،‬ومكانة ال ُمع ِّلم‪،‬‬ ‫وطرق التعليم‪ ،‬ومؤسسات التعليم‪ ،‬وتعليم الصبيان‪ ،‬وتعليم القرآن؛ وما قد يقارب بعض‬ ‫العناوين الحديثة التي تربط موضوعات تربوية مع موضوعات نفسية مثل علم النفس‬ ‫التربوي‪ ،‬ونظريات التعلم‪ ،‬ودوافع التعلم وتأثرها بالشخصية‪ ،...‬سواء كان ذلك في‬ ‫كتب تحمل مثل هذه العناوين‪ ،‬أو كانت هذه العناوين فصولاً أو أبواب ًا في كتب الفقه‪ ،‬أو‬ ‫التاريخ‪ ،‬أو الأدب‪ ،‬أو التصوف‪ ،‬أو الفلسفة‪ ،‬أو غير ذلك‪.‬‬ ‫فالتراث التربوي الإسلامي‪َ ،‬م َث ُله في ذلك َم َثل كل مجالات التراث الإسلامي‪ ،‬ليس‬ ‫تراث القرن الأول فحسب‪ ،‬ولا حتى تراث القرون الثلاثة الأُولى‪ ،‬ولكنَّه تراث ممتد على‬ ‫مد ًى يزيد على ثلاثة عشر قرن ًا‪ُ .‬ث َّم إ َّنه ليس تراث تعليم القرآن والفقه وأحكام الشريعة‬ ‫وحسب‪ ،‬وإ َّنما هو‪ ،‬إضاف ًة إلى ذلك‪ ،‬سائر أنواع التعليم الأُخرى التي مارستها المجتمعات‬ ‫الإسلامية من تعليم اللغة‪ ،‬والأدب‪ ،‬والفلك‪ ،‬والطب‪ ،‬فضل ًا عن ِحرف الزراعة والصناعة‬ ‫والبناء وفنون الحرب وغيرها‪.‬‬ ‫ومع أ َّن البحث في التراث التربوي الإسلامي يأخذ مكان ًا مهم ًا في الدراسات العلمية‬ ‫\"الأكاديمية\" في برامج التعليم والبحث العلمي‪ ،‬بوصفه موضوع ًا للتط ُّور التاريخي‪ ،‬أو‬ ‫تأصيل ًا للهوية القومية أو الدينية‪ ،‬فإ َّن اهتمامنا به في هذا الكتاب يستهدف أ ْن يكون مصدر ًا‬ ‫من المصادر التي نحتاج إليها لبناء فكر تربوي إسلامي معاصر‪ ،‬إلى جانب مصادر ُأخرى‬ ‫‪134‬‬

‫تتجاوز التراث؛ للاستلهام المباشر لمقاصد الإسلام في نصوصه الأساسية في القرآن‬ ‫الكريم وال ُّسنة النبوية‪ ،‬والاستئناس بفهم علماء الأُ َّمة لتلك المقاصد‪ ،‬كما جاء هذا الفهم‬ ‫في مادة التراث‪ ،‬إضاف ًة إلى التعامل الراشد مع الخبرة الإنسانية المعاصرة‪ ،‬بتحلي ٍل نقد ٍّي؛‬ ‫سعي ًا وراء ما يتوافر فيها من الحكمة‪ ،‬وتط ُّلع ًا إلى بناء نماذج ت َّتص ُف بالأصالة والإبداع‪،‬‬ ‫وتقود إلى تطوير الواقع واستشراف المستقبل‪.‬‬ ‫ومع أ َّن الأُ َّمة الإسلامية عرفت الامتداد الواسع في المكان‪ ،‬والتن ُّوع الكبير في الأقوام‬ ‫والأعراق واللغات‪ ،‬والتع ُّدد في الممالك و ُن ُظم السياسة؛ وأ َّن لغة العلم كانت في الغالب‬ ‫هي اللغة العربية‪ ،‬فإ َّن ما ُكتِب في موضوعات التربية والتعليم بغير العربية لم يكن قليل ًا؛‬ ‫لذا‪ ،‬فإ َّن حديثنا في هذا الفصل سيقتصر على الإشارة إليه‪ ،‬والدعوة إلى كشفه ودراسته‪.‬‬ ‫‪135‬‬

‫المبحث الأول‬ ‫مفهوم \"التراث\" وتط ُّور موضوعاته ومؤسساته‬ ‫أولاً‪ :‬مفهوم \"التراث التربوي\"‪:‬‬ ‫يرتبط التراث بالتاريخ ارتباط ًا وثيق ًا؛ فلكل ُأ َّمة من أمم الجنس البشري تاري ُخها‪ ،‬وفي‬ ‫هذا التاريخ َتك َّون تراثها‪ .‬ويبقى تراث الأُ َّمة خاصي ًة من الخصائص المؤ ِّثرة في وجودها‬ ‫وهويتها‪ ،‬وعنصر ًا مهم ًا في مرجعيتها‪ .‬والأمم التي تش َّكلت حديث ًا تسعى لوضع تاريخ لها‪،‬‬ ‫واكتشاف ما قد يكون فيه من تراث‪.‬‬ ‫والتراث والميراث والإرث‪ ،‬في اللغة‪ ،‬من الجذر الثلاثي ( َو ِر َث)‪ ،‬ومنه قول تعالى‪:‬‬ ‫﴿ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﴾ [النمل‪ ،]١٦:‬وقوله سبحانه‪ ﴿ :‬ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺﭻ ﭼﭽ‬ ‫ﭾﭿﮀﮁ﴾ [مريم‪ .]٦-٥:‬وقد جاء لفظ \"التراث\" في القرآن الكريم في قوله سبحانه‪:‬‬ ‫﴿ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﴾ [الفجر‪ .]١٩:‬قال ابن عاشور في تفسير هذه الآية‪:‬‬ ‫\"والتراث‪ :‬المال الموروث؛ أ ِي‪ :‬الذي ُيخ ِّلفه الرجل بعد موته لوارثه‪ ...‬والأكل‪ :‬مستعار‬ ‫للانتفاع بالشيء انتفاع ًا لا ُيبقي منه شيئ ًا‪ ...‬أ ْي‪ :‬تراث اليتامى‪ ،‬وكذلك كان أهل الجاهلية‬ ‫يمنعون النساء والصبيان من أموال مو ِّرثيهم‪ ...‬المراد التراث الذي لا حق لهم فيه‪(((\". ...‬‬ ‫والتراث في الاصطلاح‪ :‬ما يتركه الآباء بعد وفاتهم إلى الأبناء‪ ،‬أو ما تتركه أجيال‬ ‫الأُ َّمة السابقة إلى أجيالها اللاحقة؛ مادي ًا‪ ،‬أو معنوي ًا‪ .‬وهو ثمرة ما أنتجه العق ُل البشري‪ ،‬أو‬ ‫أنجزه السع ُي البشري في مختلف شؤون الحياة المادية والمعنوية‪ .‬فبالإضافة إلى الميراث‬ ‫المادي من مال وأرض وبناء وغيرها‪ ،‬فإ َّن من الميراث ما هو فكري معنوي‪ ،‬يشمل اللغة‪،‬‬ ‫والدين‪ ،‬والفكر‪ ،‬والعادات والتقاليد‪.‬‬ ‫فالتراث الفكري الإسلامي هو الآراء والأقوال‪ ،‬أو الأفعال الموروثة‪ ،‬أو التجارب‬ ‫والممارسات التي خ َّلفها لنا علماء الأُ َّمة‪ ،‬جيل ًا بعد جيل‪ ،‬على توالي الزمان‪ ،‬وا ِّتساع‬ ‫المكان‪ .‬وهو ما أنتجته المجتمعات الإسلامية من علوم الشريعة‪ ،‬مثل‪ :‬التفسير‪،‬‬ ‫((( ابن عاشور‪ ،‬تفسير التحرير والتنوير‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،30‬ص‪.334‬‬ ‫‪136‬‬

‫والحديث‪ ،‬وفقه العبادات‪ ،‬أو فقه المعاملات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها‪،‬‬ ‫أو علوم اللغة والأدب‪ ،‬أو العلوم الطبيعية والتطبيقية‪ ،‬على اختلاف ما نجده من صور‬ ‫الفكر البشري في مؤ َّلفات التراث المكتوب‪.‬‬ ‫وقد كان أكثر التراث في عهد النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم‪ ،‬والخلافة الراشدة‪،‬‬ ‫تراث ًا شفوي ًا ُين َقل رواي ًة بسنده المتصل‪ ،‬لك َّن التراث المكتوب أخذ يتزايد بسرعة مع‬ ‫حركة التدوين التي بدأت في العصر الأموي‪ ،‬وتو َّسعت في العصر العباسي‪ .‬وا َّتسعت‬ ‫دائرة التدوين لتتع ّدى العلوم الشرعية إلى غيرها من أصناف العلوم الأُخرى‪ .‬وتن َّوعت‬ ‫المؤ َّلفات‪ ،‬فكان منها الأدبية‪ ،‬والشعرية‪ ،‬واللغوية‪ ،‬والتاريخية‪ ،‬ومنها ما اخت َّص بالطب‪،‬‬ ‫والحساب‪ ،‬والهندسة‪ ،‬والفلك‪ ،‬والصيدلة‪ ،‬وغيرها‪ .‬وقد استوعبت حرك ُة الترجمة‬ ‫من التراث الفارسي واليوناني أنواع ًا من العلوم‪ ،‬وبلغت حركة الترجمة والتأليف ق َّمة‬ ‫ازدهارها بعد نهاية القرن الثالث الهجري تقريب ًا‪.‬‬ ‫واستدعت كثرة الكتابات‪ ،‬وتن ُّوع موضوعاتها‪ ،‬أ ْن يتو ّلى بعض العلماء رصد أسماء‬ ‫المؤ ِّلفين وعناوينهم‪ .‬وقد حدث هذا الرصد على مدار التاريخ الإسلامي؛ ففي المجلد‬ ‫الأول من كتاب \"كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون\"‪ ،‬نجد مقدمة لشهاب الدين‬ ‫الحسيني المرعشي النجفي‪ ،‬أشار فيها إلى عدد من الكتب المتخ ِّصصة في بيان عناوين‬ ‫المؤ َّلفات وأسماء المؤ ِّلفين اعتبار ًا من القرن الثالث الهجري‪ ،‬فذكر ما يقرب من أربعين‬ ‫كتاب ًا‪ ،‬بدء ًا بكتاب \"أخبار المؤ ِّلفين والمؤ ِّلفات\" لأحمد بن أبي طاهر طيفور البغدادي‬ ‫(توفي‪280:‬ﻫ)‪ ،‬الذي رصد فيه مؤ ِّلفه التراث المكتوب حتى عصره‪.‬‬ ‫ومن أشهر هذه الكتب كتاب‪\" ‬الفهرست\" لابن النديم (توفي‪380:‬ﻫ) الذي أوضح‬ ‫فيه المؤ ِّلف الحالة التي كان عليها التراث الإسلامي في النصف الثاني من القرن الرابع‬ ‫الهجري‪ ،‬وكتاب \"مفتاح السعادة ومصباح السيادة\" لأحمد بن مصطفى بن خليل الشهير‬ ‫بطاش كبرى زاده (توفي‪968:‬ﻫ)‪ ،‬وكتاب \"كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون\" من‬ ‫تأليف حاجي خليفة (توفي‪1067:‬ﻫ)‪ ،‬وكتاب \"أبجد العلوم والوشي المرقوم والسحاب‬ ‫المركوم\" الذي أنجز تأليفه وطبعه صديق بن حسن خان القنوجي عام ‪1296‬ﻫ‪.‬‬ ‫‪137‬‬

‫وم ّما يجدر التنبيه إليه هنا أ َّن التراث الإسلامي‪ ،‬حتى المتخ ِّصص في ميدان التربية‬ ‫والتعليم‪ ،‬عرف تن ُّوع ًا معرفي ًا واسع ًا؛ نتيجة تع ُّدد اتجاهات المدارس التربوية‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫مدارس الفقهاء‪ ،‬والمح ِّدثين‪ ،‬والفلاسفة‪ ،‬والصوفية‪ ،‬والمؤ ِّرخين‪ ،‬والأدباء‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬ ‫وقد شهدت كل مدرسة تط ُّور ًا مع مرور الزمن‪ ،‬واختلاف ًا في الاهتمامات والأساليب‪.‬‬ ‫إذن‪ ،‬التراث فك ٌر بشر ٌّي؛ فهو‪ ،‬بوصفه فكر ًا‪ ،‬فع ٌل يقوم به الإنسان‪ ،‬واس ٌم لثمرة هذا‬ ‫الفعل‪ .‬ومع أ َّن َث َّم َة مرجعيا ٍت تحكم حوافز الفعل البشري ومقاصده‪ ،‬ولا تتح َّدد بالزمان‬ ‫والمكان‪ ،‬فإ َّن الاستجابة لهذه الحوافز والأهداف تتح َّدد بظروف الزمان والمكان والخبرة‬ ‫البشرية المتنامية‪ .‬وفي حالة التراث الإسلامي‪ ،‬فإ َّن المرجعية الحاكمة هي نصوص القرآن‬ ‫الكريم وال ُّسنة النبوية‪ .‬ومع أ َّن التراث يتأ َّسس على فهم هذه النصوص الثابتة وتنزيلها‬ ‫على الواقع المتغ ِّير‪ ،‬فإ َّن القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ليسا من التراث‪ .‬وبالرغم من ذلك‪،‬‬ ‫فإ َّن فهم هذه النصوص الثابتة‪ ،‬وفهم الواقع المتغ ِّير والفكر البشري الذي يم ِّثله اجتهاد‬ ‫المجتهدين من العلماء والمف ِّكرين في تنزيل النصوص على الواقع‪ ،‬سوف يكون في حالة‬ ‫تغ ُّير وتط ُّور‪ .‬وهذا الفكر عندما يو ِّرثه جيل إلى جيل لاحق يصبح عند الجيل اللاحق تراث ًا‪.‬‬ ‫لقد ارتبط الفكر البشري في تراثنا الإسلامي بنزول الآيات الأُولى من القرآن الكريم‬ ‫على النبي محمد ص ّلى الله عليه وس َّلم‪ ،‬وهي الآيات التي تض َّمنت الأمر بالقراءة باسم الله‪،‬‬ ‫وتح َّددت هذه القراءة في نوعين متكاملين‪ :‬قراءة الخلق المنظور‪ ،‬وقراءة النص المسطور‪.‬‬ ‫فأصبح التأ ُّمل والتف ُّكر في آيات الخلق في الآفاق والأنفس‪ ،‬والتف ُّكر في دلالات المسطور‬ ‫بالقلم‪ ،‬هو العلم الذي يم ُّن الله على عباده به أ ْن يتع َّلموه؛ فهو أمر بالكتابة التي تصبح ماد ًة‬ ‫للقراءة‪ ،‬والاعتماد على الكتابة والقراءة بديل ًا عن المشافهة‪ ،‬وهو قطيعة تاريخية مع الأُ ِّمية‬ ‫التي كان يتصف بها معظم العرب‪ ،‬فيصبح العلم والتعليم والتع ُّلم مادة الفكر البشري‬ ‫الذي يو ِّرثه كل جيل‪ ،‬ويكون للجيل اللاحق تراث ًا تربوي ًا‪ ،‬بالمعنى العام للتربية والتعليم‪.‬‬ ‫وفي حالة التراث التربوي الإسلامي كان المسجد هو المؤسسة التي تنشر العلم‪ ،‬وتجتمع‬ ‫فيها حلقات التعليم والتع ُّلم‪ .‬وكانت نصوص الوحي الإلهي والهدي النبوي هي المادة‬ ‫الأساس لهذه الحلقات‪ ،‬وقد انبثقت من روايتها‪ ،‬وفهمها‪ ،‬وإملائها‪ ،‬وتطبيقها في مواقف‬ ‫الحياة‪ ،‬علوم الفقه‪ ،‬وعلوم القرآن‪ ،‬وعلوم الحديث‪ ،‬وسائر العلوم الأُخرى‪.‬‬ ‫‪138‬‬

‫ولك َّن التراث التربوي الإسلامي بالمعنى الخاص هو الفكر الذي د َّونه المر ّبون‬ ‫والعلماء المسلمون عبر التاريخ‪ ،‬فيما يخت ُّص بالعلم والتعليم والتربية‪ ،‬وما يتع َّلق بها من‬ ‫مبادئ‪ ،‬أو ممارسات‪ ،‬أو مؤسسات؛ سواء كان هذا التدوين في كتاب متخ ِّصص‪ ،‬أو فيما‬ ‫ورد متف ِّرق ًا من آداب‪ ،‬وأخلاق‪ ،‬وفضائل في كتب الفقه‪ ،‬والأدب‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬والتصوف‪،‬‬ ‫والفلسفة‪ ،‬والطب‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬ومع أ َّننا نجد بين أيدينا اليوم كثير ًا من مصادر هذا التراث‪،‬‬ ‫فإ َّننا نستطيع تأكيد أ َّن كثير ًا منه كذلك لم يصل إلينا بسبب الإهمال؛ لعدم تقدير قيمته‪ ،‬أو‬ ‫التلف نتيجة الظروف الطبيعية وتوالي الزمن‪ ،‬أو الإتلاف المقصود بالتحريق أو التغريق‬ ‫نتيجة التنافس والخلاف المذهبي وال ِفرقي‪ ،‬أو التخريب والتدمير الذي كان يرافق‬ ‫الحروب‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬ ‫وقد عرف التراث الإسلامي كتابات تحمل عناوين صريحة مباشرة عن العلم‬ ‫وال ُمع ِّلم والتعليم والتع ُّلم‪ ،‬منها‪ :‬كتاب \"آداب ال ُمع ِّلمين لابن سحنون (توفي‪256:‬ﻫ)‪،‬‬ ‫وكتاب \"الرسالة المفصلة لأحوال ال ُمتع ِّلمين\" و\"أحكام ال ُمع ِّلمين وال ُمتع ِّلمين\" للقابسي‬ ‫(توفي‪403:‬ﻫ)‪ ،‬وكتاب \"تعليم ال ُمتع ِّلم طريق التع ُّلم\" للزرنوجي (توفي‪620:‬ﻫ)‪ .‬وتوجد‬ ‫كتب ُأخرى لا تقل أهمية في تناولها قضايا التعليم؛ في‪ :‬مناهجه‪ ،‬ومؤ َّلفاته‪ ،‬وطرقه‪،‬‬ ‫ومؤسساته‪ ،‬ضمن موضوعات كثيرة ُأخرى؛ فكتاب \"الإعلام بمناقب الإسلام\" لأبي‬ ‫الحسن العامري (توفي‪381:‬ﻫ) هو كتاب في العقيدة ومقارنة الأديان‪ ،‬وقد عرض فيه لما‬ ‫في كل دين؛ من‪ :‬عقيدة‪ ،‬وعبادة‪ ،‬وتشريعات‪ ،‬و ُن ُظم حكم سياسية واقتصادية واجتماعية‪،‬‬ ‫فضل ًا عن الإشارة إلى تصنيف العلوم‪ ،‬وأنواعها‪ ،‬وأهميتها‪ ،‬وضرورة التخ ُّصص في‬ ‫دراستها‪ ،‬وكذلك الحديث عن ال ُمع ِّلمين‪ ،‬وصفاتهم‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬و\"مقدمة ابن خلدون\"‬ ‫(توفي‪808:‬ﻫ) مثل ًا هي مقدمة كتاب في التاريخ‪ ،‬ولك َّن كتاب \"المقدمة\" عالج بقدر من‬ ‫التفصيل فضل العلم والعلماء‪ ،‬وموضوعات التعليم‪ ،‬وطرائق التعليم؛ تحديد ًا لما يجب‬ ‫أ ْن تكون عليه‪ ،‬ووصف ًا لما كان سائد ًا في عصره‪.‬‬ ‫وبعض كتب التراث تحتوي في عناوينها على ألفاظ وعبارات عن التعليم لكن‬ ‫محتوى هذه الكتب لا يتحدث عن التعليم بمعناه الخاص‪ ،‬ومن ذلك كتاب‪\" :‬المنهج‬ ‫القويم بشرح مسائل التعليم\" لابن حجر الهيتمي فهو كتاب في الفقه الشافعي‪ ،‬يتكون‬ ‫من متن الفقيه عبد الله بن عبد الرحمن بافضل الحضرمي المعروف \"بلحاج الحضرمي\"‬ ‫‪139‬‬

‫(توفي‪918‬ﻫ)‪ ،‬وشرح ابن حجر الهيتمي (توفي‪974‬ﻫ)‪ .‬وفي الكتاب مقدمة قصيرة لا‬ ‫تتجاوز صفحة واحدة ثم يأتي بأبواب الفقه بدء ًا من باب الطهارة‪ ،‬ثم الصلاة‪ ،‬والجنائز‪،‬‬ ‫والزكاة‪ ،‬والصيام‪ ،‬والاعتكاف‪ ،‬والحج والعمرة‪ ،‬والبيع‪ ،‬والإقرار‪ ،‬والوقف‪ ،‬والفرائض‪،‬‬ ‫والموازين‪ .‬ومثله كذلك \"كتاب تعليم الصبيان\" لعبد الرحمن السالمي‪ ،‬وهو كذلك كتاب‬ ‫في الفقه الإباضي ليس غير‪ .‬وربما جاءت عناوين مثل هذه الكتب تحديد ًا لأحكام الفقه‬ ‫التي يريد المؤلف تعليمها‪.‬‬ ‫وكتب التراث التي تناولت التعليم بمعناه الخاص في عناوينها وموضوعاتها (أ ْي‬ ‫فضل العلم‪ ،‬وآداب ال ُمع ِّلم وال ُمتع ِّلم‪ ،‬ومناهج التعليم‪ ،‬وطرائقه‪ ،‬ومؤسساته) كتب‬ ‫قليلة‪ ،‬وأكثر ما ُكتِب عن الموضوع في التراث الإسلامي نجده مبثوث ًا في كتب الحديث‪،‬‬ ‫والفقه‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬والتراجم‪ ،‬والأدب‪ ،‬والتصوف‪ ،‬وغيرها‪ .‬فعند ترجمة شخصية معينة من‬ ‫شخصيات التراث الإسلامي نجد أ َّن أبرز ما في الترجمة ذكر َمن أخذت هذه الشخصية‬ ‫عنهم العلم من المشايخ‪ ،‬وذكر تلاميذه الذين أخذوا عنه العلم‪ .‬وفي معظم كتب الحديث‬ ‫نجد فصل ًا بعنوان \"كتاب العلم\"‪ ،‬يورد فيه ال ُمصنِّف الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث‬ ‫النبوية الشريفة التي تتح َّدث عن فضل العلم والتعليم‪ ،‬والحث على طلب العلم‪ .‬وفي‬ ‫كتب الفقه بيان للأحكام والفتاوى الخاصة بما يجوز وما لا يجوز في حق ال ُمع ِّلم وال ُمتع ِّلم‬ ‫ومواد التعليم‪ .‬وفي كتب التاريخ ذكر للمؤسسات التعليمية‪ ،‬و َمن أنشأها‪ ،‬والأوقاف‬ ‫المحبوسة عليها‪ .‬وفي كتب التصوف بيان لطبيعة العلاقة بين المريد والشيخ‪ ،‬والأساليب‬ ‫المتبعة في تربية القلب‪ ،‬وتطهير النفس‪ ،‬وحالات التخ ّلي والتح ّلي والتج ّلي‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬ ‫والمتت ِّبع لما ُد ِرس من نصوص التراث ومادته عند معظم َمن كتب في هذا الجانب‬ ‫من القدماء والمحدثين‪ ،‬يجد أ َّن عدد ًا من هؤلاء العلماء الأعلام الذين كانت لهم‬ ‫إسهاماتهم ومشاركاتهم في تشكيل مادة التراث التربوي (مثل‪ :‬الشوكاني‪ ،‬والغزي‪،‬‬ ‫واليوسي) لم يحظوا بقدر العناية والاهتمام الذي حظي به غيرهم‪ ،‬مثل‪ :‬ابن سحنون‪،‬‬ ‫والقابسي‪ ،‬والغزالي‪ ،‬وأ َّن بعض مراجع التراث المتخ ِّصصة في الشأن التربوي حظيت‬ ‫بالاهتمام والدراسة أكثر من الاهتمام بدراسة القضايا التعليمية التي تتض َّمنها أنواع ُأخرى‬ ‫من المراجع‪ ،‬مثل‪ :‬كتب التاريخ‪ ،‬والفقه‪ ،‬والرحلات‪ ،‬وهذا يؤ ِّكد ضرورة تت ُّبع ودراسة‬ ‫تراثنا التربوي في مظا ِّنه‪ ،‬ومدارسه‪ ،‬وموضوعاته المتعددة‪.‬‬ ‫‪140‬‬

‫وقد تن َّوعت الدراسات الحديثة للفكر التربوي تن ُّوع ًا واسع ًا؛ فهناك الدراسات التي‬ ‫تتناول ع َلم ًا من الأعلام الذين كتبوا مادة متخ ِّصصة عن التعليم‪ ،‬أو التع ُّرض لأفكارهم‬ ‫وآرائهم‪ ،‬والوقوف على ما لديهم من المعرفة وأنواع العلوم‪ ،‬وما يملكون من مناهج‬ ‫وتجارب وأساليب تدريس‪ .‬وقد تتناول دراسات التراث التربوي مسأل ًة من مسائل التعليم‪،‬‬ ‫مثل‪ :‬المناهج‪ ،‬أو طريقة التدريس‪ ،‬أو أساليب التأديب‪ ،‬أو منح الإجازات التعليمية‪،‬‬ ‫أو تخصيص الأوقاف التعليمية‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬وقد تتناول هذه الدراسات الخبرة التربوية‬ ‫المم ِّيزة للمدارس والاتجاهات الفكرية؛ من‪ :‬فقهية‪ ،‬وصوفية‪ ،‬وفلسفية‪ ،‬وتاريخية‪،‬‬ ‫وغيرها؛ أو تلك الخبرة في عصر معين من العصور‪ ،‬أو مصر من الأمصار‪.‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬جدل القديم والحديث في التراث التربوي الإسلامي‪:‬‬ ‫لا توجد قاعدة ثابتة في التمييز بين القديم والحديث من الناحية الزمنية‪ .‬والتحقيب‬ ‫الزمني الذي استعمله الأوروبيون للتاريخ الأوروبي القديم والوسيط والحديث‪ ،‬أو القديم‬ ‫والحديث والمعاصر‪ ،‬أو غير ذلك‪ ،‬واستعمله بعض الباحثين العرب‪ ،‬لا سيما في الدراسات‬ ‫الأدبية والتاريخية؛ لا يصلح لتحديد فاصل زمني بين القديم والحديث‪ ،‬أو السابق واللاحق‪،‬‬ ‫أو المتقدم والمتأخر في التراث الإسلامي‪ .‬وقد سبق أ ِن اق ُت ِرح المعيار الزمني في التقسيم‬ ‫الذي ح َّدد قرون الخيرية الثلاثة الأُولى في التاريخ الإسلامي اعتماد ًا على الحديث الصحيح‪:‬‬ ‫\"خير الناس قرني‪ ،‬ث َّم الذين يلونهم‪ ،‬ث َّم الذين يلونهم‪ (((\".‬وعلى هذا جاء كلام الذهبي في‬ ‫تحديد الح ِّد الفاصل بين هذه القرون الثلاثة للمتقدمين‪ ،‬وما بعد ذلك للمتأخرين‪ ،‬وذلك‬ ‫قوله‪\" :‬فالح ُّد الفاصل بين المتقدم والمتأخر هو رأس سنة ثلاثمائة‪(((\".‬‬ ‫وفي التراث أمثلة على وقوع هذا التمييز في موضوعات التراث المختلفة؛ من‪:‬‬ ‫فقه‪ ،‬وتفسير‪ ،‬وحديث‪ ،‬وأدب‪ ،‬وتاريخ‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬لك َّن المسألة أخذت ح ِّيز ًا كبير ًا‬ ‫((( البخاري‪ ،‬أبو عبد الله محمد بن إسماعيل (توفي‪256:‬ﻫ)‪ .‬صحيح البخاري‪ ،‬اعتنى به‪ :‬أبو صهيب الكرمي‪،‬‬ ‫الرياض‪ :‬بيت الأفكار الدولية‪ ،‬ط‪1998 ،1‬م‪ ،‬كتاب‪ :‬فضائل الصحابة‪ ،‬باب‪ :‬فضائل أصحاب النبي ص ّلى الله‬ ‫عليه وس َّلم‪ ،‬حديث رقم‪ ،)3651( :‬ص‪.697‬‬ ‫((( الذهبي‪ ،‬شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان (توفي‪748:‬ﻫ)‪ .‬ميزان الاعتدال في نقد الرجال‪ ،‬تحقيق‪ :‬علي‬ ‫محمد البجاوي‪ ،‬بيروت‪ :‬دار المعرفة‪1963 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.4‬‬ ‫‪141‬‬

‫من الاهتمام في جهود علماء الحديث على وجه الخصوص‪ ،‬ولا سيما عند التمييز بين‬ ‫المتقدمين والمتأخرين‪ ،‬ليس باعتماد الزمن فحسب‪ ،‬وإ َّنما باعتماد المنهج في التصحيح‬ ‫والتضعيف القائم على النظر في السند والقرائن والملابسات‪ ،‬وهو المنهج الذي اعتمده‬ ‫المحدثون ون ّقاد الحديث في مرحلة الرواية‪ ،‬أو النهج الذي يكتفي بالنظر في ظاهر السند‬ ‫في اعتماد الأحاديث كما فعل كثير من المتأخرين‪ ،‬ولا سيما من علماء الفقه والأصول‪.‬‬ ‫يضاف إلى ذلك أ َّن َمن يعتمدون على حديث آخر‪ ،‬هو‪َ \" :‬مث ُل ُأ َّمتي َم َثل المطر لا ُيدرى أوله‬ ‫خي ٌر أم آخره\"((( لا يستبعدون وجود الخيرية فيما بعد القرون الثلاثة‪.‬‬ ‫وقد تباينت آراء المف ِّكرين المعاصرين في نظرتهم إلى التراث الإسلامي بصورة عامة‬ ‫والتراث التربوي بصورة خاصة‪ ،‬ما بين مبال ٍغ في الإعلاء من شأنه‪ ،‬إلى الح ِّد الذي وجدنا‬ ‫َمن يق ِّرر أ َّنه‪\" :‬ما ترك السابق للاحق شيئ ًا!\" ومبالغ في التبخيس من قيمته‪ ،‬ب ُح َّجة أ َّن لكل‬ ‫عصر عل َمه الذي يفقد قيمته بعد انقضاء ذلك العصر‪ .‬والح ُّق ليس في ذلك الإفراط أو هذا‬ ‫التفريط؛ فالأمر يستدعي الدراسة الموضوعية المتوازنة من جهة‪ ،‬وتحديد الهدف من هذه‬ ‫الدراسة من جهة ُأخرى‪.‬‬ ‫ولك َّن التمييز بين قيمة القديم والحديث ليس أمر ًا مستحدث ًا؛ فقد ظهر في وقت مبكر‪،‬‬ ‫وظهر معه كذلك ضرورة تقويم هذه القيمة بنا ًء على معيار غير معيار الزمن‪ .‬وفي ذلك يقول‬ ‫المب ِّرد (توفي‪285:‬ﻫ) في‪ ‬كتابه \"الكامل\"‪\" :‬ليس ل ِق َدم ال َع ْه ِد ُي َف َّض ُل القائل‪ ،‬ولا ل ِح ْدثانه‬ ‫ُيه َتض ُم ال ُمصي ُب‪ ،‬ولك ْن ُيع َطى ُك ٌّل ما َيستح ُّق‪ (((\".‬وقد تواصل الإفراط والتفريط في تحديد‬ ‫قيمة القديم والجديد عبر الزمن‪ ،‬فوجدنا الطاهر ابن عاشور (توفي‪1393:‬ﻫ‪1973/‬م)‬ ‫يقول‪\" :‬رأيت النَّا َس حول كلام الأقدمين أح َد رجلين‪ :‬رج ٍل ُم ْع َتك ٍف فيما شا َده الأقدمون‪،‬‬ ‫وآخ َر آخ ٍذ ب ِم ْع َوله في هدم ما مضت عليه القرون‪ .‬وفي كلتا الحالتين ُض ٌّر كثير‪ .‬وهنالك‬ ‫حالة ُأخرى ينجبر بها الجنا ُح ال َكسي ُر‪ ،‬وهي أ ْن نعمد إلى ما أشا َده الأقدمون فنه ِّذ َبه ونزيده‪،‬‬ ‫((( الترمذي‪ ،‬أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة (توفي‪279‬ﻫ)‪ .‬جامع الترمذي‪ ،‬اعتنى به‪ :‬فريق بيت الأفكار‬ ‫الدولية‪ ،‬الرياض‪ :‬بيت الأفكار الدولية‪ ،‬ط‪1999 ،1‬م‪ ،‬كتاب‪ :‬الأدب‪ ،‬با ٌب‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)2869‬ص‪.459‬‬ ‫((( المبرد‪ ،‬أبو العباس محمد بن يزيد (توفي‪285:‬ﻫ)‪ .‬الكامل في اللغة والأدب‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد الحميد هنداوي‪،‬‬ ‫الرياض‪ :‬وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد‪1419( ،‬ﻫ‪1998/‬م)‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.79‬‬ ‫‪142‬‬

‫وحاشا أ ْن َننْ ُق َضه أو ُنبي َده‪ِ ،‬ع ْلم ًا بأ َّن َغ ْم َض َف ْض ِلهم ُكفرا ٌن للنعمة‪ ،‬و َج ْح َد مزايا سل ِفها ليس‬ ‫من حميد خصال الأُ َّمة‪(((\".‬‬ ‫وتكشف بع ُض كتب التراث عن نصو ٍص ُتق ِّدم القدي َم لِ ِق َد ِمه‪ ،‬وتستبعد أ ْن يرتقي‬ ‫أ ُّي جديد‪ .‬ومثال ذلك ما يرويه الأنباري (توفي‪577:‬ﻫ) من أ َّن أبا عمرو بن العلاء‬ ‫(توفي‪254:‬ﻫ) كان يقول‪\" :‬إ َّنما نحن بالإضافة إلى َم ْن كان قب َلنا كب ْق ٍل في أصول َر ْق ٍل‪(((\".‬‬ ‫وقد حدث في القرن السابع الهجري أ َّن بعض العلماء الذين كانوا يدرسون في المدرسة‬ ‫المستنصرية ببغداد‪ ،‬ومنهم شيخ المدرسة ابن الجوزي‪ ،‬أخذوا يد ِّرسون كتب ًا جديدة‬ ‫صنَّفوها بأنفسهم‪ ،‬ف ُط ِلب إليهم في عام ‪645‬ﻫ التوقف عن ذلك‪ ،‬والعودة إلى تدريس‬ ‫كتب السابقين‪ ،‬وذلك تأدب ًا معهم وتبرك ًا‪ .‬فأجاب ابن الجوزي بالسمع والطاعة‪(((.‬‬ ‫وم َّمن يف ِّضل كتب الأقدمين أبو إسحق الشاطبي الذي يرى أ َّن تع ُّلم طالب العلم‬ ‫من الكتب َيلزم فيه‪\" :‬أ ْن يتح ّرى ك ُت َب المتقدمين من أهل العلم المراد؛ فإ َّنهم أق َع ُد به من‬ ‫غيرهم من المتأخرين‪ ...‬فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما بلغه المتقدم‪ ،‬وحسبك‬ ‫من ذلك أهل ك ِّل عل ٍم عمل ٍّي أو نظر ٍّي‪ .‬فأعمال المتقدمين ‪-‬في إصلاح دنياهم ودينهم‪-‬‬ ‫على خلاف أعمال المتأخرين‪ ،‬وعلومهم في التحقيق أ ْق َع ُد؛ ف َت َح ُّق ُق الصحابة بعلوم‬ ‫الشريعة ليس ك َت َح ُّق ِق التابعين‪ ،‬والتابعون ليسوا كتابعيهم‪ ،‬وهكذا إلى الآن‪ (((\".‬‬ ‫واستمر تفضيل كتب المتقدمين إلى القرون اللاحقة حتى أصبحت مؤسسات التعليم‬ ‫تح ِّدد من هذه الكتب ما ُيل ِزم ال ُمد ِّرسين استعمالها دون غيرها‪ .‬ومن ال ُحجج الواردة في‬ ‫هذا الإلزام أ َّن بعض العلوم قد ُف ِرغ منه‪ ،‬وبعضها ُد ِّون ولم تب َق حاجة للاجتهاد! ومن ذلك‬ ‫ما ورد في مرسوم إصلاح التعليم الذي أصدره السلطان سيدي محمد بن عبد الله عام‬ ‫‪1192‬ﻫ (‪1778‬م) لإصلاح مناهج التعليم بجامع القرويين والمعاهد التابعة له؛ فقد ورد‬ ‫((( ابن عاشور‪ ،‬التحرير والتنوير‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.7‬‬ ‫((( الأنباري‪ ،‬أبو البركات كمال الدين بن عبد الرحمن (توفي‪577:‬ﻫ)‪ .‬نزهة الألباء في طبقات الأدباء‪ ،‬تحقيق‪ :‬إبراهيم‬ ‫السامرائي‪ ،‬الزرقاء‪ :‬مكتبة المنار‪1985 ،‬م‪ ،‬ص‪ .32‬والبقل‪ :‬نبات عشبي قصير‪ ،‬والرقل‪ :‬النخل طويل القامة‪.‬‬ ‫((( معروف‪ ،‬ناجي‪ .‬تاريخ علماء المستنصرية‪ ،‬بغداد‪ :‬مطبعة العاني‪ ،‬ط‪1959 ،1‬م‪ ،‬ص‪.83‬‬ ‫((( الشاطبي‪ ،‬أبو إسحق إبراهيم بن موسى (توفي‪790:‬ﻫ)‪ .‬الموافقات في أصول الشريعة‪ ،‬شرح وتخريج‪ :‬الشيخ‬ ‫عبد الله دراز‪ ،‬طبعة جديدة كاملة في مجلد واحد‪ ،‬بيروت‪ :‬دار الكتب العلمية‪2004 ،‬م‪ ،‬ص‪.57‬‬ ‫‪143‬‬

‫في الفصل الثالث من المرسوم ما يخت ُّص بال ُمد ِّرسين في مساجد فاس ما يأتي‪\" :‬فإ َّننا أمرنا‬ ‫ألا يدرسوا إلا \"كتاب الله تعالى\" بتفسيره‪ ،‬وكتاب \"دلائل الخيرات\"‪ ،‬والصلاة على رسول‬ ‫الله ص ّلى الله عليه وس َّلم‪ .‬ومن كتب الحديث \"المسانيد\"‪ ،‬والكتب المستخرجة منها‪،‬‬ ‫و\"البخاري ومسلم\"‪ ،‬وغيرها من الكتب الصحاح‪ .‬ومن كتب الفقه‪\" :‬ال ُمد َّونة\"‪ ،‬و\"البيان\"‪،‬‬ ‫و\"التحصيل\"‪ ،‬و\"مقدمات ابن رشد\"‪ ،‬و\"الجواهر لابن شاس\"‪ ،‬و\"النوادر\" و\"الرسالة لابن‬ ‫أبي زيد\"‪ ،‬وغير ذلك من كتب الأقدمين‪ ...‬و َمن أراد علم الكلام \"فعقيدة ابن أبي زيد\"‬ ‫‪ ‬كافية شافية بها جميع المسلمين‪ ...‬و َمن أراد قراءة \"علم الأصول\" فإ َّنه أمر قد‬ ‫فرغ منه‪ ،‬و\"دواوين الفقه\" قد ُد ِّونت‪ ،‬ولم يب َق اجتهاد‪(((\".‬‬ ‫وفي مقابل هذا التو ُّجه نحو كتب الأولين في التعليم كان هناك تو ُّج ٌه مبكر كذلك؛‬ ‫لتأكيد الحاجة إلى مواصلة التجديد والتأليف‪ ،‬ولرفض مقولة‪\" :‬ما ترك الأول للآخر شيئ ًا‪\".‬‬ ‫وفي ذلك يروي ياقوت الحموي عن أبي عمرو الجاحظ (توفي‪255:‬ﻫ) أ َّنه قال‪\" :‬إذا‬ ‫سمع َت الرج َل يقول‪ :‬ما ترك الأول للآخر شيئ ًا‪ ،‬فاعلم أ َّنه لا يريد أ ْن ُيف ِلح‪ (((\".‬ولم يتردد‬ ‫ابن عبد ربه (توفي‪328:‬ﻫ) أ ْن يحكم بميزة إيجابية للتأليف اللاحق عن السابق‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫\"رأيت آخر كل طبقة‪ ،‬وواضعي كل حكمة‪ ،‬ومؤ ِّلفي كل أدب‪ ،‬أعذب ألفاظ ًا‪ ،‬وأسهل بني ًة‪،‬‬ ‫وأحكم مذهب ًا‪ ،‬وأوضح طريق ًة من الأول؛ لأ َّنه ناك ٌص متعق ٌب‪ ،‬والأول بادئ متقدم‪(((\".‬‬ ‫وف َّسر ابن مالك في مقدمة كتابه \"تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد\" الحاجة إلى مواصلة‬ ‫التأليف‪ ،‬وعدم الاكتفاء بكتب الأقدمين بقوله‪\" :‬وإذا كانت العلوم ِمنَح ًا إلهي ًة‪ ،‬ومواه َب‬ ‫اختصاصي ًة فغي ُر مستب َع ٍد أ ْن ُي َّد َخر لبعض المتأخرين ما ع ُس َر على كثي ٍر من المتقدمين‪(((\".‬‬ ‫((( مهداد‪ ،‬الزبير‪\" .‬السلطان سيدي محمد بن عبد الله العلوي رائد إصلاح التعليم بجامع القرويين\"‪ ،‬مجلة دعوة الحق‪،‬‬ ‫وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المملكة المغربية‪ ،‬العدد (‪ ،)367‬ربيع ‪ -1‬ربيع ‪/2‬ماي‪-‬يونيو ‪2002‬م‪.‬‬ ‫((( الحموي‪ ،‬شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الحموي (توفي‪626 :‬ﻫ)‪ .‬معجم الأدباء‪ :‬إرشاد الأريب إلى معرفة‬ ‫الأديب‪ ،‬تحقيق‪ :‬إحسان عباس‪ ،‬بيروت‪ :‬دار الغرب الإسلامي‪1993 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،5‬ص‪.2103‬‬ ‫((( ابن عبد ربه‪ ،‬شهاب الدين أحمد بن محمد الأندلسي (توفي‪328:‬ﻫ)‪ .‬العقد الفريد‪ ،‬بيروت‪ :‬دار الكتب العلمية‪،‬‬ ‫ط‪1404 ،1‬ﻫ‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.4‬‬ ‫((( ابن مالك‪ ،‬جمال الدين بن مالك الطائي (توفي‪672:‬ﻫ)‪ .‬تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد كامل‬ ‫بركات‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار الكتاب العربية للطباعة والنشر‪1967 ،‬م‪ ،‬ص‪.2‬‬ ‫‪144‬‬

‫ونقل حاجي خليفة مقول َة اب ِن مال ٍك بلفظها‪ ،‬وتو َّسع في دعم رأيه‪ ،‬وتفسير الحاجة‬ ‫إلى استمرار التأليف‪ ،‬وعدم اعتماد الزمن معيار ًا وحيد ًا في تقدير قيمة الشيء‪ ،‬فقال‪\" :‬فلا‬ ‫تغت َّر بقول القائل‪\" :‬ما ترك الأول للآخر\"‪ ،‬بل القول الصحيح الظاهر‪\" :‬كم ترك الأول‬ ‫للآخر\" فإ َّنما ُيستجاد الشيء‪ ،‬و ُيستر َذل ل َج ْودته ورداءته لا ل ِق َدمه وحدوثه‪ .‬ويقال‪ :‬ليس‬ ‫بكلم ٍة أض َّر بالعلم من قولهم‪\" :‬ما ترك الأول شيئ ًا\"؛ لأ َّنه يقطع الآمال عن العلم‪ ،‬ويحمل‬ ‫على التقاعد عن التع ُّلم‪ ،‬فيقتصر الآخر على ما ق َّدم الأو ُل من الظواهر‪ ،‬وهو خطر عظيم‪،‬‬ ‫وقول سقيم‪ .‬فالأوائل وإ ْن فازوا باستخراج الأصول وتمهيدها‪ ،‬فالأواخر فازوا بتفريع‬ ‫الأصول وتشييدها‪(((\".‬‬ ‫وقد أ َّكد كثي ٌر من العلماء ضرور َة إعمال النقد المنهجي لبيان قيمة أ ِّي موضوع‬ ‫من موضوعات التراث في مجالات الحديث‪ ،‬والفقه‪ ،‬والتفسير‪ ،‬والأدب‪ ،‬والتاريخ‪،‬‬ ‫والتعليم‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬ولع َّل أهم ما اش ُت ِهرت به ُأ َّمة الإسلام في مسائل النقد المنهجي ما‬ ‫ط َّوره المح ِّدثون من مناهج غاية في الدقة في نقد َسنَ ِد الحديث و َم ْتنِه‪ ،‬واصطلحوا على‬ ‫درجات الرواة؛ فمنهم المح ِّدث‪ ،‬والحافظ‪ ،‬وال ُح َّجة‪ ،‬وأمير المؤمنين في الحديث‪ ،‬ومنهم‬ ‫الضعيف‪ ،‬والو ّضاع‪ ،‬والمد ِّلس‪ ،‬والك ّذاب‪ .‬وللحديث درجات متعددة؛ فمنه الصحيح‪،‬‬ ‫والحسن‪ ،‬والضعيف‪ ،‬وغير ذلك من تفاصيل علوم مصطلح الحديث‪ ،‬والجرح والتعديل‪،‬‬ ‫وال ِعلل‪ ،‬وغيرها‪ .‬وفيما يخ ُّص التاريخ‪ ،‬فقد وصف ابن خلدون مناهج المؤ ِّرخين الذين‬ ‫سبقوه‪ ،‬ورفض بعض رواياتهم استناد ًا إلى ما هو معروف من الطبائع والوقائع‪ .‬وفي ُن ُظم‬ ‫التعليم‪ ،‬حمل الشوكاني حمل ًة عنيف ًة على العلماء المق ِّلدين الذين تركوا الاجتهاد‪ ،‬فع َّطلوا‬ ‫القرآن وال ُّسنة باعتمادهم على علماء المذاهب وكتبهم‪.‬‬ ‫وتح َّدث الونشريسي في المعيار المعرب عن حالة التعليم‪ ،‬فقال‪\" :‬وأ ّما البناء‪ ،‬فإ َّنه‬ ‫يجذب الطلبة إلى ما يتر َّتب فيه من الجرايات‪ ،‬فيقبل بهم على َمن يع ِّينه أهل الرياسة‬ ‫للإجراء والأفراد منهم‪ ،‬أو َمن يرضى لنفسه الدخول في حكمهم‪ ،‬ويصرفهم عن أهل‬ ‫العلم حقيقة الذين لا يدعون إلى ذلك‪ ،‬وإ ْن دعوا لم يجيبوا‪ ،‬وإ ْن أجابوا لم يوفوا لهم بما‬ ‫((( حاجي خليفة‪ ،‬مصطفى بن عبد الله القسطنطيني الرومي (توفي‪1067:‬ﻫ)‪ .‬كشف الظنون عن أسامي الكتب‬ ‫والفنون‪ ،‬عناية‪ :‬محمد شرف الدين بالتقايا ورفعت بيلكة الكليسي‪ ،‬بيروت‪ :‬دار إحياء التراث العربي‪،‬‬ ‫(‪1360‬ﻫ‪1941/‬م)‪ ،‬المجلد الأول‪ ،‬ص‪.39‬‬ ‫‪145‬‬

‫يطلبون من غيرهم‪ ... ،‬ولقد استباح الناس النقل من المختصرات الغريبة أربابها‪ ،‬ونسبوا‬ ‫ظواهر ما فيها إلى ُأ َّمهاتها‪ ...‬ث َّم انضاف إلى ذلك عدم الاعتبار بالناقلين‪ ...‬ث َّم كان أهل‬ ‫هذه المائة((( عن حال َمن قبلهم ِمن ح ْفظ المختصرات‪ ،‬وش ِّق الشروح والأصول الكبار‪،‬‬ ‫فاقتصروا على حفظ ما ق َّل لف ُظه‪ ،‬ونزر ح ُّظه‪ ،‬وأفنوا أعمارهم في ح ِّل لغوزه‪ ،‬وفهم رموزه‪،‬‬ ‫‪ ...‬فبينا نحن نستكثر العدول عن كتب الأئمة إلى كتب الشيوخ‪ُ ،‬أبيحت لنا تقييدات الجهلة‬ ‫بل مسودات المسوخ‪ ،‬فإ ّنا لله وإ ّنا إليه راجعون‪ .‬فهذه جملة تهديك إلى أصل العلم وتريك‬ ‫ما غفل عنه الناس‪ (((\".‬ث َّم يستطرد الونشريسي بعد ذلك في الحديث عن علماء السلاطين‪،‬‬ ‫وع ّما اشتملت عليه كتب التفسير من الخلاف‪ ،‬وعن آفة التقليد والتع ُّصب للمذاهب‪.‬‬ ‫وفي نقد الشعر والشعراء‪ ،‬كان نقد القديم موضوع ًا أساسي ًا في مقامة من مقامات‬ ‫ابن شرف القيرواني (توفي‪460:‬ﻫ)‪ .‬وبعد أ ْن أشار إلى أ َّن نفس الإنسان تتش َّبث بالقديم‪،‬‬ ‫ولا تميل إلى النظر في الجديد‪ ،‬ب َّين أ َّن كثير ًا من قديم الشعر ‪-‬على ما قد يكون فيه من‬ ‫الإتقان والحسن‪ -‬لا يخلو من عيوب‪ ،‬وذكر أمثل ًة على ما َي ُع ُّده عيوب ًا قادحة في بعض شعر‬ ‫المشهورين في الجاهلية والإسلام‪ ،‬وذكر من هؤلاء‪ :‬امرئ القيس‪ ،‬والفرزدق‪ ،‬وزهير‪،‬‬ ‫وبشار‪ ،‬والمتنبي‪ ،‬وغيرهم‪ .‬وكان م ّما قاله على لسان أبي الريان الصلت بن السكن‪:‬‬ ‫\"وتحفظ عن شيئين‪ :‬أحدهما أ ْن يحملك إجلال القديم المذكور على العجلة باستحسان‬ ‫ما تستمع له‪ ،‬والثاني أ ْن يحملك إصغارك المعاصر المشهود على التهاون بما أنشدت له؛‬ ‫فإ َّن ذلك جور في الأحكام‪ ،‬وظلم من الحكام حتى تم ِّحص قولهما‪ ،‬فحينئ ٍذ تحكم لهما أو‬ ‫عليهما‪ .‬وهذا با ٌب في اغتلاقه استصعاب‪ ،‬وفي صرف العامة وبعض الخاصة عنه إتعاب‪،‬‬ ‫وقد وصف تعالى في كتابه الصادق تش ُّبث القلوب بسيرة القديم ونفا َرها من ال ُمحدث‬ ‫الجديد‪ ،‬فقال حاكي ًا لقولهم‪﴿ :‬ﯼﯽﯾﯿﰀ﴾ [الزخرف‪ ]٢٢:‬وقال‪\" :‬لن نعبد إلا ما‬ ‫وجدنا عليه آباءنا‪ (((\".‬وقد قل َت أنت‪(((:‬‬ ‫((( عاش الونشريسي في القرن التاسع والقرن العاشر (‪914-834‬ﻫ)‪ .‬والمئة التي أشار إليها هي أحد القرنين‪.‬‬ ‫((( الونشريسي‪ ،‬أبو العباس أحمد بن يحيى (توفي‪914:‬ﻫ)‪ .‬المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي أهل‬ ‫إفريقية والأندلس والمغرب‪ ،‬خ َّرجه‪ :‬جماعة من الفقهاء بإشراف محمد حجي‪ ،‬الرباط‪ :‬وزارة الأوقاف والشؤون‬ ‫الإسلامية في المملكة المغربية‪1981 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.482-479‬‬ ‫((( هذه ليست آية‪ ،‬و َث َّمة آيا ٌت في معناها‪ ،‬مثل قوله تعالى‪﴿ :‬ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ﴾ [البقرة‪. ]170:‬‬ ‫((( أ ْي‪ :‬إ َّن أبا الر ّيان ينسب الأبيات الأربعة إلى ابن شرف القيرواني‪.‬‬ ‫‪146‬‬

‫ُأ ْغ ِر َي النـاس بامتداح القديم وبذ ِّم الجديـد غـيـر َذ ِمي ِم‬ ‫ليـس إلا لأ َّنهم حسدوا الح َّي َو َر ُّقوا علـى ال ِعظام ال َّرمي ِم‬ ‫ويـرى للأوائـل التقديمـا‬ ‫وقل َت في هذا المعنى‪:‬‬ ‫وسيغدو هذا الجديد قديما\"(((‬ ‫ُقل ل َمن لا َيرى المعاص َر شيئ ًا‬ ‫إ َّن ذاك القديـم كـان جــديد ًا‬ ‫تشير هذه النصوص وأمثالها إلى مسألتين؛ ُأولاهما أ َّن هذا النقد الذي كان يو َّجه إلى‬ ‫بعض القديم يؤ ِّكد أ َّن السابق ليس شرط ًا أ ْن يكون أفضل من اللاحق‪ ،‬وثانيتهما أ َّن النقد‬ ‫الذي كان يو َّجه إلى الواقع الفكري والتربوي في زمن معين أشار إلى تغ ُّير ذلك الواقع‬ ‫القائم نحو حالة أسوأ م ّما كان عليه الواقع قبل التغ ُّير‪ ،‬وأ َّن القديم كان أفضل من الحديث‪.‬‬ ‫وبالرغم م ّما سبق‪ ،‬فإ َّن ذلك كله (أ ْي ما كان قديم ًا‪ ،‬وما صار حديث ًا) أصبح الآن تراث ًا‬ ‫قديم ًا‪ ،‬ونتعامل معه اليوم بالنظر إلى ما قد يكون فيه من فائدة لحاضرنا ومستقبلنا‪.‬‬ ‫إ َّن جهود الإصلاح والتنمية والتطوير المطلوبة من أفراد الأُ َّمة وجماعاتها وأجيالها‬ ‫لا تعفي أحد ًا من المسؤولية‪ ،‬مهما كان زمانه أو مكانه‪ .‬وخيرية الأُ َّمة في مجموعها في‬ ‫قوله سبحانه‪﴿ :‬ﭞﭟﭠﭡﭢ﴾ [آل عمران‪ ]١١٠:‬لا تعني أ َّن كل فرد فيها على‬ ‫المستوى نفسه من الخير؛ فقرن النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم لم يكن كل المسلمين فيه على‬ ‫المستوى نفسه في كل أمر من الأمور‪ ،‬بالرغم من يقيننا أ َّن الصحابة كانوا خير القرون‪.‬‬ ‫وكما أ َّن الخيرية تكون في أجيال الناس في القرون‪ ،‬فإ َّنها تكون كذلك في الأفراد؛ فالمعيار‬ ‫هو عمل الفرد وكسبه وإنجازه‪ ،‬وليس زمانه الذي عاش فيه‪.‬‬ ‫ومن الجدير بالذكر أ َّن التراث التربوي الإسلامي هو مصد ٌر من المصادر التي َيلزم‬ ‫((( ابن شرف القيرواني‪ ،‬محمد بن أبي سعيد (توفي‪360:‬ﻫ)‪ .‬رسائل الانتقاد في نقد الشعر والشعراء‪ ،‬تحقيق‪ :‬حسن‬ ‫حسني عبد الوهاب‪ ،‬بيروت‪ :‬دار الكتاب الجديد‪1983 ،‬م‪ ،‬ص‪.40-39‬‬ ‫وقد ُر ِويت هذه الأبيات في عدد من المصادر منسوبة إلى أكثر من واحد؛ ففي رسائل البلغاء منسوبة إلى ابن‬ ‫شرف القيرواني‪ ،‬وعند الزبيدي البيتان الأولان لعبد الله بن سلامة المؤذن‪ ،‬والبيتان الأخيران لابن رشيق‪ .‬انظر‪:‬‬ ‫‪ -‬الزبيدي‪ ،‬محمد مرتضى الحسيني (توفي‪1205:‬ﻫ)‪ .‬تاج العروس من جواهر القاموس‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد الستار‬ ‫أحمد فراج‪ ،‬الكويت‪ :‬وزارة الإرشاد والأنباء‪1965 ،‬م‪ ،‬ص‪.93‬‬ ‫‪147‬‬

‫أ ْن نط ِّور المنهجية المناسبة للتعامل معه‪ ،‬ومن المؤ َّكد أ َّننا سنجد فيه ما يأتي‪:‬‬ ‫‪ -‬الأمثلة المشرقة في استلهام مقاصد القرآن وال ُّسنة‪ ،‬وهي ‪-‬في كثير منها‪ -‬مبادرات‬ ‫شخصية من علماء وأمراء وعامة‪ .‬وهذه المبادرات تع ِّبر عن قيم مستقرة تصلح أ ْن‬ ‫تكون حوافز للتطوير التربوي اليوم‪ ،‬وغد ًا‪ ،‬وبعد غد‪.‬‬ ‫‪ -‬الأحكام والفتاوى الفقهية التي أ َّثر في صدروها الواقع الاجتماعي الذي كان سائد ًا‪،‬‬ ‫والحالة النفسية ل َمن أصدر الفتوى‪ ،‬وملابسات المسألة التي جاءت الفتوى جواب ًا‬ ‫عنها‪ .‬وهي ‪-‬على كل حال‪ -‬لا تم ِّثل فهمنا المعاصر لمقاصد القرآن وال ُّسنة في‬ ‫التع ُّلم والتعليم‪.‬‬ ‫‪ -‬الممارسات التعليمية الفردية والمجتمعية التي أقام عليها التراث أشد النكير‪ ،‬فلم‬ ‫تكن محل قبول في زمانها‪ ،‬وهي ليست محل قبول اليوم‪.‬‬ ‫وإذا ُع َّد التراث التربوي قديم ًا‪ ،‬فما الجديد لدينا في ميدان التربية والتعليم؟ من‬ ‫المؤ َّكد أ َّننا سنجد‪:‬‬ ‫‪ -‬أمثل ًة مشرق ًة من الخبرات والتجارب في العمل التربوي‪ ،‬في أماكن مختلفة من‬ ‫العا َلم‪ ،‬استندت إلى فكر ن ِّير وقيم نبيلة‪ ،‬وح َّققت الكثير من متط َّلبات تكريم‬ ‫الإنسان‪ ،‬وإطلاق طاقاته في الاستخلاف والعمران‪.‬‬ ‫‪ -‬أنظم ًة وقواني َن في التربية والتعليم‪ ،‬في أماكن مختلفة من العا َلم‪ ،‬تش َّكلت بتأثير‬ ‫الواقع المحلي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لتلك الأماكن‪ ،‬ولا تبدو‬ ‫قيمتها‪ ،‬ولا يلتزم بها إلا َمن يخضع لذلك الواقع؛ طوع ًا‪ ،‬أو كره ًا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فهم‬ ‫يتط َّلعون إلى التجديد والتطوير‪.‬‬ ‫‪ -‬في الخبرة المعاصرة كذلك ممارسات تعليمية فردية ومجتمعية‪ ،‬تتصف بالفوضى‬ ‫الفكرية‪ ،‬والسقوط النفسي‪ ،‬وامتهان كرامة الإنسان وإذلاله‪ ،‬وسحق شخصيته‪.‬‬ ‫وهي ممارسات مستنكرة‪ ،‬انتهت إليها حالة بعض الأماكن؛ نتيجة الجهل‬ ‫والتخ ُّلف الحضاري‪ ،‬أو الفساد المالي والإداري‪ ،‬أو الاستبداد السياسي لفئات‬ ‫وجدت مصالحها ومكاسبها في ظل أوضاع سادت فيها تلك الممارسات‪.‬‬ ‫‪148‬‬

‫فالخير الذي نبحث عنه في بناء فكرنا التربوي الإسلامي المعاصر ليس في القديم‬ ‫على إطلاقه‪ ،‬وليس في الجديد على إطلاقه؛ إ َّنها معادلة متوازنة تتكامل فيها عناصر الخير‬ ‫والجودة من القديم والجديد‪ ،‬ويبدع فيها عقل الإنسان المسلم المعاصر في صياغة هذه‬ ‫المعادلة‪ ،‬ضمن المقاصد التي أراد فيها الله للإنسان تزكي ًة في جسمه وعقله وروحه‪،‬‬ ‫وتزكي ًة في حياته الفردية وعلاقاته وأنظمته الاجتماعية‪ ،‬وأراد الله لهذا الإنسان سعي ًا دؤوب ًا‬ ‫لاستثمار التمكين المتاح له في هذه الأرض لإقامة العمران‪ ،‬وبناء الحضارة‪ ،‬إلى أ ْن تنتهي‬ ‫هذه الحياة الدنيا‪ ،‬ث َّم تكون الرجعى إلى الله‪ ،‬ف َمن أحسن في هذه الدنيا فلنفسه‪ ،‬و َمن أساء‬ ‫فعليها‪ ،‬وما ربك بظ ّلم للعبيد‪.‬‬ ‫‪149‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook