حتى السلوك البشري؛ إذ \"يعتقد هيوم أ َّن الإرادة البشرية تحدث وفق ًا لقوانين سيكولوجية يمكن ملاحظتها ووصفها \".وتكمن أهمية هيوم في تاريخ الفلسفة الحديثة في جانبين؛ الأول :تطوير هيوم المنهج التجريبي والسيكولوجي في نظرية \"المعرفة\" والإبستمولوجيا، والثاني :استخدام هيوم هذا المنهج في ميدان الأخلاق والعلوم الاجتماعية(((. -فولتير ( Voltaireفرانسوا ماري آروويه): إذا كان هيوم أحد أعلام التنوير في بريطانيا ،فقد ظهر في الوقت نفسه عل ٌم آخر من أعلام التنوير في فرنسا؛ ذلك هو فولتير 1778-1794( Voltaireم) الذي كان من \"أكثر ك ّتاب الأدب ،والدعاة إلى الحرية في التفكير ،ومحاربة الاضطهاد في السياسة ،والخرافة في العلم والدين ،ونجح مع عدد من الفلاسفة المعاصرين له\" :في أ ْن يجعلوا ا ِّدعاءات الكنيسة والدولة مدعاة للسخرية والاستهزاء والازدراء العام ،وفقدت الحكومة ثقة الأُ َّمة تمام ًا ،وعندما لم يصبح هناك أمل في تح ُّسن الظروف الاقتصادية ،أصبحت ثورة 1789م أمر ًا محتم ًا(((\". -جان جاك رو ّسو: من أعلام التنوير كذلك جان جاك رو ّسو 1778-1712( Rousseauم) الذي ُع ِرف بنظرته المتفائلة إلى الإنسان؛ فقد كان رو ّسو \"مقتنع ًا بأ َّن الإنسان خ ِّير بطبيعته \".لك َّن الحضارة هي التي أدخلت الشرور والفقر والعبودية والترف والتكاسل إلى حياة الناس. أ ّما شهرته الأكبر فكانت في كتابه \"العقد الاجتماعي\" في الفلسفة السياسية ،الذي كان له أثر في تطوير المثل العليا لفكرة \"الجمهورية\" ،حيث تتساوى الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين .ولك َّن رو ّسو اش ُت ِهر كذلك بصفته من ر ّواد الفكر التربوي؛ فقد كان على قناعة بأ َّن مشكلة العصر الذي عاشه هي مشكلة التعليم العام ،وأسهم في حل هذه المشكلة بوضع مقترحات مح َّددة في كتابه \"إميل :تربية الطفل من المهد إلى الرشد\" .وفيه ق َّدم رو ّسو منهج ًا عملي ًا ،ونظرية تعليمية تتم َّيز عن كثير من النظريات غير العملية .وكانت الأسس التي ق َّدمها رو ّسو ُمل ِهمة لعدد من فلاسفة التربية اللاحقين ،ولا سيما بستالوزي (1827-1746م) ،وهيربارت (1841-1776م) ،وفروبل (1852-1782م)(((. ((( المرجع السابق ،ص.223-217 ((( المرجع السابق ،ص.234 ((( المرجع السابق ،ص.242-237 100
-إيمانويل كانط: ظهر إيمانويل كانط 1804-1724( Immanuel Kantم) في ألمانيا .وبعد أ ْن مارس كانط التعليم الجامعي سنوات طويلة ،ودرس الفلسفات العقلية والتجريبية ،أخذ يحاول التأليف بينهما من خلال رؤية فلسفية خاصة س ّماها الفلسفة النقدية ،وأصدر في مجال المعرفة الرياضية والفيزيائية والميتافيزيقا كتابه \"نقد العقل الخالص\" ،وأتبعه بكتاب \"نقد العقل العملي\" في مجال الأخلاق ،ث َّم بكتاب \"نقد ملكة الحكم\" في مجال البيولوجيا وعلم الجمال .وواض ٌح أ َّن كانط كان مهتم ًا بتطوير نظرية للمعرفة ،مثله مثل َمن سبقه ِمن الفلاسفة ،ولا سيما لوك ،وهيوم ،لكنَّه تم َّيز عن غيره بالنظر في المعرفة اليقينية المطلقة التي يستطيع الإنسان امتلاكها في الرياضيات والفيزياء ،وتص َّور أ َّن الذهن البشري ينقسم إلى ثلاث ملكات أولية ،هي :ملكة المعرفة ،والإرادة ،والشعور ،وأفرد لك ٍّل منها كتاب ًا من كتبه النقدية الثلاثة .وامتاز كانط في مجال التدريس الجامعي بالجدية والأمانة والإخلاص ،وبمهارة خاصة في إثارة طلبته للتع ُّلم ،وممارسة النقد فيما ي َّطلعون عليه من مذاهب فلسفية (((.وقد اشتغل على أعمال كانط مجموعة من الفلاسفة الألمان، منهم فيشته 1815-1762( Fechteم) ،وهيجل 1831-1770( Hegelم) ،وشوبنهاور 1860-1788( Schopenhauerم) الذي أ َّسس الفلسفة المثالية الألمانية. -فريدريك نيتشه 1900-1844( Friedrich Nietzscheم): ُي َع ُّد نيتشه مؤ ِّسس اللاعقلانية والعدمية في الفكر الأوروبي الحديث؛ فقد دعا إلى تجاوز كل القيم التي تع ِّلمها الكنيسة ،ون َّدد بالديمقراطية والنفعية والاشتراكية ،وتمنّى العودة إلى قيم النبلاء والأرستقراطيين القديمة ،التي تع ِّبر عن إرادة الق َّوة في الفن القديم الديونيسي الذي يم ِّثل تحرير الغريزة وتفكيك الحدود ،وأثنى على الحروب لأ َّنها ُتر ّبي الق َّوة والشجاعة ،و ُتن ّمي روح السيطرة .وهو ينكر وجود معايير مطلقة في المنطق والأخلاق ،مع أ َّنه يعتقد أ َّن فلسفته الخاصة به هي حقيقة مطلقة .وقد ع َّبرت كتاباته عن تو ُّجهات عنصرية شديدة .ولا عجب أ َّن النازية وجدت في أفكاره مادة لثقافتها وإعلامها. ((( المرجع السابق ،ص.260-256 101
ورأى نيتشه أ َّن مشكلة التربية لا تكمن في الأطفال الذين يحتاجون إلى تربية، وإ َّنما تتم َّثل في امتلاك الرجل والمرأة الصحة والق َّوة والمكانة ليأتي الأطفال الأصحاء الأقوياء .ومن أقواله في ذلك\" :لا صلاح لأُ َّمة فسدت منابت أطفالها ،وهذه عبر التاريخ ماثلة لعيان َمن يريد أ ْن يرى ...لا بترقية الزراعة والصناعة ،ولا بنشر التعليم والتهذيب، ولا بجعل البلاد جنَّة ثرا ًء وتنظيم ًا ،تنشأ الأُ َّمة ،ويخلق الشعب الحر السعيد .إ َّن الجنين الذي يحمل أسباب شقائه وهو في بطن أ ِّمه لا يمكنه أ ْن يصير رجل ًا حر ًا وقوي ًا يفهم حقيقة الحياة ويتمتع بالعظمة الكامنة فيها .إ َّن الاهتمام بإيجاد الطفل الصالح َأ ْولى من العمل لإعداد العلم والتهذيب لطفل ُت ْص َقل مظاهره صقل ًا ،وتتحطم كل محاولة للنفوذ إلى ع َّلته المستقرة فيه منذ تكوينه(((\". .4نماذج من المذاهب والتو ُّجهات الفلسفية: أدركت المجتمعات البشرية منذ ال ِق َدم حاجتها إلى منظومة من الأفكار والمعتقدات، ومناهج البحث عن الحكمة ،وتحديد نظام الحياة ،ومعايير سلوك الإنسان فيها .وقد ُأط ِلق على هذه المنظومة مصطلح \"فلسفة\" .وعندما ُنط ِّبق هذه الفلسفة على مسائل التربية تصبح لدينا فلسفة تربوية تتمحور وظيفتها في تحديد أهداف التربية وسياساتها ومناهجها، وتحكم عمل المؤسسات التربوية وأنظمتها(((. وفيما يأتي أمثلة على بعض الفلسفات ،أو المذاهب التربوية: -مذهب \"المدرسية\" :Scholasticism من أكثر هذه التو ُّجهات شهرة التو ُّجه المدرسي Scholasticالذي بدأ في القرون الوسطى في صورة إعادة الاعتبار إلى الفلسفات اليونانية القديمة ،ولا سيما منطق أرسطو ((( نيتشه ،فريدريك .هكذا تكلم زرادشت ،ترجمة :فليكس فارس ،بيروت :دار القلم( ،د.ت) ،ص .12انظر أيض ًا: -طرابيشي ،جورج .معجم الفلاسفة ،بيروت :دار الطليعة2006 ،م ،مادة نتشه ،ص.680 ((( انظر أهمية الفلسفة للتربية في: - Snauwaert, Dale T. The Importance of Philosophy for Education in a Democratic Society, Journal of Peace Education and Social Justice, Volume 6 No. 2, 2012، page 73-84. وانظر مكانة فلسفة التربية في العملية التربوية في: -الكيلاني ،ماجد عرسان .فلسفة التربية الإسلامية :دراسة مقارنة بالفلسفات التربوية المعاصرة ،ع ّمان :دار الفتح2009 ،م ،ص.36 -31 102
القياسي ،والتوفيق مع الرؤية الدينية ،وهو في الأساس منهج فلسفي وتربوي اعتمدته المدارس الكاتدرائية ،ونما وتط َّور فيما بعد بمقترحات توما الأكويني (1274-1225م)، واستعاد حيويته بطلب من بابا الكنيسة الكاثوليكية ليون الثالث عشر عام 1879م(((. ومذهب \"المدرسية\" Scholasticismطريقة في التع ُّلم بدأها راهب بريطاني اسمه أنسيلم Anselmعام 1100م تقريب ًا ،وتو ّلى التعليم فيها \"رجال مدرسة\" schoolmen في جامعات القرون الوسطى ،وهم أيض ًا رجال دين ،وقد استمرت حتى عام 1600م، ولك َّن تأكيد المدرسية على الجدل لا يزال يؤ ِّثر في ُن ُظم التعليم المعاصرة .وفي هذه الطريقة يش َّجع الطلبة على مواجهة التناقضات الظاهرة في الأشياء التي يتع َّين عليهم أ ْن يتع َّلموها ،بهدف الوصول إلى توا ُفق بين ما يبدو من متناقضات .و ُيتو َّقع منهم أ ْن يو ِّظفوا عقولهم وخبراتهم من جهة ،والمعرفة المقبولة من سلطة آباء الكنيسة و ُمع ِّلميها من جهة ُأخرى لبناء ُحججهم .وحاولت هذه المدرسة أيض ًا التوفيق بين التعاليم المسيحية المختلفة والفلسفات الأُخرى ،لا سيما الأرسطية ،والأفلاطونية المحدثة .وكان المدرسيون يهت ّمون بالدقة المنطقية والحقيقة الفلسفية من تقديم نتائجهم بشكل مفهومي،مع إتاحتها للاختبار عن طريق الملاحظة التجريبية. وقد وجدت الفلسفة المدرسية قبولاً واسع ًا مع جهود القديس توما الأكويني الذي دعا إلى تع ُّلم كل أشكال المعرفة المتاحة في عصره ،مع التوفيق بين المرجعيات الدينية والفلسفية ،لك َّن مسألة التوفيق هذه لم تكن لتستمر في النجاح مع دخول المجتمع الأوروبي في بداية عصر النهضة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر ،حيث بدأ الفلاسفة يمارسون دور ًا متم ِّيز ًا في أعمالهم المستقلة عن تعاليم الكنيسة ،ولا سيما عندما تزايد ا ِّطلاعهم على الفلسفات اليهودية والإسلامية ،والعلوم الطبيعية والرياضيات، وعلى قيمة المنهج التجريبي .وتب َّين لهم \"أ َّن عا َلم الطبيعة لا يكشف عن نفسه بصورة كافية عن طريق الاستخدام المحض للأقيسة المنطقية بالطريقة الإسكولائية ،كما أ َّنه يمكن -من ناحية ُأخرى -تحقيق اكتشافات جديدة بطرق ُأخرى(((\". ((( رايت ،تاريخ الفلسفة الحديثة ،مرجع سابق ،ص.44-37 ((( المرجع السابق ،ص.42 103
-مذهب \"الإنسانية\" :Humanism من المذاهب الفكرية التي شهدها التاريخ الأوروبي كذلك مذهب \"الإنسانية\" .Humanismفقد شهد القرنان الخامس عشر والسادس عشر تغ ُّير ًا جذري ًا في الفكر الأوروبي من المرجعية الدينية إلى الرؤية العلمانية ،ومن الجمعية إلى الفردية ،ومن الخرافة إلى العلم .واعتبر المؤ ِّرخون هذا التح ُّول انتقالاً من \"المدرسية\" التقليدية إلى \"الإنسانية\" .وهذه النزعة Trendعقيدة واتجاه ونمط حياة يتمركز حول مصالح الإنسان وقيمه ،وهي ترفض الإيمان بما وراء الطبيعة ،وتؤ ِّكد كرامة الفرد الإنساني ،وقدرته على تحقيق ذاته عن طريق العقل .وقد حمل معنى \"الإنسانية\" معاني ِع َّد ًة عبر القرون؛ فمع أ َّن المعنى الأساسي كان التمركز حول مصالح الإنسان وقيمه من مرجعية دينية تؤمن بالغيب، أصبح معناها فيما بعد يتمحور حول فهم الأخلاق اعتماد ًا على العقل ،وأفكار العدل، وتدريب المواطنين على الكلام والكتابة وإقناع الآخرين ،عن طريق دراسة مدى واسع من الأعمال الكلاسيكية بدلاً من التعاليم الدينية والغيبية. وفي الظروف المتقلبة في القرن الخامس عشر تط َّورت لدى الفلاسفة فكرة \"الحقيقة ذات الوجهين\"؛ فلا مانع من قبول مسألة معينة في مجال الفلسفة ،حتى لو لم تكن مقبولة في مجال اللاهوت .لقد تسارعت حركة البحث عن فلسفة جديدة بعد هجرة العلماء من القسطنطينية ،بعد سقوطها في يد المسلمين العثمانيين عام 1453م ،حيث بدأ هؤلاء العلماء يدرسون بحماس الفلسفة اليونانية القديمة ،ويجدون فيها متعة ،فانتشرت فكرة \"التربية الحرة\" ،وأصبح إنسان القرن الخامس عشر أكثر إنسانية ،وأكثر بشرية (بمعنى أ ْن يكون أكثر عقلانية وثقافة ومعرفة بكل ما له قيمة في الفن والأدب والعلم) عن طريق دراسة الآداب الكلاسيكية التي اعتقد رجال عصر النهضة أ َّنها كانت تعبير ًا عن مقصد المؤ ِّلفين الأصليين ووجهات نظرهم .ولذلك ُع ِرفت الآداب الكلاسيكية باسم الإنسانيات ،و ُع ِرف الباحث الذي يدرسها بطريقة جديدة باسم الباحث الإنساني ،في مقابل الباحث الإسكولائي(((. ((( المرجع السابق ،ص.43 104
ومع الدخول في القرن السابع عشر أخذ العلماء يدركون قصور الفلسفة الإنسانية؛ لافتقارها إلى المنهج المناسب في البحث الفلسفي ،فتص ّدى عد ٌد من العلماء لتطوير عدد من المسارات ،منها :مسار \"منهج البحث التجريبي\" القائم على الملاحظة والتجربة والاستقراء ،كما فعل فرانسيس بيكون (1626-1561م) ،ومسار \"منهج البحث العقلي\" الذي يقوم على البرهان الرياضي والهندسي والحدس ،لا بوصفه المصدر الأول للمعرفة أو الإحساس ،كما فعل رينيه ديكارت 1650-1596( Descartesم) ،وباروخ اسبينوز 1677-1632( Spinozaم) ،وجوتفريد ليبنتس 1716-1646( Leibnizم)(((. والإنسانية موقف فلسفي وأخلاقي يؤ ِّكد على الكائن الإنساني فرد ًا ونوع ًا ،و ُي ْعلي من قيمته ،ويستخدم التفكير الناقد والاستدلال التجريبي ،بديل ًا عن حالة الإنسان التي كانت الكنيسة المسيحية تدعو إليها؛ من :رهبانية ،وزهد في الحياة ،وإيمان أعمى ،وخرافات الغفران والحرمان .وبدأت في تعليم الفنون الحرة والدراسات الكلاسيكية ،مؤ ِّكد ًة فكرة الحرية والتق ُّدم الإنساني .وقد ظهر المذهب عبر التاريخ بصور مختلفة ،منها :الإنسانية الدينية ،والإنسانية الأخلاقية ،والإنسانية العلمانية .ويب ِّين الموقع الإلكتروني لمؤسسة تس ّمى \"مجلس الإنسانية العلمانية\" أسماء عدد من المؤسسات القائمة في العا َلم اليوم، وهي تتبنّى هذا المذهب بتل ُّوناته المختلفة (((.وتتبنّى هذا المذهب اليوم حركات متعددة تتخذ موقف ًا لاديني ًا في الحياة ،وتؤمن بالعلم ،وتنكر الحاجة إلى الوحي والغيب في فهم العا َلم ،وتتساوق مع ما ُيع َرف بالعلمانية .Secularism لقد استعرض جيم هيريك حضور المذهب الإنساني لدى الفلاسفة من أيام اليونان، مرور ًا بالقرون الوسطى وعصر التنوير في أوروبا ،وانتها ًء بمطلع القرن الحادي والعشرين. وتو َّصل بصورة ر َّبما تتصف بالمبالغة إلى أ َّن عناصر هذا المذهب حاضرة في أفكار معظم الفلاسفة (((.ث َّم ختم هذا المؤ ِّلف كتابه بالنصوص السبعة التي تم ِّثل مبادئ المذهب ((( المرجع السابق ،ص ،64وص( 96-95ديكارت) ،وص( 116-115اسبينوزا). ((( انظر الموقع في الرابط: - http: //www.secularhumanism.org/index.php/13 (3) Herrick, Jim. Humanism: An Introduction. Amherst and New York: Prometheus Books, 2005, pp1-6. 105
الإنساني ،والتي ُح ِّددت في المؤتمر السنوي الخمسين \"الاتحاد العالمي للإعلان 2002م\" في أمستردام-هولندا ،وصدرت بعنوان \"إعلان أمستردام\" ،ون َّصت على أ َّن المذهب الإنساني \"أخلاقي ،عقلاني ،يؤمن بالديمقراطية وحقوق الإنسان ،ويوازن بين الحرية الفردية والمسؤولية الاجتماعية ،ويم ِّثل بديل ًا للمعتقدات الدينية الغيبية ،ويق ِّدر الإبداع الفني ،وهو نمط حياة لكل إنسان في كل مكان(((\". ويرى بعض الباحثين أ َّن الفكر الغربي الذي يتم تطويره في أوروبا الغربية وامتداداتها في أمريكا لا يزال يتصف بنوع من المذهب الإنساني ،يس ّمونه الإنسانية الليبرالية Liberal ،Humanismوهو فكر ينضح بالتح ُّيز ضد الآخر ،ولا سيما الآخر التاريخي الهندي والصيني والعربي ،في أبعاده التاريخية ،أو الآخر الأحدث المتم ِّثل في الآخر الإفريقي وسكان العا َلم الجديد الأصليين .فبالرغم من الجهود المق َّدرة التي ُب ِذلت في عدد من المؤسسات الغربية ومؤسسات الأمم المتحدة لتعزيز التع ُّددية واحترام الآخر في العا َلم المعاصر ،فإ َّن هذه الجهود ُمنِيت بفشل ذريع؛ ر َّبما لأ َّن الفلسفات غير الغربية ُتذ َكر بطريقة هامشية حين ترد في مناهج التعليم المدرسي والجامعي ،ولا تستحق الاهتمام المنهجي والفلسفي؛ فهي -في نهاية المطاف -تعبير عن ثقافة الآخر .يضاف إلى ذلك أ َّن هذه الفلسفة الإنسانية الغربية تجد إحالات تاريخية بهدف تضخيمها عن طريق البحث عن جذورها في العبقرية اليونانية القديمة .وقد تع َّرضت الفلسفة الإنسانية إلى كثير من الانتقاد ،من حيث المنطلقات الفكرية التي تأ َّسست عليها سياسة الغرب ،فقادت إلى حربين عالميتين في مدى نصف قرن ،وكادت تعصف بالتوا ُزن البيئي و ُن ُظم الحياة الطبيعية ،فضل ًا ع ّما تم ِّثله من تح ُّيز غربي .وعلى كل حال ،فإ َّن \"الإنسانية\" التي أصبحت مذهب ًا فلسفي ًا فيما بعد قد بدأت في عصر النهضة مسألة تعليمية بحتة ،تدعو إلى تدعيم المنهج التربوي بالآداب الكلاسيكية ،والبلاغة ،والفنون الحرة((( . (1) Ibid., pp 101-102. (2) Peters, Michael A. The Humanist Bias in Western Philosophy and Education. Educational Philosophy and Theory, Vol. 47, Issue. 11, 2015, PP. 1128-1135. يمكن الحصول على النسخة الإلكترونية من المجلة من الرابط: - http: //www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/00131857.2014.991497. 106
-المذهب الوضعي :Positivism \"الوضعية\" مصطلح وضعه الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت Auguste Comte (1857-1798م) ،وأراد به أ ْن يكون نظام ًا فلسفي ًا للمجمع الصناعي الذي بدأ يتش َّكل. وقد اقترح أ ْن يستخدم المنهج العملي في دراسة الاقتصاد والسياسة والسلوك الاجتماعي؛ فهذه الدراسة العلمية ستقود إلى بناء المجتمع ،واستمرار تق ُّدمه .ويرفض المذهب الوضعي عند كونت كل ما لا يقع تحت المشاهدة الحسية المباشرة ليكون موضوع ًا للدراسة .لقد كان هناك قانونان للمذهب الوضعي؛ الأول :قانون تاريخي أو منطقي ،وهو قانون المراحل الثلاث في تط ُّور التفكير في المجتمعات البشرية :المرحلة اللاهوتية، ث َّم المرحلة الميتافيزيقية ،وأخير ًا المرحلة العلمية .وقد ب َّين كونت كيف أ َّن ذلك واضح في التاريخ الأوروبي ،وفي حياة كل فرد .أ ّما القانون الثاني فهو قانون معرفي يخت ُّص بالتصنيف التراتبي الذي يراه لتط ُّور حقول المعرفة ،و ِم ْن َث َّم تع ُّقدها بدء ًا بالرياضيات ،ث َّم الفلك ،ث َّم الفيزياء ،ث َّم الكيمياء ،ث َّم البيولوجيا ،ث َّم علم الاجتماع .ورفض كونت أ ْن ُي َع َّد علم النفس من العلوم ،ورأى أ َّن المعرفة في كل علم تتأ َّسس جزئي ًا على العلم السابق له. أ ّما أكثر العلوم تط ُّور ًا وتعقيد ًا -في رأيه -فهو علم الفيزياء الاجتماعية ،أو علم الاجتماع؛ وهو العلم الذي يحكم سلوك الإنسان على المستوى العام ،والطرق التي تسلكها الأعراف والمؤسسات الاجتماعية في نظام معقد يمكن التنبؤ به .وقد شرح تفاصيل هذه الرؤية تحت عنوان \"المجتمع الوضعي\" ،واقترح فيه مفهوم ًا لدين جديد س ّماه دين الإنسانية، حيث يكون ما يستحق العبادة تلك الشخصيات التي تق ِّدم خدمة أفضل للمجتمع(((. تظهر آثار الفلسفة الوضعية في المجال التربوي في مناهج البحث التربوي؛ ذلك أ َّن \"صورة البحث التي ق َّدمتها كتب العلوم الاجتماعية في النصف الأول من القرن العشرين طغت عليها الفلسفة الوضعية ،على الرغم من أ َّن هذه الفترة نفسها شهدت القصور الواضح في هذه الفلسفة .ويعزى طغيان هذه الفلسفة في ميدان البحث التربوي إلى جهود عالِم النفس الأمريكي سكينر Skinnerوفلسفته السلوكية Behaviorismذات التو ُّجه (1) Craig, Edward (Editor). Concise Routledge Encyclopedia of Philosophy. London and New York: Routledge, 2000, p. 158. 107
الوضعي المباشر (((\".ويرفض سكينر \"الممارسات الشائعة في تفسير سلوك الإنسان عن طريق عوامل داخلية عقلية mentalأو نفسية psychieتفتقد إلى الأبعاد الفيزيائية ،ولا يقبل إلا التفسير العلمي الذي يعتمد على المشاهدات والقياسات الحسية(((\". وتتم َّثل تطبيقات الوضعية في المجال التربوي كذلك في موضوع \"القيم\"؛ فالقيم في هذه الفلسفة هي أدوات ووسائل المجتمع في تحقيق أغراضه .والقيم الخلقية -مثل ًا- هي ما يتواضع عليه مجتمع معين في زمن معين ،وتكون مفيدة ما دامت تح ِّقق أهداف ًا عملية لذلك المجتمع .وتتغ َّير هذه القيم ،ويستبدل بها غيرها ،تبع ًا لتغ ُّير وضع المجتمع وحاجاته .وفيما يخ ُّص علم المستوى النظري ،فإ َّن القيم في الفلسفة الوضعية هي من أمور ما وراء الطبيعة ،ولا تقع تحت الحس ،ولذلك لا تصلح أ ْن تكون موضوع ًا للعلم والتع ُّلم .وقد تع ِّبر عن مشاعر فردية ،لك َّن الفرد سرعان ما يتك َّيف مع متط َّلبات المجتمع. -المذهب النفعي :Pragmatism يمكن تت ُّبع فكرة \"المذهب النفعي\" وتط ُّور هذه الفكرة في أعمال عدد من الفلاسفة ،ولا سيما وليم جيمس 1910-1842( William Jamesم) ،وتشارلز بيرس 1914-1839( Charles Sanders Peirceم) ،وجون ديوي-1859( John Dewey 1952م) ،ولك َّن التت ُّبع التفصيلي يجد حضور ًا لهذا المذهب في أعمال غيرهم من الفلاسفة، أمثال :كوين ،وهيجل ،وهيديجر ،وبوتنام ،ورورتي ،وغيرهم (((.بيد أ َّن جون ديوي يتم َّيز بأ َّنه ط َّور هذا المذهب ،ومارس تطبيقه في مجال التعليم ،وأ َّثرت أفكاره البراغماتية تأثير ًا عميق ًا في النظام التعليمي الأمريكي منذ مطلع القرن العشرين .وقد انتشرت هذه الأفكار (1) Phillips, Denis Charles & Burbules, Nocholas C. Postpositivism and Educational Research, New York and Oxford: Rowman & Littlefield Publ. Inc., 2000, p. 5. (2) Skinner, B. F. Science and Human Behavior, New York: Pearson Education Inc., First published, 1953, reprint 2000, p. 29. (3) Malachowski, Alan (Editor). The Cambridge Companion to Pragmatism, New York: Cambridge University Press, 2013. الكتاب كله عن المذهب النفعي (البراغماتي) .وتكشف قائمة المحتويات في الكتاب عن تخصيص فصل كامل عن حضور المذهب النفعي في أعمال هؤلاء الفلاسفة. 108
في كثير من أنحاء العا َلم ،وانتقلت بالاهتمام الفلسفي بال ُمع ِّلم ،وأهداف اكتسابها من التأ ُّمل والتفكير المج َّرد وقضايا المثل إلى استهداف النتائج المادية الملموسة ،وما يمكن أ ْن تؤديه المعرفة من وظائف .ولذلك أخذت الفلسفة البراغماتية معنى الأداتية ،Instrumentalism والوظيفية ،Functionalismوالعملياتية .Operationalismونظر ًا لأ َّن التو ُّجه العام في الفلسفة الأوروبية قد طغت عليه الفلسفة الوضعية؛ فإ َّن معظم المذاهب الفلسفية أصبحت لا تكاد تخرج عن هذه الفلسفة ،بما في ذلك البراغماتية. لقد تأ َّثر ديوي فكري ًا بدراسات \"هيجل\" الفلسفية ،و\"فروبل\" النفسية ،و\"دارون\" التط ُّورية ،وكانت فلسفته امتداد ًا لتشارلز بيرس ووليم جيمس في فلسفتهما البراغماتية القائمة على المنفعة ،والعائد الملموس ،أو الذي يمكن أ ْن يلاحظ بالقياس (((.وقد تص َّور ديوي في كتابه \"المدرسة والمجتمع\" المدرسة مجتمع ًا ُمص َّغر ًا يصبح فيه الأطفال مواطنين أذكياء ونافعين عن طريق صنع أشياء بصورة مشتركة ،وأشار في كتابه \"الديمقراطية والتربية\" إلى أ َّن التربية هي العملية التي ُت ِعين الجماعات على استمرار وجودها ،وأ َّن المدرسة مجتمع يتم فيه إثراء تجربة التلاميذ وتنظيمها عن طريق أنشطة مشتركة .وإذا كانت الفلسفة الذرائعية تشبه براغماتية جيمس ذات الاهتمام الديني ،فإ َّن ذرائعية ديوي ه ُّمها الإصلاح الاجتماعي والمواطنة .ويتلخص هدف التربية عند ديوي في تنشئة الناس وتدريبهم على التك ُّيف مع وسطهم ،وعلى إعادة بناء هذا الوسط بحيث يتناسب -إلى أبعد ما يمكن -مع رغباتهم وحاجاتهم(((. نكتفي بهذه الأمثلة الأربعة للتو ُّجهات أو المذاهب الفلسفية وتف ُّرعاتها ،التي أ َّثرت في نظريات التعليم وممارستها حتى النصف الأول من القرن العشرين .ونكتفي كذلك بالإشارة إلى مراجعة مفيدة للفلسفات التي سادت هذه الحقبة ،والتضمينات التربوية لهذه الفلسفات في مجال النظرية والممارسة (((.وقد لاحظ ك ٌّل من سعيد إسماعيل ((( ديوي ،جون .المدرسة والمجتمع ،ترجمة :أحمد حسن الرحيم ،مراجعة :محمد ناصر ،بيروت :دار مكتبة الحياة بالمشاركة مع مؤسسة فرانكلين للطباعة في نيويورك ،ط1978 ،2م .مقدمة الكتاب بلغته الأصلية مؤ َّرخة في 1915م .انظر الصفحات.101-98 : ((( المرجع السابق ،مقدمة الكتاب بلغته الأصلية ،مؤرخة في 1915م. ((( علي ،سعيد إسماعيل .وفرج ،هاني عبد الستار .فلسفة التربية :رؤية تحليلية ومنظور إسلامي ،هرندن والقاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي ودار الفكر العربي2009 ،م ،ص.93-69 109
علي وهاني عبد الستار فرج في هذه المراجعة أ َّن أدبيات الفلسفة التربوية تو َّزعت على ثلاثة نماذج؛ نموذج عرض المدارس الفلسفية ،مثل :الواقعية ،والمثالية ،والبراغماتية، وغيرها ،والمضامين التربوية لهذه المدارس؛ ونموذج عرض الفلسفة التربوية لفيلسوف بعينه ،مثل :أفلاطون ،ولوك ،ورو ّسو ،وغيرهم؛ ونموذج ما ُس ِّمي النظريات التربوية المعاصرة المشتقة من المدارس الفلسفية ،مثل :الفلسفة التواترتية ،وفلسفة الديمومة Perennialismالمشتقة من الفلسفة المثالية ،والفلسفة الجوهرية Essentialismالمشتقة من الفلسفة الواقعية ،والفلسفة التقدمية Progressivismالمشتقة من الفلسفة البراغماتية. 110
المبحث الثالث فلسفات تربوية معاصرة ومرجعياتها الغربية أولاً :بعض الأمثلة على فلسفات تربوية معاصرة: تتح َّدث معظم كتب فلسفة التربية -حتى حديثة النشر منها -عن التضمينات التربوية للفلسفات التقليدية القديمة ،مثل :المثالية ،والواقعية ،والطبيعية ،والذرائعية. لك َّن الكتابات الأحدث تتح َّدث عن نظريات تربوية مشتقة في الغالب من تلك الفلسفات التقليدية ،وتذكر تداخل الأفكار فيها عند الإجابة عن موقع ك ٍّل من :ال ُمتع ِّلم ،وال ُمع ِّلم، والمنهاج التعليمي ،وأهداف التعليم في الفكر التربوي والممارسة التربوية .وفي كل فلسفة من الفلسفات التي ُت َع ُّد حديثة أو معاصرةُ ،تذ َكر عشرات الأسماء من الفلاسفة والمف ِّكرين والتربويين الذين كان لهم صلة قريبة أو بعيدة بكل فلسفة؛ من :حديث عن درجة تبنّي هذه الفلسفة أو نقدها ،وما لها من إيجابيات وسلبيات .ومن بين الفلسفات التي ُتذ َكر في هذا السياق :التق ُّدمية ،Progressivismوالمعمرة ، Perennialismوالوجودية ،Existentialismوالسلوكية ،Behaviorismوالأساسية أو الجوهرية ،Essentialism والبنيوية ،Structuralismوالتحليلية ،Analyticismواللسانية ،Linguisticوالنقدية ،criticalوالانتقائية ،eclecticismوغيرها كثير. ومن الجدير بالملاحظة أ َّن هذه الأدبيات ق َّدمت الفلسفات التربوية في صورة فلسفات مستقلة لا تداخل بينها ،أو أ َّنها نظريات متصارعة ،تنقض ك ٌّل منها الأُخرى؛ ما ُيض ِعف القدرة على التفكير الفلسفي في التربية ،أو توظيف الرؤى الفلسفية في حل مشكلات التربية ،و ُيس ِّوغ لبعض الباحثين القول بالإفلاس الفكري في فلسفة التربية(((. وقد رفض بعض الفلاسفة الغربيين القول بأ َّن النظريات والممارسات التربوية ُتش َت ُّق ((( المرجع السابق ،ص .89نقل الدكتور هاني فرج هذا المقولة عن التربوي الأمريكي المتخصص في فلسفة التربية من بحث ق َّدمه \"نيوسم\" للمؤتمر الحادي والعشرين لجمعية فلسفة التربية ،عام 1965م .انظر: - Newsome, George. \"Some Propositions Concerning the Teaching of Educational Philosophy\", in the Proceeding of the Twenty-First Annual Meeting of Philosophy of Education Society, 1965, p. 45. 111
من مدرسة فلسفية معينة ،وأعطوا أمثل ًة على أ َّن بع َض الفلاسفة قد ك َّونوا أفكار ًا تربوية، ور َّبما مارسوها قبل أ ْن تتش َّكل عندهم رؤية فلسفية متم ِّيزة (((،ووصل الأمر ببعضهم إلى التساؤل عن حاجة التربية للفلسفة(((. في بعض الأحيان يصعب تمييز الفلسفة التي يتبنّاها مف ِّكر تربوي أو مجتمع من بين الفلسفات المتمايزة عن بعضها؛ نظر ًا لعدم تق ُّيد ذلك المف ِّكر أو المجتمع بعناصر فلسفة مح َّددة .فعندما يكون المف ِّكر على ا ِّطلاع بمزايا كل فلسفة ،فإ َّنه سيكون قادر ًا على وضع فلسفته في الإطار المناسب؛ لتقوية موقفه و ُح َّجته ،ور َّبما يختار بعض العناصر من فلسفة معينة وعناصر ُأخرى من فلسفات ُأخرى ،وفق ما يراه مناسب ًا لمعالجة الحالة التي يجد نفسه فيها ،فتكون فلسفته المطبقة هي فلسفة توليفية انتقائية ،eclecticismتل ّبي الحاجات التربوية القائمة ،لا سيما في مجتمع معاصر يتصف بالتع ُّددية. إ َّن حضور فلسفة التربية لا يقتصر على وجود هذا العنوان موضوع ًا للدراسة في صورة مساق دراسي جامعي ،أو جزء ًا من مساق دراسي ،وإ َّنما يتع ّدى ذلك إلى أ ْن يكون موضوع ًا حاضر ًا في العمل التربوي؛ المدرسي والجامعي ،في دراسة معظم مساقات التربية ،وفي التعامل مع معظم قضايا التعليم المدرسي .فالمنهاج التربوي يستند إلى فلسفة تربوية ،وبرامج إعداد ال ُمع ِّلمين تستند إلى فلسفة تربوية ،وهكذا التقويم التربوي، والبحث التربوي ،وغير ذلك .ولا تظهر فلسفة التربية بالضرورة بهذا العنوان؛ فقد تظهر بعناوين متعددة ،مثل :هدف التربية ،ونظام الاعتقاد ،belief systemأو النموذج المعرفي ،Paradigmأو رؤية العا َلم ،Worldviewأو المذهب .Ideology والتضارب والتناقض بين الفلسفات أو المذاهب أو الرؤى التربوية قد يظهر بين الافتراضات الأساسية لها ،أو يظهر في تطبيقاتها في قضايا تربوية مح َّددة ،مثل :بناء المناهج ،والأهداف التربوية ،وتدريب ال ُمع ِّلمين ،والإدارة التربوية ،وغير ذلك .فعلى (1) Hook, Sidney. The Scope of philosophy of education, In: Lucas, Christopher L. (Editor). What is Philosophy of Education? New York: Collier Macmillan Ltd, 1969, Part 3 Chapter 6. (2) Cahn, Steven M. Philosophical Foundations of Education, New York: Harpercollins College Div, (June 1970), p. 369. 112
سبيل المثال نجد تضارب ًا ظاهر ًا في المفاهيم المتضاربة عن المنهاج التربوي لدى مجموعة من الفلسفات التربوية التي يعرضها أحد المؤ َّلفات (((،ويتح َّدث فيه أحد المؤ ِّلفين ع ّما يس ّميه الحرب القائمة بين التربويين منذ نحو قرن من الزمن عن مفهوم \"المنهاج\" ،وكل مفهوم منها يستند إلى مذهب تربوي ،Ideologyأو فلسفة تربوية ،philosophyأو رؤية للتمدرس .vision of schoolingويختار المؤ ِّلف أ ْن يتح َّدث عن أربعة من هذه المفاهيم المتضاربة :المفهوم الأكاديمي الذي ير ِّكز على المجال المعرفي ،ومفهوم \"الفاعلية الاجتماعية\" الذي ُي ِع ُّد ال ُمتع ِّلمين لتلبية حاجات المجتمع ،ومفهوم \"التمركز حول ال ُمتع ِّلم\" الذي يروم التعليم وفق القدرات الخاصة بكل فرد ،ومفهوم \"البناء الاجتماعي\" الذي يستهدف بناء مجتمع يبسط العدل ،ويح ِّقق رضا الجميع .ث َّم يقارن المؤ ِّلف دلالات وعناوين هذه المفاهيم الأربعة بمعانيها ودلالاتها عند عشرة من المؤ ِّلفين الذين ظهرت مؤ َّلفاتهم ما بين سنة 1977م وسنة 2008م ،فيجد أ َّن هذه المفاهيم تقع تحت عناوين كثيرة ،تشمل التن ُّوع الواسع الذي عرفته الفلسفات التربوية :الإنسانية ،والليبرالية، والسلوكية ،والعقلية ،والخبراتية ،والتق ُّدمية ،والبنائية ،وغيرها. وقد يظهر التناقض في ممارسات المستويات الإدارية في العمل التربوي؛ من :إدارة مركزية ،وإدارة محلية ،ومشرفين ،و ُمع ِّلمين ،وغيرهم ،ويؤ ِّثر ذلك في إمكانية التنسيق والتعا ُون لتحقيق أهداف العمل التربوي على الوجه الأمثل ،ويكون السبب في ذلك هو أ َّن بعض أفراد هذه المستويات الإدارية يحملون ُن ُظم اعتقاد مختلفة .وقد تمنع ُن ُظم الاعتقاد المختلفة لدى ال ُمع ِّلمين من ُفرص التعا ُون مع ًا لتحقيق أهداف المدرسة .وفي هذا السياق ،م َّيز أحد الباحثين بين ستة أنواع من المعتقدات التي تسود بين ُمع ِّلمي المدارس هذه الأيام ،وهي :الأصولية الدينية ،والمعرفية ،ومطلب تحقيق الذات ،والتكنولوجية، والأكاديمية ،وإعادة البناء الاجتماعي(((. (1) Schiro, Michael Stephen. Curriculum Theory: Conflicting Visions and Enduring Concerns, 2nd Edition, Volume 2, New York: SAGE Publications, Inc; 2nd edition (April 24، 2013)، pp 4-8. (2) Costa, Arthur. & Garmston, Robet. Cognitive Coaching: Developing Self-Directed Leaders and Learners, 3rd Edition, Maryland: Rowman & Littlefield Publishers، 2015, pp 177-184. 113
وقد اعتم َد ْت إحدى الباحثات ُن ُظم الاعتقاد الستة هذه لدى ال ُمع ِّلمين ،وب َّينَ ْت أ َّن الاختلاف بينها ليس بالضرورة شيئ ًا س ِّيئ ًا ،ور َّبما يكون من المفيد أ ْن يحمل العاملون في المدرسة هذا التن ُّوع من المعتقدات أو الرؤى الفكرية .وتظهر مشكلة التناقض فقط عندما لا يعرف أ ٌّي منهم معتقدات زملائه التي تح ِّدد طريقة تفكيرهم وا ِّتخاذهم للقرارات(((. أشرنا فيما سبق إلى بعض إشارات موجزة عن بعض الاتجاهات الفكرية السائدة في هذه الأيام ،حيث لا نزال نجد حضور ًا ملموس ًا لمعظم الفلسفات التربوية القديمة والحديثة ،ولكنَّنا نجد كذلك اتجاهات فلسفية معاصرة ،لم تظهر من قبل بالصورة التي نراها اليوم ،ونحن ندلف إلى نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين .وفيما يأتي إشارات موجزة عن عدد من هذه الاتجاهات الذي نذكرها على سبيل المثال لا الحصر: .١فلسفة التعليم العالمي: من الفلسفات التربوية التي أخذت طريقها إلى نظريات التربية المعاصرة على نطاق يزداد اتساع ًا يوم ًا بعد يوم فلسفة التعليم العالمي Global Educationالذي يكاد يذيب الفوارق في الفلسفات التربوية بين الشعوب والأمم؛ أمل ًا في إيجاد ُموا ِط ٍن عالمي . global citizenف َث َّمة دعوا ٌت لإنشاء نظام تعليم لا يعرف الحدود بين الشعوب في إدارته وتطبيقه .وبعض المجتمعات ترغب في تبنّي مثل هذا النظام؛ أمل ًا في النمو والتط ُّور واللحاق بغيرها من المجتمعات الأكثر تق ُّدم ًا .وليس س ّر ًا أ َّن الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية تمارس ضغوط ًا سياسية واقتصادية على مجتمعات ُأخرى لتغيير أنظمتها التعليمية والثقافية ب ُحجج مختلفة(((. ومن المفاهيم التي حاولت استشراف تو ُّجهات التعليم في القرن الحادي والعشرين، مفهوم \"مجتمع التع ُّلم\" Learning Societyالذي ُين َظر إليه على أ َّنه أصبح ظاهرة دولية (1) Aguilar, Elena. Teacher Collaboration: When Belief Systems Collide, California: Edutopia (George Lucas Educational Foundation), Pulished March, 22, 2016, see the link: - https: //www.edutopia.org/blog/educational-beliefs-collide-teachers-elena-aguilar (2) Srisa-an, Wichit. Global Education for Asia in the Twenty-first Century, Asia-Pacific Journal of Cooperative Education, Volume 3, No.1, 2002, pp. 1-4. 114
و\"عولمية\" .ويرتبط هذا المفهوم -كما يبدو -بمفهوم أكثر شيوع ًا ،وهو ما يشير إليه مصطلح \"مجتمع المعرفة\" ،وتر ِّوج له مؤسسات إقليمية ودولية ،مثل :منظمة التعا ُون والتنمية الاقتصادية (((،والمفوضية الأوروبية (((،واليونسكو ،وغيرها .فبالرغم من أ َّن الثقافات المحلية والمؤسسات الوطنية لا تزال عوامل قوية في معظم المجتمعات ،فإ َّن التمازج البشري عن طريق السياحة والا ِّطلاع على ممارسات ج ّذابة أصبح عوامل تع ُّلم تخترق الحدود؛ ما يب ِّشر بمجتمع تع ُّلم عالمي(((. .٢تدويل التعليم :Internationalization of Education بالرغم من أ َّن تبادل الخبرات والاقتراض الثقافي بين المجتمعات ،لا سيما في مجال التعليم العالي ،كان ظاهر ًة قديمة في التاريخ ،وأ َّن ظهورها قد تسارع طوال القرن العشرين، فإ َّنها أصبحت مع نهاية القرن العشرين حرك ًة نشط ًة تسعى لبناء إطار مرجعي لها (((،وتحليل القوى التي تدفع بها ُق ُدم ًا في مقابل تلك القوى التي تحاول استخدام التعليم العالي لأغراض وطنية محلية (((.وقد تخ َّصصت بعضها في بيان المعاني والدوافع المختلفة لهذه الحركة وعلاقتها بالعولمة ،وجهود التوفيق التي يمكن للدولة أ ْن تقوم بها بين التك ُّيف مع عمليات العولمة الخارجية ،واحترام تف ُّرد الدولة وأولوياتها التاريخية والثقافية (((.وتتم َّثل حركة التدويل في تعميم ُن ُظم التعليم الجامعي وبرامجه وكتبه المنهجية والمرجعية، وفي فتح فروع للجامعة الأُ ِّم الأوروبية أو الأمريكية في عدد من البلدان الأُخرى ،وفي (1) Organisation for Economic Co-operation and Development (OECD). (2) European Commission. (3) Kuhn, Michael (Ed.). New Society Models for a New Millennium: The Learning Society in Europe and Beyond, New York: Peter LANG, 2007, p. 223. (4) Qiang, Zha. Internationalization of Higher Education: towards a conceptual framework, Policy Futures in Education, Volume 1, Number 2, 2003, pp. 248- 270. (5) Kerr, Clark. The Internationalisation of Learning and the nationalization of the purpose of Higher Education: two 'laws of motion' in conflict, European Journal of Education, Vol. 25, No. 1, 1990, p 5-22. (6) Kreber, Carolin. Different Perspectives on Internationalization in Higher Education, New Direvtions for Teaching and Learning, Volume 2009, Issue 118, Summer 2009, pp. 1–14. 115
وضع معايير دولية للاعتماد ،و ُن ُظم دولية لتصنيف الجامعات ،وتعزيز الثنائيات اللغوية، وغير ذلك (((.ولا تقتصر جهود حركة التدويل على التعليم الجامعي ،وإ َّنما تنشط كذلك في مجال التعليم العام؛ فظاهرة \"المدارس الدولية\" و\"المناهج الدولية\" و\"الامتحانات الدولية\" آخذ ٌة في الانتشار ،والمراجع التي تدرس هذه الظاهرة وتحاول توجيهها يتوالى صدورها في بلدان مختلفة(((. وتش ِّجع منظمة اليونسكو اتجاهات التدويل؛ فقد جاء في أحد تقاريرها المنشورة \"أ َّنه ينبغي مساعدة البلدان على تعزيز ال ُب ْعد الدولي للتعليم (المناهج الدراسية ،واستخدام تكنولوجيات المعلومات ،والتعا ُون الدولي) .وينبغي تقديم المساعدة لتعزيز النُّ ُظم التعليمية الوطنية عن طريق تشجيع علاقات التحالف والتعا ُون بين الوزارات على مستوى الإقليم ،وفيما بين البلدان التي تواجه مشكلات متماثلة .وينبغي تعزيز النشاط التقنيني لليونسكو لخدمة الدول الأعضاء ،ومن ذلك على سبيل المثال تحقيق التوا ُفق بين التشريعات الوطنية والاتفاقيات الدولية(((\". .٣تعليم ما بعد الحداثة :Postmodernity Education إذا كانت الحداثة Modernismالتي اجتاحت أوروبا مع حركة التنوير في الحقبة ما بين القرن الرابع عشر والقرن السابع عشر للميلاد ،وانتقلت إلى بلدان العا َلم الأُخرى فيما بعد ،قد أحدثت تغييرات جذرية في واقع العا َلم كله ،فقد بدأت ظاهرة \"الحداثة\" تجد نقد ًا شديد ًا ،اعتبار ًا من نهاية العقد الرابع من القرن العشرين ،ولا تزال .وعرفت هذه الجهود النقدية محاولة لنقض الأسس التي قامت عليها الحداثة ،ولا سيما الإفراط في الاعتماد ((( الأدبيات المتوافرة عن تدويل التعليم الجامعي كثيرة ،ومن آخرها: - Deardorff, Darla K. & Smith, Lily A. Arasaratnam (Editors). Intercultural Competence in Higher Education: International Approaches, Assessment and Application, Internation- alization in Higher Education Series, London and New York: Routledge, 1 edition, 2017. - Wit, Hans De. & Cacel-Avila, Jocelyne. & Jones, Elspeth. & Jooste, Nico. (Editors).The Globalization of Internationalization: Emerging Voices and Perspectives, Internationali- zation in Higher Education Series, London and New York: Routledge, 1 edition, 2017. (2) McGrath, Simon. & Gu Qing. Routledge Handbook of International Education and Development, London and New York: Routledge, 1 edition, 2017. ((( اليونسكو .التع ُّلم ذاك الكنز المكنون ،تقرير اللجنة الدولية في اليونسكو المعنية بالتربية للقرن الحادي والعشرين \"تقرير ديلور\" ،باريس :منظمة اليونسكو1996 ،م ،ص.42 116
على اليقين العقلي ،والمنهجية العلمية ،والحرية الفردية .ورافق هذا النقد إشاعة فلسفة بديلة ،جاءت في صورة ر ِّد فعل على فلسفة الحداثة ،وتجاوز ًا لها؛ لذا ُس ِّميت فلسفة ما بعد الحداثة .postmeodernismويدخل ضمن هذه الفلسفة تو ُّجهات الفلسفة العدمية ،nihilismوالنسوية ،feminismوالتفكيكية ،Deconstructivism ،وغيرها. ومع أ َّن ما بعد الحداثة تأخذ كثير ًا من الفلسفة البنيوية ،التي ترى أ َّن كل فرد يبني رؤيته الخاصة للأشياء والأفكار ،حيث لا توجد حقائق ثابتة أو مطلقة ،وكل شيء يتصف بالنسبية؛((( فإ َّن ما بعد الحداثة خليط من الأفكار والتو ُّجهات العملية التي لا تش ِّكل فلسفة متم ِّيزة بمبادئها وافتراضاتها ،وإ َّنما يسعى ر ّوادها إلى الخروج بالبشرية من مرحلة الحداثة؛ بموضوعيتها وعلمها ويقينها ،إلى مرحلة تؤ ِّسس لعا َلم جديد يسوده التع ُّدد في الفهم والتفسير ،والشك فيما كان ُي َع ُّد يقين ًا ،والتناقض فيما كان يبدو متسق ًا ،والنقض لما ُع ِرف من النظريات التي قامت عليها الثقافة الغربية منذ عهد التنوير .وفي هذه الأجواء يكون هدف التعليم هو تمكين الطلبة من إحداث قطيعة معرفية بينهم وبين ُن ُظم الحقيقة التي تم تطويرها في عهد الحداثة ،ويكون هدف المؤسسة التعليمية هو الكشف عن العلاقة بين المعرفة والق َّوة ،ويكون ال ُمع ِّلم مف ِّكك ًا محترف ًا ،ويكون هدف المنهج الدراسي ن ّص ًا مفتوح ًا للقراءة وسوء القراءة عن طريق آليات التفكيك(((. .٤التعليم في عهد الحداثة الرقمية Education for Digimodernism لم تتوقف الجهود فيما يخ ُّص تط ُّور الرؤى الفلسفية؛ ف َث َّمة ما ُكتِب عن \"ما بعد ،ما بعد الحداثة ،من خلال تحليل الواقع الذي فرضته تكنولوجيا المعلومات ومجتمع المعرفة والشابكة العالمية \"الإنترنت\" ،وأصبح على مؤسسات التعليم ملاحقة التغيرات التي تحدث في العا َلم ،التي ر َّبما يعرفها الطلبة قبل ُمع ِّلميهم .وقد ُأط ِلقت على الرؤى النقدية لما بعد الحداثة ِع َّدة تسميات ،منها \"الحداثة الرقمية (((\".Digimodernism (1) Siegel, Harvey (Editor). The Oxford Handbook of Philosophy of Education, London: Oxford University Press, 1 edition, 2012, pp524-534. (2) Parker, Stuart. Reflective Teaching In The Postmodern World: A Manifesto of Education in Postmodernity, Buckingham: Open University Press, 1997, pp 139-158. (3) Kirby, Alan. Digimodernism: How New Technologies Dismantle the Postmodern and Reconfigure Our Culture, London & New York: Bloomsbury Academic, 1 edition, 2009. 117
لقد قادت هذه الحداثة الرقمية إلى تمكين الطلبة ،ولا سيما طلبة الجامعات، من استخدام التكنولوجيا الرقمية لتطوير المعلومات والآراء والتص ُّورات والأفكار، وامتلاكها ،وتحويلها ،ومناقشتها ،واستبدال غيرها بها ،والمشاركة بها ،وتخزينها ...و ِم ْن َث َّم بناء وتحويل الهويات والمجتمعات .وقاد استخدام الأجهزة الرقمية إلى ثورة معرفية ر َّبما غ َّيرت من موقع الجامعات بوصفها سدنة المرجعية التقليدية للمعرفة الموثوقة(((. .٥فلسفة تربوية من أجل السلام :Educational Philosophy for Peace لاحظ بعض الباحثين الحاجة ال ُم ِل َّحة إلى فلسفة تربوية \"تو ِّفر تربية من أجل السلام\"، وتتعامل مع الاختلافات الدينية والعرقية والفوارق الطبقية-الاجتماعية والاقتصادية ،وما تقود إليه من تش ُّدد وتع ُّصب وتط ُّرف ،لا سيما في عا َلم اليوم الذي توافرت فيه عوامل عوامل عديدة جعلت الناس يعرفون عن بعضهم بعض ًا أكثر من أ ِّي وقت مضى .فوسائل الإعلام والاتصال ،والسفر والسياحة الدولية ،والهجرة عبر البلدان ،والتبشير الديني؛ كلها ي َّسرت معرفة الناس عن أديان ُأخرى غير ما ألفوه ،وم َّكنتهم من اكتساب خبرات مباشرة ساعدتهم على معرفة كيف تتج ّلى المعتقدات الدينية المختلفة في حياة أتباعها ،وق َّدمت لهم بصيرة حول معنى هذه المعتقدات وأثرها ،وأصبح التن ُّوع الديني مسألة حقيقية في الحياة المعاصرة .وهذه الحقيقة م َّثلت لبعض الناس مصدر تهديد لمعتقداتهم؛ ما جعلهم يبحثون عن مصادر الأمان ،وم َّثلت لبعضهم الآخر تحدي ًا لاختبار درجة إيمانهم ،أو لإيجاد علاقات جديدة ضمن تع ُّددية المعتقدات ،وإمكانية تعايش أهلها ،والعيش في بيئة يسودها الأمن والسلام(((. (1) Traxler, John. Modernity, mobility and the digital divides, Paper presented at the 15th International Conference of the Association for Learning Technology at University of Leeds, England, with a theme: Rethinking the digital divide, Leeds, UK, 9-11 September 2008, P. 123-130. See link: - https: //www.researchgate.net/publication/306088626_Inclusion_in_an_age_of_mobility [accessed Sep 2, 2017]. (2) Engebreston, Kathleen. & De Souza, Marian. & Durka, Gloria. & Gearon, Liam (Editors). International Handbook of Inter-religious Education, London & New York: Springer, 2010, P. 6. 118
.٦تربية دينية بينية :interreligious education أطلق الباحثون المشار إليهم في الفقرة السابقة على الفلسفة التربوية المطلوبة لهذا الغرض اسم الأسس الفلسفية للتربية الدينية البينية .interreligious educationففي العا َلم المعاصر الذي تتسارع فيه ظاهرة \"العولمة\" ،لا ُب َّد للتعليم العام ،ولا سيما في المرحلة الثانوية ،من مناهج تو ِّفر البيئة الضرورية لتربية دينية بينية ،يحترم فيها الناس بعضهم بعض ًا بقطع النظر عن نوع الإيمان الديني لغيرهم ،ويتح َّقق هدف التعليم من أجل السلام(((. وبالرغم من سيادة المذهب العلماني في حياة معظم المجتمعات في العا َلم ،فإ َّن الاتجاه الديني في فلسفة التربية لا يزال يجد حضور ًا في الجدل القائم في فلسفات التربية، بل إ َّن َث َّمة شعور ًا متزايد ًا -لدى الباحثين والمف ِّكرين على المستوى الأكاديمي الجامعي، ومراكز البحوث ،ودراسات المناطق ،والدراسات السياسية والاجتماعية -بالحاجة الما َّسة إلى دراسة نوع التربية الدينية التي تق ِّدمها المجتمعات المختلفة للطلبة .وقد تخ َّصص أحد المراجع الحديثة بذلك ،فعرض لواقع التربية الدينية في 53بلد ًا من بلدان العا َلم .ولاحظ الكتاب ثلاثة نماذج تسيطر على حضور الدين في البرامج التعليمية؛ فالبلدان ذات التقاليد الدينية القوية تر ِّكز على دين أغلبية السكان ،وتتبنّى نموذج بناء الهوية الدينية للمجتمع، ولا تهتم بالأديان الأُخرى .والبلدان التي تفصل ما بين الدين والدولة تتبنّى نموذج الفصل الذي لا يعلم إلا القليل عن الدين ،تارك ًا الأمر للمؤسسات الدينية والأسرة ،ور َّبما ُيع ِّرف تعريف ًا بسيط ًا بمعظم الأديان المألوفة في المجتمع .ونوع ثالث من البلدان لا يعلم دين ًا واحد ًا ،ولا يعلم عن معظم الأديان ،وإ َّنما يتيح تعليم ًا عن عدد قليل من التقاليد الدينية(((. إ َّن حضور الدين بكثافة في جدل السياسات التربوية في العا َلم اقتضى إعادة فهم العلاقة بين الدين والعلمانية .والأدبيات التي تع ِّبر عن هذا الشعور كثيرة ،منها -على سبيل المثال -كتا ٌب صدر حديث ًا ،وشارك في كتابة فصوله مجموعة من المف ِّكرين من تخ ُّصصات أكاديمية متن ِّوعة في التاريخ ،والفلسفة ،والعلوم السياسية ،وعلم الاجتماع ،وغيرها (((.وقد (1) Ibid., p. 50. (2) Davis, Derek. & Miroshnikova, Elena (Editors). The Routledge International Handbook of Religious Education, London: Routledge, 2013. (3) Calhoun, Craig. & Juergensmeyer, Mark. & BanAntwerpan, Jonathan. (Editors). Rethinking Secularism, London: Oxford University Press, 1 edition, August 12, 2011. 119
لاحظ المؤ ِّلفون وجود صحوة دينية في الحياة العامة ،تفرض على المف ِّكرين إعادة النظر ليس فقط في الفهم السائد للعلمانية ،وإ َّنما في تعريف ما تتض َّمنه الافتراضات العلمانية ومواقف العلمانيين؛ لإعادة فهم وإدراك المعاني ذات الصلة بالدين والعلمانية. ثاني ًا :المرجعيات الغربية للتربية: كشفت لنا هذه السياحة الفكرية عن بعض الظواهر التي لا تخطئ عي ُن البصير ملاحظ َتها ،ونكتفي في هذا المقام بالإشارة إلى ظاهرتين :ظاهرة \"التح ُّيز الفكري\"، وظاهرة \"عدم اليقين التربوي\". .١ظاهرة \"التح ُّيز الفكري الغربي\": يم ِّثل التح ُّيز واحدة من المشكلات التي لا تقتصر على نظرة الغربيين إلى غيرهم ،وإ َّنما تتغلغل في واقع المجتمع الغربي نفسه .ومن الجدير بالذكر أ َّن إحدى جمعيات البحث الأمريكية أنشأت منذ عام 2016م مجل ًة متخ ِّصصة في قضايا التح ُّيز والهوية والتع ُّدد في التربية ،باسم المجلة الدولية للتح ُّيز والهوية والتن ُّوع في التربية (((.وهي مجلة نصف سنوية، تصدرها جمعية أمريكية في ولاية بنسلفانيا ،هي جمعية إدارة مصادر المعلومات(((. وقد اقترح عبد الوهاب المسيري إنشاء فرع علمي متخ ِّصص باسم فقه التح ُّيز، قائل ًا\" :التح ُّيز حتمي ،ولكنَّه ليس نهائي ًا :حتمي فلا يمكن تجاوزه ،وليس نهائي ًا ،فهو ليس نهاية المطاف .فالنهائي هو الإنسانية المشتركة (والقيم الأخلاقية) التي تسبق أ َّي تن ُّوع أو تح ُّيز (((\".وقد ذكر المسيري نماذج من التح ُّيز للنموذج الحضاري الغربي في الحياة العربية وهيمنته عليها(((. والتح ُّيز -على أ ِّي حال -يرتبط بعقل الإنسان وطريقته في إدراك الأمور .فالعملية الإدراكية ليست عشوائية ،والتح ُّيزات الإدراكية Attentional biasesتستطيع أ ْن تف ِّسر فشل (1) International Journal of Bias, Identity and Diversitys in Education (IJBIDE). (2) Information Resources Management Association. ((( المسيري ،عبد الوهاب .فقه التحيز في كتاب إشكالية التحيز ،هرندن :المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1995م ،ج ،1ص.21 ((( المرجع السابق ،ص.70-27 120
الفرد في النظر إلى البدائل الممكنة؛ ف َث َّمة أفكا ٌر مح َّددة تقود تيار التفكير بطريقة معينة(((. إ َّن الغرب الأوروبي والأمريكي هو مصدر معظم الاتجاهات الفلسفية التربوية في العا َلم المعاصر .ومعظم هذه الاتجاهات َت ْم َت ُح من الفلسفة الوضعية بتج ِّلياتها المتعددة: العقلية ،والعلمية ،والعلمانية ،والإنسانية ،والنقدية ،والبراغماتية ... ،ويملك الغرب اليوم من مؤسسات الضعط والهيمنة السياسية والاقتصادية ،بما في ذلك مؤسسات الأمم المتحدة ،ما يجعل الفلسفة الغربية الوضعية بألوانها الفكرية المتعددة وامتداداتها في التربية تزداد انتشار ًا وتج ُّذر ًا ،بالرغم م ّما ينتاب الفكر التربوي الغربي من تح ُّيز ظاهر(((. ولا نعدم أ ْن نجد من الباحثين في الغرب نفسه َمن لاحظ ظواهر \"التح ُّيز في الفكر الغربي\" عموم ًا ،وأشار إلى جوانب التح ُّيز فيها (((.ومن ذلك ما نشره أحد الباحثين ع ّما س ّماه فجوة النشر :التح ُّيز الغربي في مجلات علم النفس التربوي ،المنشور على الموقع الإلكتروني لكلية التربية بجامعة مينيسوتا الأمريكية ،وعنوان الموقعCEHD Vision : 2020؛ أي كلية التربية -النمو الإنساني رؤية .2020فقد ح َّلل الباحث ما ُن ِشر في ثلا ٍث من أشهر المجلات العالمية في علم النفس التربوي ،ووجد تح ُّيز ًا مزعج ًا ينتاب الدراسات الغربية ،ولاحظ أ َّن ما في هذه الدراسات لا ينطبق على أبناء العا َلم غير الغربي، وق َّدم بعض الأمثلة على التح ُّيز الذي يه ِّدد صدق نتائج البحث ،والشك في إمكانية إعادة البحث أو تعميم نتائجه(((. (1) Baron, Jonathan. Thinking and Deciding, London & New York: Cambridge University Press, 2007, p. 137. ((( ملكاوي ،فتحي حسن\" .التحيز في الفكر التربوي الغربي\" ،مجلة إسلامية المعرفة ،العدد ( ،)38-37صيف وخريف 2004م ،ص.202-181 (3) Peters, Michael A. The Humanist Bias in Western Philosophy and Education, Educational Philosophy and Theory, Vol. 47, Iss. 11, 2015, pp. 1128-1135. (4) Yussen, Steve. The publication Gap: Western Bias, Educational Psychology Journal, College of Education and Human Development (CE-HD VISION 2020 BLOG), Posted Apr 22, 2016. See link: - https: //cehdvision2020.umn.edu/blog/western-bias-educational-psychology/ انظر كذلك تقرير ًا عن التح ُّيز الغربي في التعليم ،في منشور يختص بالجامعات البريطانيةُ ،ن ِشر في 21 سبتمبر 2016م: - https: //glasgowguardian.co.uk/2016/09/21/western-bias-in-education/ 121
إ َّن النُّ ُظم التربوية السائدة في بلدان العا َلم العربي الإسلامي جاءت منذ بدايتها امتداد ًا للنُّ ُظم المعرفية والتربوية الغربية ،التي تنضح بالتح ُّيز ضد حاجات هذه البلدان ومصالحها، ويتم َّثل ذلك في برامج التعليم العام والتعليم الجامعي ،والسياسات التعليمية ،و ُن ُظم التقويم والاعتماد ،ومناهج البحث التربوي ،وغيرها .وتجد هذه البرامج والنُّ ُظم دعم ًا كبير ًا من الغرب ،بوصفه وسيلة أساسية للسيطرة الأيديولوجية على التعليم .أ ّما مخرجات أنظمة التعليم فإ ّنها تر ِّسخ التش ُّوه التنموي ،والسلوك الاستهلاكي ،والتبعية الاقتصادية، والطبقية الاجتماعية ،وتغريب الأجيال الجديدة عن ثقافة الأُ َّمة وهويتها(((. ونود أ ْن نؤ ِّكد أ َّن الحديث عن التح ُّيز في الفكر التربوي الغربي لا يعني الدعوة إلى قطيعة فكرية مع الغرب في مجال الإصلاح التربوي ،بقدر ما هو تأكيد على الدعوة إلى بناء رؤية كلية عن الفكر التربوي الغربي ،تم ِّكن التربويين المسلمين من امتلاك الوعي بخصائص هذا الفكر ،وتطوير منهجية مناسبة للتعامل معه(((. .٢ظاهرة \"عدم اليقين التربوي\": شهد النصف الثاني من القرن العشرين نقد ًا شديد ًا للفلسفات التربوية التي سادت العا َلم الغربي ،وامت َّدت تطبيقاتها إلى معظم أنحاء العا َلم .وقد ع َّزز هذا النقد بعض الاتجاهات الفكرية والتربوية التي ر َّكزت على المشكلات التي أحدثتها الحداثة الغربية، مثل :زيادة الفوارق بين المجتمعات ،وتعظيم ثقافة الاهتمام بالأشياء على حساب الإنسان ،وتوجيه التربية إلى خدمة المجتمع الرأسمالي ومؤسساته المتوحشة ،وغير ذلك. وقد لاحظ مؤ ِّلفا كتاب \"مستقبل مؤسسات التعليم في العصر الرقمي\"((( أ َّن أنظمة التعليم النظامي الحالية بقيت مماثلة لما كانت عليه طوال القرنين الماضيين ،في إشارة إلى الظاهرة المألوفة؛ وهي أ َّن أنظمة التعليم بطيئة التغ ُّير .ففي عقدي الستينيات والسبعينيات ((( علي ،سعيد إسماعيل\" .إشكالية التحيز في التعليم\" ،في :إشكالية التحيز؛ رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد ،تحرير: عبد الوهاب المسيري ،هرندن ،فيرجينيا :المعهد العالمي للفكر الإسلامي ،المجلد الثاني ،ط1997 ،2م، ص.470-439 ((( ملكاوي\" ،التحيز في الفكر التربوي الغربي\" ،مرجع سابق ،ص.202-181 (3) Davidson, C.N. & Goldberg, D. T. The Future of Learning Institutions in the Digital Age, Cambridge, MA: MIT Press (MacArthur Foundation Report on digital Media and Learning). 2010. 122
من القرن العشرين ظهرت تط ُّورات عديدة في أهداف التعليم وأساليبه (((،كانت تب ِّشر بتغيير جذري في واقع التعليم ومؤسساته ،بما في ذلك اختفاء الصفوف المدرسية والمدارس نفسها (((.ومع ذلك بقيت المدارس وصفوفها الدراسية صامدة ،رغم التغ ُّيرات الكثيرة التي أصابت ُن ُظم الحياة الاجتماعية في الصناعة ،والتكنولوجيا ،والإدارة ،وغيرها. وبالرغم من كثرة التغييرات والتحديثات في النظرة التعليمية الغربية التي عرفها القرن العشرون ،فقد ساد في هذا القرن نظا ُم تعليم تقليدي صمد لاختبار الزمن ،حتى إ َّن بعض المجتمعات كانت تشعر بأ َّن التعليم فيها لا يحتاج إلا إلى بعض التحسينات الطفيفة بين فترة و ُأخرى ،ولك َّن النصف الثاني من القرن العشرين شهد نقد ًا شديد ًا لهذا النظام ومخرجاته ،وصل ح َّد التشكيك في قيمة مؤسساته .وقد وجدنا أجيالاً شا َّبة ترفع صوتها بالاحتجاج ضد النماذج التربوية وأنواع المؤسسات المفروضة عليها(((. وفي توضيح عدم اليقين التربوي في الفكر الغربي ،حتى بعد الدخول في القرن الحادي والعشرين ،نعرض مثالاً يخت ُّص بمشاريع التغيير التربوي في العا َلم الغربي .ففي نهاية عقد التسعينيات من القرن العشرينُ ،ن ِشر كتاب \"الدليل الدولي للتغيير التربوي\" في مجلدين ضخمين ( 1365صفحة) ،وشارك في كتابة فصوله نحو 80باحث ًا من مختلف أنحاء العا َلم (((.وقد لاحظ مح ِّررو الكتاب الأربعة أ َّن حقبة نهاية القرن العشرين شهدت اهتمام ًا كبير ًا بواقع التعليم وضرورة التغيير فيه ،حتى أصبح التغيير التربوي قريب ًا من ق َّمة برامج السياسات الوطنية ،ليس فقط أولوية على مستوى السياسات ،وإ َّنما في الأخبار الرئيسية العامة. ((( عمل المؤ ِّلف في حقل التعليم المدرسي وتدريب ال ُمع ِّلمين وتصميم المناهج الدراسية في وزارة التربية والتعليم من 1978-1966م ،ث َّم عمل بعد ذلك في التعليم الجامعي في مجال إعداد المعلمين حتى عام 1996م. ((( من أمثلة هذه الأدبيات: - Goodman, Paul. Compulsory Miseducation, Harmandsworth & New York: Penguin Education specials, 1964. - Illich, Ivan. Deschooling Society. London: Penguin Education/ Penguin Books, 1973. (3) Faure, Edgar. Learning to be: The world of education today and tomorrow, Paris: Unesco, (First edition was in 1972), Seventh impression, August 1982, p xix. (4) Hargreaves, Andy. & Lieberman, Ann. & Fullan, Michael. & Hopkins, david. International Handbook of Educational Change, (2 Volumes), London: Kluwer Academic Publishers, Springer, 1998. 123
وبعد أ ْن و َّضحت مقدمة هذا الكتاب المرجعي المجالات التي حدثت فيها جهود التغيير التربوي في كثير من بلدان العا َلم ،ذكرت أ َّن نتائج هذه الجهود أدت إلى وض ٍع جع َل ال ُمع ِّلمين والإداريين في العمل التربوي يشعرون بأ َّن النُّ ُظم التي يعملون فيها ليست معقدة فحسب ،بل تتدهور بصورة فوضوية ،وأ َّن هذه الفوضي أم ٌر موروث في المجتمعات والمنظمات التي ُتن َشر فيها المعلومات ،و ُت َّت َخذ فيها القرارات بسرعة متزايدة ،وهي كذلك نتيجة لسياسات تتش َّكل وتتغ َّير باستمرار من جماعات ذات مصالح متنافسة ومعارك أيديولوجية بهدف اكتساب عقول الشباب ،وفي بعض الأحيان نتيجة \"عدم يقين مصطنع\" manufactured uncertaintyتصنعه بعض الحكومات؛ لخلق الهلع في الميدان ،وتبرير التد ُّخل ،وإبقاء التربويين والجميع في حالة عدم توا ُزن. وتجدر الإشارة إلى أ َّن التغييرات الحقيقية في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين كانت نادرة وعرضية ،ولم ُتح ِدث تأثير ًا حقيقي ًا ،أو ُتعالِج ُص ْلب المسائل التي يف ِّكر فيها ال ُمع ِّلمون ،واقتصرت على مسائل شكلية ،مثل :تنظيم الموضوعات الدراسية، ومستويات تحصيل الطلبة في المدارس المختلفة ،وتوزيع الطلبة في داخل المدرسة على أساس القدرة والجنس والعرق .وما تزال التغييرات التي تحدث في مطلع القرن الحادي العشرين تصيب ال ُمع ِّلمين بالقلق. وفي ضوء ذلك عرض مح ِّررو الكتاب \"مجموعة من النظريات والاستراتيجيات في التغيير التربوي التي يمكن أ ْن ُت ِعين في التعامل مع هذه البيئة المعقدة المملوءة بالفوضى والتناقض(((\". وبعد عشر سنوات من نشر الكتاب المذكور أصدر المح ِّررون كتاب ًا آخر في الموضوع نفسه ،وجاء كذلك كتاب ًا ضخم ًا على نمط الكتاب السابق في حجمه ( 1077صفحة)، وموضوعاته ،وعدد الباحثين المشاركين في إعداد بحوث فصوله ،وتمثيلهم لكثير من بلدان العا َلم (((.وجاء هذا الكتاب الثاني لرصد التغيير التربوي الذي حدث في السنوات (1) Ibid., pp 1-5. (2) Hargreaves, Andy. & Lieberman, Ann & Fullan, Michael. & Hopkins, david. Second International Handbook of Educational Change, (Springer International Handbooks of Education), Dordrecht Heidelberg London New York: Springer Science+Business Media B.V, 2010. 124
العشر الأُولى من القرن الحادي والعشرين الميلادي .ويستخلص المح ِّررون أ َّن التغيير التربوي واستراتيجيات الإصلاح واتجاهات البحث المصاحبة أصبحت أكبر حجم ًا، وأشد ضبط ًا ،وأكثر تعقيد ًا ،وأكثر تم ُّلق ًا bigger, tighter, harder and flatter. وفي توضيح هذه الخصائص الأربع ،أشار المح ِّررون في مقدمتهم للكتاب إلى الإحباط الناتج عن الفشل في نشر نتائج التغيير ،والضعف في تصميم الإجراءات عبر النظام التعليمي ،وقصر زمن التطبيق بحيث لا تظهر نتائجهُ ،مب ِّينين أ َّن جهود التغيير التربوي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين استندت إلى بيانات وأرقام وإحصائيات الاختبارات ال ُمقنَّنة ،التي أقصت الخبرة والقدرة على التأ ُّمل والحكم السليم .ومع أ َّن هذه البيانات \"ال ُّص ْلبة\" ق َّدمت لل ُمع ِّلمين فائد ًة لتع ُّرف الطلبة والمجموعات التي تحتاج إلى مساعدة أكثر من غيرها ،فإ َّن الحماس للتعليم والتحسين بنا ًء على هذا الأساس قد أنتج بعض المخاطر والسلبيات؛ فالأهداف التربوية الناتجة على أساس هذا التعليم ليست ملائمة لأهداف مجتمع المعرفة المنشود ،ولا تح ِّقق أهداف ًا أكثر أهمية تخت ُّص بالنوعية العالية والممارسات الإبداعية .أ ّما الجهود التي ُب ِذلت عبر التحديثات والتغييرات التربوية فقد انشغلت كثير ًا بتقليص الفجوات بين مجموعات الطلبة والمدارس ،إلى درجة ر َّسخت خرافة المدارس التي لا تحوي فجوات. لقد اعتمدت معظم برامج التغيير على ضبط إداري مركزي يأتي من فوق ،بشروط ومواصفات ونماذج تقويم ،تبحث عن التغيير السريع الذي ر َّبما لا يستمر أثره ،و ُتو ِّجه نشاطات التعليم لخدمة الاختبارات ال ُمقنَّنة ،علم ًا بأ َّن النتائج المستدامة إ َّنما يمكن ضمانها من التطوير التربوي الحقيقي بمبادرات وجهود ميدانية. إ َّن هذه التوجيهات المركزية في الإصلاح التربوي ببريطانيا انتزعت الابتكار والإبداع ،والاحتياجات الأساسية للاكتشاف والنمو عند الأطفال ،من المناهج المدرسية، وو َّجهت طاقة ال ُمع ِّلمين نحو الاختبارات الحكومية؛ حتى إ َّن هيئة المراجعة الخاصة في حكومة المملكة المتحدة أشارت إلى بعض الاستنتاجات نفسها((( . (1) Hargreaves, Andy. & Lieberman، Ann. & Fullan, Michael. & Hopkins, david. Second International Handbook of Educational Change (Springer International Handbooks of Education), Dordrecht Heidelberg London New York: Springer Science+Business Media B.V., 2010, Volume one, pp. xii-xviii. 125
لقد تك َّررت ظاهرة \"عدم اليقين التربوي\" في كثير من الكتابات ،ولا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية تحديد ًا .فقد أورد أحد الباحثين ملاحظاته على استراتيجيات إصلاح التعليم ،التي جاءت على شكل موجات متلاحقة في المدارس الأمريكية ،على مدار الأربعين سنة الماضية .ومع ذلك ،فقليل منها تم َّكن من اختراق النظام ،وأ َّثر فيه بصورة عميقة ،وذلك في الوقت الذي كشفت لنا التقارير المتتابعة عن الحالة المزعجة في المدارس الأمريكية ومشكلاتها الحادة .فالمفارقات التي تدعو إلى السخرية في قضايا الإصلاح في التعليم المدرسي كثيرة ،على الأقل عند النظر إلى المسألة من منظور دولي .وهذا يدعو إلى التساؤل عن استراتيجيات الإصلاح الف ّعالة ،وما تخضع له هذه الاستراتيجيات في الظروف السياسية ،أو الثقافية ،أو المؤسسية ،أو حتى الفردية!((( \"في الستينات والسبعينات كنّا نظن أ َّن لدينا بعض الإجابات على استراتيجيات الإصلاح العملي ،وتب َّين لنا أ َّن هذه الاستراتيجيات هي أفكار وتجارب جزئية محدودة النتائج .وساد عقد الثمانينات في معظم بلدان العا َلم نه ٌج أكثر شمولية لإصلاح التعليم المدرسي ،وغالب ًا ما كان يجمع بين مشاركة قوية للدولة مع محاولة لتحقيق اللامركزية في صنع القرار .والدرس المستخلص من الثمانينات هو أ َّن إعادة الهيكلة كان ُحلم ًا أكثر م ّما كان واقع ًا .أ ّما جهود إصلاح التعليم في التسعينات فقد تب َّين أ َّن هذا المجال هو ح ّق ًا مجال مفتوح على مصراعيه(((\". وقد اهتمت منظمة اليونسكو بشأن التعليم في العا َلم ،وأوكلت دراسة واقع التربية والتعليم في بلدان العا َلم إلى عدد من اللجان التي أصدرت مجموعة من الوثائق والتقارير التي تكشف عن خلل كبير في أنماط التعليم السائدة في العا َلم ،والفكر التربوي الذي يقود هذه الأنماط .وهو ما يع ِّزز ظاهرة \"عدم اليقين\" في الممارسات التربوية في أنحاء العا َلم .ففي تقرير اليونسكو عن التعليم في العا َلم عام 1972م \"تقرير إديجار فور\" ،ع َّبر مح ِّررو التقرير عن تفاجئهم عندما تب َّين أ َّن مشكلات التعليم ،مم َّثل ًة في الفشل في تحقيق الأهداف ،والتك ُّيف الخطأ للتلاميذ ،لا تقتصر على البلدان النامية ،فـ \"من وجهة النظر (1) DALIN, PER. Developing the Twenty-First Century School: A Challenge to Reformers in: David, Hopkins (Ed.). The Practic and Theory of School Improvement. (Handbook of Educational Change) Dordrechtm The Netherlands: Springer Academic Publishers, 2005, pp. 25-39. (2) Ibid., p. 26. 126
التعليمية ،يعني ذلك أ َّن التعليم فيما يس ّمى بـ\"البلدان المتقدمة\" يواجه بشكل مفاجئ وضع ًا داخلي ًا متخ ِّلف ًا .فالتك ُّيف الخاطئ ،والفشل في هذه البلاد ،على الأقل نسبي ًا ،هي أعراض مم ِّيزة للتلاميذ كما هي في سائر الناس ،وهي حالة مماثلة لتلك التي توجد في البلدان المستع َمرة سابق ًا ،فالتلاميذ فيها هم منتجات التعليم على النمط الغربي الذي استوردته هذه البلاد بكل تفاصيله؛ البرميل ،والمحتوى ،والقفل(((\". ومن بين وثائق اليونسكو وثيقة صدرت عام 2015م ،وحملت عنوان \"إعادة التفكير في التربية والتعليم :نحو صالح مشترك عالمي\"((( ،وهي \"تؤ ِّيد الرؤية التي ق َّدمها مطبوعا اليونسكو الم ْع َلمان\" :تع َّلم لتكون :عالم التربية اليوم وغد ًا -تقرير فو\" (1972م)؛ و\"التع ُّلم :ذلك الكنز المكنون -تقرير ديلور\" (1996م)\". والشاغل المحوري في هذه الوثيقة هو مفهوم \"التنمية المستدامة\" التي لم تتح َّقق من خلال ممارسات المذهب الاقتصادي ،والمذهب النفعي؛ فهذان المذهبان لم يمنعا تزايد \"ضعف الحال واللامساواة ،والاستبعاد ،والعنف عبر العا َلم داخل المجتمعات وفيما بينها \".وهو ما دعا اللجنة التي أع َّدت التقرير إلى تأكيد \"أ َّن النظر من جديد في مقاصد التربية والتعليم ،وفي تنظيم التع ُّلم ،هو حاجة ما َّسة في هذه الأيام أكثر م ّما في أ ِّي وقت( ...و) حاجة متنامية إلى التوفيق بين إسهام النواظم الثلاثة للسلوك الاجتماعي: المجتمع ،والدولة ،والسوق \".ولذلك دعت الوثيقة المشار إليها إلى تجاوز المذهبين النفعي والاقتصادي الض ِّيقين ،واقترح \"نهج ًا إنساني ًا شامل ًا يستطيع ،وينبغي له ،أ ْن ُيس ِهم في تحقيق نموذج إنمائي جديدُ ...يعلي شأن الناس الذين كثير ًا ما يما َرس بحقهم التمييز، مثل :النساء ،والفتيات ،والسكان الأصليين ،والأشخاص المعوقين ،والمهجرين، والمسنين ،والمقيمين في بلدان تخوض حالة نزاع(((\". (1) Faure, Edgar. Learning to be: The world of education today and tomorrow, Paris: Unesco, (First edition was in 1972)، Seventh impression, August 1982, xxviii. ((( اليونسكو .إعادة التفكير في التربية والتعليم :نحو صالح مشترك عالمي ،باريس :منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة2015 ،م. ((( المرجع السابق ،ص.10-9 127
خاتمة: نأمل أ ْن يكون هذا الفصل بموضوعاته الثلاثة وتف ُّرعات كل موضوع قد ق َّدم صورة عامة ع ّما احتواه عنوان الفصل من مفهوم \"الفكر التربوي\" ،وموقع المفهوم من المفاهيم ذات الصلة ،والتط ُّور التاريخي لهذا المفهوم ،وموضوعه ،وصلته بالفلسفات والنظريات التربوية ،وموقع ذلك في الفكر التربوي الإسلامي. م َّيز الموضوع الأول في الفصل بين مفهوم \"الفكر التربوي\" ومفهوم \"التراث التربوي\" ،وبين النظرية التربوية والفلسفة التربوية .وق َّدم فكر ًة عن حضور الفكر التربوي في الكتابات الحديثة والمعاصرة باللغة العربية ،وعدد من اللغات الأُخرى، لا سيما الإنجليزية ،ولغات الشعوب الإسلامية .ث َّم ب َّين موقع الفكر التربوي الإسلامي من جهود النهوض الحضاري لل ُأ َّمة المسلمة ،وما ناله -ولا يزال يناله -من استهداف منذ مطلع القرن الحادي والعشرين الميلادي. والفكر التربوي الإسلامي الذي يستهدفه الكتاب بصورة عامة هو مجال خاص من مجال عام ،هو الفكر التربوي البشري .لذلك رأينا أ ْن نخ ِّصص موضوع ًا ُمط َّولاً نسبي ًا عن تط ُّور الفكر التربوي في الحضارات البشرية القديمة في مصر والعراق والصين واليونان ،وحضوره في السياق الديني اليهودي والمسيحي ،وفي التاريخ الأوروبي الوسيط والحديث .وعرضنا نماذج من مف ِّكري عصر النهضة والتنوير الأوروبي .وأخير ًا أشرنا إشارات موجزة إلى عدد من المذاهب والتو ُّجهات الفلسفية التقليدية في الفكر التربوي الحديث. وإذا كان الموضوع الثاني قد تت َّبع بعض محطات التط ُّور في الفكر التربوي البشري في الإطار التاريخي ،فقد بقي علينا أ ْن نتح َّدث عن الفكر التربوي البشري المعاصر، والفلسفات التي تحكمه ،والمرجعيات الغربية لهذه الفلسفات .وهذا ما كان موضوع ًا للموضوع الثالث من الفصل. 128
وقصدنا من هذا التو ُّسع في مادة الفصل الأول أ ْن نم ِّهد السبيل للفصول القادمة من الكتاب ،التي سوف تتناول الفكر التربوي الإسلامي تحديد ًا في سياقه التاريخي؛ لذا جاء الفصل الثاني عن التراث التربوي الإسلامي ،ث َّم مصادره ومقاصده وموضوعاته وخصائصه في الفصول الأربعة التالية ،ونعود في الفصل السابع والأخير لنختم الكتاب بالحديث عن واقع الفكر التربوي الإسلامي المعاصر و ُسبل النهوض به. ونحسب أ َّن بناء الفصل الأول بهذه الطريقة سيكون أمر ًا مفيد ًا في وضع الفكر التربوي الإسلامي في الإنجاز الحضاري البشري في السياق التاريخي والمعاصر .فقد أسهمت الأُ َّمة المسلمة في تاريخها إسهام ًا كبير ًا في تطوير الفكر التربوي ،لكنَّها اليوم تعاني حال َة التبعية والاستلاب في مجال الفكر التربوي ،وفي الكثير من المجالات الأُخرى .ونحسب كذلك أ َّن إعادة بناء الفكر التربوي الإسلامي في ضوء التح ِّديات القائمة سيكون وسيلة لإعادة حضور الأُ َّمة على مسرح العا َلم المعاصر؛ ليس لأ َّن الفكر التربوي الإسلامي وسيلة لبناء أجيال الأُ َّمة المسلمة فحسب ،بل لأ َّن هذا الفكر هو الأكثر تأهيل ًا ليكون فكر ًا تربوي ًا عالمي ًا. 129
الفصل الثاني التراث التربوي الإسلامي مقدمة المبحث الأول :مفهوم \"التراث\" وتط ُّور موضوعاته ومؤسساته أولاً :مفهوم \"التراث التربوي\" ثاني ًا :جدل القديم والحديث في التراث التربوي الإسلامي المبحث الثاني :بعض معالم التط ُّور في التراث التربوي الإسلامي أولاً :تط ُّور في علم التفسير ثاني ًا :تط ُّور في مسؤولية التعليم ثالث ًا :تط ُّور في مكانة ال ُمع ِّلم ومهنة التعليم رابع ًا :تط ُّور في علاقة العلماء بالحكام خامس ًا :التط ُّور في أخذ الأجرة على التعليم سادس ًا :التط ُّور في المؤسسات التعليمية سابع ًا :التط ُّور في الاتجاهات والمدارس الفكرية في التراث التربوي الإسلامي المبحث الثالث :أعلام التراث التربوي ومص ّنَفاته ومدارسه أولاً :أعلام التراث ومصنَّفاته ثاني ًا :مدارس التراث التربوي المبحث الرابع :أدبيات التراث التربوي الإسلامي في الكتابات المعاصرة أولاً :الجهود البحثية المشتركة ثاني ًا :الأطروحات والرسائل الجامعية التربوية ثالث ًا :التراث التربوي في المجلات الدورية رابع ًا :التراث التربوي الإسلامي في الكتب المنشورة خاتمة
الفصل الثاني التراث التربوي الإسلامي مقدمة: حين نتح َّدث عن \"التراث التربوي الإسلامي\" في كتاب عن \"الفكر التربوي الإسلامي\" ،فنحن ُنؤ ِّكد أهمية التراث في تطوير الفكر المعاصر ،ولك َّن الفكر الذي نعنيه أوسع نطاق ًا وأكثر شمولاً من التراث؛ فالتراث مصدر من مصادر الفكر ،وهو خبرة بشرية تك َّونت من جهود علماء المسلمين في التنظير والممارسة ،ولك َّن موقعه لا يتح َّدد إلا بالنظر في المصادر الثلاثة الأُخرى ،وهي :القرآن الكريم ،وال ُّسنة النبوية ،والخبرة البشرية المعاصرة؛ فالقرآن الكريم وال ُّسنة النبوية هما المرجعية التي تحكم تقويمنا للتراث وللخبرة البشرية المعاصرة .والخبرة البشرية للماضي (أ ِي التراث) ،والخبرة البشرية المعاصرة هما مصدران مهمان في فهمنا وتنزيلنا لمقاصد القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية .ومن هنا ،يأتي التكا ُمل بين هذه المصادر الأربعة :القرآن الكريم ،وال ُّسنة النبوية، والتراث الإسلامي ،والخبرة البشرية المعاصرة. ولذلك سيكون من المفيد أ ْن نتذ َّكر هذا التمييز بين التراث التربوي الماضي والفكر التربوي المعاصر ،لا سيما حين نلاحظ أ َّن كثير ًا من المؤ َّلفات التي ُكتِبت تحت عنوان \"الفكر التربوي الإسلامي\" كانت -في الحقيقة -حديث ًا عن التراث التربوي الإسلامي. وإذا كان التراث التربوي الإسلامي موضع نظر وتقويم في ضوء مرجعية القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ،فمن المهم أ ْن ننظر إليه نظر ًة موضوعي ًة لا تبخسه قيمته ،ولا تعطيه أكثر من ذلك .فقد كان هذا التراث في عصره هو الفكر التربوي وقتئ ٍذ ،وليس بالضرورة أ ْن تتساوى قيمته في عصره مع قيمته في عصرنا هذا .وقد لاحظنا أ َّن كثير ًا من الدراسات المعاصرة عن التراث لم تكن تقويم ًا موضوعي ًا ،لا في بيان قيمته في عصره ،ولا في بيان قيمته لعصرنا ،بل اقتصر في معظم الأحيان على الإعلاء من شأن هذا التراث وتمجيده، ومقارنته (أو مقاربته) بما استقر في عصرنا من أفكار وممارسات. 133
والتراث التربوي الإسلامي ُيم ِّثل جهود علماء الأُ َّمة الإسلامية على امتداد تاريخها واتساع بلادها ،وهو تعبي ٌر عن اجتهاد هؤلاء العلماء في فهم مقاصد الإسلام ،في نصوصه الأساسية في القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ،وتوثي ٌق لممارسات المجتمع الإسلامي في ميدان التع ُّلم والتعليم والتأديب والتنشئة والتربية ،في ضوء الاجتهاد في فهم تلك النصوص وتنزيلها على واقعهم في الزمان والمكان .ومع أ َّن التراث الإسلامي -في كثير من موضوعات الفقه ،والتفسير ،والحديث ،ورواية الشعر ،والأدب ،واللغة ،والتاريخ، والتصوف -كان ُيك َتب ليكون موضوعات للتعليم ،فإ َّننا نقصر دلالة التراث التربوي على كتابات مح َّددة تخت ُّص بعناوين ،من مثل :أدب الطلب ،وآداب العالِم وال ُمتع ِّلم، وما تض َّمنته هذه الكتابات من موضوعات ،مثل :فضل العلم والتعليم ،ومكانة ال ُمع ِّلم، وطرق التعليم ،ومؤسسات التعليم ،وتعليم الصبيان ،وتعليم القرآن؛ وما قد يقارب بعض العناوين الحديثة التي تربط موضوعات تربوية مع موضوعات نفسية مثل علم النفس التربوي ،ونظريات التعلم ،ودوافع التعلم وتأثرها بالشخصية ،...سواء كان ذلك في كتب تحمل مثل هذه العناوين ،أو كانت هذه العناوين فصولاً أو أبواب ًا في كتب الفقه ،أو التاريخ ،أو الأدب ،أو التصوف ،أو الفلسفة ،أو غير ذلك. فالتراث التربوي الإسلاميَ ،م َث ُله في ذلك َم َثل كل مجالات التراث الإسلامي ،ليس تراث القرن الأول فحسب ،ولا حتى تراث القرون الثلاثة الأُولى ،ولكنَّه تراث ممتد على مد ًى يزيد على ثلاثة عشر قرن ًاُ .ث َّم إ َّنه ليس تراث تعليم القرآن والفقه وأحكام الشريعة وحسب ،وإ َّنما هو ،إضاف ًة إلى ذلك ،سائر أنواع التعليم الأُخرى التي مارستها المجتمعات الإسلامية من تعليم اللغة ،والأدب ،والفلك ،والطب ،فضل ًا عن ِحرف الزراعة والصناعة والبناء وفنون الحرب وغيرها. ومع أ َّن البحث في التراث التربوي الإسلامي يأخذ مكان ًا مهم ًا في الدراسات العلمية \"الأكاديمية\" في برامج التعليم والبحث العلمي ،بوصفه موضوع ًا للتط ُّور التاريخي ،أو تأصيل ًا للهوية القومية أو الدينية ،فإ َّن اهتمامنا به في هذا الكتاب يستهدف أ ْن يكون مصدر ًا من المصادر التي نحتاج إليها لبناء فكر تربوي إسلامي معاصر ،إلى جانب مصادر ُأخرى 134
تتجاوز التراث؛ للاستلهام المباشر لمقاصد الإسلام في نصوصه الأساسية في القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ،والاستئناس بفهم علماء الأُ َّمة لتلك المقاصد ،كما جاء هذا الفهم في مادة التراث ،إضاف ًة إلى التعامل الراشد مع الخبرة الإنسانية المعاصرة ،بتحلي ٍل نقد ٍّي؛ سعي ًا وراء ما يتوافر فيها من الحكمة ،وتط ُّلع ًا إلى بناء نماذج ت َّتص ُف بالأصالة والإبداع، وتقود إلى تطوير الواقع واستشراف المستقبل. ومع أ َّن الأُ َّمة الإسلامية عرفت الامتداد الواسع في المكان ،والتن ُّوع الكبير في الأقوام والأعراق واللغات ،والتع ُّدد في الممالك و ُن ُظم السياسة؛ وأ َّن لغة العلم كانت في الغالب هي اللغة العربية ،فإ َّن ما ُكتِب في موضوعات التربية والتعليم بغير العربية لم يكن قليل ًا؛ لذا ،فإ َّن حديثنا في هذا الفصل سيقتصر على الإشارة إليه ،والدعوة إلى كشفه ودراسته. 135
المبحث الأول مفهوم \"التراث\" وتط ُّور موضوعاته ومؤسساته أولاً :مفهوم \"التراث التربوي\": يرتبط التراث بالتاريخ ارتباط ًا وثيق ًا؛ فلكل ُأ َّمة من أمم الجنس البشري تاري ُخها ،وفي هذا التاريخ َتك َّون تراثها .ويبقى تراث الأُ َّمة خاصي ًة من الخصائص المؤ ِّثرة في وجودها وهويتها ،وعنصر ًا مهم ًا في مرجعيتها .والأمم التي تش َّكلت حديث ًا تسعى لوضع تاريخ لها، واكتشاف ما قد يكون فيه من تراث. والتراث والميراث والإرث ،في اللغة ،من الجذر الثلاثي ( َو ِر َث) ،ومنه قول تعالى: ﴿ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﴾ [النمل ،]١٦:وقوله سبحانه ﴿ :ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺﭻ ﭼﭽ ﭾﭿﮀﮁ﴾ [مريم .]٦-٥:وقد جاء لفظ \"التراث\" في القرآن الكريم في قوله سبحانه: ﴿ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﴾ [الفجر .]١٩:قال ابن عاشور في تفسير هذه الآية: \"والتراث :المال الموروث؛ أ ِي :الذي ُيخ ِّلفه الرجل بعد موته لوارثه ...والأكل :مستعار للانتفاع بالشيء انتفاع ًا لا ُيبقي منه شيئ ًا ...أ ْي :تراث اليتامى ،وكذلك كان أهل الجاهلية يمنعون النساء والصبيان من أموال مو ِّرثيهم ...المراد التراث الذي لا حق لهم فيه(((\". ... والتراث في الاصطلاح :ما يتركه الآباء بعد وفاتهم إلى الأبناء ،أو ما تتركه أجيال الأُ َّمة السابقة إلى أجيالها اللاحقة؛ مادي ًا ،أو معنوي ًا .وهو ثمرة ما أنتجه العق ُل البشري ،أو أنجزه السع ُي البشري في مختلف شؤون الحياة المادية والمعنوية .فبالإضافة إلى الميراث المادي من مال وأرض وبناء وغيرها ،فإ َّن من الميراث ما هو فكري معنوي ،يشمل اللغة، والدين ،والفكر ،والعادات والتقاليد. فالتراث الفكري الإسلامي هو الآراء والأقوال ،أو الأفعال الموروثة ،أو التجارب والممارسات التي خ َّلفها لنا علماء الأُ َّمة ،جيل ًا بعد جيل ،على توالي الزمان ،وا ِّتساع المكان .وهو ما أنتجته المجتمعات الإسلامية من علوم الشريعة ،مثل :التفسير، ((( ابن عاشور ،تفسير التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،30ص.334 136
والحديث ،وفقه العبادات ،أو فقه المعاملات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها، أو علوم اللغة والأدب ،أو العلوم الطبيعية والتطبيقية ،على اختلاف ما نجده من صور الفكر البشري في مؤ َّلفات التراث المكتوب. وقد كان أكثر التراث في عهد النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم ،والخلافة الراشدة، تراث ًا شفوي ًا ُين َقل رواي ًة بسنده المتصل ،لك َّن التراث المكتوب أخذ يتزايد بسرعة مع حركة التدوين التي بدأت في العصر الأموي ،وتو َّسعت في العصر العباسي .وا َّتسعت دائرة التدوين لتتع ّدى العلوم الشرعية إلى غيرها من أصناف العلوم الأُخرى .وتن َّوعت المؤ َّلفات ،فكان منها الأدبية ،والشعرية ،واللغوية ،والتاريخية ،ومنها ما اخت َّص بالطب، والحساب ،والهندسة ،والفلك ،والصيدلة ،وغيرها .وقد استوعبت حرك ُة الترجمة من التراث الفارسي واليوناني أنواع ًا من العلوم ،وبلغت حركة الترجمة والتأليف ق َّمة ازدهارها بعد نهاية القرن الثالث الهجري تقريب ًا. واستدعت كثرة الكتابات ،وتن ُّوع موضوعاتها ،أ ْن يتو ّلى بعض العلماء رصد أسماء المؤ ِّلفين وعناوينهم .وقد حدث هذا الرصد على مدار التاريخ الإسلامي؛ ففي المجلد الأول من كتاب \"كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون\" ،نجد مقدمة لشهاب الدين الحسيني المرعشي النجفي ،أشار فيها إلى عدد من الكتب المتخ ِّصصة في بيان عناوين المؤ َّلفات وأسماء المؤ ِّلفين اعتبار ًا من القرن الثالث الهجري ،فذكر ما يقرب من أربعين كتاب ًا ،بدء ًا بكتاب \"أخبار المؤ ِّلفين والمؤ ِّلفات\" لأحمد بن أبي طاهر طيفور البغدادي (توفي280:ﻫ) ،الذي رصد فيه مؤ ِّلفه التراث المكتوب حتى عصره. ومن أشهر هذه الكتب كتاب\" الفهرست\" لابن النديم (توفي380:ﻫ) الذي أوضح فيه المؤ ِّلف الحالة التي كان عليها التراث الإسلامي في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري ،وكتاب \"مفتاح السعادة ومصباح السيادة\" لأحمد بن مصطفى بن خليل الشهير بطاش كبرى زاده (توفي968:ﻫ) ،وكتاب \"كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون\" من تأليف حاجي خليفة (توفي1067:ﻫ) ،وكتاب \"أبجد العلوم والوشي المرقوم والسحاب المركوم\" الذي أنجز تأليفه وطبعه صديق بن حسن خان القنوجي عام 1296ﻫ. 137
وم ّما يجدر التنبيه إليه هنا أ َّن التراث الإسلامي ،حتى المتخ ِّصص في ميدان التربية والتعليم ،عرف تن ُّوع ًا معرفي ًا واسع ًا؛ نتيجة تع ُّدد اتجاهات المدارس التربوية ،مثل: مدارس الفقهاء ،والمح ِّدثين ،والفلاسفة ،والصوفية ،والمؤ ِّرخين ،والأدباء ،وغيرهم. وقد شهدت كل مدرسة تط ُّور ًا مع مرور الزمن ،واختلاف ًا في الاهتمامات والأساليب. إذن ،التراث فك ٌر بشر ٌّي؛ فهو ،بوصفه فكر ًا ،فع ٌل يقوم به الإنسان ،واس ٌم لثمرة هذا الفعل .ومع أ َّن َث َّم َة مرجعيا ٍت تحكم حوافز الفعل البشري ومقاصده ،ولا تتح َّدد بالزمان والمكان ،فإ َّن الاستجابة لهذه الحوافز والأهداف تتح َّدد بظروف الزمان والمكان والخبرة البشرية المتنامية .وفي حالة التراث الإسلامي ،فإ َّن المرجعية الحاكمة هي نصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية .ومع أ َّن التراث يتأ َّسس على فهم هذه النصوص الثابتة وتنزيلها على الواقع المتغ ِّير ،فإ َّن القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ليسا من التراث .وبالرغم من ذلك، فإ َّن فهم هذه النصوص الثابتة ،وفهم الواقع المتغ ِّير والفكر البشري الذي يم ِّثله اجتهاد المجتهدين من العلماء والمف ِّكرين في تنزيل النصوص على الواقع ،سوف يكون في حالة تغ ُّير وتط ُّور .وهذا الفكر عندما يو ِّرثه جيل إلى جيل لاحق يصبح عند الجيل اللاحق تراث ًا. لقد ارتبط الفكر البشري في تراثنا الإسلامي بنزول الآيات الأُولى من القرآن الكريم على النبي محمد ص ّلى الله عليه وس َّلم ،وهي الآيات التي تض َّمنت الأمر بالقراءة باسم الله، وتح َّددت هذه القراءة في نوعين متكاملين :قراءة الخلق المنظور ،وقراءة النص المسطور. فأصبح التأ ُّمل والتف ُّكر في آيات الخلق في الآفاق والأنفس ،والتف ُّكر في دلالات المسطور بالقلم ،هو العلم الذي يم ُّن الله على عباده به أ ْن يتع َّلموه؛ فهو أمر بالكتابة التي تصبح ماد ًة للقراءة ،والاعتماد على الكتابة والقراءة بديل ًا عن المشافهة ،وهو قطيعة تاريخية مع الأُ ِّمية التي كان يتصف بها معظم العرب ،فيصبح العلم والتعليم والتع ُّلم مادة الفكر البشري الذي يو ِّرثه كل جيل ،ويكون للجيل اللاحق تراث ًا تربوي ًا ،بالمعنى العام للتربية والتعليم. وفي حالة التراث التربوي الإسلامي كان المسجد هو المؤسسة التي تنشر العلم ،وتجتمع فيها حلقات التعليم والتع ُّلم .وكانت نصوص الوحي الإلهي والهدي النبوي هي المادة الأساس لهذه الحلقات ،وقد انبثقت من روايتها ،وفهمها ،وإملائها ،وتطبيقها في مواقف الحياة ،علوم الفقه ،وعلوم القرآن ،وعلوم الحديث ،وسائر العلوم الأُخرى. 138
ولك َّن التراث التربوي الإسلامي بالمعنى الخاص هو الفكر الذي د َّونه المر ّبون والعلماء المسلمون عبر التاريخ ،فيما يخت ُّص بالعلم والتعليم والتربية ،وما يتع َّلق بها من مبادئ ،أو ممارسات ،أو مؤسسات؛ سواء كان هذا التدوين في كتاب متخ ِّصص ،أو فيما ورد متف ِّرق ًا من آداب ،وأخلاق ،وفضائل في كتب الفقه ،والأدب ،والتاريخ ،والتصوف، والفلسفة ،والطب ،وغير ذلك .ومع أ َّننا نجد بين أيدينا اليوم كثير ًا من مصادر هذا التراث، فإ َّننا نستطيع تأكيد أ َّن كثير ًا منه كذلك لم يصل إلينا بسبب الإهمال؛ لعدم تقدير قيمته ،أو التلف نتيجة الظروف الطبيعية وتوالي الزمن ،أو الإتلاف المقصود بالتحريق أو التغريق نتيجة التنافس والخلاف المذهبي وال ِفرقي ،أو التخريب والتدمير الذي كان يرافق الحروب ،وغير ذلك. وقد عرف التراث الإسلامي كتابات تحمل عناوين صريحة مباشرة عن العلم وال ُمع ِّلم والتعليم والتع ُّلم ،منها :كتاب \"آداب ال ُمع ِّلمين لابن سحنون (توفي256:ﻫ)، وكتاب \"الرسالة المفصلة لأحوال ال ُمتع ِّلمين\" و\"أحكام ال ُمع ِّلمين وال ُمتع ِّلمين\" للقابسي (توفي403:ﻫ) ،وكتاب \"تعليم ال ُمتع ِّلم طريق التع ُّلم\" للزرنوجي (توفي620:ﻫ) .وتوجد كتب ُأخرى لا تقل أهمية في تناولها قضايا التعليم؛ في :مناهجه ،ومؤ َّلفاته ،وطرقه، ومؤسساته ،ضمن موضوعات كثيرة ُأخرى؛ فكتاب \"الإعلام بمناقب الإسلام\" لأبي الحسن العامري (توفي381:ﻫ) هو كتاب في العقيدة ومقارنة الأديان ،وقد عرض فيه لما في كل دين؛ من :عقيدة ،وعبادة ،وتشريعات ،و ُن ُظم حكم سياسية واقتصادية واجتماعية، فضل ًا عن الإشارة إلى تصنيف العلوم ،وأنواعها ،وأهميتها ،وضرورة التخ ُّصص في دراستها ،وكذلك الحديث عن ال ُمع ِّلمين ،وصفاتهم ،وغير ذلك .و\"مقدمة ابن خلدون\" (توفي808:ﻫ) مثل ًا هي مقدمة كتاب في التاريخ ،ولك َّن كتاب \"المقدمة\" عالج بقدر من التفصيل فضل العلم والعلماء ،وموضوعات التعليم ،وطرائق التعليم؛ تحديد ًا لما يجب أ ْن تكون عليه ،ووصف ًا لما كان سائد ًا في عصره. وبعض كتب التراث تحتوي في عناوينها على ألفاظ وعبارات عن التعليم لكن محتوى هذه الكتب لا يتحدث عن التعليم بمعناه الخاص ،ومن ذلك كتاب\" :المنهج القويم بشرح مسائل التعليم\" لابن حجر الهيتمي فهو كتاب في الفقه الشافعي ،يتكون من متن الفقيه عبد الله بن عبد الرحمن بافضل الحضرمي المعروف \"بلحاج الحضرمي\" 139
(توفي918ﻫ) ،وشرح ابن حجر الهيتمي (توفي974ﻫ) .وفي الكتاب مقدمة قصيرة لا تتجاوز صفحة واحدة ثم يأتي بأبواب الفقه بدء ًا من باب الطهارة ،ثم الصلاة ،والجنائز، والزكاة ،والصيام ،والاعتكاف ،والحج والعمرة ،والبيع ،والإقرار ،والوقف ،والفرائض، والموازين .ومثله كذلك \"كتاب تعليم الصبيان\" لعبد الرحمن السالمي ،وهو كذلك كتاب في الفقه الإباضي ليس غير .وربما جاءت عناوين مثل هذه الكتب تحديد ًا لأحكام الفقه التي يريد المؤلف تعليمها. وكتب التراث التي تناولت التعليم بمعناه الخاص في عناوينها وموضوعاتها (أ ْي فضل العلم ،وآداب ال ُمع ِّلم وال ُمتع ِّلم ،ومناهج التعليم ،وطرائقه ،ومؤسساته) كتب قليلة ،وأكثر ما ُكتِب عن الموضوع في التراث الإسلامي نجده مبثوث ًا في كتب الحديث، والفقه ،والتاريخ ،والتراجم ،والأدب ،والتصوف ،وغيرها .فعند ترجمة شخصية معينة من شخصيات التراث الإسلامي نجد أ َّن أبرز ما في الترجمة ذكر َمن أخذت هذه الشخصية عنهم العلم من المشايخ ،وذكر تلاميذه الذين أخذوا عنه العلم .وفي معظم كتب الحديث نجد فصل ًا بعنوان \"كتاب العلم\" ،يورد فيه ال ُمصنِّف الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تتح َّدث عن فضل العلم والتعليم ،والحث على طلب العلم .وفي كتب الفقه بيان للأحكام والفتاوى الخاصة بما يجوز وما لا يجوز في حق ال ُمع ِّلم وال ُمتع ِّلم ومواد التعليم .وفي كتب التاريخ ذكر للمؤسسات التعليمية ،و َمن أنشأها ،والأوقاف المحبوسة عليها .وفي كتب التصوف بيان لطبيعة العلاقة بين المريد والشيخ ،والأساليب المتبعة في تربية القلب ،وتطهير النفس ،وحالات التخ ّلي والتح ّلي والتج ّلي ،وغير ذلك. والمتت ِّبع لما ُد ِرس من نصوص التراث ومادته عند معظم َمن كتب في هذا الجانب من القدماء والمحدثين ،يجد أ َّن عدد ًا من هؤلاء العلماء الأعلام الذين كانت لهم إسهاماتهم ومشاركاتهم في تشكيل مادة التراث التربوي (مثل :الشوكاني ،والغزي، واليوسي) لم يحظوا بقدر العناية والاهتمام الذي حظي به غيرهم ،مثل :ابن سحنون، والقابسي ،والغزالي ،وأ َّن بعض مراجع التراث المتخ ِّصصة في الشأن التربوي حظيت بالاهتمام والدراسة أكثر من الاهتمام بدراسة القضايا التعليمية التي تتض َّمنها أنواع ُأخرى من المراجع ،مثل :كتب التاريخ ،والفقه ،والرحلات ،وهذا يؤ ِّكد ضرورة تت ُّبع ودراسة تراثنا التربوي في مظا ِّنه ،ومدارسه ،وموضوعاته المتعددة. 140
وقد تن َّوعت الدراسات الحديثة للفكر التربوي تن ُّوع ًا واسع ًا؛ فهناك الدراسات التي تتناول ع َلم ًا من الأعلام الذين كتبوا مادة متخ ِّصصة عن التعليم ،أو التع ُّرض لأفكارهم وآرائهم ،والوقوف على ما لديهم من المعرفة وأنواع العلوم ،وما يملكون من مناهج وتجارب وأساليب تدريس .وقد تتناول دراسات التراث التربوي مسأل ًة من مسائل التعليم، مثل :المناهج ،أو طريقة التدريس ،أو أساليب التأديب ،أو منح الإجازات التعليمية، أو تخصيص الأوقاف التعليمية ،وغير ذلك .وقد تتناول هذه الدراسات الخبرة التربوية المم ِّيزة للمدارس والاتجاهات الفكرية؛ من :فقهية ،وصوفية ،وفلسفية ،وتاريخية، وغيرها؛ أو تلك الخبرة في عصر معين من العصور ،أو مصر من الأمصار. ثاني ًا :جدل القديم والحديث في التراث التربوي الإسلامي: لا توجد قاعدة ثابتة في التمييز بين القديم والحديث من الناحية الزمنية .والتحقيب الزمني الذي استعمله الأوروبيون للتاريخ الأوروبي القديم والوسيط والحديث ،أو القديم والحديث والمعاصر ،أو غير ذلك ،واستعمله بعض الباحثين العرب ،لا سيما في الدراسات الأدبية والتاريخية؛ لا يصلح لتحديد فاصل زمني بين القديم والحديث ،أو السابق واللاحق، أو المتقدم والمتأخر في التراث الإسلامي .وقد سبق أ ِن اق ُت ِرح المعيار الزمني في التقسيم الذي ح َّدد قرون الخيرية الثلاثة الأُولى في التاريخ الإسلامي اعتماد ًا على الحديث الصحيح: \"خير الناس قرني ،ث َّم الذين يلونهم ،ث َّم الذين يلونهم (((\".وعلى هذا جاء كلام الذهبي في تحديد الح ِّد الفاصل بين هذه القرون الثلاثة للمتقدمين ،وما بعد ذلك للمتأخرين ،وذلك قوله\" :فالح ُّد الفاصل بين المتقدم والمتأخر هو رأس سنة ثلاثمائة(((\". وفي التراث أمثلة على وقوع هذا التمييز في موضوعات التراث المختلفة؛ من: فقه ،وتفسير ،وحديث ،وأدب ،وتاريخ ،وغير ذلك .لك َّن المسألة أخذت ح ِّيز ًا كبير ًا ((( البخاري ،أبو عبد الله محمد بن إسماعيل (توفي256:ﻫ) .صحيح البخاري ،اعتنى به :أبو صهيب الكرمي، الرياض :بيت الأفكار الدولية ،ط1998 ،1م ،كتاب :فضائل الصحابة ،باب :فضائل أصحاب النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم ،حديث رقم ،)3651( :ص.697 ((( الذهبي ،شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان (توفي748:ﻫ) .ميزان الاعتدال في نقد الرجال ،تحقيق :علي محمد البجاوي ،بيروت :دار المعرفة1963 ،م ،ج ،1ص.4 141
من الاهتمام في جهود علماء الحديث على وجه الخصوص ،ولا سيما عند التمييز بين المتقدمين والمتأخرين ،ليس باعتماد الزمن فحسب ،وإ َّنما باعتماد المنهج في التصحيح والتضعيف القائم على النظر في السند والقرائن والملابسات ،وهو المنهج الذي اعتمده المحدثون ون ّقاد الحديث في مرحلة الرواية ،أو النهج الذي يكتفي بالنظر في ظاهر السند في اعتماد الأحاديث كما فعل كثير من المتأخرين ،ولا سيما من علماء الفقه والأصول. يضاف إلى ذلك أ َّن َمن يعتمدون على حديث آخر ،هوَ \" :مث ُل ُأ َّمتي َم َثل المطر لا ُيدرى أوله خي ٌر أم آخره\"((( لا يستبعدون وجود الخيرية فيما بعد القرون الثلاثة. وقد تباينت آراء المف ِّكرين المعاصرين في نظرتهم إلى التراث الإسلامي بصورة عامة والتراث التربوي بصورة خاصة ،ما بين مبال ٍغ في الإعلاء من شأنه ،إلى الح ِّد الذي وجدنا َمن يق ِّرر أ َّنه\" :ما ترك السابق للاحق شيئ ًا!\" ومبالغ في التبخيس من قيمته ،ب ُح َّجة أ َّن لكل عصر عل َمه الذي يفقد قيمته بعد انقضاء ذلك العصر .والح ُّق ليس في ذلك الإفراط أو هذا التفريط؛ فالأمر يستدعي الدراسة الموضوعية المتوازنة من جهة ،وتحديد الهدف من هذه الدراسة من جهة ُأخرى. ولك َّن التمييز بين قيمة القديم والحديث ليس أمر ًا مستحدث ًا؛ فقد ظهر في وقت مبكر، وظهر معه كذلك ضرورة تقويم هذه القيمة بنا ًء على معيار غير معيار الزمن .وفي ذلك يقول المب ِّرد (توفي285:ﻫ) في كتابه \"الكامل\"\" :ليس ل ِق َدم ال َع ْه ِد ُي َف َّض ُل القائل ،ولا ل ِح ْدثانه ُيه َتض ُم ال ُمصي ُب ،ولك ْن ُيع َطى ُك ٌّل ما َيستح ُّق (((\".وقد تواصل الإفراط والتفريط في تحديد قيمة القديم والجديد عبر الزمن ،فوجدنا الطاهر ابن عاشور (توفي1393:ﻫ1973/م) يقول\" :رأيت النَّا َس حول كلام الأقدمين أح َد رجلين :رج ٍل ُم ْع َتك ٍف فيما شا َده الأقدمون، وآخ َر آخ ٍذ ب ِم ْع َوله في هدم ما مضت عليه القرون .وفي كلتا الحالتين ُض ٌّر كثير .وهنالك حالة ُأخرى ينجبر بها الجنا ُح ال َكسي ُر ،وهي أ ْن نعمد إلى ما أشا َده الأقدمون فنه ِّذ َبه ونزيده، ((( الترمذي ،أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة (توفي279ﻫ) .جامع الترمذي ،اعتنى به :فريق بيت الأفكار الدولية ،الرياض :بيت الأفكار الدولية ،ط1999 ،1م ،كتاب :الأدب ،با ٌب ،حديث رقم ( ،)2869ص.459 ((( المبرد ،أبو العباس محمد بن يزيد (توفي285:ﻫ) .الكامل في اللغة والأدب ،تحقيق :عبد الحميد هنداوي، الرياض :وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد1419( ،ﻫ1998/م) ،ج ،1ص.79 142
وحاشا أ ْن َننْ ُق َضه أو ُنبي َدهِ ،ع ْلم ًا بأ َّن َغ ْم َض َف ْض ِلهم ُكفرا ٌن للنعمة ،و َج ْح َد مزايا سل ِفها ليس من حميد خصال الأُ َّمة(((\". وتكشف بع ُض كتب التراث عن نصو ٍص ُتق ِّدم القدي َم لِ ِق َد ِمه ،وتستبعد أ ْن يرتقي أ ُّي جديد .ومثال ذلك ما يرويه الأنباري (توفي577:ﻫ) من أ َّن أبا عمرو بن العلاء (توفي254:ﻫ) كان يقول\" :إ َّنما نحن بالإضافة إلى َم ْن كان قب َلنا كب ْق ٍل في أصول َر ْق ٍل(((\". وقد حدث في القرن السابع الهجري أ َّن بعض العلماء الذين كانوا يدرسون في المدرسة المستنصرية ببغداد ،ومنهم شيخ المدرسة ابن الجوزي ،أخذوا يد ِّرسون كتب ًا جديدة صنَّفوها بأنفسهم ،ف ُط ِلب إليهم في عام 645ﻫ التوقف عن ذلك ،والعودة إلى تدريس كتب السابقين ،وذلك تأدب ًا معهم وتبرك ًا .فأجاب ابن الجوزي بالسمع والطاعة(((. وم َّمن يف ِّضل كتب الأقدمين أبو إسحق الشاطبي الذي يرى أ َّن تع ُّلم طالب العلم من الكتب َيلزم فيه\" :أ ْن يتح ّرى ك ُت َب المتقدمين من أهل العلم المراد؛ فإ َّنهم أق َع ُد به من غيرهم من المتأخرين ...فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما بلغه المتقدم ،وحسبك من ذلك أهل ك ِّل عل ٍم عمل ٍّي أو نظر ٍّي .فأعمال المتقدمين -في إصلاح دنياهم ودينهم- على خلاف أعمال المتأخرين ،وعلومهم في التحقيق أ ْق َع ُد؛ ف َت َح ُّق ُق الصحابة بعلوم الشريعة ليس ك َت َح ُّق ِق التابعين ،والتابعون ليسوا كتابعيهم ،وهكذا إلى الآن (((\". واستمر تفضيل كتب المتقدمين إلى القرون اللاحقة حتى أصبحت مؤسسات التعليم تح ِّدد من هذه الكتب ما ُيل ِزم ال ُمد ِّرسين استعمالها دون غيرها .ومن ال ُحجج الواردة في هذا الإلزام أ َّن بعض العلوم قد ُف ِرغ منه ،وبعضها ُد ِّون ولم تب َق حاجة للاجتهاد! ومن ذلك ما ورد في مرسوم إصلاح التعليم الذي أصدره السلطان سيدي محمد بن عبد الله عام 1192ﻫ (1778م) لإصلاح مناهج التعليم بجامع القرويين والمعاهد التابعة له؛ فقد ورد ((( ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،1ص.7 ((( الأنباري ،أبو البركات كمال الدين بن عبد الرحمن (توفي577:ﻫ) .نزهة الألباء في طبقات الأدباء ،تحقيق :إبراهيم السامرائي ،الزرقاء :مكتبة المنار1985 ،م ،ص .32والبقل :نبات عشبي قصير ،والرقل :النخل طويل القامة. ((( معروف ،ناجي .تاريخ علماء المستنصرية ،بغداد :مطبعة العاني ،ط1959 ،1م ،ص.83 ((( الشاطبي ،أبو إسحق إبراهيم بن موسى (توفي790:ﻫ) .الموافقات في أصول الشريعة ،شرح وتخريج :الشيخ عبد الله دراز ،طبعة جديدة كاملة في مجلد واحد ،بيروت :دار الكتب العلمية2004 ،م ،ص.57 143
في الفصل الثالث من المرسوم ما يخت ُّص بال ُمد ِّرسين في مساجد فاس ما يأتي\" :فإ َّننا أمرنا ألا يدرسوا إلا \"كتاب الله تعالى\" بتفسيره ،وكتاب \"دلائل الخيرات\" ،والصلاة على رسول الله ص ّلى الله عليه وس َّلم .ومن كتب الحديث \"المسانيد\" ،والكتب المستخرجة منها، و\"البخاري ومسلم\" ،وغيرها من الكتب الصحاح .ومن كتب الفقه\" :ال ُمد َّونة\" ،و\"البيان\"، و\"التحصيل\" ،و\"مقدمات ابن رشد\" ،و\"الجواهر لابن شاس\" ،و\"النوادر\" و\"الرسالة لابن أبي زيد\" ،وغير ذلك من كتب الأقدمين ...و َمن أراد علم الكلام \"فعقيدة ابن أبي زيد\" كافية شافية بها جميع المسلمين ...و َمن أراد قراءة \"علم الأصول\" فإ َّنه أمر قد فرغ منه ،و\"دواوين الفقه\" قد ُد ِّونت ،ولم يب َق اجتهاد(((\". وفي مقابل هذا التو ُّجه نحو كتب الأولين في التعليم كان هناك تو ُّج ٌه مبكر كذلك؛ لتأكيد الحاجة إلى مواصلة التجديد والتأليف ،ولرفض مقولة\" :ما ترك الأول للآخر شيئ ًا\". وفي ذلك يروي ياقوت الحموي عن أبي عمرو الجاحظ (توفي255:ﻫ) أ َّنه قال\" :إذا سمع َت الرج َل يقول :ما ترك الأول للآخر شيئ ًا ،فاعلم أ َّنه لا يريد أ ْن ُيف ِلح (((\".ولم يتردد ابن عبد ربه (توفي328:ﻫ) أ ْن يحكم بميزة إيجابية للتأليف اللاحق عن السابق ،فقال: \"رأيت آخر كل طبقة ،وواضعي كل حكمة ،ومؤ ِّلفي كل أدب ،أعذب ألفاظ ًا ،وأسهل بني ًة، وأحكم مذهب ًا ،وأوضح طريق ًة من الأول؛ لأ َّنه ناك ٌص متعق ٌب ،والأول بادئ متقدم(((\". وف َّسر ابن مالك في مقدمة كتابه \"تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد\" الحاجة إلى مواصلة التأليف ،وعدم الاكتفاء بكتب الأقدمين بقوله\" :وإذا كانت العلوم ِمنَح ًا إلهي ًة ،ومواه َب اختصاصي ًة فغي ُر مستب َع ٍد أ ْن ُي َّد َخر لبعض المتأخرين ما ع ُس َر على كثي ٍر من المتقدمين(((\". ((( مهداد ،الزبير\" .السلطان سيدي محمد بن عبد الله العلوي رائد إصلاح التعليم بجامع القرويين\" ،مجلة دعوة الحق، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المملكة المغربية ،العدد ( ،)367ربيع -1ربيع /2ماي-يونيو 2002م. ((( الحموي ،شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الحموي (توفي626 :ﻫ) .معجم الأدباء :إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب ،تحقيق :إحسان عباس ،بيروت :دار الغرب الإسلامي1993 ،م ،ج ،5ص.2103 ((( ابن عبد ربه ،شهاب الدين أحمد بن محمد الأندلسي (توفي328:ﻫ) .العقد الفريد ،بيروت :دار الكتب العلمية، ط1404 ،1ﻫ ،ج ،1ص.4 ((( ابن مالك ،جمال الدين بن مالك الطائي (توفي672:ﻫ) .تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد ،تحقيق :محمد كامل بركات ،القاهرة :دار الكتاب العربية للطباعة والنشر1967 ،م ،ص.2 144
ونقل حاجي خليفة مقول َة اب ِن مال ٍك بلفظها ،وتو َّسع في دعم رأيه ،وتفسير الحاجة إلى استمرار التأليف ،وعدم اعتماد الزمن معيار ًا وحيد ًا في تقدير قيمة الشيء ،فقال\" :فلا تغت َّر بقول القائل\" :ما ترك الأول للآخر\" ،بل القول الصحيح الظاهر\" :كم ترك الأول للآخر\" فإ َّنما ُيستجاد الشيء ،و ُيستر َذل ل َج ْودته ورداءته لا ل ِق َدمه وحدوثه .ويقال :ليس بكلم ٍة أض َّر بالعلم من قولهم\" :ما ترك الأول شيئ ًا\"؛ لأ َّنه يقطع الآمال عن العلم ،ويحمل على التقاعد عن التع ُّلم ،فيقتصر الآخر على ما ق َّدم الأو ُل من الظواهر ،وهو خطر عظيم، وقول سقيم .فالأوائل وإ ْن فازوا باستخراج الأصول وتمهيدها ،فالأواخر فازوا بتفريع الأصول وتشييدها(((\". وقد أ َّكد كثي ٌر من العلماء ضرور َة إعمال النقد المنهجي لبيان قيمة أ ِّي موضوع من موضوعات التراث في مجالات الحديث ،والفقه ،والتفسير ،والأدب ،والتاريخ، والتعليم ،وغير ذلك .ولع َّل أهم ما اش ُت ِهرت به ُأ َّمة الإسلام في مسائل النقد المنهجي ما ط َّوره المح ِّدثون من مناهج غاية في الدقة في نقد َسنَ ِد الحديث و َم ْتنِه ،واصطلحوا على درجات الرواة؛ فمنهم المح ِّدث ،والحافظ ،وال ُح َّجة ،وأمير المؤمنين في الحديث ،ومنهم الضعيف ،والو ّضاع ،والمد ِّلس ،والك ّذاب .وللحديث درجات متعددة؛ فمنه الصحيح، والحسن ،والضعيف ،وغير ذلك من تفاصيل علوم مصطلح الحديث ،والجرح والتعديل، وال ِعلل ،وغيرها .وفيما يخ ُّص التاريخ ،فقد وصف ابن خلدون مناهج المؤ ِّرخين الذين سبقوه ،ورفض بعض رواياتهم استناد ًا إلى ما هو معروف من الطبائع والوقائع .وفي ُن ُظم التعليم ،حمل الشوكاني حمل ًة عنيف ًة على العلماء المق ِّلدين الذين تركوا الاجتهاد ،فع َّطلوا القرآن وال ُّسنة باعتمادهم على علماء المذاهب وكتبهم. وتح َّدث الونشريسي في المعيار المعرب عن حالة التعليم ،فقال\" :وأ ّما البناء ،فإ َّنه يجذب الطلبة إلى ما يتر َّتب فيه من الجرايات ،فيقبل بهم على َمن يع ِّينه أهل الرياسة للإجراء والأفراد منهم ،أو َمن يرضى لنفسه الدخول في حكمهم ،ويصرفهم عن أهل العلم حقيقة الذين لا يدعون إلى ذلك ،وإ ْن دعوا لم يجيبوا ،وإ ْن أجابوا لم يوفوا لهم بما ((( حاجي خليفة ،مصطفى بن عبد الله القسطنطيني الرومي (توفي1067:ﻫ) .كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ،عناية :محمد شرف الدين بالتقايا ورفعت بيلكة الكليسي ،بيروت :دار إحياء التراث العربي، (1360ﻫ1941/م) ،المجلد الأول ،ص.39 145
يطلبون من غيرهم ... ،ولقد استباح الناس النقل من المختصرات الغريبة أربابها ،ونسبوا ظواهر ما فيها إلى ُأ َّمهاتها ...ث َّم انضاف إلى ذلك عدم الاعتبار بالناقلين ...ث َّم كان أهل هذه المائة((( عن حال َمن قبلهم ِمن ح ْفظ المختصرات ،وش ِّق الشروح والأصول الكبار، فاقتصروا على حفظ ما ق َّل لف ُظه ،ونزر ح ُّظه ،وأفنوا أعمارهم في ح ِّل لغوزه ،وفهم رموزه، ...فبينا نحن نستكثر العدول عن كتب الأئمة إلى كتب الشيوخُ ،أبيحت لنا تقييدات الجهلة بل مسودات المسوخ ،فإ ّنا لله وإ ّنا إليه راجعون .فهذه جملة تهديك إلى أصل العلم وتريك ما غفل عنه الناس (((\".ث َّم يستطرد الونشريسي بعد ذلك في الحديث عن علماء السلاطين، وع ّما اشتملت عليه كتب التفسير من الخلاف ،وعن آفة التقليد والتع ُّصب للمذاهب. وفي نقد الشعر والشعراء ،كان نقد القديم موضوع ًا أساسي ًا في مقامة من مقامات ابن شرف القيرواني (توفي460:ﻫ) .وبعد أ ْن أشار إلى أ َّن نفس الإنسان تتش َّبث بالقديم، ولا تميل إلى النظر في الجديد ،ب َّين أ َّن كثير ًا من قديم الشعر -على ما قد يكون فيه من الإتقان والحسن -لا يخلو من عيوب ،وذكر أمثل ًة على ما َي ُع ُّده عيوب ًا قادحة في بعض شعر المشهورين في الجاهلية والإسلام ،وذكر من هؤلاء :امرئ القيس ،والفرزدق ،وزهير، وبشار ،والمتنبي ،وغيرهم .وكان م ّما قاله على لسان أبي الريان الصلت بن السكن: \"وتحفظ عن شيئين :أحدهما أ ْن يحملك إجلال القديم المذكور على العجلة باستحسان ما تستمع له ،والثاني أ ْن يحملك إصغارك المعاصر المشهود على التهاون بما أنشدت له؛ فإ َّن ذلك جور في الأحكام ،وظلم من الحكام حتى تم ِّحص قولهما ،فحينئ ٍذ تحكم لهما أو عليهما .وهذا با ٌب في اغتلاقه استصعاب ،وفي صرف العامة وبعض الخاصة عنه إتعاب، وقد وصف تعالى في كتابه الصادق تش ُّبث القلوب بسيرة القديم ونفا َرها من ال ُمحدث الجديد ،فقال حاكي ًا لقولهم﴿ :ﯼﯽﯾﯿﰀ﴾ [الزخرف ]٢٢:وقال\" :لن نعبد إلا ما وجدنا عليه آباءنا (((\".وقد قل َت أنت(((: ((( عاش الونشريسي في القرن التاسع والقرن العاشر (914-834ﻫ) .والمئة التي أشار إليها هي أحد القرنين. ((( الونشريسي ،أبو العباس أحمد بن يحيى (توفي914:ﻫ) .المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب ،خ َّرجه :جماعة من الفقهاء بإشراف محمد حجي ،الرباط :وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المملكة المغربية1981 ،م ،ج ،2ص.482-479 ((( هذه ليست آية ،و َث َّمة آيا ٌت في معناها ،مثل قوله تعالى﴿ :ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ﴾ [البقرة. ]170: ((( أ ْي :إ َّن أبا الر ّيان ينسب الأبيات الأربعة إلى ابن شرف القيرواني. 146
ُأ ْغ ِر َي النـاس بامتداح القديم وبذ ِّم الجديـد غـيـر َذ ِمي ِم ليـس إلا لأ َّنهم حسدوا الح َّي َو َر ُّقوا علـى ال ِعظام ال َّرمي ِم ويـرى للأوائـل التقديمـا وقل َت في هذا المعنى: وسيغدو هذا الجديد قديما\"((( ُقل ل َمن لا َيرى المعاص َر شيئ ًا إ َّن ذاك القديـم كـان جــديد ًا تشير هذه النصوص وأمثالها إلى مسألتين؛ ُأولاهما أ َّن هذا النقد الذي كان يو َّجه إلى بعض القديم يؤ ِّكد أ َّن السابق ليس شرط ًا أ ْن يكون أفضل من اللاحق ،وثانيتهما أ َّن النقد الذي كان يو َّجه إلى الواقع الفكري والتربوي في زمن معين أشار إلى تغ ُّير ذلك الواقع القائم نحو حالة أسوأ م ّما كان عليه الواقع قبل التغ ُّير ،وأ َّن القديم كان أفضل من الحديث. وبالرغم م ّما سبق ،فإ َّن ذلك كله (أ ْي ما كان قديم ًا ،وما صار حديث ًا) أصبح الآن تراث ًا قديم ًا ،ونتعامل معه اليوم بالنظر إلى ما قد يكون فيه من فائدة لحاضرنا ومستقبلنا. إ َّن جهود الإصلاح والتنمية والتطوير المطلوبة من أفراد الأُ َّمة وجماعاتها وأجيالها لا تعفي أحد ًا من المسؤولية ،مهما كان زمانه أو مكانه .وخيرية الأُ َّمة في مجموعها في قوله سبحانه﴿ :ﭞﭟﭠﭡﭢ﴾ [آل عمران ]١١٠:لا تعني أ َّن كل فرد فيها على المستوى نفسه من الخير؛ فقرن النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم لم يكن كل المسلمين فيه على المستوى نفسه في كل أمر من الأمور ،بالرغم من يقيننا أ َّن الصحابة كانوا خير القرون. وكما أ َّن الخيرية تكون في أجيال الناس في القرون ،فإ َّنها تكون كذلك في الأفراد؛ فالمعيار هو عمل الفرد وكسبه وإنجازه ،وليس زمانه الذي عاش فيه. ومن الجدير بالذكر أ َّن التراث التربوي الإسلامي هو مصد ٌر من المصادر التي َيلزم ((( ابن شرف القيرواني ،محمد بن أبي سعيد (توفي360:ﻫ) .رسائل الانتقاد في نقد الشعر والشعراء ،تحقيق :حسن حسني عبد الوهاب ،بيروت :دار الكتاب الجديد1983 ،م ،ص.40-39 وقد ُر ِويت هذه الأبيات في عدد من المصادر منسوبة إلى أكثر من واحد؛ ففي رسائل البلغاء منسوبة إلى ابن شرف القيرواني ،وعند الزبيدي البيتان الأولان لعبد الله بن سلامة المؤذن ،والبيتان الأخيران لابن رشيق .انظر: -الزبيدي ،محمد مرتضى الحسيني (توفي1205:ﻫ) .تاج العروس من جواهر القاموس ،تحقيق :عبد الستار أحمد فراج ،الكويت :وزارة الإرشاد والأنباء1965 ،م ،ص.93 147
أ ْن نط ِّور المنهجية المناسبة للتعامل معه ،ومن المؤ َّكد أ َّننا سنجد فيه ما يأتي: -الأمثلة المشرقة في استلهام مقاصد القرآن وال ُّسنة ،وهي -في كثير منها -مبادرات شخصية من علماء وأمراء وعامة .وهذه المبادرات تع ِّبر عن قيم مستقرة تصلح أ ْن تكون حوافز للتطوير التربوي اليوم ،وغد ًا ،وبعد غد. -الأحكام والفتاوى الفقهية التي أ َّثر في صدروها الواقع الاجتماعي الذي كان سائد ًا، والحالة النفسية ل َمن أصدر الفتوى ،وملابسات المسألة التي جاءت الفتوى جواب ًا عنها .وهي -على كل حال -لا تم ِّثل فهمنا المعاصر لمقاصد القرآن وال ُّسنة في التع ُّلم والتعليم. -الممارسات التعليمية الفردية والمجتمعية التي أقام عليها التراث أشد النكير ،فلم تكن محل قبول في زمانها ،وهي ليست محل قبول اليوم. وإذا ُع َّد التراث التربوي قديم ًا ،فما الجديد لدينا في ميدان التربية والتعليم؟ من المؤ َّكد أ َّننا سنجد: -أمثل ًة مشرق ًة من الخبرات والتجارب في العمل التربوي ،في أماكن مختلفة من العا َلم ،استندت إلى فكر ن ِّير وقيم نبيلة ،وح َّققت الكثير من متط َّلبات تكريم الإنسان ،وإطلاق طاقاته في الاستخلاف والعمران. -أنظم ًة وقواني َن في التربية والتعليم ،في أماكن مختلفة من العا َلم ،تش َّكلت بتأثير الواقع المحلي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لتلك الأماكن ،ولا تبدو قيمتها ،ولا يلتزم بها إلا َمن يخضع لذلك الواقع؛ طوع ًا ،أو كره ًا .ومع ذلك ،فهم يتط َّلعون إلى التجديد والتطوير. -في الخبرة المعاصرة كذلك ممارسات تعليمية فردية ومجتمعية ،تتصف بالفوضى الفكرية ،والسقوط النفسي ،وامتهان كرامة الإنسان وإذلاله ،وسحق شخصيته. وهي ممارسات مستنكرة ،انتهت إليها حالة بعض الأماكن؛ نتيجة الجهل والتخ ُّلف الحضاري ،أو الفساد المالي والإداري ،أو الاستبداد السياسي لفئات وجدت مصالحها ومكاسبها في ظل أوضاع سادت فيها تلك الممارسات. 148
فالخير الذي نبحث عنه في بناء فكرنا التربوي الإسلامي المعاصر ليس في القديم على إطلاقه ،وليس في الجديد على إطلاقه؛ إ َّنها معادلة متوازنة تتكامل فيها عناصر الخير والجودة من القديم والجديد ،ويبدع فيها عقل الإنسان المسلم المعاصر في صياغة هذه المعادلة ،ضمن المقاصد التي أراد فيها الله للإنسان تزكي ًة في جسمه وعقله وروحه، وتزكي ًة في حياته الفردية وعلاقاته وأنظمته الاجتماعية ،وأراد الله لهذا الإنسان سعي ًا دؤوب ًا لاستثمار التمكين المتاح له في هذه الأرض لإقامة العمران ،وبناء الحضارة ،إلى أ ْن تنتهي هذه الحياة الدنيا ،ث َّم تكون الرجعى إلى الله ،ف َمن أحسن في هذه الدنيا فلنفسه ،و َمن أساء فعليها ،وما ربك بظ ّلم للعبيد. 149
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210
- 211
- 212
- 213
- 214
- 215
- 216
- 217
- 218
- 219
- 220
- 221
- 222
- 223
- 224
- 225
- 226
- 227
- 228
- 229
- 230
- 231
- 232
- 233
- 234
- 235
- 236
- 237
- 238
- 239
- 240
- 241
- 242
- 243
- 244
- 245
- 246
- 247
- 248
- 249
- 250
- 251
- 252
- 253
- 254
- 255
- 256
- 257
- 258
- 259
- 260
- 261
- 262
- 263
- 264
- 265
- 266
- 267
- 268
- 269
- 270
- 271
- 272
- 273
- 274
- 275
- 276
- 277
- 278
- 279
- 280
- 281
- 282
- 283
- 284
- 285
- 286
- 287
- 288
- 289
- 290
- 291
- 292
- 293
- 294
- 295
- 296
- 297
- 298
- 299
- 300
- 301
- 302
- 303
- 304
- 305
- 306
- 307
- 308
- 309
- 310
- 311
- 312
- 313
- 314
- 315
- 316
- 317
- 318
- 319
- 320
- 321
- 322
- 323
- 324
- 325
- 326
- 327
- 328
- 329
- 330
- 331
- 332
- 333
- 334
- 335
- 336
- 337
- 338
- 339
- 340
- 341
- 342
- 343
- 344
- 345
- 346
- 347
- 348
- 349
- 350
- 351
- 352
- 353
- 354
- 355
- 356
- 357
- 358
- 359
- 360
- 361
- 362
- 363
- 364
- 365
- 366
- 367
- 368
- 369
- 370
- 371
- 372
- 373
- 374
- 375
- 376
- 377
- 378
- 379
- 380
- 381
- 382
- 383
- 384
- 385
- 386
- 387
- 388
- 389
- 390
- 391
- 392
- 393
- 394
- 395
- 396
- 397
- 398
- 399
- 400
- 401
- 402
- 403
- 404
- 405
- 406
- 407
- 408
- 409
- 410
- 411
- 412
- 413
- 414
- 415
- 416
- 417
- 418
- 419
- 420
- 421
- 422
- 423
- 424
- 425
- 426
- 427
- 428
- 429
- 430
- 431
- 432
- 433
- 434
- 435
- 436
- 437
- 438
- 439
- 440
- 441
- 442
- 443
- 444
- 445
- 446
- 447
- 448
- 449
- 450
- 451
- 452
- 453
- 454
- 455
- 456
- 457
- 458
- 459
- 460
- 461
- 462
- 463
- 464
- 465
- 466
- 467
- 468
- 469
- 470
- 471
- 472
- 473
- 474
- 475
- 476
- 477
- 478
- 479
- 480
- 481
- 482
- 483
- 484
- 485
- 486
- 487
- 488
- 489
- 490
- 491
- 492
- 493
- 494
- 495
- 496
- 497
- 498
- 499
- 500
- 501
- 502
- 503
- 504
- 505
- 506
- 507
- 508
- 509
- 510
- 511
- 512
- 513
- 514
- 515
- 516
- 517
- 518
- 519
- 520
- 521
- 522
- 523
- 524
- 525
- 526
- 527
- 528
- 529
- 530
- 531
- 532
- 533
- 534
- 535
- 536
- 537
- 538
- 539
- 540
- 541
- 542
- 543
- 544
- 545
- 546
- 547
- 548
- 549
- 550
- 551
- 552
- 553
- 554
- 555
- 556
- 557
- 558
- 559
- 560
- 561
- 562
- 563
- 564
- 565
- 566
- 567
- 568
- 569
- 570
- 571
- 572
- 573
- 574
- 575
- 576
- 577
- 578
- 579
- 580
- 581
- 582
- 583
- 584
- 585
- 586
- 587
- 588
- 589
- 590
- 591
- 592
- 593
- 594
- 595
- 596
- 597
- 598
- 599
- 600
- 601
- 602
- 603
- 604
- 605
- 606
- 607
- 608
- 609
- 610
- 611
- 612
- 613
- 614
- 615
- 616
- 617
- 618
- 619
- 620
- 621
- 622
- 623
- 624
- 625
- 626
- 627
- 628
- 629
- 630
- 631
- 632
- 633
- 634
- 635
- 636
- 637
- 638
- 639
- 640
- 641
- 642
- 643
- 644
- 645
- 646
- 647
- 648
- 649
- 650
- 651
- 652
- 653
- 654
- 655
- 656
- 657
- 658
- 659
- 660
- 661
- 662
- 663
- 664
- 665
- 666
- 1 - 50
- 51 - 100
- 101 - 150
- 151 - 200
- 201 - 250
- 251 - 300
- 301 - 350
- 351 - 400
- 401 - 450
- 451 - 500
- 501 - 550
- 551 - 600
- 601 - 650
- 651 - 666
Pages: