فعاليته من طور إلى طور ...وهذا يجعلنا نصوغ مشكلته صياغة جديدة ،وأ ْن نتساءل :ما هي الظروف التي تجعل المجتمع يخلق في الفرد القيمة التي تبعث فيه الفعالية؟(((\". لك َّن مالك بن نبي ،وهو يحاول الإجابة عن هذا السؤال ،أعاد صياغة القضية ،ف َتب َّين له أ َّن كثير ًا من التغ ُّيرات التي حدثت في التاريخ كانت بدايتها في مجتمعات م َّرت بحالة ركود وكساد ،وتم َّتع فيها الفر ُد بحالة الاستقرار التي لا يرافقها قلق؛ فلم يجد ما يدعوه إلى تغيير الأوضاع من حوله؛ لأ َّن الأمور سارت من دون أ ْن يكون له أث ٌر فيها\" .وهنا يصبح التاريخ سيل ًا يجرفه إلى حيث لا يدري ،مستسلم ًا له الاستسلام المطلق \".وفي حالات معينة من تاريخ المجتمعات يحدث شي ٌء مختل ٌف ،أساسه أ َّن المجتمع تنتابه حالة من القلق والشعور بالخطر؛ \"سواء أكان الخطر واقعي ًا أم مج َّرد فكرة خامرت العقول \".وتظهر الحاجة إلى \"حالة إنقاذ\" ،يسيطر عليها القلق ،ويه ُّزها الشعور بحالة إنقاذ ،فتتش َّخص أمامها الغايات ،وتعنو لها المصاعب \".وفي كل هذه الحالات كان ينطلق من المجتمع فر ٌد يقود مجتم َعه .قال مالك\" :وهكذا ينطلق الفرد الذي كان من قب ُل ُمك َّبل ًا بكساده ،ينطلق لأ َّنه يشعر فجأ ًة بانفجار ذاتي في نف ِسه ،انفجار ُيط ِلق طاقاته المك َّبلة ،ف ُتغ ِّير وجه التاريخ. وإ َّن هذه الشروط ...لهي الشروط النفسية الاجتماعية التي تح ِّرك المجتمعات ،وتفرض على الأفراد الانسجام مع قانون تلك الحركة ،بما لديهم من المؤهلات المكتسبة ،التي تك ِّون ما س َّميناه المعادلة الاجتماعية ،أعني المعادلة التي تح ِّدد فعاليتهم أمام المشكلات، وتعطيهم قيمتهم في المجتمع ،وفي التاريخ(((\". وحين تح َّدث مالك بن نبي عن الصراع الفكري في العا َلم الإسلامي ،فقد لفت الانتباه إلى أ َّن \"الكثير من المثقفين المسلمين ُي ْف َتنون بالأشياء الجديدة ،وبالتالي ُيس َحرون بمنطق الفعالية ،ولا ُيم ِّيزون بين حدود توافقها مع مهام مجتمع يريد أ ْن ينهض دون أ ْن يفقد هويته ...هؤلاء الذي مردوا بإدمان على تقليد الآخرين ،ليس لديهم أ ُّي مفهوم عن ابتكار هذا الغير ،ولا عن دوافع هذا الابتكار ،عن تكاليفه في جميع المجالات التي يق ِّلدونهم فيها ،وكان الأجدر بهم أ ْن يبتكروا هم أنفسهم وفق دوافعهم الخاصة بدل أ ْن ((( ابن نبي ،مالك .تأملات ،دمشق :دار الفكر2002 ،م ،ص.135 ((( المرجع السابق ،ص.138-135 350
يق ِّلدوا .ويجب أ ْن نلاحظ أ َّن هذا التقليد ليس تقليد ًا لفعالية أ ِّي مجتمع دينامي ،كما فعلت اليابان مثل ًا ،ولكنَّه تقليد لقالب فلسفي يصبح دفع ًة واحد ًة منطق ًا معادي ًا للإسلام ...فالعا َلم الثقافي في البلاد الإسلامية (هو) الحلبة التي ينبغي فيها الانتصار في صراع يفرض منطلق الفعالية .فالفكرة الإسلامية لكي تقارع الأفكار الف ّعالة للمجتمعات المتح ِّركة في القرن العشرين عليها أ ْن تستعيد فعاليتها الخاصة؛ أ ْي أ ْن تأخذ من جديد مكانها وسط الأفكار التي تصنع التاريخ(((\". رابع ًا :واقع المعالجة المقاصدية للعمل التربوي: كثي ٌر من الدراسات التي تح َّدثت عن تفعيل المقاصد في المجال التربوي كانت تصر ُف جهد ًا كبير ًا في عرض معنى المقاصد وأهميتها في العلوم الشرعية ،وضرورتها للفقيه والمجتهد ،مع التركيز على مقاصد الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات. وقد تبع ذلك حدي ٌث عن فائدة العلم بالمقاصد وضرورتها ،ويأتي الحديث أخير ًا عن تفعيل المقاصد في العمل التربوي ،والطرائق المقترحة لتضمين العلم(((. وحتى حين ُيع ِّرف الباحث مصطلح \"تفعيل\" المقاصد الشرعية في المناهج الدراسية، بقوله :إ َّن هذا التفعيل هو \"كيفية َب ِّث هذه المقاصد في المناهج المختلفة في المواد الدراسية للمرحلة الأساسية والمتوسطة ،من حيث تأطيرها لمختلف المواد المد َّرسة، واختيار الملائم منها لكل مادة\"(((؛ فإن الباحث يكون َم ْعنِ ّي ًا بتدريس المواد الدينية ،وكيفية توزيع مباحث المقاصد فيها. وتأتي أهمية الحديث عن تفعيل المقاصد التربوية ،من ملاحظتنا للقصور في المفهوم الشائع للتفعيل في بعض الكتابات المعاصرة؛ ذلك أ َّن الوعي بحداثة الاهتمام بموضوع ((( ابن نبي ،مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي ،مرجع سابق ،ص.110-109 ((( انظر مث ًلا: -بولوز ،محمد\" .مقاصد الشريعة وأهدافها وكيفية تفعيلها في المناهج الدراسية\" ،مجلة أصول الدين ،الجامعة الأسمرية الإسلامية -ليبيا ،العدد (2017 ،)2م ،ص.246-168 -الأرجواني ،حمزة أبو فارس\" .مقاصد الشريعة وأهدافها وكيفية تفعيلها في المناهج الدراسية\" ،مجلة أصول الدين ،الجامعة الأسمرية الإسلامية -ليبيا ،العدد (2018 ،)2م ،ص.139-120 ((( بولوز\" ،مقاصد الشريعة وأهدافها وكيفية تفعيلها في المناهج الدراسية\" ،مرجع سابق ،ص.180 351
المقاصد ،ولفت الانتباه إليه بوصفه من قضايا التجديد في دراسة العلوم الدينية ،رافقه دعو ٌة إلى تعليم هذا الموضوع ،وتقديمه في عدد من المستويات ضمن مراحل التعليم العام والجامعي .فهذا النوع من التفعيل لا يتجاوز كونه تقديم مادة دراسية جديدة ،تضاف إلى المواد الأُخرى .ونحن هنا لا نق ِّلل من أهمية هذا المفهوم ،وضرورة تأكيده في المناهج التعليمية ،ولكنَّه -في نهاية المطاف -تعلي ٌم للمقاصد بوصفه موضوع ًا للدراسة .وقد يصل مفهوم \"التفعيل\" إلى مستوى أكثر تق ُّدم ًا عند الدعوة إلى الانتقال من تعليم الموضوعات المختلفة في العلوم الدينية ،ولا سيما الأحكام الفقهية في مجال العبادات والمعاملات بالطريقة التقريرية وطرق استنباطها أو الاستدلال لها ،إلى تعليم هذه الأحكام الفقهية مع بيان مقاصدها ،وما يحت ُّف بها من ِح َك ٍم و ِعل ٍل وأسبا ٍب .ومن المؤ َّكد كذلك أ َّن هذا المفهوم الثاني له وجاه ُته وضرور ُته؛ إذ إ َّنه يتعامل مع المقاصد بوصفه منهج ًا في التعليم. فهل نستطيع أ ْن نتق َّدم خطو ًة ُأخرى في مفهوم \"تفعيل المقاصد التربوية والتعليمية\"، بالنظر إلى المقاصد ،أو الغايات ،أو الأهداف التربوية ذات الصلة المباشرة بشخصية الإنسان الذي نستهدفه في العمل التربوي ،والعلوم التي َيلزم أ ْن يكتسبها هذا الإنسان، والصورة التي يتج ّلى فيها سلوك هذا الإنسان ،في الواقع العملي ،والحياة الاجتماعية، والحالة الحضارية للمجتمع الذي نمارس من أجله تفعيل المقاصد التربوية؟ إ َّن المقاصد التربوية التي نتح َّدث عنها هي المقاصد القرآنية التي تتصل اتصالاً مباشر ًا بالقضايا التربوية التي نبتغي لها حكم ًا ،والحكم هنا لا يقتصر على تقديم الفتوى بما يجوز وما لا يجوز أ ْن نفعله في مسألة تربوية ،وإ َّنما هو إقامة الصلة بين المقاصد القرآنية والحالة التربوية في مجتمعاتنا الإسلامية؛ في جميع أركان هذه الحالة التربوية ،وما تستند إليه من فلسفة و ُن ُظم وبرامج ومناهج ،وما تتصف به حالة ال َم ْعنِ ّيين بالتربية في مستوياتهم الإدارية المختلفة ،وما ينعكس من كل ذلك على حالة الإنسان الذي تخ ِّرجه مؤسسات التربية. وتفعيل المقاصد التربوية هنا يبدأ بصياغة الرؤية التربوية الإصلاحية ،التي تف ِّعل مهمة التربية في الإصلاح والتغيير والنهوض الحضاري للمجتمع .و َمن يستطيع صياغة هذه الرؤية غير الفقيه المقاصدي التربوي؟! 352
خامس ًا :تقويم المقاصد التربوية للتقويم معا ٍن متعددة ،تختلف باختلاف السياق ،وما َي ُه ُّمنا في التقويم التربوي بعض المعاني التي تتصل ببعض الإجراءات المهمة في العملية التربوية؛ فتقوي ُم ال ُمع َو ِّج تعدي ُله، وتقوي ُم شي ٍء معرف ُة قيمتِه ،وتقوي ُم البرنام ِج معرف ُة نتائ ِجه ،وتقوي ُم الأخلا ِق تهذي ُبها وإصلا ُحها ،وتقوي ُم الخطأِ تصحي ُحه ،وتقوي ُم أدا ِء العاملين تقدي ُر كفاءتهم في الاستمرار، أو تعدي ُل مكافآتهم ،أو حاجتهم للتدريب والتطوير ،وهكذا .وهذا يعني أ َّن َث َّمة بيانا ٍت عن حال ٍة معينة تستدعي اتخاذ قرار في ضوئها. والعملية التربوية لها مقاصد وأهداف تسعى إلى تحقيقها ،والتقوي ُم رك ٌن أسا ٌس في هذه العملية ،وظيفته الكشف عن مدى تحقيق المقاصد والأهداف .ففي تقويم التعليم -مثل ًا -ثلاث عمليات مهمة :جمع البيانات عن نتيجة التعليم ،بدلالة مدى تح ُّقق الأهداف المرسومة ،ث َّم إصدار حكم على هذه النتيجة ،وأخير ًا اتخاذ قرار مناسب ع ّما َيلزم عمله في ضوء ذلك الحكم. .1صحة الأفكار وفاعليتها: تكمن قيمة الأفكار التربوية في صحتها وفاعليتها مع ًا .وللتث ُّبت من الصحة والفاعلية مقاييس .وقد عرف الفكر المنهجي في التاريخ الإسلامي قاعد ًة عام ًة في الضبط والتث ُّبت والاستدلال ،تقول\" :إ ْن كن َت ناقل ًا فالصحة ،وإ ْن كن َت ُم َّدعي ًا فالدليل \".أو بعبارة ابن تيمية\" :العلم إ ّما نق ٌل ُم َص َّدق ،أو استدلا ٌل (((\".وتستند هذه القاعدة إلى نصوص القرآن الكريم الصريحة في التث ُّبت في الرواية ،والبرهان في الا ِّدعاء ،وقد تم َّث َلها التاريخ الإسلامي في نشأة العلوم النقلية والعقلية والعملية .وكشف هذا التاريخ في ميدان الرواية عن الو ّضاعين ،والك ّذابين ،والمد ِّلسين ،والضعفاء ،وغيرهم ،م َّمن لم يكن العلماء يعت ّدون برواياتهم؛ وكشف في علم التاريخ عن اعتماد الطبائع والوقائع في الحكم على ((( ابن تيمية ،تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام (توفي728 :ﻫ) .مجموعة الفتاوي ،عناية وتخريج: عامر الجزار وأنور الباز ،المنصورة :دار الوفاء ،ج( 13كتاب مقدمة التفسير)1426( ،ﻫ2005/م) ،ص.185 353
الروايات ،وفي الكلام عن ال ُحجج والأدلة العقلية ،كما كشف هذا التاريخ في علم الطب عن التجارب المخبرية والأدوات العملية؛ وكشف في علم الفلك عن المراصد وسجلات المشاهدات والقياسات والحسابات ،وكذلك الأمر في غيرها من العلوم. ويمكننا اليوم فهم كثير من عناصر البحث العملي ومناهجه في العا َلم المعاصر في ضوء هذه القاعدة ،ولكنَّنا نشعر -أكثر من أ ِّي وقت مضى -أ َّن ما هو شائع من الأفكار ليس بالضرورة أ ْن يكون أفكار ًا صحيح ًة ،لا سيما بعد أ ِن امتلأت وسائل التوا ُصل والنشر الحديثة بكثير من سوء الاستعمال ،وعمليات النشر وإعادة النشر ،دون تف ُّكر أو تث ُّبت من صحة ما يعاد نشره؛ إذ يمكنها استغلال اسم عالِ ٍم في نشر أفكا ٍر غير صحيحة ،لترفع ِمن شأن َمن لا يستحق ،أو تشويه ُسمعة َمن هو أه ٌل للمدح والثناء. ث َّم إ َّن الكذب والافتراء والاحتيال والتحريف أمور عرفها الإنسان على مدار التاريخ، وقد س َّجل لنا القرآن الكريم أمثل ًة عديد ًة على هذه الممارسات ،وكذلك شهد تاريخ البحث العلمي في العصور الحديثة -ولا يزال يشهد -أمثل ًة على هذه الممارسات .فبعض ما ُع ِرف وانتشر من الأفكار والنظريات في العلوم السلوكية والاجتماعية كان مبني ًا على نتائج بحو ٍث َتب َّين فيما بع ُد أ َّنها مزيف ٌة ،ولا تتصل بالحقيقة .ففي مقالة مالكولم أشمور Malcolm Ashmoreفي موسوعة \"طرائق البحث في العلوم الاجتماعية\" ،أشار الكاتب إلى كثرة ما ارتبط من النتائج المز َّورة في بحوث العلوم الطبيعية ،وإلى وجودها في العلوم الاجتماعية ،ولك ْن بصورة أق َّل ،ولكنَّه عزا ق َّلتها في العلوم الاجتماعية إلى صعوبة الكشف عن التزوير فيها(((. ونكتفي بمثا ٍل واح ٍد من الأفكار التي تأ َّسست عليها كثي ٌر من القرارات التربوية في العا َلم ،وهي أفكا ٌر تخت ُّص بقضي ٍة مهم ٍة من قضايا علم النفس ،نالت شهر ًة واسع ًة، بنا ًء على بحوث ودراسات ميدانية في علم النفس ،أجراها عالِم النفس البريطاني السير سيريل بيرت (1971-1883م) عن ارتباط الذكاء البشري بالوراثة ،في خمسينيات القرن (1) Ashmore, Malcolm. \"Farud in Research\", The Sage Encyclopedia Social Science Research Methods, edited by Michael S. Lewis-Beck and others, London: Sage Publication, 2004, pp. 403-404. 354
العشرين وستينياته ،و َتب َّين فيما بع ُد أ َّن نتائج هذه البحوث لم تكن إلا تلفيق ًا وغ ّش ًا وتلاعب ًا بالبيانات بهدف تبرير أفكار عنصرية ،وأ َّن بعض ما ا َّدعاه بيرت من دراسات ميدانية لم يكن له وجو ٌد في الواقع العملي(((. وقد قبلت الجمعية البريطانية لعلم النفس ال ُّت َه َم التي ُو ِّجهت إلى السير بيرت، رغم أ َّن عدد ًا من الباحثين حاولوا الدفاع عنه .ولك ْن ،حتى هؤلاء لم ينكروا أ َّنه \"اخترع\" بيانات ومساعدين فيما نشر من دراسات .وأصبح السير سيريل بيرت ُيذ َكر بوصفه عالِم ًا غ ّشاش ًا (((.والغريب أ َّن هذه القضية التي ُس ِّميت قضية بيرت The Burt Affairلا تزال موضع جدل (اتهام ،ودفاع) بين أهل الاختصاص في علم النفس ،وفلسفة العلوم ،وتاريخ العلم ،وأخلاقيات العلم ،ومناهج البحث العلمي .بيد أ َّن تت ُّبع جانب من هذا الجدل في الدوائر الأكاديمية لفت انتباهنا إلى عدد من الأمور ،أ َّكدت أهمية التح ُّقق من صدق الأفكار وصحتها .ومن هذه الأمور التي كشف عنها الجدل في قضية بيرت: -بعض الذين دافعوا عن بيرت أشاروا إلى أ َّن المشكلات التي ُك ِشف عنها في أعماله وقع فيها َمن ا َّتهموه. َ -من حاولوا الدفاع عنه وتبرئته َتب َّين لهم من الدراسة التحليلية لتفاصيل دراساته، وحياته الشخصية ،وتح ُّيزاته الاجتماعية ،أ َّنه يستحق الإدانة فعل ًا. -دوافع بعض َمن ا َّتهموه بالاحتيال والتزوير تثير الشبهة فيما يخ ُّص بعض أساليبهم العلمية. -من غير الممكن تجا ُهل أثر التح ُّيزات الذاتية للباحث. َ -ث َّمة ُمه ِّددا ٌت عديدة لصدق التصميم البحثي ،لا ُين َكر تأثيرها في نتائج البحوث، بما في ذلك بحوث بيرت ،منها ما يس ّمى أثر هوثورن ،الذي يعني أ َّن نتائج البحث (1) Bradford, Lisa. \"Fraudulent and Misleading Data by Lisa Bradford\" in: The sage Encyclopedia of Educational Research measurement and Evaluation, Edited by Bruce Frey, Teller Road: SAGE Publications Inc.,, 2018, pp. 708-712. (2) Ridgway, Jim. Cyril, & Lodovic Burt. The Routledge Encyclopedia of Educational Thinkers, Joy A. Palmer Cooper, (Ed.) London and New York: Routledge Taylor & Francis Group. First published 2016, pp. 265-269. 355
سوف تميل إلى الاتجاه الذي يحاول تصميم البحث الكشف عن أثره؛ لأ َّن الأفراد المشاركين في البحث يشعرون بأ َّن َث َّمة تغيير ًا في إجراءات البيئةُ ،ب ْغ َي َة الحصول على نتائج مح َّددة(((. ألا يعني ذلك أ َّن الدخان يختلط بالنار حول الموضوع بأكمله؟! و ِم ْن َث َّم يستدعي التث ُّبت والتب ُّصر. وفيما يخ ُّص الكشف عن فاعلية الأفكار ،فإ َّن الذي يعنينا هنا هو الفكر التربوي الإسلامي الذي تق ِّدمه مؤسسات التربية والتعليم من أجل أ ْن يتم َّثله ال ُمتع ِّلمون ،ويظهر في أفكارهم ،ونفسياتهم ،وأقوالهم ،وأعمالهم ،ويظهر في واقع المجتمع الإسلامي ،وحالته الحضارية العامة؛ المعنوية والمادية. إ َّن درجة اكتساب هذا التم ُّثل ،ث َّم تحقيق المقاصد التربوية في مستوياتها المختلفة؛ المقاصد ،والغايات العامة ،على المستويات الإدارية المختلفة ،وعلى مستوى العلوم، ومستوى المراحل الدراسية المختلفة ،وعلى مستوى حاجة المجتمع من المؤسسات التعليمية ،وعلى مستوى مراحل تحقيق الأهداف ،وغير ذلك من المستويات ... ،كل ذلك موضوع لفرع مهم من فروع التربية ،هو التقويم التربوي ،حيث يمكن الإحالة إلى المراجع المتخ ِّصصة. .2التقويم التربوي في حالته السائدة: يتض َّمن هيكل وزارة التربية والتعليم في معظم البلدان العربية والإسلامية إدارة خاصة بشؤون التقويم التربويُ ،تس ّمى غالب ًا إدارة (أو مديرية ،أو قسم) الامتحانات ،أو الاختبارات العامة .ور َّبما نجد في بعض البلدان مركز ًا متخ ِّصص ًا للتقويم التربوي يهتم ((( حاول أحد الباحثين أ ْن يح ِّلل مواقف طرفي قضية بيرتُ ،مف ِّض ًلا التو ُّسع في الكتابات التي حاولت الدفاع عنه، فراجع كتابين؛ الأول لكاتب حاول أ ْن يدرس كل حيثيات القضية ،عن طريق دراسة حياة سيريل بيرت ،فقضى خمس سنوات في كتابة حياة بيرتُ ،محا ِولاً تبرئته م ّما ُن ِسب إليه من احتيال وتزوير في بيانات بحوثه ،لكنَّه فوجئ بأ َّن ما ُن ِسب إليه من اتهامات كان صحيح ًا .أ ّما الكتاب الآخر فقد أخذ على عاتقه كشف السقطات التي رافقت كل َمن ا َّتهم بيرت ،لكنَّه لم ُين ِكر أ َّن بعض إجراءات بيرت في بحوثه كانت تنقصها العناية اللازمة ،وأ َّن بعض المشكلات التي ُتن َسب إليه مألوفة في بحوث غيره .انظر عرض تفاصيل الكتابين في: - Hattie, John. \"The Burt Controversy: An essay review of Harnshaw’s and Joynson’s Biographies and Sir Cyril Burt\", Alberta Journal of Educational Research, 37 (3), pp. 259-275. 356
بقضايا البحث والتدريب في موضوع التقويم .بيد أ َّن معظم ما تقوم به هذه الإدارات هو القياس ،وليس التقويم؛ فالأدبيات التربوية تح ِّدد معنى التقويم بإصلاح حالة مح َّددة بعد معرفة ما تحتاج إليه من إصلاح .ونكشف عن هذه الحاجة عن طريق القياس ،باستخدام أدوات القياس المختلفة .والحقيقة أ َّن جهود ًا مق َّدر ًة ُتص َرف في الإعداد العلمي والفني للاختبارات وفق ما توافر للمؤسسة من خبرات محلية وعالمية ،ولك َّن الجهد الأكبر ُيب َذل في إدارة عمليات الامتحان ،والحيلولة دون تس ُّرب الأسئلة ،ومنع الغ ِّش في قاعات الامتحانات ،وغير ذلك .ور َّبما نستطيع القول إ َّن جزء ًا كبير ًا من هذه الجهود ناتج من افتراض عدم الثقة بأمانة الإنسان ونزاهته. و ُت َع ُّد مواسم الامتحانات العامة في معظم مجتمعاتنا مواس َم طوارئ وظروف ًا استثنائي ًة؛ نتيجة حالة القلق التي يم ُّر بها الطلبة ،وتعانيها أسرهم ،وخطورة ما يمكن أ ْن يقع فيها من خلل ُيسيء إلى ُسمعة المجتمع بأكمله ،وأهمية ما ُيبنى على نتائج الامتحان من قرارات ،في العمل ،أو مواصلة الدراسة الجامعية. ونكتفي بالإشارة هنا إلى عدد من الملحوظات التي ر َّبما تصف الحالة السائدة للتقويم التربوي في بلادنا: أ .إ َّن التقويم التربوي في كثير من الأحيان يعني تقويم أداء ال ُمتع ِّلم في المادة التي تع َّلمها ،وقليل من الاهتمام يتو َّجه إلى عناصر مهمة ُأخرى في العملية التربوية، حيث يكون من المهم تقويم فعالية ال ُمع ِّلم ،والمناهج والمواد التعليمية ،والبيئة التعليمية ،والإدارة التعليمية ،والفلسفة التربوية ،وغير ذلك. ب .إ َّن معظم أدوات التقويم ووسائله تتو َّجه إلى الجانب ال َك ِّمي في تع ُّلم الموضوعات العلمية ،وتعتمد معيار ًا أساسي ًا هو المح ُّك الذي يقاس به مقدار هذا التع ُّلم ،على افتراض أ َّن الح َّد الأعلى من مقدار التع ُّلم هو العلامة مئة ،ث َّم النظر فيما ح َّصل ال ُمتع ِّلم من هذا الح ِّد الأعلى .مع العلم بأ َّن َث َّمة معايي َر ُأخرى ذات أهمية بالغة ،منها معيار النمو والتح ُّسن ،الذي تقاس به معرفة ال ُمتع ِّلم قبل العملية التعليمية وبعدها، ور َّبما تقاس على مراحل لمعرفة مدى النمو والتق ُّدم من مرحلة إلى ُأخرى .ومن هذه المعايير كذلك معيار الوسط المعياري لمجموعة ال ُمتع ِّلمين ،الذي يقاس به متوسط معرفة ال ُمتع ِّلمين قبل عملية التعليم وبعدها لمعرفة درجة النمو عند مجموعة ال ُمتع ِّلمين ،بحيث يقاس تع ُّلم الفرد منهم بالقياس إلى المجموعة. 357
ت .إ َّن معظم أساليب التقويم وأدواته تقيس كمية المعلومات ،وق َّلما تهتم بقياس م َّدة تم ُّثل القيم والاتجاهات والفضائل ،ب ُح َّجة أ َّن هذه الأهداف التربوية ُيت َرك أمر متابعتها للأسرة ،أو ب ُح َّجة صعوبة قياس مدى تح ُّقق هذه الأهداف ،أو ب ُح َّجة أ َّن هذه الأهداف تقاس بأساليب كيفية ،وأ َّنه ليس لدينا الأدوات المناسبة لهذا الغرض. ث .إ َّن ما يلفت الانتباه إلى نتائج التقويم هو الاهتمام بمعرفة ما لا ُي ْح ِسنه ال ُمتع ِّلم، ولا شك في أهمية ذلك؛ لما له من أثر في تصميم المواقف التعليمية العلاجية، لأفراد من الطلبة .ولك ْن ما قد يكون أكثر أهمي ًة هو ما ُي ْح ِسنه ال ُمتع ِّلم ،وما َيلزم أ ْن يكون موضع استثمار للقدرات المتم ِّيزة ،وتوفير ُفرص الاهتمام بالمبدعين؛ فر َّبما نجد كثير ًا من الطلبة الذين ُيب ِدع ك ٌّل منهم في مجال دون الآخر .واستثمار هذه الإبداعات هو خدمة وتطوير في المجتمع كله .وفي سيرة النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم مع أصحابه كثي ٌر من مثل هذه المواقف التعليمية ،التي تتض َّمن الكشف عن جوانب التم ُّيز عند آحاد الصحابة ،وتدعو مجتمع الصحابة إلى توظيف هذا التم ُّيز. .3نظام الجودة في التعليم : يخت ُّص مفهوم \"الجودة\" بإتقان العمل وفق مواصفات مح َّددة .وهذا المفهوم ُمغ ِرق في ال ِقدم ،وقد عرفته الحضارات القديمة ،وتح َّدثت عنه الأديان ،وأصبح حافز ًا في التنافس التجاري والصناعي ،وتش َّكلت له فلسفة وإدارة مح َّددة في اليابان اعتبار ًا من عام 1962م، وذلك في مجالات الإدارة والصناعة والاقتصاد .ث َّم انتقل المفهوم إلى الولايات المتحدة في السبعينيات ،وشاع في الثمانينيات بالبلدان الأوروبية ،وما تأ َّثر بها من البلدان الأُخرى. وقد عرفت الأدبيات التربوية في العقود الأخيرة مفهوم \"الجودة في التعليم\" ،مستورد ًا من عا َلم الصناعة ،ودخل مفهوم \"الجودة\" المجال التربوي في البلدان الغربية؛ نتيجة الشعور بحاجة التعليم إلى التطوير في ضوء التغ ُّيرات العالمية في أسواق العمل ،ونوعيات الموارد البشرية التي تطلبها هذه الأسواق ،واتجاهات العولمة ،وضغوط القوى المهيمنة. وهناك مشكلات تواجه الدعوة إلى اعتماد نظام الجودة؛ إذ يتط َّلب تطبيقه وجود نفقات كبيرة جد ًا ،لتوفير البيئة اللازمة للجودة في نماذجها العالمية؛ من :موارد مادية وبشرية، 358
وعمليات تجهيز وتدريب تعجز عن توفيرها كثير من المجتمعات ،التي تكافح من أجل توفير الح ِّد الأدنى من التعليم الأساسي ،والتي تجعلها ترى معايير الجودة ترف ًا لا تتط َّلع إليه .ولذلك تتط َّلب معايير الجودة وجود ثقافة للجودة على الصعيد الاجتماعي العام قد تستدعي تطوير معايير للجودة مختلفة عن المعايير التي تشترطها المؤسسات الدولية. ومع ذلك ،فإ َّن الخبرة التربوية المعاصرة في هذا المجال هي مصدر من مصادر الفكر التربوي المعاصر ،التي يمكن الاستئناس بها ،والإفادة منها ،وتطوير معايير ومؤ ِّشرات ُتعنى بالأبعاد ال َك ِّمية والكيفية في ضوء ثقافة خاصة للجودة ،تستند إلى مبدأ الإتقان والإحسان في مرجعيته الإسلامية. .4مفاهيم إسلامية تخت ُّص بالتقويم: إ َّن م ّما َينقص أساليب التقويم في الممارسات التربوية النظ َر في بعض المفاهيم الإسلامية التي لم تأخذ ح َّظها من الاهتمام .ومن ذلك مفهوم \"الإتقان\" ،و\"الإحسان\"، و\"المحاسبة\" .ومع أ َّننا نجد في أدبيات التقويم الحديثة بعض الكلام عن مفهوم \"التع ُّلم الإتقاني\" ،Mastery Learningفإ َّن هذا المفهوم ينصرف إلى الجانب ال َك ِّمي ،وإلى المح ِّك الذي يتم تحديده بسقف مح َّدد؛ كأ ْن تتع َّلم نسبة معينة من الطلبة ( %80مثل ًا) مقدار ًا معين ًا من الح ِّد الأعلى للتحصيل ( %80مثل ًا) .وبالرغم من فائدة هذا النوع من التقويم ،فإ َّنه لا يزال تقويم ًا َك ِّمي ًا من جهة ،ولا يزال يضع ح ّد ًا أعلى لما يمكن تحصيله .ولع َّل المفهوم الإسلامي لهذا الاتجاه في التقويم يرشد بمفهوم \"الإحسان\" في ثلاث دلالات: أ .دلالة تمييز مرتبة معنى الإحسان ،مقارن ًة بمعنى الإسلام ومعنى الإيمان ،كما جاء في الحديث الشريف\" :هذا جبريل جاء ُيع ّلم الناس دينهم (((\".فالإحسان هو شعور الإنسان بحضور الله سبحانه الدائم في قلبه؛ ما يجعل المؤمن يعبد الله كأ َّنه يراه. ولا شك في أ َّن ارتقاء المؤمن إلى هذه المرتبة يجعله يجتهد في الوصول بمستوى العمل والإنجاز إلى درجة أعلى بكثير م ّما يصل إليه إنجازه تحت مراقبة ُأخرى. ((( البخاري ،صحيح البخاري ،كتاب :الإيمان ،باب :سؤال جبريل النبي ﷺ عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة ،حديث رقم )50( :ص.51 359
ب .دلالة التحسين المستمر في الأداء والإنجاز؛ ففي التعليم يشعر ال ُمتع ِّلم أ َّن هناك دائم ًا مستوى من العلم يظل أعلى م ّما وصل إليه أ ُّي عالِم؛ إذ يعلم أ َّنه ﴿ﯖﯗﯘﯙﯚ﴾ [يوسف .]76:ولذلك لا ينف ُّك عن الاستجابة للدعاء الذي أمره به الله في قوله﴿ :ﭠﭡﭢﭣ﴾ [طه .]114:فبعد التد ُّين وحضور النصوص الدينية في عقله ووجدانه ،فإ َّن ذلك يم ِّثل إضاف ًة نوعي ًة إلى أ ِّي دوافع ُأخرى للتع ُّلم؛ فطلب الزيادة في العلم هو خط سي ٍر متصل بلا نهاية ،تتواصل معه عملية النمو والارتقاء وتحسين الأداء. ت .دلالة الإبداع والاكتشاف والاختراع؛ ففي خط السير المشار إليه آنف ًاَ ،ث َّمة محطا ٌت في الطريق ،تتط َّلبها حالة الفرد وحالة المجتمع؛ إذ توجد مشكلات مستعصية تحتاج إلى ح ٍّل ،وتوجد كذلك أسئلة مقلقة تبحث عن إجابات ترفع ذلك القلق ،وتوجد أيض ًا ُمعيقات تمنع التق ُّدم .والجهد المطلوب في مثل هذه الحالات هو جهد ُمر َّكز يتط َّلب من الفرد قدر ًا من التف ُّرغ والتب ُّحر والتخ ُّصص لإحداث اختراق في الحالة ،ويتط َّلب من المجتمع وضع الخطط اللازمة لحشد الكفاءات وتطويرها ،وتهيئة البيئة النفسية والعملية والمادية ،التي تم ِّكن الباحث الفرد أو فريق الباحثين من التو ُّجه إلى المشكلة فيما ُيشبِه رأس السهم ،ومواصلة المحاولة حتى يتم اكتشاف الح ِّل المناسب ،أو اختراع الوسيلة المطلوبة .وأمام المؤمن في هذه الحالة أمثلة قرآنية هادية ،منها :نبي الله نوح في بناء السفينة بعيد ًا عن البحر ،وموسى عليه السلام في خطة الإنقاذ الاقتصادي ،ونبي الله داود في صناعة الدروع ،وذو القرنين في هندسة البناء وتشكيل المعادن .وغير ذلك. ختام ًا ،فإ َّن محاسبة النفس هي أسلوب من أساليب تربيتها وتأديبها .وقد عرفت الثقافة الإسلامية مصطلح \"المحاسبة\" الذي يعني تخصيص الإنسان وقت ًا ُيق ِّوم فيه نف َسه كل يوم ،فيراجع ما فعله في ذلك اليوم ،وما لم يفعلهُ ،مستذ ِكر ًا الجوانب التي أحسن فيها أو أساء ،وكذلك عوامل الإحسان ليزيد منها ،وأسباب الإساءة ليح َّد من أثرها .ومعظم أدبيات المحاسبة تشير إلى مواقف يوم الحساب في الآخرة ،ومحاسبة النفس استعداد ًا 360
لذلك اليوم ،ولك َّن الحساب وقتئ ٍذ هو على أعمال الدنيا .وقد عرفنا أ َّن مقص َد َخ ْل ِق الإنسان في هذه الدنيا هو العبادة والعمران ،وأ َّن ك َّل أعمال الإنسان يمكن أ ْن تدخل ضمن مفهوم \"العبادة\" وفق الن ِّية وحسن العمل. خاتمة: إ َّن قيمة الفكر التربوي الإسلامي لا تنحصر في الحالة التي يكون عليها المجتمع الإسلامي ،وإ َّنما تمتد لتشمل ال ُب ْعد الحضاري الإنساني لهذا الفكر ،الذي تبحث عنه كثير من مجتمعات العا َلم في كل زمان ،ولك َّن المجتمع الإسلامي لن يستطيع أ ْن يق ِّدم هذا الفكر للآخرين وهو فاق ٌد لقيمة هذا الفكر .وقيم ُته ليست في صحته ،وإ َّنما في صلاحيته للزمان والمكان والحال ،وفي أثره وفاعليته في المجتمع الإسلامي .وهذه الفاعلية هي لسان خطابه للآخرين؛ ففاقد الحضارة لا يعطيها . وتكمن فاعلية الفكر التربوي الإسلامي في الروح التي يب ُّثها في حياة المجتمع الإسلامي وممارساته ،والتي تجعل للمعرفة الإسلامية والقيم الإسلامية نور ًا يش ُّع على العا َلم المعاصر ،فيرى هذا العا َلم: -القيم الإسلامية واقع ًا فاعل ًا في حياة الناس في المجتمع. -أركان الإيمان عند المسلمين التي تجيب عن الأسئلة النهائية التي طالما أقلق غيا ُبها فك َر الإنسان. -صور التح ُّضر في واقع المجتمع الإسلامي التي تشمل متط َّلبات العمران المعنوي؛ حري ًة وعدلاً وكرام ًة ،ومتط َّلبات العمران المادي؛ تيسيرا ٍت وتسهيلا ٍت ومناف َع. وتتم َّثل أبرز مشكلات التعليم الديني في أ َّن كثير ًا من ممارساته يجري توارثها من أزمان سابقة ،ويجري نقلها من مكان إلى آخر دون التك ُّيف مع ظروف المكان الجديد. و ِم ْن َث َّم ،فلا نجد عند الممارسين صور ًا مختلف ًة ع ّما ألفوه مكتوب ًا ،أو خبروه في حياتهم التعليمية التي تتصف بقدر كبير من المحافظة والتقليد ومقاومة التجديد. 361
إ َّن كثرة مظاهر التخ ُّلف في واقع المسلمين اليوم تؤ ِّكد أ َّنهم افتقدوا بركات الصلة الوثيقة بين أحكام الشريعة ومقاصدها؛ فهم إ ّما أ َّنهم ع َّطلوا العمل بهذه الأحكام ،وإ ّما أ َّنهم أعملوها دون اعتبار مقاصدها .وفي كلتا الحالتين ،فإ َّنهم لم يحظوا بتلك المقاصد، فافتقدوا المنافع التي كان يمكن أ ْن تجلبها لهم تلك الأحكام ،وامتلأت حياتهم بالمفاسد التي كان يمكن أ ْن تدرأها عنهم. ونحن لا نجد في دين أو ثقافة من النصوص والتوجيهات؛ من تأكيد أهمية النظافة والطهارة في مظهر الإنسان؛ في :ال َبدن ،والثياب ،والمكان ،وأفنية المنازل ،والطرق ،وغير ذلك؛ ما نجده في نصوص الإسلام وتوجيهاته ،حتى إ َّن قارئ هذه النصوص والتوجيهات من غير المسلمين يتوقع أ َّنه إذا زار مدين ًة ،ورأى فيها النظام والنظافة والأناقة والجمال بصورة لافتة ،فقد يستنتج أ َّنه دخل مدينة من مدن المسلمين! فما معنى أ ْن تنتشر النفايات في شوارع وأحياء كثير من المدن العربية والإسلامية، وتنبعث منها الروائح الكريهة ،رغم وجود العاملين على النظافة ،ور َّبما كثرتهم؟ وفي الختام ،فمن المؤ َّكد أ َّن برامج التعليم -في موضوعاته ومراحله -تتض َّمن هذه النصوص ،وأ َّن أكثر الناس يحفظونها .ولك ْن ،ألا يعني ذلك أ َّن َث َّمة مشكل ًة كبير ًة تخت ُّص بطرق تعاملنا مع مقاصد التربية؟! 362
الفصل الخامس موضوعات الفكر التربوي مقدمة المبحث الأول :حوار الفكر والعلم في الموضوعات التربوية . المبحث الثاني :خريطة موضوعات المحتوى التربوي أولاً :موضوعات بناء الأمة ثاني ًا :موضوعات القضايا المثارة ثالث ًا :موضوعات الزاد الفكري للرؤية الكلية رابع ًا :العلوم المنهجية. المبحث الثالث :علوم التربية وموضوعاتها في الرؤية الإسلامية أولاً :المقصود بالفرع العلمي ثاني ًا :نشأة فروع علم التربية ثالث ًا :النظرية التربوية والفلسفة التربوية رابع ًا :موقع الإسلام في علوم التربية المبحث الرابع :القيم في علوم التربية أولاً :ضرورة الاهتمام بموقع القيم في علوم التربية ثاني ًا :افتراضات الاهتمام بالقيم في علوم التربية ثالث ًا :تعليم القيم في الجامعات رابع ًا :التربية على القيم خاتمة
الفصل الخامس موضوعات الفكر التربوي المعاصر مقدمة: يتفق جمهور التربويين على أ َّن أركان العملية التربوية (أو عناصرها ،أو مك ِّوناتها) أربعة ،هي :ال ُمع ِّلم ،وال ُمتع ِّلم ،والعلم (أو المنهاج التربوي) ،وبيئات التربية (مؤسسات الأسرة ،والمدرسة ،والفضاء الاجتماعي)...؛ ويتفق معظمهم على أ َّن عناصر المنهاج أربعة ،هي :الأهداف ،والمحتوى ،والأنشطة التعليمية ،والتقويم .وقد تب َّوأ المنهاج التربوي أهمي ًة كبيرة في العلوم التربوية حتى أصبح ِع ْلم ًا واسع ًا يس ّمى علم المناهج التربوية ،وظهرت فيه كتب كثيرة باللغات المختلفة ،وجاءت هذه الكتب بعناوين مختلفة، انعكس بعضها في عناوين المساقات الدراسية الجامعية ،أو انعكست عناوين هذه المساقات عليها ،مثل :تصميم المنهاج ،وأسس المنهاج ،وتطوير المنهاج ،وتنظيمات المنهاج ،والمنهاج التربوي :أسسه ،وعناصره ،وتطبيقاته ،وغيرها. لقد كان حديثنا في الفصل السابق عن مقاصد التربية ،أو ما ُيع َرف بأهداف التربية بمستوياتها المختلفة ،بوصفها العنصر الأول من عناصر المنهاج ،وق َّدمنا إشارات عابرة عن ك ٍّل من عنصر الوسائل والأنشطة التعليمية ،وعنصر التقويم التربوي بحكم صلتهما المباشرة بالأهداف والمقاصد .وسنخ ِّصص هذا الفصل الخامس للحديث عن موضوعات الفكر التربوي ،وهو العنصر الثاني من المنهاج ،متصل ًا بالمعنى الأكثر شيوع ًا للمنهاج ومحتوى المنهاج مع المعالجة التي نجدها مناسبة له ،إ ْن شاء الله. وقد اشتمل مفهوم \"المنهاج التربوي\" على معا ٍن ِع َّدة ،ث َّم تط َّور المفهوم مع تط ُّور الفكر التربوي ،وأصبح المعنى الأكثر شهرة له هذه الأيام هو\" :مجموعة الخبرات التي يم ُّر بها ال ُمتع ِّلم ضمن الخطة التي ُتش ِرف المؤسسات التعليمية النظامية على تنفيذها\". وتعريف المنهاج بدلالة الخبرات التربوية يعني إبراز الموقع النشط والحيوي لل ُمتع ِّلم في العملية التعليمية؛ فهو ليس الكائن البشري الذي ُيلقى إليه العل ُم ،فيأخ َذه ،ويختز َنه بصورة سلبية؛ ذلك أ َّن التعليم -في واحد من أهم معانيه -هو تفا ُعل ال ُمتع ِّلم مع البيئة التعليمية 365
التي ُت َع ُّد لهذا الغرض .والتفا ُعل هو مشاركة واعية ،فيها تأ ُّثر وتأثير .وإذا كان التأ ُّثر يعني حالات التغ ُّير الذي تحصل لل ُمتع ِّلم ،فإ َّن التأثير يظهر في حالات ِع َّدة ،منها :الحالة التي يعطيها ال ُمتع ِّلم للمادة التعليمية ،وحالة ال ُمع ِّلم عندما ُيك ِّيف الموقف التعليمي في ضوء استجابات ال ُمتع ِّلم. وحين نشير إلى ارتباط الخبرة التعليمية التي يكتسبها ال ُمتع ِّلم بدوره النشط في عملية التع ُّلم ،فإ َّننا نؤ ِّكد كذلك أ َّن الأركان الثلاثة الأُولى للعملية التربوية (ال ُمع ِّلم ،وال ُمتع ِّلم، والمنهاج) هي في حالة تفا ُعل؛ تأ ُّثر ًا وتأثير ًا ،ولا نتخ َّي ُلها مستقل ًة عن بعضها بعض ًا. وتتصل حالة التفا ُعل هذه في نوعها ودرجتها بالركن الرابع ،وهو البيئة التعليمية؛ إذ تؤ ِّثر هذه البيئة في السقف الذي يمكن أ ْن يصل إليه التفا ُعل .وتتك َّون هذه البيئة التعليمية من مجمل العناصر البشرية والمادية والنفسية والاجتماعية؛ فمكان التعليم وتجهيزاته المادية جزء من البيئة ،وحالة ال ُمع ِّلم وتكوينه العلمي والمهني والنفسي جزء من البيئة ،وعدد الطلبة ونوعياتهم جزء من البيئة ،والثقافة الاجتماعية السائدة في الوسط التعليمي جزء من البيئة ،وحالة المجتمع السياسية والاقتصادية والإعلامية جزء من البيئة ،والطريقة التي يتفاعل فيها المجتمع مع المحيط العالمي جزء من البيئة. وللخبرات التعليمية أنواع ِع َّدة ،منها الخبرة المباشرة التي تعني التعامل الشخصي مع الأشياء والأحداث والمواقف ،ولك َّن ال ُفرص المتاحة لها في البيئات التعليمية التقليدية قليلة ،وتتج ّلى هذه ال ُفرص غالب ًا في النشاطات العلمية ،أو الرياضية ،أو الثقافية، أو الاجتماعية التي تتم في المرافق المدرسية ،كما في المختبر ،والمسرح ،والملعب، وغيرها .بيد أ َّن معظم الخبرات التعليمية المدرسية هي خبرات غير مباشرة يسمعها الطالب من ال ُمع ِّلم ،أو يقرأها في كتاب ،وقد يصيب هذه الخبرة بعض التط ُّور عندما يرى الطالب موضوعها في فيلم ،أو مقطع فيديو لحادثة حقيقية. وتقع الخبرات في درجات متفاوتة من التجريد الذهني والعقلي؛ فقد تكون خبرات حسية ناتجة عن تفا ُعل منافذ الإحساس البشري بالمشاهدة البصرية والسمعية والتعامل اليدوي ،وقد تكون خبرات مج َّردة يتم تبادلها عن طريق اللغة والرموز ال ُمع ِّبرة. 366
وإذا كان المنهاج بعناصره الأربعة (الأهداف ،والمحتوى ،والأنشطة ،والتقويم) هو خبرات تعليمية يكتسبها ال ُمتع ِّلم نتيجة العملية التعليمية ،فأين موضع المحتوى في هذه الخبرة؟ يظهر المحتوى عادة في المواد التعليمية التي يتك َّون منها البرنامج التعليمي؛ فعن طريق هذه المواد يكتسب ال ُمتع ِّلم خبر ًة في اللغة ،وخبر ًة في الأشياء المادية ،وخبر ًة في العلاقات الاجتماعية ،وخبرا ٍت متن ِّوعة ُأخرى .وتتج ّلى هذه الخبرة في صورة معلومات ومعارف ،ومهارات عقلية وعملية ،واتجاهات نفسية وانفعالية .وقد سبق أ ْن رأينا في الفصل السابق أ َّن مقاصد التربية وأهدافها هي اكتساب هذه المعلومات والمهارات والاتجاهات .ويبقى علينا أ ْن نلاحظ أ َّن َث َّمة موضوعا ٍت مح َّدد ًة في أ ٍّي من هذه المعلومات ،أو المهارات ،أو الاتجاهات ،فما هذه الموضوعات؟ وعلى ذلك يكون موضوع هذا الفصل هو الموضوعات أو المواد التعليمية التي يكون تعليمها وسيلة لتحقيق الأهداف والمقاصد التربوية. 367
المبحث الأول حوار الفكر والعلم في الموضوعات التربوية وجدنا من المناسب الحديث عن موضوعات الفكر التربوي الإسلامي ضمن مدخلين؛ الأول :مدخل فئات الفكر ،والثاني :مدخل فئات العلم .وقد استخدمنا المدخل الأول في كتابنا \"البناء الفكري\" ،وتح َّدثنا هناك عن مجالات الخصوص والعموم بين الفكر والعلم؛ فكل ما ُتنتِجه عملية التفكير هو فكر ،وكل ما يتع َّلمه الإنسان هو علم، ولك َّن المرجعية القرآنية التي نحاول أ ْن نعتمدها هنا -وفي كل ما نكتب إ ْن شاء الله -م َّيزت بين الفكر والعلم؛ إذ لم َي ِر ْد لفظ \"الفكر\" في القرآن الكريم إلا بصيغة الفعل ،منسوب ًا إلى الإنسان؛ فالفكر ،أو التف ُّكر ،أو التفكير فع ٌل إنساني .بينما ورد لفظ \"العلم\" بصيغة الفعل وصيغة الاسم ،منسوب ًا إلى الله ع َّز وج َّل ،وإلى الملائكة ،وإلى الأنبياء ،وإلى الإنسان. وتأسيس ًا على ذلك ،فإ َّن: -علم الله سبحانه هو العلم الواسع الذي وسع كل شيء (((،وهو العلم المحيط(((. و ِمن علم الله ما هو عل ٌم مطلق خاص به سبحانه ،لا يعلمه غيره (((،ولكنَّه ُي ْط ِلع َمن شاء ِمن رسله على ما يشاء ِمن علمه ليب ِّلغوا رسالاته إلى الناس(((. -علم الملائكة هو شي ٌء م ّما ع َّل َمهم الله سبحانه ،ويفعلون به وفق ما يؤمرون(((. -علم الرسل هو كذلك شي ٌء م ّما ع َّل َمهم الله سبحانه لتبليغ رسالته ،وهداية الناس. -علم الإنسان هو كذلك شي ٌء م ّما ع َّل َمه الله سبحانه للناس منذ عهد أبيهم آدم(((، ((( ﴿ﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ﴾ [طه.]98 : ((( ﴿ﰃﰄﰅ ﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏ ﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚ ﰛ﴾[الطلاق.]12 : ((( ﴿ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﰇﰈﰉﰊﰋﰌ﴾ [الأنعام.]59 : ((( ﴿ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐ ﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗ﴾ [الجن.]28-26 : ((( ﴿ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ﴾ [البقرة.]32 : ((( ﴿ﭰﭱﭲﭳ﴾ [البقرة.]31 : 368
ث َّم أرسل إليهم الرسل والأنبياء ليع ِّلموهم ُسبل الهدى (((.وقد ز َّود اللهُ الإنسا َن بوسائل اكتساب العلم ،وطلب منه السعي في التر ّقي في العلم (((،وم َّكنه أ ْن يع ِّلم بع َض أنواع الحيوان شيئ ًا من العلم(((. نلاحظ أ َّن لفظ \"العلم\" في القرآن الكريم يتسع لكل هذه الأنواع المذكورة آنف ًا ،ولك َّن لفظ \"الفكر\" كان مقصور ًا على الإنسان الذي م َّيزه الله عن سائر مخلوقاته بملكة التف ُّكر والتفكير .وقد جاءت الإشارات إلى التف ُّكر في القرآن الكريم في ثمانية عشر موقع ًا ،وفي ست صياغات لفظية ،هي( :يتف َّكرون)( ،تتف َّكرون)( ،ويتف َّكرون)( ،تتف َّكروا)( ،يتف َّكروا)، (ف ِّكر) .والسياق الذي ورد فيه لفظ (ف ِّكر) َم َّر ًة واحد ًة كان سياق َذ ٍّم ل َمن أعمل عقله في التف ُّكر ،لا ليصل إلى الغاية الصحيحة ،وإ َّنما ل ُيم ِعن في الضلال والانحراف .وفي جميع المواقع الأُخرى جاء الفعل (يتف َّكر) الذي يفيد تكرار الفعل طلب ًا لغاية نبيلة ،وك ُّلها مواقع دعوة ربانية للوصول إلى الغاية الصحيحة عن طريق عملية التف ُّكر. وعندما تح َّد ْثنا عن الفكر في كتاب \"البناء الفكري\" كان الاهتمام منص ّب ًا على نتيج ِة عملية التفكير؛ وهي ال ِف ْكر ،فب َّينّا هناك مفهو َم \"الفكر\" ،ومستوياتِه ،والخرائ َط التي تم ِّثل مصاد َره، وموضوعاتِه ،وطر َق اكتسابِه وقيا ِسه ،وتاري َخه وجغرافي َته ،وضواب َط قبوله .واجتهدنا في بناء خريطة عامة للفكر ،تشمل خرائط فرعية لمصادر الفكر ،وأدواته ،وموضوعاته (((.والخريطة في السياق الذي نحن فيه هي تمثيل تخطيطي لمجموعة من العناصر المترابطة فيما بينها، ُتب ِّين نوع هذه العناصر ،وحجومها النسبية ،والعلاقات بينها (((.والخريطة ال ُمب َّينة في الشكل الآتي ُتو ِّضح موضع خريطة موضوعات الفكر ضمن خرائط ُأخرى للبناء الفكري. ((( ﴿ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ﴾ [البقرة.]38 : ((( ﴿ﭠﭡﭢﭣ﴾ [طه.]114 : ((( ﴿ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ﴾ [المائدة.]4 : ((( الخريطة في اللغة من َخ َر َط الأشيا َء؛ أ ْي :جم َعها في خريطة ،والخريطة وعاء من جلد أو نحوهُ ،ي َش ُّد على ما فيه .انظر: -مجمع اللغة العربية .المعجم الوسيط ،القاهرة :مجمع اللغة العربية ،ط1972 ،2م ،ص.251-250 ((( للخريطة موضوع مح َّدد يتو َّجه إلى خصائص العناصر المك ِّونة لها؛ فخريطة الكرة الأرضية تب ِّين خطوط الطول والعرض ،والقارات ،والمحيطات ،والأنهار؛ والخريطة الجغرافية لبلد تب ِّين خصائص مساحات الأرض، وما فيها من جبال ،وأودية ،وسهول ،وصحا ٍر ،وأنهار ،وبحار ،وبحيرات ،وطرق؛ والخريطة السياسية لدولة تب ِّين حدودها ،ومدنها ،وتقسيماتها الإدارية ،وطرقها؛ وخريطة الطقس تب ِّين كتل الغيوم والأمطار وكثافتها، واتجاهات الرياح وسرعها ،ودرجات الحرارة والرطوبة ،وهكذا. 369
ونحن حين نعيد الإشارة إلى الفكر والبناء الفكري في سياق الكتابة عن موضوعات الفكر التربويَ ،ي ُه ُّمنا أ ْن ُنذ ِّكر بثلاث مسائل؛ الأُولى :أ ْن نبقى على ذكر من دلالات الفكر والعلم في المرجعية القرآنية ،والثانية: أ ْن نتف َّكر في الدلالة الاصطلاحية المعاصرة لك ٍّل من العلم والفكر، وموقعهما في التربية والتعليم، والثالثة :أ َّن المستهدف بخطاب الله سبحانه في الفكر والعلم هو الإنسان ال ُمك َّلف؛ فرد ًا ،وأسر ًة ،ومجتمع ًا ،و ُأ َّم ًة .فك ُّل هؤلاء َم ْعنِ ّيون بالتربية والتعليم؛ فهم آباء و ُأ َّمهات ،وطلبة و ُمع ِّلمون ،و ُمؤ ِّلفون للمناهج والكتب ،وعاملون في الإدارة والتدريب في مؤسسات التعليم العام والتعليم الجامعي. وموضوعات الفكر التربوي التي نتوقع من هؤلاء ال َم ْعنِ ّيين بالتفكير فيها تتض َّمن فيما تتض َّمنه العلوم والمهارات والاتجاهات اللازمة لك ٍّل م ّما يأتي: -محتوى برامج الثقافة الأسرية والتربية الوالدية التي يتع َّين على الآباء والأُ َّمهات أ ْن ُي ِل ّموا بها في تنشئة أطفالهم وتربيتهم. -محتوى المناهج والكتب الدراسية (المدرسية ،والجامعية) ضمن الحقول العلمية والمعرفية المتخ ِّصصة. -طرق وأساليب تدريس ذلك المحتوى ،وتقويم أداء الطلبة في ضوء الأهداف المح َّددة للتعليم. -متط َّلبات البيئة التعليمية والتربوية في الأسرة ،والمدرسة ،والجامعة. 370
-طبيعة الإنسان ،ومراحل نموه الجسمي ،والعقلي ،والنفسي ،والاجتماعي؛ وعملية التع ُّلم؛ واكتساب ال ُمتع ِّلم العلوم والمهارات والاتجاهات في مراحل نموه المختلفة. فك ُّل هذه هي موضوعات للتفكير وبناء الفكر التربوي ،ومن الواضح أ َّن الإلمام بهذه الموضوعات لا يتم في مؤسسة واحدة ،أو في مرحلة واحدة ،وإ َّنما يتم على مدى حياة الإنسان؛ إذ يم ِّثل ذلك خبرة حياتية لا تتوقف .وحين تتو ّلى المؤسسات التعليمية التخطي َط لعملية اكتساب هذه الخبرة ،فإ َّنها تضع في حسبانها المهمات التي يقوم بها التعليم النظامي ،والتعليم غير النظامي ،والتعليم اللانظامي (((.وسوف َيلزم تحديد موضوعات التعليم والتربية التي يمكن اكتسابها في كل نوع من أنواع التعليم الثلاثة المشار إليها. وتقترح خريطة موضوعات الفكر المشار إليها آنف ًا تصنيف موضوعات الفكر التربوي في ثلاث فئات :موضوعات بناء الأُ َّمة ،وموضوعات بناء الرؤية الفكرية ،وموضوعات القضايا المتج ِّددة ،كما سنُب ِّين ذلك لاحق ًا. وقد يكون من المفيد أ ْن نذكر أ َّن \"الفكر\" مصطلح غير ُمر َّحب به في بعض أوساط المتخ ِّصصين في العلوم الشرعية؛ إذ يجعلون لفظ \"العلم\" َأ ْولى بالاستعمال والاهتمام، علم ًا بأ َّن الفرق بين الفكر والعلم لا يتصل بالموضوع ،وإ َّنما يتصل بمستوى المعالجة؛ لأ َّن الموضوع في الحالتين قد يكون مسألة من مسائل العقيدة ،أو العبادة ،أو المعاملات. فعندما نتعامل مع الموضوع في المستوى الثقافي للتعامل مع المسألة يكون مصطلح \"الفكر\" هو الأقرب إلى الدلالة ،وعندما نتعامل مع الموضوع في مجال الأحكام الشرعية المتخ ِّصصة يكون مصطلح \"العلم\" أقرب إلى الدلالة. ومن المؤ َّكد أ َّن الأصل هو العلم بالمسألة الشرعية؛ فهو أسبق في الاكتساب ،ث َّم يكون العلم زاد ًا للفكر .ولا نتخ َّيل مف ِّكر ًا ليس له نصيب من العلم في المسألة التي يتح َّدث ((( التعليم النظامي Formal educationالذي ُيما َرس في المدارس والجامعات ومؤسسات التدريب المهني بصورة مبرمجة ينتهي بشهادة .والتعليم غير النظامي Informal educationالتي يتم في النشاطات وخبرات الحياة في الأسرة والإعلام ومؤسسات المجتمع ،ويتم بصورة عرضية غير مبرمجة وغير مقصودة؛ ليس فيه شهادات. والتعليم اللانظامي Non-Formal educationهو تعليم مبرمج مقصود -إلى ح ٍّد ما -في مؤسسات التدريب وتنمية القدرات المهنية وتطوير الأداء في النقابات والجمعيات الأهلية. 371
عنها حديث ًا فكري ًا ثقافي ًا .وقد يكون حامل العلم باذلاً له؛ علم ًا ،وفكر ًا ،وثقاف ًة ،ويستوي عنده أ ْن يس ّمى عالِم ًا ،أو مف ِّكر ًا ،أو مثقف ًا .ونجد بعض حملة العلم يق ِّدمون محفوظاتهم منه وفتاواهم في مسائله ،بصورة جيدة ،فإذا جلسوا للحوار أو النقاش في مسائل معاصرة، تختلط فيها الرؤى ،وتتضارب فيها المواقف ،لا نجد عندهم باع ًا في تنزيل محفوظاتهم من العلم عليها؛ لقصور ما لديهم من ثقافة بالواقع المعاصر ومشكلاته ،ولنقص إعدادهم وتحصيلهم في البدائل و\"السيناريوهات\" المتاحة ،وغير ذلك من أشكال التفكير الاستشرافي المستقبلي ومآلات الأمور ،وفقه الأولويات والموازنات ،م ّما َيلزم العالِ َم حتى يكون مف ِّكر ًا .ومن الشائع القول إ َّن العلم ير ِّكز على زيادة المعلومات في الموضوع، وإ َّن الفكر ير ِّكز على توسيع دائرة فهمه ،من دون أ ْن نق ِّلل من أهمية أ ٍّي منهما ،وحاجة ك ٍّل منهما إلى الآخر. وم ّما يلفت النظر أ َّن العقود الثلاثة الأخيرة شهدت حضور ًا ملموس ًا للفكر والاهتمام به ،وتنظيم الدورات الفكرية ،وانتشار الكتب الفكرية لدى ال َم ْعنِ ّيين بالعلوم الشرعية والمتخ ِّصصين فيها ،وظهور شخصيات متخ ِّصصة في العلم الشرعي تمارس التدريب في مسائل الفكر الإسلامي وتوظيف العلوم الشرعية .ومع ذلك ،فإ َّن الحاجة إلى الفكر والثقافة في المجتمعات الإسلامية لا تزال حاج ًة ُم ِل َّح ًة؛ نظر ًا لكثرة ما يسود هذه المجتمعات من مفاهيم فكرية تتصف بالجاذبية والتأثير ،رغم أ َّنها قد تكون شديدة التناقض ،وتفتقد الاستناد إلى المرجعية الإسلامية المعتبرة. 372
المبحث الثاني خريطة موضوعات المحتوى التربوي موضوعات البناء الفكري التي أشرنا إليها هي موضوعات التربية التي َيلزم أ ْن تنشأ أجيال الأُ َّمة على التفكير فيها .وتعتمد هذه التربية الفكرية على وجود بيئة تربوية تو ِّفر من المصادر والأساليب والممارسات ما يسمح ببناء رؤية إسلامية للعا َلم ،وهي رؤية كلية تم ِّكن الفرد من الوعي بذاته ،وبالبيئة المادية المحيطة به ،وبالعلاقات مع الآخرين، وتم ِّكنه كذلك من إدراك القضايا والموضوعات المثارة في الفكر البشري المعاصر، وفهمها ضمن هذه الرؤية ،بحيث تتصف عملية الإدراك والفهم بالوضوح والتكا ُمل والانسجام ،لا سيما الموضوعات التي يكثر حولها الجدل ،وتتفاوت فيها آراء عامة الناس ،والمثقفين منهم على وجه الخصوص ،ور َّبما النخب الفكرية كذلك .ونرى أ َّن الموضوعات الثلاثة الآتية لها أهمية خاصة: أولاً :موضوعات بناء الأُ َّمة: ُيق َصد بها اللغة ،والدين ،والتاريخ .و ُت َع ُّد هذه الموضوعات جذر ًا مشترك ًا في مستوياتها المناسبة ،ضمن المناهج التربوية ،في المراحل والتخ ُّصصات المختلفة؛ ذلك أ َّن هذه الموضوعات هي التي تبني الهوية الإسلامية العامة للفرد والمجتمع والأُ َّمة ،ث َّم تح ِّدد علاقة هذه الهوية بالهويات والانتماءات الفرعية الأُخرى ،مثل :الوطنية ،والقومية، والعشائرية ،والمذهبية ،وغيرها .وفيما يأتي بيا ٌن لك ٍّل من هذه الموضوعات: أ -موضوع الصلة بين اللغة والفكر هو موضوع مهم ،ولكنَّنا نكتفي -في هذا السياق- بالإشارة إلى أهمية بناء قدرة الإنسان على أ ْن يف ِّكر بلغته الأُ ِّم ،ويع ِّبر ع ّما يط ِّوره من فكر بلغة سليمة تكشف عن هويته وانتمائه ،وتم ِّكنه من التأثير الإيجابي في الآخرين .واللغة -في هذا السياق -تعني أساليب التوا ُصل والتفا ُعل اللغوي المتاحة بالمحاضرة ،والحوار ،والمقال ،والكتاب ،وغير ذلك؛ فقيمة الفكر الذي ُينتِجه المف ِّكر تكمن في فعله وأثره في الآخرين ،وكيف يتسنّى لهذا الفعل والأثر أ ْن يتح َّققا من دون التوا ُصل اللغوي المناسب؟ ويتوقع من التربية بمؤسساتها وأوساطها ومراحلها أ ْن تو ِّفر البيئة المناسبة للتوا ُصل باللغة الأُ ِّم أولاً ،وقبل كل شيء. 373
ب -لا نم ُّل من التأكيد أ َّننا ننطلق فيما نكتب من مرجعية دينية إسلامية؛ فالإسلام -في رؤيتنا -نظام توحيدي عام يشتمل على العقيدة التي تجيب عن الأسئلة الوجودية الكبرى ،وعلى الشريعة التي تف ِّصل أنظمة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ،وعلى الأخلاق التي تف ِّصل معايير التزكية الفردية والجماعية وأنماط السلوك والمعاملات .وهدف الدين الإلهي هو هداية الإنسان لتمكينه من تحقيق الاستخلاف البشري على الأرض ،وإقامة العمران ،وبذلك يتح َّقق معنى العبادة .وسوف يساعدنا هذا على تحديد فهمنا وموقفنا من الجدل الذي لا يزال دائر ًا منذ قرنين ون ِّيف عن موقع الدين في الدولة الحديثة ،والموقف الديني من أنواع المشاركة السياسية ومستوياتها .والإسلام عقيد ًة وشريع ًة وأخلاق ًا، بهذا التص ُّور ،هو -في ح ِّد ذاته -تربي ٌة للإنسان؛ لتحقيق مقاصد الحق من الخلق، و َح ِر ٌّي بالنظام التربوي ألا يغفل عن ذلك. ت -التاريخ -في هذا المقام -هو تاريخ البشر على الكوكب الأرضي ،وهو التاريخ الذي يستوعب ما كان في ِح َقبِه الزمنية من الخبرات والتجارب البشرية، والاعتبار بها .وللقرآن الكريم منهج في الحديث عن التاريخ ،بما كان فيه من أمم وأقوام وأنبياء ،وعن مسؤولية الأُ َّمة الإسلامية في صناعة الجزء المتب ّقي من تاريخ البشرية على هذه الأرض ،والشهادة على الناس .وهذه الرؤية للتاريخ ر َّبما تختلف ع ّما ألفناه من معنى التاريخ ،وطريقتنا في عرضه؛ إ َّنه رحلة البشرية، وتجربتها ،وتراثها عبر الزمن ،وما اهتدت إليه البشرية من فكر وثقافة وحضارة. وفي هذا التاريخ ،بما في ذلك تاريخ المسلمين ،أفكار ح َّية ،وأفكار م ْيتة ،وأفكار مميتة ،ينبغي التمييز بينها ،والتعامل الرشيد مع ك ٍّل منها .والأثر التربوي للقرآن الكريم في بناء رؤية للتاريخ يتج ّلى في توسيع مدارك المسلم وآفاق تفكيره، واستيعابه للحياة الدنيا ومجمل التجربة البشرية فيها. ثاني ًا :موضوعات القضايا المثارة ،وتلك التي َيلزم أ ْن تثار: ينقل الإعلام المعاصر -بوسائله الف ّعالة -للناس أخبار ًا وأحداث ًا من كل أنحاء العا َلم ،ويثير معها قضايا مح َّددة ،ومشكلات تتج َّدد من يوم إلى آخر ،حيث يتواصل الجدل حولها ،و ُيط َلب إلى التربية الفكرية أ ْن تبني عند الفرد فهم ًا لها ،وموقف ًا منها .ومن هذه الموضوعات على سبيل المثال: 374
أ -الفهم الإسلامي الإجمالي للآخر غير الإسلامي داخل المجتمع المسلم وخارجه، وتحرير مفاهيم \"التع ُّدد\" و\"التعا ُيش\" و\"التحا ُلف\" ،وأحكام العلاقات الدولية مع الدول والمنظمات العالمية ،وغير ذلك. ب -قضايا المرأة؛ حقوقها ،وواجباتها ،وعملها. ت -قضايا الاقتصاد ،والتنمية ،والبنوك. ث -قضايا الإعلام المعاصر ،وأثره في صناعة الرأي العام ،أو إحداث الفوضى الفكرية ،والتمييز بين الخبر الصحيح والإشاعة الكاذبة ،والأغراض التي من أجلها ُتن َشر الأخبار. وهذه أمثلة على بعض القضايا ،وليس حصر ًا كامل ًا لها .و ّمما َيلزم ملاحظته هنا أ َّن التربية الفكرية لا ُب َّد أ ْن تش ِّكل لدى الفرد والجماعة رؤي ًة للعا َلم ،وهي رؤية كلية ُت ِعين على فهم هذه القضايا والموضوعات وأمثالها ،وعلى اتخاذ موقف إسلامي ُتجاهها. ثالث ًا :موضوعات الزاد الفكري للرؤية الكلية: الهدف من هذا الزاد هو إقامة التربية الفكرية المتوازنة .أ ّما موضوعاته فمتعددة الأنواع، وكل نوع منها ُيس ِهم في جانب مهم من التربية الفكرية .وفيما يأتي بع ٌض من هذه الأنواع: أ -كتابات في الفكر الإصلاحي والنهضوي :تعالج هذه الكتابات قضايا الفكر والبناء الفكري ،والتفكير وأنواعه ومستوياته ،والدراسات في تاريخ الحضارات الإنسانية ،وشروط قيام الحضارات وأسباب انهيارها ،وما يرافق ذلك من صور الصراع الفكري ،أو الاقتراض الثقافي والحضاري .ومن الكتابات التي تقع ضمن هذه الفئة العلو ُم المتف ِّرعة عن التاريخ ،مثل :فلسفة التاريخ، وتاريخ الأفكار .والمهم في هذه الدراسات هو ملاحظة ال ُب ْعد الفلسفي للتاريخ ،وامتداداته في الحاضر والمستقبل ،وتشكيله للأساس العملي للتفكير الاستراتيجي المستقبلي. ب -مداخل العلوم الاجتماعية والإنسانية :ليس المقصود من أدبيات هذه المداخل -في هذا السياق -المعرفة المتخ ِّصصة في علم الاجتماع ،وعلم الاقتصاد ،وعلم السياسة ،وعلم الاتصال ،وغيرها ،وإ َّنما المقصود منها الإلمام بالمفاهيم والقوانين 375
والنظريات والتطبيقات العملية ،واستحضار ذلك عند التفكير في المشكلات المثارة؛ لفهمها ،والمشاركة في اقتراح الحلول الممكنة لها .ولع َّل أهم العلوم التي َيلزم الإلمام بمداخلها علم الاجتماع ،وعلم السياسة ،وعلم الإعلام. ت -أدبيات ومداخل في علوم التغيير :نقصد بها هنا على وجه التحديد العلو َم المنهجية ،والإدارة ،وعلم النفس .أ ّما المهم في العلوم المنهجية فهو تطبيقاتها في التفكير والبحث والسلوك ،والتكا ُمل المنهجي ،والمدارس المنهجية .وأ ّما المهم في علوم الإدارة فهو تطبيقاتها في إدارة الوقت ،وإدارة الذات ،وإدارة الجماعات. في حين أ َّن علم النفس يتض َّمن قضاياه الأساسية في التع ُّلم والنمو والتغيير. ومن المهم ملاحظة أ َّن الطرق التي يتم بها البناء الفكري هي طرق مختلفة ،وأ َّنه ينبغي لنا الحرص على أ ْن تتراكم فعاليات هذه الطرق ،وتتآزر آثارها .فمن مسؤولية الفرد أ ْن يكون واعي ًا على التفا ُعل الفطري بين عمليات التط ُّبع ،والتنشئة الاجتماعية ،ومن مسؤوليته كذلك توظيف التعليم القصدي ،والتزكية النفسية بتصفية النية ،وحسن الا ِّتباع، وصناعة الإبداع .ومن مسؤولية الأسرة والجماعة والتنظيم أ ْن يتع َّزز لدى هذه الجهات من هذا الوعي وهذا التوظيف ما يكفي لتحقيق التربية الفكرية ،وتوفير البيئة الملائمة لظهور آثار هذه التربية ونتائجها المنشودة. ومهما كان المحتوى العلمي للفكر البشري (علوم شرعية ،أو طبيعية ،أو اجتماعية ،)...فإ َّن تحليل هذا المحتوى يكشف عن عناصر ذات مستويات متفاوتة في مقاديرها ال َك ِّمية ،وخصائصها الكيفية .و َث َّمة علاقا ٌت بنيوية ووظيفية بين هذه العناصر. ومجموع عناصر هذا المحتوى العلمي تظهر في بناء هرمي له قاعدة وق َّمة .ففي قاعدة أ ِّي علم من العلوم ،تتموضع حقائق ذلك العلم ،وتكون الحقيقة الواحدة منها تعبير ًا عن شيء مح َّدد ،بما هو في ذلك الشيء اسم ًا أو صف ًة .ويكون عد ُد هذه الحقائق في أ ِّي علم من العلوم عدد ًا كبير ًا جد ًا ،ويسهل ملاحظة التطابق بين التعبير اللغوي عن الشيء الح ِّسي أو الأمر المعنوي من جهة ،وحقيقة ذلك الشيء أو الأمر بصورة تكون أقرب إلى الإحساس المادي المباشر .وتم ِّثل هذه القاعدة الأساس الأول للبناء المعرفي للعلم ،وهو كذلك الأساس اللازم لتيسير عملية التع ُّلم والتعليم. 376
ول ّما كانت الحقائق كثيرة جد ًا ،فإ َّن العقل البشري يربط بين العدد الكبير من الأشياء التي تتشابه في عدد من الخصائصُ ،مط ِلق ًا عليها لفظ ًا مشترك ًا ،هو المفهوم (((.فالإنسان هو مفهوم ينطبق على كل فرد من الناس ،بغ ِّض النظر عن لونه ،ولغته ،و ِعرقه...؛ والسمك هو مفهوم ينطبق على أفراد الكائنات البحرية التي تعيش في الماء ،وتتنفس بالخياشيم؛ والبيع مفهوم لإعطاء أ َّية سلعة مقابل ثمن ...فالمفاهيم هي طبقة ،أو مستوى آخر في هرم العلم ،يقع فوق الحقائق ،وهي أكثر تعميم ًا وتجريد ًا من الحقائق .ونظر ًا لأ َّن مفاهيم العلم هي تجريد لحقائق ذلك العلم؛ فإ َّن عددها في كل علم سيكون أقل من عدد حقائق العلم. والمعرفة البشرية تقيم علاقات بين المفاهيم ،قد تكون علاقات ارتباطية أو سببية. وك ُّل علاقة يمكن أ ْن تصاغ بصورة قاعدة ،أو مبدأ ،أو قانون ،أو معادلة رياضية .ففي المعاملات التجارية يعرض البائع البضاعة التي يطلبها المشتري ،وبين العرض والطلب علاقة يمكن أ ْن تصاغ في صورة قانون ،هو قانون العرض والطلب .وفي كل علم من العلوم قوانين تربط بين مفاهيم ذلك العلم؛ ففي الكيمياء قوانين ،وفي الاقتصاد قوانين، وفي اللغة قوانين ،وهكذا .ولأ َّن كل قانون َيختزل في صياغته كثير ًا من المفاهيم؛ فإ َّن القوانين أقل عدد ًا من المفاهيم ،ولكنَّها أكثر تجريد ًا ،وهي تم ِّثل طبقة أعلى في البناء الهرمي للعلم ،تقع فوق طبقة المفاهيم. ومن الجدير بالذكر أ َّن الحقائق والمفاهيم والقوانين هي مستويات وصفية ،تع ِّبر عن واقع الأشياء كما هي عليه ،ولكنَّها لا تف ِّسر سبب وجود هذه الأشياء على ما هي عليه. والذي يف ِّسر ذلك كله هو مستوى آخر من مستويات البناء المعرفي للعلم؛ وهو رأس هرم المعرفةُ ،مم َّثل ًا في النظريات؛ فكل نظرية تتك َّون من مجموعة من المبادئ التي تف ِّسر ظاهرة من ظواهر العلم .وفي كل علم مجموع ٌة من النظريات التفسيرية ،تكون عادة أكثر تجريد ًا من مستويات البناء المعرفي التي تسبقها ،ويكون عدد النظريات في كل علم قليل ًا بالمقارنة مع عدد القوانين ،أو عدد المفاهيم ،أو عدد الحقائق .وإذا كانت وظيفة الحقائق والمفاهيم والقوانين هي الوصف ،فإ َّن وظيفة النظريات هي التفسير. ((( يختلف استعمال مصطلح \"المفهوم\" باختلاف المجال المعرفي؛ ففي المنطق هو تص ُّور ذهني ،وفي اللغة هو معنى وضعي (اصطلاحي) يشير إلى اللفظ الذي يدل على حقل دلال ّي عام .انظر: -كوريم ،سعاد\" .الدراسة المفهومية :مقاربة تصورية ومنهجية\" ،مجلة إسلامية المعرفة ،المعهد العالمي للفكر الإسلامي ،العدد ( ،)60ربيع (1431ﻫ2010/م) ،ص.65 377
وقد يكون من المناسب أ ْن نستدرك هنا بالقول إ َّن هرم المعرفة الذي سيعرض بعد قليل ربما يقدم صورة توضيحية جيدة ،في التعبير عن مفردات المعرفة العلمية ،والعلاقات القائمة بينها في العلوم الطبيعية؛ من :فيزياء ،وكيمياء وأحياء ،ولك َّن ذلك يمكن أ ْن يصدق على العلوم الأُخرى ،ولع َّل الفارق هو في تما ُيز الفئات والأنواع والأمثلة في كل مستوى من المستويات؛ فقد تكون أنواع الحقائق العلمية الطبيعية وأصنافها مختلفة عنها في العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية .فالحقائق المفردة عن أشياء الكون وأحداثه غير الحقائق الوجودية الكبرى عن أصل الكون ومصيره .وكذلك ،فإ َّن نوع التدا ُخل أو التما ُيز بين مفردات المعرفة في هذه المستويات قد يتأ َّثر بالتعبيرات التي تو ِّفرها اللغة عنها؛ فمصطلح Factباللغة الإنجليزية لا يقابل تمام ًا مصطلح \"حقيقة\" باللغة العربية ،وهكذا الحال في عناوين المستويات المعرفية الأُخرى. و َث َّمة طريق ٌة ُأخرى للتعبير عن مستويات المعرفة العلمية في أ ِّي علم من العلوم. وفي هذه الطريقة نع ِّبر عن أبسط أشكال المعرفة بمصطلح \"البيانات\" dataالتي تقابل الحقائق في هرم المعرفة .ومجموع ُة البيانات ذات العلاقة بموضوع واحد تش ِّكل ما ُنس ّميه المعلومات ،وهي مستوى أعلى في الدلالة والمعنى من البيانات .وإذا أمكن توظيف المعلومات لغرض معين ،و َتح َّقق ذلك فعل ًا ،فإ َّن المعلومات تصبح معرفة، وتش ِّكل هذه المعرفة مستو ًى ثالث ًا ،وهي بطبيعة الحال ذات مستوى أعلى في الدلالة والمعنى من المعلومات. وأخير ًا ،فإ َّن الغرض من تطبيقات المعرفة وتوظيفاتها في ال ُّر ِق ِّي بالنفس والمجتمع نحو آفاق مفتوحة من رؤية العا َلم ،والإجابة عن الأسئلة الوجودية الكبرى؛ يفتح المجال لمستوى رابع يتجاوز المعرفة نحو ما ُيط َلق عليه اسم الحكمة .وبدلاً من تصوير هذه المستويات الأربعة في صورة هرم مشاب ٍه لهرم المعرفة السابق ،فإ َّنه يحلو لنا أ ْن نتخ َّيل العلاقة بينها في صورة مدى الاتساع الفكري في الدلالة والمعنى والقيمة .وفي هذه الحالة ،فإ َّن البيانات تكون أضيق المستويات ،تليها المعلومات التي تكون دلالتها أوسع وأعلى قيمة ،ث َّم تكون المعرفة أوسع دلالة وأعلى قيمة من المعلومات ،وأخير ًا تظهر الحكمة في ُأفق مفتوح نحو الأعلى تعبير ًا على المدى الواسع الذي لا يح ُّده سقف. 378
وفيما يأتي رسم تخطيطي ُيو ِّضح المستويات الأربعة من مفردات المعرفة ،في صورة هرم معتدل على يسار الشكل ،والمستويات الأربعة لتوظيف مفردات المعرفة في صورة موازية لمستويات الهرم على يمين الشكل(((. رابع ًا :العلوم المنهجية المنهج بصورة عامة هو طريقة التفكير في أمر ما ،أو البحث فيه ،أو ممارسته. والتربية هي عملية وممارسة يتو ّلها المجتمع في إعداد أبنائه ،و َيلزمها التفكير والبحث في أهدافها وموضوعاتها وأساليبها .و ِم ْن َث َّم تتراكم نتائج التفكير والبحث والممارسة، و ُتبنى المعرفة التربوية وتن َّظم في صورة علم التربية الذي تتف َّرع عنه مجموعة من الفروع، ُنس ّميها العلوم التربوية .و ِم ْن َث َّم نستطيع القول إ َّن علوم التربية هي علوم منهجية؛ لأ َّنها تخت ُّص بمناهج أو طرق بناء المعرفة اللازمة للتربية ،ومناهج أو طرق ممارسة هذه المعرفة وتطبيقها لتشكيل شخصية الإنسان .ومع ذلك ،فإ َّن بعض العلوم تتم َّيز بأ َّنها علوم منهجية في الأساس ،ونجد في سائر العلوم الأُخرى مك ِّون ًا منهجي ًا من مك ِّوناتها. ((( أوردنا موضوعات البناء الفكري ومصادره وأدواته بصورة ُمف َّصلة في كتابنا \"البناء الفكري\" .انظر ذلك في: -ملكاوي ،فتحي حسن .البناء الفكري :مفهومه ومستوياته وخرائطه ،ع ّمان :المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط2018 ،2م ،ص.203 -157 379
.١علوم منهجية متم ِّيزة: لو بحث َت عن كلمات \"منهج\" ،و\"مناهج\" ،و\"منهجية\" ،لوجد َت أ ّي ًا منها في مئات العناوين من الكتب والبحوث والمقالات .وستجدها في كثير من الأحيان مرتبطة بكلمة \"البحث\" ،مثل\" :منهج البحث\" ،أو \"مناهج البحث\" ،أو \"منهجية البحث\" .ويضاف إلى العبارة عادة :الموضوعات أو العلوم التي يمارس فيها المنهج (أو المنهجية) مناهج البحث في العلوم الاجتماعية ،والقانونية ،واللغوية ،والدينية ،وغيرها .و ُتستع َمل لفظتا \"المنهج\" و\"المنهجية\" في سياقات مختلفة ،و َي ِر ُد الحديث عن تع ُّدد أنواع المناهج، والمواصفات والضوابط التي تخت ُّص بالتوظيف المناسب لها ،والتأ ُّكد من فاعليتها ،كما َي ِر ُد الحديث عن مؤسسات متخ ِّصصة لتعليم المناهج والبحث فيها ،وك ُّل ذلك يدخل في بناء علم متم ِّيز هو علم المنهجية Methodology؛ أ ِي العلم الذي يدرس المناهج .وأكث ُر ما ُيستع َمل مصطلح \"المنهجية\" في مجالات البحث .Research Methodology والحق أ َّن علم المناهج \"المنهجية\" يمكن أ ْن يتسع لطرق التفكير ،وأنواعها، وخصائصها .وبعض العلوم ذات خصائص منهجية واضحة ،مثل :المنطق في الفلسفة، وأصول الفقه في العلوم الإسلامية ،وعلم الكلام في العقائد ،والمناظرة في السياسة، والمرافعة في القضاء ،وغير ذلك ،فلكل هذه العلوم قواعد وضوابط ،يتم تع ُّلمها وتعليمها واستعمالها في ميادينها الخاصة بها .ولذلك نقترح أ ْن ُتس ّمى علوم ًا منهجي ًة. فعلم أصول الفقه -مثل ًا -هو علم منهجي بامتياز؛ لأ َّنه العلم الذي يضبط قواعد استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية .وعلم الكلام هو دراسة وبحث في قضايا العقيدة ،وتقديم الأدلة ،ومناقشة ال ُحجج المخالفة ،ونقد الشبهات ودحضها بالبراهين المناسبة .وعلم المنطق هو العلم الذي يدرس القواعد والقوانين العامة للتفكير الإنساني الصحيح ،وعلم مقاصد الشريعة هو علم الكشف عن ال ِعلل ،والمآلات ،وبيان المصالح التي جاءت أحكام الشريعة لتحقيقها. وكل هذه العلوم المنهجية تو ِّسع مدارك العقل ،و ُت ِعينه على التفكير الصحيح، وتختصر عليه الجهد حين يستغني عن التجربة والخطأ من دون دليل ،وتمنعه من الوقوع في الخطأ والضلال .وبمثل هذه العلوم المنهجية تكتمل عناصر النظر العقلي الراشد في سائر العلوم ،الشرعية منها ،والاجتماعية ،والنفسية ،والطبيعية ،والتطبيقية ،وغيرها. 380
.٢مك ِّون منهجي في ك ِّل علم: كثي ٌر من العلوم لها جوانب منهجية؛ سواء أكان ذلك في مناهج بحثها للوصول إلى الحقائق التي يمكن إقامة البرهان عليها عقلي ًا أو تجريبي ًا ،أم في ممارسة النقد والمقارنة والموازنة بين الحقائق والأدلة ،التي ُت ِعين على قبول الأحكام ،ومعرفة الحقيقة التي يستهدفها البحث ،كما في علم مقارنة الأديان ،أو الفقه المقارن ،أو في تح ّري الدقة والتقدير المنضبط والوصف ال َك ِّمي بالحساب والعدد ،والاختيار السليم للمواقف والممارسات؛ أخذ ًا بالأولويات ،واستئناس ًا بالمقاصد والمآلات ،وغير ذلك. ويمكن أ ْن نم ِّيز في كل علم من العلوم ثلاثة مك ِّونات؛ الأول :مادة العلم؛ أ ْي حقائقه، ومفاهيمه ،وقوانينه ،ونظرياته ،أو ما فيه من بيانات، ومعلومات ،ومعرفة ،وحكمة ،كما اتضح لنا ذلك في الرسم التمثيلي السابق .والثاني :منهج العلم؛ أ ْي طرق الوصول إلى مادة العلم .ومناه ُج البحث في موضوعات العلوم أنوا ٌع متعددة ،منها :التاريخي ،والوصفي ،والتجريبي ،ومنها ما تكون بياناته وصف ًا كيفي ًا ،أو قياس ًا َك ِّمي ًا ،ومنها ما يكون بحث ًا نظري ًا أو تطبيقي ًا ،وغير ذلك من مناهج البحث. وتتداخل في المك ِّون المنهجي للعلم ثلاثة مستويات منهجية؛ أولها يتصل بالمصادر والطرق العامة لاكتساب أ ِّي علم ،ويدخل ذلك في أبواب نظرية المعرفة في الرؤية الفكرية العامة التي يتبنّاها الباحث ،أو العالِم ،أو ال ُمتع ِّلم .ويتلخص ذلك -برؤيتنا الإسلامية- في النموذج الذي نتبنّاه عن \"منهجية التكا ُمل المعرفي\"؛ إذ يعتمد هذا النموذج الوحي والعا َلم مصدرين لاكتساب المعرفة والعلم ،والعقل والحس وسيلتين لاستمداد المعرفة من هذين المصدرين(((. ((( ملكاوي ،منهجية التكامل المعرفي ،مرجع سابق ،الفصل السادس :مصادر المنهجية وأدواتها ،ص.240-203 381
والمستوى الثاني في المك ِّون المنهجي للعلم هو إعمال مناهج التفكير والبحث المناسبة لكل علم؛ ففي علم الفلك نستعين بالمشاهدات الحسية والمراصد والتلسكوبات المق ِّربة ،وفي علم الخلية نستعين بالمجاهر أو الميكروسكوبات المك ِّبرة ،وفي الزراعة تجريب ميداني ،وفي الكيمياء تجريب مخبري ،وفي التاريخ نقد داخلي ونقد خارجي للرواية أو الأثر ،وفي الحديث النبوي مناهج نقد الرواية والدراية وما تتض َّمنه من علم الرجال والجرح والتعديل وال ِعلل ،وفي الأحكام الشرعية منهج أصول الفقه والمقاصد. وهكذا ،فإ َّن لكل عل ٍم منه َج أسا ٍس هو أقرب وألصق به مع إمكانية الاستعانة بمناهج ُأخرى. وبالرغم من أ َّن مفاهيم \"العلم\" ،و\"العمل العلمي\" ،و\"الاكتشاف العلمي\" تم ِّثل موضوعات ُع ِرفت في مختلف مراحل التاريخ ،وعند الأمم المختلفة ،فإ َّن ك ّ ًل من مفهوم \"العلم\" ومفهوم \"الطريقة العلمية\" -بالصورة التي نعرفها اليوم -قد نما وتط َّور منذ القرن السابع عشر الميلادي ،حيث كان العلم يعني في الأساس العلوم الطبيعية؛ لذا كان المنهج العلمي (أو الطريقة العلمية) يعتمد أساس ًا على المشاهدات الح ِّسية والتجارب العملية ،ولك َّن تطبيق هذا المنهج في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية و َّسع دائرة الطريقة العلمية لتشمل عدد ًا كبير ًا من المناهج والأدوات والإجراءات والتقنيات التي تجمع البيانات الكيفية وال َك ِّمية ،وتح ِّللها .فبالإضافة إلى التجارب العملية المعروفة ،عرفت الطريقة العلمية أنواع ًا مختلف ًة من البحوث ،منها :دراسات الحالة ،والمسح الميداني ،والبحث الإثنوغرافي، والبحث الإجرائي ،والدراسات الوصفية والتحليلية والمقارنة ،وغير ذلك. أ ّما المستوى الثالث من مستويات المك ِّون المنهجي للعلم فيتصل بالموضوع المح َّدد من ذلك العلم؛ فلكل علم نشأ ٌة ونم ٌّو وتط ُّو ٌر ،قد ينفع فيه منهج البحث التاريخي. وفي كل علم مسائ ُل نظرية ،ومسائ ُل عملية .ولك ٍّل من النوعين مناه ُج خاصة بها .وبعض المسائل تحتاج إلى دراسة تتبعية ووصف كيفي متع ِّمق ،وبعضها يحتاج إلى بيانات ُتج َمع بالقياس ال َك ِّمي ،وتتط َّلب معالجة إحصائية ،والدراسة المستقصية لبعض المسائل تحتاج إلى استعمال عدد من الأدوات والأساليب البحثية. والمك ِّون الثالث من مك ِّونات بنية العلم هو الاتجاه العلمي؛ أي العادات النفسية والعقلية التي يط ِّورها الإنسان للتعامل الرشيد مع العلم وتطبيقاته وأخلاقياته .ويتصل 382
الاتجاه بالجانب الانفعالي والعاطفي في الإنسان ،حين يك ِّون فكرة إيجابية أو سلبية عن موضوع العلم ،تؤ ِّثر في درجة تع ُّلمه ،أو طريقة توظيفه ،ور َّبما ينعكس هذا الأثر على شخصيته ،وعلاقاته ،وأساليب سلوكه .وتتج ّلى اتجاهات الإنسان نحو موضوع معين في رغب ِة البحث في هذا الموضوع ،والحرص على اكتساب المزيد من المعرفة فيه .ويؤ ِّثر الاتجاه نحو الموضوع كذلك في منهج التفكير والبحث فيه ،لا سيما في اكتساب عادة التح ُّقق ،والتث ُّبت ،والتب ُّين ،وتمييز الحقائق من الخرافات السائدة والإشاعات المغرضة. وحين نصغي إلى حوار عن قضية معينة ،أو نشارك فيه ،فإ َّن الاتجاه النفسي والعقلي الذي نحمله ُتجاه تلك القضية ،يؤ ِّثر فيما نصل إليه من أحكام ،لا سيما أ َّن هذا الاتجاه قد يتك َّون بصورة لا شعورية؛ نتيج ًة لخبرة شخصية سابقة ،أو نتيج ًة لبيئة اجتماعية معينة. وتتداخل الاتجاهات الناتجة عن البيئات الاجتماعية أحيان ًا مع القيم التي يتبنّاها المجتمع، ويتش َّربها الفرد بطريقة غير واعية. ومن الواضح أ َّن المك ِّون الثالث للعلم لا يتصل بالعلم نفسه ،وإ َّنما يتصل بمشاعر ال ُمتع ِّلم نحو ذلك العلم .ومن هنا ،تأتي أهمية التربية الفكرية في تع ُّرف اتجاهات ال ُمتع ِّلمين حيال موضوع علمي معين ،والكشف عن الاتجاهات السلبية غير ال ُمب َّررة نحو الموضوع ،التي تحول دون حصول التع ُّلم المنشود ،وتمنع بناء الحكم القيمي المناسب، و ِم ْن َث َّم معالجة ذلك في ضوء ما قد يكون له من أسباب. فعلى الفكر التربوي الإسلامي المنشود أ ْن يراعي هذه العلوم المنهجية ،وهذه المك ِّونات المنهجية في العلوم المختلفة؛ لكيلا يقتصر العمل التربوي فقط على جمع المعارف والمعلومات عن الأشياء والأحداث والظواهر الطبيعية والاجتماعية والنفسية، وحفظها ،وتنظيمها ،ومعرفة تطبيقاتها العملية ،على ما في ذلك من فوائد ،وإ َّنما يمتد بحيث تصبح هذه المعارف والمعلومات أدوات للنظر العقلي وبناء الشخصية الإنسانية من جهة ،و ُتس ِهم في تق ُّدم العلوم ذاتها ،وتطبيقها في مجالي التنمية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية ،والنهوض بواقع الأُ َّمة وموقعها في الحضارة البشرية المعاصرة من جهة ثانية، وتو ِّظف ذلك في فهم مقاصد الدين وإحسان التد ُّين من جهة ثالثة. 383
إ َّن الفكر التربوي في الرؤية الإسلامية ليس موضوع ًا خاص ًا ُيد َرس بصورة مستقلة عن سائر موضوعات العلوم في مناهج التعليم ،وإ َّنما هو روح تتخ َّلل هذه العلوم كلها، عن طريق ما س َّميناه العلوم المنهجية ،والمك ِّون المنهجي في كل علم .وهو -في الوقت نفسه -هدف منشود من وراء تدريس هذه العلوم وموضوعاتها ،وهو ليس موضوع ًا خاص ًا بالمسلمين ،وإ َّنما هو موضوع وهدف لتعليم الإنسان وتربيته ،ولكنَّنا نلفت النظر إليه نظر ًا لضعف حضوره وأثره في الممارسات التعليمية والتربوية في بلدان العا َلم الإسلامي. ونأمل أ ْن يكون واضح ًا أ َّن التمييز بين فئات العلوم (العلوم الطبيعية والتطبيقية، والعلوم الاجتماعية والإنسانية ،وعلوم الشريعة ،وغير ذلك من الفئات) لا يعني استقلالها في العقل البشري استقلالاً تام ًا ،وإ َّنما يعني أ َّن التمييز بينها هو من باب تيسير تع ُّرف أنواعها ودراستها ،ومن باب تنظيم برامج تعليمها وتع ُّلمها ،ضمن مجالات متخ ِّصصة؛ إذ يصعب على الإنسان أ ْن يجمع بين تخ ُّصصات مختلفة في وقت تق َّدمت فيه العلوم وتب َّحرت في كل التخ ُّصصات ،بما في ذلك ما ُنس ّميه علوم الشريعة. ولكنَّنا -في الوقت نفسه -لا نحكم على أ َّن كل ما في هذه العلوم هو ح ٌّق خالص، وحقائق مطلقة ،ولا يوجد ِمن بين العلماء المتخ ِّصصين في أعلى درجات التخ ُّصص َمن ي َّدعي ذلك على كل حال .ومع ذلك ،فلم يعد بإمكان أ ِّي مجتمع أ ْن يلغي أبواب التخ ُّصص في هذه العلوم؛ فالتخ ُّصص والتب ُّحر فيها إلى أعلى المستويات الممكنة هو الكفي ُل بتحقيق ما في هذه العلوم من فوائد ومصالح لنح ِّصلها ،وال ُم ِعي ُن على الكشف ع ّما فيها من خلل أو مفاسد لندرأها. لقد أشرنا إلى أ َّن علوم بناء الأُ َّمة هي الدين واللغة والتاريخ ،وأ َّكدنا أ َّن قدر ًا منها لا ُب َّد أ ْن يكون جزء ًا من البرنامج التعليمي لكل أبناء الأُ َّمة؛ فمنه ما لا يسع المسلم الاستغناء عنه ،وبه يكون المسلم مسلم ًا ،ومنه ما يجب أ ْن يكون معلوم ًا من الدين بالضرورة .و ِم ْن َث َّم ،فإ َّن قدر ًا من هذه العلوم لا ُب َّد أ ْن يتوافر لكل فرد في المجتمع المسلم ،مهما كان تخ ُّصصه في البرامج والمستويات التعليمية .ور َّبما كان هذا القدر من التربية والتعليم في 384
علوم الدين واللغة والتاريخ أدا ًة منهجي ًة في استيعاب العلوم الأُخرى ،ومعرفة أهميتها وضرورتها ومناهج التعامل معها .ث َّم إ َّن مستوى أعلى من هذه العلوم لا ُب َّد أ ْن يكون متاح ًا للتخ ُّصص العلمي العام والتخ ُّصص الدقيق في علم من هذه العلوم ،كما هو العهد في كليات الشريعة والدراسات الإسلامية في الجامعات. وتفضيل التخ ُّصص بين علوم الشريعة والعلوم الأُخرى ليس مسألة أحكام قيمية عامة؛ فالمجتمع المسلم يحتاج إلى التخ ُّصص في كل هذه العلوم ،ويبقى التفضيل مسألة اختيار وميل أو استعداد فردي ،وك ٌّل ُمي َّس ٌر لما ُخ ِلق له. 385
المبحث الثالث علوم التربية وموضوعاتها في الرؤية الإسلامية أولاً :المقصود بالفرع العلمي: ما المقصود بمصطلح \"العلم\" في سياق الحديث عن علوم التربية؟ وما الذي يجعلنا ُنط ِلق على موضوع من موضوعات البحث والدراسة مصطلح \"العلم\" ،و َن ُع ُّده فرع ًا علمي ًا؟ إ َّن المقصود بالعلم أو الفرع العلمي هو الحقل المعرفي Field of Knowledgeالذي يتم َّيز عن الحقول المعرفية الأُخرى ،أو النظام الأكاديمي Academic Disciplineالذي يصبح موضوع ًا للدراسة العلمية المتخ ِّصصة .وبالرغم من أ َّن نشأة العلم المتخ ِّصص والاعتراف به يخضع لعدد من الاعتبارات ،وتختلف حوله الآراء ،فإ َّن َث َّمة اعتبارا ٍت عملي ًة تكاد تكون مؤ ِّشر ًا كافي ًا لاعتبار أ ِّي موضوع فرع ًا علمي ًا .ومن هذه الاعتبارات: -الفرع العلمي له موضوع للبحث ،بالرغم من أ َّن هذه الموضوع قد يكون مشترك ًا مع فرع علمي آخر. -الفرع العلمي له جسم من المعرفة المتخ ِّصصة التي لا يشترك فيها مع فرع علمي آخر. -الفرع العلمي له مفاهيم ونظريات ُتس ِهم في تنظيم المعرفة المتخ ِّصصة بصورة ف ّعالة. -الفرع العلمي له مصطلحات خاصة ،ولغة فنية تتك َّيف مع موضوع البحث فيه. -الفرع العلمي ط َّور مناهج وأدوات بحثية خاصة تتناسب مع متط َّلبات بحث موضوعاته. -الفرع العلمي تخ ُّص ٌص له مجموعة ُمق َّدرة من المتخ ِّصصين الذين ين ِّظمون أنفسهم بصورة مؤسسية في أقسام وبرامج دراسية جامعية مثل ًا ،ومراكز بحثية أو جمعيات مهنية متخ ِّصصة ،لها اجتماعاتها ومجلاتها الدورية(((. ((( وجدنا عدد ًا من المراجع الأكاديمية التي تتح َّدث عن الخصائص التي ينبغي للفرع العلمي أ ْن يتصف بها حتى ُي َع َّد فرع ًا علمي ًا متم ِّيز ًا .وقد وجدنا تفاوت ًا كبير ًا فيما ُي َع ُّد خصائص مهمة لهذا الغرض .غير أ َّن ما يجمع هذه الخصائص مع ًا موجو ٌد في بح ٍث ق َّدمه كريشانان من جامعة ساوثمبتون البريطانية ،ناقش -بقدر من التفصيل -نشأة النُّ ُظم المعرفية المستقلة ،والنُّ ُظم المعرفية المتداخلة ،وح َّدد ست خصائص للنظام المعرفي المستقل .انظر ذلك في: - Krishanan, Armin. What are Academic Discipline? Some Observation on the Disciplinarity vs. Interdisciplinarity debate, Southampton: University of Southampton, National Center for Research Methods, Working Paper Series no. 03/09, January 2009, p. 9. 386
لقد كثر اهتمام غير العرب في العقود الأخيرة بدراسة اللغة العربية ،فنشأت مراكز لتدريس اللغة العربية للناطقين بغيرها ،من دون أ ْن َيعرف هذا المجال ُمد ِّرسين متخ ِّصصين أو أساليب خاصة لهذا الغرض ،ولك َّن استمرار الإقبال على هذا النوع من التعليم ح َّفز إلى تطوير برامج لتأهيل ال ُمد ِّرسين ،وظهرت قضايا ومشكلات أصبحت موضوعات للبحث العلمي ،ث َّم ُأن ِشئت مراكز متخ ِّصصة ،وبرامج جامعية ،ومجلات دورية ،ومؤتمرات بحثية متخ ِّصصة .فأصبح الموضوع فرع ًا من فروع تعليم اللغة العربية. ومن الفروع العلمية التي ظهرت في السنوات الأخيرة علم مقاصد الشريعة ،الذي انفصل عن علم أصول الفقه .وعل ُم أصول الفقه كان قد نما وتط َّور في الأساس لضبط ممارسات الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية .ونجد اليوم عشرات المراكز البحثية المتخ ِّصصة في علم مقاصد الشريعة ،التي أصبحت مادة علمية جامعية في الدراسات العليا ،وأصبح عدد المتخ ِّصصين في مقاصد الشريعة يتزايد بصورة ملحوظة. وقد نتج عن هجرة المسلمين إلى البلدان الأوروبية والأمريكية تفا ُع ٌل ملحوظ بين المسلمين وغيرهم في هذه البلاد ،وأخذ عد ُد َمن يدخلون في الإسلام يتزايد بصورة ملحوظة؛ فدعت الحاجة إلى أ ْن يتخ َّصص بعض الدعاة للاهتمام بهؤلاء المسلمين الجدد ،وبتطوير أساليب الدعوة لغير المسلمين .ونرى أ َّن الحاجة أصبحت ماس ًة لتطوير برامج لتدريب الدعاة على أساليب نشر الدعوة بين غير المسلمين .وقد تتط َّور هذه البرامج لتصبح فرع ًا علمي ًا متخ ِّصص ًا يجري تعليمه ضمن المتط َّلبات الخاصة به ،كما هو الحال في الفروع الأُخرى. ثاني ًا :نشأة فروع علم التربية: كانت التربية على مدار التاريخ البشري -وما تزال -عملية مجتمعية تخضع لظروف المجتمع ،وحاجاته ،ومرجعياته ،وأولوياته ،وتتل َّون باللون الذي يغلب على المجتمع في مرحلة من مراحله؛ فقد يكون اللون فلسفي ًا ،أو عسكري ًا ،أو ديني ًا ،أو أخلاقي ًا ،أو اقتصادي ًا، أو تكنولوجي ًا ،أو غير ذلك .و َث َّمة وجها ِن لمسألة كون التربية عملية اجتماعية؛ أولهما أ َّن الفلسفة والدين والأخلاق والاقتصاد والتكنولوجيا وغير ذلك م ّما يسود في المجتمع 387
يؤ ِّثر في التربية ويل ِّونها .وثانيهما أ َّن التربية هي التي تملأ ميدان التعليم في المجتمع بهذه الموضوعات ،فتنشرها ،وتط ِّورها ،وتجعل لها شأن ًا في الواقع الاجتماعي .بيد أ َّن الذي يحكم الوجهين مع ًا هو رؤية العا َلم Worldviewالتي يتبنّاها المجتمع؛ فرؤية العا َلم الإسلامية التي تقوم على الإيمان بالله سبحانه والنبوة والمعاد ،وما يرتبط بذلك من معتقدات ،هي رؤية توحيدية في المقام الأول .فالنظرية السياسية التي تحكم النشاط السياسي في المجتمع، والنظرية الاقتصادية التي تحكم النشاط الاقتصادي ،والنظرية الأخلاقية التي تحكم العلاقات الاجتماعية بين الناس؛ ك ُّل هذه النظريات وغيرها -عندما تنطلق من رؤية العا َلم الإسلامية -تصبح موضوعات في العمل التربوي ،وعناصر مهمة في النظرية التربوية التي يعتمدها المجتمع المسلم .فكل العلوم التي تتعامل مع الإنسان والمجتمع الإنساني ،م ّما هو معروف في الإنسانيات ،Humanitiesوالعلوم الاجتماعية ،Social Sciencesتجتمع في ميدان التربية لتكون موضوعا ٍت للتنشئة والتنمية والتدريب والتعليم. وعلوم التربية هي علو ٌم نامي ٌة متط ِّور ٌة نتيجة التط ُّور والنمو الدائم في العلوم التي تكون موضوعات لها .ومن هنا ،تأتي الصعوبات التي تواجه التربية حين َيتب َّين لنا صعوبة متابعة ما يحدث من تغ ُّير وتط ُّور في العلوم والاكتشافات بصورة تنعكس على البرامج، والمناهج ،والأساليب ،والوسائل التربوية. وحين نشير إلى أهمية مفهوم \"رؤية العا َلم\" في طريقة التعامل مع العلوم في البرامج التربوية في المجتمعات الإسلامية ،فإ َّننا نؤ ِّكد أ َّن هذا المفهوم ليس مفهوم ًا خاص ًا بالأُ َّمة الإسلامية والمجتمع المسلم؛ فلكل مجتمع رؤية للعا َلم هي أشبه بالعقيدة الدينية؛ سواء انطلقت هذه الرؤية من دين سماوي أو دين أرضي ،أو كانت رؤية غير دينية ألبتة .والفرد في المجتمع غالب ًا ما يتش َّرب هذه الرؤية ،ويت َل َّبس بها بطريقة غير واعية ،ويمارس نشاطه في مجتمعه بقدر من الانسجام والتك ُّيف مع واقع مجتمعه وطموحاته على أساسها. ولكنَّه قد يصادف ما يستدعي إثارة وعيه برؤية العا َلم التي يتبنّاها مجتمعه ،فيؤمن بها، ويتبنّاها عن وعي ،أو يأخذ في البحث عن بدائل لعناصر هذه الرؤية .وفي أهمية رؤية العا َلم هذه في توجيه العمل التربوي بالمجتمع ،قال أغروس وستانسيو\" :لكل حضارة من الحضارات تص ُّو ٌر كوني للعا َلم؛ أ ْي نظرة ُيف َهم وفق ًا لها ك ُّل شي ٍء ،و ُيق َّيم .والتص ُّور 388
السائد في حضار ٍة ما هو الذي يح ِّدد معالمها ،ويش ِّكل اللحمة بين عناصر معارفها ،و ُي ْملي منهجيتها ،ويو ِّجه تربيتها .وهذا التص ُّور يش ِّكل إطار الاستزادة من المعرفة ،والمقياس الذي تقاس به .وتص ُّورنا للعا َلم هو من الأهمية بحيث لا ندرك أ َّن لدينا تص ُّور ًا ما إلا حين نواجه تص ُّور ًا بديل ًا(((\". ... ولكن ،من الضروري التمييز بين العلوم التربوية بوصفها علوم ًا اجتماعي ًة ،لا يستقل العلم بموضوعاتها عن الذات العالِمة ،والعلوم الطبيعية التي تخت ُّص بدراسة المادة في تركيبها وتغ ُّيراتها وظواهرها ،ويسهل إخضاعها للضبط التجريبي الذي يصعب فعله في العلوم الاجتماعية .ولذلك ،فإ َّن التربية هي خبرات بشرية اكتسبها الإنسان بالتجربة ،ث َّم أصبح كثي ٌر من عملياتها متوارث ًا عبر الأجيال .والممارسة التربوية تستهدف بناء شخصية الإنسان على نمط معياري من أجل تحقيق أهداف وغايات وقيم مح َّددة. إ َّن التربية موضوع ُمغ ِرق في ال ِقدم؛ فقد عرفت الأقوام والشعوب منذ أقدم حقب الزمن ممارسات تربوية يقوم بها الآباء والأمهات ،ويمارسها في صورة وظيفة اجتماعية (أ ْي مهنة) ،ال ُمر ّبي العام ،أو ال ُمع ِّلم الخاص بموضوع أو حرفة؛ لإعداد الأجيال الجديدة في مجالات لغة القوم ونظامهم الاجتماعي والديني ،والحرف أو المهن التي كان المجتمع يحتاج إليها .ومع أ َّن كثير ًا من أشكال التربية وموضوعاتها وأهدافها كان يتغ َّير عبر العصور ،فإ َّن ما لم يتغ َّير حتى الآن هو الصورة العامة لوجود الأركان الثلاثة للتعليم والتربية ،وهي :ال ُمع ِّلم ،وال ُمتع ِّلم ،والمادة التعليمية. بيد ا َّن التطور شمل وجود مؤسسات متخ ِّصصة لتعليم الصغار أو تعليم الكبار ،وتط َّورت موضوعات التعليم؛ فبالإضافة إلى تعليم اللغة ،والدين ،والنظام الاجتماعي ،والحرف، ظهرت موضوعات تعليمية متخ ِّصصة في مستوى متق ِّدم ،مثل :الفلسفة ،أو الحكمة التي كانت تضم معظم العلوم العقلية والعملية والتطبيقية ،ث َّم بدأت تتمايز العلوم بموضوعاتها، مثل :الشعر ،والأدب ،والرياضيات ،والطب ،والفلك ،والفيزياء ،والكيمياء ،والجغرافيا. ولحق بذلك تما ُيز العلوم الاجتماعية وفروعها ،مثل :الاقتصاد ،وعلم النفس ،والتربية. ((( أغروس ،روبرت .وستانسيو ،جورج .العلم في منظوره الجديد ،ترجمة :كمال خلايلي ،سلسلة عالم المعرفة ( ،)134الكويت :المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ،يناير 1978م ،ص.15 389
ث َّم دخل كل علم من هذه العلوم في تفصيلات مح ِّددة لبعض موضوعاته حتى أصبحت علوم ًا فرعية قائمة .ففي التربية -مثل ًا -لم نعد نتح َّدث عن علم التربية ،وإ َّنما أصبح الحديث عن علوم التربية .فبعض هذه الفروع هي تخ ُّصصات في تفاصيل بعض الموضوعات التربوية ،مثل :علم المناهج التربوية ،وعلم الأساليب التعليمية ،علم الإدارة التربوية .وبعض هذه الفروع تخ ُّصصات بينية ،Interdisciplinaryتتداخل موضوعاتها بين علم التربية وعلم آخر ،كما في الإدارة التربوية ،وعلم النفس التربوي ،وتاريخ التربية، وفلسفة التربية ،وعلم اجتماع التربية ،وغيرها. ومع أ َّن التربية تتح َّدد غالب ًا في موضوعها؛ أ ِي المناهج التي يتم تعليمها والتربية عليها ،فإ َّن بعض هذه الموضوعات أصبحت فروع ًا علمية مستقلة ضمن التربية ،مثلما هو الحال في التربية الفنية ،والتربية البدنية ،والتربية العلمية ،والتربية الفكرية ،والتربية المدنية ،والتربية العالمية ،وغير ذلك .ث َّم إ َّن بعض فروع التربية جاءت لتتخ َّصص في تعليم فئة من ال ُمتع ِّلمين ،مثل :تربية الطفل ،وتعليم الكبار ،وتربية الموهوبين ،وتربية ذوي الحاجات الخاصة ،والتربية الوالدية (أ ْي تعليم الوالدين) ،وغير ذلك .وسوف نجد فروع ًا ُأخرى تخت ُّص بالبيئات والأوساط التي يتم فيه التعليم ،مثل :التربية الأسرية ،والتربية المسجدية ،والتربية الإعلامية ،والتعليم المنزلي ،Home Schoolingوغير ذلك .و َث َّمة أنوا ٌع متعددة ُأخرى ،بعضها جاء تطبيق ًا لنظرية معينة في التعليم ،أو لأسلوب معين من أساليب التعليم ،أو غير ذلك. ويبدو أ َّن عملية التف ّر ُع هذه لا تقف عند ح ٍّد؛ فقد جاءت أنواع من التربية نتيجة التط ُّور في استخدام التجهيزات والوسائل الحديثة في التعليم ،فظهر لدينا التعليم عن طريق التلفزيون ،أو التلفزيون التعليمي ،والتعليم عن ُب ْعد ،Distance Educationوالتعليم عن طريق الإنترنت .On-Line Education صحي ٌح أ َّن كل هذه العلوم التربوية هي موضوعات للنظر والبحث والاهتمام في أ ِّي مجتمع ،غير أ َّنها تأخذ موقعها من العملية التربوية في جانب التنظير وجانب الممارسة، في ضوء الفلسفة التربوية المعتمدة في المجتمع ،والنظرية التربوية التي يتبنّاها .وقد تح َّدثنا عن مفهومي \"الفلسفة التربوية\" و\"نظرية التربية\" في الفصل الأول ،ولك َّن السياق هنا هو الحديث عنهما بوصفهما من العلوم التربوية. 390
والحقيقة أ َّن كل ما أشرنا إليه من علوم التربية قد أصبح موضوعات مهمة في الفكر التربوي المعاصر ،ولك َّن المدارس الفكرية التي تنتمي إليها هذه العلوم جعلت واقع التعليم يتفاوت تفاوت ًا كبير ًا بين بلدان العا َلم .وتكشف عن هذا التفاو ِت أنظم ُة تصنيف مستوى التعليم ،Ratingأو ترتيب نوعية التعليم في العا َلم ،التي بدأت تظهر في السنوات الأخيرة ،بل إ َّنها تكشف عن خيبة الأمل في بعض الدول؛ في عدم وصولها إلى مواقع متق ِّدمة في ُن ُظم التصنيف ،مثل :الولايات المتحدة الأمريكية ،وفرنسا ،وبريطانيا .وهي الدول التي لا تزال كثير من دول العا َلم الأُخرى تستورد ُن ُظمها التعليمية منها. ومعظم ما ُيد َّرس في بلدان العا َلم الإسلامي من علوم التربية هو ما يختاره صنّاع القرار التربوي م ّما هو موجود في العا َلم الغربي ،ولا سيما في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية .ولو أعطى صنّا ُع القرار التربوي في البلدان الإسلامية شيئ ًا من الاهتمام والدراسة المتأنية لما َيلزمهم من علوم التربية ،لوجدوا أ َّن لديهم من الخبرات المحلية ما يم ِّكنهم من الدراسة التحليلية النقدية لما هو سائد في الفكر التربوي المعاصر ،في ضوء مرجعياتهم الوطنية والدينية ،و ِم ْن َث َّم بناء علوم تربوية تتف َّوق على كثير م ّما هو سائد في الساحة المعاصرة. ومهما كانت الفلسفة التربوية المعتمدة رسمي ًا في أ ِّي مجتمع إسلامي ،فلن يكون لها أثرها مع استمرار عملية استيراد النُّ ُظم التربوية؛ لأ َّن هذه النُّ ُظم التربوية المستوردة وما تتض َّمنه من برامج ومناهج وعلوم إ َّنما تستند إلى فلسفة البلد الذي تم استيراد هذه النُّ ُظم منه .ث َّم إ َّن الاستيراد يصبح عملي ًة مستمر ًة؛ لأ َّن النُّ ُظم التربوية والنظريات التربوية والمواد التعليمية في علوم التربية هي في حالة تغ ُّي ٍر وتب ُّد ٍل مستم ٍّر ،و ِم ْن َث َّم تصبح عملية الاستيراد تعبير ًا عن استمرار التخ ُّلف والتبعية. ثالث ًا :النظرية التربوية والفلسفة التربوية: بعد أ ْن تح َّدثنا بصورة إجمالية عن العلوم التربوية التي تخت ُّص بجوانب مختلفة من الميدان التربوي والتعليمي ،فقد اخترنا أ ْن نضيف شيئ ًا من التوضيح عن فرعين من فروع التربية ،لهما موقع خاص بين علوم التربية ،هما :النظرية التربوية ،والفلسفة التربوية. 391
إ َّن التربية علم اجتماعي تطبيقي لا ينتسب إلى العلوم النظرية ،ولك َّن النظرية التربوية أداة مهمة ُت ِعين على التفكير في مسائل التعليم والتع ُّلم بطرق مختلفة .وقد أوضحنا العلاقة بين الفلسفة التربوية والنظرية التربوية والممارسة التربوية في الفصل الأول .ومن المهم أ ْن نلاحظ أ َّن العملية التربوية تتض َّمن مجموع ًة من العناصر ،منها :ال ُمع ِّلم ،والطالب، والمؤسسة ،والمنهاج التربوي الذي يتح َّدد في عناصره الأربعة المعروفة؛ الأهداف، والمحتوى ،والأساليب ،والتقويم .و َث َّمة نظريا ٌت تربوية لكل عنصر من هذه العناصر؛ فالنظرية التربوية ليست نظرية واحدة ،بل هي مصطلح شامل يضم العديد من النظريات التي تتناول ما يحدث في عملية التعليم ،وما َيلزم أ ْن يحدث .وتتأ َّسس ك ُّل نظرية تربوية على فلسفة تربوية تع ِّبر عن مجمل المعتقدات الخاصة بالوجود ،والحياة ،والمعرفة، والقيم ،والإنسان ،فيما ُيط َلق عليه اسم رؤية العا َلم. ومن المؤ َّكد أ َّن لنظرية التربية العامة موقع ًا محوري ًا في ميدان الممارسة التربوية؛ فالممارسة التربوية عملية معقدة ،وشائكة ،وذات وجوه متقابلة ،و َيلزم أ ْن ُتؤ َخذ بالحسبان، ليس فيما يجب على التربويين أ ْن يفعلوه في عملهم التربوي ،وكيفية عمله فحسب ،بل يشمل ذلك أيض ًا بيان الأسباب التي دفعتهم إلى فعله (((.ث َّم إ َّن النظريات المختلفة في التربية تع ِّبر عن مدارس فكرية مختلفة ،قد يفيد الا ِّطلاع عليها في فه ٍم أكثر عمق ًا لما يجري في المواقف المختلفة .فالتعليم الذي يهدف إلى اكتساب المعرفة والمهارات اللازمة للمنافسة في سوق العمل يستند إلى رؤية فكرية مختلفة عن التعليم الذي يسعى إلى إشباع متط َّلبات النمو والتط ُّور الفردي .وسنجد في الكتب المتخ ِّصصة في النظريات التربوية معايير مختلفة بخصوص اختيار النظريات التي يتح َّدث عنها الكتاب وعدم اختيار غيرها؛ ف َث َّمة عد ٌد كبير من الباحثين والعلماء والمف ِّكرين الذين ق َّدموا إسهامات مق َّدرة في ميدان التربية الواسع بصورة عامة ،أو في ميدان فرعي مح َّدد من ميادين التربية. ومعايير تصنيف النظريات التربوية كثيرة ،وبعضها يعتمد معيار الزمن ،فيتح َّدث عن نظريات تقليدية ،وحداثية ،وما بعد حداثية؛ وبعضها يعتمد معيار علم النفس ،فيتح َّدث عن نظريات سلوكية ،ومعرفية ،وبنائية؛ وبعضها يعتمد معيار علم الاجتماع ،فيتح َّدث (1) Aubrey, Karl. & Riley, Alison. Understanding and Using Educational Theories, London: Sage Publications Ltd, 2nd Edition, 2019, p.2. 392
عن نظريات تتمحور حول الفرد في المجتمع ،أو حول المجتمع بمجمله ،أو حول المجتمع البشري. ومن الأمثلة الواضحة على أثر النظرية التربوية في تشكيل النُّ ُظم التربوية ،والممارسات التربوية ،ولا سيما في المراحل المبكرة من التعليم العام ،التفاو ُت الكبير بين نظرية تعتمد حاجة المجتمع أساس ًا لبناء النظام التربوي ،ونظرية ُأخرى تعتمد حاجة ال ُمتع ِّلم الفرد. ونجد في الأدبيات التربوية العالمية كثير ًا من النقد للأفكار التي انتشرت عن الحريات والحقوق الشخصية ،التي ُتغ ِّلب روح التضامن والمشاعر العاطفية نحو الأطفال ،وتهمل حاجة المجتمع إلى أجيال جديدة تتقن لغة الأُ َّمة ،وتحسن التفا ُعل الاجتماعي ،وتستفيد من خبرات الكبار الناجحة لتبني عليها ،وتط ِّور خبرات جديدة. ونكتفي هنا بالإشارة إلى نموذج من هذا النقد الذي و َّجهه إريك دونالد هيرش، وهو تربوي أمريكي في جامعة فيرجينيا ،إلى النظرية التربوية السائدة في التعليم المدرسي الأمريكي ،الذي يتدهور باستمرار ،وتتدهور حالة التعليم في أ ِّي بلد يستورد الخبرة التربوية الأمريكية كما حصل في فرنسا. يرى هيرش أ َّن سبب تدهور التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية والدول التي تأخذ ُن ُظمها التعليمية منها يعود إلى ثلاث أفكار عقيمة ،هي :مبادئ النمو الطبيعي، والفردية ،والتفكير النقدي .ومن المؤ َّكد أ َّنها تو ُّجهات جاذبة ،وأ َّنها ستلقى قبولاً من الكثيرين بسبب بريقها الجاذب ،ومسايرتها أفكار الحقوق والحريات الشخصية للأطفال. وقد اقترح بدلاً منها ثلاث أفكار ُأخرى ،رأى أ َّنها أكثر انسجام ًا مع العلوم المعاصرة في النمو المعرفي ،وعلم نفس النمو ،والعلم الاجتماعي ،وهي: -التعليم المب ّكر يجب أ ْن يكون اجتماعي ًا ،بحيث ير ِّكز على امتلاك الكفاءة في اللغة والأعراف في الفضاء الاجتماعي. -كل طفل في مجتمعه المحلي يجب أ ْن يتع َّلم المنهاج نفسه. -تحقيق المساواة في ال ُفرص التي تم ِّكن الطفل من تع ُّلم المعرفة التي يمتلكها البالغون الناجحون في المجتمع. 393
ووجد هيرش أ َّن َث َّمة فرق ًا كبير ًا بين تبنّي منهج تعليمي مشترك لجميع الطلبة كما تفعل أحسن المدارس في العا َلم ،مثل فنلندا واليابان ،وتطوير مناهج مختلفة لكل طفل، كما هي الممارسات الفاشلة في أمريكا وفرنسا حالي ًا(((. إ َّن أكثر ما تتج ّلى فيه الآثار الناتجة على المدارس (التيارات) الفكرية السائدة في المجتمع إ َّنما يكون في التربية .فحين يكون هدف التربية في المجتمع تأكيد صورة المجتمع الذي تريد التربية أن تبن َيه ،فإ َّن الطاقات ُتح َشد له ،و ُيو َّجه الأفراد ،و َتن َشط المؤسسات من أجل تحقيق تلك الصورة .وقد يكون هدف التربية توفير البيئة المناسبة لنمو كل فرد في المجتمع إلى أقصى ما تم ِّكنه منه إمكاناته ،فتتو َّجه الجهود إلى حرية الفرد ،وتلبية تو ُّجهاته واختياراته وإبداعاته .وقد عرف تاريخ التربية مجتمعات اعتمدت التربية العسكرية لأبنائها ،ومجتمعات اعتمدت التف ُّوق في النمو الاقتصادي ،ومجتمعات اعتمدت التربية الدينية والأخلاقية ،ومجتمعات جمعت بين عدد من النماذج والغايات التربوية .وكانت التربية في بعض المراحل شديدة المحافظة ،واكتفت بنقل تراث المجتمع وثقافته إلى الجيل الجديد من أبنائه ،وكانت في مراحل ُأخرى تم ِّثل سعي ًا لإطلاق طاقات الإبداع والاكتشاف وتطوير مجالات جديدة من التق ُّدم العلمي والحضاري. إ َّن من العبث أ ْن تبقى النُّ ُظم التربوية في المجتمعات الإسلامية سوق ًا لما تستورده من نظريات تربوية سرعان ما ُتفت َقد الحاجة إليها في بلادها .ث َّم إ َّن الأفكار والخبرات التربوية التي ر َّبما تكون فيها مفيد ًة موجود ٌة في كثير من بلدان العا َلم غير بلدان أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ،التي طالما كانت ِقبلة المجتمعات الإسلامية في الاستيراد منها .ونجد فيما ط َّوره كثير من المف ِّكرين والتربويين المسلمين ،من فلسفة التربية الإسلامية والنظرية التربوية الإسلامية ،ما َيلزم أ ْن يستفاد منه ،ولا سيما أ َّن إسهاماتهم في هذا المجال لم َتستب ِعد النظر في الخبرات البشرية المعاصرة في التربية ،لكنَّها َبنَ ْت على الأفكار الح َّية في التراث التربوي الإسلامي كذلك ،مع استنادها إلى المرجعية الحاكمة لتوجيهات الوحي الإلهي والهدي النبوي ،وتنزيل هذه التوجيهات وفق مقاصدها على الواقع والظروف المعاصرة. (1) Hirsch, Eric Donald. Why Knowledge Matters: Rescuing our Children from Failed Educational Theories, Cambridge, Mas: Harvard Education Press, 2016. P. 7-11. 394
رابع ًا :موقع الإسلام في علوم التربية: معظم المجتمعات الإسلامية المعاصرة ُتخ ِّصص مادة تعليمية أو أكثر في التعليم العامُ ،تس ّمى التربية الإسلامية ،أو التربية الدينية .وتأخذ هذه المادة (أو المواد) وزن ًا مح َّدد ًا في البرنامج المدرسي ،يتفاوت كثير ًا من بلد إلى آخر .وفي بعض البلدان الإسلامية التي تكون فيها نسبة غير المسلمين كبيرةُ ،تخ َّصص مادة ُتس ّمى التربية الأخلاقية Moral ،Educationيكون فيها شيء من التعليم عن جميع الأديان الموجودة في المجتمع، ويلتقي الطلبة من الأديان المختلفة في هذه الحالة على عناصر من التربية الأخلاقية تع ِّبر عن القيم المشتركة. و ُت ِل ُّح التو ُّجهات العلمانية في بعض البلاد الإسلامية على عدم تدريس الدين في المدارس؛ لأ َّن الدين في نظر تلك التو ُّجهات ليس شأن ًا اجتماعي ًا عام ًا ،وإ َّنما هو شأن خاصُ ،يت َرك للعائلة ،أو للمؤسسة الدينية. وتر ِّكز بعض المجتمعات الإسلامية على التعليم الديني ،وتقيم له مؤسسات متخ ِّصصة ،تعتمد مواد التعليم و ُن ُظمه التقليدية التي ُع ِرفت منذ قرون؛ ُب ْغ َي َة الحفاظ على الهوية ،كما هو الحال في التعليم الأزهري بمصر .وتتشابه مجتمعات ُأخرى مع المجتمعات السابقة في تركيزها على التعليم الديني ،ولكنَّه تعليم أكثر انفتاح ًا؛ إذ تضاف إلى علوم الشريعة علوم اللغة العربية ،وبعض العلوم الاجتماعية ،والعلوم الطبيعية، واللغات الأجنبية ،وذلك بهدف تحديث التعليم الديني .بيد أ َّن معظم مجتمعات المسلمين اليوم تعتمد ُن ُظم التعليم العام التي ط َّور ْتها الإدارات التعليمية في أثناء مرحلة الاستعمار، وبقيت بعد رحيل الاستعمار المباشر ،لتع ِّبر ع ّما يمكن أ ْن يكون استعمار ًا ثقافي ًا وتربوي ًا. وفي هذه النُّ ُظم يق ُّل الاهتمام بالتربية الدينية ،أو يكاد ينعدم .ومع ذلك ،فإ َّننا نجد بلدان ًا إسلامي ًة تفتح المجال لوجود مسارات تعليمية متعددة ،يكون في أحدها تركيز على العلوم الإسلامية ،ويختلف هذا التركيز من بلد إلى آخر .ولا نعدم وجود بلدان إسلامية فيها ثلاثة أنواع من المؤسسات التعليمية ،فيما يخت ُّص بالتعليم الديني ،مثل :التعليم العتيق، والتعليم الأصيل ،والتعليم العمومي. هذا عن التعليم العام .أ ّما بخصوص التعليم الجامعي ،فإ َّن معظم البلدان الإسلامية فيها كليات جامعية متخ ِّصصة في علوم الشريعة ،أو أقسام في كليات ُأخرى ،مهمتها تخريج 395
المتخ ِّصصين في التعليم الإسلامي في المدارس ،وتأهيل الأئمة والخطباء في المساجد، وتلبية حاجة المتخ ِّصصين في العلوم الإسلامية في دوائر القضاء والإفتاء .ونجد ذلك في برامج كليات الشريعة أو الدراسات الإسلامية ،أو شعب أو أقسام الدراسات الإسلامية في كليات ا لآداب. وإذا كان حديثنا الحالي ،في هذا العنوان الفرعي ،عن موقع الإسلام في علوم التربية ،فإ َّننا سنجد أ َّن ما ُط ِرح من حديث عن الإسلام سيكون -على الأغلب -حديث ًا عن موضوعات في العلوم الإسلامية (العقائد ،والعبادات ،والمعاملات) التي يجري تعليمها، ويصعب أ ْن ُنس ّميها فكر ًا تربوي ًا إسلامي ًا .أو نجد أ َّن أهداف تدريس هذه الموضوعات تتض َّمن تطوير الفكر التربوي الإسلامي .ومع ذلك ،فمن ال ُمتو َّقع أ ْن نجد بعض الطلبة الذين يمكنهم -نتيج ًة لتو ُّجهات شخصية ،أو ظروف بيئية معينة -أ ْن يط ِّوروا لأنفسهم شيئ ًا من عناصر الفكر التربوي الإسلامي .ور ّبما تكون نسبة هذا النوع من الطلبة نسب ًة ضئيلة. ول ّما كان كثي ٌر من مراجع التدريس الجامعي في علوم التربية (مثل :مقدمة في التربية، وأسس التربية ،وفلسفة التربية ،والمناهج التربوية ،وعلم النفس التربوي ،ونظريات التربية ،وغيرها من العلوم التربوية) كتب ًا جامعي ًة ُكتِبت أساس ًا في العا َلم الغربي ،واع ُت ِمد في تع ُّلمها على لغتها الأجنبية ،أو الترجمة العربية لها ،فإ َّن من المناسب النظر في موقع الإسلام في هذه الكتب. إ َّن دراسة الفكر الغربي المعاصر في أ ِّي حقل من حقول المعرفة (التربية ،أو الاقتصاد ،أو الاجتماع ،أو السياسة) تكشف ع ّما َيغرق فيه هذا الفكر من تت ُّب ٍع لتاريخه منذ أقدم العصور في أثينا وروما ،ث َّم ر َّبما يشير إشارات عابرة إلى الحضارة المصرية القديمة ،أو الهندية ،أو العراقية ،ث َّم يتجاهل عصر الظلمات الأوروبي (((،ويتجاهل تاريخ ((( يتح َّدث التاريخ الغربي عن العصور الوسطى الأوروبية باسم عصر الظلمات Ages Darkالذي امت َّد نحو عشرة قرون من سقوط الدولة الرومانية الغربية إلى مطلع عصر الأنوار في إيطاليا .وهو حقبة زمنية تقابل -بالتقريب- التاريخ الممتد من عام 500ميلادي إلى عام 1500ميلادي .انظر: - Oman, Charles. The Dark Ages (Quintessential Classics), Scotts Valley, California: CreateSpace, 2015. 396
العا َلم وحضاراته الأُخرى خارج أوروبا ،في أثناء هذا العصر ،الذي شهد ازدهار التط ُّور العلمي في الحضارة الإسلامية ،ليقفز إلى ما ُيس ّمى عصر الأنوار في أوروبا ،الذي شهد الاكتشافات العلمية والجغرافية والإصلاح الديني ،وبدأ بظهور كثير من العلماء في سائر المجالات ،وانتهى بالشخصيات التربوية التي ش َّكلت نظرياتها معظم الممارسات التربوية الحديثة والمعاصرة .وهذا نوع من التح ُّيز الظاهر في الفكر التربوي الغربي ،كما هو في الفكر الغربي في سائر الحقول(((. ولع َّل من المفيد أ ْن ُنن ِّوه بأ َّن مادة في التربية الإسلامية وأطروحات جامعية عن شخصيات تربوية إسلامية أصبحت موضوعات للدراسة في عدد من الجامعات الغربية(((. ومن المفيد كذلك أ ْن ُنن ِّوه بأ َّن الطبعات الحديثة لبعض الكتب المنهجية في أسس التربية - Textbooks on Foundation of Educationمثل ًا -قد أضافت فقرات ،وأحيان ًا ،فصل ًا كامل ًا عن التربية الإسلامية ،ولم تكن هذه الإضافات موجودة في الطبعات السابقة من الكتب نفسها (((.ور َّبما يعكس ذلك التط ُّور شيئ ًا من آثار الحضور الإسلامي المحلي المحدود في المجتمعات الغربية ،أكثر م ّما يعكس اهتمام ًا بملايين المسلمين في العا َلم، أو الاعتراف بعراقة الحضارة الإسلامية و ُعمق إسهاماتها في تاريخ الإنسان. ((( ملكاوي\" ،التحيز في الفكر التربوي الغربي\" ،مرجع سابق ،ص.181-202 ((( عند مراجعة ملخصات الأطروحات الجامعية ( Dissertation Abstract International (DAIفي شبكة الإنترنت، نجد تحت عنوان Islamic Educationعدد ًا من الأطروحات الجامعية .وإذا أدخلت التهجئة المناسبة لأسماء الشخصيات الإسلامية ،فإ َّنك تجد بحوث ًا عن الإسهام التربوي لابن تيمية ،والغزالي ،وابن خلدون ،وغيرهم. (3) McNergney, Robert. & Herbert, Hoanne. Foundation of Education: the Challenge of Professional Practicem, Boston: Allyn and Bacon, Third Edition, 2001, p152. 397
المبحث الرابع القيم في علوم التربية أولاً :ضرورة الاهتمام بموقع القيم في علوم التربية: أشرنا فيما سبق إلى أ َّن للعلم ثلاثة مك ِّونات؛ أحدها مك ِّو ٌن يؤ ِّثر في مشاعر الإنسان واتجاهاته وقيمه ،وفي طريقة تفاعله وسلوكه .وعلى هذا الأساس تأتي الحاجة إلى التعامل مع هذا الجانب ،عن طريق النظر في أخلاقيات المعرفة العلمية وطرق تأثيرها على مستوى التص ُّور العقلي والشعور النفسي في َمن يتل ّقى هذه المعرفة .وقد يتج ّلى أثر العلم في الأغراض التي ُيستخ َدم فيها ،وما يتح َّقق نتيج ًة لذلك من منافع أو مفاسد .ومن المعروف أ َّن الطريقة التي يق ِّدم بها ال ُمد ِّر ُس ماد َة العلم تؤ ِّثر في الاتجاه الذي يك ِّونه الطلبة نحو ذلك العلم .والأصل أ ْن تؤدي عملية التدريس إلى اتجاهات إيجابية نحو موضوع الدرس عند الطلبة؛ ما يساعد على استيعابهم للموضوع ،واستفادتهم منه ،ور َّبما يؤدي ذلك إلى تف ُّوقهم وإبداعهم فيه ،وقد يكون ذلك أساس ًا لاختياره موضوع ًا للتخ ُّصص في المراحل الدراسية اللاحقة. و َث َّمة تداخ ٌل كبير بين المصطلحات ذات الصلة بهذا المك ِّون من العلم ،حيث َي ِر ُد استخدام مصطلحات \"الاتجاهات\" ،و\"الميول\" ،و\"القيم\" ،و\"الأخلاق\" ،و\"المشاعر\"، و\"الانفعالات\" ،وغير ذلك .ونختار أ ْن نتح َّدث بشي ٍء من التوضيح عن مصطلح \"القيم\" الذي يتصل اتصالاً مباشر ًا بالفكر التربوي الإسلامي؛ سواء كانت هذه القيم جزء ًا من الموضوع الدراسي ،أو هدف ًا تربوي ًا لذلك الجزء ،أو ِق َيم ًا تخت ُّص ببناء الشخصية الإنسانية لل ُمتع ِّلم؛ نتيج ًة لتع ُّلمه ذلك الموضوع .فالقيم من أهم ما يش ِّكل شخصية الإنسان ،ولا سيما عندما تتصل القيم بالإيمان؛ فالقيم الإيمانية على وجه التحديد تفرض على المؤمن اتجاه التفاؤل في الحياة ،فيسعى إلى الحضور الفاعل في المجتمع ،ليس لتأكيد ذاته فحسب، بل ليملأ حياته بالنشاط والحيوية في بيئته الطبيعية والاجتماعية؛ مبادأ ًة ،وبحث ًا ،وإتقان ًا، وابتكار ًا ،وسعي ًا حثيث ًا للإصلاح والبناء والتق ُّدم .والشخصية المكتنزة بالقيم الإيمانية لا ُب َّد أ ْن تنعكس على علاقة الفرد بالمجتمع من حوله حتى تتح َّقق خصائص التعا ُون والترا ُحم 398
والتكا ُمل بين الأفراد الذين يك ِّونون جسد الأُ َّمة ،وتتج ّلى منظومة القيم في حياتها ،من خلال المعتقدات والعبادات والمعاملات التي تع ِّزز كلها ال ُب ْعد الاجتماعي في حياة الأُ َّمة. إ َّن أهم ما تخت ُّص به القيم في الرؤية التربوية الإسلامية هو ضبط الأهداف التي تسعى التربية إلى تحقيقها ،عن طريق ضمان التكا ُمل بين عناصر العمل التربوي ،وهي: المعرفة العلمية ،وطرق التفكير والبحث في اكتسابها ،والأثر الأخلاقي لتوظيفها ،وعن طريق التكا ُمل في بناء شخصية الإنسان على ما فطره الله عليه من تكا ُمل في المجال العقلي والخلقي والوجداني. وتأتي أهمية معالجة موقع القيم في الفكر التربوي من الحاجة إلى التمييز بين المادة الدراسية التي تح ِّددها المناهج والبرامج التربوية ،وما تتض َّمنه هذه المادة من حقائق ومفاهيم ومبادئ وقوانين ونظريات َتتح َّدد عاد ًة في ضوء الخبرة البشرية المتج ِّددة من جهة ،والمصدر الذي يصلح أ ْن يكون مرجعي ًة للحكم على هذه المادة العلمية من حيث تص ُّورها العقلي وتوظيفها في الأغراض العملية من جهة ُأخرى .فمصدر الحكم هذا لا يمكن أ ْن يكون كامن ًا في المادة نفسها؛ إذ لا ُب َّد أ ْن يأتي من خارجها .ونجد في المعتقدات الدينية الإسلامية المستندة إلى نصوص الوحي الإلهي والهدي النبوي ما يش ِّكل هذه المرجعية في تص ُّورنا للمعرفة العلمية ،وفي تحديدنا للأغراض المعتبرة شرع ًا لتوظيفها. و َث َّمة سب ٌب آخر لبيان أهمية معالجة موقع القيم في الفكر التربوي الإسلامي ،هو أ َّن كثير ًا من العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية -التي هي موضوعات للمناهج الدراسية في المجتمعات الإسلامية -هي علوم نمت وتط َّورت في القرون الثلاثة الأخيرة في الغرب الأوروبي والأمريكي .وهذه العلوم بطبيعة نشأتها ،وطريقة صياغتها ،وطرق توظيفها ،ليست خالية من مرجعيات قيمية على مستوى التص ُّور ،وعلى مستوى التوظيف؛ لأ َّن فيها من الإحالات الفكرية والفلسفية ما يحتاج إلى درجة متق ِّدمة من الوعي والقدرة على التفكيك؛ ذلك أ َّن التو ُّجه الفكري العلماني في الغرب يجعل العل َم مرجعي َة ذاتِه، ليس فقط في العلوم الطبيعية ،وإ َّنما في العلوم الإنسانية والاجتماعية كذلك .وفي ذلك يقول المسيري\" :شهدت العلوم الإنسانية في الغرب انقطاع ًا كامل ًا من عصر النهضة الأوروبية ،فأصبح ك ُّل عل ٍم مرجعي َة ذاتِه؛ فالاقتصاد مرجعيته اقتصادية ،والسياسة مرجعيتها سياسية ...وهذا يعني -في واقع الأمر -الانفصال الكامل الشامل؛ أ ْي إ َّن عملية 399
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210
- 211
- 212
- 213
- 214
- 215
- 216
- 217
- 218
- 219
- 220
- 221
- 222
- 223
- 224
- 225
- 226
- 227
- 228
- 229
- 230
- 231
- 232
- 233
- 234
- 235
- 236
- 237
- 238
- 239
- 240
- 241
- 242
- 243
- 244
- 245
- 246
- 247
- 248
- 249
- 250
- 251
- 252
- 253
- 254
- 255
- 256
- 257
- 258
- 259
- 260
- 261
- 262
- 263
- 264
- 265
- 266
- 267
- 268
- 269
- 270
- 271
- 272
- 273
- 274
- 275
- 276
- 277
- 278
- 279
- 280
- 281
- 282
- 283
- 284
- 285
- 286
- 287
- 288
- 289
- 290
- 291
- 292
- 293
- 294
- 295
- 296
- 297
- 298
- 299
- 300
- 301
- 302
- 303
- 304
- 305
- 306
- 307
- 308
- 309
- 310
- 311
- 312
- 313
- 314
- 315
- 316
- 317
- 318
- 319
- 320
- 321
- 322
- 323
- 324
- 325
- 326
- 327
- 328
- 329
- 330
- 331
- 332
- 333
- 334
- 335
- 336
- 337
- 338
- 339
- 340
- 341
- 342
- 343
- 344
- 345
- 346
- 347
- 348
- 349
- 350
- 351
- 352
- 353
- 354
- 355
- 356
- 357
- 358
- 359
- 360
- 361
- 362
- 363
- 364
- 365
- 366
- 367
- 368
- 369
- 370
- 371
- 372
- 373
- 374
- 375
- 376
- 377
- 378
- 379
- 380
- 381
- 382
- 383
- 384
- 385
- 386
- 387
- 388
- 389
- 390
- 391
- 392
- 393
- 394
- 395
- 396
- 397
- 398
- 399
- 400
- 401
- 402
- 403
- 404
- 405
- 406
- 407
- 408
- 409
- 410
- 411
- 412
- 413
- 414
- 415
- 416
- 417
- 418
- 419
- 420
- 421
- 422
- 423
- 424
- 425
- 426
- 427
- 428
- 429
- 430
- 431
- 432
- 433
- 434
- 435
- 436
- 437
- 438
- 439
- 440
- 441
- 442
- 443
- 444
- 445
- 446
- 447
- 448
- 449
- 450
- 451
- 452
- 453
- 454
- 455
- 456
- 457
- 458
- 459
- 460
- 461
- 462
- 463
- 464
- 465
- 466
- 467
- 468
- 469
- 470
- 471
- 472
- 473
- 474
- 475
- 476
- 477
- 478
- 479
- 480
- 481
- 482
- 483
- 484
- 485
- 486
- 487
- 488
- 489
- 490
- 491
- 492
- 493
- 494
- 495
- 496
- 497
- 498
- 499
- 500
- 501
- 502
- 503
- 504
- 505
- 506
- 507
- 508
- 509
- 510
- 511
- 512
- 513
- 514
- 515
- 516
- 517
- 518
- 519
- 520
- 521
- 522
- 523
- 524
- 525
- 526
- 527
- 528
- 529
- 530
- 531
- 532
- 533
- 534
- 535
- 536
- 537
- 538
- 539
- 540
- 541
- 542
- 543
- 544
- 545
- 546
- 547
- 548
- 549
- 550
- 551
- 552
- 553
- 554
- 555
- 556
- 557
- 558
- 559
- 560
- 561
- 562
- 563
- 564
- 565
- 566
- 567
- 568
- 569
- 570
- 571
- 572
- 573
- 574
- 575
- 576
- 577
- 578
- 579
- 580
- 581
- 582
- 583
- 584
- 585
- 586
- 587
- 588
- 589
- 590
- 591
- 592
- 593
- 594
- 595
- 596
- 597
- 598
- 599
- 600
- 601
- 602
- 603
- 604
- 605
- 606
- 607
- 608
- 609
- 610
- 611
- 612
- 613
- 614
- 615
- 616
- 617
- 618
- 619
- 620
- 621
- 622
- 623
- 624
- 625
- 626
- 627
- 628
- 629
- 630
- 631
- 632
- 633
- 634
- 635
- 636
- 637
- 638
- 639
- 640
- 641
- 642
- 643
- 644
- 645
- 646
- 647
- 648
- 649
- 650
- 651
- 652
- 653
- 654
- 655
- 656
- 657
- 658
- 659
- 660
- 661
- 662
- 663
- 664
- 665
- 666
- 1 - 50
- 51 - 100
- 101 - 150
- 151 - 200
- 201 - 250
- 251 - 300
- 301 - 350
- 351 - 400
- 401 - 450
- 451 - 500
- 501 - 550
- 551 - 600
- 601 - 650
- 651 - 666
Pages: