Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

Published by آيه الشوابكه, 2021-04-03 00:56:36

Description: الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

Search

Read the Text Version

‫فعاليته من طور إلى طور‪ ...‬وهذا يجعلنا نصوغ مشكلته صياغة جديدة‪ ،‬وأ ْن نتساءل‪ :‬ما‬ ‫هي الظروف التي تجعل المجتمع يخلق في الفرد القيمة التي تبعث فيه الفعالية؟‪(((\".‬‬ ‫لك َّن مالك بن نبي‪ ،‬وهو يحاول الإجابة عن هذا السؤال‪ ،‬أعاد صياغة القضية‪ ،‬ف َتب َّين‬ ‫له أ َّن كثير ًا من التغ ُّيرات التي حدثت في التاريخ كانت بدايتها في مجتمعات م َّرت بحالة‬ ‫ركود وكساد‪ ،‬وتم َّتع فيها الفر ُد بحالة الاستقرار التي لا يرافقها قلق؛ فلم يجد ما يدعوه إلى‬ ‫تغيير الأوضاع من حوله؛ لأ َّن الأمور سارت من دون أ ْن يكون له أث ٌر فيها‪\" .‬وهنا يصبح‬ ‫التاريخ سيل ًا يجرفه إلى حيث لا يدري‪ ،‬مستسلم ًا له الاستسلام المطلق‪ \".‬وفي حالات‬ ‫معينة من تاريخ المجتمعات يحدث شي ٌء مختل ٌف‪ ،‬أساسه أ َّن المجتمع تنتابه حالة من‬ ‫القلق والشعور بالخطر؛ \"سواء أكان الخطر واقعي ًا أم مج َّرد فكرة خامرت العقول‪ \".‬وتظهر‬ ‫الحاجة إلى \"حالة إنقاذ\"‪ ،‬يسيطر عليها القلق‪ ،‬ويه ُّزها الشعور بحالة إنقاذ‪ ،‬فتتش َّخص‬ ‫أمامها الغايات‪ ،‬وتعنو لها المصاعب‪ \".‬وفي كل هذه الحالات كان ينطلق من المجتمع فر ٌد‬ ‫يقود مجتم َعه‪ .‬قال مالك‪\" :‬وهكذا ينطلق الفرد الذي كان من قب ُل ُمك َّبل ًا بكساده‪ ،‬ينطلق‬ ‫لأ َّنه يشعر فجأ ًة بانفجار ذاتي في نف ِسه‪ ،‬انفجار ُيط ِلق طاقاته المك َّبلة‪ ،‬ف ُتغ ِّير وجه التاريخ‪.‬‬ ‫وإ َّن هذه الشروط‪ ...‬لهي الشروط النفسية الاجتماعية التي تح ِّرك المجتمعات‪ ،‬وتفرض‬ ‫على الأفراد الانسجام مع قانون تلك الحركة‪ ،‬بما لديهم من المؤهلات المكتسبة‪ ،‬التي‬ ‫تك ِّون ما س َّميناه المعادلة الاجتماعية‪ ،‬أعني المعادلة التي تح ِّدد فعاليتهم أمام المشكلات‪،‬‬ ‫وتعطيهم قيمتهم في المجتمع‪ ،‬وفي التاريخ‪(((\".‬‬ ‫وحين تح َّدث مالك بن نبي عن الصراع الفكري في العا َلم الإسلامي‪ ،‬فقد لفت‬ ‫الانتباه إلى أ َّن \"الكثير من المثقفين المسلمين ُي ْف َتنون بالأشياء الجديدة‪ ،‬وبالتالي ُيس َحرون‬ ‫بمنطق الفعالية‪ ،‬ولا ُيم ِّيزون بين حدود توافقها مع مهام مجتمع يريد أ ْن ينهض دون أ ْن‬ ‫يفقد هويته‪ ...‬هؤلاء الذي مردوا بإدمان على تقليد الآخرين‪ ،‬ليس لديهم أ ُّي مفهوم‬ ‫عن ابتكار هذا الغير‪ ،‬ولا عن دوافع هذا الابتكار‪ ،‬عن تكاليفه في جميع المجالات التي‬ ‫يق ِّلدونهم فيها‪ ،‬وكان الأجدر بهم أ ْن يبتكروا هم أنفسهم وفق دوافعهم الخاصة بدل أ ْن‬ ‫((( ابن نبي‪ ،‬مالك‪ .‬تأملات‪ ،‬دمشق‪ :‬دار الفكر‪2002 ،‬م‪ ،‬ص‪.135‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.138-135‬‬ ‫‪350‬‬

‫يق ِّلدوا‪ .‬ويجب أ ْن نلاحظ أ َّن هذا التقليد ليس تقليد ًا لفعالية أ ِّي مجتمع دينامي‪ ،‬كما فعلت‬ ‫اليابان مثل ًا‪ ،‬ولكنَّه تقليد لقالب فلسفي يصبح دفع ًة واحد ًة منطق ًا معادي ًا للإسلام‪ ...‬فالعا َلم‬ ‫الثقافي في البلاد الإسلامية (هو) الحلبة التي ينبغي فيها الانتصار في صراع يفرض منطلق‬ ‫الفعالية‪ .‬فالفكرة الإسلامية لكي تقارع الأفكار الف ّعالة للمجتمعات المتح ِّركة في القرن‬ ‫العشرين عليها أ ْن تستعيد فعاليتها الخاصة؛ أ ْي أ ْن تأخذ من جديد مكانها وسط الأفكار‬ ‫التي تصنع التاريخ‪(((\".‬‬ ‫رابع ًا‪ :‬واقع المعالجة المقاصدية للعمل التربوي‪:‬‬ ‫كثي ٌر من الدراسات التي تح َّدثت عن تفعيل المقاصد في المجال التربوي كانت‬ ‫تصر ُف جهد ًا كبير ًا في عرض معنى المقاصد وأهميتها في العلوم الشرعية‪ ،‬وضرورتها‬ ‫للفقيه والمجتهد‪ ،‬مع التركيز على مقاصد الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات‪.‬‬ ‫وقد تبع ذلك حدي ٌث عن فائدة العلم بالمقاصد وضرورتها‪ ،‬ويأتي الحديث أخير ًا عن‬ ‫تفعيل المقاصد في العمل التربوي‪ ،‬والطرائق المقترحة لتضمين العلم‪(((.‬‬ ‫وحتى حين ُيع ِّرف الباحث مصطلح \"تفعيل\" المقاصد الشرعية في المناهج الدراسية‪،‬‬ ‫بقوله‪ :‬إ َّن هذا التفعيل هو \"كيفية َب ِّث هذه المقاصد في المناهج المختلفة في المواد‬ ‫الدراسية للمرحلة الأساسية والمتوسطة‪ ،‬من حيث تأطيرها لمختلف المواد المد َّرسة‪،‬‬ ‫واختيار الملائم منها لكل مادة\"(((؛ فإن الباحث يكون َم ْعنِ ّي ًا بتدريس المواد الدينية‪ ،‬وكيفية‬ ‫توزيع مباحث المقاصد فيها‪.‬‬ ‫وتأتي أهمية الحديث عن تفعيل المقاصد التربوية‪ ،‬من ملاحظتنا للقصور في المفهوم‬ ‫الشائع للتفعيل في بعض الكتابات المعاصرة؛ ذلك أ َّن الوعي بحداثة الاهتمام بموضوع‬ ‫((( ابن نبي‪ ،‬مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.110-109‬‬ ‫((( انظر مث ًلا‪:‬‬ ‫‪ -‬بولوز‪ ،‬محمد‪\" .‬مقاصد الشريعة وأهدافها وكيفية تفعيلها في المناهج الدراسية\"‪ ،‬مجلة أصول الدين‪ ،‬الجامعة‬ ‫الأسمرية الإسلامية ‪ -‬ليبيا‪ ،‬العدد (‪2017 ،)2‬م‪ ،‬ص‪.246-168‬‬ ‫‪ -‬الأرجواني‪ ،‬حمزة أبو فارس‪\" .‬مقاصد الشريعة وأهدافها وكيفية تفعيلها في المناهج الدراسية\"‪ ،‬مجلة أصول‬ ‫الدين‪ ،‬الجامعة الأسمرية الإسلامية‪ -‬ليبيا‪ ،‬العدد (‪2018 ،)2‬م‪ ،‬ص‪.139-120‬‬ ‫((( بولوز‪\" ،‬مقاصد الشريعة وأهدافها وكيفية تفعيلها في المناهج الدراسية\"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.180‬‬ ‫‪351‬‬

‫المقاصد‪ ،‬ولفت الانتباه إليه بوصفه من قضايا التجديد في دراسة العلوم الدينية‪ ،‬رافقه‬ ‫دعو ٌة إلى تعليم هذا الموضوع‪ ،‬وتقديمه في عدد من المستويات ضمن مراحل التعليم‬ ‫العام والجامعي‪ .‬فهذا النوع من التفعيل لا يتجاوز كونه تقديم مادة دراسية جديدة‪ ،‬تضاف‬ ‫إلى المواد الأُخرى‪ .‬ونحن هنا لا نق ِّلل من أهمية هذا المفهوم‪ ،‬وضرورة تأكيده في المناهج‬ ‫التعليمية‪ ،‬ولكنَّه ‪-‬في نهاية المطاف‪ -‬تعلي ٌم للمقاصد بوصفه موضوع ًا للدراسة‪ .‬وقد يصل‬ ‫مفهوم \"التفعيل\" إلى مستوى أكثر تق ُّدم ًا عند الدعوة إلى الانتقال من تعليم الموضوعات‬ ‫المختلفة في العلوم الدينية‪ ،‬ولا سيما الأحكام الفقهية في مجال العبادات والمعاملات‬ ‫بالطريقة التقريرية وطرق استنباطها أو الاستدلال لها‪ ،‬إلى تعليم هذه الأحكام الفقهية‬ ‫مع بيان مقاصدها‪ ،‬وما يحت ُّف بها من ِح َك ٍم و ِعل ٍل وأسبا ٍب‪ .‬ومن المؤ َّكد كذلك أ َّن هذا‬ ‫المفهوم الثاني له وجاه ُته وضرور ُته؛ إذ إ َّنه يتعامل مع المقاصد بوصفه منهج ًا في التعليم‪.‬‬ ‫فهل نستطيع أ ْن نتق َّدم خطو ًة ُأخرى في مفهوم \"تفعيل المقاصد التربوية والتعليمية\"‪،‬‬ ‫بالنظر إلى المقاصد‪ ،‬أو الغايات‪ ،‬أو الأهداف التربوية ذات الصلة المباشرة بشخصية‬ ‫الإنسان الذي نستهدفه في العمل التربوي‪ ،‬والعلوم التي َيلزم أ ْن يكتسبها هذا الإنسان‪،‬‬ ‫والصورة التي يتج ّلى فيها سلوك هذا الإنسان‪ ،‬في الواقع العملي‪ ،‬والحياة الاجتماعية‪،‬‬ ‫والحالة الحضارية للمجتمع الذي نمارس من أجله تفعيل المقاصد التربوية؟‬ ‫إ َّن المقاصد التربوية التي نتح َّدث عنها هي المقاصد القرآنية التي تتصل اتصالاً مباشر ًا‬ ‫بالقضايا التربوية التي نبتغي لها حكم ًا‪ ،‬والحكم هنا لا يقتصر على تقديم الفتوى بما يجوز‬ ‫وما لا يجوز أ ْن نفعله في مسألة تربوية‪ ،‬وإ َّنما هو إقامة الصلة بين المقاصد القرآنية والحالة‬ ‫التربوية في مجتمعاتنا الإسلامية؛ في جميع أركان هذه الحالة التربوية‪ ،‬وما تستند إليه من‬ ‫فلسفة و ُن ُظم وبرامج ومناهج‪ ،‬وما تتصف به حالة ال َم ْعنِ ّيين بالتربية في مستوياتهم الإدارية‬ ‫المختلفة‪ ،‬وما ينعكس من كل ذلك على حالة الإنسان الذي تخ ِّرجه مؤسسات التربية‪.‬‬ ‫وتفعيل المقاصد التربوية هنا يبدأ بصياغة الرؤية التربوية الإصلاحية‪ ،‬التي تف ِّعل مهمة‬ ‫التربية في الإصلاح والتغيير والنهوض الحضاري للمجتمع‪ .‬و َمن يستطيع صياغة هذه‬ ‫الرؤية غير الفقيه المقاصدي التربوي؟!‬ ‫‪352‬‬

‫خامس ًا‪ :‬تقويم المقاصد التربوية‬ ‫للتقويم معا ٍن متعددة‪ ،‬تختلف باختلاف السياق‪ ،‬وما َي ُه ُّمنا في التقويم التربوي بعض‬ ‫المعاني التي تتصل ببعض الإجراءات المهمة في العملية التربوية؛ فتقوي ُم ال ُمع َو ِّج تعدي ُله‪،‬‬ ‫وتقوي ُم شي ٍء معرف ُة قيمتِه‪ ،‬وتقوي ُم البرنام ِج معرف ُة نتائ ِجه‪ ،‬وتقوي ُم الأخلا ِق تهذي ُبها‬ ‫وإصلا ُحها‪ ،‬وتقوي ُم الخطأِ تصحي ُحه‪ ،‬وتقوي ُم أدا ِء العاملين تقدي ُر كفاءتهم في الاستمرار‪،‬‬ ‫أو تعدي ُل مكافآتهم‪ ،‬أو حاجتهم للتدريب والتطوير‪ ،‬وهكذا‪ .‬وهذا يعني أ َّن َث َّمة بيانا ٍت عن‬ ‫حال ٍة معينة تستدعي اتخاذ قرار في ضوئها‪.‬‬ ‫والعملية التربوية لها مقاصد وأهداف تسعى إلى تحقيقها‪ ،‬والتقوي ُم رك ٌن أسا ٌس في‬ ‫هذه العملية‪ ،‬وظيفته الكشف عن مدى تحقيق المقاصد والأهداف‪ .‬ففي تقويم التعليم‬ ‫‪-‬مثل ًا‪ -‬ثلاث عمليات مهمة‪ :‬جمع البيانات عن نتيجة التعليم‪ ،‬بدلالة مدى تح ُّقق‬ ‫الأهداف المرسومة‪ ،‬ث َّم إصدار حكم على هذه النتيجة‪ ،‬وأخير ًا اتخاذ قرار مناسب ع ّما‬ ‫َيلزم عمله في ضوء ذلك الحكم‪.‬‬ ‫‪ .1‬صحة الأفكار وفاعليتها‪:‬‬ ‫تكمن قيمة الأفكار التربوية في صحتها وفاعليتها مع ًا‪ .‬وللتث ُّبت من الصحة والفاعلية‬ ‫مقاييس‪ .‬وقد عرف الفكر المنهجي في التاريخ الإسلامي قاعد ًة عام ًة في الضبط والتث ُّبت‬ ‫والاستدلال‪ ،‬تقول‪\" :‬إ ْن كن َت ناقل ًا فالصحة‪ ،‬وإ ْن كن َت ُم َّدعي ًا فالدليل‪ \".‬أو بعبارة ابن‬ ‫تيمية‪\" :‬العلم إ ّما نق ٌل ُم َص َّدق‪ ،‬أو استدلا ٌل‪ (((\".‬وتستند هذه القاعدة إلى نصوص القرآن‬ ‫الكريم الصريحة في التث ُّبت في الرواية‪ ،‬والبرهان في الا ِّدعاء‪ ،‬وقد تم َّث َلها التاريخ‬ ‫الإسلامي في نشأة العلوم النقلية والعقلية والعملية‪ .‬وكشف هذا التاريخ في ميدان الرواية‬ ‫عن الو ّضاعين‪ ،‬والك ّذابين‪ ،‬والمد ِّلسين‪ ،‬والضعفاء‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬م َّمن لم يكن العلماء‬ ‫يعت ّدون برواياتهم؛ وكشف في علم التاريخ عن اعتماد الطبائع والوقائع في الحكم على‬ ‫((( ابن تيمية‪ ،‬تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام (توفي‪728 :‬ﻫ)‪ .‬مجموعة الفتاوي‪ ،‬عناية وتخريج‪:‬‬ ‫عامر الجزار وأنور الباز‪ ،‬المنصورة‪ :‬دار الوفاء‪ ،‬ج‪( 13‬كتاب مقدمة التفسير)‪1426( ،‬ﻫ‪2005/‬م)‪ ،‬ص‪.185‬‬ ‫‪353‬‬

‫الروايات‪ ،‬وفي الكلام عن ال ُحجج والأدلة العقلية‪ ،‬كما كشف هذا التاريخ في علم الطب‬ ‫عن التجارب المخبرية والأدوات العملية؛ وكشف في علم الفلك عن المراصد وسجلات‬ ‫المشاهدات والقياسات والحسابات‪ ،‬وكذلك الأمر في غيرها من العلوم‪.‬‬ ‫ويمكننا اليوم فهم كثير من عناصر البحث العملي ومناهجه في العا َلم المعاصر في‬ ‫ضوء هذه القاعدة‪ ،‬ولكنَّنا نشعر ‪-‬أكثر من أ ِّي وقت مضى‪ -‬أ َّن ما هو شائع من الأفكار‬ ‫ليس بالضرورة أ ْن يكون أفكار ًا صحيح ًة‪ ،‬لا سيما بعد أ ِن امتلأت وسائل التوا ُصل والنشر‬ ‫الحديثة بكثير من سوء الاستعمال‪ ،‬وعمليات النشر وإعادة النشر‪ ،‬دون تف ُّكر أو تث ُّبت من‬ ‫صحة ما يعاد نشره؛ إذ يمكنها استغلال اسم عالِ ٍم في نشر أفكا ٍر غير صحيحة‪ ،‬لترفع ِمن‬ ‫شأن َمن لا يستحق‪ ،‬أو تشويه ُسمعة َمن هو أه ٌل للمدح والثناء‪.‬‬ ‫ث َّم إ َّن الكذب والافتراء والاحتيال والتحريف أمور عرفها الإنسان على مدار التاريخ‪،‬‬ ‫وقد س َّجل لنا القرآن الكريم أمثل ًة عديد ًة على هذه الممارسات‪ ،‬وكذلك شهد تاريخ‬ ‫البحث العلمي في العصور الحديثة ‪-‬ولا يزال يشهد‪ -‬أمثل ًة على هذه الممارسات‪ .‬فبعض‬ ‫ما ُع ِرف وانتشر من الأفكار والنظريات في العلوم السلوكية والاجتماعية كان مبني ًا على‬ ‫نتائج بحو ٍث َتب َّين فيما بع ُد أ َّنها مزيف ٌة‪ ،‬ولا تتصل بالحقيقة‪ .‬ففي مقالة مالكولم أشمور‬ ‫‪ Malcolm Ashmore‬في موسوعة \"طرائق البحث في العلوم الاجتماعية\"‪ ،‬أشار الكاتب‬ ‫إلى كثرة ما ارتبط من النتائج المز َّورة في بحوث العلوم الطبيعية‪ ،‬وإلى وجودها في العلوم‬ ‫الاجتماعية‪ ،‬ولك ْن بصورة أق َّل‪ ،‬ولكنَّه عزا ق َّلتها في العلوم الاجتماعية إلى صعوبة الكشف‬ ‫عن التزوير فيها‪(((.‬‬ ‫ونكتفي بمثا ٍل واح ٍد من الأفكار التي تأ َّسست عليها كثي ٌر من القرارات التربوية‬ ‫في العا َلم‪ ،‬وهي أفكا ٌر تخت ُّص بقضي ٍة مهم ٍة من قضايا علم النفس‪ ،‬نالت شهر ًة واسع ًة‪،‬‬ ‫بنا ًء على بحوث ودراسات ميدانية في علم النفس‪ ،‬أجراها عالِم النفس البريطاني السير‬ ‫سيريل بيرت (‪1971-1883‬م) عن ارتباط الذكاء البشري بالوراثة‪ ،‬في خمسينيات القرن‬ ‫‪(1) Ashmore, Malcolm. \"Farud in Research\", The Sage Encyclopedia Social Science Research‬‬ ‫‪Methods, edited by Michael S. Lewis-Beck and others, London: Sage Publication, 2004,‬‬ ‫‪pp. 403-404.‬‬ ‫‪354‬‬

‫العشرين وستينياته‪ ،‬و َتب َّين فيما بع ُد أ َّن نتائج هذه البحوث لم تكن إلا تلفيق ًا وغ ّش ًا وتلاعب ًا‬ ‫بالبيانات بهدف تبرير أفكار عنصرية‪ ،‬وأ َّن بعض ما ا َّدعاه بيرت من دراسات ميدانية لم يكن‬ ‫له وجو ٌد في الواقع العملي‪(((.‬‬ ‫وقد قبلت الجمعية البريطانية لعلم النفس ال ُّت َه َم التي ُو ِّجهت إلى السير بيرت‪،‬‬ ‫رغم أ َّن عدد ًا من الباحثين حاولوا الدفاع عنه‪ .‬ولك ْن‪ ،‬حتى هؤلاء لم ينكروا أ َّنه \"اخترع\"‬ ‫بيانات ومساعدين فيما نشر من دراسات‪ .‬وأصبح السير سيريل بيرت ُيذ َكر بوصفه عالِم ًا‬ ‫غ ّشاش ًا‪ (((.‬والغريب أ َّن هذه القضية التي ُس ِّميت قضية بيرت ‪ The Burt Affair‬لا تزال‬ ‫موضع جدل (اتهام‪ ،‬ودفاع) بين أهل الاختصاص في علم النفس‪ ،‬وفلسفة العلوم‪ ،‬وتاريخ‬ ‫العلم‪ ،‬وأخلاقيات العلم‪ ،‬ومناهج البحث العلمي‪ .‬بيد أ َّن تت ُّبع جانب من هذا الجدل‬ ‫في الدوائر الأكاديمية لفت انتباهنا إلى عدد من الأمور‪ ،‬أ َّكدت أهمية التح ُّقق من صدق‬ ‫الأفكار وصحتها‪ .‬ومن هذه الأمور التي كشف عنها الجدل في قضية بيرت‪:‬‬ ‫‪ -‬بعض الذين دافعوا عن بيرت أشاروا إلى أ َّن المشكلات التي ُك ِشف عنها في أعماله‬ ‫وقع فيها َمن ا َّتهموه‪.‬‬ ‫‪َ -‬من حاولوا الدفاع عنه وتبرئته َتب َّين لهم من الدراسة التحليلية لتفاصيل دراساته‪،‬‬ ‫وحياته الشخصية‪ ،‬وتح ُّيزاته الاجتماعية‪ ،‬أ َّنه يستحق الإدانة فعل ًا‪.‬‬ ‫‪ -‬دوافع بعض َمن ا َّتهموه بالاحتيال والتزوير تثير الشبهة فيما يخ ُّص بعض أساليبهم‬ ‫العلمية‪.‬‬ ‫‪ -‬من غير الممكن تجا ُهل أثر التح ُّيزات الذاتية للباحث‪.‬‬ ‫‪َ -‬ث َّمة ُمه ِّددا ٌت عديدة لصدق التصميم البحثي‪ ،‬لا ُين َكر تأثيرها في نتائج البحوث‪،‬‬ ‫بما في ذلك بحوث بيرت‪ ،‬منها ما يس ّمى أثر هوثورن‪ ،‬الذي يعني أ َّن نتائج البحث‬ ‫‪(1) Bradford, Lisa. \"Fraudulent and Misleading Data by Lisa Bradford\" in: The sage Encyclopedia‬‬ ‫‪of Educational Research measurement and Evaluation, Edited by Bruce Frey, Teller Road:‬‬ ‫‪SAGE Publications Inc.,, 2018, pp. 708-712.‬‬ ‫‪(2) Ridgway, Jim. Cyril, & Lodovic Burt. The Routledge Encyclopedia of Educational Thinkers,‬‬ ‫‪Joy A. Palmer Cooper, (Ed.) London and New York: Routledge Taylor & Francis Group. First‬‬ ‫‪published 2016, pp. 265-269.‬‬ ‫‪355‬‬

‫سوف تميل إلى الاتجاه الذي يحاول تصميم البحث الكشف عن أثره؛ لأ َّن الأفراد‬ ‫المشاركين في البحث يشعرون بأ َّن َث َّمة تغيير ًا في إجراءات البيئة‪ُ ،‬ب ْغ َي َة الحصول‬ ‫على نتائج مح َّددة‪(((.‬‬ ‫ألا يعني ذلك أ َّن الدخان يختلط بالنار حول الموضوع بأكمله؟! و ِم ْن َث َّم يستدعي‬ ‫التث ُّبت والتب ُّصر‪.‬‬ ‫وفيما يخ ُّص الكشف عن فاعلية الأفكار‪ ،‬فإ َّن الذي يعنينا هنا هو الفكر التربوي‬ ‫الإسلامي الذي تق ِّدمه مؤسسات التربية والتعليم من أجل أ ْن يتم َّثله ال ُمتع ِّلمون‪ ،‬ويظهر في‬ ‫أفكارهم‪ ،‬ونفسياتهم‪ ،‬وأقوالهم‪ ،‬وأعمالهم‪ ،‬ويظهر في واقع المجتمع الإسلامي‪ ،‬وحالته‬ ‫الحضارية العامة؛ المعنوية والمادية‪.‬‬ ‫إ َّن درجة اكتساب هذا التم ُّثل‪ ،‬ث َّم تحقيق المقاصد التربوية في مستوياتها المختلفة؛‬ ‫المقاصد‪ ،‬والغايات العامة‪ ،‬على المستويات الإدارية المختلفة‪ ،‬وعلى مستوى العلوم‪،‬‬ ‫ومستوى المراحل الدراسية المختلفة‪ ،‬وعلى مستوى حاجة المجتمع من المؤسسات‬ ‫التعليمية‪ ،‬وعلى مستوى مراحل تحقيق الأهداف‪ ،‬وغير ذلك من المستويات‪ ... ،‬كل‬ ‫ذلك موضوع لفرع مهم من فروع التربية‪ ،‬هو التقويم التربوي‪ ،‬حيث يمكن الإحالة إلى‬ ‫المراجع المتخ ِّصصة‪.‬‬ ‫‪ .2‬التقويم التربوي في حالته السائدة‪:‬‬ ‫يتض َّمن هيكل وزارة التربية والتعليم في معظم البلدان العربية والإسلامية إدارة‬ ‫خاصة بشؤون التقويم التربوي‪ُ ،‬تس ّمى غالب ًا إدارة (أو مديرية‪ ،‬أو قسم) الامتحانات‪ ،‬أو‬ ‫الاختبارات العامة‪ .‬ور َّبما نجد في بعض البلدان مركز ًا متخ ِّصص ًا للتقويم التربوي يهتم‬ ‫((( حاول أحد الباحثين أ ْن يح ِّلل مواقف طرفي قضية بيرت‪ُ ،‬مف ِّض ًلا التو ُّسع في الكتابات التي حاولت الدفاع عنه‪،‬‬ ‫فراجع كتابين؛ الأول لكاتب حاول أ ْن يدرس كل حيثيات القضية‪ ،‬عن طريق دراسة حياة سيريل بيرت‪ ،‬فقضى‬ ‫خمس سنوات في كتابة حياة بيرت‪ُ ،‬محا ِولاً تبرئته م ّما ُن ِسب إليه من احتيال وتزوير في بيانات بحوثه‪ ،‬لكنَّه‬ ‫فوجئ بأ َّن ما ُن ِسب إليه من اتهامات كان صحيح ًا‪ .‬أ ّما الكتاب الآخر فقد أخذ على عاتقه كشف السقطات التي‬ ‫رافقت كل َمن ا َّتهم بيرت‪ ،‬لكنَّه لم ُين ِكر أ َّن بعض إجراءات بيرت في بحوثه كانت تنقصها العناية اللازمة‪ ،‬وأ َّن‬ ‫بعض المشكلات التي ُتن َسب إليه مألوفة في بحوث غيره‪ .‬انظر عرض تفاصيل الكتابين في‪:‬‬ ‫‪- Hattie, John. \"The Burt Controversy: An essay review of Harnshaw’s and Joynson’s‬‬ ‫‪Biographies and Sir Cyril Burt\", Alberta Journal of Educational Research, 37 (3), pp. 259-275.‬‬ ‫‪356‬‬

‫بقضايا البحث والتدريب في موضوع التقويم‪ .‬بيد أ َّن معظم ما تقوم به هذه الإدارات هو‬ ‫القياس‪ ،‬وليس التقويم؛ فالأدبيات التربوية تح ِّدد معنى التقويم بإصلاح حالة مح َّددة بعد‬ ‫معرفة ما تحتاج إليه من إصلاح‪ .‬ونكشف عن هذه الحاجة عن طريق القياس‪ ،‬باستخدام‬ ‫أدوات القياس المختلفة‪ .‬والحقيقة أ َّن جهود ًا مق َّدر ًة ُتص َرف في الإعداد العلمي والفني‬ ‫للاختبارات وفق ما توافر للمؤسسة من خبرات محلية وعالمية‪ ،‬ولك َّن الجهد الأكبر‬ ‫ُيب َذل في إدارة عمليات الامتحان‪ ،‬والحيلولة دون تس ُّرب الأسئلة‪ ،‬ومنع الغ ِّش في قاعات‬ ‫الامتحانات‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬ور َّبما نستطيع القول إ َّن جزء ًا كبير ًا من هذه الجهود ناتج من‬ ‫افتراض عدم الثقة بأمانة الإنسان ونزاهته‪.‬‬ ‫و ُت َع ُّد مواسم الامتحانات العامة في معظم مجتمعاتنا مواس َم طوارئ وظروف ًا‬ ‫استثنائي ًة؛ نتيجة حالة القلق التي يم ُّر بها الطلبة‪ ،‬وتعانيها أسرهم‪ ،‬وخطورة ما يمكن أ ْن يقع‬ ‫فيها من خلل ُيسيء إلى ُسمعة المجتمع بأكمله‪ ،‬وأهمية ما ُيبنى على نتائج الامتحان من‬ ‫قرارات‪ ،‬في العمل‪ ،‬أو مواصلة الدراسة الجامعية‪.‬‬ ‫ونكتفي بالإشارة هنا إلى عدد من الملحوظات التي ر َّبما تصف الحالة السائدة‬ ‫للتقويم التربوي في بلادنا‪:‬‬ ‫أ‪ .‬إ َّن التقويم التربوي في كثير من الأحيان يعني تقويم أداء ال ُمتع ِّلم في المادة التي‬ ‫تع َّلمها‪ ،‬وقليل من الاهتمام يتو َّجه إلى عناصر مهمة ُأخرى في العملية التربوية‪،‬‬ ‫حيث يكون من المهم تقويم فعالية ال ُمع ِّلم‪ ،‬والمناهج والمواد التعليمية‪ ،‬والبيئة‬ ‫التعليمية‪ ،‬والإدارة التعليمية‪ ،‬والفلسفة التربوية‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬ ‫ب‪ .‬إ َّن معظم أدوات التقويم ووسائله تتو َّجه إلى الجانب ال َك ِّمي في تع ُّلم الموضوعات‬ ‫العلمية‪ ،‬وتعتمد معيار ًا أساسي ًا هو المح ُّك الذي يقاس به مقدار هذا التع ُّلم‪ ،‬على‬ ‫افتراض أ َّن الح َّد الأعلى من مقدار التع ُّلم هو العلامة مئة‪ ،‬ث َّم النظر فيما ح َّصل‬ ‫ال ُمتع ِّلم من هذا الح ِّد الأعلى‪ .‬مع العلم بأ َّن َث َّمة معايي َر ُأخرى ذات أهمية بالغة‪ ،‬منها‬ ‫معيار النمو والتح ُّسن‪ ،‬الذي تقاس به معرفة ال ُمتع ِّلم قبل العملية التعليمية وبعدها‪،‬‬ ‫ور َّبما تقاس على مراحل لمعرفة مدى النمو والتق ُّدم من مرحلة إلى ُأخرى‪ .‬ومن‬ ‫هذه المعايير كذلك معيار الوسط المعياري لمجموعة ال ُمتع ِّلمين‪ ،‬الذي يقاس‬ ‫به متوسط معرفة ال ُمتع ِّلمين قبل عملية التعليم وبعدها لمعرفة درجة النمو عند‬ ‫مجموعة ال ُمتع ِّلمين‪ ،‬بحيث يقاس تع ُّلم الفرد منهم بالقياس إلى المجموعة‪.‬‬ ‫‪357‬‬

‫ت‪ .‬إ َّن معظم أساليب التقويم وأدواته تقيس كمية المعلومات‪ ،‬وق َّلما تهتم بقياس‬ ‫م َّدة تم ُّثل القيم والاتجاهات والفضائل‪ ،‬ب ُح َّجة أ َّن هذه الأهداف التربوية ُيت َرك أمر‬ ‫متابعتها للأسرة‪ ،‬أو ب ُح َّجة صعوبة قياس مدى تح ُّقق هذه الأهداف‪ ،‬أو ب ُح َّجة أ َّن‬ ‫هذه الأهداف تقاس بأساليب كيفية‪ ،‬وأ َّنه ليس لدينا الأدوات المناسبة لهذا الغرض‪.‬‬ ‫ث‪ .‬إ َّن ما يلفت الانتباه إلى نتائج التقويم هو الاهتمام بمعرفة ما لا ُي ْح ِسنه ال ُمتع ِّلم‪،‬‬ ‫ولا شك في أهمية ذلك؛ لما له من أثر في تصميم المواقف التعليمية العلاجية‪،‬‬ ‫لأفراد من الطلبة‪ .‬ولك ْن ما قد يكون أكثر أهمي ًة هو ما ُي ْح ِسنه ال ُمتع ِّلم‪ ،‬وما َيلزم‬ ‫أ ْن يكون موضع استثمار للقدرات المتم ِّيزة‪ ،‬وتوفير ُفرص الاهتمام بالمبدعين؛‬ ‫فر َّبما نجد كثير ًا من الطلبة الذين ُيب ِدع ك ٌّل منهم في مجال دون الآخر‪ .‬واستثمار‬ ‫هذه الإبداعات هو خدمة وتطوير في المجتمع كله‪ .‬وفي سيرة النبي ص ّلى الله عليه‬ ‫وس َّلم مع أصحابه كثي ٌر من مثل هذه المواقف التعليمية‪ ،‬التي تتض َّمن الكشف عن‬ ‫جوانب التم ُّيز عند آحاد الصحابة‪ ،‬وتدعو مجتمع الصحابة إلى توظيف هذا التم ُّيز‪.‬‬ ‫‪ .3‬نظام الجودة في التعليم‪ :‬‬ ‫يخت ُّص مفهوم \"الجودة\" بإتقان العمل وفق مواصفات مح َّددة‪ .‬وهذا المفهوم ُمغ ِرق‬ ‫في ال ِقدم‪ ،‬وقد عرفته الحضارات القديمة‪ ،‬وتح َّدثت عنه الأديان‪ ،‬وأصبح حافز ًا في التنافس‬ ‫التجاري والصناعي‪ ،‬وتش َّكلت له فلسفة وإدارة مح َّددة في اليابان اعتبار ًا من عام ‪1962‬م‪،‬‬ ‫وذلك في مجالات الإدارة والصناعة والاقتصاد‪ .‬ث َّم انتقل المفهوم إلى الولايات المتحدة‬ ‫في السبعينيات‪ ،‬وشاع في الثمانينيات بالبلدان الأوروبية‪ ،‬وما تأ َّثر بها من البلدان الأُخرى‪.‬‬ ‫وقد عرفت الأدبيات التربوية في العقود الأخيرة مفهوم \"الجودة في التعليم\"‪ ،‬مستورد ًا من‬ ‫عا َلم الصناعة‪ ،‬ودخل مفهوم \"الجودة\" المجال التربوي في البلدان الغربية؛ نتيجة الشعور‬ ‫بحاجة التعليم إلى التطوير في ضوء التغ ُّيرات العالمية في أسواق العمل‪ ،‬ونوعيات الموارد‬ ‫البشرية التي تطلبها هذه الأسواق‪ ،‬واتجاهات العولمة‪ ،‬وضغوط القوى المهيمنة‪.‬‬ ‫وهناك مشكلات تواجه الدعوة إلى اعتماد نظام الجودة؛ إذ يتط َّلب تطبيقه وجود نفقات‬ ‫كبيرة جد ًا‪ ،‬لتوفير البيئة اللازمة للجودة في نماذجها العالمية؛ من‪ :‬موارد مادية وبشرية‪،‬‬ ‫‪358‬‬

‫وعمليات تجهيز وتدريب تعجز عن توفيرها كثير من المجتمعات‪ ،‬التي تكافح من أجل‬ ‫توفير الح ِّد الأدنى من التعليم الأساسي‪ ،‬والتي تجعلها ترى معايير الجودة ترف ًا لا تتط َّلع‬ ‫إليه‪ .‬ولذلك تتط َّلب معايير الجودة وجود ثقافة للجودة على الصعيد الاجتماعي العام قد‬ ‫تستدعي تطوير معايير للجودة مختلفة عن المعايير التي تشترطها المؤسسات الدولية‪.‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن الخبرة التربوية المعاصرة في هذا المجال هي مصدر من مصادر الفكر‬ ‫التربوي المعاصر‪ ،‬التي يمكن الاستئناس بها‪ ،‬والإفادة منها‪ ،‬وتطوير معايير ومؤ ِّشرات‬ ‫ُتعنى بالأبعاد ال َك ِّمية والكيفية في ضوء ثقافة خاصة للجودة‪ ،‬تستند إلى مبدأ الإتقان‬ ‫والإحسان في مرجعيته الإسلامية‪.‬‬ ‫‪ .4‬مفاهيم إسلامية تخت ُّص بالتقويم‪:‬‬ ‫إ َّن م ّما َينقص أساليب التقويم في الممارسات التربوية النظ َر في بعض المفاهيم‬ ‫الإسلامية التي لم تأخذ ح َّظها من الاهتمام‪ .‬ومن ذلك مفهوم \"الإتقان\"‪ ،‬و\"الإحسان\"‪،‬‬ ‫و\"المحاسبة\"‪ .‬ومع أ َّننا نجد في أدبيات التقويم الحديثة بعض الكلام عن مفهوم \"التع ُّلم‬ ‫الإتقاني\" ‪ ،Mastery Learning‬فإ َّن هذا المفهوم ينصرف إلى الجانب ال َك ِّمي‪ ،‬وإلى‬ ‫المح ِّك الذي يتم تحديده بسقف مح َّدد؛ كأ ْن تتع َّلم نسبة معينة من الطلبة (‪ %80‬مثل ًا) مقدار ًا‬ ‫معين ًا من الح ِّد الأعلى للتحصيل (‪ %80‬مثل ًا)‪ .‬وبالرغم من فائدة هذا النوع من التقويم‪ ،‬فإ َّنه‬ ‫لا يزال تقويم ًا َك ِّمي ًا من جهة‪ ،‬ولا يزال يضع ح ّد ًا أعلى لما يمكن تحصيله‪ .‬ولع َّل المفهوم‬ ‫الإسلامي لهذا الاتجاه في التقويم يرشد بمفهوم \"الإحسان\" في ثلاث دلالات‪:‬‬ ‫أ‪ .‬دلالة تمييز مرتبة معنى الإحسان‪ ،‬مقارن ًة بمعنى الإسلام ومعنى الإيمان‪ ،‬كما جاء‬ ‫في الحديث الشريف‪\" :‬هذا جبريل جاء ُيع ّلم الناس دينهم‪ (((\".‬فالإحسان هو شعور‬ ‫الإنسان بحضور الله سبحانه الدائم في قلبه؛ ما يجعل المؤمن يعبد الله كأ َّنه يراه‪.‬‬ ‫ولا شك في أ َّن ارتقاء المؤمن إلى هذه المرتبة يجعله يجتهد في الوصول بمستوى‬ ‫العمل والإنجاز إلى درجة أعلى بكثير م ّما يصل إليه إنجازه تحت مراقبة ُأخرى‪.‬‬ ‫((( البخاري‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب‪ :‬الإيمان‪ ،‬باب‪ :‬سؤال جبريل النبي ﷺ عن الإيمان والإسلام والإحسان‬ ‫وعلم الساعة‪ ،‬حديث رقم‪ )50( :‬ص‪.51‬‬ ‫‪359‬‬

‫ب‪ .‬دلالة التحسين المستمر في الأداء والإنجاز؛ ففي التعليم يشعر ال ُمتع ِّلم أ َّن‬ ‫هناك دائم ًا مستوى من العلم يظل أعلى م ّما وصل إليه أ ُّي عالِم؛ إذ يعلم أ َّنه‬ ‫﴿ﯖﯗﯘﯙﯚ﴾ [يوسف‪ .]76:‬ولذلك لا ينف ُّك عن الاستجابة للدعاء‬ ‫الذي أمره به الله في قوله‪﴿ :‬ﭠﭡﭢﭣ﴾ [طه‪ .]114:‬فبعد التد ُّين وحضور‬ ‫النصوص الدينية في عقله ووجدانه‪ ،‬فإ َّن ذلك يم ِّثل إضاف ًة نوعي ًة إلى أ ِّي دوافع‬ ‫ُأخرى للتع ُّلم؛ فطلب الزيادة في العلم هو خط سي ٍر متصل بلا نهاية‪ ،‬تتواصل معه‬ ‫عملية النمو والارتقاء وتحسين الأداء‪.‬‬ ‫ت‪ .‬دلالة الإبداع والاكتشاف والاختراع؛ ففي خط السير المشار إليه آنف ًا‪َ ،‬ث َّمة‬ ‫محطا ٌت في الطريق‪ ،‬تتط َّلبها حالة الفرد وحالة المجتمع؛ إذ توجد مشكلات‬ ‫مستعصية تحتاج إلى ح ٍّل‪ ،‬وتوجد كذلك أسئلة مقلقة تبحث عن إجابات ترفع‬ ‫ذلك القلق‪ ،‬وتوجد أيض ًا ُمعيقات تمنع التق ُّدم‪ .‬والجهد المطلوب في مثل هذه‬ ‫الحالات هو جهد ُمر َّكز يتط َّلب من الفرد قدر ًا من التف ُّرغ والتب ُّحر والتخ ُّصص‬ ‫لإحداث اختراق في الحالة‪ ،‬ويتط َّلب من المجتمع وضع الخطط اللازمة لحشد‬ ‫الكفاءات وتطويرها‪ ،‬وتهيئة البيئة النفسية والعملية والمادية‪ ،‬التي تم ِّكن الباحث‬ ‫الفرد أو فريق الباحثين من التو ُّجه إلى المشكلة فيما ُيشبِه رأس السهم‪ ،‬ومواصلة‬ ‫المحاولة حتى يتم اكتشاف الح ِّل المناسب‪ ،‬أو اختراع الوسيلة المطلوبة‪ .‬وأمام‬ ‫المؤمن في هذه الحالة أمثلة قرآنية هادية‪ ،‬منها‪ :‬نبي الله نوح في بناء السفينة بعيد ًا‬ ‫عن البحر‪ ،‬وموسى عليه السلام في خطة الإنقاذ الاقتصادي‪ ،‬ونبي الله داود في‬ ‫صناعة الدروع‪ ،‬وذو القرنين في هندسة البناء وتشكيل المعادن‪ .‬وغير ذلك‪.‬‬ ‫ختام ًا‪ ،‬فإ َّن محاسبة النفس هي أسلوب من أساليب تربيتها وتأديبها‪ .‬وقد عرفت‬ ‫الثقافة الإسلامية مصطلح \"المحاسبة\" الذي يعني تخصيص الإنسان وقت ًا ُيق ِّوم فيه نف َسه‬ ‫كل يوم‪ ،‬فيراجع ما فعله في ذلك اليوم‪ ،‬وما لم يفعله‪ُ ،‬مستذ ِكر ًا الجوانب التي أحسن فيها‬ ‫أو أساء‪ ،‬وكذلك عوامل الإحسان ليزيد منها‪ ،‬وأسباب الإساءة ليح َّد من أثرها‪ .‬ومعظم‬ ‫أدبيات المحاسبة تشير إلى مواقف يوم الحساب في الآخرة‪ ،‬ومحاسبة النفس استعداد ًا‬ ‫‪360‬‬

‫لذلك اليوم‪ ،‬ولك َّن الحساب وقتئ ٍذ هو على أعمال الدنيا‪ .‬وقد عرفنا أ َّن مقص َد َخ ْل ِق‬ ‫الإنسان في هذه الدنيا هو العبادة والعمران‪ ،‬وأ َّن ك َّل أعمال الإنسان يمكن أ ْن تدخل ضمن‬ ‫مفهوم \"العبادة\" وفق الن ِّية وحسن العمل‪.‬‬ ‫خاتمة‪:‬‬ ‫إ َّن قيمة الفكر التربوي الإسلامي لا تنحصر في الحالة التي يكون عليها المجتمع‬ ‫الإسلامي‪ ،‬وإ َّنما تمتد لتشمل ال ُب ْعد الحضاري الإنساني لهذا الفكر‪ ،‬الذي تبحث عنه كثير‬ ‫من مجتمعات العا َلم في كل زمان‪ ،‬ولك َّن المجتمع الإسلامي لن يستطيع أ ْن يق ِّدم هذا‬ ‫الفكر للآخرين وهو فاق ٌد لقيمة هذا الفكر‪ .‬وقيم ُته ليست في صحته‪ ،‬وإ َّنما في صلاحيته‬ ‫للزمان والمكان والحال‪ ،‬وفي أثره وفاعليته في المجتمع الإسلامي‪ .‬وهذه الفاعلية هي‬ ‫لسان خطابه للآخرين؛ ففاقد الحضارة لا يعطيها‪ .‬‬ ‫وتكمن فاعلية الفكر التربوي الإسلامي في الروح التي يب ُّثها في حياة المجتمع‬ ‫الإسلامي وممارساته‪ ،‬والتي تجعل للمعرفة الإسلامية والقيم الإسلامية نور ًا يش ُّع على‬ ‫العا َلم المعاصر‪ ،‬فيرى هذا العا َلم‪:‬‬ ‫‪ -‬القيم الإسلامية واقع ًا فاعل ًا في حياة الناس في المجتمع‪.‬‬ ‫‪ -‬أركان الإيمان عند المسلمين التي تجيب عن الأسئلة النهائية التي طالما أقلق‬ ‫غيا ُبها فك َر الإنسان‪.‬‬ ‫‪ -‬صور التح ُّضر في واقع المجتمع الإسلامي التي تشمل متط َّلبات العمران المعنوي؛‬ ‫حري ًة وعدلاً وكرام ًة‪ ،‬ومتط َّلبات العمران المادي؛ تيسيرا ٍت وتسهيلا ٍت ومناف َع‪.‬‬ ‫وتتم َّثل أبرز مشكلات التعليم الديني في أ َّن كثير ًا من ممارساته يجري توارثها من‬ ‫أزمان سابقة‪ ،‬ويجري نقلها من مكان إلى آخر دون التك ُّيف مع ظروف المكان الجديد‪.‬‬ ‫و ِم ْن َث َّم‪ ،‬فلا نجد عند الممارسين صور ًا مختلف ًة ع ّما ألفوه مكتوب ًا‪ ،‬أو خبروه في حياتهم‬ ‫التعليمية التي تتصف بقدر كبير من المحافظة والتقليد ومقاومة التجديد‪.‬‬ ‫‪361‬‬

‫إ َّن كثرة مظاهر التخ ُّلف في واقع المسلمين اليوم تؤ ِّكد أ َّنهم افتقدوا بركات الصلة‬ ‫الوثيقة بين أحكام الشريعة ومقاصدها؛ فهم إ ّما أ َّنهم ع َّطلوا العمل بهذه الأحكام‪ ،‬وإ ّما‬ ‫أ َّنهم أعملوها دون اعتبار مقاصدها‪ .‬وفي كلتا الحالتين‪ ،‬فإ َّنهم لم يحظوا بتلك المقاصد‪،‬‬ ‫فافتقدوا المنافع التي كان يمكن أ ْن تجلبها لهم تلك الأحكام‪ ،‬وامتلأت حياتهم بالمفاسد‬ ‫التي كان يمكن أ ْن تدرأها عنهم‪.‬‬ ‫ونحن لا نجد في دين أو ثقافة من النصوص والتوجيهات؛ من تأكيد أهمية النظافة‬ ‫والطهارة في مظهر الإنسان؛ في‪ :‬ال َبدن‪ ،‬والثياب‪ ،‬والمكان‪ ،‬وأفنية المنازل‪ ،‬والطرق‪ ،‬وغير‬ ‫ذلك؛ ما نجده في نصوص الإسلام وتوجيهاته‪ ،‬حتى إ َّن قارئ هذه النصوص والتوجيهات‬ ‫من غير المسلمين يتوقع أ َّنه إذا زار مدين ًة‪ ،‬ورأى فيها النظام والنظافة والأناقة والجمال‬ ‫بصورة لافتة‪ ،‬فقد يستنتج أ َّنه دخل مدينة من مدن المسلمين!‬ ‫فما معنى أ ْن تنتشر النفايات في شوارع وأحياء كثير من المدن العربية والإسلامية‪،‬‬ ‫وتنبعث منها الروائح الكريهة‪ ،‬رغم وجود العاملين على النظافة‪ ،‬ور َّبما كثرتهم؟‬ ‫وفي الختام‪ ،‬فمن المؤ َّكد أ َّن برامج التعليم ‪-‬في موضوعاته ومراحله‪ -‬تتض َّمن هذه‬ ‫النصوص‪ ،‬وأ َّن أكثر الناس يحفظونها‪ .‬ولك ْن‪ ،‬ألا يعني ذلك أ َّن َث َّمة مشكل ًة كبير ًة تخت ُّص‬ ‫بطرق تعاملنا مع مقاصد التربية؟!‬ ‫‪362‬‬

‫الفصل الخامس‬ ‫موضوعات الفكر التربوي‬ ‫مقدمة ‬ ‫المبحث الأول‪ :‬حوار الفكر والعلم في الموضوعات التربوية‪ .‬‬ ‫المبحث الثاني‪ :‬خريطة موضوعات المحتوى التربوي ‬ ‫أولاً‪ :‬موضوعات بناء الأمة‬ ‫ثاني ًا‪ :‬موضوعات القضايا المثارة‬ ‫ثالث ًا‪ :‬موضوعات الزاد الفكري للرؤية الكلية‬ ‫رابع ًا‪ :‬العلوم المنهجية‪.‬‬ ‫المبحث الثالث‪ :‬علوم التربية وموضوعاتها في الرؤية الإسلامية‬ ‫أولاً‪ :‬المقصود بالفرع العلمي‬ ‫ثاني ًا‪ :‬نشأة فروع علم التربية‬ ‫ثالث ًا‪ :‬النظرية التربوية والفلسفة التربوية‬ ‫رابع ًا‪ :‬موقع الإسلام في علوم التربية‬ ‫المبحث الرابع‪ :‬القيم في علوم التربية‬ ‫أولاً‪ :‬ضرورة الاهتمام بموقع القيم في علوم التربية‬ ‫ثاني ًا‪ :‬افتراضات الاهتمام بالقيم في علوم التربية‬ ‫ثالث ًا‪ :‬تعليم القيم في الجامعات‬ ‫رابع ًا‪ :‬التربية على القيم‬ ‫خاتمة‬



‫الفصل الخامس‬ ‫موضوعات الفكر التربوي المعاصر‬ ‫مقدمة‪:‬‬ ‫يتفق جمهور التربويين على أ َّن أركان العملية التربوية (أو عناصرها‪ ،‬أو مك ِّوناتها)‬ ‫أربعة‪ ،‬هي‪ :‬ال ُمع ِّلم‪ ،‬وال ُمتع ِّلم‪ ،‬والعلم (أو المنهاج التربوي)‪ ،‬وبيئات التربية (مؤسسات‬ ‫الأسرة‪ ،‬والمدرسة‪ ،‬والفضاء الاجتماعي‪)...‬؛ ويتفق معظمهم على أ َّن عناصر المنهاج‬ ‫أربعة‪ ،‬هي‪ :‬الأهداف‪ ،‬والمحتوى‪ ،‬والأنشطة التعليمية‪ ،‬والتقويم‪ .‬وقد تب َّوأ المنهاج‬ ‫التربوي أهمي ًة كبيرة في العلوم التربوية حتى أصبح ِع ْلم ًا واسع ًا يس ّمى علم المناهج‬ ‫التربوية‪ ،‬وظهرت فيه كتب كثيرة باللغات المختلفة‪ ،‬وجاءت هذه الكتب بعناوين مختلفة‪،‬‬ ‫انعكس بعضها في عناوين المساقات الدراسية الجامعية‪ ،‬أو انعكست عناوين هذه‬ ‫المساقات عليها‪ ،‬مثل‪ :‬تصميم المنهاج‪ ،‬وأسس المنهاج‪ ،‬وتطوير المنهاج‪ ،‬وتنظيمات‬ ‫المنهاج‪ ،‬والمنهاج التربوي‪ :‬أسسه‪ ،‬وعناصره‪ ،‬وتطبيقاته‪ ،‬وغيرها‪.‬‬ ‫لقد كان حديثنا في الفصل السابق عن مقاصد التربية‪ ،‬أو ما ُيع َرف بأهداف التربية‬ ‫بمستوياتها المختلفة‪ ،‬بوصفها العنصر الأول من عناصر المنهاج‪ ،‬وق َّدمنا إشارات‬ ‫عابرة عن ك ٍّل من عنصر الوسائل والأنشطة التعليمية‪ ،‬وعنصر التقويم التربوي بحكم‬ ‫صلتهما المباشرة بالأهداف والمقاصد‪ .‬وسنخ ِّصص هذا الفصل الخامس للحديث عن‬ ‫موضوعات الفكر التربوي‪ ،‬وهو العنصر الثاني من المنهاج‪ ،‬متصل ًا بالمعنى الأكثر شيوع ًا‬ ‫للمنهاج ومحتوى المنهاج مع المعالجة التي نجدها مناسبة له‪ ،‬إ ْن شاء الله‪.‬‬ ‫وقد اشتمل مفهوم \"المنهاج التربوي\" على معا ٍن ِع َّدة‪ ،‬ث َّم تط َّور المفهوم مع تط ُّور‬ ‫الفكر التربوي‪ ،‬وأصبح المعنى الأكثر شهرة له هذه الأيام هو‪\" :‬مجموعة الخبرات التي‬ ‫يم ُّر بها ال ُمتع ِّلم ضمن الخطة التي ُتش ِرف المؤسسات التعليمية النظامية على تنفيذها‪\".‬‬ ‫وتعريف المنهاج بدلالة الخبرات التربوية يعني إبراز الموقع النشط والحيوي لل ُمتع ِّلم في‬ ‫العملية التعليمية؛ فهو ليس الكائن البشري الذي ُيلقى إليه العل ُم‪ ،‬فيأخ َذه‪ ،‬ويختز َنه بصورة‬ ‫سلبية؛ ذلك أ َّن التعليم ‪-‬في واحد من أهم معانيه‪ -‬هو تفا ُعل ال ُمتع ِّلم مع البيئة التعليمية‬ ‫‪365‬‬

‫التي ُت َع ُّد لهذا الغرض‪ .‬والتفا ُعل هو مشاركة واعية‪ ،‬فيها تأ ُّثر وتأثير‪ .‬وإذا كان التأ ُّثر يعني‬ ‫حالات التغ ُّير الذي تحصل لل ُمتع ِّلم‪ ،‬فإ َّن التأثير يظهر في حالات ِع َّدة‪ ،‬منها‪ :‬الحالة التي‬ ‫يعطيها ال ُمتع ِّلم للمادة التعليمية‪ ،‬وحالة ال ُمع ِّلم عندما ُيك ِّيف الموقف التعليمي في ضوء‬ ‫استجابات ال ُمتع ِّلم‪.‬‬ ‫وحين نشير إلى ارتباط الخبرة التعليمية التي يكتسبها ال ُمتع ِّلم بدوره النشط في عملية‬ ‫التع ُّلم‪ ،‬فإ َّننا نؤ ِّكد كذلك أ َّن الأركان الثلاثة الأُولى للعملية التربوية (ال ُمع ِّلم‪ ،‬وال ُمتع ِّلم‪،‬‬ ‫والمنهاج) هي في حالة تفا ُعل؛ تأ ُّثر ًا وتأثير ًا‪ ،‬ولا نتخ َّي ُلها مستقل ًة عن بعضها بعض ًا‪.‬‬ ‫وتتصل حالة التفا ُعل هذه في نوعها ودرجتها بالركن الرابع‪ ،‬وهو البيئة التعليمية؛ إذ تؤ ِّثر‬ ‫هذه البيئة في السقف الذي يمكن أ ْن يصل إليه التفا ُعل‪ .‬وتتك َّون هذه البيئة التعليمية من‬ ‫مجمل العناصر البشرية والمادية والنفسية والاجتماعية؛ فمكان التعليم وتجهيزاته المادية‬ ‫جزء من البيئة‪ ،‬وحالة ال ُمع ِّلم وتكوينه العلمي والمهني والنفسي جزء من البيئة‪ ،‬وعدد‬ ‫الطلبة ونوعياتهم جزء من البيئة‪ ،‬والثقافة الاجتماعية السائدة في الوسط التعليمي جزء‬ ‫من البيئة‪ ،‬وحالة المجتمع السياسية والاقتصادية والإعلامية جزء من البيئة‪ ،‬والطريقة التي‬ ‫يتفاعل فيها المجتمع مع المحيط العالمي جزء من البيئة‪.‬‬ ‫وللخبرات التعليمية أنواع ِع َّدة‪ ،‬منها الخبرة المباشرة التي تعني التعامل الشخصي‬ ‫مع الأشياء والأحداث والمواقف‪ ،‬ولك َّن ال ُفرص المتاحة لها في البيئات التعليمية‬ ‫التقليدية قليلة‪ ،‬وتتج ّلى هذه ال ُفرص غالب ًا في النشاطات العلمية‪ ،‬أو الرياضية‪ ،‬أو الثقافية‪،‬‬ ‫أو الاجتماعية التي تتم في المرافق المدرسية‪ ،‬كما في المختبر‪ ،‬والمسرح‪ ،‬والملعب‪،‬‬ ‫وغيرها‪ .‬بيد أ َّن معظم الخبرات التعليمية المدرسية هي خبرات غير مباشرة يسمعها‬ ‫الطالب من ال ُمع ِّلم‪ ،‬أو يقرأها في كتاب‪ ،‬وقد يصيب هذه الخبرة بعض التط ُّور عندما يرى‬ ‫الطالب موضوعها في فيلم‪ ،‬أو مقطع فيديو لحادثة حقيقية‪.‬‬ ‫وتقع الخبرات في درجات متفاوتة من التجريد الذهني والعقلي؛ فقد تكون خبرات‬ ‫حسية ناتجة عن تفا ُعل منافذ الإحساس البشري بالمشاهدة البصرية والسمعية والتعامل‬ ‫اليدوي‪ ،‬وقد تكون خبرات مج َّردة يتم تبادلها عن طريق اللغة والرموز ال ُمع ِّبرة‪.‬‬ ‫‪366‬‬

‫وإذا كان المنهاج بعناصره الأربعة (الأهداف‪ ،‬والمحتوى‪ ،‬والأنشطة‪ ،‬والتقويم)‬ ‫هو خبرات تعليمية يكتسبها ال ُمتع ِّلم نتيجة العملية التعليمية‪ ،‬فأين موضع المحتوى في‬ ‫هذه الخبرة؟‬ ‫يظهر المحتوى عادة في المواد التعليمية التي يتك َّون منها البرنامج التعليمي؛ فعن‬ ‫طريق هذه المواد يكتسب ال ُمتع ِّلم خبر ًة في اللغة‪ ،‬وخبر ًة في الأشياء المادية‪ ،‬وخبر ًة في‬ ‫العلاقات الاجتماعية‪ ،‬وخبرا ٍت متن ِّوعة ُأخرى‪ .‬وتتج ّلى هذه الخبرة في صورة معلومات‬ ‫ومعارف‪ ،‬ومهارات عقلية وعملية‪ ،‬واتجاهات نفسية وانفعالية‪ .‬وقد سبق أ ْن رأينا في‬ ‫الفصل السابق أ َّن مقاصد التربية وأهدافها هي اكتساب هذه المعلومات والمهارات‬ ‫والاتجاهات‪ .‬ويبقى علينا أ ْن نلاحظ أ َّن َث َّمة موضوعا ٍت مح َّدد ًة في أ ٍّي من هذه‬ ‫المعلومات‪ ،‬أو المهارات‪ ،‬أو الاتجاهات‪ ،‬فما هذه الموضوعات؟‬ ‫وعلى ذلك يكون موضوع هذا الفصل هو الموضوعات أو المواد التعليمية التي‬ ‫يكون تعليمها وسيلة لتحقيق الأهداف والمقاصد التربوية‪.‬‬ ‫‪367‬‬

‫المبحث الأول‬ ‫حوار الفكر والعلم في الموضوعات التربوية‬ ‫وجدنا من المناسب الحديث عن موضوعات الفكر التربوي الإسلامي ضمن‬ ‫مدخلين؛ الأول‪ :‬مدخل فئات الفكر‪ ،‬والثاني‪ :‬مدخل فئات العلم‪ .‬وقد استخدمنا المدخل‬ ‫الأول في كتابنا \"البناء الفكري\"‪ ،‬وتح َّدثنا هناك عن مجالات الخصوص والعموم بين‬ ‫الفكر والعلم؛ فكل ما ُتنتِجه عملية التفكير هو فكر‪ ،‬وكل ما يتع َّلمه الإنسان هو علم‪،‬‬ ‫ولك َّن المرجعية القرآنية التي نحاول أ ْن نعتمدها هنا ‪-‬وفي كل ما نكتب إ ْن شاء الله‪ -‬م َّيزت‬ ‫بين الفكر والعلم؛ إذ لم َي ِر ْد لفظ \"الفكر\" في القرآن الكريم إلا بصيغة الفعل‪ ،‬منسوب ًا إلى‬ ‫الإنسان؛ فالفكر‪ ،‬أو التف ُّكر‪ ،‬أو التفكير فع ٌل إنساني‪ .‬بينما ورد لفظ \"العلم\" بصيغة الفعل‬ ‫وصيغة الاسم‪ ،‬منسوب ًا إلى الله ع َّز وج َّل‪ ،‬وإلى الملائكة‪ ،‬وإلى الأنبياء‪ ،‬وإلى الإنسان‪.‬‬ ‫وتأسيس ًا على ذلك‪ ،‬فإ َّن‪:‬‬ ‫‪ -‬علم الله سبحانه هو العلم الواسع الذي وسع كل شيء‪ (((،‬وهو العلم المحيط‪(((.‬‬ ‫و ِمن علم الله ما هو عل ٌم مطلق خاص به سبحانه‪ ،‬لا يعلمه غيره‪ (((،‬ولكنَّه ُي ْط ِلع َمن‬ ‫شاء ِمن رسله على ما يشاء ِمن علمه ليب ِّلغوا رسالاته إلى الناس‪(((.‬‬ ‫‪ -‬علم الملائكة هو شي ٌء م ّما ع َّل َمهم الله سبحانه‪ ،‬ويفعلون به وفق ما يؤمرون‪(((.‬‬ ‫‪ -‬علم الرسل هو كذلك شي ٌء م ّما ع َّل َمهم الله سبحانه لتبليغ رسالته‪ ،‬وهداية الناس‪.‬‬ ‫‪ -‬علم الإنسان هو كذلك شي ٌء م ّما ع َّل َمه الله سبحانه للناس منذ عهد أبيهم آدم‪(((،‬‬ ‫((( ﴿ﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ﴾ [طه‪.]98 :‬‬ ‫((( ﴿ﰃﰄﰅ ﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏ ﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚ‬ ‫ﰛ﴾[الطلاق‪.]12 :‬‬ ‫((( ﴿ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ‬ ‫ﰇﰈﰉﰊﰋﰌ﴾ [الأنعام‪.]59 :‬‬ ‫((( ﴿ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐ‬ ‫ﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗ﴾ [الجن‪.]28-26 :‬‬ ‫((( ﴿ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ﴾ [البقرة‪.]32 :‬‬ ‫((( ﴿ﭰﭱﭲﭳ﴾ [البقرة‪.]31 :‬‬ ‫‪368‬‬

‫ث َّم أرسل إليهم الرسل والأنبياء ليع ِّلموهم ُسبل الهدى‪ (((.‬وقد ز َّود اللهُ الإنسا َن‬ ‫بوسائل اكتساب العلم‪ ،‬وطلب منه السعي في التر ّقي في العلم‪ (((،‬وم َّكنه أ ْن يع ِّلم‬ ‫بع َض أنواع الحيوان شيئ ًا من العلم‪(((.‬‬ ‫نلاحظ أ َّن لفظ \"العلم\" في القرآن الكريم يتسع لكل هذه الأنواع المذكورة آنف ًا‪ ،‬ولك َّن‬ ‫لفظ \"الفكر\" كان مقصور ًا على الإنسان الذي م َّيزه الله عن سائر مخلوقاته بملكة التف ُّكر‬ ‫والتفكير‪ .‬وقد جاءت الإشارات إلى التف ُّكر في القرآن الكريم في ثمانية عشر موقع ًا‪ ،‬وفي‬ ‫ست صياغات لفظية‪ ،‬هي‪( :‬يتف َّكرون)‪( ،‬تتف َّكرون)‪( ،‬ويتف َّكرون)‪( ،‬تتف َّكروا)‪( ،‬يتف َّكروا)‪،‬‬ ‫(ف ِّكر)‪ .‬والسياق الذي ورد فيه لفظ (ف ِّكر) َم َّر ًة واحد ًة كان سياق َذ ٍّم ل َمن أعمل عقله في‬ ‫التف ُّكر‪ ،‬لا ليصل إلى الغاية الصحيحة‪ ،‬وإ َّنما ل ُيم ِعن في الضلال والانحراف‪ .‬وفي جميع‬ ‫المواقع الأُخرى جاء الفعل (يتف َّكر) الذي يفيد تكرار الفعل طلب ًا لغاية نبيلة‪ ،‬وك ُّلها مواقع‬ ‫دعوة ربانية للوصول إلى الغاية الصحيحة عن طريق عملية التف ُّكر‪.‬‬ ‫وعندما تح َّد ْثنا عن الفكر في كتاب \"البناء الفكري\" كان الاهتمام منص ّب ًا على نتيج ِة عملية‬ ‫التفكير؛ وهي ال ِف ْكر‪ ،‬فب َّينّا هناك مفهو َم \"الفكر\"‪ ،‬ومستوياتِه‪ ،‬والخرائ َط التي تم ِّثل مصاد َره‪،‬‬ ‫وموضوعاتِه‪ ،‬وطر َق اكتسابِه وقيا ِسه‪ ،‬وتاري َخه وجغرافي َته‪ ،‬وضواب َط قبوله‪ .‬واجتهدنا في بناء‬ ‫خريطة عامة للفكر‪ ،‬تشمل خرائط فرعية لمصادر الفكر‪ ،‬وأدواته‪ ،‬وموضوعاته‪ (((.‬والخريطة‬ ‫في السياق الذي نحن فيه هي تمثيل تخطيطي لمجموعة من العناصر المترابطة فيما بينها‪،‬‬ ‫ُتب ِّين نوع هذه العناصر‪ ،‬وحجومها النسبية‪ ،‬والعلاقات بينها‪ (((.‬والخريطة ال ُمب َّينة في الشكل‬ ‫الآتي ُتو ِّضح موضع خريطة موضوعات الفكر ضمن خرائط ُأخرى للبناء الفكري‪.‬‬ ‫((( ﴿ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ﴾ [البقرة‪.]38 :‬‬ ‫((( ﴿ﭠﭡﭢﭣ﴾ [طه‪.]114 :‬‬ ‫((( ﴿ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ﴾ [المائدة‪.]4 :‬‬ ‫((( الخريطة في اللغة من َخ َر َط الأشيا َء؛ أ ْي‪ :‬جم َعها في خريطة‪ ،‬والخريطة وعاء من جلد أو نحوه‪ُ ،‬ي َش ُّد على ما فيه‪ .‬انظر‪:‬‬ ‫‪ -‬مجمع اللغة العربية‪ .‬المعجم الوسيط‪ ،‬القاهرة‪ :‬مجمع اللغة العربية‪ ،‬ط‪1972 ،2‬م‪ ،‬ص‪.251-250‬‬ ‫((( للخريطة موضوع مح َّدد يتو َّجه إلى خصائص العناصر المك ِّونة لها؛ فخريطة الكرة الأرضية تب ِّين خطوط الطول‬ ‫والعرض‪ ،‬والقارات‪ ،‬والمحيطات‪ ،‬والأنهار؛ والخريطة الجغرافية لبلد تب ِّين خصائص مساحات الأرض‪،‬‬ ‫وما فيها من جبال‪ ،‬وأودية‪ ،‬وسهول‪ ،‬وصحا ٍر‪ ،‬وأنهار‪ ،‬وبحار‪ ،‬وبحيرات‪ ،‬وطرق؛ والخريطة السياسية لدولة‬ ‫تب ِّين حدودها‪ ،‬ومدنها‪ ،‬وتقسيماتها الإدارية‪ ،‬وطرقها؛ وخريطة الطقس تب ِّين كتل الغيوم والأمطار وكثافتها‪،‬‬ ‫واتجاهات الرياح وسرعها‪ ،‬ودرجات الحرارة والرطوبة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬ ‫‪369‬‬

‫ونحن حين نعيد الإشارة إلى‬ ‫الفكر والبناء الفكري في سياق‬ ‫الكتابة عن موضوعات الفكر‬ ‫التربوي‪َ ،‬ي ُه ُّمنا أ ْن ُنذ ِّكر بثلاث‬ ‫مسائل؛ الأُولى‪ :‬أ ْن نبقى على‬ ‫ذكر من دلالات الفكر والعلم‬ ‫في المرجعية القرآنية‪ ،‬والثانية‪:‬‬ ‫أ ْن نتف َّكر في الدلالة الاصطلاحية‬ ‫المعاصرة لك ٍّل من العلم والفكر‪،‬‬ ‫وموقعهما في التربية والتعليم‪،‬‬ ‫والثالثة‪ :‬أ َّن المستهدف بخطاب‬ ‫الله سبحانه في الفكر والعلم هو‬ ‫الإنسان ال ُمك َّلف؛ فرد ًا‪ ،‬وأسر ًة‪ ،‬ومجتمع ًا‪ ،‬و ُأ َّم ًة‪ .‬فك ُّل هؤلاء َم ْعنِ ّيون بالتربية والتعليم؛‬ ‫فهم آباء و ُأ َّمهات‪ ،‬وطلبة و ُمع ِّلمون‪ ،‬و ُمؤ ِّلفون للمناهج والكتب‪ ،‬وعاملون في الإدارة‬ ‫والتدريب في مؤسسات التعليم العام والتعليم الجامعي‪.‬‬ ‫وموضوعات الفكر التربوي التي نتوقع من هؤلاء ال َم ْعنِ ّيين بالتفكير فيها تتض َّمن فيما‬ ‫تتض َّمنه العلوم والمهارات والاتجاهات اللازمة لك ٍّل م ّما يأتي‪:‬‬ ‫‪ -‬محتوى برامج الثقافة الأسرية والتربية الوالدية التي يتع َّين على الآباء والأُ َّمهات أ ْن‬ ‫ُي ِل ّموا بها في تنشئة أطفالهم وتربيتهم‪.‬‬ ‫‪ -‬محتوى المناهج والكتب الدراسية (المدرسية‪ ،‬والجامعية) ضمن الحقول العلمية‬ ‫والمعرفية المتخ ِّصصة‪.‬‬ ‫‪ -‬طرق وأساليب تدريس ذلك المحتوى‪ ،‬وتقويم أداء الطلبة في ضوء الأهداف‬ ‫المح َّددة للتعليم‪.‬‬ ‫‪ -‬متط َّلبات البيئة التعليمية والتربوية في الأسرة‪ ،‬والمدرسة‪ ،‬والجامعة‪.‬‬ ‫‪370‬‬

‫‪ -‬طبيعة الإنسان‪ ،‬ومراحل نموه الجسمي‪ ،‬والعقلي‪ ،‬والنفسي‪ ،‬والاجتماعي؛ وعملية‬ ‫التع ُّلم؛ واكتساب ال ُمتع ِّلم العلوم والمهارات والاتجاهات في مراحل نموه المختلفة‪.‬‬ ‫فك ُّل هذه هي موضوعات للتفكير وبناء الفكر التربوي‪ ،‬ومن الواضح أ َّن الإلمام بهذه‬ ‫الموضوعات لا يتم في مؤسسة واحدة‪ ،‬أو في مرحلة واحدة‪ ،‬وإ َّنما يتم على مدى حياة‬ ‫الإنسان؛ إذ يم ِّثل ذلك خبرة حياتية لا تتوقف‪ .‬وحين تتو ّلى المؤسسات التعليمية التخطي َط‬ ‫لعملية اكتساب هذه الخبرة‪ ،‬فإ َّنها تضع في حسبانها المهمات التي يقوم بها التعليم‬ ‫النظامي‪ ،‬والتعليم غير النظامي‪ ،‬والتعليم اللانظامي‪ (((.‬وسوف َيلزم تحديد موضوعات‬ ‫التعليم والتربية التي يمكن اكتسابها في كل نوع من أنواع التعليم الثلاثة المشار إليها‪.‬‬ ‫وتقترح خريطة موضوعات الفكر المشار إليها آنف ًا تصنيف موضوعات الفكر التربوي‬ ‫في ثلاث فئات‪ :‬موضوعات بناء الأُ َّمة‪ ،‬وموضوعات بناء الرؤية الفكرية‪ ،‬وموضوعات‬ ‫القضايا المتج ِّددة‪ ،‬كما سنُب ِّين ذلك لاحق ًا‪.‬‬ ‫وقد يكون من المفيد أ ْن نذكر أ َّن \"الفكر\" مصطلح غير ُمر َّحب به في بعض أوساط‬ ‫المتخ ِّصصين في العلوم الشرعية؛ إذ يجعلون لفظ \"العلم\" َأ ْولى بالاستعمال والاهتمام‪،‬‬ ‫علم ًا بأ َّن الفرق بين الفكر والعلم لا يتصل بالموضوع‪ ،‬وإ َّنما يتصل بمستوى المعالجة؛‬ ‫لأ َّن الموضوع في الحالتين قد يكون مسألة من مسائل العقيدة‪ ،‬أو العبادة‪ ،‬أو المعاملات‪.‬‬ ‫فعندما نتعامل مع الموضوع في المستوى الثقافي للتعامل مع المسألة يكون مصطلح‬ ‫\"الفكر\" هو الأقرب إلى الدلالة‪ ،‬وعندما نتعامل مع الموضوع في مجال الأحكام الشرعية‬ ‫المتخ ِّصصة يكون مصطلح \"العلم\" أقرب إلى الدلالة‪.‬‬ ‫ومن المؤ َّكد أ َّن الأصل هو العلم بالمسألة الشرعية؛ فهو أسبق في الاكتساب‪ ،‬ث َّم‬ ‫يكون العلم زاد ًا للفكر‪ .‬ولا نتخ َّيل مف ِّكر ًا ليس له نصيب من العلم في المسألة التي يتح َّدث‬ ‫((( التعليم النظامي ‪ Formal education‬الذي ُيما َرس في المدارس والجامعات ومؤسسات التدريب المهني بصورة‬ ‫مبرمجة ينتهي بشهادة‪ .‬والتعليم غير النظامي ‪ Informal education‬التي يتم في النشاطات وخبرات الحياة في‬ ‫الأسرة والإعلام ومؤسسات المجتمع‪ ،‬ويتم بصورة عرضية غير مبرمجة وغير مقصودة؛ ليس فيه شهادات‪.‬‬ ‫والتعليم اللانظامي ‪ Non-Formal education‬هو تعليم مبرمج مقصود ‪-‬إلى ح ٍّد ما‪ -‬في مؤسسات التدريب‬ ‫وتنمية القدرات المهنية وتطوير الأداء في النقابات والجمعيات الأهلية‪.‬‬ ‫‪371‬‬

‫عنها حديث ًا فكري ًا ثقافي ًا‪ .‬وقد يكون حامل العلم باذلاً له؛ علم ًا‪ ،‬وفكر ًا‪ ،‬وثقاف ًة‪ ،‬ويستوي‬ ‫عنده أ ْن يس ّمى عالِم ًا‪ ،‬أو مف ِّكر ًا‪ ،‬أو مثقف ًا‪ .‬ونجد بعض حملة العلم يق ِّدمون محفوظاتهم‬ ‫منه وفتاواهم في مسائله‪ ،‬بصورة جيدة‪ ،‬فإذا جلسوا للحوار أو النقاش في مسائل معاصرة‪،‬‬ ‫تختلط فيها الرؤى‪ ،‬وتتضارب فيها المواقف‪ ،‬لا نجد عندهم باع ًا في تنزيل محفوظاتهم‬ ‫من العلم عليها؛ لقصور ما لديهم من ثقافة بالواقع المعاصر ومشكلاته‪ ،‬ولنقص إعدادهم‬ ‫وتحصيلهم في البدائل و\"السيناريوهات\" المتاحة‪ ،‬وغير ذلك من أشكال التفكير‬ ‫الاستشرافي المستقبلي ومآلات الأمور‪ ،‬وفقه الأولويات والموازنات‪ ،‬م ّما َيلزم العالِ َم‬ ‫حتى يكون مف ِّكر ًا‪ .‬ومن الشائع القول إ َّن العلم ير ِّكز على زيادة المعلومات في الموضوع‪،‬‬ ‫وإ َّن الفكر ير ِّكز على توسيع دائرة فهمه‪ ،‬من دون أ ْن نق ِّلل من أهمية أ ٍّي منهما‪ ،‬وحاجة ك ٍّل‬ ‫منهما إلى الآخر‪.‬‬ ‫وم ّما يلفت النظر أ َّن العقود الثلاثة الأخيرة شهدت حضور ًا ملموس ًا للفكر‬ ‫والاهتمام به‪ ،‬وتنظيم الدورات الفكرية‪ ،‬وانتشار الكتب الفكرية لدى ال َم ْعنِ ّيين بالعلوم‬ ‫الشرعية والمتخ ِّصصين فيها‪ ،‬وظهور شخصيات متخ ِّصصة في العلم الشرعي تمارس‬ ‫التدريب في مسائل الفكر الإسلامي وتوظيف العلوم الشرعية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن الحاجة‬ ‫إلى الفكر والثقافة في المجتمعات الإسلامية لا تزال حاج ًة ُم ِل َّح ًة؛ نظر ًا لكثرة ما يسود‬ ‫هذه المجتمعات من مفاهيم فكرية تتصف بالجاذبية والتأثير‪ ،‬رغم أ َّنها قد تكون شديدة‬ ‫التناقض‪ ،‬وتفتقد الاستناد إلى المرجعية الإسلامية المعتبرة‪.‬‬ ‫‪372‬‬

‫المبحث الثاني‬ ‫خريطة موضوعات المحتوى التربوي‬ ‫موضوعات البناء الفكري التي أشرنا إليها هي موضوعات التربية التي َيلزم أ ْن تنشأ‬ ‫أجيال الأُ َّمة على التفكير فيها‪ .‬وتعتمد هذه التربية الفكرية على وجود بيئة تربوية تو ِّفر‬ ‫من المصادر والأساليب والممارسات ما يسمح ببناء رؤية إسلامية للعا َلم‪ ،‬وهي رؤية‬ ‫كلية تم ِّكن الفرد من الوعي بذاته‪ ،‬وبالبيئة المادية المحيطة به‪ ،‬وبالعلاقات مع الآخرين‪،‬‬ ‫وتم ِّكنه كذلك من إدراك القضايا والموضوعات المثارة في الفكر البشري المعاصر‪،‬‬ ‫وفهمها ضمن هذه الرؤية‪ ،‬بحيث تتصف عملية الإدراك والفهم بالوضوح والتكا ُمل‬ ‫والانسجام‪ ،‬لا سيما الموضوعات التي يكثر حولها الجدل‪ ،‬وتتفاوت فيها آراء عامة‬ ‫الناس‪ ،‬والمثقفين منهم على وجه الخصوص‪ ،‬ور َّبما النخب الفكرية كذلك‪ .‬ونرى أ َّن‬ ‫الموضوعات الثلاثة الآتية لها أهمية خاصة‪:‬‬ ‫أولاً‪ :‬موضوعات بناء الأُ َّمة‪:‬‬ ‫ُيق َصد بها اللغة‪ ،‬والدين‪ ،‬والتاريخ‪ .‬و ُت َع ُّد هذه الموضوعات جذر ًا مشترك ًا في‬ ‫مستوياتها المناسبة‪ ،‬ضمن المناهج التربوية‪ ،‬في المراحل والتخ ُّصصات المختلفة؛ ذلك‬ ‫أ َّن هذه الموضوعات هي التي تبني الهوية الإسلامية العامة للفرد والمجتمع والأُ َّمة‪ ،‬ث َّم‬ ‫تح ِّدد علاقة هذه الهوية بالهويات والانتماءات الفرعية الأُخرى‪ ،‬مثل‪ :‬الوطنية‪ ،‬والقومية‪،‬‬ ‫والعشائرية‪ ،‬والمذهبية‪ ،‬وغيرها‪ .‬وفيما يأتي بيا ٌن لك ٍّل من هذه الموضوعات‪:‬‬ ‫أ‪ -‬موضوع الصلة بين اللغة والفكر هو موضوع مهم‪ ،‬ولكنَّنا نكتفي ‪-‬في هذا السياق‪-‬‬ ‫بالإشارة إلى أهمية بناء قدرة الإنسان على أ ْن يف ِّكر بلغته الأُ ِّم‪ ،‬ويع ِّبر ع ّما يط ِّوره‬ ‫من فكر بلغة سليمة تكشف عن هويته وانتمائه‪ ،‬وتم ِّكنه من التأثير الإيجابي في‬ ‫الآخرين‪ .‬واللغة ‪-‬في هذا السياق‪ -‬تعني أساليب التوا ُصل والتفا ُعل اللغوي‬ ‫المتاحة بالمحاضرة‪ ،‬والحوار‪ ،‬والمقال‪ ،‬والكتاب‪ ،‬وغير ذلك؛ فقيمة الفكر الذي‬ ‫ُينتِجه المف ِّكر تكمن في فعله وأثره في الآخرين‪ ،‬وكيف يتسنّى لهذا الفعل والأثر أ ْن‬ ‫يتح َّققا من دون التوا ُصل اللغوي المناسب؟ ويتوقع من التربية بمؤسساتها وأوساطها‬ ‫ومراحلها أ ْن تو ِّفر البيئة المناسبة للتوا ُصل باللغة الأُ ِّم أولاً‪ ،‬وقبل كل شيء‪.‬‬ ‫‪373‬‬

‫ب‪ -‬لا نم ُّل من التأكيد أ َّننا ننطلق فيما نكتب من مرجعية دينية إسلامية؛ فالإسلام‬ ‫‪-‬في رؤيتنا‪ -‬نظام توحيدي عام يشتمل على العقيدة التي تجيب عن الأسئلة‬ ‫الوجودية الكبرى‪ ،‬وعلى الشريعة التي تف ِّصل أنظمة الحياة السياسية والاقتصادية‬ ‫والاجتماعية‪ ،‬وعلى الأخلاق التي تف ِّصل معايير التزكية الفردية والجماعية‬ ‫وأنماط السلوك والمعاملات‪ .‬وهدف الدين الإلهي هو هداية الإنسان لتمكينه‬ ‫من تحقيق الاستخلاف البشري على الأرض‪ ،‬وإقامة العمران‪ ،‬وبذلك يتح َّقق‬ ‫معنى العبادة‪ .‬وسوف يساعدنا هذا على تحديد فهمنا وموقفنا من الجدل الذي لا‬ ‫يزال دائر ًا منذ قرنين ون ِّيف عن موقع الدين في الدولة الحديثة‪ ،‬والموقف الديني‬ ‫من أنواع المشاركة السياسية ومستوياتها‪ .‬والإسلام عقيد ًة وشريع ًة وأخلاق ًا‪،‬‬ ‫بهذا التص ُّور‪ ،‬هو ‪-‬في ح ِّد ذاته‪ -‬تربي ٌة للإنسان؛ لتحقيق مقاصد الحق من الخلق‪،‬‬ ‫و َح ِر ٌّي بالنظام التربوي ألا يغفل عن ذلك‪.‬‬ ‫ت‪ -‬التاريخ ‪-‬في هذا المقام‪ -‬هو تاريخ البشر على الكوكب الأرضي‪ ،‬وهو التاريخ‬ ‫الذي يستوعب ما كان في ِح َقبِه الزمنية من الخبرات والتجارب البشرية‪،‬‬ ‫والاعتبار بها‪ .‬وللقرآن الكريم منهج في الحديث عن التاريخ‪ ،‬بما كان فيه من‬ ‫أمم وأقوام وأنبياء‪ ،‬وعن مسؤولية الأُ َّمة الإسلامية في صناعة الجزء المتب ّقي من‬ ‫تاريخ البشرية على هذه الأرض‪ ،‬والشهادة على الناس‪ .‬وهذه الرؤية للتاريخ‬ ‫ر َّبما تختلف ع ّما ألفناه من معنى التاريخ‪ ،‬وطريقتنا في عرضه؛ إ َّنه رحلة البشرية‪،‬‬ ‫وتجربتها‪ ،‬وتراثها عبر الزمن‪ ،‬وما اهتدت إليه البشرية من فكر وثقافة وحضارة‪.‬‬ ‫وفي هذا التاريخ‪ ،‬بما في ذلك تاريخ المسلمين‪ ،‬أفكار ح َّية‪ ،‬وأفكار م ْيتة‪ ،‬وأفكار‬ ‫مميتة‪ ،‬ينبغي التمييز بينها‪ ،‬والتعامل الرشيد مع ك ٍّل منها‪ .‬والأثر التربوي للقرآن‬ ‫الكريم في بناء رؤية للتاريخ يتج ّلى في توسيع مدارك المسلم وآفاق تفكيره‪،‬‬ ‫واستيعابه للحياة الدنيا ومجمل التجربة البشرية فيها‪.‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬موضوعات القضايا المثارة‪ ،‬وتلك التي َيلزم أ ْن تثار‪:‬‬ ‫ينقل الإعلام المعاصر ‪-‬بوسائله الف ّعالة‪ -‬للناس أخبار ًا وأحداث ًا من كل أنحاء‬ ‫العا َلم‪ ،‬ويثير معها قضايا مح َّددة‪ ،‬ومشكلات تتج َّدد من يوم إلى آخر‪ ،‬حيث يتواصل‬ ‫الجدل حولها‪ ،‬و ُيط َلب إلى التربية الفكرية أ ْن تبني عند الفرد فهم ًا لها‪ ،‬وموقف ًا منها‪ .‬ومن‬ ‫هذه الموضوعات على سبيل المثال‪:‬‬ ‫‪374‬‬

‫أ‪ -‬الفهم الإسلامي الإجمالي للآخر غير الإسلامي داخل المجتمع المسلم وخارجه‪،‬‬ ‫وتحرير مفاهيم \"التع ُّدد\" و\"التعا ُيش\" و\"التحا ُلف\"‪ ،‬وأحكام العلاقات الدولية‬ ‫مع الدول والمنظمات العالمية‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬ ‫ب‪ -‬قضايا المرأة؛ حقوقها‪ ،‬وواجباتها‪ ،‬وعملها‪.‬‬ ‫ت‪ -‬قضايا الاقتصاد‪ ،‬والتنمية‪ ،‬والبنوك‪.‬‬ ‫ث‪ -‬قضايا الإعلام المعاصر‪ ،‬وأثره في صناعة الرأي العام‪ ،‬أو إحداث الفوضى‬ ‫الفكرية‪ ،‬والتمييز بين الخبر الصحيح والإشاعة الكاذبة‪ ،‬والأغراض التي من‬ ‫أجلها ُتن َشر الأخبار‪.‬‬ ‫وهذه أمثلة على بعض القضايا‪ ،‬وليس حصر ًا كامل ًا لها‪ .‬و ّمما َيلزم ملاحظته هنا أ َّن‬ ‫التربية الفكرية لا ُب َّد أ ْن تش ِّكل لدى الفرد والجماعة رؤي ًة للعا َلم‪ ،‬وهي رؤية كلية ُت ِعين على‬ ‫فهم هذه القضايا والموضوعات وأمثالها‪ ،‬وعلى اتخاذ موقف إسلامي ُتجاهها‪.‬‬ ‫ثالث ًا‪ :‬موضوعات الزاد الفكري للرؤية الكلية‪:‬‬ ‫الهدف من هذا الزاد هو إقامة التربية الفكرية المتوازنة‪ .‬أ ّما موضوعاته فمتعددة الأنواع‪،‬‬ ‫وكل نوع منها ُيس ِهم في جانب مهم من التربية الفكرية‪ .‬وفيما يأتي بع ٌض من هذه الأنواع‪:‬‬ ‫أ‪ -‬كتابات في الفكر الإصلاحي والنهضوي‪ :‬تعالج هذه الكتابات قضايا الفكر والبناء‬ ‫الفكري‪ ،‬والتفكير وأنواعه ومستوياته‪ ،‬والدراسات في تاريخ الحضارات‬ ‫الإنسانية‪ ،‬وشروط قيام الحضارات وأسباب انهيارها‪ ،‬وما يرافق ذلك من‬ ‫صور الصراع الفكري‪ ،‬أو الاقتراض الثقافي والحضاري‪ .‬ومن الكتابات‬ ‫التي تقع ضمن هذه الفئة العلو ُم المتف ِّرعة عن التاريخ‪ ،‬مثل‪ :‬فلسفة التاريخ‪،‬‬ ‫وتاريخ الأفكار‪ .‬والمهم في هذه الدراسات هو ملاحظة ال ُب ْعد الفلسفي‬ ‫للتاريخ‪ ،‬وامتداداته في الحاضر والمستقبل‪ ،‬وتشكيله للأساس العملي للتفكير‬ ‫الاستراتيجي المستقبلي‪.‬‬ ‫ب‪ -‬مداخل العلوم الاجتماعية والإنسانية‪ :‬ليس المقصود من أدبيات هذه المداخل‬ ‫‪-‬في هذا السياق‪ -‬المعرفة المتخ ِّصصة في علم الاجتماع‪ ،‬وعلم الاقتصاد‪ ،‬وعلم‬ ‫السياسة‪ ،‬وعلم الاتصال‪ ،‬وغيرها‪ ،‬وإ َّنما المقصود منها الإلمام بالمفاهيم والقوانين‬ ‫‪375‬‬

‫والنظريات والتطبيقات العملية‪ ،‬واستحضار ذلك عند التفكير في المشكلات‬ ‫المثارة؛ لفهمها‪ ،‬والمشاركة في اقتراح الحلول الممكنة لها‪ .‬ولع َّل أهم العلوم التي‬ ‫َيلزم الإلمام بمداخلها علم الاجتماع‪ ،‬وعلم السياسة‪ ،‬وعلم الإعلام‪.‬‬ ‫ت‪ -‬أدبيات ومداخل في علوم التغيير‪ :‬نقصد بها هنا على وجه التحديد العلو َم‬ ‫المنهجية‪ ،‬والإدارة‪ ،‬وعلم النفس‪ .‬أ ّما المهم في العلوم المنهجية فهو تطبيقاتها في‬ ‫التفكير والبحث والسلوك‪ ،‬والتكا ُمل المنهجي‪ ،‬والمدارس المنهجية‪ .‬وأ ّما المهم‬ ‫في علوم الإدارة فهو تطبيقاتها في إدارة الوقت‪ ،‬وإدارة الذات‪ ،‬وإدارة الجماعات‪.‬‬ ‫في حين أ َّن علم النفس يتض َّمن قضاياه الأساسية في التع ُّلم والنمو والتغيير‪.‬‬ ‫ومن المهم ملاحظة أ َّن الطرق التي يتم بها البناء الفكري هي طرق مختلفة‪ ،‬وأ َّنه‬ ‫ينبغي لنا الحرص على أ ْن تتراكم فعاليات هذه الطرق‪ ،‬وتتآزر آثارها‪ .‬فمن مسؤولية الفرد‬ ‫أ ْن يكون واعي ًا على التفا ُعل الفطري بين عمليات التط ُّبع‪ ،‬والتنشئة الاجتماعية‪ ،‬ومن‬ ‫مسؤوليته كذلك توظيف التعليم القصدي‪ ،‬والتزكية النفسية بتصفية النية‪ ،‬وحسن الا ِّتباع‪،‬‬ ‫وصناعة الإبداع‪ .‬ومن مسؤولية الأسرة والجماعة والتنظيم أ ْن يتع َّزز لدى هذه الجهات من‬ ‫هذا الوعي وهذا التوظيف ما يكفي لتحقيق التربية الفكرية‪ ،‬وتوفير البيئة الملائمة لظهور‬ ‫آثار هذه التربية ونتائجها المنشودة‪.‬‬ ‫ومهما كان المحتوى العلمي للفكر البشري (علوم شرعية‪ ،‬أو طبيعية‪ ،‬أو‬ ‫اجتماعية‪ ،)...‬فإ َّن تحليل هذا المحتوى يكشف عن عناصر ذات مستويات متفاوتة في‬ ‫مقاديرها ال َك ِّمية‪ ،‬وخصائصها الكيفية‪ .‬و َث َّمة علاقا ٌت بنيوية ووظيفية بين هذه العناصر‪.‬‬ ‫ومجموع عناصر هذا المحتوى العلمي تظهر في بناء هرمي له قاعدة وق َّمة‪ .‬ففي قاعدة أ ِّي‬ ‫علم من العلوم‪ ،‬تتموضع حقائق ذلك العلم‪ ،‬وتكون الحقيقة الواحدة منها تعبير ًا عن شيء‬ ‫مح َّدد‪ ،‬بما هو في ذلك الشيء اسم ًا أو صف ًة‪ .‬ويكون عد ُد هذه الحقائق في أ ِّي علم من‬ ‫العلوم عدد ًا كبير ًا جد ًا‪ ،‬ويسهل ملاحظة التطابق بين التعبير اللغوي عن الشيء الح ِّسي أو‬ ‫الأمر المعنوي من جهة‪ ،‬وحقيقة ذلك الشيء أو الأمر بصورة تكون أقرب إلى الإحساس‬ ‫المادي المباشر‪ .‬وتم ِّثل هذه القاعدة الأساس الأول للبناء المعرفي للعلم‪ ،‬وهو كذلك‬ ‫الأساس اللازم لتيسير عملية التع ُّلم والتعليم‪.‬‬ ‫‪376‬‬

‫ول ّما كانت الحقائق كثيرة جد ًا‪ ،‬فإ َّن العقل البشري يربط بين العدد الكبير من الأشياء‬ ‫التي تتشابه في عدد من الخصائص‪ُ ،‬مط ِلق ًا عليها لفظ ًا مشترك ًا‪ ،‬هو المفهوم‪ (((.‬فالإنسان‬ ‫هو مفهوم ينطبق على كل فرد من الناس‪ ،‬بغ ِّض النظر عن لونه‪ ،‬ولغته‪ ،‬و ِعرقه‪...‬؛ والسمك‬ ‫هو مفهوم ينطبق على أفراد الكائنات البحرية التي تعيش في الماء‪ ،‬وتتنفس بالخياشيم؛‬ ‫والبيع مفهوم لإعطاء أ َّية سلعة مقابل ثمن‪ ...‬فالمفاهيم هي طبقة‪ ،‬أو مستوى آخر في هرم‬ ‫العلم‪ ،‬يقع فوق الحقائق‪ ،‬وهي أكثر تعميم ًا وتجريد ًا من الحقائق‪ .‬ونظر ًا لأ َّن مفاهيم العلم‬ ‫هي تجريد لحقائق ذلك العلم؛ فإ َّن عددها في كل علم سيكون أقل من عدد حقائق العلم‪.‬‬ ‫والمعرفة البشرية تقيم علاقات بين المفاهيم‪ ،‬قد تكون علاقات ارتباطية أو سببية‪.‬‬ ‫وك ُّل علاقة يمكن أ ْن تصاغ بصورة قاعدة‪ ،‬أو مبدأ‪ ،‬أو قانون‪ ،‬أو معادلة رياضية‪ .‬ففي‬ ‫المعاملات التجارية يعرض البائع البضاعة التي يطلبها المشتري‪ ،‬وبين العرض والطلب‬ ‫علاقة يمكن أ ْن تصاغ في صورة قانون‪ ،‬هو قانون العرض والطلب‪ .‬وفي كل علم من‬ ‫العلوم قوانين تربط بين مفاهيم ذلك العلم؛ ففي الكيمياء قوانين‪ ،‬وفي الاقتصاد قوانين‪،‬‬ ‫وفي اللغة قوانين‪ ،‬وهكذا‪ .‬ولأ َّن كل قانون َيختزل في صياغته كثير ًا من المفاهيم؛ فإ َّن‬ ‫القوانين أقل عدد ًا من المفاهيم‪ ،‬ولكنَّها أكثر تجريد ًا‪ ،‬وهي تم ِّثل طبقة أعلى في البناء‬ ‫الهرمي للعلم‪ ،‬تقع فوق طبقة المفاهيم‪.‬‬ ‫ومن الجدير بالذكر أ َّن الحقائق والمفاهيم والقوانين هي مستويات وصفية‪ ،‬تع ِّبر عن‬ ‫واقع الأشياء كما هي عليه‪ ،‬ولكنَّها لا تف ِّسر سبب وجود هذه الأشياء على ما هي عليه‪.‬‬ ‫والذي يف ِّسر ذلك كله هو مستوى آخر من مستويات البناء المعرفي للعلم؛ وهو رأس‬ ‫هرم المعرفة‪ُ ،‬مم َّثل ًا في النظريات؛ فكل نظرية تتك َّون من مجموعة من المبادئ التي تف ِّسر‬ ‫ظاهرة من ظواهر العلم‪ .‬وفي كل علم مجموع ٌة من النظريات التفسيرية‪ ،‬تكون عادة أكثر‬ ‫تجريد ًا من مستويات البناء المعرفي التي تسبقها‪ ،‬ويكون عدد النظريات في كل علم قليل ًا‬ ‫بالمقارنة مع عدد القوانين‪ ،‬أو عدد المفاهيم‪ ،‬أو عدد الحقائق‪ .‬وإذا كانت وظيفة الحقائق‬ ‫والمفاهيم والقوانين هي الوصف‪ ،‬فإ َّن وظيفة النظريات هي التفسير‪.‬‬ ‫((( يختلف استعمال مصطلح \"المفهوم\" باختلاف المجال المعرفي؛ ففي المنطق هو تص ُّور ذهني‪ ،‬وفي اللغة هو‬ ‫معنى وضعي (اصطلاحي) يشير إلى اللفظ الذي يدل على حقل دلال ّي عام‪ .‬انظر‪:‬‬ ‫‪ -‬كوريم‪ ،‬سعاد‪\" .‬الدراسة المفهومية‪ :‬مقاربة تصورية ومنهجية\"‪ ،‬مجلة إسلامية المعرفة‪ ،‬المعهد العالمي للفكر‬ ‫الإسلامي‪ ،‬العدد (‪ ،)60‬ربيع (‪1431‬ﻫ‪2010/‬م)‪ ،‬ص‪.65‬‬ ‫‪377‬‬

‫وقد يكون من المناسب أ ْن نستدرك هنا بالقول إ َّن هرم المعرفة الذي سيعرض بعد‬ ‫قليل ربما يقدم صورة توضيحية جيدة‪ ،‬في التعبير عن مفردات المعرفة العلمية‪ ،‬والعلاقات‬ ‫القائمة بينها في العلوم الطبيعية؛ من‪ :‬فيزياء‪ ،‬وكيمياء وأحياء‪ ،‬ولك َّن ذلك يمكن أ ْن يصدق‬ ‫على العلوم الأُخرى‪ ،‬ولع َّل الفارق هو في تما ُيز الفئات والأنواع والأمثلة في كل مستوى‬ ‫من المستويات؛ فقد تكون أنواع الحقائق العلمية الطبيعية وأصنافها مختلفة عنها في‬ ‫العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية‪ .‬فالحقائق المفردة عن أشياء الكون وأحداثه غير‬ ‫الحقائق الوجودية الكبرى عن أصل الكون ومصيره‪ .‬وكذلك‪ ،‬فإ َّن نوع التدا ُخل أو التما ُيز‬ ‫بين مفردات المعرفة في هذه المستويات قد يتأ َّثر بالتعبيرات التي تو ِّفرها اللغة عنها؛‬ ‫فمصطلح ‪ Fact‬باللغة الإنجليزية لا يقابل تمام ًا مصطلح \"حقيقة\" باللغة العربية‪ ،‬وهكذا‬ ‫الحال في عناوين المستويات المعرفية الأُخرى‪.‬‬ ‫و َث َّمة طريق ٌة ُأخرى للتعبير عن مستويات المعرفة العلمية في أ ِّي علم من العلوم‪.‬‬ ‫وفي هذه الطريقة نع ِّبر عن أبسط أشكال المعرفة بمصطلح \"البيانات\" ‪ data‬التي تقابل‬ ‫الحقائق في هرم المعرفة‪ .‬ومجموع ُة البيانات ذات العلاقة بموضوع واحد تش ِّكل ما‬ ‫ُنس ّميه المعلومات‪ ،‬وهي مستوى أعلى في الدلالة والمعنى من البيانات‪ .‬وإذا أمكن‬ ‫توظيف المعلومات لغرض معين‪ ،‬و َتح َّقق ذلك فعل ًا‪ ،‬فإ َّن المعلومات تصبح معرفة‪،‬‬ ‫وتش ِّكل هذه المعرفة مستو ًى ثالث ًا‪ ،‬وهي بطبيعة الحال ذات مستوى أعلى في الدلالة‬ ‫والمعنى من المعلومات‪.‬‬ ‫وأخير ًا‪ ،‬فإ َّن الغرض من تطبيقات المعرفة وتوظيفاتها في ال ُّر ِق ِّي بالنفس والمجتمع‬ ‫نحو آفاق مفتوحة من رؤية العا َلم‪ ،‬والإجابة عن الأسئلة الوجودية الكبرى؛ يفتح المجال‬ ‫لمستوى رابع يتجاوز المعرفة نحو ما ُيط َلق عليه اسم الحكمة‪ .‬وبدلاً من تصوير هذه‬ ‫المستويات الأربعة في صورة هرم مشاب ٍه لهرم المعرفة السابق‪ ،‬فإ َّنه يحلو لنا أ ْن نتخ َّيل‬ ‫العلاقة بينها في صورة مدى الاتساع الفكري في الدلالة والمعنى والقيمة‪ .‬وفي هذه‬ ‫الحالة‪ ،‬فإ َّن البيانات تكون أضيق المستويات‪ ،‬تليها المعلومات التي تكون دلالتها أوسع‬ ‫وأعلى قيمة‪ ،‬ث َّم تكون المعرفة أوسع دلالة وأعلى قيمة من المعلومات‪ ،‬وأخير ًا تظهر‬ ‫الحكمة في ُأفق مفتوح نحو الأعلى تعبير ًا على المدى الواسع الذي لا يح ُّده سقف‪.‬‬ ‫‪378‬‬

‫وفيما يأتي رسم تخطيطي ُيو ِّضح المستويات الأربعة من مفردات المعرفة‪ ،‬في صورة‬ ‫هرم معتدل على يسار الشكل‪ ،‬والمستويات الأربعة لتوظيف مفردات المعرفة في صورة‬ ‫موازية لمستويات الهرم على يمين الشكل‪(((.‬‬ ‫رابع ًا‪ :‬العلوم المنهجية‬ ‫المنهج بصورة عامة هو طريقة التفكير في أمر ما‪ ،‬أو البحث فيه‪ ،‬أو ممارسته‪.‬‬ ‫والتربية هي عملية وممارسة يتو ّلها المجتمع في إعداد أبنائه‪ ،‬و َيلزمها التفكير والبحث‬ ‫في أهدافها وموضوعاتها وأساليبها‪ .‬و ِم ْن َث َّم تتراكم نتائج التفكير والبحث والممارسة‪،‬‬ ‫و ُتبنى المعرفة التربوية وتن َّظم في صورة علم التربية الذي تتف َّرع عنه مجموعة من الفروع‪،‬‬ ‫ُنس ّميها العلوم التربوية‪ .‬و ِم ْن َث َّم نستطيع القول إ َّن علوم التربية هي علوم منهجية؛ لأ َّنها‬ ‫تخت ُّص بمناهج أو طرق بناء المعرفة اللازمة للتربية‪ ،‬ومناهج أو طرق ممارسة هذه المعرفة‬ ‫وتطبيقها لتشكيل شخصية الإنسان‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن بعض العلوم تتم َّيز بأ َّنها علوم منهجية‬ ‫في الأساس‪ ،‬ونجد في سائر العلوم الأُخرى مك ِّون ًا منهجي ًا من مك ِّوناتها‪.‬‬ ‫((( أوردنا موضوعات البناء الفكري ومصادره وأدواته بصورة ُمف َّصلة في كتابنا \"البناء الفكري\"‪ .‬انظر ذلك في‪:‬‬ ‫‪ -‬ملكاوي‪ ،‬فتحي حسن‪ .‬البناء الفكري‪ :‬مفهومه ومستوياته وخرائطه‪ ،‬ع ّمان‪ :‬المعهد العالمي للفكر الإسلامي‪،‬‬ ‫ط‪2018 ،2‬م‪ ،‬ص‪.203 -157‬‬ ‫‪379‬‬

‫‪ .١‬علوم منهجية متم ِّيزة‪:‬‬ ‫لو بحث َت عن كلمات \"منهج\"‪ ،‬و\"مناهج\"‪ ،‬و\"منهجية\"‪ ،‬لوجد َت أ ّي ًا منها في مئات‬ ‫العناوين من الكتب والبحوث والمقالات‪ .‬وستجدها في كثير من الأحيان مرتبطة بكلمة‬ ‫\"البحث\"‪ ،‬مثل‪\" :‬منهج البحث\"‪ ،‬أو \"مناهج البحث\"‪ ،‬أو \"منهجية البحث\"‪ .‬ويضاف إلى‬ ‫العبارة عادة‪ :‬الموضوعات أو العلوم التي يمارس فيها المنهج (أو المنهجية) مناهج‬ ‫البحث في العلوم الاجتماعية‪ ،‬والقانونية‪ ،‬واللغوية‪ ،‬والدينية‪ ،‬وغيرها‪ .‬و ُتستع َمل لفظتا‬ ‫\"المنهج\" و\"المنهجية\" في سياقات مختلفة‪ ،‬و َي ِر ُد الحديث عن تع ُّدد أنواع المناهج‪،‬‬ ‫والمواصفات والضوابط التي تخت ُّص بالتوظيف المناسب لها‪ ،‬والتأ ُّكد من فاعليتها‪ ،‬كما‬ ‫َي ِر ُد الحديث عن مؤسسات متخ ِّصصة لتعليم المناهج والبحث فيها‪ ،‬وك ُّل ذلك يدخل في‬ ‫بناء علم متم ِّيز هو علم المنهجية ‪Methodology‬؛ أ ِي العلم الذي يدرس المناهج‪ .‬وأكث ُر‬ ‫ما ُيستع َمل مصطلح \"المنهجية\" في مجالات البحث ‪.Research Methodology‬‬ ‫والحق أ َّن علم المناهج \"المنهجية\" يمكن أ ْن يتسع لطرق التفكير‪ ،‬وأنواعها‪،‬‬ ‫وخصائصها‪ .‬وبعض العلوم ذات خصائص منهجية واضحة‪ ،‬مثل‪ :‬المنطق في الفلسفة‪،‬‬ ‫وأصول الفقه في العلوم الإسلامية‪ ،‬وعلم الكلام في العقائد‪ ،‬والمناظرة في السياسة‪،‬‬ ‫والمرافعة في القضاء‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬فلكل هذه العلوم قواعد وضوابط‪ ،‬يتم تع ُّلمها وتعليمها‬ ‫واستعمالها في ميادينها الخاصة بها‪ .‬ولذلك نقترح أ ْن ُتس ّمى علوم ًا منهجي ًة‪.‬‬ ‫فعلم أصول الفقه ‪-‬مثل ًا‪ -‬هو علم منهجي بامتياز؛ لأ َّنه العلم الذي يضبط قواعد‬ ‫استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية‪ .‬وعلم الكلام هو دراسة وبحث في قضايا‬ ‫العقيدة‪ ،‬وتقديم الأدلة‪ ،‬ومناقشة ال ُحجج المخالفة‪ ،‬ونقد الشبهات ودحضها بالبراهين‬ ‫المناسبة‪ .‬وعلم المنطق هو العلم الذي يدرس القواعد والقوانين العامة للتفكير الإنساني‬ ‫الصحيح‪ ،‬وعلم مقاصد الشريعة هو علم الكشف عن ال ِعلل‪ ،‬والمآلات‪ ،‬وبيان المصالح‬ ‫التي جاءت أحكام الشريعة لتحقيقها‪.‬‬ ‫وكل هذه العلوم المنهجية تو ِّسع مدارك العقل‪ ،‬و ُت ِعينه على التفكير الصحيح‪،‬‬ ‫وتختصر عليه الجهد حين يستغني عن التجربة والخطأ من دون دليل‪ ،‬وتمنعه من الوقوع‬ ‫في الخطأ والضلال‪ .‬وبمثل هذه العلوم المنهجية تكتمل عناصر النظر العقلي الراشد في‬ ‫سائر العلوم‪ ،‬الشرعية منها‪ ،‬والاجتماعية‪ ،‬والنفسية‪ ،‬والطبيعية‪ ،‬والتطبيقية‪ ،‬وغيرها‪.‬‬ ‫‪380‬‬

‫‪ .٢‬مك ِّون منهجي في ك ِّل علم‪:‬‬ ‫كثي ٌر من العلوم لها جوانب منهجية؛ سواء أكان ذلك في مناهج بحثها للوصول إلى‬ ‫الحقائق التي يمكن إقامة البرهان عليها عقلي ًا أو تجريبي ًا‪ ،‬أم في ممارسة النقد والمقارنة‬ ‫والموازنة بين الحقائق والأدلة‪ ،‬التي ُت ِعين على قبول الأحكام‪ ،‬ومعرفة الحقيقة التي‬ ‫يستهدفها البحث‪ ،‬كما في علم مقارنة الأديان‪ ،‬أو الفقه المقارن‪ ،‬أو في تح ّري الدقة‬ ‫والتقدير المنضبط والوصف ال َك ِّمي بالحساب والعدد‪ ،‬والاختيار السليم للمواقف‬ ‫والممارسات؛ أخذ ًا بالأولويات‪ ،‬واستئناس ًا بالمقاصد والمآلات‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬ ‫ويمكن أ ْن نم ِّيز في كل علم من العلوم‬ ‫ثلاثة مك ِّونات؛ الأول‪ :‬مادة العلم؛ أ ْي حقائقه‪،‬‬ ‫ومفاهيمه‪ ،‬وقوانينه‪ ،‬ونظرياته‪ ،‬أو ما فيه من بيانات‪،‬‬ ‫ومعلومات‪ ،‬ومعرفة‪ ،‬وحكمة‪ ،‬كما اتضح لنا ذلك‬ ‫في الرسم التمثيلي السابق‪ .‬والثاني‪ :‬منهج العلم؛‬ ‫أ ْي طرق الوصول إلى مادة العلم‪ .‬ومناه ُج البحث‬ ‫في موضوعات العلوم أنوا ٌع متعددة‪ ،‬منها‪ :‬التاريخي‪ ،‬والوصفي‪ ،‬والتجريبي‪ ،‬ومنها ما‬ ‫تكون بياناته وصف ًا كيفي ًا‪ ،‬أو قياس ًا َك ِّمي ًا‪ ،‬ومنها ما يكون بحث ًا نظري ًا أو تطبيقي ًا‪ ،‬وغير ذلك‬ ‫من مناهج البحث‪.‬‬ ‫وتتداخل في المك ِّون المنهجي للعلم ثلاثة مستويات منهجية؛ أولها يتصل بالمصادر‬ ‫والطرق العامة لاكتساب أ ِّي علم‪ ،‬ويدخل ذلك في أبواب نظرية المعرفة في الرؤية الفكرية‬ ‫العامة التي يتبنّاها الباحث‪ ،‬أو العالِم‪ ،‬أو ال ُمتع ِّلم‪ .‬ويتلخص ذلك ‪-‬برؤيتنا الإسلامية‪-‬‬ ‫في النموذج الذي نتبنّاه عن \"منهجية التكا ُمل المعرفي\"؛ إذ يعتمد هذا النموذج الوحي‬ ‫والعا َلم مصدرين لاكتساب المعرفة والعلم‪ ،‬والعقل والحس وسيلتين لاستمداد المعرفة‬ ‫من هذين المصدرين‪(((.‬‬ ‫((( ملكاوي‪ ،‬منهجية التكامل المعرفي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬الفصل السادس‪ :‬مصادر المنهجية وأدواتها‪ ،‬ص‪.240-203‬‬ ‫‪381‬‬

‫والمستوى الثاني في المك ِّون المنهجي للعلم هو إعمال مناهج التفكير والبحث‬ ‫المناسبة لكل علم؛ ففي علم الفلك نستعين بالمشاهدات الحسية والمراصد والتلسكوبات‬ ‫المق ِّربة‪ ،‬وفي علم الخلية نستعين بالمجاهر أو الميكروسكوبات المك ِّبرة‪ ،‬وفي الزراعة‬ ‫تجريب ميداني‪ ،‬وفي الكيمياء تجريب مخبري‪ ،‬وفي التاريخ نقد داخلي ونقد خارجي‬ ‫للرواية أو الأثر‪ ،‬وفي الحديث النبوي مناهج نقد الرواية والدراية وما تتض َّمنه من علم‬ ‫الرجال والجرح والتعديل وال ِعلل‪ ،‬وفي الأحكام الشرعية منهج أصول الفقه والمقاصد‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬فإ َّن لكل عل ٍم منه َج أسا ٍس هو أقرب وألصق به مع إمكانية الاستعانة بمناهج ُأخرى‪.‬‬ ‫وبالرغم من أ َّن مفاهيم \"العلم\"‪ ،‬و\"العمل العلمي\"‪ ،‬و\"الاكتشاف العلمي\" تم ِّثل‬ ‫موضوعات ُع ِرفت في مختلف مراحل التاريخ‪ ،‬وعند الأمم المختلفة‪ ،‬فإ َّن ك ّ ًل من مفهوم‬ ‫\"العلم\" ومفهوم \"الطريقة العلمية\" ‪-‬بالصورة التي نعرفها اليوم‪ -‬قد نما وتط َّور منذ القرن‬ ‫السابع عشر الميلادي‪ ،‬حيث كان العلم يعني في الأساس العلوم الطبيعية؛ لذا كان المنهج‬ ‫العلمي (أو الطريقة العلمية) يعتمد أساس ًا على المشاهدات الح ِّسية والتجارب العملية‪ ،‬ولك َّن‬ ‫تطبيق هذا المنهج في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية و َّسع دائرة الطريقة العلمية‬ ‫لتشمل عدد ًا كبير ًا من المناهج والأدوات والإجراءات والتقنيات التي تجمع البيانات الكيفية‬ ‫وال َك ِّمية‪ ،‬وتح ِّللها‪ .‬فبالإضافة إلى التجارب العملية المعروفة‪ ،‬عرفت الطريقة العلمية أنواع ًا‬ ‫مختلف ًة من البحوث‪ ،‬منها‪ :‬دراسات الحالة‪ ،‬والمسح الميداني‪ ،‬والبحث الإثنوغرافي‪،‬‬ ‫والبحث الإجرائي‪ ،‬والدراسات الوصفية والتحليلية والمقارنة‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬ ‫أ ّما المستوى الثالث من مستويات المك ِّون المنهجي للعلم فيتصل بالموضوع‬ ‫المح َّدد من ذلك العلم؛ فلكل علم نشأ ٌة ونم ٌّو وتط ُّو ٌر‪ ،‬قد ينفع فيه منهج البحث التاريخي‪.‬‬ ‫وفي كل علم مسائ ُل نظرية‪ ،‬ومسائ ُل عملية‪ .‬ولك ٍّل من النوعين مناه ُج خاصة بها‪ .‬وبعض‬ ‫المسائل تحتاج إلى دراسة تتبعية ووصف كيفي متع ِّمق‪ ،‬وبعضها يحتاج إلى بيانات ُتج َمع‬ ‫بالقياس ال َك ِّمي‪ ،‬وتتط َّلب معالجة إحصائية‪ ،‬والدراسة المستقصية لبعض المسائل تحتاج‬ ‫إلى استعمال عدد من الأدوات والأساليب البحثية‪.‬‬ ‫والمك ِّون الثالث من مك ِّونات بنية العلم هو الاتجاه العلمي؛ أي العادات النفسية‬ ‫والعقلية التي يط ِّورها الإنسان للتعامل الرشيد مع العلم وتطبيقاته وأخلاقياته‪ .‬ويتصل‬ ‫‪382‬‬

‫الاتجاه بالجانب الانفعالي والعاطفي في الإنسان‪ ،‬حين يك ِّون فكرة إيجابية أو سلبية عن‬ ‫موضوع العلم‪ ،‬تؤ ِّثر في درجة تع ُّلمه‪ ،‬أو طريقة توظيفه‪ ،‬ور َّبما ينعكس هذا الأثر على‬ ‫شخصيته‪ ،‬وعلاقاته‪ ،‬وأساليب سلوكه‪ .‬وتتج ّلى اتجاهات الإنسان نحو موضوع معين في‬ ‫رغب ِة البحث في هذا الموضوع‪ ،‬والحرص على اكتساب المزيد من المعرفة فيه‪ .‬ويؤ ِّثر‬ ‫الاتجاه نحو الموضوع كذلك في منهج التفكير والبحث فيه‪ ،‬لا سيما في اكتساب عادة‬ ‫التح ُّقق‪ ،‬والتث ُّبت‪ ،‬والتب ُّين‪ ،‬وتمييز الحقائق من الخرافات السائدة والإشاعات المغرضة‪.‬‬ ‫وحين نصغي إلى حوار عن قضية معينة‪ ،‬أو نشارك فيه‪ ،‬فإ َّن الاتجاه النفسي والعقلي‬ ‫الذي نحمله ُتجاه تلك القضية‪ ،‬يؤ ِّثر فيما نصل إليه من أحكام‪ ،‬لا سيما أ َّن هذا الاتجاه قد‬ ‫يتك َّون بصورة لا شعورية؛ نتيج ًة لخبرة شخصية سابقة‪ ،‬أو نتيج ًة لبيئة اجتماعية معينة‪.‬‬ ‫وتتداخل الاتجاهات الناتجة عن البيئات الاجتماعية أحيان ًا مع القيم التي يتبنّاها المجتمع‪،‬‬ ‫ويتش َّربها الفرد بطريقة غير واعية‪.‬‬ ‫ومن الواضح أ َّن المك ِّون الثالث للعلم لا يتصل بالعلم نفسه‪ ،‬وإ َّنما يتصل بمشاعر‬ ‫ال ُمتع ِّلم نحو ذلك العلم‪ .‬ومن هنا‪ ،‬تأتي أهمية التربية الفكرية في تع ُّرف اتجاهات‬ ‫ال ُمتع ِّلمين حيال موضوع علمي معين‪ ،‬والكشف عن الاتجاهات السلبية غير ال ُمب َّررة نحو‬ ‫الموضوع‪ ،‬التي تحول دون حصول التع ُّلم المنشود‪ ،‬وتمنع بناء الحكم القيمي المناسب‪،‬‬ ‫و ِم ْن َث َّم معالجة ذلك في ضوء ما قد يكون له من أسباب‪.‬‬ ‫فعلى الفكر التربوي الإسلامي المنشود أ ْن يراعي هذه العلوم المنهجية‪ ،‬وهذه‬ ‫المك ِّونات المنهجية في العلوم المختلفة؛ لكيلا يقتصر العمل التربوي فقط على جمع‬ ‫المعارف والمعلومات عن الأشياء والأحداث والظواهر الطبيعية والاجتماعية والنفسية‪،‬‬ ‫وحفظها‪ ،‬وتنظيمها‪ ،‬ومعرفة تطبيقاتها العملية‪ ،‬على ما في ذلك من فوائد‪ ،‬وإ َّنما يمتد‬ ‫بحيث تصبح هذه المعارف والمعلومات أدوات للنظر العقلي وبناء الشخصية الإنسانية‬ ‫من جهة‪ ،‬و ُتس ِهم في تق ُّدم العلوم ذاتها‪ ،‬وتطبيقها في مجالي التنمية الاجتماعية والتنمية‬ ‫الاقتصادية‪ ،‬والنهوض بواقع الأُ َّمة وموقعها في الحضارة البشرية المعاصرة من جهة ثانية‪،‬‬ ‫وتو ِّظف ذلك في فهم مقاصد الدين وإحسان التد ُّين من جهة ثالثة‪.‬‬ ‫‪383‬‬

‫إ َّن الفكر التربوي في الرؤية الإسلامية ليس موضوع ًا خاص ًا ُيد َرس بصورة مستقلة‬ ‫عن سائر موضوعات العلوم في مناهج التعليم‪ ،‬وإ َّنما هو روح تتخ َّلل هذه العلوم كلها‪،‬‬ ‫عن طريق ما س َّميناه العلوم المنهجية‪ ،‬والمك ِّون المنهجي في كل علم‪ .‬وهو ‪-‬في الوقت‬ ‫نفسه‪ -‬هدف منشود من وراء تدريس هذه العلوم وموضوعاتها‪ ،‬وهو ليس موضوع ًا خاص ًا‬ ‫بالمسلمين‪ ،‬وإ َّنما هو موضوع وهدف لتعليم الإنسان وتربيته‪ ،‬ولكنَّنا نلفت النظر إليه نظر ًا‬ ‫لضعف حضوره وأثره في الممارسات التعليمية والتربوية في بلدان العا َلم الإسلامي‪.‬‬ ‫ونأمل أ ْن يكون واضح ًا أ َّن التمييز بين فئات العلوم (العلوم الطبيعية والتطبيقية‪،‬‬ ‫والعلوم الاجتماعية والإنسانية‪ ،‬وعلوم الشريعة‪ ،‬وغير ذلك من الفئات) لا يعني استقلالها‬ ‫في العقل البشري استقلالاً تام ًا‪ ،‬وإ َّنما يعني أ َّن التمييز بينها هو من باب تيسير تع ُّرف‬ ‫أنواعها ودراستها‪ ،‬ومن باب تنظيم برامج تعليمها وتع ُّلمها‪ ،‬ضمن مجالات متخ ِّصصة؛‬ ‫إذ يصعب على الإنسان أ ْن يجمع بين تخ ُّصصات مختلفة في وقت تق َّدمت فيه العلوم‬ ‫وتب َّحرت في كل التخ ُّصصات‪ ،‬بما في ذلك ما ُنس ّميه علوم الشريعة‪.‬‬ ‫ولكنَّنا ‪-‬في الوقت نفسه‪ -‬لا نحكم على أ َّن كل ما في هذه العلوم هو ح ٌّق خالص‪،‬‬ ‫وحقائق مطلقة‪ ،‬ولا يوجد ِمن بين العلماء المتخ ِّصصين في أعلى درجات التخ ُّصص‬ ‫َمن ي َّدعي ذلك على كل حال‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فلم يعد بإمكان أ ِّي مجتمع أ ْن يلغي أبواب‬ ‫التخ ُّصص في هذه العلوم؛ فالتخ ُّصص والتب ُّحر فيها إلى أعلى المستويات الممكنة هو‬ ‫الكفي ُل بتحقيق ما في هذه العلوم من فوائد ومصالح لنح ِّصلها‪ ،‬وال ُم ِعي ُن على الكشف‬ ‫ع ّما فيها من خلل أو مفاسد لندرأها‪.‬‬ ‫لقد أشرنا إلى أ َّن علوم بناء الأُ َّمة هي الدين واللغة والتاريخ‪ ،‬وأ َّكدنا أ َّن قدر ًا منها لا‬ ‫ُب َّد أ ْن يكون جزء ًا من البرنامج التعليمي لكل أبناء الأُ َّمة؛ فمنه ما لا يسع المسلم الاستغناء‬ ‫عنه‪ ،‬وبه يكون المسلم مسلم ًا‪ ،‬ومنه ما يجب أ ْن يكون معلوم ًا من الدين بالضرورة‪ .‬و ِم ْن‬ ‫َث َّم‪ ،‬فإ َّن قدر ًا من هذه العلوم لا ُب َّد أ ْن يتوافر لكل فرد في المجتمع المسلم‪ ،‬مهما كان‬ ‫تخ ُّصصه في البرامج والمستويات التعليمية‪ .‬ور َّبما كان هذا القدر من التربية والتعليم في‬ ‫‪384‬‬

‫علوم الدين واللغة والتاريخ أدا ًة منهجي ًة في استيعاب العلوم الأُخرى‪ ،‬ومعرفة أهميتها‬ ‫وضرورتها ومناهج التعامل معها‪ .‬ث َّم إ َّن مستوى أعلى من هذه العلوم لا ُب َّد أ ْن يكون متاح ًا‬ ‫للتخ ُّصص العلمي العام والتخ ُّصص الدقيق في علم من هذه العلوم‪ ،‬كما هو العهد في‬ ‫كليات الشريعة والدراسات الإسلامية في الجامعات‪.‬‬ ‫وتفضيل التخ ُّصص بين علوم الشريعة والعلوم الأُخرى ليس مسألة أحكام قيمية‬ ‫عامة؛ فالمجتمع المسلم يحتاج إلى التخ ُّصص في كل هذه العلوم‪ ،‬ويبقى التفضيل مسألة‬ ‫اختيار وميل أو استعداد فردي‪ ،‬وك ٌّل ُمي َّس ٌر لما ُخ ِلق له‪.‬‬ ‫‪385‬‬

‫المبحث الثالث‬ ‫علوم التربية وموضوعاتها في الرؤية الإسلامية‬ ‫أولاً‪ :‬المقصود بالفرع العلمي‪:‬‬ ‫ما المقصود بمصطلح \"العلم\" في سياق الحديث عن علوم التربية؟ وما الذي يجعلنا‬ ‫ُنط ِلق على موضوع من موضوعات البحث والدراسة مصطلح \"العلم\"‪ ،‬و َن ُع ُّده فرع ًا علمي ًا؟‬ ‫إ َّن المقصود بالعلم أو الفرع العلمي هو الحقل المعرفي ‪ Field of Knowledge‬الذي يتم َّيز‬ ‫عن الحقول المعرفية الأُخرى‪ ،‬أو النظام الأكاديمي ‪ Academic Discipline‬الذي يصبح‬ ‫موضوع ًا للدراسة العلمية المتخ ِّصصة‪ .‬وبالرغم من أ َّن نشأة العلم المتخ ِّصص والاعتراف‬ ‫به يخضع لعدد من الاعتبارات‪ ،‬وتختلف حوله الآراء‪ ،‬فإ َّن َث َّمة اعتبارا ٍت عملي ًة تكاد تكون‬ ‫مؤ ِّشر ًا كافي ًا لاعتبار أ ِّي موضوع فرع ًا علمي ًا‪ .‬ومن هذه الاعتبارات‪:‬‬ ‫‪ -‬الفرع العلمي له موضوع للبحث‪ ،‬بالرغم من أ َّن هذه الموضوع قد يكون مشترك ًا‬ ‫مع فرع علمي آخر‪.‬‬ ‫‪ -‬الفرع العلمي له جسم من المعرفة المتخ ِّصصة التي لا يشترك فيها مع فرع علمي آخر‪.‬‬ ‫‪ -‬الفرع العلمي له مفاهيم ونظريات ُتس ِهم في تنظيم المعرفة المتخ ِّصصة بصورة ف ّعالة‪.‬‬ ‫‪ -‬الفرع العلمي له مصطلحات خاصة‪ ،‬ولغة فنية تتك َّيف مع موضوع البحث فيه‪.‬‬ ‫‪ -‬الفرع العلمي ط َّور مناهج وأدوات بحثية خاصة تتناسب مع متط َّلبات بحث موضوعاته‪.‬‬ ‫‪ -‬الفرع العلمي تخ ُّص ٌص له مجموعة ُمق َّدرة من المتخ ِّصصين الذين ين ِّظمون أنفسهم‬ ‫بصورة مؤسسية في أقسام وبرامج دراسية جامعية مثل ًا‪ ،‬ومراكز بحثية أو جمعيات‬ ‫مهنية متخ ِّصصة‪ ،‬لها اجتماعاتها ومجلاتها الدورية‪(((.‬‬ ‫((( وجدنا عدد ًا من المراجع الأكاديمية التي تتح َّدث عن الخصائص التي ينبغي للفرع العلمي أ ْن يتصف بها حتى ُي َع َّد‬ ‫فرع ًا علمي ًا متم ِّيز ًا‪ .‬وقد وجدنا تفاوت ًا كبير ًا فيما ُي َع ُّد خصائص مهمة لهذا الغرض‪ .‬غير أ َّن ما يجمع هذه الخصائص‬ ‫مع ًا موجو ٌد في بح ٍث ق َّدمه كريشانان من جامعة ساوثمبتون البريطانية‪ ،‬ناقش ‪-‬بقدر من التفصيل‪ -‬نشأة النُّ ُظم‬ ‫المعرفية المستقلة‪ ،‬والنُّ ُظم المعرفية المتداخلة‪ ،‬وح َّدد ست خصائص للنظام المعرفي المستقل‪ .‬انظر ذلك في‪:‬‬ ‫‪- Krishanan, Armin. What are Academic Discipline? Some Observation on the Disciplinarity‬‬ ‫‪vs. Interdisciplinarity debate, Southampton: University of Southampton, National Center‬‬ ‫‪for Research Methods, Working Paper Series no. 03/09, January 2009, p. 9.‬‬ ‫‪386‬‬

‫لقد كثر اهتمام غير العرب في العقود الأخيرة بدراسة اللغة العربية‪ ،‬فنشأت مراكز‬ ‫لتدريس اللغة العربية للناطقين بغيرها‪ ،‬من دون أ ْن َيعرف هذا المجال ُمد ِّرسين متخ ِّصصين‬ ‫أو أساليب خاصة لهذا الغرض‪ ،‬ولك َّن استمرار الإقبال على هذا النوع من التعليم ح َّفز إلى‬ ‫تطوير برامج لتأهيل ال ُمد ِّرسين‪ ،‬وظهرت قضايا ومشكلات أصبحت موضوعات للبحث‬ ‫العلمي‪ ،‬ث َّم ُأن ِشئت مراكز متخ ِّصصة‪ ،‬وبرامج جامعية‪ ،‬ومجلات دورية‪ ،‬ومؤتمرات بحثية‬ ‫متخ ِّصصة‪ .‬فأصبح الموضوع فرع ًا من فروع تعليم اللغة العربية‪.‬‬ ‫ومن الفروع العلمية التي ظهرت في السنوات الأخيرة علم مقاصد الشريعة‪ ،‬الذي‬ ‫انفصل عن علم أصول الفقه‪ .‬وعل ُم أصول الفقه كان قد نما وتط َّور في الأساس لضبط‬ ‫ممارسات الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية‪ .‬ونجد اليوم عشرات المراكز البحثية‬ ‫المتخ ِّصصة في علم مقاصد الشريعة‪ ،‬التي أصبحت مادة علمية جامعية في الدراسات‬ ‫العليا‪ ،‬وأصبح عدد المتخ ِّصصين في مقاصد الشريعة يتزايد بصورة ملحوظة‪.‬‬ ‫وقد نتج عن هجرة المسلمين إلى البلدان الأوروبية والأمريكية تفا ُع ٌل ملحوظ بين‬ ‫المسلمين وغيرهم في هذه البلاد‪ ،‬وأخذ عد ُد َمن يدخلون في الإسلام يتزايد بصورة‬ ‫ملحوظة؛ فدعت الحاجة إلى أ ْن يتخ َّصص بعض الدعاة للاهتمام بهؤلاء المسلمين‬ ‫الجدد‪ ،‬وبتطوير أساليب الدعوة لغير المسلمين‪ .‬ونرى أ َّن الحاجة أصبحت ماس ًة لتطوير‬ ‫برامج لتدريب الدعاة على أساليب نشر الدعوة بين غير المسلمين‪ .‬وقد تتط َّور هذه البرامج‬ ‫لتصبح فرع ًا علمي ًا متخ ِّصص ًا يجري تعليمه ضمن المتط َّلبات الخاصة به‪ ،‬كما هو الحال‬ ‫في الفروع الأُخرى‪.‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬نشأة فروع علم التربية‪:‬‬ ‫كانت التربية على مدار التاريخ البشري ‪-‬وما تزال‪ -‬عملية مجتمعية تخضع لظروف‬ ‫المجتمع‪ ،‬وحاجاته‪ ،‬ومرجعياته‪ ،‬وأولوياته‪ ،‬وتتل َّون باللون الذي يغلب على المجتمع في‬ ‫مرحلة من مراحله؛ فقد يكون اللون فلسفي ًا‪ ،‬أو عسكري ًا‪ ،‬أو ديني ًا‪ ،‬أو أخلاقي ًا‪ ،‬أو اقتصادي ًا‪،‬‬ ‫أو تكنولوجي ًا‪ ،‬أو غير ذلك‪ .‬و َث َّمة وجها ِن لمسألة كون التربية عملية اجتماعية؛ أولهما أ َّن‬ ‫الفلسفة والدين والأخلاق والاقتصاد والتكنولوجيا وغير ذلك م ّما يسود في المجتمع‬ ‫‪387‬‬

‫يؤ ِّثر في التربية ويل ِّونها‪ .‬وثانيهما أ َّن التربية هي التي تملأ ميدان التعليم في المجتمع بهذه‬ ‫الموضوعات‪ ،‬فتنشرها‪ ،‬وتط ِّورها‪ ،‬وتجعل لها شأن ًا في الواقع الاجتماعي‪ .‬بيد أ َّن الذي يحكم‬ ‫الوجهين مع ًا هو رؤية العا َلم ‪ Worldview‬التي يتبنّاها المجتمع؛ فرؤية العا َلم الإسلامية التي‬ ‫تقوم على الإيمان بالله سبحانه والنبوة والمعاد‪ ،‬وما يرتبط بذلك من معتقدات‪ ،‬هي رؤية‬ ‫توحيدية في المقام الأول‪ .‬فالنظرية السياسية التي تحكم النشاط السياسي في المجتمع‪،‬‬ ‫والنظرية الاقتصادية التي تحكم النشاط الاقتصادي‪ ،‬والنظرية الأخلاقية التي تحكم‬ ‫العلاقات الاجتماعية بين الناس؛ ك ُّل هذه النظريات وغيرها ‪-‬عندما تنطلق من رؤية العا َلم‬ ‫الإسلامية‪ -‬تصبح موضوعات في العمل التربوي‪ ،‬وعناصر مهمة في النظرية التربوية التي‬ ‫يعتمدها المجتمع المسلم‪ .‬فكل العلوم التي تتعامل مع الإنسان والمجتمع الإنساني‪ ،‬م ّما هو‬ ‫معروف في الإنسانيات ‪ ،Humanities‬والعلوم الاجتماعية ‪ ،Social Sciences‬تجتمع في‬ ‫ميدان التربية لتكون موضوعا ٍت للتنشئة والتنمية والتدريب والتعليم‪.‬‬ ‫وعلوم التربية هي علو ٌم نامي ٌة متط ِّور ٌة نتيجة التط ُّور والنمو الدائم في العلوم التي‬ ‫تكون موضوعات لها‪ .‬ومن هنا‪ ،‬تأتي الصعوبات التي تواجه التربية حين َيتب َّين لنا صعوبة‬ ‫متابعة ما يحدث من تغ ُّير وتط ُّور في العلوم والاكتشافات بصورة تنعكس على البرامج‪،‬‬ ‫والمناهج‪ ،‬والأساليب‪ ،‬والوسائل التربوية‪.‬‬ ‫وحين نشير إلى أهمية مفهوم \"رؤية العا َلم\" في طريقة التعامل مع العلوم في البرامج‬ ‫التربوية في المجتمعات الإسلامية‪ ،‬فإ َّننا نؤ ِّكد أ َّن هذا المفهوم ليس مفهوم ًا خاص ًا بالأُ َّمة‬ ‫الإسلامية والمجتمع المسلم؛ فلكل مجتمع رؤية للعا َلم هي أشبه بالعقيدة الدينية؛ سواء‬ ‫انطلقت هذه الرؤية من دين سماوي أو دين أرضي‪ ،‬أو كانت رؤية غير دينية ألبتة‪ .‬والفرد‬ ‫في المجتمع غالب ًا ما يتش َّرب هذه الرؤية‪ ،‬ويت َل َّبس بها بطريقة غير واعية‪ ،‬ويمارس نشاطه‬ ‫في مجتمعه بقدر من الانسجام والتك ُّيف مع واقع مجتمعه وطموحاته على أساسها‪.‬‬ ‫ولكنَّه قد يصادف ما يستدعي إثارة وعيه برؤية العا َلم التي يتبنّاها مجتمعه‪ ،‬فيؤمن بها‪،‬‬ ‫ويتبنّاها عن وعي‪ ،‬أو يأخذ في البحث عن بدائل لعناصر هذه الرؤية‪ .‬وفي أهمية رؤية‬ ‫العا َلم هذه في توجيه العمل التربوي بالمجتمع‪ ،‬قال أغروس وستانسيو‪\" :‬لكل حضارة‬ ‫من الحضارات تص ُّو ٌر كوني للعا َلم؛ أ ْي نظرة ُيف َهم وفق ًا لها ك ُّل شي ٍء‪ ،‬و ُيق َّيم‪ .‬والتص ُّور‬ ‫‪388‬‬

‫السائد في حضار ٍة ما هو الذي يح ِّدد معالمها‪ ،‬ويش ِّكل اللحمة بين عناصر معارفها‪ ،‬و ُي ْملي‬ ‫منهجيتها‪ ،‬ويو ِّجه تربيتها‪ .‬وهذا التص ُّور يش ِّكل إطار الاستزادة من المعرفة‪ ،‬والمقياس‬ ‫الذي تقاس به‪ .‬وتص ُّورنا للعا َلم هو من الأهمية بحيث لا ندرك أ َّن لدينا تص ُّور ًا ما إلا حين‬ ‫نواجه تص ُّور ًا بديل ًا‪(((\". ...‬‬ ‫ولكن‪ ،‬من الضروري التمييز بين العلوم التربوية بوصفها علوم ًا اجتماعي ًة‪ ،‬لا يستقل‬ ‫العلم بموضوعاتها عن الذات العالِمة‪ ،‬والعلوم الطبيعية التي تخت ُّص بدراسة المادة في‬ ‫تركيبها وتغ ُّيراتها وظواهرها‪ ،‬ويسهل إخضاعها للضبط التجريبي الذي يصعب فعله في‬ ‫العلوم الاجتماعية‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإ َّن التربية هي خبرات بشرية اكتسبها الإنسان بالتجربة‪ ،‬ث َّم‬ ‫أصبح كثي ٌر من عملياتها متوارث ًا عبر الأجيال‪ .‬والممارسة التربوية تستهدف بناء شخصية‬ ‫الإنسان على نمط معياري من أجل تحقيق أهداف وغايات وقيم مح َّددة‪.‬‬ ‫إ َّن التربية موضوع ُمغ ِرق في ال ِقدم؛ فقد عرفت الأقوام والشعوب منذ أقدم حقب‬ ‫الزمن ممارسات تربوية يقوم بها الآباء والأمهات‪ ،‬ويمارسها في صورة وظيفة اجتماعية‬ ‫(أ ْي مهنة)‪ ،‬ال ُمر ّبي العام‪ ،‬أو ال ُمع ِّلم الخاص بموضوع أو حرفة؛ لإعداد الأجيال الجديدة‬ ‫في مجالات لغة القوم ونظامهم الاجتماعي والديني‪ ،‬والحرف أو المهن التي كان‬ ‫المجتمع يحتاج إليها‪ .‬ومع أ َّن كثير ًا من أشكال التربية وموضوعاتها وأهدافها كان يتغ َّير‬ ‫عبر العصور‪ ،‬فإ َّن ما لم يتغ َّير حتى الآن هو الصورة العامة لوجود الأركان الثلاثة للتعليم‬ ‫والتربية‪ ،‬وهي‪ :‬ال ُمع ِّلم‪ ،‬وال ُمتع ِّلم‪ ،‬والمادة التعليمية‪.‬‬ ‫بيد ا َّن التطور شمل وجود مؤسسات متخ ِّصصة لتعليم الصغار أو تعليم الكبار‪ ،‬وتط َّورت‬ ‫موضوعات التعليم؛ فبالإضافة إلى تعليم اللغة‪ ،‬والدين‪ ،‬والنظام الاجتماعي‪ ،‬والحرف‪،‬‬ ‫ظهرت موضوعات تعليمية متخ ِّصصة في مستوى متق ِّدم‪ ،‬مثل‪ :‬الفلسفة‪ ،‬أو الحكمة التي‬ ‫كانت تضم معظم العلوم العقلية والعملية والتطبيقية‪ ،‬ث َّم بدأت تتمايز العلوم بموضوعاتها‪،‬‬ ‫مثل‪ :‬الشعر‪ ،‬والأدب‪ ،‬والرياضيات‪ ،‬والطب‪ ،‬والفلك‪ ،‬والفيزياء‪ ،‬والكيمياء‪ ،‬والجغرافيا‪.‬‬ ‫ولحق بذلك تما ُيز العلوم الاجتماعية وفروعها‪ ،‬مثل‪ :‬الاقتصاد‪ ،‬وعلم النفس‪ ،‬والتربية‪.‬‬ ‫((( أغروس‪ ،‬روبرت‪ .‬وستانسيو‪ ،‬جورج‪ .‬العلم في منظوره الجديد‪ ،‬ترجمة‪ :‬كمال خلايلي‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة‬ ‫(‪ ،)134‬الكويت‪ :‬المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب‪ ،‬يناير ‪1978‬م‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫‪389‬‬

‫ث َّم دخل كل علم من هذه العلوم في تفصيلات مح ِّددة لبعض موضوعاته حتى‬ ‫أصبحت علوم ًا فرعية قائمة‪ .‬ففي التربية ‪-‬مثل ًا‪ -‬لم نعد نتح َّدث عن علم التربية‪ ،‬وإ َّنما‬ ‫أصبح الحديث عن علوم التربية‪ .‬فبعض هذه الفروع هي تخ ُّصصات في تفاصيل بعض‬ ‫الموضوعات التربوية‪ ،‬مثل‪ :‬علم المناهج التربوية‪ ،‬وعلم الأساليب التعليمية‪ ،‬علم الإدارة‬ ‫التربوية‪ .‬وبعض هذه الفروع تخ ُّصصات بينية ‪ ،Interdisciplinary‬تتداخل موضوعاتها‬ ‫بين علم التربية وعلم آخر‪ ،‬كما في الإدارة التربوية‪ ،‬وعلم النفس التربوي‪ ،‬وتاريخ التربية‪،‬‬ ‫وفلسفة التربية‪ ،‬وعلم اجتماع التربية‪ ،‬وغيرها‪.‬‬ ‫ومع أ َّن التربية تتح َّدد غالب ًا في موضوعها؛ أ ِي المناهج التي يتم تعليمها والتربية‬ ‫عليها‪ ،‬فإ َّن بعض هذه الموضوعات أصبحت فروع ًا علمية مستقلة ضمن التربية‪ ،‬مثلما‬ ‫هو الحال في التربية الفنية‪ ،‬والتربية البدنية‪ ،‬والتربية العلمية‪ ،‬والتربية الفكرية‪ ،‬والتربية‬ ‫المدنية‪ ،‬والتربية العالمية‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬ث َّم إ َّن بعض فروع التربية جاءت لتتخ َّصص في‬ ‫تعليم فئة من ال ُمتع ِّلمين‪ ،‬مثل‪ :‬تربية الطفل‪ ،‬وتعليم الكبار‪ ،‬وتربية الموهوبين‪ ،‬وتربية ذوي‬ ‫الحاجات الخاصة‪ ،‬والتربية الوالدية (أ ْي تعليم الوالدين)‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬وسوف نجد فروع ًا‬ ‫ُأخرى تخت ُّص بالبيئات والأوساط التي يتم فيه التعليم‪ ،‬مثل‪ :‬التربية الأسرية‪ ،‬والتربية‬ ‫المسجدية‪ ،‬والتربية الإعلامية‪ ،‬والتعليم المنزلي ‪ ،Home Schooling‬وغير ذلك‪ .‬و َث َّمة‬ ‫أنوا ٌع متعددة ُأخرى‪ ،‬بعضها جاء تطبيق ًا لنظرية معينة في التعليم‪ ،‬أو لأسلوب معين من‬ ‫أساليب التعليم‪ ،‬أو غير ذلك‪.‬‬ ‫ويبدو أ َّن عملية التف ّر ُع هذه لا تقف عند ح ٍّد؛ فقد جاءت أنواع من التربية نتيجة التط ُّور‬ ‫في استخدام التجهيزات والوسائل الحديثة في التعليم‪ ،‬فظهر لدينا التعليم عن طريق‬ ‫التلفزيون‪ ،‬أو التلفزيون التعليمي‪ ،‬والتعليم عن ُب ْعد ‪ ،Distance Education‬والتعليم عن‬ ‫طريق الإنترنت ‪.On-Line Education‬‬ ‫صحي ٌح أ َّن كل هذه العلوم التربوية هي موضوعات للنظر والبحث والاهتمام في أ ِّي‬ ‫مجتمع‪ ،‬غير أ َّنها تأخذ موقعها من العملية التربوية في جانب التنظير وجانب الممارسة‪،‬‬ ‫في ضوء الفلسفة التربوية المعتمدة في المجتمع‪ ،‬والنظرية التربوية التي يتبنّاها‪ .‬وقد‬ ‫تح َّدثنا عن مفهومي \"الفلسفة التربوية\" و\"نظرية التربية\" في الفصل الأول‪ ،‬ولك َّن السياق‬ ‫هنا هو الحديث عنهما بوصفهما من العلوم التربوية‪.‬‬ ‫‪390‬‬

‫والحقيقة أ َّن كل ما أشرنا إليه من علوم التربية قد أصبح موضوعات مهمة في الفكر‬ ‫التربوي المعاصر‪ ،‬ولك َّن المدارس الفكرية التي تنتمي إليها هذه العلوم جعلت واقع‬ ‫التعليم يتفاوت تفاوت ًا كبير ًا بين بلدان العا َلم‪ .‬وتكشف عن هذا التفاو ِت أنظم ُة تصنيف‬ ‫مستوى التعليم ‪ ،Rating‬أو ترتيب نوعية التعليم في العا َلم‪ ،‬التي بدأت تظهر في السنوات‬ ‫الأخيرة‪ ،‬بل إ َّنها تكشف عن خيبة الأمل في بعض الدول؛ في عدم وصولها إلى مواقع‬ ‫متق ِّدمة في ُن ُظم التصنيف‪ ،‬مثل‪ :‬الولايات المتحدة الأمريكية‪ ،‬وفرنسا‪ ،‬وبريطانيا‪ .‬وهي‬ ‫الدول التي لا تزال كثير من دول العا َلم الأُخرى تستورد ُن ُظمها التعليمية منها‪.‬‬ ‫ومعظم ما ُيد َّرس في بلدان العا َلم الإسلامي من علوم التربية هو ما يختاره صنّاع‬ ‫القرار التربوي م ّما هو موجود في العا َلم الغربي‪ ،‬ولا سيما في أوروبا الغربية والولايات‬ ‫المتحدة الأمريكية‪ .‬ولو أعطى صنّا ُع القرار التربوي في البلدان الإسلامية شيئ ًا من الاهتمام‬ ‫والدراسة المتأنية لما َيلزمهم من علوم التربية‪ ،‬لوجدوا أ َّن لديهم من الخبرات المحلية ما‬ ‫يم ِّكنهم من الدراسة التحليلية النقدية لما هو سائد في الفكر التربوي المعاصر‪ ،‬في ضوء‬ ‫مرجعياتهم الوطنية والدينية‪ ،‬و ِم ْن َث َّم بناء علوم تربوية تتف َّوق على كثير م ّما هو سائد في‬ ‫الساحة المعاصرة‪.‬‬ ‫ومهما كانت الفلسفة التربوية المعتمدة رسمي ًا في أ ِّي مجتمع إسلامي‪ ،‬فلن يكون‬ ‫لها أثرها مع استمرار عملية استيراد النُّ ُظم التربوية؛ لأ َّن هذه النُّ ُظم التربوية المستوردة وما‬ ‫تتض َّمنه من برامج ومناهج وعلوم إ َّنما تستند إلى فلسفة البلد الذي تم استيراد هذه النُّ ُظم‬ ‫منه‪ .‬ث َّم إ َّن الاستيراد يصبح عملي ًة مستمر ًة؛ لأ َّن النُّ ُظم التربوية والنظريات التربوية والمواد‬ ‫التعليمية في علوم التربية هي في حالة تغ ُّي ٍر وتب ُّد ٍل مستم ٍّر‪ ،‬و ِم ْن َث َّم تصبح عملية الاستيراد‬ ‫تعبير ًا عن استمرار التخ ُّلف والتبعية‪.‬‬ ‫ثالث ًا‪ :‬النظرية التربوية والفلسفة التربوية‪:‬‬ ‫بعد أ ْن تح َّدثنا بصورة إجمالية عن العلوم التربوية التي تخت ُّص بجوانب مختلفة من‬ ‫الميدان التربوي والتعليمي‪ ،‬فقد اخترنا أ ْن نضيف شيئ ًا من التوضيح عن فرعين من فروع‬ ‫التربية‪ ،‬لهما موقع خاص بين علوم التربية‪ ،‬هما‪ :‬النظرية التربوية‪ ،‬والفلسفة التربوية‪.‬‬ ‫‪391‬‬

‫إ َّن التربية علم اجتماعي تطبيقي لا ينتسب إلى العلوم النظرية‪ ،‬ولك َّن النظرية التربوية‬ ‫أداة مهمة ُت ِعين على التفكير في مسائل التعليم والتع ُّلم بطرق مختلفة‪ .‬وقد أوضحنا العلاقة‬ ‫بين الفلسفة التربوية والنظرية التربوية والممارسة التربوية في الفصل الأول‪ .‬ومن المهم‬ ‫أ ْن نلاحظ أ َّن العملية التربوية تتض َّمن مجموع ًة من العناصر‪ ،‬منها‪ :‬ال ُمع ِّلم‪ ،‬والطالب‪،‬‬ ‫والمؤسسة‪ ،‬والمنهاج التربوي الذي يتح َّدد في عناصره الأربعة المعروفة؛ الأهداف‪،‬‬ ‫والمحتوى‪ ،‬والأساليب‪ ،‬والتقويم‪ .‬و َث َّمة نظريا ٌت تربوية لكل عنصر من هذه العناصر؛‬ ‫فالنظرية التربوية ليست نظرية واحدة‪ ،‬بل هي مصطلح شامل يضم العديد من النظريات‬ ‫التي تتناول ما يحدث في عملية التعليم‪ ،‬وما َيلزم أ ْن يحدث‪ .‬وتتأ َّسس ك ُّل نظرية تربوية‬ ‫على فلسفة تربوية تع ِّبر عن مجمل المعتقدات الخاصة بالوجود‪ ،‬والحياة‪ ،‬والمعرفة‪،‬‬ ‫والقيم‪ ،‬والإنسان‪ ،‬فيما ُيط َلق عليه اسم رؤية العا َلم‪.‬‬ ‫ومن المؤ َّكد أ َّن لنظرية التربية العامة موقع ًا محوري ًا في ميدان الممارسة التربوية؛‬ ‫فالممارسة التربوية عملية معقدة‪ ،‬وشائكة‪ ،‬وذات وجوه متقابلة‪ ،‬و َيلزم أ ْن ُتؤ َخذ بالحسبان‪،‬‬ ‫ليس فيما يجب على التربويين أ ْن يفعلوه في عملهم التربوي‪ ،‬وكيفية عمله فحسب‪ ،‬بل‬ ‫يشمل ذلك أيض ًا بيان الأسباب التي دفعتهم إلى فعله‪ (((.‬ث َّم إ َّن النظريات المختلفة في‬ ‫التربية تع ِّبر عن مدارس فكرية مختلفة‪ ،‬قد يفيد الا ِّطلاع عليها في فه ٍم أكثر عمق ًا لما يجري‬ ‫في المواقف المختلفة‪ .‬فالتعليم الذي يهدف إلى اكتساب المعرفة والمهارات اللازمة‬ ‫للمنافسة في سوق العمل يستند إلى رؤية فكرية مختلفة عن التعليم الذي يسعى إلى إشباع‬ ‫متط َّلبات النمو والتط ُّور الفردي‪ .‬وسنجد في الكتب المتخ ِّصصة في النظريات التربوية‬ ‫معايير مختلفة بخصوص اختيار النظريات التي يتح َّدث عنها الكتاب وعدم اختيار غيرها؛‬ ‫ف َث َّمة عد ٌد كبير من الباحثين والعلماء والمف ِّكرين الذين ق َّدموا إسهامات مق َّدرة في ميدان‬ ‫التربية الواسع بصورة عامة‪ ،‬أو في ميدان فرعي مح َّدد من ميادين التربية‪.‬‬ ‫ومعايير تصنيف النظريات التربوية كثيرة‪ ،‬وبعضها يعتمد معيار الزمن‪ ،‬فيتح َّدث عن‬ ‫نظريات تقليدية‪ ،‬وحداثية‪ ،‬وما بعد حداثية؛ وبعضها يعتمد معيار علم النفس‪ ،‬فيتح َّدث‬ ‫عن نظريات سلوكية‪ ،‬ومعرفية‪ ،‬وبنائية؛ وبعضها يعتمد معيار علم الاجتماع‪ ،‬فيتح َّدث‬ ‫‪(1) Aubrey, Karl. & Riley, Alison. Understanding and Using Educational Theories, London:‬‬ ‫‪Sage Publications Ltd, 2nd Edition, 2019, p.2.‬‬ ‫‪392‬‬

‫عن نظريات تتمحور حول الفرد في المجتمع‪ ،‬أو حول المجتمع بمجمله‪ ،‬أو حول‬ ‫المجتمع البشري‪.‬‬ ‫ومن الأمثلة الواضحة على أثر النظرية التربوية في تشكيل النُّ ُظم التربوية‪ ،‬والممارسات‬ ‫التربوية‪ ،‬ولا سيما في المراحل المبكرة من التعليم العام‪ ،‬التفاو ُت الكبير بين نظرية تعتمد‬ ‫حاجة المجتمع أساس ًا لبناء النظام التربوي‪ ،‬ونظرية ُأخرى تعتمد حاجة ال ُمتع ِّلم الفرد‪.‬‬ ‫ونجد في الأدبيات التربوية العالمية كثير ًا من النقد للأفكار التي انتشرت عن الحريات‬ ‫والحقوق الشخصية‪ ،‬التي ُتغ ِّلب روح التضامن والمشاعر العاطفية نحو الأطفال‪ ،‬وتهمل‬ ‫حاجة المجتمع إلى أجيال جديدة تتقن لغة الأُ َّمة‪ ،‬وتحسن التفا ُعل الاجتماعي‪ ،‬وتستفيد‬ ‫من خبرات الكبار الناجحة لتبني عليها‪ ،‬وتط ِّور خبرات جديدة‪.‬‬ ‫ونكتفي هنا بالإشارة إلى نموذج من هذا النقد الذي و َّجهه إريك دونالد هيرش‪،‬‬ ‫وهو تربوي أمريكي في جامعة فيرجينيا‪ ،‬إلى النظرية التربوية السائدة في التعليم المدرسي‬ ‫الأمريكي‪ ،‬الذي يتدهور باستمرار‪ ،‬وتتدهور حالة التعليم في أ ِّي بلد يستورد الخبرة‬ ‫التربوية الأمريكية كما حصل في فرنسا‪.‬‬ ‫يرى هيرش أ َّن سبب تدهور التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية والدول التي‬ ‫تأخذ ُن ُظمها التعليمية منها يعود إلى ثلاث أفكار عقيمة‪ ،‬هي‪ :‬مبادئ النمو الطبيعي‪،‬‬ ‫والفردية‪ ،‬والتفكير النقدي‪ .‬ومن المؤ َّكد أ َّنها تو ُّجهات جاذبة‪ ،‬وأ َّنها ستلقى قبولاً من‬ ‫الكثيرين بسبب بريقها الجاذب‪ ،‬ومسايرتها أفكار الحقوق والحريات الشخصية للأطفال‪.‬‬ ‫وقد اقترح بدلاً منها ثلاث أفكار ُأخرى‪ ،‬رأى أ َّنها أكثر انسجام ًا مع العلوم المعاصرة في‬ ‫النمو المعرفي‪ ،‬وعلم نفس النمو‪ ،‬والعلم الاجتماعي‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫‪ -‬التعليم المب ّكر يجب أ ْن يكون اجتماعي ًا‪ ،‬بحيث ير ِّكز على امتلاك الكفاءة في اللغة‬ ‫والأعراف في الفضاء الاجتماعي‪.‬‬ ‫‪-‬كل طفل في مجتمعه المحلي يجب أ ْن يتع َّلم المنهاج نفسه‪.‬‬ ‫‪ -‬تحقيق المساواة في ال ُفرص التي تم ِّكن الطفل من تع ُّلم المعرفة التي يمتلكها‬ ‫البالغون الناجحون في المجتمع‪.‬‬ ‫‪393‬‬

‫ووجد هيرش أ َّن َث َّمة فرق ًا كبير ًا بين تبنّي منهج تعليمي مشترك لجميع الطلبة كما‬ ‫تفعل أحسن المدارس في العا َلم‪ ،‬مثل فنلندا واليابان‪ ،‬وتطوير مناهج مختلفة لكل طفل‪،‬‬ ‫كما هي الممارسات الفاشلة في أمريكا وفرنسا حالي ًا‪(((.‬‬ ‫إ َّن أكثر ما تتج ّلى فيه الآثار الناتجة على المدارس (التيارات) الفكرية السائدة في‬ ‫المجتمع إ َّنما يكون في التربية‪ .‬فحين يكون هدف التربية في المجتمع تأكيد صورة‬ ‫المجتمع الذي تريد التربية أن تبن َيه‪ ،‬فإ َّن الطاقات ُتح َشد له‪ ،‬و ُيو َّجه الأفراد‪ ،‬و َتن َشط‬ ‫المؤسسات من أجل تحقيق تلك الصورة‪ .‬وقد يكون هدف التربية توفير البيئة المناسبة‬ ‫لنمو كل فرد في المجتمع إلى أقصى ما تم ِّكنه منه إمكاناته‪ ،‬فتتو َّجه الجهود إلى حرية‬ ‫الفرد‪ ،‬وتلبية تو ُّجهاته واختياراته وإبداعاته‪ .‬وقد عرف تاريخ التربية مجتمعات اعتمدت‬ ‫التربية العسكرية لأبنائها‪ ،‬ومجتمعات اعتمدت التف ُّوق في النمو الاقتصادي‪ ،‬ومجتمعات‬ ‫اعتمدت التربية الدينية والأخلاقية‪ ،‬ومجتمعات جمعت بين عدد من النماذج والغايات‬ ‫التربوية‪ .‬وكانت التربية في بعض المراحل شديدة المحافظة‪ ،‬واكتفت بنقل تراث المجتمع‬ ‫وثقافته إلى الجيل الجديد من أبنائه‪ ،‬وكانت في مراحل ُأخرى تم ِّثل سعي ًا لإطلاق طاقات‬ ‫الإبداع والاكتشاف وتطوير مجالات جديدة من التق ُّدم العلمي والحضاري‪.‬‬ ‫إ َّن من العبث أ ْن تبقى النُّ ُظم التربوية في المجتمعات الإسلامية سوق ًا لما تستورده من‬ ‫نظريات تربوية سرعان ما ُتفت َقد الحاجة إليها في بلادها‪ .‬ث َّم إ َّن الأفكار والخبرات التربوية‬ ‫التي ر َّبما تكون فيها مفيد ًة موجود ٌة في كثير من بلدان العا َلم غير بلدان أوروبا والولايات‬ ‫المتحدة الأمريكية‪ ،‬التي طالما كانت ِقبلة المجتمعات الإسلامية في الاستيراد منها‪ .‬ونجد‬ ‫فيما ط َّوره كثير من المف ِّكرين والتربويين المسلمين‪ ،‬من فلسفة التربية الإسلامية والنظرية‬ ‫التربوية الإسلامية‪ ،‬ما َيلزم أ ْن يستفاد منه‪ ،‬ولا سيما أ َّن إسهاماتهم في هذا المجال لم َتستب ِعد‬ ‫النظر في الخبرات البشرية المعاصرة في التربية‪ ،‬لكنَّها َبنَ ْت على الأفكار الح َّية في التراث‬ ‫التربوي الإسلامي كذلك‪ ،‬مع استنادها إلى المرجعية الحاكمة لتوجيهات الوحي الإلهي‬ ‫والهدي النبوي‪ ،‬وتنزيل هذه التوجيهات وفق مقاصدها على الواقع والظروف المعاصرة‪.‬‬ ‫‪(1) Hirsch, Eric Donald. Why Knowledge Matters: Rescuing our Children from Failed Educational‬‬ ‫‪Theories, Cambridge, Mas: Harvard Education Press, 2016. P. 7-11.‬‬ ‫‪394‬‬

‫رابع ًا‪ :‬موقع الإسلام في علوم التربية‪:‬‬ ‫معظم المجتمعات الإسلامية المعاصرة ُتخ ِّصص مادة تعليمية أو أكثر في التعليم‬ ‫العام‪ُ ،‬تس ّمى التربية الإسلامية‪ ،‬أو التربية الدينية‪ .‬وتأخذ هذه المادة (أو المواد) وزن ًا‬ ‫مح َّدد ًا في البرنامج المدرسي‪ ،‬يتفاوت كثير ًا من بلد إلى آخر‪ .‬وفي بعض البلدان الإسلامية‬ ‫التي تكون فيها نسبة غير المسلمين كبيرة‪ُ ،‬تخ َّصص مادة ُتس ّمى التربية الأخلاقية ‪Moral‬‬ ‫‪ ،Education‬يكون فيها شيء من التعليم عن جميع الأديان الموجودة في المجتمع‪،‬‬ ‫ويلتقي الطلبة من الأديان المختلفة في هذه الحالة على عناصر من التربية الأخلاقية تع ِّبر‬ ‫عن القيم المشتركة‪.‬‬ ‫و ُت ِل ُّح التو ُّجهات العلمانية في بعض البلاد الإسلامية على عدم تدريس الدين في‬ ‫المدارس؛ لأ َّن الدين في نظر تلك التو ُّجهات ليس شأن ًا اجتماعي ًا عام ًا‪ ،‬وإ َّنما هو شأن‬ ‫خاص‪ُ ،‬يت َرك للعائلة‪ ،‬أو للمؤسسة الدينية‪.‬‬ ‫وتر ِّكز بعض المجتمعات الإسلامية على التعليم الديني‪ ،‬وتقيم له مؤسسات‬ ‫متخ ِّصصة‪ ،‬تعتمد مواد التعليم و ُن ُظمه التقليدية التي ُع ِرفت منذ قرون؛ ُب ْغ َي َة الحفاظ‬ ‫على الهوية‪ ،‬كما هو الحال في التعليم الأزهري بمصر‪ .‬وتتشابه مجتمعات ُأخرى مع‬ ‫المجتمعات السابقة في تركيزها على التعليم الديني‪ ،‬ولكنَّه تعليم أكثر انفتاح ًا؛ إذ تضاف‬ ‫إلى علوم الشريعة علوم اللغة العربية‪ ،‬وبعض العلوم الاجتماعية‪ ،‬والعلوم الطبيعية‪،‬‬ ‫واللغات الأجنبية‪ ،‬وذلك بهدف تحديث التعليم الديني‪ .‬بيد أ َّن معظم مجتمعات المسلمين‬ ‫اليوم تعتمد ُن ُظم التعليم العام التي ط َّور ْتها الإدارات التعليمية في أثناء مرحلة الاستعمار‪،‬‬ ‫وبقيت بعد رحيل الاستعمار المباشر‪ ،‬لتع ِّبر ع ّما يمكن أ ْن يكون استعمار ًا ثقافي ًا وتربوي ًا‪.‬‬ ‫وفي هذه النُّ ُظم يق ُّل الاهتمام بالتربية الدينية‪ ،‬أو يكاد ينعدم‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّننا نجد بلدان ًا‬ ‫إسلامي ًة تفتح المجال لوجود مسارات تعليمية متعددة‪ ،‬يكون في أحدها تركيز على العلوم‬ ‫الإسلامية‪ ،‬ويختلف هذا التركيز من بلد إلى آخر‪ .‬ولا نعدم وجود بلدان إسلامية فيها‬ ‫ثلاثة أنواع من المؤسسات التعليمية‪ ،‬فيما يخت ُّص بالتعليم الديني‪ ،‬مثل‪ :‬التعليم العتيق‪،‬‬ ‫والتعليم الأصيل‪ ،‬والتعليم العمومي‪.‬‬ ‫هذا عن التعليم العام‪ .‬أ ّما بخصوص التعليم الجامعي‪ ،‬فإ َّن معظم البلدان الإسلامية‬ ‫فيها كليات جامعية متخ ِّصصة في علوم الشريعة‪ ،‬أو أقسام في كليات ُأخرى‪ ،‬مهمتها تخريج‬ ‫‪395‬‬

‫المتخ ِّصصين في التعليم الإسلامي في المدارس‪ ،‬وتأهيل الأئمة والخطباء في المساجد‪،‬‬ ‫وتلبية حاجة المتخ ِّصصين في العلوم الإسلامية في دوائر القضاء والإفتاء‪ .‬ونجد ذلك في‬ ‫برامج كليات الشريعة أو الدراسات الإسلامية‪ ،‬أو شعب أو أقسام الدراسات الإسلامية في‬ ‫كليات ا لآداب‪.‬‬ ‫وإذا كان حديثنا الحالي‪ ،‬في هذا العنوان الفرعي‪ ،‬عن موقع الإسلام في علوم‬ ‫التربية‪ ،‬فإ َّننا سنجد أ َّن ما ُط ِرح من حديث عن الإسلام سيكون ‪-‬على الأغلب‪ -‬حديث ًا عن‬ ‫موضوعات في العلوم الإسلامية (العقائد‪ ،‬والعبادات‪ ،‬والمعاملات) التي يجري تعليمها‪،‬‬ ‫ويصعب أ ْن ُنس ّميها فكر ًا تربوي ًا إسلامي ًا‪ .‬أو نجد أ َّن أهداف تدريس هذه الموضوعات‬ ‫تتض َّمن تطوير الفكر التربوي الإسلامي‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فمن ال ُمتو َّقع أ ْن نجد بعض الطلبة‬ ‫الذين يمكنهم ‪-‬نتيج ًة لتو ُّجهات شخصية‪ ،‬أو ظروف بيئية معينة‪ -‬أ ْن يط ِّوروا لأنفسهم شيئ ًا‬ ‫من عناصر الفكر التربوي الإسلامي‪ .‬ور ّبما تكون نسبة هذا النوع من الطلبة نسب ًة ضئيلة‪.‬‬ ‫ول ّما كان كثي ٌر من مراجع التدريس الجامعي في علوم التربية (مثل‪ :‬مقدمة في التربية‪،‬‬ ‫وأسس التربية‪ ،‬وفلسفة التربية‪ ،‬والمناهج التربوية‪ ،‬وعلم النفس التربوي‪ ،‬ونظريات‬ ‫التربية‪ ،‬وغيرها من العلوم التربوية) كتب ًا جامعي ًة ُكتِبت أساس ًا في العا َلم الغربي‪ ،‬واع ُت ِمد‬ ‫في تع ُّلمها على لغتها الأجنبية‪ ،‬أو الترجمة العربية لها‪ ،‬فإ َّن من المناسب النظر في موقع‬ ‫الإسلام في هذه الكتب‪.‬‬ ‫إ َّن دراسة الفكر الغربي المعاصر في أ ِّي حقل من حقول المعرفة (التربية‪ ،‬أو‬ ‫الاقتصاد‪ ،‬أو الاجتماع‪ ،‬أو السياسة) تكشف ع ّما َيغرق فيه هذا الفكر من تت ُّب ٍع لتاريخه‬ ‫منذ أقدم العصور في أثينا وروما‪ ،‬ث َّم ر َّبما يشير إشارات عابرة إلى الحضارة المصرية‬ ‫القديمة‪ ،‬أو الهندية‪ ،‬أو العراقية‪ ،‬ث َّم يتجاهل عصر الظلمات الأوروبي‪ (((،‬ويتجاهل تاريخ‬ ‫((( يتح َّدث التاريخ الغربي عن العصور الوسطى الأوروبية باسم عصر الظلمات ‪ Ages Dark‬الذي امت َّد نحو عشرة‬ ‫قرون من سقوط الدولة الرومانية الغربية إلى مطلع عصر الأنوار في إيطاليا‪ .‬وهو حقبة زمنية تقابل ‪-‬بالتقريب‪-‬‬ ‫التاريخ الممتد من عام ‪ 500‬ميلادي إلى عام ‪ 1500‬ميلادي‪ .‬انظر‪:‬‬ ‫‪- Oman, Charles. The Dark Ages (Quintessential Classics), Scotts Valley, California:‬‬ ‫‪CreateSpace, 2015.‬‬ ‫‪396‬‬

‫العا َلم وحضاراته الأُخرى خارج أوروبا‪ ،‬في أثناء هذا العصر‪ ،‬الذي شهد ازدهار التط ُّور‬ ‫العلمي في الحضارة الإسلامية‪ ،‬ليقفز إلى ما ُيس ّمى عصر الأنوار في أوروبا‪ ،‬الذي شهد‬ ‫الاكتشافات العلمية والجغرافية والإصلاح الديني‪ ،‬وبدأ بظهور كثير من العلماء في سائر‬ ‫المجالات‪ ،‬وانتهى بالشخصيات التربوية التي ش َّكلت نظرياتها معظم الممارسات التربوية‬ ‫الحديثة والمعاصرة‪ .‬وهذا نوع من التح ُّيز الظاهر في الفكر التربوي الغربي‪ ،‬كما هو في‬ ‫الفكر الغربي في سائر الحقول‪(((.‬‬ ‫ولع َّل من المفيد أ ْن ُنن ِّوه بأ َّن مادة في التربية الإسلامية وأطروحات جامعية عن‬ ‫شخصيات تربوية إسلامية أصبحت موضوعات للدراسة في عدد من الجامعات الغربية‪(((.‬‬ ‫ومن المفيد كذلك أ ْن ُنن ِّوه بأ َّن الطبعات الحديثة لبعض الكتب المنهجية في أسس التربية‬ ‫‪- Textbooks on Foundation of Education‬مثل ًا‪ -‬قد أضافت فقرات‪ ،‬وأحيان ًا‪ ،‬فصل ًا‬ ‫كامل ًا عن التربية الإسلامية‪ ،‬ولم تكن هذه الإضافات موجودة في الطبعات السابقة من‬ ‫الكتب نفسها‪ (((.‬ور َّبما يعكس ذلك التط ُّور شيئ ًا من آثار الحضور الإسلامي المحلي‬ ‫المحدود في المجتمعات الغربية‪ ،‬أكثر م ّما يعكس اهتمام ًا بملايين المسلمين في العا َلم‪،‬‬ ‫أو الاعتراف بعراقة الحضارة الإسلامية و ُعمق إسهاماتها في تاريخ الإنسان‪.‬‬ ‫((( ملكاوي‪\" ،‬التحيز في الفكر التربوي الغربي\"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.181-202‬‬ ‫((( عند مراجعة ملخصات الأطروحات الجامعية (‪ Dissertation Abstract International (DAI‬في شبكة الإنترنت‪،‬‬ ‫نجد تحت عنوان ‪ Islamic Education‬عدد ًا من الأطروحات الجامعية‪ .‬وإذا أدخلت التهجئة المناسبة لأسماء‬ ‫الشخصيات الإسلامية‪ ،‬فإ َّنك تجد بحوث ًا عن الإسهام التربوي لابن تيمية‪ ،‬والغزالي‪ ،‬وابن خلدون‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬ ‫‪(3) McNergney, Robert. & Herbert, Hoanne. Foundation of Education: the Challenge of‬‬ ‫‪Professional Practicem, Boston: Allyn and Bacon, Third Edition, 2001, p152.‬‬ ‫‪397‬‬

‫المبحث الرابع‬ ‫القيم في علوم التربية‬ ‫أولاً‪ :‬ضرورة الاهتمام بموقع القيم في علوم التربية‪:‬‬ ‫أشرنا فيما سبق إلى أ َّن للعلم ثلاثة مك ِّونات؛ أحدها مك ِّو ٌن يؤ ِّثر في مشاعر الإنسان‬ ‫واتجاهاته وقيمه‪ ،‬وفي طريقة تفاعله وسلوكه‪ .‬وعلى هذا الأساس تأتي الحاجة إلى‬ ‫التعامل مع هذا الجانب‪ ،‬عن طريق النظر في أخلاقيات المعرفة العلمية وطرق تأثيرها‬ ‫على مستوى التص ُّور العقلي والشعور النفسي في َمن يتل ّقى هذه المعرفة‪ .‬وقد يتج ّلى أثر‬ ‫العلم في الأغراض التي ُيستخ َدم فيها‪ ،‬وما يتح َّقق نتيج ًة لذلك من منافع أو مفاسد‪ .‬ومن‬ ‫المعروف أ َّن الطريقة التي يق ِّدم بها ال ُمد ِّر ُس ماد َة العلم تؤ ِّثر في الاتجاه الذي يك ِّونه الطلبة‬ ‫نحو ذلك العلم‪ .‬والأصل أ ْن تؤدي عملية التدريس إلى اتجاهات إيجابية نحو موضوع‬ ‫الدرس عند الطلبة؛ ما يساعد على استيعابهم للموضوع‪ ،‬واستفادتهم منه‪ ،‬ور َّبما يؤدي‬ ‫ذلك إلى تف ُّوقهم وإبداعهم فيه‪ ،‬وقد يكون ذلك أساس ًا لاختياره موضوع ًا للتخ ُّصص في‬ ‫المراحل الدراسية اللاحقة‪.‬‬ ‫و َث َّمة تداخ ٌل كبير بين المصطلحات ذات الصلة بهذا المك ِّون من العلم‪ ،‬حيث َي ِر ُد‬ ‫استخدام مصطلحات \"الاتجاهات\"‪ ،‬و\"الميول\"‪ ،‬و\"القيم\"‪ ،‬و\"الأخلاق\"‪ ،‬و\"المشاعر\"‪،‬‬ ‫و\"الانفعالات\"‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬ونختار أ ْن نتح َّدث بشي ٍء من التوضيح عن مصطلح \"القيم\"‬ ‫الذي يتصل اتصالاً مباشر ًا بالفكر التربوي الإسلامي؛ سواء كانت هذه القيم جزء ًا من‬ ‫الموضوع الدراسي‪ ،‬أو هدف ًا تربوي ًا لذلك الجزء‪ ،‬أو ِق َيم ًا تخت ُّص ببناء الشخصية الإنسانية‬ ‫لل ُمتع ِّلم؛ نتيج ًة لتع ُّلمه ذلك الموضوع‪ .‬فالقيم من أهم ما يش ِّكل شخصية الإنسان‪ ،‬ولا سيما‬ ‫عندما تتصل القيم بالإيمان؛ فالقيم الإيمانية على وجه التحديد تفرض على المؤمن اتجاه‬ ‫التفاؤل في الحياة‪ ،‬فيسعى إلى الحضور الفاعل في المجتمع‪ ،‬ليس لتأكيد ذاته فحسب‪،‬‬ ‫بل ليملأ حياته بالنشاط والحيوية في بيئته الطبيعية والاجتماعية؛ مبادأ ًة‪ ،‬وبحث ًا‪ ،‬وإتقان ًا‪،‬‬ ‫وابتكار ًا‪ ،‬وسعي ًا حثيث ًا للإصلاح والبناء والتق ُّدم‪ .‬والشخصية المكتنزة بالقيم الإيمانية لا ُب َّد‬ ‫أ ْن تنعكس على علاقة الفرد بالمجتمع من حوله حتى تتح َّقق خصائص التعا ُون والترا ُحم‬ ‫‪398‬‬

‫والتكا ُمل بين الأفراد الذين يك ِّونون جسد الأُ َّمة‪ ،‬وتتج ّلى منظومة القيم في حياتها‪ ،‬من‬ ‫خلال المعتقدات والعبادات والمعاملات التي تع ِّزز كلها ال ُب ْعد الاجتماعي في حياة الأُ َّمة‪.‬‬ ‫إ َّن أهم ما تخت ُّص به القيم في الرؤية التربوية الإسلامية هو ضبط الأهداف التي‬ ‫تسعى التربية إلى تحقيقها‪ ،‬عن طريق ضمان التكا ُمل بين عناصر العمل التربوي‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫المعرفة العلمية‪ ،‬وطرق التفكير والبحث في اكتسابها‪ ،‬والأثر الأخلاقي لتوظيفها‪ ،‬وعن‬ ‫طريق التكا ُمل في بناء شخصية الإنسان على ما فطره الله عليه من تكا ُمل في المجال العقلي‬ ‫والخلقي والوجداني‪.‬‬ ‫وتأتي أهمية معالجة موقع القيم في الفكر التربوي من الحاجة إلى التمييز بين المادة‬ ‫الدراسية التي تح ِّددها المناهج والبرامج التربوية‪ ،‬وما تتض َّمنه هذه المادة من حقائق‬ ‫ومفاهيم ومبادئ وقوانين ونظريات َتتح َّدد عاد ًة في ضوء الخبرة البشرية المتج ِّددة من‬ ‫جهة‪ ،‬والمصدر الذي يصلح أ ْن يكون مرجعي ًة للحكم على هذه المادة العلمية من حيث‬ ‫تص ُّورها العقلي وتوظيفها في الأغراض العملية من جهة ُأخرى‪ .‬فمصدر الحكم هذا لا‬ ‫يمكن أ ْن يكون كامن ًا في المادة نفسها؛ إذ لا ُب َّد أ ْن يأتي من خارجها‪ .‬ونجد في المعتقدات‬ ‫الدينية الإسلامية المستندة إلى نصوص الوحي الإلهي والهدي النبوي ما يش ِّكل هذه‬ ‫المرجعية في تص ُّورنا للمعرفة العلمية‪ ،‬وفي تحديدنا للأغراض المعتبرة شرع ًا لتوظيفها‪.‬‬ ‫و َث َّمة سب ٌب آخر لبيان أهمية معالجة موقع القيم في الفكر التربوي الإسلامي‪ ،‬هو‬ ‫أ َّن كثير ًا من العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية ‪-‬التي هي موضوعات للمناهج‬ ‫الدراسية في المجتمعات الإسلامية‪ -‬هي علوم نمت وتط َّورت في القرون الثلاثة الأخيرة‬ ‫في الغرب الأوروبي والأمريكي‪ .‬وهذه العلوم بطبيعة نشأتها‪ ،‬وطريقة صياغتها‪ ،‬وطرق‬ ‫توظيفها‪ ،‬ليست خالية من مرجعيات قيمية على مستوى التص ُّور‪ ،‬وعلى مستوى التوظيف؛‬ ‫لأ َّن فيها من الإحالات الفكرية والفلسفية ما يحتاج إلى درجة متق ِّدمة من الوعي والقدرة‬ ‫على التفكيك؛ ذلك أ َّن التو ُّجه الفكري العلماني في الغرب يجعل العل َم مرجعي َة ذاتِه‪،‬‬ ‫ليس فقط في العلوم الطبيعية‪ ،‬وإ َّنما في العلوم الإنسانية والاجتماعية كذلك‪ .‬وفي ذلك‬ ‫يقول المسيري‪\" :‬شهدت العلوم الإنسانية في الغرب انقطاع ًا كامل ًا من عصر النهضة‬ ‫الأوروبية‪ ،‬فأصبح ك ُّل عل ٍم مرجعي َة ذاتِه؛ فالاقتصاد مرجعيته اقتصادية‪ ،‬والسياسة‬ ‫مرجعيتها سياسية‪ ...‬وهذا يعني ‪-‬في واقع الأمر‪ -‬الانفصال الكامل الشامل؛ أ ْي إ َّن عملية‬ ‫‪399‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook