ومن صور التربية الروحية ما يقوم على الفلسفة الطبيعية من دون وجود مرجعية دينية .ومن ذلك الممارسات التربوية التي تتصل بفلسفة طاغور الطبيعية؛ وهي فلسفة تربوية تقوم على الحرية ،والإبداع الذاتي ،والتوا ُصل الف ّعال مع الطبيعة والإنسان ،وهي تستهدف تنمية قدرات الفرد عن طريق عقيدة الطبيعة الأُ ِّم ،والأخوة الإنسانية ،والحرية، والتعا ُون ،وال ُح ِّب ،والرحمة .فإذا أمكن لل ُمع ِّلمين تشكيل سلوك الأفراد في مختبر الطبيعة ،فإ َّن هذه هي التربية الروحية(((. ومع أ َّن معظم ما ُيذ َكر عن التربية الروحية يتصل عادة بالمعتقدات الدينية ،فإ َّن َث َّمة نموذج ًا آخ َر من نماذج التربية الروحية في ممارسات عا َلمنا المعاصرُ ،يص ِّرح بعدم استناده إلى مفهوم ديني تقليدي ،ويعتمد مبدأ العلمانية بدلاً منه .ومن ذلك ما يق ِّدمه معهد الذكاء الثلاثي 3Q Instituteالذي َع َّرف نف َسه بأ َّنه في طليعة التربية العلمانية والتدريب في الذكاء الروحي ،عن طريق توحيد الجسم والعقل والروح .وهو يقوم على أ َّن َث َّمة ُب ْعد ًا فطري ًا من الذكاء يمتلكه جميع الناس ،وأ َّنه يمكن تطويره عن طريق التجربة الشخصية ،لا العقيدة الدينية .ونموذجه للذكاء يعتمد على أ َّن الدراسة العلمية التجريبية على العقل البشري تكشف عن ثلاثة أنواع من الذكاء :الذكاء الفكري Intellectual Intelligence؛ وهو ما يقوم به النصف الأيسر من الدماغ ،والذكاء العاطفي Emotional Intelligence؛ وهو ما يقوم به النصف الأيمن من الدماغ ،والذكاء الروحي Spiritual Intelligence؛ وهو يقوم بمعالجة توافقية للدماغ كله .فالذكاء الروحي يم ِّثل \"الروحانية العلمانية\" .ويق ِّدم المعهد دورات تدريبية على مواقع في شبكة الإنترنت تعتمد التكا ُمل بين الأنواع الثلاثة من الذكاء .ويرى القائمون على المعهد أ َّن هذا التدريب ُيط ِلق إمكانات الإنسان بكاملها، ويزيد من ُفرص استيفاء جوانب الشخصية ،وتكون النتيجة ارتفاع ًا في الأداء(((. وأخير ًا ،فإ َّن ال ُب ْعد الروحي ليس مهم ًا في تشكيل شخصية الفرد في المجال التربوي فحسب ،بل أصبح ُب ْعد ًا مهم ًا في مجال الحياة الاقتصادية والسياسية ،وأصبح ُين َظر إليه بوصفه \"رأس مال\" .وفي هذا المجال ،صدر عام 2016م كتاب حمل عنوان \"رأس المال (1) Srivastava, Prem Shankar. Spiritual Education in Tagore Philosophy, Scholarly Research Journal for Humanity Science and English Language, An International Peer reviewed and Referred, VolII, Issue VII, Dec-Jan, 2015, pp 1021-1030. (2) https: //sqi.co/about-3q-institute/ 450
الروحي :الروحية في الممارسة من رؤية مسيحية\" .وقد استند الكتاب إلى بحوث أكاديمية ُتس ِهم في بناء نظرية في رأس المال الروحي .ويهدف الكتاب إلى تعزيز فكرة محورية عن الاقتصاد الأخلاقي أخذت تظهر في المناقشات الاقتصادية المعاصرة ،ويب ِّين الحاجة إلى تفكير ثوري في السياسات والممارسات الاقتصادية؛ لبناء أساس أخلاقي لمواجهة الأزمات التي يشهدها العا َلم في مجال الأعمال والاقتصاد والمال (((.ومن الجدير بالذكر أ َّن مصطلح \"رأس المال الروحي\" أصبح موضوع ًا لدراسات متعددة من رؤى دينية مختلفة :إسلامية، ومسيحية ،وهندوسية ،وبهائية ،وغيرها(((. ثالث ًا :التكا ُمل والتوا ُزن في الا ِّتباع والإبداع: َتب َّين لنا أ َّن التكا ُمل في الفكر التربوي الإسلامي هو خاصية يتناول فيها هذا الفكر الجوانب المختلفة المك ِّونة لشخصية الإنسان ،بالقدر المناسب من موضوعات التربية، وبالأساليب والوسائل المناسبة لكل مك ِّون ،ولكل موضوع ،بنا ًء على أ َّن هذه المك ِّونات والموضوعات يرتبط أحدها بالآخر ،ويؤ ِّثر فيه .بيد أ َّن ك ّ ًل منها لا ُيغني عن غيره في تعريف شخصية الإنسان وهويته؛ فشخصية الإنسان هي ك ٌّل متكامل على نح ٍو لا يسهل تفكيكه إلى مك ِّوناته إلا لأغراض تسهيل دراسته .وقد اتضح لنا أ َّن التكا ُمل في المعالجة التربوية لا يعني التساوي في ال َك ِّم ،أو التشابه في النوع بالضرورة ،وإ َّنما يعني توفير الفكر التربوي والممارسة التربوية التي تؤدي الغرض ،و ُتشبِع الحاجة. ويخت ُّص التوا ُزن في الفكر التربوي الإسلامي بالمقادير والأبعاد النسبية لعناصر كل صفة من الصفات التي نود لهذا الفكر أ ْن يصوغها ،بحيث لا تزيد لتصل ح َّد الإفراط، ولا تنقص لتصل ح َّد التفريط ،وإ َّنما يتوافر في الصفة ما َيلزمها بتو ُّسط واعتدالُ ،مب ِّين ًة لنا أ َّن التوا ُزن يسمح بتوظيف ما يتم َّيز به شخ ٌص عن آخر في صفة من الصفات ،على سبيل التخ ُّصص ،وأ َّن خاصية التوا ُزن كما هي صف ٌة أصيل ٌة في كل ما خلق الله سبحانه فإ َّنها كذلك تقوم على الطبع والفطرة البشرية. (1) Rima, Samuel D. Spiritual Capital: Spirituality in Practice in Christian Perspective (Transformation and Innovation), New York: Routledge; 2016. ((( يمكن للراغبين في الا ِّطلاع على المزيد من هذا الموضوع Capital Spiritualأ ْن يبحثوا في الأطروحات الجامعية ،وبحوث الدوريات العلمية ،والكتب المرجعية المتنوعة. 451
ونود الآن أ ْن نتناول موضوع العلاقة بين الا ِّتباع والإبداع ،وما قد يكون بينهما من تكا ُمل أو توا ُزن .فالا ِّتباع لفظ قرآني حكيم َتو َّجه إلى الإنسان منذ بداية خلقه ،حين طلب منه الله سبحانه أ ْن يهبط إلى الأرض ليسكنها ،مع وع ٍد بأ ْن ُير ِسل إليه ما يهديه من تعليم َيلزمه في سكنى الأرض وإعمارها﴿ .ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ ﯨﯩﯪ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ﴾ [طه .]123:فما على الإنسان إلا أ ْن ي َّتبع هدى الله حتى يتجنَّب أ ْن يض َّل عن غايته في الدنيا ،أو يشقى في الآخرة .وقد توالت دعوة الإنسان إلى ا ِّتباع ما أنزل الله على رسله ،وفي كتبه﴿ .ﭡﭢﭣﭤ ﭥﭦﭧ ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ﴾ [الأعراف .]3:وقد و ّصاه تعالى با ِّتباع صراطه المستقيم، وتجنُّب أ ِّي ُسبل ُأخرى ،فقال ع َّز وج َّل﴿ :ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ﴾ [الأنعام .]153:وأ َّكد للناس أ َّن الطمع في ُح ِّب الله ومغفرته لهم يرتبط با ِّتباع رسوله﴿ .ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼ﴾ [آل عمران .]31:وقد ح َّذرهم من ا ِّتباع أهواء الضا ّلين والمض ّلين، فقال تعالى﴿ :ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭣﭤﭥﭦ ﭧِ﴾ [المائدة .]77:وب َّين لهم كذلك أ َّن أش َّد الضلال هو ا ِّتباع هوى النفوس بغير هدى من الله﴿ .ﯧﯨﯩﯪﯫ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯶ ﯷﯸﯹ﴾ [القصص.]50: وفي القرآن الكريم ألفا ٌظ تتصل بالا ِّتباع ،منها التأ ّسي والاقتداء؛ فالذين يرجون فضل الله يوم الحساب في الآخرة هم فئة م َّمن كان لهم رسول الله ﷺ ُأسوة حسنة﴿ .ﯯﯰﯱ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ﴾ [الأحزاب .]21:ولأ َّن النبي بش ٌر تحيط به أحوال ال ِّش َّدة والرخاء والغنى والفقر ،فيصبر ويشكر ،ويعيش مع الناس ،ويأكل م ّما يأكلون؛ فإ َّن بالإمكان التأ ّسي به ،لما يرونه من شؤونه وحياته .وما كان لهذا التأ ّسي أ ْن يتم لو كان الرسول ملك ًا من الملائكة. وللمؤمنين ُأسوة بنبي الله إبراهيم ،و َمن معه من الأنبياء أو المؤمنين .والأُسوة في السياق هي التب ُّرؤ من الكفار وعدم موالاتهم ،والإعلان القاطع عن مفاصلتهم حتى يؤمنوا بالله وحده﴿ .ﮣ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ﴾ [الممتحنة .]4:وترتبط الأُسوة هنا 452
بالا ِّتباع؛ ذلك أ َّن الله سبحانه أوحى إلى محمد ﷺ أ ْن ي َّتبع ِم َّلة إبراهيم ﴿ .ﮅ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮐﮑ﴾ [النحل .]123:ولع َّل المقصود هنا هو الا ِّتباع في أصل الدين والتوحيد ،وليس في الشريعة؛ فلكل نبي من الأنبياء جعل الله شريع ًة ومنهاح ًا .وفي الاقتداء جاء ذكر الأنبياء ،وما آتاهم الله من كتاب وحكم ونبوة، وما أنعم عليهم من هداية للدين الح ِّق والصراط المستقيم .ث َّم ع َّقب الله تعالى على ذلك بتوجيه القول إلى محمد ﷺ بقوله﴿ :ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ﴾ [الأنعام]90:؛ \"أ ْي :اقت ِد وا َّتبِع (((\".فالاقتداء هنا يكون \"بالعمل الذي عملوا ،والمنهاج الذي سلكوا، وبالهدى الذي هديناهم (((\".فا ِّتباع النبي ﷺ هو طاعته فيما جاء به من الاعتقادات ،وما قاله أو أمر به من فعل أو ترك ،والاقتداء والتأ ّسي بأقواله وأفعاله؛ شريطة أ ْن يكون كل ذلك عن ن َّية الا ِّتباع ،وقصده ،وإرادته. ونلاحظ أ َّن القرآن الكريم ربط بين الا ِّتباع والهدى والصراط المستقيم .قال تعالى: ﴿ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ﴾ [طه ،]123:وقال سبحانه﴿ :ﭺﭻﭼﭽ ﭾﭿ﴾ [الأنعام .]153:فالا ِّتباع ومعه التأ ّسي والاقتداء يعني تأ ُّثر الإنسان بغيره ،فيعتقد بمعتقده ،ويأخذ بقوله ،ويسلك سلوكه بقصد وإرادة .وعلى هذا جاء مفهوم \"التابعين\"، الذين وصفتهم الآية الكريمة﴿ :ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝ﴾ [التوبة .]100:وهم الذين ا َّت َبعوا َمن سبقهم من الصحابة، واقتفوا أثرهم ،وساروا على نهجهم ،فكان ذلك سبب ًا في تقرير الفضل لهم؛ وكل ذلك من الا ِّتباع المحمود. ولك َّن القرآن الكريم ب َّين أ َّن َث َّمة ا ِّتباع ًا لا يكون على هدى ،ولا علم ،ولا عقل .ومن هذا النوع من الا ِّتباع حا ُل َمن رفضوا ا ِّتباع ما أنزل الله ،وا َّت َبعوا بدلاً من ذلك ما وجدوا عليه آباءهم ،حتى لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئ ًا ،ولا يهتدون ،وهم كمثل أولئك ال ُّصم البكم الذين لا يعقلون﴿ .ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭞﭟﭠﭡ ﭢﭣﭤﭥﭦ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭯﭰﭱ ((( ابن كثير ،تفسير القرآن العظيم ،مرجع سابق ،ج ،3ص.299 ((( الطبري ،أبو جعفر محمد بن جرير (توفي310 :ﻫ) .جامع البيان في تأويل القرآن ،تحقيق :أحمد شاكر ،بيروت: مؤسسة الرسالة2000 ،م ،ج ،11ص.519 453
ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ﴾ [البقرة .]171-170:وفي مثل هذه الحالة من الا ِّتباع تكون أعمال الطرفين؛ الذين ا َّت َبعوا ،والذين ا ُّتبِعوا ،حسرات عليهم يوم القيامة ،وما هو بخارجين من النار﴿ .ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯟﯠ﴾ [البقرة.]167-166: وقد لا يختلف الا ِّتباع عن التقليد في المعنى العام ،كما أشار إلى ذلك الشاطبي في \"الموافقات\" في أكثر من موقع (((.فكما أ َّن الا ِّتباع منه المحمود ومنه المذموم ،كما َتب َّين ذلك في الاستعمال القرآني للفظ \"الا ِّتباع\" ،فكذلك التقليد قد يكون محمود ًا إ ْن كان على هدى وبصيرة ،أو مذموم ًا إ ْن كان بغير علم ولا هدى .بيد أ َّن ابن عبد البر م َّيز بين الا ِّتباع والتقليد ،رافض ًا التقليد ،وخ َّصص لذلك باب ًا س ّماه باب فساد التقليد ونفيه ،والفرق بين التقليد والا ِّتباع (((.وف َّسر ذلك بأ َّن ال ُمق ِّلد إذا قال برأي غيره مع علمه بدليله ،فإ َّن ذلك لا ُي َع ُّد تقليد ًا ،بل ا ِّتباع ًا ،وإذا قال برأي غيره من دون معرفة الدليل فهو التقليد الممنوع .وذكر حدي َث النب ّي ص ّلى الله عليه وس َّلم\" :يذهب العلماء ث َّم يتخذ الناس رؤوس ًا جهالاً ،يسألون فيفتون بغير علم ،ف َيض ّلون ،و ُي ِض ّلون \".وع َّقب عليه بقوله\" :وهذا كله نفي للتقليد وإبطال له ل َمن فهمه ،و ُه ِدي لرشده .ونقل ابن عبد البر قو َل أبي عبد الله بن خويز منداد البصري المالكي :التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قو ٍل لا ُح َّجة لقائله عليه ،وذلك ممنوع منه في الشريعة ،والا ِّتباع ما ثبت عليه ُح َّجة(((\". ((( تك َّرر استعمال لفظ \"الا ِّتباع والاقتداء\" في \"موافقات\" الشاطبي بصورة متكافئة في كثير من المواقع ،ومثال ذلك قوله\" :والدليل على صحة ذلك أ َّن شيئ ًا منها لا يحصل إلا على مقدار الا ِّتباع والاقتداء به ،ولو كانت ظاهرة لل ُأ َّمة على فرض الاختصاص بها والاستقلال لم تكن المتابعة شرط ًا\".انظر: -الشاطبي ،الموافقات في أصول الشريعة ،مرجع سابق ،ص.374 ومثال آخر قوله\" :إذا ثبت أ َّن الحمل على التو ُّسط هو الموافق لقصد الشارع ،وهو الذي كان عليه السلف الصالح ،فلينظر ال ُمق ِّلد أ َّي مذهب كان أجرى على هذا الطريق فهو أخلق بالا ِّتباع و َأ ْولى بالاعتبار ،وإ ْن كانت المذاهب كلها طرق ًا إلى الله ،ولك َّن الترجيح فيها لا ُب َّد منه؛ لأ َّنه أبعد من ا ِّتباع الهوى كما تق َّدم ،وأقرب إلى تح ّري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد ”.ولا نجد لديه أ َّي موقع يم ِّيز فيه بين الا ِّتباع والتقليد .انظر: -الشاطبي ،الموافقات في أصول الشريعة ،مرجع سابق ،ص.877 ((( ابن عبد البر ،أبو عمر يوسف بن عبد الله القرطبي (توفي463 :ﻫ) .جامع بيان العلم وفضله ،تحقيق :أبو الأشبال الزهيري ،الدمام :دار ابن الجوزي ،مجلد واحد1414( ،ﻫ1994/م) ،ص.975 ((( المرجع السابق ،ص.993-988 454
ولا شك في أ َّن الأُ َّمة الإسلامية هي ُأ َّمة الا ِّتباع لما جاء به الوحي الإلهي والهدي النبوي ،ولما علمناه من ُسنَّة الراشدين المهديين ،ولكنَّه ا ِّتباع على علم وهدى وبصيرة؛ لأ َّن ال ُم َّتبِع رأى الصراط المستقيم الذي سار عليه المهتدون قبله ،فا َّت َبعهم عليه. وتتصل ظاهرة الا ِّتباع بالتربية والتعليم اتصالاً وثيق ًا ،و ُت َع ُّد الأسرة في حياة البشر أقدم مؤسسة للتربية والتعليم ،عن طريق الا ِّتباع والتقليد .والأعراف الاجتماعية كانت مصدر ًا للا ِّتباع والتقليد؛ فالناس على مدار التاريخ ي َّتبِعون َمن سبقهم في كثير من الأمور .واستعمال اللغة هو مسألة ا ِّتباع؛ لأ َّنه يقوم أساس ًا على ما جرى عليه الاستعمال اللغوي في كل ُأ َّمة ،جيل ًا بعد جيل .و ُتع َرف الشعوب بأنماط من السلوك في العاد ّيات من المطاعم والمشارب والملابس؛ ا ِّتباع ًا ،وتقليد ًا .والشائع المعروف أ َّن الأبناء ي َّتبِعون الآباء غالب ًا في هذه الأمور ،وفي غيرها من الانتماء الديني ،والانتماء المذهبي ،وكثير من الممارسات الاجتماعية .غير أ َّن ظاهرة الا ِّتباع والتقليد لم تكن تمنع التغ ُّير والتط ُّور في هذه الممارسات؛ فكلما تس َّببت بعض العوامل في نوع من الممارسة الجديدة ،ما لبث أ ِن استقرت حقبة من الزمن عاد فيها الا ِّتباع والتقليد من جديد. وعوامل التغيير لا تقتصر على العاد َّيات من الممارسات الاجتماعية ،وإ َّنما تدخل في التجديد في فهم النصوص الدينية ،وطريقة تنزيلها على الواقع المتج ِّدد لحياة الناس. وتظهر الحاجة إلى التجديد في حالتين؛ الأُولى :حين يبتعد الناس بالتدريج عن الحالة العملية والعلمية التي كانت سائدة في حقبة زمنية معينة ،وقد يرافق ذلك شي ٌء من الانحراف في الفهم والممارسة ،حتى يصبح الدين غريب ًا كما بدأ ،فتظهر الحاجة إلى إصلاح ما فسد، والعودة بالفهم الأصيل ،حتى لكأ َّن الدين بدأ من جديد ،كما ورد في الحديث الشريفَ \" :ب َد َأ ال ِإ ْسل َا ُمَ غ ِريب ًاَ ،و َس َي ُعو ُد َك َما َب َد َأ َغ ِريب ًاَ ،ف ُطوبى لِ ْل ُغ َر َبا ِء (((\".و َث َّمة زياد ٌة في رواية ُأخرى ذكرتها بع ُض كتب الحديث :قيل :يا رسول الله! من الغرباء؟ قال :الذين ُيصلحون إذا فسد الناس(((\". ((( مسلم ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،كتاب :الإيمان ،باب :بيان أ َّن الإسلام بدأ غريب ًا وسيعود غريب ًا ،وأ َّنه يأرز بين المسجدين ،حديث رقم ،)145( :ص.83 ((( الداني ،أبو عمرو عثمان بن سعيد المقرئ (توفي444 :ﻫ) .السنن الواردة في الفتن وغوائلها والساعة وأشراطها، تحقيق :رضاء الله بن محمد إدريس المباركفوري ،بيروت :دار العاصمة1416 ،ﻫ ،قول النبي ﷺ\" :بدأ الإسلام غريب ًا\" ،ج ،3حديث رقم ،)288( :ص.633 455
ويتصل معنى الحديث النبوي بعملية التجديد في الدين المشار إليها في حديث التجديد\" :إ َّن الله يبعث لهذه الأُ َّمة على رأس كل مائة سنة َمن يج ِّدد لها دينها (((\".واقتصر معنى التجديد في لغة التراث الإسلامي ،حتى القرن الثاني عشر الهجري ،على ما أشار إليه هذا الحديث ،وطفق العلماء يقترحون اسم المج ِّدد في كل مئة سنة من تاريخ الإسلام، ويح ِّددونه بقدر ما اجتهد في فروع الفقه المذهبي ،أو بقدر ما أعاد الاعتبار إلى ال ُّسنة، ومحا من البدعة .فعمر بن عبد العزيز مج ِّدد المئة الأُولى ،والشافعي مج ِّدد المئة الثانية، وهكذا .وقد ع َّلق ابن كثير على كلام العلماء ع َّمن َي ُع ّدونه من المج ِّددين ،فقال\" :وقد ا َّدعى ك ُّل قو ٍم في إمامهم أ َّنه المراد بهذا الحديث ،والظاهر ،والله أعلم ،أ َّنه يع ُّم حملة العلم العاملين به من ك ِّل طائفة ،م َّمن عمله مأخو ٌذ عن الشارع ،أو م َّمن هو موافق من ك ِّل طائفة وك ِّل صنف من أصناف العلماء؛ من :مف ِّسرين ،ومح ِّدثين ،وق ّراء ،وفقهاء ،ونحاة، ولغويين ،إلى غير ذلك من أصناف العلوم النافعة ،والله أعلم(((\". وأخذ معنى التجديد كذلك لفظ \"الإحياء\" في عبارة\" :إحياء ال ُّسنة ،وإماتة البدعة\"؛ إذ نجد مصطلح \"إحياء ال ُّسنة\" في هذا الحديث النبويَ \" :من أحيا ُسنَّة من ُسنَّتي قد ُأميتت بعدي كان له ِمن الأجر مثل َمن عمل بهاِ ،من غير أ ْن ينقص ِمن أجورهم شيئ ًا ،و َمن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ولا رسوله كان عليه ِمن الإثم مثل آثام َمن عمل بها ،لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئ ًا(((\". ونجد مصطلح \"إحياء البدعة\" كذلك في وقت مب ِّكر؛ فقد ُر ِوي أ َّن عبد الله بن عباس قال\" :ما أتى على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه ُسنَّة ،حتى تحيا البدع، وتموت السنن (((\".ويبدو أ َّن الإمام الغزالي حين ق َّرر أ ْن يجعل عنوان كتابه الأكثر أهمية ((( أبو داود ،سنن أبي داود ،مرجع سابق ،كتاب :الملاحم ،باب :ما يذكر في قرن المئة ،حديث رقم ،)4291( :ص.469 ((( ابن كثير ،أبو الفداء إسماعيل بن عمر القرشي الدمشقي (توفي774 :ﻫ) .البداية والنهاية ،بيروت :عالم الكتب، (1424ﻫ2003/م) ،ج ،19ص.42 ((( أبو شامة ،شهاب الدين أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل (توفي665 :ﻫ) .الباعث على إنكار البدع والحوادث ،مكة المكرمة :مكتبة النهضة الحديثة ،ط1981 ،2م .انظر: -الترمذي ،جامع الترمذي ،مرجع سابق ،كتاب :العلم ،باب :ما جاء في الأخذ بال ُّسنة واجتناب البدع ،حديث رقم ،)2676( :ص.433 ((( المقدسي ،ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد (توفي643 :ﻫ) .ا ِّتباع السنن واجتناب البدع ،تحقيق: محمد بدر الدين القهوجي ،ومحمود الأرناؤوط ،دمشق :دار ابن كثير1987 ،م ،ص.24 456
\"إحياء علوم الدين\" كان يرى أ َّن \"علوم الدين\" في عصره أخذت طريقها إلى الموت، فأراد أ ْن يجتهد في إحيائها. أ ّما الحالة الثانية من التجديد فر َّبما تكون في صور جديدة من فهم مقصود النص الشرعي؛ نظر ًا لما يصل إليه علم الناس عن موضوع هذا النص ،ويكون ذلك في مسائل الطب ،والإدارة ،والزراعة ،والصناعة ،والعمران ،وغيرها؛ وفي وسائل التعليم ،والدعوة، والاتصال ،والتوا ُصل ،وغيرها؛ وفي أنظمة العلاقات بين المجتمعات والدول؛ وفي ُع َّدة القتال وأنواع الجهاد ،وغير ذلك م ّما لم يكن معروف ًا من قب ُل .وقد لا يكون ذلك في صورة أحكام جديدة بالضرورة ،بقدر ما يكون تنزيل ًا للنصوص التي اس ُتنبِطت منها الأحكام على النوازل والحالات والأوضاع المستجدة. ولع َّل من المناسب تأكيد أ َّن ألفاظ \"الإبداع\" ،و\"الابتداع\" ،و\"البدعة\" تحمل معنى حيادي ًا بين ال َّذ ِّم والمدح ،كما هي في الاستعمال القرآني ،وكما ظهرت في معاجم اللغة، وكما استعملها الصحابة؛ إذ نجد في \"لسان العرب\"َ \" :ب َد َع الشي َء يب َدعه َب ْدع ًا ،وابتدعه: أنشأه وبدأه ...والبِ ْدع :الشيء يكون أولاً ...وفي التنزيل﴿ :ﮈﮉﮊﮋﮌﮍ﴾ [الأحقاف]9:؛ أي ما كنت أ َّول َم ْن ُأر ِسل ،قد ُأر ِسل قبلي رس ٌل كثير ...والبدعة :الحديث وما اب ُت ِدع من الدين بعد الإكمال ...قال ابن الأثير :البدعة بدعتان :بدعة ُهدى ،وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمر اللهُ به ورسو ُله ﷺ ،فهو في ح ِّيز ال َّذ ِّم والإنكار ،وما كان واقع ًا تحت عموم ما ندب الله إليه وح َّض عليه أو رسوله فهو في ح ِّيز المدح ،وما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة( ...ومنه) قول عمر :نعمت البدعة هذه ...والبديع :ال ُمب ِدع .وأبدعت الشيء :اخترعته لا على مثال .والبديع من أسماء الله تعالى ...الكسائي :البِ ْدع :في الخير والشر(((\". ومع ذلك ،فإ َّن أكثر ما ورد في التراث الإسلامي عن البدع كان َذ ّم ًا؛ لأ َّن سياق الحكم كان يتصل بالزيادة أو النقص في الدين أو التد ُّين .ومع تأكيد أ َّن البدعة بهذا المعنى لا ((( ابن منطور ،أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم (توفي711 :ﻫ) .لسان العرب ،بيروت :دار صادر (15 مجلد ًا) ،مجلد 2003 ،8م ،ص.6-5 457
تحتمل غير ال َّذ ِّم ،فإ َّن كثير ًا من هذا ال َّذ ِّم للبدعة والابتداع قد كان في مواجهة تيارات الغل ِّو أو التفريط في مسائل الاعتقاد والعبادة ،ور َّبما كان انعكاس ًا لحالة التقليد الشديد التي عاناها المجتمع المسلم في بعض المراحل. إ َّننا في سياق الحديث عن الفكر التربويى الإسلامي ،وما نتط َّلع إليه من دور في البناء الحضاري لمجتمعاتنا و ُأ َّمتنا الإسلامية ،نع ِّبر عن وعينا بالحاجة إلى فكر تربوي يدفع صنّاع القرار في العمل التربوي إلى توفير ال ُفرص لل ُمتع ِّلمين؛ للانطلاق فيما ي َّسره لهم الله من طاقات إبداعية ،مؤ ِّكدين أ َّننا بذلك ننطلق من ضرورة الاهتمام بال ُب ْعد الممدوح من الإبداع، وما يتصل به من تجديد وبعث وإحياء ،دون أ ْن نفتقد وعينا بشرط الا ِّتباع ،وما يتصل به من الأحكام والتوجيهات في الوحي الإلهي ،ومن معاني الاقتداء والتأ ّسي بالهدي النبوي. وقد تزايد الوعي بضرورة الاهتمام بالإبداع في التربية الحديثة نتيجة النقد المتواصل للمدرسة التي ش َّكلت إرث ًا تاريخي ًا تم َّثل في قيامها بأدوار مهمة في حفظ تراث الشعوب ونقله إلى الأجيال الجديدة ،وتزويد ال ُمتع ِّلمين بما َيلزم للتأقلم الاجتماعي في الحياة المعاصرة ،وضبط المسار الفكري والمسار السياسي اللذي ِن يضمنان للقاهري َن السيطرة على المقهورين .بيد أ َّن المدرسة فشلت -في كثير من الأحيان -في إطلاق روح التح ُّرر، والإعلاء من كرامة الإنسان ،ورفض ممارسات القهر التي تقتل طاقات الإبداع والتجديد والابتكار في الإنسان(((. إ َّن التربية مسؤولية خطيرة؛ فالقائم عليها يؤ ِّثر في حياة أعداد كبيرة من البشر، ويستطيع أ ْن ُي ْح ِدث تغيير ًا إيجابي ًا أو سلبي ًا .وقد كان مبعث النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم ليكون هادي ًا و ُمع ِّلم ًاِ ،منَّ ًة من الله ع َّز وج َّل؛ وذلك قوله﴿ :ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ﴾ [آل عمران ،]164:وقوله سبحانه﴿ :ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ﴾ [البقرة.]151: وكان الأمر بالقراءة والكتابة في المجتمع المسلم ،منذ بدء نزول الرسالة ،سبب ًا في تح ُّول ذلك المجتمع إلى مجتمع علم وتع ُّلم وتعليم بكل معنى الكلمة .وقد كان ذلك ((( فرايري ،تعليم المقهورين ،مرجع سابق1980 ،م. 458
إبداع ًا في نمط الحياة لم تألفه المجتمعات ،لا سيما أ َّنه إبداع يتو َّجه إلى ربط الناس بالخالق ع َّز وج َّل ،وتوجيه حياتهم وفق ما يوحي به من شرو ٍط ،تح ِّقق لهم المصالح، وتدرأ عنهم المفاسد. والمجتمعات الإسلامية اليوم تعاني التخ ُّل َف في معظم مجالات الحياة؛ سواء حكمنا عليها بالتخ ُّلف في ضوء ما يريد منها إسلامها ،أو بالقياس إلى ما تمتلكه من إمكانات وطاقات ،أو بالمقارنة مع الشعوب والمجتمعات الأُخرى .وقد تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أ َّن الخروج من هذه الحالة لا يمكن أ ْن يتم بجهود اللحاق بالمتق ِّدمين ،بعد تجربة ذلك م َّدة تزيد على قرنين من الزمان؛ فالفارق كبير في المسافة الحالية بين المتق ِّدمين والمتأ ِّخرين ،والفارق كبير في سرعة الحركة وجهود التغيير .فلا ُب َّد من نوع آخر من الجهود؛ جهود إبداعية غير تقليدية تش ِّكل قفزات في المستقبل ،وبخاصة أ َّن لدى الأُ َّمة من رصيد القيم والأخلاق -لو تم َّثلته في واقعها -ما يم ِّكنها من التف ُّوق والريادة .والفكر التربوي ال ُمؤ َّسس على التربية الإبداعية هو ما يتيح المجال لإطلاق الطاقات والقدرات واستثمارها في جهود النهوض والسبق الحضاري ،والخروج من حالة الغثائية والتخ ُّلف. وم ّما لا شك فيه أ َّن التربية الإبداعية المنشودة في التعليم لا تقتصر على مادة تعليمية دون ُأخرى .فالحاجة إلى الإبداع قائمة في جميع المجالات؛ في :تعليم العلوم الطبيعية والتطبيقية ،والعلوم الإنسانية والاجتماعية ،واللغات والفنون ،وغيرها .فأزماتنا الإدارية؛ سواء إدارة الدولة ،أو إدارة المؤسسات ،تحتاج إلى حلول إبداعية ،ومثلها أزماتنا الاقتصادية والتربوية وغيرها .ونحن لا نجد ال ُمب ِدع ُمب ِدع ًا في كل شيء ،ولكنَّه يكون ُمب ِدع ًا في مجال دون آخر؛ ففتح المجال للإبداع في الممارسات التربوية يكشف عن القدرات الإبداعية في المجالات المختلفة .والأُ َّمة بحاجة إلى الإبداع في كل المجالات، بما يم ِّكنها من التو ُّقف عن التبعية لغيرها. ولم تجد مجتمعاتنا في يوم من الأيام خبير ًا أجنبي ًا ُمب ِدع ًا في حل المشكلات ،أفلح في مساعدتنا على ح ِّل مشكل ٍة لجأنا إليه فيها ،هذا إ ْن رغب في ح ِّلها حقيق ًة! ولك َّن مشروع النهوض والتف ُّوق الحضاري الذي تبنيه الأُ َّمة الإسلامية يمكنه أ ْن يجعل إبداعات الأمم الأُخرى عنصر ًا من عناصر التدريب والإعداد لإطلاق الطاقات الإبداعية لأبنائها. 459
والتربية الإبداعية لا تقتصر على مؤسسات التعليم التقليدية في الأسرة والمدرسة والجامعة ،وإ َّنما تحتاج -بالإضافة إليها -إلى مؤسسات من نوع آخر ،تتم َّثل في مراكز بحث علمية ،تتوافر فيها المواد والأدوات والبيئة النفسية والمادية الحافزة إلى الإبداع ،والحاضنة له .وكل ذلك فك ٌر تربوي ،لكنَّه غير مستقل عن الفكر الإداري والاجتماعي والسياسي. وتشير الدراسات النفسية إلى أ َّن إمكانية الإبداع تبدأ منذ الطفولة؛ فكثير من أسئلة الأطفال هي أسئلة إبداعية تنطلق بصورة تلقائية ،فإذا توافرت ُفرص رعاية هذه الإمكانية تواصل نموها وظهور آثارها .غير أ َّن كثير ًا من ممارسات التربية الأسرية ث َّم المدرسية لا تفسح المجال اللازم لتلك الرعاية التي تحتاج إلى وقت ،وإلى برمجة وتخطيط .فالأسرة مشغولة بكثير من أمور الحياة وقضاياها ال ُم ِل َّحة ،فلا يبقى من الوقت والصبر والجهد النفسي ما يتسع لإبداعات الأطفال التي ُتس ّمى عبث الأطفال في كثير من الأحيان. وكذلك حال المدرسة التي يجد فيها ال ُمع ِّلمون أنفسهم ُملا َحقين بواجبات مرسومة من مق َّررات ومناهج ومسؤوليات متن ِّوعة .وحتى في المراحل اللاحقة من الحياة العملية ،فإ َّن الناس عادة ،ولا سيما المسؤولين في الإدارة ،يرغبون في تجنُّب عبء الأسئلة وما ُتس ِّببه من اضطراب النظام. قال الباحث البريطاني الأمريكي المتخ ِّصص فيما ُيس ّميه علم السؤال :Questionology \"فالمدارس لا ُتع ِّلم بالطرق التي ُتش ِّجع التساؤل؛ لأ َّن الأسئلة تتح ّدى السلطة ،و ُتس ِّبب خلل ًا في بنية المؤسسة ونظامها وعملياتها ،وتدفع العاملين فيها على الأقل للتفكير بطرق مختلفة ع ّما هو سائد ...وال ُمع ِّلم الذي يسمح بمزيد من الأسئلة عليه أ ْن يكون راغب ًا في التخ ّلي ع ّما َيلزمه من ضبط للفصل الدراسي (((\"...ونقل الباحث المذكور عن عالِم الأعصاب جون كونيوس John Kouniosما قاله من\" أ َّن دماغ الإنسان يجد طرق ًا لتقليل ال ِح ْمل العقلي، ومن هذه الطرق قبول معظم ما يدور حوله في أ ِّي وقت دون أسئلة ،أو بإهمال هذه الأسئلة. فنمارس العمل مثل القائد الآلي للطائرة ،وبذلك نو ِّفر بعض الطاقة العقلية ،ويسمح لنا ذلك بالقيام بمهمات متعددة ،ويم ِّكننا من تح ُّمل أعباء حياتنا اليومية الطاحنة(((\". (1) Berger, Warren. A More Beautiful Question: The Power of Inquiry to Spark Breakthrough Ideas, London: Bloomsbury Publishing, 2016, p.6. (2) Ibid,. 460
إ َّننا حين نفهم هذا الميل الطبيعي في الإنسان ،فإ َّننا نحتاج أ ْن نتعامل معه وفق ًا للحالة التي تم ُّر بها مجتمعاتنا و ُأ َّمتنا .فالمجتمع الذي يعيش على مساعدات خارجية لأغراض الأمن أو الاقتصاد ،والذي لا ُيب ِدع أفكار ًا وأسالي َب جديد ًة تغنيه عن هذه المساعدات ،لن يجد يوم ًا َمن يم ُّد له يد المساعدة .والمؤسسة الإنتاجية الناجحة في السوق الخاص بها إذا لم تواصل التجديد والإبداع في تطوير نوعية ُمن َتجاتها ،والتخطيط ل ُمن َتجات جديدة ،فإ َّنها ستفقد مكانها في السوق .أ ّما المؤسسة غير الناجحة فإ ّما أ ْن ُتب ِدع أفكار ًا جديد ًة لإصلاح وضعها ،و ُتط ِّور أسالي َب جديد ًة ،وإ ّما أ ْن تخرج من الساحة بأقل الخسائر .ورجال الأعمال والإداريون والسياسيون كلهم نتاج الأنظمة التربوية والتعليمية ،التي تحكمها فلسفة وأنظمة ومناهج وإجراءات .فإذا أردنا أ ْن يكون لدينا سياسيون ُمب ِدعون ،ورجال أعمال ُمب ِدعون ،واقتصاديون ُمب ِدعون ،فإ َّنه يتع َّين علينا أ ْن نفتح المجال في وقت مب ِّكر من مراحل التعليم لتنمية الفضول والتساؤل والرغبة في البحث والاكتشاف والإبداع ،ونبقي هذا المجال مفتوح ًا في المراحل التالية. ويرى بعض المتخ ِّصصين في دراسات الإبداع وجود صلة وثيقة بين عملية التساؤل والقدرة على الإبداع .ولذلك ،فإ َّن توفير البيئة التربوية التي ُت ِعين ال ُمتع ِّلمين و ُتش ِّجعهم على طرح الأسئلة الصعبة هو ما ُي ِعينهم -فيما بع ُد -على التعامل مع مواقف الحياة العملية في مؤسساتهم ،وصياغة الأسئلة الصحيحة اللازمة للسير في طريق الإبداع .وفي ذلك يقول وارن بيرغر\" :أ ّما بالنسبة للإبداع ،فهو يعتمد في كثير من الأحيان على قدرتنا ورغبتنا في التعامل مع الأسئلة الصعبة التي يمكن أ ْن ُتط ِلق العنان للخيال .بالنسبة إلى الأشخاص داخل المؤسسة الذين يحاولون الابتكار عن طريق طرح أفكار جديدة في الإنتاج ،أو لشخص يحاول التعبير عن رؤية بطريقة ج ّذابة ومبتكرة ،فإ َّن طريق الإبداع هو رحلة بحث واستقصاء ...وكثير من الاختراقات الإبداعية Creative Breakthroughs المعروفة في الأعمال والفنون ،يمكن إرجاعها إلى أسئلة من نوع :لماذا؟ أو :ماذا لو؟(((\". (1) Berger, Warren. The Book of Beautiful Questions, London: Bloomsbury Publishing, 2018. من مقدمة نسخة الكتاب الإلكترونية ،ويمكن قراءتها من موقع \"أمازون\" ،على الرابط: - https: //www.amazon.com/Book-Beautiful-Questions-Powerful-Connect/dp/163286956X 461
لقد تزايد إدراك علماء النفس للقدرات التي يمتلكها الأطفال ،ولاحظوا أ َّنها لا تلبث أ ْن تختفي بتأثير ما يعانونه من كبت وقمع في المؤسسات التربوية التقليدية؛ سواء في الأسرة ،أو المدرسة ،أو في الأعراف الاجتماعية والنُّ ُظم السياسية\" .وتظهر هذه القدرات بعدد الأسئلة التي يسألها الطفل ،ونوع هذه الأسئلة .فطفل ما قبل المدرسة ُي ِل ُّح في طرح الأسئلة المتتابعة حول موضوع واحد للوصول إلى ما قد يكون عمق الموضوع ،حتى ُيط َلب منه أ ْن يسكت .فعقله في حالة نموذجية للتع ُّجب والتساؤل والبحث والنمو ،لك َّن عدد الأسئلة يأخذ بالتغ ُّير سن ًة بعد ُأخرى في التعليم ،كما تشير البحوث التي أجراها \"معهد الأسئلة الصحيحة\" .والنظام التربوي مسؤول عن ذلك .ومن أسباب ذلك أ َّن الرسائل التي يتل ّقاها الطفل من الأسرة وال ُمع ِّلمين والأطفال الآخرين في الصف تخيفه من أ َّنه لا يعرف ما كان يجب عليه أ ْن يعرفه .وال ُمع ِّلمون ُيع ِلنون صراح ًة أ َّنه لا يتو َّفر لديهم الوقت لأسئلة التلاميذ الكثيرة ،فعليهم أ ْن يستعملوا الوقت المتاح لأداء الواجبات الكثيرة المنوطة بهم(((\". إ َّن كثير ًا من البحث في تيسير ُسبل التساؤل في برامج التعليم ،وتوظيف ذلك في تنمية الإبداع ،يتم عادة في ُن ُظم تربوية ذات عناوين ،مثل :التعليم التق ُّدمي ،وتفريد التعليم ،والتعليم الإبداعي ،وغير ذلك من العناوين التي تجعل هذه النُّ ُظم مختلفة ع ّما ُيع َرف بالتعليم التقليدي .والاستطراد السابق في الحديث عن موقع الإبداع في التعليم المدرسي لا ينبغي أ ْن يلفتنا عن وجود آراء تربوية مختلفة ،لا ترى الإبداع أمر ًا مستقل ًا عن المواد الدراسية ،بل هي جزء من كل مادة؛ فالإبداع في الرياضيات لا يتم إلا في تدريس الرياضيات .ث َّم إ َّن التعليم التقليدي يق ِّدم للتلاميذ ماد ًة علمي ًة مهم ًة لا يمكن الاستغناء عنها .ولك ْن ،من الخطأ الكبير أ ْن ُتع َرض مسائل التجديد والتطوير في التعليم عن طريق \"ثنائية\" التعليم التقليدي والإبداعي ،وكأ َّنهما قطبان متناقضان ،كما هو الحال في كثير من الثنائيات الزائفة\" .ومن المؤسف أ َّن تاريخ التعليم في كثير من الأحيان يتأرجح بين قطبين متناقضين .وما يكون عليه حال التعليم هو ما يستق ُّر عليه الأمر في أحد القطبين .بينما (1) Berger, The Book of Beautiful Questions, Ibid. 462
يكون التعليم الف ّعال دائم ًا متوازن ًا بين الصرامة والحرية ،بين المعتاد والتطوير ،بين الفردية والجماعية ،بين النظرية والتطبيق ،بين العا َلم الداخلي للإنسان والعا َلم الخارجي .ومن الخطأ أ ْن يبقى بندول التعليم يتنقل بين طرفين متقابلين؛ لأ َّن المهمة هي دائم ًا مساعدة المدارس والطلبة في إيجاد التوا ُزن ،فليس هناك نموذج مثالي يتصف بالخلود في العمل التربوي ،وإ َّنما هي جهود متصلة لخلق أفضل الشروط لناس حقيقيين في مجتمعات حقيقية ،لكنَّها تعيش في عا َلم متغ ِّير باستمرار .وهي مهمة ُم ِل َّحة دائم ًا .صحيح أ َّن الخبرة التربوية هي دائم ًا خبرة شخصية ،لك َّن القضايا التي تخت ُّص هذه الخبرة بها هي قضايا عامة ،نجدها في جميع المجتمعات وبصورة مستمرة(((\". وإذا كان التعليم التقليدي يتض َّمن قدر ًا من مفهوم \"الا ِّتباع\" لما ُع ِرف فضله ونفعه، وارتبط بأصول شرعية ُت َع ُّد من الثوابت ،فإ َّن التعليم التجديدي يتض َّمن مساح ًة من الإبداع في الوسائل ،والتجديد في الأساليب اللازمة لحياتنا المعاصرة ،وما يواجهنا فيها من تحديات ،وما تمنحنا فيها من ال ُفرص .ومن هنا ،يأتي الحديث عن التوا ُزن بين الا ِّتباع والإبداع .وبالله التوفيق. (1) Robinson, Ken. & Aronica, Lou. Creative Schools: the Grassroots Revolution that’s Transforming Education, New York: Penguin Books, 2016, p. 255-256. 463
المبحث الثاني خاصية الواقعية في الفكر التربوي الإسلامي نحن نتح َّدث عن خصائص الفكر التربوي الإسلامي الذي نريده لحياتنا المعاصرة، وقد وجدنا أ َّن الفكر التربوي الإسلامي في نصوص التراث لم يكن ك ُّله تعبير ًا عن \"واقع\" العمل التربوي الذي ساد في المجتمع الإسلامي ،بقدر ما كان تعبير ًا عن الصورة \"المثالية\" التي كان العلماء يتص َّورونها لممارسات ال ُمع ِّلم وال ُمتع ِّلم. ومع ذلك ،فإ َّن التراث الإسلامي يتض َّمن أمثل ًة على ما تح َّقق في الواقع العملي في حالات معينة .فإذا كان المجتمع المسلم مجتم َع ِع ْلم وتع ُّلم وتعليم ،كما هي الصورة المثالية التي نفهمها من نصوص القرآن الكريم وال ُّسنة والسيرة النبوية؛ أ ِي الحالة التي ينبغي أ ْن تكون ،فإ َّننا وجدنا توجيها ٍت مه َّم ًة لبعض الخلفاء ،كانت ُتر َسل إلى الولاة في الأمصار، وتأمر بتحقيق مجتمع التعليم هذا ،وأ ْن تتح َّمل الدولة ما يتر َّتب على ذلك من نفقات .ووجدنا علماء وأمراء وأثرياء يتنافسون في بناء دور العلم والإنفاق عليها ،ووجدنا ُأ َسر ًا ُتن ِفق كل ما لديها من أجل تعليم أبنائها ،ووجدنا علماء يتف َّرغون لبذل العلم لطالبيه ،و َي ُع ّدون ذلك الحال َة التي ينبغي أ ْن تكون ،في ح ِّقهم على الأقل ،حتى يقال لمالك بن أنس :أليس من الأَ ْولى لك أ ْن تنصرف لنفسك في العبادة ،بدلاً من الانصراف لغيرك في التعليم؟ فيقول :نشر العلم من أه ِّم أعمال البِ ِّر ،وما أظ ُّن أ َّن ما أنا فيه من التعليم ،دون ما أنت فيه من العبادة(((. نعم؛ إ َّن المجتمع الإسلامي -عبر تاريخه -لم َيـ ْخ ُل من صور مشرقة اقتربت من تحويل التوجيهات القرآنية والنبوية إلى \"واقع\" ح ٍّي ،يع ِّبر عن الصورة \"المثالية\" التي يريد الإسلام تحقيقها في المجتمع .وفي المقابل ،نجد حالات ُأخرى في مناطق معينة ،ومراحل زمنية معينة ،ابتعدت فيها الممارسة التربوية -قليل ًا ،أو كثير ًا -عن تلك الصورة (((.فأصبح ((( الذهبي ،سير أعلام النبلاء ،مرجع سابق ،ج ،8ص.144 ((( يمكن أ ْن نجد أمثلة على الجوانب المشرقة ،وعلى جوانب الخلل ،في مراجع مختلفة ،منها ما كان لصاحب هذه السطور .انظر: -ملكاوي ،التراث التربوي الإسلامي :حالة البحث فيه ولمحات من تطوره وقطوف من نصوصه ومدارسه، مرجع سابق ،الفصل الخامس ،ص.373-335 -ملكاوي ،فتحي حسن .مشروعات بحثية في التراث التربوي الإسلامي ،هرندن :المعهد العالمي للفكر الإسلامي2018 ،م ،الفصل الأول :مكانة ال ُمع ِّلم في التراث التربوي الإسلامي ،ص.57-19 464
الواقع التربوي في حياة الأُ َّمة لا يع ِّبر عن مقاصد العلم والتعليم في الإسلام. ولذلك ،فإ َّن الواقعية التي نريد أ ْن نتح َّدث عنها في هذا السياق تخت ُّص بأربع مسائل: -بيان الوصل والفصل في مفهومي \"الواقعية\" و\"المثالية\". -واقعية الفكر التربوي التي تهدي إليها نصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ،فيما تقصد تحقيقه في واقع المجتمع الإسلامي. -واقعية الفكر التربوي التي يمكنها أ ْن تتح َّقق في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة. -بيان اتصال الواقع التربوي بالزمان والمكان والإنسان. أولاً :الواقعية والمثالية: الواقعية هي نسبة إلى الواقع ،والواقع هو حال الفرد الإنساني أو الجماعة ،في المكان والزمان ،وما يحمله هذا الواقع من حقائق عملية وأفكار وخصائص .وهو؛ أي الواقع، وص ٌف لحياة الناس في المجتمع ،وتعبي ٌر عن حقيقة أحوالهم المعيشية وعاداتهم وأعرافهم، وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتربوية وغيرها ،وأحوال مؤسساتهم، والظروف المحيطة بهم ،والمؤ ِّثرة فيهم .والفكر الواقعي ،أو \"الواقعية في الفكر\" في المجتمع هي ما لهذا الفكر ،في موضوعاته وأساليبه ،من صلة بحياة ذلك المجتمع وقضاياه ومشكلاته ،وبالمرجعيات التي يتبنّاها المجتمع .فالواقعية تر ِّكز على النظر إلى الواقع الموضوعي بوصفه مصدر ًا للتص ُّورات والقيم ،ومجالاً للنظر العقلي والممارسة العملية. و ُيط َلق مصطلح \"الواقعية\" Realismعلى نظرية ،أو مذهب في الفلسفة ،أو الأدب، أو الفن ،أو غير ذلك من فروع العلم ومجالات الحياة العملية .وتؤمن النظرية الواقعية بأ َّن المعرفة التي يدركها الإنسان في عقله هي صورة عن الواقع الخارجي المستقل عن إدراكه .ونحن ندرك حقائق هذا العا َلم من خلال الحوا ِّس والتجربة العملية؛ لأ َّن هذا الواقع بأشيائه وأحداثه وظواهره محكو ٌم بقوانين طبيعية ،تتصف بقدر من الثبات، ويمكن للإنسان أ ْن يكتشفها .وتعود أفكار النظرية الواقعية إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو (توفي 322 :ق.م) .والفكر الواقعي ضمن هذه النظرية يع ِّبر عن عا َلم المادة ،ولا يرى مكان ًا للإيمان بالغيب أو ما وراء الطبيعة .والعنصر المادي في الإنسان هو الأساس في تكوينه ،وتفاعله مع مؤ ِّثرات البيئة. 465
ويقابل الواقعي َة في المذاهب الفلسفية نظري ٌة أو مذه ٌب فكري يع ِّبر عن تص ُّورات مثالية .وتعود أفكار المثالية إلى الفيلسوف اليوناني أفلاطون (توفي 347 :ق.م) .وتتأ َّسس هذه الفلسفة المثالية Idealismعلى مبدأ أ َّن العا َلم المادي هو الصورة التي يدركها العقل، وأ َّن حقيقته تسكن عا َلم الأفكار ،لا العا َلم الواقعي ،وأ َّن المعرفة الحقيقية يدركها الإنسان عن طريق الحدس ،أو الإلهام ،أو العقل المطلق؛ فطبيعتها عقلية أو روحية ،وعا َلم القيم الذي يمكن للإنسان تص ُّوره هو عا َلم الحقائق المطلقة؛ وهي :الحق ،والخير ،والجمال. وقد بقي للفلسفتين الواقعية والمثالية أتبا ٌع في المراحل اللاحقة ،وشهد تاريخهما تن ُّوع ًا كبير ًا في الفهم ،وصور ًا متعددة من التم ُّثلاث النظرية والعملية في مجالات الفكر الإنساني ،لا سيما في الدين ،والسياسة ،والتربية(((. وكما تط َّرفت المثالية في وضع تص ُّورات لا تتح َّقق في الواقع ،تط َّرفت الواقعية في ُب ْعدها الفلسفي إلى إنكار المثل العليا التي يدعو إليها الدين ،وكل ما لا يم ُّت إلى الغيب بصلة ،وجعل الواقع المادي أساس ًا للتفكير والإدراك. ومع ذلك ،فإ َّن مرجعيتنا في الحديث عن الواقعية والمثالية لا تتأ َّسس على تلك المذاهب والنظريات الفلسفية في سياقاتها التاريخية القديمة ،ولا في دلالاتها وتطبيقاتها الحديثة التي ينتابها كثير من القصور والتش ُّوه. فإذا كانت الواقعية هي ما أمكن تحقيقه عملي ًا في الواقع ،فإ َّن المثالية قد تكون الأهداف التي نقصد تحقيقها في هذا الواقع .فالعمل التربوي يتح َّرك من الواقع القائم إلى المثال المقصود ،أو من تنزيل المثال المقصود على الواقع القائم .ونحن نملك صورة ذهنية للفرد والمجتمع نريد من التربية تحقيقها ،وهذه الصورة هي المثال الذي نحاول بالعمل التربوي أ ْن ننسجه ونصوغه ،فيتح َّقق هذا المثال بأقدار معينة في الواقع ،قد تكون مطابقة لذلك المثال ،أو تزيد عليه ،أو تنقص عنه. ((( للا ِّطلاع على تم ُّثلاث الفلسفة الواقعية والفلسفة المثالية في فلسفة التربيةَ ،ث َّمة مصاد ُر كثيرة .انظر مث ًلا: - Noddings, Nel. Philosophy of Education, Fourth Edition, New York and London: Routledge, 2016, Chapter1, p1-22. 466
والمثال في اللغة هو \"القالب الذي ُي َق َّد ُر على ِم ْث ِله ،وال ِم َثا ُل المقدا ُر ،وال ِم َثا ُل صور ُة الشي ِء التي تم ِّثل ِصفاتِه ...والمثالي :وص ٌف لك ِّل ما هو كامل في بابه ،كالخلق المثالي، واللوحة المثالية .والجمعَ :أ ْمثِ َل ٌة ،و ُم ُث ٌل\" (((. وقد استعمل القرآن الكريم لفظ \"الـ َم َث ِل\" ومشتقات الفعل \" َم َث َل\" عشرات الم ّرات، بالاسم ،والفعل ،والمفرد ،والجمع .ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى﴿ :ﭽﭾ ﭿﮀ﴾ [البقرة ،]261:وقوله سبحانه﴿ :ﭮﭯﭰ﴾ [النحل ،]75:وقوله ع َّزوج َّل: ﴿ﯸﯹﯺﯻﯼ﴾ [النور ،]35:وقوله ع َّز من قائل﴿ :ﭡﭢﭣﭤ﴾ [الشورى.]11: وهذه الألفاظ في القرآن الكريم تشير في مجملها إلى إقامة الشبه بين شي ٍء يراد بيانه وشي ٍء آخر معروف ومألوف لتقريب المعنى .والمعاجم العربية لا تختلف عن ذلك. وفائدة استعمال المثل وضرب الأمثال واضحة للقارئ والمستمع؛ فقد قال الزمخشري في \"الك ّشاف\"\" :ولضرب العرب الأمثال ،واستحضار العلماء المثل والنظائر شأ ٌن ليس بالخفي في إبرا ِز خبيئات المعاني ،ورف ِع الأستار عن الحقائق ،حتى يريك ال ُمتخ َّيل في صورة المح َّقق ،وال ُمتو َّهم في معر ِض ال ُمتي َّقن ،والغائب كأ َّنه مشاهد... ، ولأم ٍر ما أكثر اللهُ في كتابِه المبين وفي سائ ِر كتبه أمثا َله ،وفش ْت في كلا ِم رسول الله ﷺ وكلا ِم الأنبياء والحكماء ،قال تعالى﴿ :ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ ﮫ﴾ [العنكبوت(((\".]43: ومن الجدير بالملاحظة أ َّن الأمثال في القرآن الكريم تع ِّبر في دلالاتها عن الوقائع والطبائع في حياة الناس ،وفي سنن الكون والمجتمع. ونحن هنا نتح َّدث عن الشخصية المثالية في الرجل أو المرأة ،ونع ِّدد خصائص الطالب المثالي ،وال ُمع ِّلم المثالي ،والمدرسة المثالية ،فتكون صفة المثالية في مقام المدح والثناء ،وتعرض عادة لتكون \"مثالاً\" ُيـحتذى ،وقدو ًة ُيقتدى بها .ومن المؤ َّكد أ َّن هذا \"المثال\" ليس صورة خيالية بعيدة عن إمكانية التح ُّقق في الواقع ،وإ َّنما هي صورة واقعية. ((( مجمع اللغة العربية .المعجم الوسيط ،القاهرة :مكتبة الشروق الدولية ،ط2004 ،4م ،ص .854انظر كذلك: -ابن منظور ،لسان العرب ،مرجع سابق ،ج ،11ص.610 ((( الزمخشري ،أبو القاسم جار الله محمود بن عمر (توفي538 :ﻫ) .تفسير الكشاف ،عناية :خليل مأمون شيحا، ط ،3بيروت :دار المعرفة2009 ،م ،ج ،1ص.51-50 467
لذلك ،فإ َّننا نجد من الضروري تفكيك ثنائية الواقعية-المثالية في العمل التربوي ،لا سيما في وضع أهداف التربية ،وفي توجيه الممارسة التربوية لتحقيقها .فعندما نضع أهداف ًا نبيل ًة للمجتمع الذي نريد تحقيقه عن طريق التربية ،فإ َّننا نرسم صورة لذلك المجتمع ،ونرسم الاستراتيجيات والأساليب والوسائل اللازمة لتحقيق هذه الصورة عن طريق خطط قريبة المدى ،ومتوسطة المدى ،وبعيدة المدى .ولا ُب َّد أ ْن تكون هذه الخطط واقعية؛ إذ لا يص ُّح أ ْن تكون هذه الخطط وهمية خيالية بعيدة لا تتوافر لها إمكانيات التح ُّقق. و َيلزم أ ْن نتذ َّكر هذا التفكيك اللازم بين ثنائية الواقعية والمثالية عند الإشارة إلى ال ُب ْعد الفلسفي اليوناني القديم ،فقد تواصلت دلالاتهما المتناقضة في الفكر الغربي الوسيط والحديث .و ُيستع َمل مصطلحا \"المثالية\" و\"الواقعية\" في الثقافة العصرية أحيان ًا بصورة لا صلة لها بالاستعمال اللغوي العربي ،ولا بالاستعمال القرآني .ومن ذلك أ َّن المثالية قد ُيق َصد بها التفكير المبني على التمنيات والأوهام والأحلام التي لا تستند إلى أساس من إمكانية التح ُّقق في الواقع ،والواقعية قد تعني القبول بالواقع والاستسلام له ،كأ َّنه قد ٌر لا را َّد له؛ فلا ُب َّد من تكييف أوضاع الناس على أساسه ،وعدم بذل الجهد للإصلاح والتغيير في هذا الواقع. ثاني ًا :بعض تج ِّليات الواقعية في الفكر التربوي الإسلامي: يعتمد مفهوم \"الواقعية\" في الفكر التربوي الإسلامي على أ َّن الكون بأشيائه وأحداثه وظواهره ،والإنسان جزء من مك ِّوناته ،كلها حقائق موضوعية ،وليست أوهام ًا خيالي ًة ،أو أفكار ًا وهمي ًة ،أو ُم ُثل ًا مج َّرد ًة .ولذلك ،فإ َّن هذه التربية تبدأ التعام َل مع الإنسان كما هو في طبيعته؛ في قوته وضعفه ،ومشاعره وانفعالاته ،ومخاوفه وآماله ،ولك َّن هذه التربية تهدف إلى الانتقال به من واقعه الذي هو عليه إلى ما يمكن أ ْن يتح َّقق له من صور الكمال البشري. وهذه الواقعية هي فرع من خاصية الواقعية في أحكام الإسلام وتشريعاته وتوجيهاته كلها؛ فالعقيدة واقعية حين تربط وحدانية الله ع َّز وج َّل بآياته المسموعة والمنظورة، والعبادات واقعية في إمكانية القيام بها من دون مشقة ،والمعاملات واقعية ُتح ِّقق للإنسان ما ينفعه من المصالح ،و ُتجنِّبه ما يض ُّره من المفاسد .وكل التشريعات الإسلامية تقوم 468
على التيسير ،ورفع الحرج ،والتد ُّرج؛ فليس فيها ما لا يطاق ،وهي تراعي تن ُّوع الدوافع والحاجات ،وتعترف بالضعف البشري .وهذه المعتقدات والتشريعات والتوجيهات هي العنصر الأول في تنشئة الإنسان في المجتمع المسلم ،وهي الأساس في برامج التع ُّلم والتعليم في جميع مراحل حياة الإنسان. وإذا كان الفكر التربوي الإسلامي يخت ُّص بتربية الإنسان ،فإ َّن هذا الفكر يؤمن بأ َّن الإنسان ليس من نوع الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ،ويفعلون ما يؤمرون ،وليس من جنس الدواب التي لا تعقل ،ولا من جنس الأشياء الجامدة؛ فهذه الدواب وهذه الأشياء لم ُتك َّلف بأمانة أو بمسؤولية ،كما ُك ِّلف الإنسان ،ولكنَّها تخضع لسنن الله في الخلق ،وكلها ُمس َّخرة للإنسان ُيو ِّظفها في تيسير حياته. فالأرض جعلها الله للإنسان﴿ .ﮨﮩﮪﮫﮬ﴾ [البقرة .]22:ولذلك م َّهدها، وذ َّللها له للسير﴿ .ﭩﭪﭫﭬ﴾ [الأنعام .]11:وكذلك جعلها للسعي في اكتساب الرزق﴿ .ﭤﭥﭦﭧ ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ﴾ [الملك.]15: والأنعام والدواب ُخ ِلقت للإنسان كذلك﴿ .ﯙ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯠﯡ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﭑﭒﭓﭔ ﭕﭖﭗﭘﭙ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭣﭤ ﭥﭦ﴾ [الأنعام.]8-5: ولذلك ،فإ َّن الفكر التربوي الإسلامي يتعامل مع الإنسان كما هو في مك ِّوناته المادية والعقلية والروحية ،التي تحتاج ك ٌّل منها إلى عناية ورعاية خاصة؛ وفي مشاعره وانفعالاته النفسية ومتط َّلباته ،ولا يتعامل معه على أسا ٍس يفتقد فيه جزء ًا من طبيعته وتكوينه ،كما هو في الواقع .وإذا كانت هذه التربية ترفض أ ْن تكتفي بتدريب بدنه وعقله لأغراض أداء وظائفه في الدنيا ،فإ َّنها ترفض كذلك أ ْن تكتفي بالنظر إليه بوصفه كائن ًا روحي ًا تثبت حالته على درجة من المراقبة الدائمة والصفاء الكامل. وتعتمد هذه الواقعية على أ َّن هذا الفكر ينطلق من أصوله في الكتاب وال ُّسنة ،بالصورة النموذجية التي تبنيها هذه الأصول ،ولكنَّها تتح َّدد بما يستطيع الناس تطبي َقه عملي ًا من 469
هذه الصورة النموذجية؛ إذ يتو َّجه هذا الفكر إلى واقع المجتمع وقضاياه الحقيقية ،التي يعيشها الناس في أحوالهم المتغ ِّيرة ،وحاجاتهم النفسية والعقلية والعملية .وهذه الأحوال والحاجات لا تتجاوز حدود الطاقة البشرية ،وإ َّنما تقع ضمن المتط َّلبات الحقيقية للواقع البشري؛ فلا مشكلة في إمكانية تطبيقها ،ومن الميسور ملاحظة نتائجها ،وتقويم درجة تح ُّققها وقياسها. فالواقعية ببساطة هي إمكانية التح ُّقق في الواقع ،من دون َعنَ ٍت ومش َّقة ،وهي تقابل الصورة المثالية \"الطوباوية\" التي يصعب أ ْن تتح َّقق .فالأمر الواقعي ليس مثالي ًا إلى الح ِّد الذي يتجاوز قدرة البشر على تحقيقه ،وليس صعب ًا ألا يتح َّقق إلا بمش َّقة شديدة .وهذا لا يعني أ َّن الأمر الواقعي ينزل في موضوعه ومكانته لينسجم مع واقع المجتمع ،ويرضى به على أ َّية صورة يكون عليها ،وإ َّنما يتعامل مع هذا الواقع ليرتقي به إلى صورة أفضل ،وهي الصورة التي أراد الله سبحانه للناس أ ْن تكون أرقى ما يمكنهم أ ْن يصلوا إليه. وتتصل خاصية الواقعية في الفكر التربوي الإسلامي بواقعية الرسالة الإسلامية بصورة عامة .فإذا كان الرسول ﷺ مبعوث ًا إلى الناس ليع ِّلمهم الكتاب والحكمة ،ويع ِّلمهم ما لم يكونوا يعلمون ،في شؤون حياتهم المختلفة؛ فإ َّن التعليم هنا ليس مج َّرد أقوال ُتلقى على الناس ليعملوا بمقتضاها ،وإ َّنما هي حياة كاملة في واقع الناس .ولذلك لم يكن الرسول \"م َلك ًا رسولاً\" كما كان يريد بعض الكفار ،وإ َّنما كان \"بشر ًا رسولاً\" يتفاعل مع أمور الحياة كما يتفاعل سائر البشر؛ في :الطعام والشراب ،والنوم واليقظة ،والفقر والغنى، واليسر والعسر ،والموت والحياة ،والق َّوة والضعف ،وال ُح ِّب والكره ،والرجاء والخوف، والاستقامة والانحراف ،والصلاح والفساد ،والتأ ُّثر والتأثير؛ فهذه كلها تم ُّثلات لحقيقة الحياة البشرية .والنظام التربوي المراد تحقيقه في المجتمع الإسلامي هو نظام تربوي واقعي يعمل في حدود قدرات الإنسان وطاقاته الحقيقية التي تسمح بها فطرته البشرية ،فلا ُيط َلب من الإنسان ما ليس في طاقته ،ولا ما ليس من تكوينه الفطري الذي خلقه الله عليه. وتتصل خاصية الواقعية بالواقع .وفهم الواقع هو مسألة أساسية في بيان الأحكام الشرعية للقضايا ذات الصلة بهذا الواقع .وقد تح َّدث الأمام ابن الق ِّيم عن نوعين من الفهم، فقال\" :ولا يتم َّكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: 470
أحدهما :فهم الواقع ،والفقه فيه ،واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات ،حتى يحيط به علم ًا. والنوع الثاني :فهم الواجب في الواقع ،وهو فهم ُحكم الله الذي َحكم به في كتابه ،أو على لسان رسوله في هذا الواقع ،ث َّم يط ِّبق أحدهما على الآخر؛ ف َمن بذل جهده واستفرغ ُو ْسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجر ًا؛ فالعالِم َم ْن يتو َّصل بمعرفة الواقع والتف ُّقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله(((\". ثالث ًا :الواقعية في بناء فكر تربوي إسلامي معاصر: يقوم الفكر التربوي في أ َّية ُأ َّمة على إمكانية تغيير الواقع القائم إلى واقع آخر بمواصفات مختلفة .ومن ُسنَّة الله في حياة البشر أ َّنهم لا يثبتون على حال؛ فالفرد الإنساني يتغ َّير في مراحل حياته ،والأجيال البشرية تشهد ظروف ًا مختلف ًة عن الأجيال السابقة لها، وتتمتع بوسائل لم تكن متاحة للسابقين ،وحتى إيمان المؤمنين يزيد وينقص .فالتغ ُّير ظاهرة طبيعية وبشرية في فطرة هذا الكون ،ولك َّن ُسنَّة الله تجري في الكون بأسبابها؛ فإذا كان الناس في حالة من حالات الخير أو الشر ،فإ َّن الله لن يغ ِّير هذه الحالة إلا إذا غ َّير الناس من حالهم﴿ .ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ﴾ [الرعد .]11:والرسول ص ّلى الله عليه وس َّلم ح َّذر من التغيير الذي سوف يقوم به الناس من بعده ،وو َّجه أبناء ُأ َّمته الذين يشهدون هذا التغيير إلى كيفية التص ُّرف ،فقال عليه السلامَ \" :فإِ َّن ُه َم ْن َي ِع ْش ِمنْ ُك ْم َف َس َي َرى ا ْختِ َلف ًا َكثِير ًاَ ،ف َع َل ْي ُك ْم بِ ُسنَّتِي َو ُسنَّ ِة ا ْل ُخ َل َفا ِء ال َّرا ِش ِدي َن ا ْل َم ْه ِد ِّيي َن(((\". وحينما نتح َّدث عن الواقعية بوصفها خاصية من خصائص الفكر التربوي الإسلامي، فإ َّنه يتع َّين علينا تأكيد أ َّن الواقعية لا تعني الخضوع للواقع القائم ،وما قد يكون فيه من انحرافات عن الصورة التي يريد الله سبحانه من المؤمنين به أ ْن يتم َّثلوها ،وأ ْن يواصلوا ((( ابن ق ِّيم الجوزية ،إعلام الموقعين عن رب العالمين ،مرجع سابق ،المجلد الثاني ،ص.165 ((( أبو داود ،سنن أبي داود ،مرجع سابق ،كتاب :ال ُّسنة ،باب :في لزوم ال ُّسنة ،حديث رقم ،)4607( :ص.504 انظر كذلك: -الترمذي ،جامع الترمذي ،مرجع سابق ،كتاب :العلم ،باب :ما جاء في الأخذ بال ُّسنة واجتناب البدع ،حديث رقم )2676( :ص.433 471
السعي للارتقاء نحوها .فالواقعية في هذا الفكر تستند إلى الصورة المعيارية التي ينبغي أ ْن تتجه إليها جهود العمل التربوي وفق ما رسمته تشريعات الإسلام لحياة الإنسان؛ فالذي وضع هذه التشريعات هو خالق الإنسان الذي يعلم ما ُيص ِلحه ،وما َيص ُلح له .وليس َث َّمة ما يمنع من القول إ َّن التشريعات التي وضعها الخالق سبحانه للإنسان هي المثل الأعلى الذي يمكن أ ْن يتط َّلع إليه الإنسان ،ويسعى إلى الترقي نحوه .ولأ َّن الله سبحانه لا يطلب من الإنسان شيئ ًا فوق طاقته ،وإ َّنما يكون ما يطلبه منه مغروز ًا في طبيعته وفطرته؛ فليس َث َّمة ما يمنع من القول إ َّن هذه التشريعات واقعية. فالواقعية بهذا المعنى لا تتناقض مع المثالية بذلك المعنى ،وإ َّنما هي صورة للانسجام مع السنن الإلهية في حياة الإنسان ،وظواهر العا َلم الطبيعي والاجتماعي والنفسي بوصفها حقائ َق واقع ًة ،لا أوهام ًا جامح ًة .ولذلك نطمئن إلى القول إ َّن \"الواقعية بهذا المعنى ليست نقيض ًا للنزعة المثالية المعتدلة ،المبنية على فطرة الإنسان ،وتط ُّلعها إلى التر ّقي ،وشوقها إلى المثل الأعلى ،فهذه إذن واقعية مثالية ،أو مثالية واقعية(((\". وتشتد الحاجة إلى تأكيد أهمية الواقعية في الفكر التربوي الإسلامي في ضوء الواقع المعاصر الذي تعيش فيه مجتمعاتنا على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي ،بصورة يصعب أحيان ًا تص ُّور أ َّية إمكانية لتغيير هذا الواقع بالوسائل المتاحة ،فيتس َّرب اليأس إلى نفوس بعض الناس؛ ما يجعلهم يف ِّكرون في معجزة يأتي بها الله من دون تد ُّخل بشري. ومع إيماننا المطلق بقدرة الله سبحانه على إحداث المعجزات ،فإ َّننا مأمورون باتخاذ الوسائل والأسباب \"الواقعية\" المناسبة للوصول إلى أهداف التغيير \"الواقعي\" المنشود. إ َّن خاصية الواقعية في الفكر التربوي الإسلامي المنشود تتط َّلب فهم الواقع الذي يتعامل معه هذا الفكر ،والمؤ ِّثرات المادية والمعنوية التي تتح َّكم فيه ،والصورة الجديدة المراد نقل الواقع الحالي إليها ،وال ُفرص المتاحة لهذا التغيير المنشود ،والمعيقات التي يمكن أ ْن تعرقل هذا التغيير .والواقع التربوي المراد تغييره ليس واقع ًا معزولاً يمكن التح ُّكم فيه بسهوله ،وإ َّنما هو جزء من واقع مجتمع معين ،له مح ِّدداته الخاصة به ،وهذا المجتمع هو جزء من واقع المجتمع الإقليمي والدولي. ((( القرضاوي ،يوسف .الخصائص العامة للإسلام ،بيروت :مؤسسة الرسالة ،ط1983 ،2م ،ص .158 472
إ َّن وضوح الأهداف التي يسعى العمل التربوي إلى تحقيقها ُي ِعين على تحقيق حالة التوا ُزن الفكري بين اليأس والأمل؛ فاليأس قد يصيب الناس نظر ًا لسوء الأحوال التي تم ُّر بها الأُ َّمة ،وصعوبة تحقيق ما يوضع من أهدف تربوية لمعالجة أحوال الأُ َّمة ،ولك َّن الأمل معقود على الثقة بالنفس ،والاعتزاز بحالة السعي الحثيث في طريق الإنجاز .فإذا ُع ِرضت الأهداف التربوية بصورة واقعية ،فإ َّن آمال ال ُمتع ِّلمين تنتعش بإمكانية تحقيقها ،وتتع َّزز الحوافز الدافعة إلى بذل الجهد لتحقيق تلك الأهداف. والواقعية في وضع الأهداف التربوية تعني مراعاة متط َّلبات الإمكانية العملية لتحقيقها على المستوى المنشود ،وليس من الواقعية أ ْن توضع أهداف لا يمكن تحقيقها بسبب عدم ملاءمتها لمستوى ال ُمتع ِّلمين التربوي ،من حيث :مستوى الوعي بأهمية الأهداف ،وتوافر الرغبة والدافعية؛ أو بسبب عدم توافر إمكانيات استخدام الأساليب والوسائل اللازمة لتحقيقها ،أو بسبب عدم تراكم الخبرات المتن ِّوعة اللازمة لتحقيقها عبر زمن مناسب. فتحقيق الأهداف ليس طموحات وآمال تتح َّقق بمج َّرد الرغبة والدعاء والأماني ،وإ َّنما يتوقف تحقيقها على مبدأ السببية ،ومبدأ ارتباط النتائج بمقدماتها ،وغير ذلك من المبادئ التي تتصل بما شرع الله سبحانه من طبيعة السعي البشري ،وسنن الله في نتائج هذا السعي، بما في ذلك الطموحات والآمال ،وما يتصل بها من استشراف ،وتخطيط ،وإرادة ،وإدارة. وكما تتم َّثل واقعية الفكر التربوي الإسلامي المنشود في طرائق التعليم ،وفي الأهداف التربوية ،فإ َّن هذه الواقعية تتج ّلى في العناصر الأُخرى للمنهاج التربوي ،بما في ذلك محتوى المواد الدراسية .فالقصة -مثل ًا -يمكن أ ْن تكون جزء ًا من المحتوى ،أو أسلوب ًا من أساليب عرض المحتوى؛ فبعض القصص والروايات قد تتح َّدث عن خرافات أو معجزات ،ر َّبما يكون فيها بعض المتعة ،وقد تنفع في َش ِّد تفكير التلاميذ نحو مثل أعلى، ولك َّن هذه المتعة ،وهذا التفكير ،سيكونان أشبه بحلم جميل سرعان ما يصطدم بالحياة الحقيقية .ولذلك ،فإ َّن قصص ًا أو روايا ٍت من نوع ما كتبه نجيب الكيلاني ستكون مادة تربوية مفيدة؛ ففيها ما يمتع النفس ،وينعش الوجدان ،وهي -في الوقت نفسه -تتح َّدث عن أحداث ووقائع حدثت فعل ًا ،ويمكن أ ْن يحدث مث ُلها(((. ((( تن َّوعت روايات نجيب الكيلاني ما بين أحداث في التاريخ الإسلامي القديم مثل\" :عمر يظهر في القدس\" ،والتاريخ الحديث ،في أنحاء العالم الإسلامي؛ من :نيجيريا مثل\" :عمالقة الشمال\" ،وإندونيسيxqا مثل\" :عذراء جاكرتا\"، والصين الإسلامية مثل\" :ليالي تركستان\" ،و\"حياة الألم والأمل\" ،و\"في القرى والأرياف\" ،و\"ملكة العنب\" ،وغير ذلك. 473
واستعمال مثل هذه القصص والروايات هو أسلوب تربوي مناسب؛ لأ َّنه يجمع بين ما يمكن أ ْن ُنس ّميه الواقعية الإسلامية التي تتأ َّسس على قدرات الإنسان الحقيقية في ق َّوتها وضعفها ،وما يمكن أ ْن ُنس ّميه المثالية الإسلامية التي تتح َّقق فيها درجة عالية من الكمال الإنساني عندما يرتقي الإنسان بروحه ،ويسمو بأخلاقه ،وتمتلئ حياته بفعل الخير ونفع الناس. ومن الواقعية في تربية الأطفال التد ُّرج في تدريبهم على أداء الأعمال بما يناسب مراحل أعمارهم .والأساس في هذه التربية هو أخذهم باللين والتشجيع والترغيب، وبالحزم وال ِّش َّدة عند الحاجة في المرحلة المناسبة. ومن الواقعية النظر في تفاوت ال ُمتع ِّلمين في خصائصهم؛ فلا يمكن أ ْن تتح َّقق الأهداف التربوية بمستوى معين عند الجميع .وليس ذلك شرط ًا في أ ِّي عمل تربوي؛ فالتفاوت في استعدادات الطلبة وقدراتهم هو الذي يل ّبي حاجات المجتمع المختلفة من التخ ُّصصات والمهن والحرف .حتى في مجال العمل بطاعة الله ،فإ َّنه توجد من عباد الله سبحانه فئا ٌت اصطفاها الله سبحانه ،بالرغم من أ َّنها فئات مختلفة في درجة الالتزام. ﴿ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ﴾ [فاطر.]32: 474
المبحث الثالث َسعة الفكر التربوي الإسلامي وامتداداته أولاً :امتداد الفكر التربوي الإسلامي في الموضوعات؛ َسع ٌة وتكا ُم ٌل: يتسع الفكر التربوي الإسلامي لجميع الموضوعات التي تهدف إلى صياغة شخصية الفرد ،وبناء المجتمع ،وتعليم العلوم والمهن والصناعات ،وما يتم التنشئة عليه ،وتعليمه، والتدريب فيه ،في مؤسسات الأسرة ،والمدرسة ،والجامعة ،والإعلام ،وسائر المؤسسات الأُخرى .والفكر التربوي الإسلامي لا يأخذ صفته المم َّيزة حتى يتكامل في اكتسابه مصدري المعرفة :الوحي والعا َلم؛ فتوجيهات الوحي الإلهي والهدي النبوي لا تقتصر على تشكيل سلوك الإنسان مع ر ِّبه ونفسه وغيره ،وإ َّنما تتسع وتتكامل لتوجيه الإنسان إلى السير في الأرض ،والنظر إلى أشياء هذه العا َلم وأحداثه وظواهره ،في مجالاتها الطبيعية والاجتماعية والنفسية ،واكتشاف القوانين التي تحكم سلوكها ،وتوظيفها في تحقيق مهمة الخلافة والعمران. والفكر التربوي الإسلامي المعاصر لا ُب َّد له أ ْن يتسع لمعرفة التط ُّورات التي حصلت في تاريخ العلوم ،وهو يشتمل في برامجه ومناهجه على فروع علمية جديدة ،ويمكن لهذه البرامج والمناهج أ ْن تسمح بنشأة فروع جديدة ُأخرى .ومع أ َّن التراث الإسلامي عرف التخ ُّصص في ميادين المعرفة العلمية (الفقه ،والحديث ،والتفسير ،والتاريخ ،والطب، والحساب) ،فإ َّن هذا التراث قد شهد كذلك َم ْن جمع بين أكثر من تخ ُّصص؛ سواء في ميادين العلوم الشرعية ،أو الشرعية واللغوية ،أو الشرعية والفلسفية ،أو الشرعية والتجريبية(((. وإذا كان من الصعب أ ْن يتح َّقق مثل هذا الجمع في كثير من الناس اليوم؛ نظر ًا لما وصلت إليه العلوم من نمو وتط ُّور في مجالاتها المختلفة ،فإ َّن ذلك لا يمنع من تح ُّققه عند القليل من العلماء .ولا تعني إمكانية الجمع هذه أ ْن يكون العالِم متخ ِّصص ًا في ميدانين أو أكثر على المستوى نفسه من إتقان التخ ُّصص ،وإ َّنما يمكن أ ْن تكون المعرفة في تخ ُّصص ((( الخلف ،عواد .وسعد ،قاسم علي .الجامعون بين العلوم الشرعية والعلوم التجريبية ،سلسلة الثقافة الإسلامية، دبي :جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم ،ط2015 ،1م. 475
فرعي كافي ًة لدعم التخ ُّصص الرئيس .وقد َيلزم أ ْن يتوافر قدر من العلم -من باب الإلمام- بعدد من الموضوعات التي َيلزم الإلمام بها لإتقان الموضوع الرئيس في التخ ُّصص. وقد عرفت العلوم المعاصرة اليوم فروع ًا جديد ًة لا تتمحور على تخ ُّصص واحد، وإ َّنما تقع بين عدد من التخ ُّصصات ،أو يجتمع فيها عدد من التخ ُّصصات (((.وهي ظاهرة مم ِّيزة لتط ُّور العلوم ،م َّثلت ما ُي َع ُّد في تاريخ العلوم مرحل َة ما بعد التخ ُّصص .ومن المعروف أ َّن العلوم قد نشأت أول العهد محدودة ،بحيث يسهل الإحاطة بموضوعات العلم بمختلف تفاصيله ،وبعدد من العلوم الأُخرى في الوقت نفسه ،وهذا ما عرفته نشأة العلوم الإسلامية عندما كان سهل ًا إيجا ُد العلماء الموسوعيين .فعلماء الصحابة والتابعين -مثل ًا -كان الواحد منهم مح ِّدث ًا ،وفقيه ًا ،ون ّساب ًة ،ومف ِّسر ًا ،ولغوي ًا ،ور َّبما كان فقيه ًا، وطبيب ًا ،أو فيلسوف ًا وطبيب ًا ،وغير ذلك ،وإ ْن كان الأمر على درجات متفاوتة. ولك َّن التط ُّور في العلوم بعد عهد التابعين عرف التخ ُّصص المنفرد .وقد حصل الأمر نفسه في علم ك ٍّل من الحكمة والفلسفة في أوروبا؛ إذ نتج عن تط ُّور العلوم تو ُّس ٌع كبير في ك ٍّل منها ،حتى تمايزت العلوم الاجتماعية عن العلوم الطبيعية ،ث َّم تمايزت العلوم الاجتماعية إلى فروع علمية متخ ِّصصة ،مثل :علم الاجتماع ،وعلم الاقتصاد ،وعلم النفس ،وغيرها. ولم تعد الفلسفة ِمظ َّلة للعلوم كلها ،وإ َّنما أصبحت فرع ًا علمي ًا متخ ِّصص ًا(((. وكما رأينا التكا ُمل وال َّسعة في مصدري علم الإنسان ومعرفته ،فإ َّننا نراهما كذلك في وسيلتي اكتساب هذه المعرفة؛ أ ِي العقل ،والح ِّس .فتوجيهات الوحي الإلهي والهدي النبوي تتم َّثل في وسائل وعي الإنسان وإدراكه وضرورة إ ْعمالها في التع ُّقل والتف ُّكر والتد ُّبر من جهة ،وفي المشاهدة والتجريب والقياس والاختبار الح ِّسي من جهة ُأخرى. ((( عرفت الدراسات البينية أشكا ًلا ِع َّد ًة ،اص ُط ِلح لكل شكل منها بمصطلح يم ِّيزها ،مثل :الموضوعات البينية ،interdisciplinaryوالموضوعات العابرة للتخصص ،crossdisciplinaryوالموضوعات المتعددة التخصص ،multidisciplinaryوغير ذلك. ((( للتو ُّسع في معرفة ظاهرة العلوم البينية وتم ُّثلاتها المعاصرة ،يمكن الرجوع إلى الكتب المتخصصة ،ومنها على سبيل المثال: - Grodeman, Rober. & Thompson, Julie. & Pacheco, Roberto (Editors). The Oxford Handbook of Interdisciplinarity (Oxford Handbooks), London: Oxford University Press, 2 edition, (March 26, 2017). 476
و ِم ْن َث َّم ،فإ َّن العلوم والمعارف المكتسبة من مصدر ْيها وبوسيلت ْيها ستكون شاملة لعلوم الشريعة ،والطبيعة ،والنفس ،والطب ،والحساب ،والفلك ،والتاريخ ،والاقتصاد، وسائر العلوم الأُخرى .وإذا كانت توجيهات الوحي مصد َر هداي ٍة كلي ٍة للإنسان في حياته، فهي هداية إلى هذه العلوم كلها .ونلاحظ ال َّسعة والتكا ُمل المعرفي في الفكر التربوي الذي يستهدف اكتساب هذه العلوم وتوظيفها عندما ندرك أ َّنها تقوم على ثلاث قيم عليا، وتتق َّوم بها؛ أولاها :التوحيد الذي يخت ُّص بعلاقة الإنسان بالله ع َّز وج َّل ،وما يقتضيه من التو ُّجه إلى الله سبحانه بالعبادات الشعائرية والمعاملاتية .وثانيتها :التزكية التي تخت ُّص بتطهير مشاعر الإنسان ،وسلوكه ،وعلاقاته ،وممتلكاته؛ فرد ًا ،ومجتمع ًا .وثالثتها :العمران الذي يخت ُّص بالجانب المعنوي من الحياة البشرية وضبطها بالعدل والتكافل والشورى، وبالجانب المادي من بناء وسائل التم ُّدن والتح ُّضر ،وتطوير وسائل التوا ُصل والاتصال وسائر المرافق التي تي ِّسر أسباب الحياة للفرد ،والمجتمع ،والأُ َّمة ،والإنسانية. وسوف نجد في تفصيلات ال َّسعة في الفكر التربوي الذي يقتضي اكتساب هذه العلوم وممارستها ،ما ُي َع ُّد من فروض العين؛ من :عقائد ،وعبادات ،ومعاملات ،وأخلاق ،وما ُي َع ُّد من فروض الكفاية؛ من :توفير الكفاءات والخبرات في أبواب التنمية الاقتصادية، والبيئية ،والسياسية ،والاجتماعية. وسوف نجد ال َّسعة والتكا ُمل في الفكر التربوي الإسلامي عندما ننظر في المجالات التي تجمع أنواع ًا من التربية ،تتجاوز ما هو مألوف في مناهج المدارس والجامعات؛ من: موضوعات العلوم المتخ ِّصصة ،ومواعظ المساجد ،ودروس التعليم \"الديني\" .ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر: -التربية النفسية والتزكية الوجدانية في مشاعر الفرد المسلم ،وآماله وطموحاته؛ ليتجاوز ما قد يحيط به من عوامل الإحباط واليأس ،ويتط َّلع إلى معالي الأمور، ويقتدي بالأنبياء وبذوي الهمم العالية من العلماء وال ُمص ِلحين وال ُمب ِدعين. -التربية الأخلاقية والسلوكية في دوائر المحيط الاجتماعي ،من الأرحام وذوي القربى ،إلى بيئات الجوار والعمل ،وما َيلزم في ذلك من التعا ُطف ،والتعا ُون، والمشاركة ،والسعي إلى التحسين ،والتطوير ،وتبادل الخبرات. 477
-التربية المهنية والصناعية والحرفية التي تتط َّلب الإتقان والإحسان والتطوير اللازم لتوفير متط َّلبات الاجتماع البشري ،والعيش المشترك ،وح ِّل المشكلات، وتحسين الإنتاج ،وزيادته ،وتنويعه. -التربية الوالدية وما تعنيه من تزويد الشباب في مقتبل العمر وقبل الزواج بما َيلزم من طرق التعامل بين الزوجين ،وما فيها من حقوق وواجبات ،وما تتض َّمنه من تربية الأطفال وتنشئتهم في مراحل العمر المختلفة ،وحالات الصحة والمرض، ورعاية ال ُمسنّين وذوي الحاجات الخاصة ،وما َيلزم في كل ذلك من تدعيم في برامج التعليم المدرسي والجامعي ،ث َّم في الدورات المتخ ِّصصة في كل مسألة من المسائل المذكورة. -التربية الدولية والعالمية؛ لتوسيع آفاق الإنسان المسلم ومعرفته بما في هذا العا َلم من أنظمة وأعراف ،وما يقع فيه من أحداث ،وما يثار فيه من قضايا ،و ِم ْن َث َّم يتع َّلم كيف ينظر إلى كل ذلك ،وكيف يفهمه ،وكيف يبني الوعي بمسؤوليته في تمثيل الإسلام بمبادئه وأخلاقه ،عن طريق تعامله مع ما يتصل به من كل ذلك. -التربية الإعلامية في استخدام وسائل الإعلام بالصورة المناسبة ،التي ُيس ِهم فيها كل مسلم بتوظيف ما يتاح من هذه الوسائل بالكلمة الطيبة ،والمثال الحسن، والخبر المفيد ،ويتجنَّب -في الوقت نفسه -مقالة الكذب ،وإشاعة السوء ،ولا ينشر شيئ ًا أو يعيد نشره إلا بعد التح ُّقق والتث ُّبت من صحته أولاً ،وفائدة نشره ثاني ًا. -التربية السياحية؛ إذ يشيع في بعض الأحيان شعو ٌر سلب ٌّي خاطئ بحرية الفرد في أ ْن يسلك ما يشاء في الأماكن التي لا يعرفه فيها أحد ،ولك َّن العا َلم المعاصر الذي أصبح فيه السفر والتن ُّقل ُمي َّسر ًا جعل من السهولة تمييز المسافر من لغته، أو لباسه ،أو تص ُّرفاته؛ لذا أصبحت التربية السياحية ضرور ًة لتوعية الفرد المسلم بوجوب الالتزام بتوجيهات دينه في أ ْن يكون شام ًة في الناس أينما كان ،ليس في سلوكه وأخلاقه الشخصية فحسب ،بل في التزامه بالقوانين المدنية والأعراف الاجتماعية التي تعطي انطباع ًا سيئ ًا ع َّمن يخالفها. 478
ثاني ًا :امتداد الفكر التربوي الإسلامي في الزمان: يتصل الفكر التربوي بالزمان والمكان والإنسان .فاتصاله بالزمان لا يعني أ َّنه يقتصر على الحاضر الراهن من الزمن ،كأ َّنه صندوق مغلق ،وإ َّنما يعني -بالضرورة -امتداد هذا الحاضر فيما سبقه من الماضي ،وما سوف يلحقه في المستقبل .وقد أشرنا إلى ماضي الفكر التربوي الإسلامي عند معالجتنا موضوع التراث التربوي الإسلامي في الفصل الثاني من هذه الكتاب؛ فهذا التراث هو الذاكرة التاريخية للتجربة التربوية والتعليمية ،من دون أ ْن يكون فكرنا المعاصر مسجون ًا ومستلب ًا لتلك التجربة .وهذا يعني أ ْن يكون تراث الأُ َّمة التربوي موضوع ًا للتحليل النقدي؛ لتمييز ما يمكن الاستفادة منه ،وما َيلزم تجاوزه لارتباطه بظروف الزمان والمكان والإمكانيات التي كانت متاحة في زمنه. والتراث التربوي في الوعي الإسلامي هو ما كتبه العلماء أو فعلوه في مجال التعليم في المساجد ،والمجالس ،والمدارس ،وغيرها من المؤسسات ،ومنه ما يتصل بفهمهم لأحداث التاريخ؛ سواء كانت هذه الأحداث ُمد َّونة في ال َق َصص القرآني عن الأنبياء والأمم السابقة ،أو مذكورة فيما احتوته كتب التاريخ. ولا ُب َّد من فهم مقصد الله سبحانه في جعل القرآن الكريم يحتوي على قدر كبير من أحداث التاريخ و َق َصص الماضي َن؛ ذلك أ َّن \"المساحة التي شغلتها القصة القرآنية من كتاب الله كانت مساح ًة واسع ًة ،ما نظن أ َّن موضوع ًا آخ َر كان له ما كان للقصة من نصيب؛ فال َق َصص القرآني لا يق ُّل الح ِّيز الذي شغله من كتاب الله تعالى عن الربع ،إ ْن لم يزد قليل ًا ...ويهدف ال َق َصص القرآني إلى تربية نوع الإنسان تربي ًة تضمن له خير المسالك، ...وتحول بينه وبين المنزلقات والمهالك (((\".وهذا ال َق َصص ليس إعلام ًا عن الأمم الماضية ،وما كان منها فحسب ،بل هو توظي ٌف ووص ٌل بواقع الأُ َّمة الإسلامية ومستقبلها؛ ذلك أ َّن \" َق َصص القرآن ليس مقصو ُده مقصور ًا على ذكر الأولين فقط ،بل ك ُّل قص ٍة منه إ َّنما ُذ ِكرت لما يلحق هذه الأُ َّمة في أمد يومها ِمن شبه أحوال َمن ق َّص عليهم َق َصصه(((\". ((( عباس ،قصص القرآن الكريم ،مرجع سابق ،ص.12 ((( البقاعي ،برهان الدين إبراهيم بن عمر بن إبراهيم السوبيني البقاعي (توفي885 :ﻫ) .نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ،الرياض :دار الكتاب الإسلامي1984 ،م ،ج ،1ص.390 479
ففي ال َق َصص القرآني؛ من :أحداث الحياة ،ووقائعها ،وحقائقها ،وأعلامها ،وديارها، ما فيه بيا ٌن لسنن الله تعالى مع الأمم ،وحقائق الاجتماع البشري ،وطبيعة الإنسان في استعداده العقلي والنفسي للهدى والضلال ،وبيا ٌن للمشترك بين رسالات الله إلى هذه الأمم ،م ّما يتصل بأصول هذه الرسالات؛ من :مسائل التوحيد ،والنبوة ،والمعاد ،وما فيها من تأكي ٍد لرحمة الله وعدله .وفي كل ذلك مجال للتد ُّبر ،والتف ُّكر ،وأخذ الدروس والعبر. قال تعالى﴿ :ﯧﯨﯩﯪ﴾ [الأعراف ،]176:وقال ع َّز وج َّل﴿ :ﯫﯬﯭ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﯾﯿﰀﰁﰂ﴾ [يوسف ،]111:وقال سبحانه﴿ :ﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ﴾ [يوسف ،]3:وقال ع َّز من قائل: ﴿ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ﴾ [طه .]99:ويكفي أ ْن نؤ ِّكد ما في هذه الآيات من دليل على تأثير ال َق َصص في وعي الإنسان ،وذاكرته ،وسلوكه؛ نظر ًا لما ُتن ِّبهنا إليه من أهمية القصة بوصفها من أحسن وسائل التشويق ،والتنبيه ،والتربية النفسية ،وق َّوة التأثير في القلوب والأخلاق والأعمال ،إذا قورن أثرها بأثر الأساليب التربوية الأُخرى. وللقصة -بصورة عامة -من الخصائص ما يجعلها من أهم أساليب التربية والتعليم في جميع الأمم ،وعلى مدار العصور .وهذا ما نزال نجده في الكتابات الحديثة؛ ففي كتا ٍب صدر هذا العام 2019م ،بعنوان \"الق َّوة المدهشة لرواية القصص :القيادة والتدريس والتغيير بطريقة جديدة\" ،إشارة إلى بعض المصادر التي تب ِّين \"أ َّن الناس يتذ َّكرون المعلومات عندما ُتذ َكر بصورة ِق َصص أفضل م ّما ُتذ َكر بصورة حقائق باثنتين وعشرين َم َّر ًة(((\". وقال مؤ ِّلف هذا الكتاب\" :إ َّن عظماء ال ُمع ِّلمين في التاريخ كانوا يستعملون ال ِق َصص والأساطير والأمثال ،من قبيل حكاية أفلاطون الرمزية عن الكهف ،و َق َصص القرآن الكريم عن النبي محمد ،و ِق َصص الخلق في هندوسية الفيدا ،وأمثال المسيح ،وحتى روايات هاري بوتر الحديثة ...وهي ِق َصص ف ّعالة مؤ ِّثرة جد ًا؛ فهي ُتع ِّلم ،و ُتقنِع ،و َتبني معتقدات وقواعد مشتركة ،ومن أسباب ذلك أ َّنها ُتح ِّفز التغ ُّيرات العصبية التي تزيد من المشاعر (1) Garmston. Robet J. Astonishing Power of Storytelling: Leading, Teaching and Transforming in a New Way. Thousand Oaks: Cal. Corwin and London: Sage Company, 2019, pp. 3-8. 480
العاطفية ،وتبني علاقة شخصية تربط المتل ّقي للقصة والراوي لها حول محتوى العرض، وتفتح النوافذ أمام المعرفة البدهية لجمهور المتل ّقين ،و ُتو ِّظف موارد العقل اللاواعي((( \". ويعني الاتصال بالزمان كذلك ما سيلحق هذا الحاضر من مستقبل تربوي ،بوصفه النتيجة التي يستشرفها هذا الفكر ،ويؤول إليها .وهذا يقتضي تحديد ملامح ذلك المستقبل المنشود ،والتخطيط لصناعته .ومن الطبيعي أ ْن يستهدف العمل التربوي ذلك الزمن المستقبل؛ فتربية الجيل الحاضر من ال ُمتع ِّلمين وإعدادهم إ َّنما يكون لصناعة حياتهم وحياة مجتمعهم في ذلك الزمن. إ َّن اعتبار الواقع القائم في الزمن الحاضر ،وفهمه جيد ًا ،وأخذه بالحسبان لا يعني الاحتكام إليه ،والانحباس ضمن حدوده ،وإ َّنما يعني الاستعانة بهذا الفهم لتيسير التعامل معه من أجل تغييره ،والاجتهاد في تفكيك عناصره وقيوده؛ للانطلاق إلى المستقبل المنشود .ومن دون الفهم الكافي لهذا الحاضر يصعب الاجتهاد في رسم ملامح المستقبل للسير في اتجاهه ،ولا سيما أ َّن الاجتهاد المطلوب ليس في تحديد ما يجب أ ْن يكون عليه الأم ُر في المستقبل فحسب ،بل يتض َّمن كذلك الاجتهاد في الوسائل والأساليب اللازمة للوصول إلى الصورة المنشودة لذلك المستقبل. وفهم الحاضر يحتاج إلى أدوات الفهم الصحيح؛ من :رصد ،وإحصاء ،واستقصاء، بحيث يكون فيه -مثل ًا -تفصيل ما يعنيه القليل والكثير ،والمعروف والمجهول من الأشياء والظواهر والأحداث ،بالأرقام والنسب وجداول البيانات التوضيحية ،ويكون فيه تفسير للأسباب والعوامل المؤ ِّثرة ،ودرجة تأثير ك ٍّل منها ،وما قد يكون فيها من علاقات ارتباطية ،و ُأخرى سببية .ولبناء هذا الفهم للحاضر؛ فإ َّنه َيلزم استعمال أساليب الاستقصاء والبحث الكيفي للكشف ع ّما لا تكشف عنه أساليب البحث ال َك ِّمي بالأرقام والإحصائيات ،وغير ذلك م ّما َيلزم إتقان استعماله من أساليب البحث العلمي .وسيبقى الفكر التربوي الإسلامي المعاصر قاصر ًا وعاجز ًا إذا لم يتقن استعمال هذه الأساليب والأدوات في فهم الحاضر؛ لترشيد التعامل معه ،وفهم سيرورته وصيرورته. (1) Ibid. 481
أ ّما المستقبل في الرؤية الإسلامية فهو مفتوح المدى على ُع ُمر الإنسان وما يشهده من ُع ُمر أبيه و ُع ُمر ج ِّده ،ث َّم ما يشهده من أعمار أبنائه وأحفاده .فخبرات الآباء والأجداد، وما قد تتض َّمنه هذه الخبرات من دروس وحكم ،قد تكون مفيد ًة لأبناء الجيل الحاضر، ولا سيما أ َّن نشأة الفرد في أسرة ممتدة تتض َّمن ثلاثة أجيال أو أكثر من الذكور والإناث، هي بيئ ٌة تربوية غنيةُ ،تس ِهم في التكوين الاجتماعي والنفسي والعاطفي لشخصية الفرد، و ُيـح َرم منها َمن لا تتاح له النشأة في هذه البيئة. إ َّن الوعي التربوي بأهمية هذه البيئة يقتضي تطوير برامج توجي ٍه مناسبة لجميع أفراد هذه البيئة؛ لاسثمارها استثمار ًا تربوي ًا مناسب ًا ،حتى لا تبقى ممارسات الأفراد فيها مبنية على العفوية واللامبالاة .وفي غياب هذا الوعي والتوجيه ،فإ َّن الأمر قد لا يقتصر على ضياع ُفرص تربوية جيدة فحسب ،بل قد يؤدي ذلك إلى الوقوع في أخطاء جسيمة ،ور َّبما َيلزم أ ْن تتض َّمن برامج التربية الوالدية ما يبني هذه التوعية التربوية ،و ُيع ِّززها. وانفتاح الزمن التربوي على ُع ُمر الإنسان الفرد ُيذ ِّكرنا بخطاب الله ع َّز وج َّل إلى نبيه ﷺ؛ أ ْن يدعو الله أ ْن يزيده علم ًا﴿ .ﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ ﭡﭢﭣ﴾ [طه .]114:فقد كان هذا النبي أعلم الناس ،ومع ذلك ع َّلمه تعالى أ ْن يطلب الزيادة في العلم .ومن الطبيعي أ َّن الذي يطلب العلم يسلك إليه ُسبله .وإذا كان تعليم الصغير من مسؤولية أسرته ،فإ َّنه عندما يكبر يتح َّمل مسؤولية مواصلة التع ُّلم .ولا يبدو أ َّن َث َّمة سقف ًا ينتهي عنده العلم في أ ِّي موضوع من الموضوعات ،ولا يبدو أ َّن الإنسان يتوقف عن التع ُّلم في كل يوم؛ إذ تشير الدراسات النفسية التي تهتم بالدماغ وعلاقته بالذاكرة والتع ُّقل والتف ُّكر إلى أ َّن دماغ الإنسان يتغ َّير على الدوام؛ فعندما يقرأ جمل ًة مكتوب ًة ،أو يستمع إلى جملة منطوقة ،أو يرى طير ًا يطير في السماء ،أو يف ِّكر في مسألة ،ويخطر بباله خاط ٌر ،فإ َّن دماغه يتغ َّير .ويضرب أصحاب هذه الدراسات مثل ًا على ذلك بالقول\" :إ َّنك إذا قرأت هذه الجملة الآن ،فإ َّن دماغك يكون قد تغ َّير بإضافة هذه الجملة إليه .وإذا قرأت الجملة نفسها غد ًا ،فإ َّنك تستطيع غالب ًا أ ْن تم ِّيز متى وأين قرأتها .وإذا قرأت الجملة بعد أسبوع ،فإ َّنك ر َّبما تتذ َّكر أ َّنك قرأتها في مكان ما ُمؤ َّخر ًا .وإذا قرأتها في العام القادم، فإ َّنك ر َّبما تشعر أ َّن الجملة مألوفة لديك نوع ًا ما(((\". (1) Eyler, Joshua. How Humans Learn: the Science and Stories behind Effective Colledge Teaching, Teaching and learning in Higher Education, Morgantown, WVA: West Virginia University Press, October 2018, P. 6-7. 482
وطلب الزيادة في العلم يشمل كل فرد في المجتمع؛ فإحسان العبادة يحتاج إلى إحسان العلم بأحكامها ،وإحسان العلم بطرق العمل بهذه الأحكام ،ولك َّن إحسان العلم والتع ُّلم يكون في كل المهن ،بدء ًا بمهنة التعليم التي لا تكفي فيها التجربة الشخصية لل ُمع ِّلم ،وإ َّنما َيلزم فيها تع ُّلم أصولها وقواعدها وأساليبها ،وتبادل الخبرات فيما بين ال ُمع ِّلمين ،وطلب الخبرة م َّمن يملكها من أهل الاختصاص .فال ُمع ِّلم الذي لا ُي ْح ِسن عمله ر َّبما يسيء ولا ُي َح ِّسن ،والطبيب الذي لا يتابع تط ُّور علوم الطب وأساليبها ر َّبما يض ُّر ولا ينفع ،والبنّاء الذي لا ُي ْح ِسن أصول البناء ولا يواصل صقل خبرته ومهارته ر َّبما يتس َّبب في انهيار البناء على ساكنيه ،وهكذا سائر المهن .ولهذا ،فإ َّن قوله ع َّز وج َّل﴿ :ﭠ ﭡﭢﭣ﴾ [طهُ ]114:مو َّج ٌه إلى كل متخ ِّصص في علم أو مهنة؛ لتطوير علمه ،وما يقتضيه هذا العلم من مهارات وكفاءات. وحين نتح َّدث عن المدى الزمني الذي يعمل فيه الفكر التربوي الإسلامي ،فإ َّنه لا ينبغي لنا نسيان أ َّن الزمن يـمتد عبر ُع ُمر الفرد و ُع ُمر الأجيال ليصل إلى نهاية ُع ُمر الدنيا؛ فكلم ٌة واحد ٌة يتع َّلمها الإنسان ،أو يع ِّلمها وهو في آخر لحظات عمره ،ر َّبما تكون سبب ًا في ترجيح ِك َّفة الحسنات في ميزانه يوم القيامة. ثالث ًا :امتداد الفكر التربوي الإسلامي في المكان: إ َّن اتصال الفكر التربوي بالمكان يعني مراعاة التفا ُعل القائم بين هذا الواقع في مجتمع معين من مجتمعات الأُ َّمة وغيره من المجتمعات الأُخرى؛ فالنُّ ُظم التربوية في العا َلم المعاصر عابرة للحدود المكانية والفكرية ،بما تفرضه ظروف التن ُّقل بين البلدان، وإمكانيات التوا ُصل ،وسهولة انتقال الأفكار ،ومتط َّلبات التفا ُعل والتعا ُون؛ طوع ًا ،أو كره ًا ،وما يكون في كل ذلك من التأ ُّثر والتأثير. ومع ذلك ،فإ َّن ما يمكن أ ْن يكون مطلوب ًا من الأهداف التربوية قد يتع َّذر تحقيقه في كل الأماكن ،بالطريقة نفسها ،أو بالسرعة نفسها ،أو بالدرجة نفسها ،ليس لاختلاف ما يتوافر من إمكانات لتحقيق الأهداف في الأماكن المختلفة فحسب ،بل لما قد تفرضه أولويات التغيير في هذه الأماكن كذلك. 483
إ َّن الأهداف في الفكر التربوي ،في معظم البلدان ،تر ِّكز اليوم على الفرد في بلده؛ فهو المواطن في ذلك البلد ،ومعظم الأهداف تتح َّدد في حدود المواطن الصالح .ومن ال ُمتو َّقع أ ْن تختلف مواصفات المواطن الصالح من وطن إلى آخر ،وأحيان ًا من مكان إلى آخر في الوطن نفسه ،وقد تنتقل هذه المواصفات من النقيض إلى النقيض الذي يقابله. وقد عرفنا أ َّن واقعية الفكر التربوي الإسلامي تعني أ ْن تتح َّقق التربية فيما يتاح من الظروف والإمكانيات؛ إذ يمكن للتربية أ ْن تكون في خيمة وسط الصحراء ،أو في ظ ِّل شجرة ،أو في قصر منيف ،وأ ْن ُيستع َمل فيها ما هو متاح من الأدوات؛ من :لوح معدني، وقصبة ،و َدواة ِح ْبر يصنعها الطالب وال ُمع ِّلم في المنزل؛ أو الأوراق الحديثة المختلفة الأشكال والألوان؛ والألواح الخشبية والمغناطيسية؛ والشرائح الضوئية؛ والعروض التقديمية الإلكترونية؛ والتعليم عن ُق ْرب وعن ُب ْعد .وقد يكون التعليم في البادية ،والريف، والقرية ،والمدينة .والأصل أ ْن ُيش َّجع الجميع على السفر في طلب العلم والتربية ،حتى لو كان ذلك في الصين(((. وتختلف الأماكن فيما يكون فيها من موارد العلم والتربية؛ فقد يكون في المكان عالِ ٌم لديه نو ُع ِع ْل ٍم يقصده َمن يحتاج إليه ،أو مؤسس ٌة تربوية تتوافر فيها بيئ ٌة علمية وتربوية متم ِّيزة ،فيأتي إليها في مكانها َمن يود الاستفادة ِمن خبرة هذه البيئة ،أو ُير َسل الأبناء إليها. والمجتمع المسلم يحتاج في كل وقت إلى خبرات خاصة قد لا تتاح فيه ،ف ُير ِسل بعض أبنائه إلى الأماكن التي تتوافر فيها هذه الخبرات لاكتسابها ،ومن ذلك اكتساب مهارة اللغات الأجنبية التي َتلزم المجتمع المسلم ،والأمور في هذا الشأن هي من باب فرض الكفاية ،وقد تكون على الأشخاص الذين ُينت َدبون لذلك من باب فرض العين. ومثل هذا الإعداد العلمي والتربوي ر َّبما يخدم المجتمع المسلم في تهيئة ما َيلزم من السفراء والدعاة وال ُمع ِّلمين والتجار إلى البلدان المختلفة. ((( الأثر المشهور\" :اطلبوا العلم ولو في الصين\" حكم المحدثون بضعفه .ولك ْنَ ،من قاله كان يريد التأكيد على ضرورة طلب العلم من مظا ِّنه وأماكنه مهما كانت بعيدة ،وكان يتص َّور الصين أبعد مكان في العالم. 484
والفكر التربوي الإسلامي هو ما يط ِّوره المجتمع المسلم من تعليم وتربية في سائر مجالات الحياة ،مثل :مجال الصناعة ،أو الزراعة ،أو الإدارة ،أو التكنولوجيا ،أو غيرها. وليس مقبولاً أ ْن يكون المجتمع المسلم ُمتخ ِّلف ًا عن غيره فيما أتاح الله للإنسان معرفته. وحين تتوافر الحكمة والخبرة في مكان ما ،فإ َّنه يمكن للمجتمع المسلم أ ْن يستضيف ِمن ذلك المكان َمن يستطيع أ ْن يق ِّدم هذه الحكمة أو هذه الخبرة لفئة مختارة من أبناء المجتمع ،وله كذلك أ ْن ُير ِسل َمن يختار ِمن أبنائه إلى ذلك المكان ليكتسب ما َيلزم من الحكمة أو الخبرة ،وله كذلك أ ْن يسلك الطريقين مع ًا ليكتسب المزايا الخاصة بك ٍّل منهما؛ فالحكمة ضا َّلة الفرد المؤمن والمجتمع المؤمنَ ،أ ّنى وجدها فهو أح ُّق بها(((. وقد جاء في السيرة النبوية أ َّن النبي ﷺ و َّظف خبرات الصحابة الذين كان لديهم ِع ْلم بما يوجد في أماكن مختلفة من العا َلم؛ إذ جاء حفر الخندق حول المدينة بمشورة من سلمان الفارسي ،حيث قال\" :يا رسول الله ،إ ّنا كنّا بأرض فارس إذا تخ َّو ْفنا الخي َل َخنْ َد ْقنا علينا ،فهل لك يا رسول الله أ ْن ُن َخنْ ِد َق؟\"((( وفي حصار الطائف ،قال سلمان\" :يا رسول الله ،أرى أ ْن تنصب المنجنيق على حصنهم .فإ ّنا كنّا بأرض فارس ننص ُب المنجنيقات على الحصون ،و ُتن َص ُب علينا .فنصيب من عدونا ،ويصيب منّا بالمنجنيق .فأمره رسو ُل الله ﷺ ،فعمل منجنيق ًا بيده .فنصبه على حصن الطائف .ويقال :قدم بالمنجنيق يزيد بن زمعة ودبابتين ،ويقال :الطفيل بن عمرو ،ويقال :خالد بن سعيد ،قدم من ُج َرش بمنجنيق ودبابتين ...ودخل المسلمون تحت الدبابة ،وهي من جلود البقر (((\".ولا شك في أ َّن هذه الخبرة سابق ٌة تاريخي ٌة في المجتمع المسلم المب ِّكر ،تم َّثلت في حرص النبي على تع ُّلم ما َيلزم المجتمع المسلم من العلوم والصنائع والحرف الموجودة في البلاد الأُخرى . ((( َث َّمة نصو ٌص متعددة حول عبارة\" :الحكمة ضالة المؤمن\"ُ ،تروى في أحاديث كثيرة حكم المحدثون بضعفها. ونحن نورد المعنى هنا من دون أ ْن نسند النص إلى الحديث النبوي؛ فالمعنى صحيح في ذاته .وإذا رأى المؤمن فائدة ُمتح ِّققة في قول أو فعل حرص على الإفادة منه مهما كان قائله ،وكذا المجتمع المسلم. ((( الواقدي ،أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد (توفي207 :ﻫ) .كتاب المغازي ،تحقيق :مارسدن جونس، بيروت :عالم الكتب( ،د .ت ،).ج ،2ص.445 ((( ابن كثير ،البداية والنهاية ،مرجع سابق ،غزوة الطائف ،ج ،4ص .400انظر كذلك: -الواقدي ،كتاب المغازي ،مرجع سابق ،ج ،3ص.927 485
رابع ًا :امتداد الفكر التربوي الإسلامي في الإنسان: يتسع الفكر التربوي الإسلامي ليشمل الإنسان فرد ًا وجماع ًة و ُأ َّم ًة ،والتعامل معه بنا ًء على الطبيعة التي جعلها الله فيه ،وهي طبيعة مزدوجة من الروح والمادة ،وفيه طبيعة الارتقاء في فضائل الخير ،والانحطاط في رذائل الشر .والإنسان ذكر وأنثى ،وبينهما ما هو مشترك ،وما هو متمايز .والإنسان مدني بالطبع لا يعيش إلا في مجتمع ،والله جعل الناس ُمو َّزعين شعوب ًا وقبائ َل .وقد امت َّد الفكر التربوي الإسلامي ليأخذ ذلك كله بالحسبان. لقد امت َّد هذا الفكر التربوي بالإنسان ليتجاوز التربية الخاصة بالذات الشخصية ،أو القطرية ،أو ال ِم ِّل َّية ،أو المذهبية؛ وليتصل بالذات ومحيطها البشري َك ّم ًا ونوع ًا ،من فئات الناس ،بما هم فيه من :درجات ال ُق ْرب وال ُب ْعد ،والداخل والخارج ،والصداقة والعداوة. ويعني كذلك أ ْن ُيؤ َخذ بالحسبان أ َّن الفكر التربوي الذي يخت ُّص بالأُ َّمهات اليوم ر َّبما يـح ِّدد واقع الأطفال التربوي ،وأ َّن الفكر التربوي لفئة الأطفال اليوم ،ولا سيما الإناث من الأطفال ،ر َّبما يـح ِّدد حالة البالغين التربوية بعد بضع سنين .ويتعامل هذا الفكر مع ال ُمتع ِّلمين وفق ما يحتمله ك ٌّل منهم؛ فالناس مختلفون في قدراتهم واستعداداتهم ،ولذلك يحرص الفكر التربوي الإسلامي أ ْن يتيح لكل فرد أ ْن ينمو ويتع َّلم في المجال الذي ُي ْح ِسنه ،وهذه الواقعية هي التي تل ّبي حاجات المجتمع من الكفاءات والتخ ُّصصات. وفي القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية كثي ٌر من مواقف التعامل مع الواقع في حالات متقابلة للإنسان ،يع ِّبر بعضها عن ارتقاء الإنسان إلى أعلى درجات السمو البشري ،كما في قصة مؤمن آل فرعون﴿ .ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ﴾ [غافر .]28:وفي حالات ُأخرى يسقط الإنسان في درجات الضعف البشري ،كما في قصة الرماة بمعركة ُأحد﴿ .ﮄﮅﮆﮇ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ﴾ [آل عمران .]152:وفي نوع ثالث من الحالات يع ِّبر فيها الموقف الواقعي عن الحالتين مع ًا ،كما في قصة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز﴿ .ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ﴾ [يوسف.]23: 486
و ُيف ِّضل بعض التربويين المسلمين أ ْن يكون الهدف الأساس في الفكر التربوي الإسلامي هو الإنسان الصالح ،لا المواطن الصالح (((.ور َّبما لا يبدو الفرق كبير ًا إذا قلنا إ َّن المواطن هو إنسان في نهاية المطاف ،وإ َّن هذا الإنسان هو مواطن في بلد من البلدان. ولك َّن الفرق يصبح أكثر وضوح ًا عندما ننظر في الدوائر المتحاضنة لانتماء الفرد؛ فهو مواطن في بلد ،وفرد في مجتمع ،ومجتمعه جزء من الأُ َّمة ،والأُ َّمة جزء من النوع الإنساني ال ُمستخ َلف على هذه الأرض .والرؤية التربوية الإسلامية تستدعي وعي ال ُمتع ِّلمين بالدوائر جميع ًا .فالوعي بالانتساب إلى الأُ َّمة -على سبيل المثال -يؤ ِّكد ضرورة حضور مفهوم \"الأُ َّمة\" ،وفهم تم ُّيزها ورسالتها بين الأمم ،لا سيما في الوقت الذي تتجاذب فيه الإنسا َن المعاصر اتجاها ٌت متناقضة ،ما بين الهويات الفرعية المحلية الض ِّيقة في المكان وال ِع ْرق والثقافة من جهة ،وضغوطات العولمة وإكراهاتها من جهة ُأخرى. ويمتد الفكر التربوي الإسلامي لينفتح على ما قد يتوافر في البيئة من خبرات متن ِّوعة، بالرغم من حرص هذا الفكر على طابعه المم َّيز .فأكثر الناس علم ًا هو الذي يحرص على طلب ما قد يتوافر من علم عند غيره ليضيفه إلى علمه؛ إذ قد يجد عن غيره \"كلمة ت ُد ُّله على ُهدى ،أو تر ُّده عن َردى (((\".وفي التاريخ الإسلامي وجدنا أ َّن َمن يتمذهب بمذهب فقهي -مثل ًا -لا يمنعه ذلك من الا ِّطلاع على ما في المذاهب الأُخرى من علم ،وأ َّن َمن ينتمي إلى مدرسة فلسفية أو صوفية أو أصولية يحرص على الا ِّطلاع على ما قد يكون في المدارس الأُخرى من مصادر العلم وال ُهدى .قال ابن تيمية\" :وإذا تف َّقه الرجل وتأ َّدب بطريقة قوم من المؤمنين ،مثل :ا ِّتباع الأئمة والمشايخ ،فليس له أ ْن يجعل قدوته وأصحابه هم المعيار... (((\".وهذا يعني أ ْن تكون دعوة ال ُمع ِّلم لل ُمتع ِّلم أ ْن ي َّطلع على مصادر المعرفة المتن ِّوعة بعد أ ْن يستكمل ُع َّد َته من عناصر الهوية والشخصية التي ُتح ِّصنه من التق ُّلب والتل ُّون والتيه بين الاتجاهات المتناقضة. ((( الكيلاني ،أهداف التربية الإسلامية ،مرجع سابق ،ص ،49قال المؤ ِّلف\" :الإنسان الصالح الـ ُمص ِلح هو الذي تسعى التربية الإسلامية إلى إخراجه\". ((( روى أبو حامد الغزالي عن الشعبي ،قال\" :لو سافر رجل من الشام إلى أقصى اليمن في كلمة تد ُّله على هدى أو تر ُّده عن ردى ما كان سف ُره ضائع ًا \".انظر: -الغزالي ،إحياء علوم الدين ،مرجع سابق ،في فوائد السفر وفضله ونِ َّيته ،ج ،2ص.245 ((( ابن تيمية ،تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (توفي728 :ﻫ) .مجموع الفتاوى، تحقيق :أنور الباز وعامر الجزار ،المنصورة :دار الوفاء ،ط2005 ،3م ،ج ،20ص.8 487
المبحث الرابع تج ِّليات التكا ُمل والتوا ُزن في الفكر التربوي الإسلامي أشرنا فيما سبق إلى خاصية التكا ُمل في الشخصية الإنسانية التي يراد للفكر التربوي الإسلامي أ ْن يصوغها ،وأشرنا كذلك إلى أمثلة من التكا ُمل في جانبين ،ولكنَّنا لا ننسى أ َّن التكا ُمل مطلوب في جوانب متعددة؛ ف َث َّمة تكا ُم ٌل واجب بين متط َّلبات التربية اللازمة للجسد والعقل والروح .والأُ َّمة تحتاج إلى أ ْن تتكامل في ُن ُظمها التربوية ،وعلوم الدين، وعلوم اللغة ،وعلوم التاريخ بوصفها علوم بناء الأُ َّمة .وهي تحتاج في نهوضها الحضاري إلى أ ْن تتكامل في ُن ُظمها التربوية ،لتتوافر فيها متط َّلبات اكتساب العلوم الطبيعية، والتطبيقية ،والإنسانية ،والاجتماعية .والأُ َّمة تحتاج أيض ًا إلى تكا ُمل عناصر الق َّوة الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية .وأهداف التربية تتكامل فيها مجالات المعلومات والمهارات والاتجاهات .والتربية النفسية والاجتماعية والأخلاقية تتكامل في المدى الزمني لعمر الإنسان؛ طفل ًا ،وشاب ًا ،وشيخ ًا. والتكا ُمل في جميع هذه الحالات لا يعني التساوي في ال َك ِّم بالضرورة ،ولا يعني الاختلاف في النوع بالضرورة ،وإ َّنما يعني ما يؤدي الغرض ،ويشبع الحاجة. ويدخل مفهوم \"التكا ُمل\" في الفكر التربوي الإسلامي ،في عدد من المجالات؛ ففي المجتمع فئات متعددة ،ففي فئة الجنس رجا ٌل ونساء ،وفي فئة العمر ناشئون وبالغون، وفي فئة الحاجات الخاصة نجد أ َّن معظم الناس عاديون ،ونجد أفراد ًا فقدوا حا َّس ًة من الحوا ِّس كالسمع أو البصر ،أو عضو ًا من الأعضاء كاليد أو ال ِّرجل .وفي المهن يتو َّزع الناس في أعمالهم على مه ٍن تقليدية كالزراعة والتجارة ،وحر ٍف يدوية كالنجارة والبناء، ومنهم َمن يعمل في مهن التعليم ،والطب ،والهندسة ،والمهن الحديثة؛ وكل هؤلاء يحتاجون إلى تربية وتعليم. ويتكامل في هذا التعليم وهذه التربية ما هو مشترك لكل فرد من أفراد المجتمع ،وما هو خاص بكل مهنة أو حرفة .والتعليم هنا ليس فقط ما يـخت ُّص بالمعلومات والعلوم، وإ َّنما يـخت ُّص بما يجعل التعليم تربية عملية تتصل بإتقان العمل من جهة ،والالتزام بأخلاقيات العمل من جهة ُأخرى. 488
ومن التكا ُمل المنشود ما هو من المسؤوليات التربوية للمؤسسات المختلفة في المجتمع ،لا سيما ما تقوم به الأسرة ،والمدرسة ،والإعلام ،والمسجد ،وغيرها؛ إذ يقتضي التكا ُمل هنا أ ْن يدعم النشاط التربوي لكل مؤسسة ما تق ِّدمه المؤسسات الأُخرى ،فلا تتناقض هذه المؤسسات فيما تق ِّدمه للأفراد من تربية .ث َّم إ َّن َث َّمة تكا ُمل ًا منشود ًا فيما تق ِّدمه عناصر كل مؤسسة؛ ففي الأسرة َيلزم أ ْن تتكامل مهمة الأب ومهمة الأم ،وفي المدرسة َيلزم أ ْن تتكامل جهود الإدارة المدرسية في بناء المناخ المدرسي العام وجهود ال ُمع ِّلمين في أدائهم مهماتهم التعليمية والتربوية .و َث َّمة تكا ُم ٌل حتى في مهمة ال ُمع ِّلم التربوية من حيث اتخاذ الوسائل التربوية المتن ِّوعة؛ من :أساليب مباشرة وغير مباشرة ،وثناء وعتاب، وثواب وعقاب. والفكر التربوي الإسلامي الذي نتح َّدث عنه يتصل اتصالاً مباشر ًا بقضايا التعليم العام والتعليم الجامعي ،وهي قضايا كثيرة متن ِّوعة ،تخت ُّص بال ُمع ِّلم ،والطالب ،والكتاب، والإدارة ،والتمويل ،وغير ذلك .ولو أخذنا -مثل ًا -قضية الكتاب ،لوجدنا َمن يحا/ول أ ْن ينفي قيمة الكتاب في هذا العصر ،ب ُح َّجة أ َّن العلم الذي يمكن أ ْن يـختزنه الكتاب هو في حالة تغ ُّير مستمر ،أو ب ُح َّجة أ َّن مصادر التع ُّلم قد أصبحت كثيرة ومتوافرة ،وأ َّنه يتع َّين على الطالب أ ْن يبحث عن المعرفة في مظا ِّنها بدل أ ْن يجدها له غيره ،ويضعها في كتاب ،وبغير ذلك من ال ُحجج .وفي الجهة المقابلة ،نجد أ َّن معظم مؤسسات التعليم في أكثر دول العا َلم لا تزال تعتمد على الكتاب ،بعد أ ْن تم تطوير الكتاب المعاصر؛ فبالرغم من أ َّن الكتاب لا يزال يتض َّمن ح ّد ًا أدنى من المعلومات والمعارف ،فإ َّنه أصبح -بالإضافة إلى ذلك -دليل ًا لأنواع من المصادر الأُخرى ،وأصبحت له نسخة رقمية تفاعلية .والتكا ُمل الذي يمكن أ ْن نشير إليه هنا هو الجمع بين الكتاب المق َّرر وما يمكن أ ْن يضاف إليه من أوجه النشاط التعليمي الأُخرى. وهناك مسألة ُأخرى تخت ُّص بالكتاب ،و ُتط َرح كثير ًا في دوائر التعليم الشرعي؛ إذ لا يزال بعض الأساتذة في التعليم الشرعي ُيص ّرون على استخدام الكتب القديمة ،ولا سيما كتب المختصرات والمنظومات ،ويستنكرون على َمن يؤ ِّلف كتب ًا حديث ًة في العلوم الشرعية ،أو َمن يستعمل هذه الكتب في التدريس .ولو كانت الكتب القديمة هي ما َكتب 489
الأ َّولون ،مثل :الشافعي ،ومالك ،ومحمد بن الحسن ،وأمثالهم ،لكان الأمر أيسر قبولاً، ولك َّن الكتب القديمة المشار إليها هي غالب ًا ما ُكتِب في مراحل متأخرة ،واتجه فيه الاختصار \"إلى وجهة غريبة ،وهي الاجتهاد في جمع الكثير من المسائل في القليل من الألفاظ .ول ّما كانت السليقة العربية عندهم ضعيفة تح َّول الكلام إلى ما ُيشبِه الألغاز ،فكأ َّن المؤ ِّلف لم يكتبه ليفهم ،بل ليجمع(((\". وقد ضرب مؤ ِّلف كتاب \"تاريخ التشريع الإسلامي\" بمادة مكتوبة في موضوع واحد، هو موضوع المياه التي يجوز التط ُّهر بها ،في ثلاثة كتب من كتب المختصرات ،في ثلاثة مذاهب ،وهي أمثلة على ما س ّماه المؤ ِّلف ماد ًة لم ُتك َتب ل ُتف َهم .فإذا كان َث َّمة ما يدعو إلى الاستمرار في الا ِّطلاع على الكتب القديمة لغرض التوا ُصل مع التراث ،فإ َّن َث َّمة ما يدعو إلى تأليف كتب جديدة تستعمل اللغة السائدة اليوم ،و ُتب ِّسط المسائل لتكون أكثر وضوح ًا، و ُتع ِّبر عنها بالجداول والرسوم والمخططات التوضيحية ،وتستخدم الأمثلة المعروفة اليوم من دون أ ْن يكون َث َّمة حاج ٌة إلى تفسيرات أو إحالات معجمية .فأق ُّل ما يقال في المسألة هو التكا ُمل بين هدف الأُلفة بالكتابات القديمة ،وهدف التعليم عن طريق عرض المسائل العلمية بأساليب جديدة ،وبكتب جديدة .وال ُمؤ َّمل ألا نجد الآن َمن يقول إ َّن باب الاجتهاد في التأليف مغلق ،وإ َّن اجتهادات الأقدمين كافية ،وهي لا تحتاج إلى مزيد. هذا عن التكا ُمل ،أ ّما التوا ُزن فهو خاصية أصيلة في كل ما خلق الله سبحانه﴿ .ﭧ ﭨﭩﭪ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ﴾ [الحجر .]19:ويخت ُّص التوا ُزن بالمقادير والأبعاد النسبية لعناصر كل خاصية في أشياء هذه المخلوقات؛ فتقدير الله سبحانه أ ْن تتناسب العناصر المك ِّونة لكل شيء ،ولكل صفة ،حتى يتزن ميزان الحياة إلى أجل يق ِّدره الله تعالى. فالكائنات الحية تعيش في البيئة الطبيعية للأرض وغلافها الجوي في وسط متوازن من مك ِّونات الهواء .فإذا اختل التوا ُزن بانخفاض نسبة الأكسجين -مثل ًا -فإ َّن حياة الأحياء ((( الخضري ،محمد .تاريخ التشريع الإسلامي ،دمشق :دار الفكر ،ط1967 ،8م ،ص.317 سوف يجادل بعض الاساتذة أن هذه الملاحظة ربما كانت صحيحة في الزمن الذي كتب فيه محمد الخضري كتابه المشار إليه في هذا الهامش ،وربما قبل ذلك ،وأن الحال قد تغير الآن ،حيث أصبحت الكتب التي يؤلفها أساتذة الجامعة هي الأساس .ومن المؤكد أن تغير ًا قد حدث في بعض الجامعات ،ومع بعض الأساتذة ،لكن من المؤكد أيض ًا أن أساتذة آخرين وجامعات أخرى لا تزال تعتمد حفظ المنظومات وشرحها، وتستعمل الأمثلة القديمة التي توردها كتب التراث. 490
من الناس والحيوانات والنباتات ستضطرب ،ور َّبما تتع َّطل أسباب الحياة .وسوائل الجسم الإنساني هي من السوائل الخلوية ،والسوائل خارج الخلايا ،مثل الدم ،وسوائل العين، والأذن ،واللعاب ،والعصارة الصفراوية ،وغيرها ،وقد جعلها الله في حالة توا ُزن يحفظ على الإنسان صحته .فإذا اختل هذا التوا ُزن انحرفت الصحة إلى المرض ،ور َّبما الموت. وصورة الإنسان وهيئته خلقها الله في توا ُزن ،يجعل نسب مك ِّونات الهيئة في أحسن تقويم. فأحس ُن صور ٍة ُتع ِّبر عن هوية الإنسان الجسمية هي الوجه؛ فنسبة حجم أ ِّي عضو في الوجه إلى الأعضاء الأُخرى على ما هي عليه تقع ضمن ما هو في \"أحسن تقويم\" .ولذلك كانت الصورة المم ِّيزة للإنسان هي صورة الوجه والرأس. ولهذا ،فإ َّن الإنسان مدع ٌّو إلى حفظ التوا ُزن في كل أمر من الأمور ،وفي كل شيء من الأشياء؛ فالطعام المناسب هو الطعام المتوازن في نوعيته؛ من :البروتينات ،والسكريات، والدهون ،والفيتامينات ،والأملاح ،والمعادن ،وفي كميته؛ فلا تقود ِق َّلته إلى هزال ،ولا كثرته إلى تخمة .ومثل ذلك يقال في صفات الإنسان العقلية والروحية والسلوكية؛ فكل صفة من صفات الإنسان يمكن أ ْن تقع بين ح َّدي ِن من الإفراط والتفريط ،والتوا ُزن هو ما لا يكون فيه إفراط ولا تفريط. والتوا ُزن لا يعني التساوي والتعادل في مقادير الصفات ،وإ َّنما يعني أ ْن يتوافر في كل صفة ما َيلزم منها .ويختلف الناس في مقدار ما يمكن أ ْن يحتملوه من أ ِّي صفة من الصفات .والتوا ُزن لا يعني عدم توظيف ما يتم َّيز به شخص عن آخر بحكم التخ ُّصص، وإ َّنما يعني أ ْن يأخذ التخ ُّصص الح َّد المناسب م ّما َيلزم أ ْن يتصف به المرء من الأخلاق الواجبة ،أو ما َيلزم أ ْن يؤديه من العبادات المفروضة .وقد روي أ َّن رجل ًا كتب للإمام مالك يعاتبه في طول العناية بالعلم و ِق َّلة العبادة ،فأجابه\" :إ َّن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، ف ُر َّب رج ٍل ُفتِح له في الصلاة ،ولم ُيف َتح له في الصوم ،وآخر ُفتِح له في الصدقة ،ولم ُيف َتح له بالصوم ،وآخر ُفتِح له بالجهاد؛ فنشر العلم من أعظم أعمال البِ ِّر ،وقد رضيت بما ُفتِح لي فيه ،وما أظ ُّن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه ،وأرجو أ ْن يكون كلانا على خي ٍر ،وبِ ٍّر(((\". ((( الذهبي ،سير أعلام النبلاء ،مرجع سابق ،ج ،8ص.144 491
وأ َّية دراسة ُمن ِصفة للإسلام تكشف للدارس أ َّن خاصية التوا ُزن في الإسلام قائمة على الفطرة ،وعلى ما تقبله العقول بصورة لا نجدها في غير الإسلام .وهذا التوا ُزن يحمي الإنسان من التط ُّرف في أ ِّي شأن من الشؤون؛ سواء كان هذا التط ُّرف في الغل ِّو والزيادة عن التو ُّسط والاعتدال ،أو في التفريط والنقصان .فالإفراط أو التفريط في أ َّية صفة من صفات الخير في الشخصية البشرية هو طغيان وإفراط ،أو تفريط وإخسار في الميزان الذي أمر الله إقامته بالقسط ،وذلك قوله سبحانه﴿ :ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ﴾ [الرحمن.]9-7: وكثير من الخصائص التي يحرص البشر على الاتصاف بها ُتع َرض غالب ًا في صورة ثنائيات متقابلة ،ويتع َّين على الإنسان أ ْن يختار أحد الح َّدين المتقابلين .والحق غير ذلك؛ وإ َّنما هو في مسافة بينهما ،يجمع فيها الإنسان من الطرفين ما َيلزمه للاتصاف بالتوا ُزن والتو ُّسط والاعتدال؛ فالخاصية الروحية والخاصية المادية موجودتان في الإنسان. ولك ْن ،ليس له أ ْن يختار إحداهما ،و ُيه ِمل الأُخرى ،وإ َّنما له أ ْن يجمع ما َيلزمه من ك ٍّل منهما .وكذلك الأمر في الحقوق والواجبات ،والا ِّتباع والإبداع ،والمسؤولية الفردية، والهوية المجتمعية ،وغير ذلك. وقد ُيف َهم موضوع الوسطية أحيان ًا على غير وجهه عندما يتجه ال َّذ ُّم إلى َمن يلتزم بال ُّسنة ُمبت ِعد ًا عن البدعة ،أو إلى َمن يجهر بالحق ُمبت ِعد ًا عن السكوت على الباطل ،أو إلى َمن يلتزم بالحلال ُمبت ِعد ًا عن الحرام .فليس َث َّمة وسطي ٌة في مثل هذه المتقابلات؛ لأ َّن الوسطية هي الحق والخير والصواب .وقد ن َّص القرآن الكريم على أ َّن الأُ َّمة الإسلامية هي الأُ َّمة الوسط الشاهدة على الناس بما هي عليه من فضل ،وعل ِّو منزلة ،وتأهيل للريادة والقيادة؛ فهي لم تكن خير ُأ َّمة ُأخ ِرجت للناس إلا بما تتمتع به من إيمان ،وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر. وقد تناول الفقهاء والأصوليون موضوع التوا ُزن والموازنة منذ وقت مب ِّكر ،حين جعل العز بن عبد السلام كتابه \"قواعد الأحكام\" يدور حول المصالح والمفاسد؛ فالأحكام الشرعية تستهدف جلب المصالح ودرء المفاسد ،ولك َّن المصالح درجات ،والمفاسد درجات ،و\"المصالح الخالصة عزيزة الوجود \".ولك َّن الله سبحانه ي َّسر للإنسان سبيل الاهتداء إلى الرشد في ذلك بطبع الإنسان\" :واعلم أ َّن تقديم الأصلح فالأصلح ،ودرء 492
الأفسد فالأفسد مركو ٌز في طباع العباد ،نظر ًا لهم من ر ِّب الأرباب (((\".ث َّم وضع قاعد ًة س ّماها قاعدة في الموازنة بين المصالح والمفاسد ،وف َّصل فيها ما قد يكون من تعارض بين مصلحة ومفسدة ،وتعارض بين مصلحتين ،وتعارض بين مفسدتين ،م ّما َيلزم في كل حالة إعمال الموازنة من أجل الترجيح(((. وبصورة عامة ،فإ َّن علم أصول الفقه يقوم على التوا ُزن والتو ُّسط والاعتدال في تقرير الأحكام التي تح ِّقق مقاصد الشريعة لجلب المصالح ودرء المفاسد .وقد ع َّبر الشاطبي في مقدمة \"الموافقات\" عن عظيم فضل الله سبحانه و َمنِّه على الناس في هدايتهم إلى الصراط المستقيم الذي يتح َّقق به العلم والتعليم ،في صورة ُتس ِهم في تحديد \"مراتب العوام والخواص ،والجماهير والأفذاذ ،و ُي َو ّفي ح َّق ال ُمق ِّلد وال ُمجت ِهد والسالك وال ُمر ّبي والتلميذ والأستاذ ،على مقاديرهم ...وينزل ك ّ ًل منهم منزلته حيث ح َّل ... ،ويحمله فيه على الوسط الذي هو مجال العدل والاعتدال ،ويأخذ بالمختلفين على طريق مستقيم بين الاستصعاد والاستنزال ،ليخرجوا من انحرافي التش ُّدد والانحلال ،وطرفي التناقض والمحال (((\".ث َّم قال\" :الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه ،الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال ،بل هو تكليف جا ٍر على موازنة تقتضي في جميع ال ُمك َّلفين غاية الاعتدال(((\". وفي كثير من الأحيان نجد صفة التوا ُزن مرتبط ًة بصفة التكا ُمل؛ فحين يطلب الله سبحانه من الإنسان أ ْن يتق َّرب إليه بما رزقه من ما ٍل طلب ًا للأجر والثواب في الآخرة ،فإ َّنه يطلب منه كذلك أ ْن يعط َي حيا َته في الدنيا نصي َبها وح َّقها ،وهذا هو التوا ُزن في توظيف المال ما بين التط ُّرف في إنفاقه في شؤون الآخرة فقط ،أو في شؤون الدنيا .قال سبحانه: ﴿ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ﴾ [القصص .]77:ولك َّن الحديث النبوي الذي يتصل بهذه الآية أضاف إلى ما ُيف َهم منها معنى التكا ُمل ،فأوضح أ َّن نصيب الدنيا يتكامل فيه ح ُّق ((( ابن عبد السلام ،عز الدين عبد العزيز بن أبي القاسم السلمي الملقب بسلطان العلماء (توفي660ﻫ) .القواعد الكبرى :قواعد الأحكام في إصلاح الأنام ،تحقيق نزيه حماد وعثمان ضميرية ،دمشق :دار القلم2000 ،م ،ص.9 ((( المرجع السابق ،ص.88-87 ((( الشاطبي ،الموافقات في أصول الشريعة ،مرجع سابق ،ص.15 ((( المرجع السابق ،ص.315 493
النفس ،وح ُّق الأهل ،وح ُّق المجتمع (الز ّوار) .ففي صحيح البخاري أ َّن عبد الله بن عمرو قالَ :قا َل لِي َر ُسو ُل ال َّل ِه ﷺَ :يا َع ْب َد ال َّل ِهَ ،أ َل ْم ُأ ْخ َب ْر َأ َّن َك َت ُصو ُم النَّ َها َرَ ،و َت ُقو ُم ال َّل ْي َل؟ َف ُق ْل ُت: َب َلى َيا َر ُسو َل ال َّل ِهَ .قا َلَ :ف َل َت ْف َع ْلُ ،ص ْم َو َأ ْف ِط ْرَ ،و ُق ْم َو َن ْمَ ،فإِ َّن لِ َج َس ِد َك َع َل ْي َك َح ّق ًاَ ،وإِ َّن لِ َع ْينِ َك َع َل ْي َك َح ّق ًاَ ،وإِ َّن لِ َز ْو ِج َك َع َل ْي َك َح ّق ًاَ ،وإِ َّن لِ َز ْو ِر َكَ ع َل ْي َك َح ّق ًا (((\". ...و َث َّمة زياد ٌة في حديث آخر في البخاري كذلك\" :فأ ْعط ك َّل ِذي ح ٍّق ح َّقه \".وهي زيادة أق َّرها النبي ﷺ(((. ويكون التوا ُزن في تربية ال ُمتع ِّلمين وتدريبهم وتوجيههم إلى الاعتدال في إنفاق الوقت والجهد على الأمور؛ فكثير منها يقع في دائرة المهم .وإ َّن الانصراف إلى أبواب الطاعة وتزكية النفس من دون الاهتمام بأمور الأُ َّمة ،أو الانصراف إلى متابعة أمور الأُ َّمة على حساب أبواب الطاعة؛ لهو تط ُّر ٌف -في كلتا الحالتين -يفتقد فقه التوا ُزن ،وإ َّن في الجمع بين الأمرين توا ُزن محمود .وعندما تتمايز الأمور بين المهم والأكثر أهمية في الوقت الواحد للشخص الواحد ،فإ َّنه َتلزم الموازنة بإعمال مبدأ الترجيح. وفي المجتمع المعاصر يتد َّفق على الإنسان كثير من مصادر المعرفة وأدواتها ،وهي تحضر غالب ًا في الجهود الفردية والمؤسسية للتع ُّلم والتعليم ،م ّما َيلزمه التوجيه والتدريب على التوا ُزن في اكتساب العلم ،والمعرفة بما يستجد من الأدوات والوسائل .فاستعمال وسائل التوا ُصل الاجتماعي الحديثة -مثل ًا -يمكن أ ْن يكون مصدر علم وخير ودعوة، ولك َّن صرف الأوقات الطويلة في متابعة ما تأتي به هذه الأدوات والوسائل هو ُغ ُل ٌّو وه ْد ٌر للوقت والجهد؛ فالاعتدال هو الخير ،وأ ّما رف ُض التعامل مع هذه الأدوات ،والقصو ُر في تع ُّلم استعمالها وتوظيفها وتيسير كثير من الأمور عن طريقها ،فهو ُغ ُل ٌّو في الطرف الآخر. ((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :الصوم ،باب :حق الجسم في الصوم ،حديث رقم: ( ،)1975ص.374 ((( ففي \"صحيح البخاري\"\" :آخى النَّبِ ُّي ﷺ َبي َن َس ْل َما َن َو َأبي ال َّد ْر َدا ِءَ ،ف َزا َر َس ْل َما ُن أ َبا ال َّد ْر َدا ِء ،ف َر َأى ُأ َّم ال َّد ْر َدا ِء ُم َت َب ِّذ َل ًةَ ،ف َقا َل َل َها :ما َش ْأ ُن ِك؟ َقا َل ْتَ :أ ُخو َك َأ ُبو ال َّد ْر َدا ِء َل ْي َس َل ُه َحا َج ٌة في ال ُّد ْن َياَ ،ف َجا َء َأ ُبو ال َّد ْر َدا ِءَ ،ف َصنَ َع َل ُه َطعام ًاَ ،ف َقا َلُ :ك ْلَ ،قا َلَ :فإِ ِّني َصا ِئ ٌمَ ،قا َل :ما َأ َنا بِآ ِك ٍل َح َّتى َت ْأ ُك َلَ ،قا َلَ :ف َأ َك َلَ .ف َل َّما َكا َن ال َّل ْي ُل َذ َه َب َأ ُبو ال َّد ْر َدا ِء َي ُقو ُمَ ،قا َلَ :ن ْم َفنَا َمُ ،ث َّم َذ َه َب َي ُقو ُمَ ،ف َقا َلَ :ن ْمَ .ف َل َّما َكا َن ِم ْن آ ِخ ِر ال َّل ْي ِلَ ،قا َل َس ْل َما ُنُ :ق ِم الآ َنَ ،ف َص َّل َياَ ،ف َقا َل َل ُه َس ْل َما ُن\" :إِ َّن لِ َر ِّب َك َع َل ْي َك َح ّق ًاَ ،ولِنَ ْف ِس َك َع َل ْي َك َح ّق ًاَ ،و ِلَ ْه ِل َك َع َل ْي َك َح ّق ًاَ ،ف َأ ْع ِط ُك َّل ِذي َح ٍّق َح َّق ُهَ \".ف َأ َتى النَّبِ َّي ﷺَ ،ف َذ َك َر َذلِ َك َل ُهَ ،ف َقا َل النَّبِ ُّي ﷺَ \" :ص َد َق َس ْل َما ُن \".انظر: -البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :الصوم ،بابَ :من أقسم على أخيه ليفطر في التط ُّوع ،حديث رقم ،)1968( :ص.373 494
وتأسيس ًا على ذلك ،فإ َّن التو ُّسط والاعتدال بين ح َّدي التط ُّرف هو الخير ،مثله في ذلك مثل الاعتدال في أ ِّي أمر آخر. لقد تم إسقاط القواعد الفقهية والأصولية على القضايا المعاصرة لل ُأ َّمة وطبيعتها الفكرية ،فجاء كتاب \"فقه الأولويات\" للوكيلي ،و\"فقه الموازنات\" للسوسوة ،معالجات أصولية لا تختلف كثير ًا ع ّما ورد في الكتب الأصولية التقليدية ،بما في ذلك كتب ابن عبد السلام ،والشاطبي ،وابن تيمية ،وغيرهم .وكان الأَ ْولى أ ْن تكون هذه المعالجات فكرية ثقافية تربوية؛ فالتأسيس الفقهي والأصولي لهذه الموضوعات يكفي فعل ًا ليكون له تطبيقاته في إصلاح الفكر والواقع ،وتطوير المناهج والممارسات التربوية التي هي أداة ذلك الإصلاح .والذي يس ِّوغ هذا الانتقال المقترح أ َّن حياة الناس في المجتمعات المعاصرة ومجتمعات المسلمين على وجه الخصوص أصبحت محكومة لمداخل كثيرة لا تزال القواعد الفقهية والأصولية لا تجد طريقها إليها؛ فالذي يحكم حياة هذه المجتمعات هو النُّ ُظم ،والأفكار ،والنظريات السياسية ،والاقتصادية ،والاجتماعية، والتربوية التي تقتحم هذه المجتمعات من جميع الأبواب والنوافذ ،بل ُتستد َعى على ال َّسعة والترحاب مدفوعة الثمن للخبراء ،والكتب ،والبحوث ،والمستشارين. وكان من الممكن أ ْن يحكم مبدأ التوا ُزن لغة التعليم في البلاد العربية والإسلامية، فيتم التعليم في البلاد العربية باللغة العربية ،بوصف ذلك أولوي ًة لا يجوز الاختلاف عليها. ث َّم يكون تع ُّلم اللغات الأُخرى بالقدر الذي َيلزم طالب العلم في المراحل المتق ِّدمة، وبالقدر التي يحتاج إليه المجتمع في التفا ُعل العلمي والثقافي مع المجتمعات الأُخرى. وبذلك يحصل قدر من التوا ُزن ،ولك َّن الخلل في هذا التوا ُزن أصبح ظاهر ًة مقلق ًة ،ليس فقط عندما ُأع ِطيت الأولوية لتع ُّلم اللغة الأجنبية ل َمن يحتاج إليها ،وبالقدر الذي َيلزمه، وإ َّنما حين أصبح التعليم باللغة الأجنبية هو الأولوية. ومثل ذلك يقال عن البلاد الإسلامية غير العربية ،التي تحرص شعوبها أشد الحرص على تع ُّلم اللغة العربية بوصفها لغة القرآن الكريم ،وتتمنّى أ ْن تكون العربية هي اللغة الرسمية الثانية على أقل تقدير ،ولك َّن واقع الأمر ُيظ ِهر غير ذلك؛ فالأنظمة التعليمية فيها 495
تعطي التعليم باللغة الأجنبية (الإنجليزية ،أو الفرنسية) الأولوية ،وتتيح تع ُّلم اللغة المحلية بالقدر الذي يسمح بسهولة التوا ُصل اليومي بين الناس. إ َّن المجتمعات الإسلامية اليوم تم ُّر بمرحلة من الضعف والتخ ُّلف والتف ُّكك ،وتسود فيها دعوات التط ُّرف المذهبي والسياسي وتضارب المصالح واختلاف الولاءات؛ ما يفرض على الفكر التربوي الإسلامي المعاصر أ ْن يولي وحدة الأُ َّمة وتقدير مصالحها، والتقريب بين وجهات النظر ،وفتح آفاق التعا ُون والتكا ُمل فيما بين أقطارها ،الأهمية اللازمة .ومهما كانت أولوية القضايا المثارة على المستويات الوطنية والمذهبية والحزبية، فإ َّن من الحكمة البالغة أ ْن يتوازن الاهتمام بهذه القضايا مع الاهتمام بقضايا وحدة الأُ َّمة، وجمع كلمتها ،وتعزيز أوجه التعا ُون والتكا ُمل فيما بين شعوبها .ونستطيع تأكيد أ َّن كثير ًا من المشكلات التي تعانيها أقطار الأُ َّمة لا يمكن ح ُّلها إلا بالتكا ُمل والتعا ُون فيما بينها. وقد أصبح مفهوم التوا ُزن موضوع ًا فكري ًا يتر َّدد في الكتابات الفكرية والثقافية والتربوية ،مثله في ذلك مثل مفاهيم ُأخرى تتصل به اتصالاً مباشر ًا؛ من :مفهوم المآلات، ومفهوم الأولويات .ولذلك نجد كتب ًا مفيد ًة َت ِر ُد فيها عناوين ،مثل :فقه الموازنات(((، وفقه الأولويات(((. خاتمة: تح َّدث هذا الفصل عن أهم خصائص الفكر التربوي الإسلامي .وقد لاحظ القارئ الكريم أ َّن خاصية الربانية ،والوسطية ،والخيرية ،ترجع في كليتها إلى كون هذه الشريعة هي خاتمة الشرائع .ومن هنا ،كان ينبغي أ ْن تكون هذه الخصائص منسجمة مع مبدأ المرونة والتط ُّور ،وقدرة تعاليم الإسلام على مواكبة التط ُّور الإنساني في جميع شؤون حياته الاجتماعية والاقتصادية ،وفي مختلف أحواله وأوضاعه .ولذلك كانت هذه الخصائص -في عناوينها الكبرى -تتض َّمن ما يمنحها المصداقية والصلاحية لكل زمان ومكان. ((( السوسوة ،عبد المجيد .فقه الموازنات في الشريعة الإسلامية ،دبي :دار القلم ،ط2004 ،1م. ((( الوكيلي ،محمد .فقه الأولويات :دراسة في الضوابط ،هيرندن :المعهد العالمي للفكر الإسلامي1997 ،م. 496
وسوف يجد القارئ أ َّن هناك الكثير من الأدلة في القرآن وال ُّسنة ،والعديد من الأمثلة عبر التاريخ ،التي أوردنا بعض ًا منها ،والتي جاءت لتؤ ِّكد حضو َر معنى \"الواقعية\" في الفكر التربوي الإسلامي ،وضرورة موافقة النص للواقع في حالة تنزيله عليه .ومن هنا ،عملت مراكز البحوث التربوية والفكرية قديم ًا وحديث ًا ،بل وما زالت تعمل ،على المستوى الفردي والمستوى الجماعي بما يح ِّقق هذا الربط القوي المتين بين الفكر عند الإنسان وسلوكه؛ فالعقل هو الجوهر الذي يتصف بالإدراك والفكر وال ُخ ُلق ،وهو ما يتو َّجه إليه الخطاب بالتكليف .والفكر التربوي الإسلامي يستهدف بناء الإنسان ،بل العقل في الإنسان؛ فرد ًا، ومجتمع ًا ،و ُأ َّم ًة؛ لتحقيق مراد الله سبحانه في إعمار هذه الدنيا ،بما يريده الله للبشر فيها من خير وصلاح .ولهذا كان التركيز شديد ًا على شخصية الإنسان ،والوقوف على تع ُّدد دلالة مفهوم هذه الشخصية بتع ُّدد نظريات علم النفس ،وما تجعله هذه النظريات من عناصر أو مك ِّونات للشخصية ،وأهمية كل مك ِّون منها. ومن هنا ،فقد حرصنا في هذا الفصل على توجيه البوصلة ،وإتاحة ال ُفرصة لإعداد شخصية ال ُمتع ِّلم؛ ليكون قادر ًا على خدمة مجتمعه ،بوصفه عنصر ًا فاعل ًا في تحقيق مراد الله من حمل الأمانة والخلافة في الأرض ،وذلك بالتكا ُمل في العناية والاهتمام بمك ِّونات الإنسان من جسم وعقل وروح؛ فللجسم تربية ولها وسائلها ،وللعقل تربية ولها وسائلها، وللروح تربية ولها وسائلها .وخاصية التكا ُمل في الفكر التربوي هي أ ْن ينال كل مك ِّون من مك ِّونات الإنسان القدر اللازم له من التربية والتنمية والتزكية ،وبالوسائل التي تناسبه. وكان تركيزنا في هذا الفصل على أ َّن عمليات التع ُّقل والتف ُّكر والتد ُّبر والتذ ُّكر يمكن أ ْن تكون مجالات خصبة في العمل التربوي ،و َتظهر تج ِّلياتها بصورة مباشرة على الشخصية الإنسانية في جانبيها :العقلي ،والنفسي .وهي منهج للتعامل مع المواد التعليمية المختلفة؛ فإعمال العقل في كل ذلك إعمار للأرض ،وتحقيق لمراد الله سبحانه في الخلافة فيها ،حيث ربط القرآن الكريم بين ما ُي َع ُّد تربية عقلية وتربية اعتقادية ،وو َّجه الإنسان إلى السير في الأرض والنظر والتأ ُّمل في المشاهد الكونية؛ من :حركات الشمس والقمر ،وتق ُّلب الليل والنهار ،ونزول المطر ،وإحياء الأرض بالنبات؛ فالتراث التربوي الإسلامي يتض َّمن مادة غنية جد ًا عن النفس الإنسانية. 497
وتح َّدثنا عن خاصية التكا ُمل والتوا ُزن في الفكر التربوي الإسلامي ،والتكا ُمل في الشخصية الإنسانية التي يراد للفكر التربوي الإسلامي أ ْن يصوغها ،وهو تكا ُمل بين متط َّلبات التربية اللازمة للجسد والعقل والروح ،التي تدخل في مختلف المجالات، وتشمل فئات المجتمع كاف ًة ،وجميع المهن .في حين يخت ُّص التوا ُزن بالمقادير والأبعاد النسبية لعناصر كل خاصية في أشياء هذه المخلوقات؛ فتقدير الله سبحانه أ ْن تتناسب العناصر المك ِّونة لكل شيء ،ولكل صفة. ويجد القارئ أ َّن خاصية التوا ُزن في الإسلام تقوم على الفطرة ،وما تقبله العقول بصورة لا نجدها في غير الإسلام .وهذا التوا ُزن يحمي الإنسان من كل أشكال الإفراط والتفريط ،في أ ِّي شأن من الشؤون؛ فالتو ُّسط والاعتدال بين ح َّدي التط ُّرف هو الخير ،مثله في ذلك مثل الاعتدال في أ ِّي أمر آخر. وكان تركيزنا واضح ًا على موضوع مقاصد الشريعة ،وتنزيل القواعد الفقهية والأصولية على القضايا المعاصرة لل ُأ َّمة وطبيعتها الفكرية ،وعلى موضوع العلاقة بين الا ِّتباع والإبداع ،وما قد يكون بينهما من تكا ُمل أو توا ُزن .فالأُ َّمة الإسلامية هي ُأ َّمة الا ِّتباع لما جاء به الوحي الإلهي والهدي النبوي ،ولكنَّه ا ِّتباع على علم وهدى وبصيرة؛ لأ َّن ال ُم َّتبِع رأى الصراط المستقيم الذي سار عليه المهتدون قبله ،فا َّت َبعهم عليه. ويتوقع من القارئ أ ْن يجول خاطره في حال الأُ َّمة اليوم ،وما تعانيه من تخ ُّلف في معظم مجالات الحياة؛ سواء كان هذا التخ ُّلف في ضوء ما يريده منها إسلامها ،أو بالقياس إلى ما تمتلكه من إمكانات وطاقات ،أو بالمقارنة مع الشعوب والمجتمعات الأُخرى. فجاء هذا الفصل ليشير إلى ما لا ُب َّد منه في هذا الجانب ،وضرورة الجمع بين التعليم التقليدي الذي يتض َّمن قدر ًا من مفهوم \"الا ِّتباع\" لما ُع ِرف فضله ونفعه ،وارتبط بأصول شرعية ُت َع ُّد من الثوابت ،والتعليم التجديدي الذي يتض َّمن مساحة من الإبداع في الوسائل، والتجديد في الأساليب اللازمة لحياتنا المعاصرة ،وهو خلاصة المقصود من الحديث عن التوا ُزن بين الا ِّتباع والإبداع. 498
وقد تح َّدثنا عن الواقعية والمثالية ،وعن بعض تج ِّليات الواقعية في الفكر التربوي الإسلامي؛ فهي تتصل بواقعية الرسالة الإسلامية بصورة عامة .وتح َّدثنا كذلك عن الواقعية في بناء فكر تربوي إسلامي معاصر ،وأ َّكدنا أ َّن الواقعية لا تعني الخضوع للواقع القائم ،وما قد يكون فيه من انحرافات عن الصورة التي يريد الله سبحانه من المؤمنين به أ ْن يتم َّثلوها ،وأ ْن يواصلوا السعي للارتقاء نحوها ،وإ َّنما هي صورة للانسجام مع السنن الإلهية في حياة الإنسان ،وظواهر العا َلم الطبيعي والاجتماعي والنفسي بوصفها حقائ َق واقع ًة ،لا أوهام ًا جامح ًة .وذكرنا أ َّن واقعية التربية يمكن أ ْن تتح َّقق فيما يتاح من الظروف والإمكانيات ،في خيمة وسط الصحراء ،أو في ظ ِّل شجرة ،أو في قصر منيف .فاتصال الواقع بالإنسان لا يعني الاقتصار على واقع الذات الشخصية أو الذات القطرية فحسب، وإ َّنما يعني الاتصال بالذات ومحيطها البشري َك ّم ًا ونوع ًا .ويتع َّين على الفكر التربوي الإسلامي المعاصر أ ْن يتسع لمعرفة التط ُّورات التي حصلت في تاريخ العلوم ،وأ ْن تشتمل برامجه ومناهجه على فروع علمية جديدة ،وأ ْن يمكن لهذه البرامج والمناهج السماح بنشأة فروع جديدة ُأخرى. 499
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210
- 211
- 212
- 213
- 214
- 215
- 216
- 217
- 218
- 219
- 220
- 221
- 222
- 223
- 224
- 225
- 226
- 227
- 228
- 229
- 230
- 231
- 232
- 233
- 234
- 235
- 236
- 237
- 238
- 239
- 240
- 241
- 242
- 243
- 244
- 245
- 246
- 247
- 248
- 249
- 250
- 251
- 252
- 253
- 254
- 255
- 256
- 257
- 258
- 259
- 260
- 261
- 262
- 263
- 264
- 265
- 266
- 267
- 268
- 269
- 270
- 271
- 272
- 273
- 274
- 275
- 276
- 277
- 278
- 279
- 280
- 281
- 282
- 283
- 284
- 285
- 286
- 287
- 288
- 289
- 290
- 291
- 292
- 293
- 294
- 295
- 296
- 297
- 298
- 299
- 300
- 301
- 302
- 303
- 304
- 305
- 306
- 307
- 308
- 309
- 310
- 311
- 312
- 313
- 314
- 315
- 316
- 317
- 318
- 319
- 320
- 321
- 322
- 323
- 324
- 325
- 326
- 327
- 328
- 329
- 330
- 331
- 332
- 333
- 334
- 335
- 336
- 337
- 338
- 339
- 340
- 341
- 342
- 343
- 344
- 345
- 346
- 347
- 348
- 349
- 350
- 351
- 352
- 353
- 354
- 355
- 356
- 357
- 358
- 359
- 360
- 361
- 362
- 363
- 364
- 365
- 366
- 367
- 368
- 369
- 370
- 371
- 372
- 373
- 374
- 375
- 376
- 377
- 378
- 379
- 380
- 381
- 382
- 383
- 384
- 385
- 386
- 387
- 388
- 389
- 390
- 391
- 392
- 393
- 394
- 395
- 396
- 397
- 398
- 399
- 400
- 401
- 402
- 403
- 404
- 405
- 406
- 407
- 408
- 409
- 410
- 411
- 412
- 413
- 414
- 415
- 416
- 417
- 418
- 419
- 420
- 421
- 422
- 423
- 424
- 425
- 426
- 427
- 428
- 429
- 430
- 431
- 432
- 433
- 434
- 435
- 436
- 437
- 438
- 439
- 440
- 441
- 442
- 443
- 444
- 445
- 446
- 447
- 448
- 449
- 450
- 451
- 452
- 453
- 454
- 455
- 456
- 457
- 458
- 459
- 460
- 461
- 462
- 463
- 464
- 465
- 466
- 467
- 468
- 469
- 470
- 471
- 472
- 473
- 474
- 475
- 476
- 477
- 478
- 479
- 480
- 481
- 482
- 483
- 484
- 485
- 486
- 487
- 488
- 489
- 490
- 491
- 492
- 493
- 494
- 495
- 496
- 497
- 498
- 499
- 500
- 501
- 502
- 503
- 504
- 505
- 506
- 507
- 508
- 509
- 510
- 511
- 512
- 513
- 514
- 515
- 516
- 517
- 518
- 519
- 520
- 521
- 522
- 523
- 524
- 525
- 526
- 527
- 528
- 529
- 530
- 531
- 532
- 533
- 534
- 535
- 536
- 537
- 538
- 539
- 540
- 541
- 542
- 543
- 544
- 545
- 546
- 547
- 548
- 549
- 550
- 551
- 552
- 553
- 554
- 555
- 556
- 557
- 558
- 559
- 560
- 561
- 562
- 563
- 564
- 565
- 566
- 567
- 568
- 569
- 570
- 571
- 572
- 573
- 574
- 575
- 576
- 577
- 578
- 579
- 580
- 581
- 582
- 583
- 584
- 585
- 586
- 587
- 588
- 589
- 590
- 591
- 592
- 593
- 594
- 595
- 596
- 597
- 598
- 599
- 600
- 601
- 602
- 603
- 604
- 605
- 606
- 607
- 608
- 609
- 610
- 611
- 612
- 613
- 614
- 615
- 616
- 617
- 618
- 619
- 620
- 621
- 622
- 623
- 624
- 625
- 626
- 627
- 628
- 629
- 630
- 631
- 632
- 633
- 634
- 635
- 636
- 637
- 638
- 639
- 640
- 641
- 642
- 643
- 644
- 645
- 646
- 647
- 648
- 649
- 650
- 651
- 652
- 653
- 654
- 655
- 656
- 657
- 658
- 659
- 660
- 661
- 662
- 663
- 664
- 665
- 666
- 1 - 50
- 51 - 100
- 101 - 150
- 151 - 200
- 201 - 250
- 251 - 300
- 301 - 350
- 351 - 400
- 401 - 450
- 451 - 500
- 501 - 550
- 551 - 600
- 601 - 650
- 651 - 666
Pages: