Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

Published by آيه الشوابكه, 2021-04-03 00:56:36

Description: الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

Search

Read the Text Version

‫الانفصال هذه هي ‪-‬في واقع الأمر‪ -‬علمن ٌة شاملة‪ ،‬و َت َش ُّي ٌؤ كام ٌل للمعرفة‪ ،‬وفر ٌض للنماذج‬ ‫المادية‪ .‬وعملية الانقطاع اكتسحت عا َلمنا الإسلامي أيض ًا‪ ،‬ولذا يمكن القول بأ َّن العلوم‬ ‫الإنسانية والطبيعية‪ ،‬التي ُتد َّرس في الجامعات في العا َلم الإسلامي‪ ،‬تصدر عن المقولات‬ ‫العلمانية الشاملة المتجاوزة للأخلاق وللإنسان‪ .‬ولن يتوافر الوعي الكامل بالقيم الكامنة‬ ‫(أو اللاقيم الكامنة) في مثل هذه العلوم إلا من خلال الإدراك العميق للأبعاد الكلية‬ ‫والنهائية الإسلامية‪(((\".‬‬ ‫إ َّن مسألة حضور القيم في برامج التعليم وفروع العلم هي مسألة لصيقة بالفكر‬ ‫التربوي الإسلامي المنشود‪ ،‬وهي مسألة اتجاهات نسعى إلى تعميقها في نفوس شباب‬ ‫الأُ َّمة؛ اتجاهات عقلية يتم َّثلونها‪ ،‬وقيم نفسية يتش َّربونها‪ ،‬وليست معرفة باردة في بنيتها‬ ‫ووسائلها يمكن أ ْن ُتستو َرد بلا رو ٍح‪ ،‬أو برو ِح َمن أنتجها‪ ،‬ف ُتك ِّرس التبعية والتخ ُّلف‪ .‬وإذا‬ ‫كانت فكرة من أفكار الإصلاح التربوي‪ ،‬فإ َّنها فكرة ذات قيمة خاصة‪ ،‬في بناء شخصيات‬ ‫متم ِّيزة في أبناء الأُ َّمة‪ .‬وكم نحتاج إلى أفكار تح ِّرك الأُ َّمة في اتجاهات التق ُّدم؛ أفكار يؤمن‬ ‫بها شباب الأُ َّمة بصورة تملأ عقولهم وقلوبهم‪ ،‬وتصبح رسالتهم في التغيير والتق ُّدم‪.‬‬ ‫وقد أصبح موضوع القيم وموقعها في التربية قضية تستأثر باهتمام مؤسسات‬ ‫المجتمع على المستويين‪ :‬المحلي والعالمي‪ ،‬وتتصل بالعمل التربوي في فلسفته‪ ،‬و ُأسسه‬ ‫النظرية‪ ،‬وممارساته العملية‪ ،‬وذلك بما هو ُملا َحظ من تغ ُّير كبير متواصل في منظومة القيم‬ ‫والسلوك القيمي والأخلاقي في مؤسسات التعليم‪ ،‬وفي المجتمع بصفة عامة‪ (((.‬فقد‬ ‫نشرت المجلة العالمية للبحث والتطوير المتق ِّدم بحث ًا بعنوان \"الشباب والقيم الأخلاقية‬ ‫في عا َلم متغ ِّير\"‪ ،‬كشف فيه الباحث كابل دف عن أ َّن مظاهر السلوك غير الأخلاقي وغير‬ ‫الاجتماعي عند الشباب عموم ًا وطلبة المدارس خصوص ًا تتزايد يومي ًا‪(((.‬‬ ‫((( المسيري‪ ،‬عبد الوهاب‪\" .‬في أهمية الدرس المعرفي\"‪ ،‬في‪ :‬نحو نظام معرفي إسلامي‪ ،‬تحرير‪ :‬فتحي حسن‬ ‫ملكاوي‪ ،‬ع ّمان‪ ،‬الأردن‪ :‬المعهد العالمي للفكر الإسلامي‪2000 ،‬م‪ ،‬ص‪.59‬‬ ‫((( َث َّمة دراسا ٌت كثيرة عن موقع القيم في البرامج التعليمية‪ ،‬والمرجعيات النظرية التي تستند إليها‪ ،‬وتقويم حضورها‬ ‫في برامج التعليم‪ .‬ومن هذه الدراسات التي َعرضت رؤي ًة فلسفي ًة لتعليم القيم‪:‬‬ ‫‪ -‬عباس‪ ،‬علاء صاحب عسكر‪ .‬نحو رؤية فلسفية تربوية للقيم‪ ،‬ع ّمان‪ :‬دار غيداء للنشر والتوزيع‪2010 ،‬م‪.‬‬ ‫‪(3) Dev, Kapil. \"Youth and moral values in a changing society\", International Journal of‬‬ ‫‪Advanced Research and Development, Issue 4; July 2017, pp. 164-167.‬‬ ‫‪400‬‬

‫وفي عام ‪2016‬م‪ ،‬دخل إلى معاجم اللغة الإنجليزية تعبي ٌر عن حالة جديدة بدأت‬ ‫تنتشر في عا َلم اليوم‪ ،‬هي حالة ما بعد الحقيقة ‪ ،((( Post Truth‬وقد اع ُتبِرت كلمة ذلك‬ ‫العام ‪ The word of the Year‬التي تع ِّبر عن ضياع الحقيقة بسبب انتشار الكذب‪ ،‬والتزوير‪،‬‬ ‫والخداع‪ ،‬والأخبار المفبركة؛ ما يستدعي ‪-‬في المقابل‪ -‬إعادة الاعتبار إلى القيم في‬ ‫الحياة السياسية والإعلامية والتعليمية‪ (((.‬وقد نشرت صحيفة الغارديان البريطانية في شهر‬ ‫نوفمبر من عام ‪2017‬م مقال ًة بعنوان \"نحن الآن في عا َلم ما بعد الحقيقة مع تآكل في الثقة‬ ‫والمساءلة‪ ،‬ولن ينتهي ذلك إلى خير‪(((\".‬‬ ‫ونشرت مجلة الشؤون الدولية التي يصدرها المعهد الملكي للشؤون الدولية البريطاني‬ ‫كاثام هاوس مقال ًة بعنوان \"العلاقات الدولية في عصر سياسة ما بعد الحقيقة\"‪ .‬وجاء في‬ ‫المقالة أ َّن الأحداث العالمية في السنة السابقة (الحديث عن عام ‪2016‬م) أتاحت نشر‬ ‫كتب وتقارير كثيرة تتح َّدث عن أ َّن السياسة المعاصرة قد تح َّولت من عصر العقل والحقائق‬ ‫إلى عصر الإثارة والكذب‪ .‬والمقالة هي مراجعة لعدد من الكتب التي صدرت مؤ َّخر ًا عن‬ ‫عصر ما بعد الحقيقة‪ ،‬وقد اقترح كاتب المقالة أ ْن ينصرف الاهتمام من توثيق الأمثلة الكثيرة‬ ‫عن الأخبار الكاذبة إلى دراسة القيم الكامنة وراء اتجاهات الإثارة‪ ،‬والعنصرية‪ ،‬والجنسية‪،‬‬ ‫ودور وسائل الإعلام وأساليب التوا ُصل في السياسة الدولية المعاصرة‪(((.‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬افتراضات الاهتمام بالقيم في علوم التربية‪:‬‬ ‫قيمة الإنسان تكمن فيما يتح ّلى به من قيم ومبادئ راسخة‪ ،‬تمنحه ثق ًة بنفسه‪ ،‬ووعي ًا‬ ‫بوظيفته في الحياة‪ ،‬وحرص ًا على العطاء الدائم؛ فإنسان القيم كالشجرة المباركة‪ ،‬أصلها‬ ‫((( \"مصطلح \"ما بعد الحقيقة ‪ \"Post Truth‬صفة تعني الحالة التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثير ًا في‬ ‫تشكيل الرأي العام من اللجوء إلى العواطف والمعتقدات الشخصية‪ ،‬وهو ما اعتبرته معاجم أكسفورد اللغوية‬ ‫كلمة عام ‪2016‬م‪ \".‬انظر‪:‬‬ ‫‪- https: //www.chronicle.com/specialreport/The-Post-Truth-Issue/84‬‬ ‫‪(2) The Chronicle of Higher Education, Special Report, January 11, 2017.‬‬ ‫‪(3) Enfield, Nick. \"We are in a post-turth world with eroding trust and accountability. It‬‬ ‫‪can’t end well\", The Gurdian, Thursday 16 Nov. 2017.‬‬ ‫‪(4) Crilley, Rhys. International Relations in the Age of ‘Post-Truth’ Politics, International‬‬ ‫‪Affairs, Volume 94, Issue 2, 1 March 2018, pp. 417–425.‬‬ ‫‪401‬‬

‫ثابت‪ ،‬وفرعها في السماء‪ ،‬تؤتي ُأ ُك َلها ك َّل حين‪ .‬ومن دون هذه القيم يصبح الإنسان متغ ِّير ًا‬ ‫متل ِّون ًا‪ ،‬لا رسوخ له على مبدأ ولا موقف‪ ،‬وتتلاعب به أنانيته وأهواؤه العابرة‪ ،‬وتقتلعه‬ ‫رياح الفتن الإعلامية‪ ،‬كأ َّنه ق َّش ٌة تح ِّركها الرياح في كل اتجاه‪ ،‬وعندئ ٍذ‪ ،‬لن تزيد قي َم ُته عن‬ ‫ق َّشة حتى لو م َلك القناطير!‬ ‫ولا تقتصر التربية على القيم وتع ُّلمها وتعليمها على الصغار؛ فأخطر ما يه ِّدد القيم‬ ‫في المجتمع هو ألا يتصف الكبار ِسنّ ًا والكبراء في المكانة بالقيم النبيلة‪ .‬والكبار هنا هم‬ ‫آباء و ُأ َّمهات‪ ،‬و ُمع ِّلمون و ُمع ِّلمات‪ ،‬وأساتذة ورؤساء في الجامعات‪ ،‬وأطباء ومهندسون‪،‬‬ ‫وسياسيون وإعلاميون‪ .‬ألا نسمع كل يوم عن اكتشاف قضايا فساد في ح ِّق أمثلة على‬ ‫هؤلاء جميع ًا؟! ألا نسمع كل يوم خبر ًا عن اكتشاف قصص فساد عند رئيس‪ ،‬أو وزير‪ ،‬أو‬ ‫مسؤول كبير في بلد من بلدان العا َلم؟!‬ ‫وتأتي قصص الفساد هذه عادة ضمن تصنيفات معينة‪ ،‬فيقال‪ :‬فسا ٌد مالي‪ ،‬أو‬ ‫إداري‪ ،‬أو أخلاقي‪ ...‬بيد أ َّن كل أشكال الفساد هي فساد أخلاقي؛ فسرقة المال‪ ،‬وتزوير‬ ‫وثائقه‪ ،‬وتل ِّقي ال ِّر َشا((( أخلا ٌق رذيلة‪ .‬وممارسة المسؤول الظلم والابتزاز في تعامله مع‬ ‫الموظفين‪ ،‬فيقيم علاقته بهم على أساس المحسوبية وتبادل المصالح الشخصية‪ ،‬ضارب ًا‬ ‫ُع ْرض الحائط بالكفاءة والأولوية والحقوق فسا ٌد أخلاقي‪ .‬وأصحاب المهن من أطباء‬ ‫ومهندسين ومقاولين عندما يمارسون الغ َّش في أعمالهم؛ فإ َّنه فسا ٌد أخلاقي‪ .‬وك ُّل أشكال‬ ‫الفساد ناتجة عن عدم التح ّلي بالقيم‪.‬‬ ‫وعندما نقول إ َّن الكبار في الأسرة ينبغي أ ْن يكونوا في مقام القدوة والأُسوة؛ ليقتفي‬ ‫الصغار أثرهم في التح ّلي بالقيم والأخلاق والفضائل‪ ،‬فإ َّنه يمكننا أ ْن نقول بالمنطق نفسه‬ ‫إ َّن المسؤول في الحكم يمكنه أ ْن يكون في مقام القدوة والأُسوة كذلك؛ ليقتفي أث َره‬ ‫((( ال ِّرشا جمع رشوة وهو ما يعطى لقضاء مصلحة أو ما يعطى لإحقاق باطل أو إبطال حق‪ .‬انظر‪:‬‬ ‫‪ -‬مجمع اللغة العربية‪ .‬المعجم الوسيط‪ ،‬استانبول‪ :‬دار الدعوة‪1989 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.347‬‬ ‫‪ -‬الفيروزآبادي‪ ،‬مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب (ت‪817‬ﻫ)‪ .‬القاموس المحيط‪ ،‬تحقيق‪ :‬مكتب تحقيق‬ ‫التراث في مؤسسة الرسالة‪ ،‬بإشراف‪ :‬محمد نعيم العرق ُسوسي‪ ،‬بيروت‪ :‬مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر‬ ‫والتوزيع‪ ،‬ط‪1426( ،8‬ﻫ‪2005/‬م)‪ ،‬ص‪.1288 :‬‬ ‫‪402‬‬

‫المواطنون في التح ّلي بالقيم‪ .‬والمسؤول في المؤسسة يمكنه أ ْن يكون في مقام القدوة‬ ‫والأُسوة؛ ليقتفي أث َره الموظفون في التح ّلي بالقيم‪ .‬ويستطيع كل فرد من الكبار أ ْن يتذ َّكر‬ ‫مواقف إيجابية مؤ ِّثرة‪ ،‬ر َّبما غ َّيرت مسيرة حياته إزاء بعض الأمور‪ ،‬بسبب سلوك أخلاقي‬ ‫فاضل رآه من وزير‪ ،‬أو طبيب‪ ،‬أو أستاذ في الجامعة‪ ،‬أو سائق سيارة في الطريق‪.‬‬ ‫لذلك‪ ،‬فإ َّن موضوع القيم يحتل مركز الأساس في الفكر التربوي الإسلامي‪ ،‬وهذا‬ ‫الموضوع وإ ْن كان مقصد ًا وهدف ًا من أهداف التربية‪ ،‬فإ َّنه ‪-‬بالإضافة إلى ذلك‪ -‬واح ٌد من‬ ‫تج ِّليات الفكر التربوي الإسلامي‪ ،‬ويستحق ‪-‬في تقديرنا‪ -‬أ ْن نوليه اهتمام ًا خاص ًا‪ ،‬للنظر‬ ‫في موقعه في النظام التربوي‪ ،‬في ضوء عدد من الافتراضات‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫القيم‪ ،‬والمثل العليا‪ ،‬والأخلاق‪ ،‬والفضائل‪ ،‬والاتجاهات النفسية‪ ،‬والجوانب‬ ‫الانفعالية والوجدانية‪ ،‬تتداخل فيما بينها إلى ح ٍّد كبير‪ (((.‬وسنجد واحد ًا من هذه المفاهيم‬ ‫أو أكثر حاضر ًا في أ ِّي حديث عن أهداف التربية في أ ِّي مرحلة‪ ،‬وأ ِّي بلد من بلدان العا َلم؛‬ ‫ما يؤ ِّكد أ َّنها تتصل بالفطرة الإنسانية التي َيلزم تزكيتها‪ ،‬وتعزيزها‪ ،‬وتع ُّلمها‪.‬‬ ‫قضايا القيم والأخلاق هي مح ِّددات وضوابط للسلوك البشري‪ ،‬ترتبط بالكرامة‬ ‫الإنسانية‪ ،‬وتم ِّيز النوع الإنساني عن غيره من المخلوقات‪ ،‬وتتصل بالحياة الفردية للإنسان‬ ‫من حيث وعيه بأهمية جوهره ال ُخ ُلقي الذي يتكامل مع كيانه ال َخ ْلقي‪ (((.‬وكذلك تتصل‬ ‫اتصالاً وثيق ًا بمتط َّلبات الاجتماع الإنساني والعيش المشترك‪.‬‬ ‫((( اختار بعض الباحثين الإشارة إلى هذا الحقل الدلالي بتعبير مح َّدد‪ ،‬يلتزم به ك ٌّل منهم في عنوان دراسته‬ ‫وتفاصيلها‪ ،‬مثل‪ :‬التربية القيمية‪ ،‬أو التربية الوجدانية‪ ،‬أو التربية الأخلاقية‪ .‬انظر ذلك في‪:‬‬ ‫‪ -‬ابن بوذنينة‪ ،‬عمر‪\" .‬التربية الوجدانية من منظور إسلامي مقارن\"‪( ،‬أطروحة دكتوراه‪ ،‬كلية أصول الدين‪،‬‬ ‫جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية‪ ،‬قسنطينة‪ /‬الجزائر‪2017 ،‬م)‪.‬‬ ‫‪ -‬كنعان‪ ،‬عباس صبحي‪\" .‬التربية الأخلاقية وبناء المنهج التعليمي في لبنان\"‪( ،‬أطروحة دكتوراه في التربية‪،‬‬ ‫الجامعة العالمية للعلوم‪2016 ،‬م)‪.‬‬ ‫((( في مسند أحمد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،40‬حديث رقم‪ )24392( :‬ص‪َ ،457‬ع ِن أم المؤمنين عائشة‪ ،‬قالت‪َ \" :‬كا َن‬ ‫َر ُسو َل الل ِه ﷺ َي ُقو ُل‪ :‬الل ُه َّم َأ ْح َسنْ َت َخ ْل ِقي‪َ ،‬ف َأ ْح ِس ْن ُخ ُل ِقي\"‪ .‬وهو في المسند أيض ًا‪ ،‬كتاب‪ :‬المكثرين من‬ ‫الصحابة‪ ،‬مسند‪ :‬عبدالله بن مسعود‪ .‬ج‪ ،6‬حديث رقم‪ )3823( :‬ص‪ .373‬وقد ص ّحح العلماء هذا الحديث‪،‬‬ ‫ولكنهم ضعفوا روايات متعددة له تتضمن أن يقول المسلم هذا النص عندما ينظر إلى صورته في المرآة‪.‬‬ ‫‪403‬‬

‫قضايا القيم تقع في القلب م ّما ش َّرعت له الأديان والفلسفات المختلفة منذ بدء الحياة‬ ‫البشرية‪ .‬و ِم ْن َث َّم‪ ،‬فإ َّن هذه القضايا لا ُتت َرك للقناعات الشخصية والتو ُّجهات الأيديولوجية‬ ‫للفرد‪ ،‬وهي ليست معايير يتم تحديدها والتقنين لها بالأساليب الديمقراطية؛ ليلتزم بها‬ ‫أفراد الجماعة‪ ،‬مع إبقاء هامش كبير للحريات الشخصية‪ .‬ولا عجب في تأكيدنا أ َّن في‬ ‫القيم والأخلاق م ْطلقا ٍت موضوعي ًة عامة ُيج ِمع عليها العقلاء من الناس؛ لخصائص فيها‬ ‫في ح ِّد ذاتها‪.‬‬ ‫الاهتمام بقضايا القيم في التعليم يتم بأحد اتجاهين؛ الأول‪ :‬الاتجاه السلبي الذي‬ ‫يقوم على معالجة المخالفات عند وقوعها‪ ،‬والثاني‪ :‬الاتجاه الإيجابي الذي يقوم على‬ ‫تعليم القيم بهدف منع وقوع المخالفات‪ .‬ونلاحظ أ َّن التشريعات التربوية في موضوع‬ ‫القيم تتض َّمن الاتجاهين مع ًا؛ ف َث َّمة نوعا ِن من هذه التشريعات؛ الأول يورد القيم ضمن‬ ‫الأهداف التربوية التي يجب أ ْن ت َّتجه التربية لتحقيقها‪ ،‬وهي غالب ًا نصوص إنشائية عامة‬ ‫تفتقد أساليب مناسبة للتقويم‪ .‬والنوع الثاني يورد الأنظمة والتعليمات الخاصة بالعقوبات‬ ‫والإجراءات التأديبية اللازمة لمعالجة ما يقع من مخالفات لهذه الأنظمة والتعليمات؛‬ ‫سواء من ال ُمع ِّلمين‪ ،‬أو الطلبة‪ .‬وهذه تأتي بنصوص إجرائية مح َّددة وواضحة‪ .‬وعلى أهمية‬ ‫هذين الاتجاهين من الاهتمام بالقيم‪ ،‬فإ َّن الاتجاه الإيجابي الذي ير ِّكز على التح ّلي بالقيم‬ ‫والالتزام بها هو الأساس الذي يجب أ ْن يتو َّجه إليه الجهد التربوي‪.‬‬ ‫القيم تع ِّبر عن مشاعر وجدانية انفعالية في نفس الفرد‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن القيمة‬ ‫تتح َّدد بمك ِّون معرفي يع ِّبر عن موضوع القيمة‪ ،‬وما عند الفرد من أفكار ومعلومات عن‬ ‫هذا الموضوع‪ .‬وفي الوقت نفسه تتج ّلى القيمة في مك ِّون سلوكي يع ِّبر عن فعل يقوم به‬ ‫الإنسان عن رضا و ُح ٍّب‪ ،‬أو لا يقوم به‪ ،‬تعبير ًا عن اتجاهه الإيجابي أو السلبي؛ فللقيمة‬ ‫ثلاثة مك ِّونات‪ ،‬هي‪ :‬مك ِّون انفعالي‪ ،‬ومك ِّون معرفي‪ ،‬ومك ِّون سلوكي‪.‬‬ ‫القيم والأخلاق ‪-‬في سياق هذا البحث‪ -‬لا تقتصر على ما كان معروف ًا من قضايا‬ ‫الصدق‪ ،‬والأمانة‪ ،‬والوفاء‪ ،‬وأمثالها من الفضائل العامة‪ ،‬التي تتع َّلق بسلوك الفرد مع نفسه‬ ‫ومع الآخرين‪ ،‬وإ َّنما تشمل ‪-‬بالإضافة إليها‪ -‬فئات من القيم الخاصة بالحياة المدنية؛ من‪:‬‬ ‫‪404‬‬

‫مسؤولية اجتماعية‪ ،‬واحترام للآخرين‪ ،‬وقيم الولاء والانتماء العامة في الدوائر المختلفة‬ ‫على مستوى المجتمع والأُ َّمة والإنسانية‪ .‬وتشمل كذلك القيم المهنية المتع ِّلقة بالوظائف‬ ‫والأعمال المتخ ِّصصة‪ ،‬وبالتعامل مع أشياء البيئة وحسن تنظيمها واستثمارها‪ ،‬والقيم‬ ‫العلمية \"الأكاديمية\" الخاصة بأصول البحث وأخلاقياته‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬ ‫ثالث ًا‪ :‬تعليم القيم في الجامعات‪:‬‬ ‫إ َّن الحديث عن القيم وما يتصل بها من أخلاق واتجاهات في المجال التربوي‪َ ،‬ي ِر ُد‬ ‫عادة في التعليم العام‪ ،‬ولا سيما في المراحل الأُولى من التعليم المدرسي‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ ّنا‬ ‫لا نعدم نشاطات معتبرة تهتم بالقيم في التعليم الجامعي‪.‬‬ ‫وفي هذا السياق‪ ،‬تجدر الإشارة إلى جمعية القيم في التعليم الجامعي ‪Society‬‬ ‫‪ for Values in Higher Education‬التي تعود جذور تأسيسها إلى عام ‪1923‬م‪ ،‬ولكنَّها‬ ‫تط َّورت لتأخذ شكلها واسمها الحالي عام ‪1975‬م‪ ،‬وعقدت مؤتمر ًا سنوي ًا ق َّدمت فيه‬ ‫البحوث والدراسات‪ ،‬ون َّظمت الدورات التدريبية وورش العمل في قضايا القيم في‬ ‫التعليم الجامعي‪ (((.‬ومن بين المحاور التي تهتم بها الجمعية موضوعات ذات صلة‬ ‫مباشرة بالقيم‪ ،‬مثل‪ :‬قاموس القيم في التعليم الجامعي‪ ،‬والثقافة المقارنة والدين‪ ،‬والثقافة‬ ‫الشعبية‪ ،‬والدين والعنف‪ ،‬ومستقبل الأخلاقية العامة‪ ،‬ودور القيم في تشكيل الممارسات‬ ‫التعليمية الجامعية‪ ،‬ونشاطات تع ُّلم القيم وتعليمها‪ ،‬وتقويم تع ُّلم القيم وتعليمها‪ .‬وقد‬ ‫ُع ِقد المؤتمر الخامس والتسعون في الم َّدة من ‪ 10‬إلى ‪ 14‬يوليو ‪2019‬م‪ ،‬بجامعة لويولا‬ ‫في شيكاغو‪ ،‬وكان موضوع المؤتمر \"تضارب الملكات‪ :‬الندرة والمنافسة في التعليم‬ ‫العالي\"‪ .‬وكانت الجمعية قد ن َّظمت عام ‪2018‬م‪ ،‬بالتعا ُون مع جامعة إنديانا‪ ،‬ورشة عمل‬ ‫عن الشعبوية الجديدة ‪ New Populism‬وسياسات التفرقة والتمييز‪.‬‬ ‫وتصدر هذه الجمعية مجلة فصلية متعددة التخ ُّصصات‪ ،‬تحمل عنوان ‪،Soundings‬‬ ‫وتنشر مقالا ٍت وبحوث ًا عن موضوعات تتع َّلق بجميع جوانب القيم الإنسانية‪ ،‬بما في ذلك‬ ‫القيم الجمالية‪ ،‬والأخلاقية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬والاقتصادية‪ ،‬والعلمية‪ ،‬والدينية‪ .‬وتصدر كذلك‬ ‫‪(1) https: //www.svhe.org.‬‬ ‫‪405‬‬

‫مجلة شهرية رقمية باسم \"منتدى القيم في التعليم العالي\"‪ ،‬وهي أيض ًا مجلة مح َّكمة‪ ،‬ولديها‬ ‫منتدى مفتوح لمناقشة قضايا القيم التي تؤ ِّثر في التعليم العالي بالولايات المتحدة الأمريكية‪.‬‬ ‫ولك َّن قضية القيم في التعليم العالي ليست قضية محلية مرتبطة بمجتمع أو خاصة‬ ‫بممارسات دينية‪ ،‬وإ َّنما هي قضية عالمية‪ .‬ولذلك أصدرت منظمة اليونسكو عام ‪1998‬م‬ ‫وثيق ًة خاص ًة بالموضوع‪ ،‬تحمل عنوان \"الإعلان العالمي حول التعليم العالي للقرن الحادي‬ ‫والعشرين‪ :‬رؤية وتنفيذ\"‪ ،‬وتؤ ِّكد حاجة التعليم العالي إلى تن ُّوع واسع ووعي كبير بالأهمية‬ ‫الحيوية للتط ُّور الاجتماعي‪ /‬الثقافي‪ ،‬والنمو الاقتصادي‪ ،‬وبناء مستقبل الأجيال القادمة‬ ‫ال ُمس َّلحة بمهارات ومعارف و ُمثل عديدة جديدة‪ .‬وقد خ ُلصت الوثيقة إلى أ َّن المجتمعات‬ ‫المعاصرة في العا َلم تم ُّر بأزمة عميقة في مجال القيم (الصفحة الثانية)؛ لذا أشارت في‬ ‫عدد من موادها إلى ضرورة تبنّي قيم خاصة للتعليم العالي (المادة الأُولى)‪ ،‬وتطوير أدوار‬ ‫المسؤولية الأخلاقية (المادة الثانية)‪ ،‬وتحديد معايير أخلاقية (المادة السادسة) وضرورة‬ ‫أخذ القيم الثقافية الوطنية بالاعتبار (المادة الحادية عشرة)‪ ...‬وهكذا‪((( .‬‬ ‫وتأتي إشارتنا إلى مسألة القيم في التعليم الجامعي‪ ،‬من أ َّن كتابنا هذا يستهدف‬ ‫بالدرجة الأُولى أساتذة الجامعات‪ ،‬وأ َّن معظم َمن يعمل في التعليم المدرسي يكون‬ ‫قد تل ّقى شيئ ًا من إعداده في الجامعات‪ .‬وقد وجدنا أ َّن الاتحاد الدولي للجامعات‬ ‫‪ ،International Association of Universities‬وهو شريك رسمي مع اليونسكو‪ ،‬يهتم‬ ‫بموضوع القيم بصفة عامة‪ ،‬وبنوع من القيم الخاصة بالجامعات بوجه خاص‪ .‬ولذلك‬ ‫نجد الاتحاد المذكور قد ن َّص في تعريفه برسالته على سعيه لدعم القيم الأكاديمية‬ ‫الجامعية‪ ،‬مثل‪ :‬الحرية الأكاديمية‪ ،‬واستقلال الجامعات‪ ،‬وحق المعرفة للجميع‪،‬‬ ‫واحترام الاختلاف في الرأي‪ ،‬وواجب الجامعات حيال تطوير الفكر الناقد في البحث‬ ‫عن الحقيقة‪ .‬ون َّص الاتحاد أيض ًا على دعم القيم الأخلاقية فيما يخت ُّص بمسؤولية‬ ‫الجامعات نحو المجتمع‪ ،‬بوصفها مؤسسات اجتماعية‪ ،‬وبخاصة فيما يتع َّلق بتوجيه‬ ‫التعليم والبحث لخدمة المجتمعات‪ ،‬وتطوير مبادئ الحرية والعدل والتنمية‪ ،‬إضاف ًة‬ ‫‪(1) UNESCO. World Declaration on Higher Education for the Twenty-First Century: Vision‬‬ ‫‪and Action. Paris: UNESCO, 1998.‬‬ ‫انظر تحديد ًا الصفحات‪.14 ،10-9 ،5-1 :‬‬ ‫‪406‬‬

‫إلى صون الكرامة الإنسانية‪ ،‬والتضامن بين البشر‪ (((.‬وين ِّظم الاتحاد كل سن ٍة مؤتمر ًا عن‬ ‫قضية عامة لا تخلو من محاور تخت ُّص بالأبعاد القيمية للقضية‪ ،‬وتكون القيم في بعض‬ ‫المؤتمرات هي قضية المؤتمر بكامله‪.‬‬ ‫ومن مؤسسات الاهتمام العالمي‪ ،‬شبكة أخلاقيات عالمية ‪ ،Globethics.net‬ومق ُّرها‬ ‫في جنيف‪ ،‬ولها مجلس دولي من شخصيات بارزة من مختلف أنحاء العا َلم‪ .‬وتو ِّفر الشبكة‬ ‫من َّصة إلكترونية للتفكير والممارسات الأخلاقية‪ (((،‬وتمارس نشاطات متن ِّوعة في مجال‬ ‫البحث واكتساب المعرفة في الأخلاق‪ .‬وهدفها المعلن على موقعها الإلكتروني هو‬ ‫ضمان تمكين الناس في جميع مناطق العا َلم من التفكير والتصرف في القضايا الأخلاقية‬ ‫من أجل ضمان الوصول إلى موارد المعرفة في الأخلاقيات التطبيقية‪ .‬وهي تو ِّفر مكتبة‬ ‫رقمية عالمية رائدة في مجالات القيم والأخلاق‪ ،‬تتيح للأفراد التسجيل المجاني فيها‬ ‫للوصول إلى النصوص الكاملة للمجلات‪ ،‬والموسوعات‪ ،‬والكتب الإلكترونية‪ ،‬وغيرها‬ ‫من الموارد في المكتبة‪.‬‬ ‫لقد أصبح موضوع القيم والخصائص الانفعالية والوجدانية موضوع ًا لكثير من‬ ‫الدراسات التي تتناول الموضوع من زوايا مختلفة‪ :‬فلسفية‪ ،‬ونفسية‪ ،‬وتربوية‪ ،‬واجتماعية‪،‬‬ ‫وسياسية‪ ،‬وإدارية‪ ،‬وغيرها‪ .‬وقد دخل في فهم موضوع القيم وموقعه في برامج التعليم‬ ‫خل ٌط كبير ساهم في التشويش على أ َّية مرجعية تفيد في تص ُّوره‪ ،‬والحكم عليه‪ ،‬والتعامل‬ ‫معه‪ .‬ف ِمن قائل‪ :‬إ َّن القيم والأخلاق قضايا ُعرفية نسبية‪ ،‬تتغ َّير وفق ما يطرأ في حياة الناس‬ ‫من تغ ُّيرات ومستجدات‪ .‬و ِمن قائل‪ :‬إ َّن القيم والأخلاق ليس لها صلة بالدين؛ إذ قد نجد‬ ‫ما ُي َع ُّد من الفضائل الأخلاقية الراقية عند َمن لا دين لهم‪ .‬و ِمن قائل‪ :‬إ َّن التق ُّدم صفة كلية؛‬ ‫فالمتق ِّدم في الق َّوة والعلم والحضارة صاحب قيم تستحق التقدير‪ ،‬وله موقع القدوة‪.‬‬ ‫فقيم المتق ِّدمين هي الأَ ْولى بالتبنّي والتم ُّثل‪ .‬و ِمن قائل‪ :‬إ َّن العا َلم وصل إلى درجة من‬ ‫التوا ُصل والتكا ُمل ما تجاوز بها القيم الخاصة بالمجتمعات المحلية؛ فالقيم المعتبرة هي‬ ‫القيم العالمية الخاصة بالسلام‪ ،‬والتعايش‪ ،‬والمساواة التامة‪ ،‬والحريات العامة‪ ،‬وحقوق‬ ‫الإنسان؛ طفل ًا‪ ،‬ورجل ًا‪ ،‬وامرأ ًة‪ ،‬إلى غير ذلك من المقولات‪.‬‬ ‫‪(1) htttp: //www.unesco.org/iau/iau-mission.html.‬‬ ‫‪(2) www.globethics.net.‬‬ ‫‪407‬‬

‫ورافق ذلك سرعة انتشار هذه الأفكار وأمثالها في ساحة العا َلم المفتوحة؛ لما ي َّسر ْت ُه‬ ‫أساليب التوا ُصل والاتصال الحديثة‪ .‬ولك َّن المسألة لم تقف عند الأفكار وانتشارها؛ فقد‬ ‫رافق ذلك أيض ًا تزايد ملحوظ لحالات القلق والإحباط والبؤس من جهة‪ ،‬وحالات التط ُّرف‬ ‫والعدوان والجريمة بأشكالها من جهة ُأخرى‪ .‬وأصبحت قيم الحياة الفاضلة‪ ،‬ومعايير‬ ‫السلوك الأخلاقي النبيل‪ ،‬ومفاهيم \"الحق\" و\"العدل\" و\"الخير\" تغيب عن الممارسات‬ ‫السياسية والاقتصادية والاجتماعية‪ ،‬على المستويات العلمية والإقليمية والمحلية‪ ،‬فضل ًا‬ ‫عن إشعال الحروب ب ُحجج كاذبة‪ ،‬وإبادة مجتمعات بشرية كاملة بسبب معتقداتها‪ ،‬وانتشار‬ ‫ظاهرة ما بعد الحقيقة ‪ Post-Truth‬المشار إليها في مكان آخر من هذا الفصل‪(((.‬‬ ‫فقد نشرت مجلة وقائع التعليم العالي ‪ Chronicle of Higher Education‬في عددها‬ ‫الصادر بتاريخ ‪ 15‬يناير (كانون الثاني) ‪2017‬م‪ ،‬ملف ًا من ست مقالات بعنوان \"قضية‬ ‫ما بعد الحقيقة\"‪ ،‬وقد جاءت عناوينها كما يأتي‪\" :‬عندما تصبح الحقيقة سلعة\"‪ ،‬و\" ُأ َّمة‬ ‫لا تعرف شيئ ًا\"‪ ،‬و\"حرب الأكاذيب\"‪ ،‬و\"مؤامرة ضد أمريكا\"‪ ،‬و\"الفيسبوك والكذب\"‪،‬‬ ‫و\"جوجل وجمهور مض َّلل\"‪.‬‬ ‫وقد تح َّدثت مقالات الملف عن ظواهر جديدة في التعليم الجامعي الأمريكي‪،‬‬ ‫مثل‪\" :‬تدليل\" الطلبة والتعامل معهم بوصفهم زبائن‪ ،‬وانتشار الجامعات المز َّيفة‪ ،‬وتض ُّخم‬ ‫علامات الطلبة‪ ،‬وانعكاس طبيعة العلاقة بين ال ُمع ِّلم والطالب‪ ،‬وغير ذلك م ّما أصبح‬ ‫ظواهر أكاديمية مو َّثقة تمام ًا في نظر أحد ُك ّتاب المقالات‪ .‬ومع هذا‪ ،‬فإ َّن الكاتب َع َّد ذلك‬ ‫كله مسائل جزئية‪ ،‬بالمقارنة مع مسألة كلية أكبر منها بكثير‪ ،‬هي ظهور خلل في مفهوم‬ ‫\"المواطنة\"‪ ،‬حين نجد مواطنين يفشل النظام التعليمي في إعدادهم لأداء واجباتهم في‬ ‫الحياة العامة‪\" ،‬ويغرقون في الفوضى نتيجة اللامبالاة والانشغال الكسول في مصادر‬ ‫المعرفة المتاحة في أحاديث الإذاعة‪ ،‬وشبكات الإنترنت‪ .‬وهناك ما هو أسوأ من ذلك‬ ‫يتم َّثل في عزوف المواطنين عن المشاركة في السياسة بوصفها واجب ًا مدني ًا‪ ،‬وينخرطون‬ ‫بدلاً من ذلك في صراع لا هوادة فيه على وسائل التوا ُصل الاجتماعي‪ ،‬فيهاجمون كل‬ ‫شيء بينما يؤمنون بأ ِّي شيء‪\"(((.‬‬ ‫((( انظر الهامش رقم (‪ ،)١‬ص‪ ٤٠١‬من هذا الكتاب‪.‬‬ ‫‪(2) https: //www.chronicle.com/specialreport/The-Post-Truth-Issue/84‬‬ ‫‪408‬‬

‫وجاء في إحدى مقالات الملف ما ن ُّصه‪\" :‬فشلت الجامعات ليس فقط في رسالتها‬ ‫في تعليم الشباب من الذكور والإناث‪ ،‬وإ َّنما في تقديم أسس المعرفة الحضارية التي تقوم‬ ‫عليها الممارسة المدنية في عملية انتخاب بنا ًء على ما َيلزم من معرفة‪ ،‬وهذه الصور من‬ ‫الفشل ته ِّدد بقاء الديمقراطية الأمريكية ومستقبلها‪(((\".‬‬ ‫إ َّن هذا الاستطراد في الحديث ع ّما نشرته هذه المجلة عن فشل التعليم العالي في‬ ‫أمريكا‪ ،‬قد لا ُيظ ِهر الحقيقة الكاملة عن واقع التعليم الجامعي الأمريكي‪ ،‬وما قد يكون فيه‬ ‫من خبرات وقيم إيجابية أو سلبية‪ ،‬ولكنَّه مع ذلك مؤ ِّش ٌر مهم يدفعنا إلى الوعي بما نجده‬ ‫من أوجه الخلل القيمي في جامعاتنا في العا َلم العربي والإسلامي‪ ،‬والانتباه الشديد عندما‬ ‫نتط َّلع إلى الاستفادة من تجارب التعليم في بلاد ُأخرى‪.‬‬ ‫وقد صدرت كتب مرجعية ومنهجية كثيرة في مجال القيم في التعليم الجامعي‪ ،‬لا‬ ‫يتسع المقام هنا لاستقصائها‪ .‬ونكتفي بذكر بعض الأمثلة على الكتب التي صدرت حديث ًا؛‬ ‫إذ يتح َّدث كتا ٌب عن تعليم القيم في الجامعات‪ ،‬ويقول المؤ ِّلفان في مقدمته‪\" :‬إ َّن الهدف‬ ‫من الكتاب هو دعوة الجامعات لتح ُّمل مسؤوليتها في التعامل مع المشكلات المعقدة التي‬ ‫تواجه العا َلم اليوم؛ لأ َّن خريجي هذه الجامعات مسؤولون ‪-‬جزئي ًا على الأقل‪ -‬عن هذه‬ ‫المشكلات‪ ،‬مع العلم بأ َّن المجتمع يستثمر موارد كثيرة جد ًا في التعليم الجامعي على أمل‬ ‫الوصول إلى مستقبل أفضل‪ .‬وإذا كان قطاع التعليم الجامعي يرغب في القيام بمهمته في‬ ‫تشكيل هذا المستقبل‪ ،‬فعليه أ ْن يغ ِّير من الطريقة التي يف ِّكر فيها في أهدافه‪ ،‬وفي مواجهة‬ ‫مسؤولياته أمام المجتمع‪ .‬وهذا التغيير المطلوب هو سؤال القيم قبل كل شيء‪ (((\".‬ومع‬ ‫ذلك‪ ،‬فإ َّن المؤ ِّلف ْي ِن يعترفان بصعوبة تعليم القيم‪ ،‬واضطرار الأستاذ الجامعي في كثير من‬ ‫الأحيان إلى تهميش القيم؛ لصعوبة الدفاع عن قيمه الخاصة‪ ،‬أو قيم مجتمعه‪.‬‬ ‫وفي كتاب آخر‪ ،‬يرى مؤ ِّلفاه أ َّن القيم والفضائل التي يمكن أ ْن تسود الحياة الجامعية‬ ‫في التعليم والممارسة‪ ،‬تؤ ِّثر تأثير ًا كبير ًا في بناء قيادات المستقبل‪ .‬ولكن‪ ،‬في الحقيقة‪ ،‬إذا‬ ‫تجاوزنا الأمثلة التي تتف َّوق فيها بعض المؤسسات التعليمية التي تقع في دائرة الضوء‪ ،‬فإ َّننا‬ ‫نجد انتهاكا ٍت مقلق ًة للممارسات الجيدة‪ ،‬وتزايد ًا مضطرد ًا في السلوك غير الأخلاقي‪.‬‬ ‫‪(1) Ibid.‬‬ ‫‪(2) Harland, Tony & Pichering, Neil. Values in Higher Education Teaching New York:‬‬ ‫‪Routledge, 2011.‬‬ ‫‪409‬‬

‫ولذلك يحاول الكتاب تقديم توضيحات وتوصيات للتخفيف من الأزمة الأخلاقية‬ ‫الموجودة في جميع أنحاء العا َلم‪ ،‬عن طريق التعليم المناسب في مجال الأخلاقيات‪ ،‬في‬ ‫مؤسسات التعليم العالي‪(((.‬‬ ‫ونحن لا نعدم وجود مواد متخ ِّصصة في تعليم القيم باللغة العربية‪ُ ،‬نع ِّلمها لطلبة‬ ‫الجامعات‪ ،‬ولا سيما ل َمن ُي َع ّدون للتعليم العام‪(((.‬‬ ‫رابع ًا‪ :‬التربية على القيم‪:‬‬ ‫تحتل تربية القيم موقع ًا مركزي ًا في جهود الإصلاح التربوي في المرجعية الإسلامية‪.‬‬ ‫ويجدر بنا أ ْن نلاحظ الصفة التكاملية والتبادلية بين التربية والقيم؛ فالتربية هي وسيلة لتنمية‬ ‫القيم‪ ،‬والقيم هي ُمو ِّجهات للتربية‪ .‬إذن‪ ،‬فالتربية قيم‪ ،‬وفي التربية قيم تربوية‪ ،‬والتربية‬ ‫سلوك قيمي‪.‬‬ ‫إ َّن تربية القيم‪ ،‬أو التربية على القيم‪ ،‬أو التربية القيمية‪ ،‬هي تربي ٌة أخلاقية‪ ،‬وتأ ُّد ٌب‬ ‫بآداب وفضائل نفسية وسلوكية؛ من‪ :‬صدق‪ ،‬ووفاء‪ ،‬وإيثار‪ ،‬وغير ذلك من الفضائل‬ ‫والشمائل‪ .‬وإذا كان التعليم جزء ًا من التربية‪ ،‬فإ َّن إعداد ال ُمتع ِّلمين على الآداب والأخلاق‬ ‫والشمائل والقيم يسبق التعليم كما يرى الإمام أبو حامد الغزالي‪ (((.‬ولك َّن هذه التربية‬ ‫تتسع لتشمل قيم ًا في الاجتماع البشري؛ فطري ًة‪ ،‬وتعاقدي ًة‪ .‬فحياة البشر إ َّنما تقوم على‬ ‫علاقات اجتماعية تفرض حقوق ًا وواجبا ٍت‪ ،‬وتبني ُن ُظم ًا‪ ،‬وتضع عقود ًا‪ ،‬وتق ِّرر التزامات‪،‬‬ ‫تقوم كلها على الشعور بالمسؤولية والرعاية والتكافل‪ .‬وتستمر التربية القيمية في التو ُّسع‬ ‫لتحقيق قيم المسؤولية عن الحياة‪ ،‬والاستخلاف في الأرض وعمرانها المادي والمعنوي‪،‬‬ ‫وما َيلزم ذلك من قيم الاجتماع البشري‪.‬‬ ‫‪(1) Singh, Divya & Stuckerlberger,Christoph (editors). Ethics in Higher Education:‬‬ ‫‪Values-driven Leaders for the Future. Geneva, Switzerland: Globethics. 2017.‬‬ ‫((( الجلاد‪ ،‬ماجد‪ .‬تعلم‪ ‬القيم‪ ‬وتعليمها‪ :‬تصور نظري وتطبيقي لطرائق واستراتيجيات‪ ‬تدريس القيم‪ ،‬ع ّمان‪ :‬دار‬ ‫المسيرة‪ ،‬ط‪1430( ،3‬ﻫ‪2010/‬م)‪.‬‬ ‫((( قال أبو حامد الغزالي عن عمل المع ِّلم‪\" :‬ث َّم يبدأ بالتأديب‪ ،‬ث َّم بالتعليم‪ ،‬فإ َّن التعليم لا يكون إلا بعد التأديب؛‬ ‫لأ َّن َمن ليس له أد ٌب‪ ،‬ليس له ِع ْلم‪ \".‬انظر‪:‬‬ ‫‪ -‬الغزالي‪ ،‬أبو حامد محمد بن محمد (توفي‪505:‬ﻫ)‪ .‬منهاج المتعلم‪ ،‬تحقيق وتعليق‪ :‬طه ياسين‪ ،‬دمشق‪ :‬دار‬ ‫طيبة ودار النهضة‪ ،‬ط‪2007 ،1‬م‪ ،‬ص‪.80‬‬ ‫‪410‬‬

‫و ُين َظر إلى تعليم القيم في برامج ومناهج التعليم العام من خلال ثلاثة مداخل‪:‬‬ ‫‪ .١‬النظر إلى المهمة التربوية للمدرسة على أ َّنها تعليم المواد الدراسية المختلفة‬ ‫المق َّررة في المنهاج الرسمي \"ال ُمع َلن\"‪ ،‬مع الوعي بما ُيس ّمى المنهاج الخفي‬ ‫‪ Hidden Curriculum‬الذي يكون أحيان ًا مقصود ًا في الممارسات التعليمية‬ ‫والإدارية للمدرسة‪ ،‬مثل‪ :‬إشراك الطلبة في مناقشة بعض المسائل لاتخاذ القرار‬ ‫المناسب‪ ،‬وتنمية روح التعا ُون والشعور بالمسؤولية المشتركة في الإنجاز‪،‬‬ ‫وإشاعة أجواء التقدير المتبادل واحترام الرأي الآخر‪ ،‬والتعامل التعليمي مع‬ ‫الأخطاء‪ .‬وقد تتم مثل هذه الممارسات بصورة عفوية اعتاد عليها المجتمع‬ ‫المدرسي‪ ،‬ويتم التأ ُّثر الإيجابي بها بصورة عفوية كذلك‪.‬‬ ‫‪ .٢‬الربط المباشر بين المادة الدراسية‪ ،‬وما قد تتض َّمنه من قيم‪ .‬ولا تخلو أ ُّي مادة‬ ‫دراسية من مواقف َي ْح ُسن فيها هذا الربط المباشر؛ فدراسة التاريخ تشير إلى‬ ‫سبب انهيار بعض النُّ ُظم نتيجة ممارسة الظلم والجشع في امتلاك الق َّوة والمال‬ ‫بالقهر والاستبداد‪ ،‬و ِم ْن َث َّم تأتي الحاجة إلى قيم العدل‪ ،‬والحرية‪ ،‬والمساواة‪،‬‬ ‫والشورى‪ ،‬والمشاركة؛ لتعزيز نظام المجتمع وتماسكه من الداخل ومقاومته‬ ‫للعدوان الخارجي‪ .‬وفي تدريس العلوم الطبيعية ُفر ٌص كثير ٌة لإثارة الفضول‬ ‫العلمي‪ ،‬وتعزيز روح التساؤل والبحث‪ ،‬ود َّقة الملاحظة‪ ،‬والتوظيف الرشيد‬ ‫للموارد‪ ،‬وحفظ البيئة الطبيعية والحيوية‪ ،‬وغير ذلك من قيم تتصل بالتف ُّكر في‬ ‫أشياء العا َلم الطبيعي وأحداثه وظواهره‪ ،‬وتكوين اتجاهات إيجابية نحو البحث‬ ‫العلمي‪ ،‬وتقدير جهود العلماء‪(((.‬‬ ‫‪ .٣‬تعليم القيم عن طريق مواد دراسية خاصة بها‪ ،‬وتحديد أوقات مح َّددة في البرنامج‬ ‫الدراسي لها‪ .‬وقد تكون هذه المواد مبرمجة على مستوى الصف‪ ،‬أو الفصل‬ ‫((( َث َّمة جهو ٌد تربوية ُمق َّدرة تخت ُّص بإدماج القيم في البرامج التعليمية المدرسية‪ .‬انظر في ذلك الخبرات‬ ‫والمقترحات والبرامج التي تشير إليها كتب‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫‪ -‬الصمدي‪ ،‬خالد‪ .‬إدماج القيم الإسلامية في المناهج الدراسية‪ ،‬الرباط‪ :‬المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم‬ ‫والثقافة (الإيسسكو)‪2003 ،‬م‪.‬‬ ‫‪ -‬الصمدي‪ ،‬خالد‪ .‬القيم التربوية في المنظومة التربوية‪ :‬دراسة للقيم الإسلامية وآليات تعزيزها‪ ،‬الرباط‪:‬‬ ‫المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسسكو)‪ ،‬ط‪2008 ،1‬م‪.‬‬ ‫‪411‬‬

‫الدراسي‪ ،‬أو على مستوى البيئة المدرسية بكاملها‪ .‬وقد تكون مسائل ُمو َّزعة زمني ًا‬ ‫على مستوى الأسبوع‪ ،‬أو الشهر‪ ،‬أو السنة‪ .‬ويمكن تضمين هذا البرنامج الأبعاد‬ ‫القيمية والأخلاقية لقضايا سياسية‪ ،‬أو اقتصادية‪ ،‬أو اجتماعية‪ ،‬تع ِّبر عن حضور‬ ‫التعليم المدرسي في الواقع الاجتماعي المحلي والدولي‪ .‬ويكون تنظيم هذه‬ ‫المسائل في مشروعات مح َّددة‪ ،‬تشترك في نظرتها العقلانية للموضوع‪ ،‬وقدرتها‬ ‫على تحليل المعطيات وإصدار الأحكام الأخلاقية مع الممارسة والسلوك العملي‬ ‫الذي ينتهي بنتائج ذات صلة مباشرة بالقيم والاتجاهات المح َّددة لكل برنامج‪.‬‬ ‫والتربية على القيم يمكن أ ْن تتم في أ ِّي مؤسسة من المؤسسات التي تؤدي دور ًا تربوي ًا؛‬ ‫بما في ذلك‪ :‬الأسرة‪ ،‬والمدرسة‪ ،‬ووسائل الإعلام‪ ،‬ومؤسسات المجتمع الدينية والثقافية‬ ‫والرياضية‪ ،‬من دون أ ْن ننسى مسؤولية الفرد نفسه عن نفسه كلما امتلك قدر ًا من الوعي‬ ‫بضرورة السلوك القيمي وأهميته في تشكيل شخصيته ومكانته في المجتمع والحياة‪.‬‬ ‫وعندما نتح َّدث عن وظيفة الأسرة في التربية على القيم‪ ،‬فإ َّننا نأخذ بالحسبان أ َّنه لا‬ ‫معنى للقيم إلا إذا كانت صفا ٍت متج ِّسد ًة في مشاعر الناس وسلوكهم وأعمالهم‪ .‬وفي‬ ‫المجتمع البشري أساليب تنشئة تعتمد أساس ًا على تقليد الصغير للكبير‪ ،‬وأحيان ًا يكون‬ ‫التقليد بطريقة عفوية‪ ،‬فينشأ الأطفال ‪-‬مثل ًا‪ -‬على القيم وأخلاق التعامل التي يلاحظونها‬ ‫ويعيشونها في ج ِّو الأسرة‪ .‬وإذا حاول الطفل أ ْن يسلك سلوك ًا معين ًا يتنافى مع القيم السائدة‬ ‫في حياة الأسرة‪ ،‬فالمعتاد والطبيعي أ ْن يتم تنبيهه وتوجيهه‪ .‬و َث َّمة مواق ُف في الأسرة ُيل ِّقن‬ ‫فيها الأبوان الأطفال قيم ًا معين ًة‪ ،‬بوصف هذه القيم خصائص وصفات لأفراد العائلة‪ ،‬أو‬ ‫لثقافة المجتمع‪ ،‬وهي في الأساس خصائص وفضائل بشرية نبيلة‪ .‬ولا شك في أ َّن تجسيد‬ ‫القيم عملي ًا في واقع الأسرة النواة‪ ،‬والأسرة الممتدة‪ ،‬هو الوسيلة الفطرية لتش ُّرب القيم‪،‬‬ ‫والتط ُّبع عليها‪.‬‬ ‫والأسرة هي الحصن الأخير لقيم المجتمع وهويته وانتمائه‪ ،‬وحين نتذ َّكر الهجوم‬ ‫الكاسح في الثقافة العالمية على مؤسسة الأسرة‪ ،‬فما الذي سيبقى؟ و َمن الذي يستطيع أ ْن‬ ‫يع ِّوض ما تقوم به الأسرة؟‬ ‫‪412‬‬

‫والتعليم النظامي في المدرسة مسؤول عن ترشيد التربية الأسرية على القيم‪،‬‬ ‫وتعزيزها‪ ،‬واستكمالها‪ .‬ولك َّن القيم هي روح العمل التربوي‪ ،‬والأساس الذي ُتبنى‬ ‫عليه البرامج والمناهج والأهداف التربوية؛ لأ َّن هدف التربية هو الإنسان‪ ،‬والقيم هي‬ ‫الصفة الأساسية للإنسان الذي تعمل التربية على إخراجه‪ .‬فالقيم ليست مج َّرد مك ِّون‬ ‫من مك ِّونات الأهداف التربوية‪ ،‬وإ َّنما هي الإطار الذي يعطي الأهدا َف الأُخرى قيم َتها‬ ‫وأهمي َتها وفاعلي َتها‪.‬‬ ‫وتعليم القيم أو التربية على القيم في المدرسة يتم كذلك بالتط ُّبع على القيم التي‬ ‫تجعلها المدرسة ثقافة نظرية وممارسة عملية‪ ،‬يشترك فيها كل الحاضرين في المدرسة‪.‬‬ ‫ومهما استخدمت المدرسة من أساليب لتضمين القيم في برامج التعليم‪ ،‬فإ َّنها لن تستغني‬ ‫عن أمرين أساسيين؛ الأول‪ :‬وجود القدوة والأُسوة العملية التي تتم َّثل في سلوك ال ُمع ِّلم‪،‬‬ ‫فيما يقول ويعمل‪ .‬والثاني‪ :‬سيادة ثقافة مدرسية في العمل المدرسي‪ ،‬تتج ّلى فيها القيم‬ ‫الأخلاقية والاجتماعية والمهنية‪ ،‬في البيئة المادية والعلاقات الشخصية والاجتماعية‪،‬‬ ‫وطرق التعامل بين جميع َمن في المدرسة ومحيطها الإداري والاجتماعي‪ .‬و ُي َع ُّد التزا ُم‬ ‫مدير المدرسة بسيادة منظومة القيم والثقافة المدرسية القائمة على هذه القي ِم العام َل المهم‬ ‫في ضبط التزام مجتمع المدرسة‪ ،‬وتم ُّثلها بهذه القيم‪.‬‬ ‫وقد ظهرت دعوات متزايدة في السنوات الأخيرة‪ ،‬صدرت عن تربويين وحكومات‬ ‫ومجتمعات محلية‪ ،‬إلى ضرورة تعليم القيم في المدارس العامة بالولايات المتحدة‬ ‫الأمريكية؛ ما قاد إلى تطوير برامج لتربية القيم‪ ،‬أو التربية على القيم‪ .‬وقد أشارت نتائج‬ ‫تقويم بعض هذه البرامج إلى أ َّن تربية القيم لا ُب َّد أ ْن تكون جزء ًا أساسي ًا من الحياة المدرسية‬ ‫الأمريكية‪ .‬وقد َتب َّين أ َّن النظريات الطبيعية والاجتماعية لا تقود إلى الالتزام الأخلاقي الكافي‬ ‫لإقناع البشر بإعطاء المصال ِح العام ِة الأولوي َة‪ ،‬والتخفيف من التمركز حول الذات الطبيعية‪،‬‬ ‫وقد و َّلد ذلك مشكل ًة أساسي ًة فيما يخت ُّص بتعليم القيم في المدارس‪ ،‬هي غياب أ ِّي أساس‬ ‫لتحقيق المصداقية في هذه البرامج‪ .‬ولذلك تو َّصلت الدراسة المشار إليها إلى أ َّن الأساس‬ ‫المناسب لتدريس القيم هو الأساس الإيماني الذي يقوم على المرجعية الدينية الإلهية‪(((.‬‬ ‫‪(1) Etherington, Matthew. Values Education: Why The Teaching Of Values In Schools Is‬‬ ‫‪Necessary, But Not Sufficient, Journal Of Research On Christian Education, 2013, 22:‬‬ ‫‪2, pp. 189-210.‬‬ ‫‪413‬‬

‫وفي دراسة نشرتها مؤسسة متخ ِّصصة في التع ُّلم الافتراضي (الرقمي) ‪Digital‬‬ ‫‪ ،Learning‬واستطلعت فيها آراء عدد من المتخ ِّصصين في التعليم والتكنولوجيا من‬ ‫مختلف أنحاء العا َلم‪ ،‬حول الاتجاهات والتح ِّديات التي تواجه التعليم والتكنولوجيا عام‬ ‫‪2016‬م؛ فقد أظهرت النتائ ُج أهمي َة تضمين القيم في التعليم‪(((.‬‬ ‫ومن البرامج التربوية ما ُي َع ُّد تربية للقيم على وجه الخصوص‪ ،‬ولذلك وجدنا بعض‬ ‫المهتمين بموضوع القيم يضعون مناهج خاصة بالقيم‪ ،‬تتض َّمن مقترحات للتعامل مع‬ ‫القيم بطرق مختلفة‪ ،‬منها‪ :‬دمج القيم في النشاطات المدرسية العامة‪ ،‬أو التعامل معها‬ ‫ضمن موضوعات المواد الدراسية‪ ،‬أو تدريسها بوصفها ماد ًة دراسي ًة مستقل ًة‪(((.‬‬ ‫ولع َّل المؤ ِّثر الأكبر في حالة المجتمع المعاصر هو الإعلام؛ فالمجتمع المعاصر‬ ‫وصل إلى حالة من الطغيان الإعلامي بتع ُّدد وسائله‪ ،‬وكثرة مؤسساته‪ ،‬وجاذبية معروضاته‪،‬‬ ‫وحضوره على مدار أربع وعشرين ساعة أسبوعي ًا‪ ،‬ث َّم بتح ُّوله إلى إعلام فضائي رقمي‪،‬‬ ‫أوجد عا َلم ًا افتراضي ًا يعيش فيه الناس‪ ،‬بحيث يفتقدون عا َلمهم الواقعي‪ .‬وقد بلغ في‬ ‫انتشاره وق َّوة تأثيره أ ْن أصبح الفرد ضحية لما يقذف به الإعلام من أفكار وأخبار‪ ،‬ومن‬ ‫اختيارات وتفضيلات ومغريات‪ ،‬وما يتس َّلل من ذلك كله بذكاء ودهاء؛ من‪ :‬بناء قيم معينة‪،‬‬ ‫وهدم قيم ُأخرى‪ .‬ويتم ذلك كله بطريقة تدريجية لا تسمح بتع ُّقل خطورة هذه التح ُّولات‪،‬‬ ‫أو الشعور بخطورتها وبناء وسائل حماية‪.‬‬ ‫إ َّن مجتمعاتنا المعاصرة تحتاج إلى ما ُيس ّمى التربية الإعلامية‪ .‬وتتسع دائرة هذا‬ ‫المفهوم لتكون جزء ًا من تعلي ِم الأفراد ‪-‬من مختلف الأعمار‪ -‬طر َق التعامل مع وسائل‬ ‫الإعلام والاتصال المعاصرة‪ .‬والتربية الإعلامية لا تقتصر على الوعي بالمخاطر التي‬ ‫يم ِّثلها الإعلام المعاصر‪ ،‬وإن َّما تشمل كذلك التدريب على أساليب توظيف وسائل‬ ‫الإعلام المتاحة إيجابي ًا‪ ،‬واستخدامها في تصحيح الأخبار‪ ،‬وإصلاح الأفكار‪ ،‬وعرض‬ ‫النماذج الخ ِّيرة‪ ،‬وتكريس القيم الفاضلة‪.‬‬ ‫‪(1) https: //www.goconqr.com/en/blog/the-importance-of-teaching-values-in-education.‬‬ ‫((( العبد الجادر‪ ،‬فيصل فهد‪ .‬تعزيز القيم في مناهج التعليم العام‪ :‬إطار عام للتربية القيمية‪ ،‬الكويت‪ :‬المركز العربي‬ ‫للبحوث التربوية لدول الخليج‪2014 ،‬م‪.‬‬ ‫‪414‬‬

‫و َث َّمة دراسا ٌت تربوية كثيرة تناولت أسباب تدهور القيم الأخلاقية في المدارس‬ ‫بالمجتمعات المعاصرة في جميع أنحاء العا َلم‪ .‬ومعظم هذه الدراسات أظهرت أ َّن ما‬ ‫يتل ّقاه الطلبة من وسائل الإعلام والتوا ُصل‪ ،‬وما ُين َشر فيها‪ُ ،‬ي َع ُّد سبب ًا رئيس ًا في تدهور‬ ‫القيم الأخلاقية‪ .‬ومن هذه الدراسات دراس ٌة مقارنة \"عبر‪ -‬ثقافية\" عن أسباب تدهور القيم‬ ‫الأخلاقية‪ُ ،‬ق ِّدمت إلى المؤتمر الأكاديمي التربوي الذي ن َّظمه معهد الغرب والشرق(((‬ ‫عام ‪2016‬م في مدينة بوستن بولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ استطلع‬ ‫ثلاثة باحثين‪ ،‬من تركيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية‪ ،‬آرا َء ع ِّين ٍة من ال ُمع ِّلمين في‬ ‫البلدان الثلاثة‪ .‬وقد تو َّصلوا إلى أ َّن تآ ُكل القيم الأخلاقية أصبح ظاهرة ملحوظة في هذه‬ ‫البلدان‪ ،‬تم َّثلت في أشكال من الممارسات والسلوكات الخاطئة‪ ،‬مثل‪ :‬العنف‪ ،‬والتمركز‬ ‫حول الذات‪ ،‬والخيانة‪ ،‬والبلطجة‪ ،‬والوقاحة‪ .‬وتو َّصلوا كذلك إلى أ َّن هذه السلوكات عند‬ ‫الشباب وطلبة المدارس آخذ ٌة في التزايد بصورة كبيرة‪.‬‬ ‫وتو َّصلت الدراسة أيض ًا إلى أ َّن ال ُمع ِّلمين الذين شملتهم الع ِّينة في البلدان الثلاثة‬ ‫أجمعوا على أ َّن القيم الأخلاقية تعاني ضعف ًا متزايد ًا في مجتمعاتهم المدرسية‪ ،‬وأ َّن أهم‬ ‫سببين لتدهور هذه القيم‪ ،‬هما‪ :‬الإعلام‪ ،‬والعولمة‪ .‬وقد أشارت هذه الدراسة إلى دراسا ٍت‬ ‫متعددة ُأخرى في بلدان مختلفة أظهرت نتائج مشابهة‪.‬‬ ‫وأوصت الدراسة بضرورة اهتمام الأسرة والمدرسة‪ ،‬وتعا ُونهما على تطوير القيم‬ ‫النبيلة في المراحل المبكرة من عمر الأطفال‪ ،‬على أساس أ َّن السنوات الأُولى من أعمارهم‬ ‫لها أهمية كبيرة في تش ُّكل العادات والقيم الأخلاقية‪ .‬وأ َّكدت الدراس ُة ضرور َة تضمين‬ ‫برامج إعداد ال ُمع ِّلمين إجراءات وتدريبات تدريسية لتعليم القيم في الصفوف المدرسية‪(((.‬‬ ‫‪(1) The West East Institute- WEI.‬‬ ‫‪(2) Taneri, Pervin Oya. & Gao, Jie. & Johnson, Rodger. \"Reasons for the Deterioration of‬‬ ‫‪Moral Values: Cross-Cultural Comparative Analysis\", Boston, USA: The 2016 WEI‬‬ ‫‪International Academic Conference Proceedings, 2016, pp. 242-252.‬‬ ‫يمكن استرجاع الدراسة كاملة من الرابط‪:‬‬ ‫‪- https: //www.westeastinstitute.com/wp-content/uploads/2016/09/P.-O.-Taneri-J.-Gao-‬‬ ‫‪R.-Johnson.pdf.‬‬ ‫‪415‬‬

‫إ َّن الأثر التربوي في الأسرة والمدرسة يخت ُّص بمرحلة الطفولة‪ ،‬ومرحلة الشباب‬ ‫المبكر‪ .‬أ ّما الأثر التربوي للإعلام فيخت ُّص بهاتين المرحلتين‪ ،‬إضاف ًة إلى المراحل‬ ‫اللاحقة‪ .‬و َث َّمة مؤسسا ٌت ُأخرى لها أثر في جميع المراحل‪ ،‬منها مؤسسة المسجد الذي‬ ‫ُي َع ُّد بيئ ًة لتع ُّلم الفضائل والتأ ُّدب بها‪ ،‬والتخ ُّلق بمكارم الأخلاق‪ ،‬لا سيما أ َّن للذهاب إلى‬ ‫المسجد آداب ًا وأخلاق ًا نفسي ًة واجتماعي ًة‪ .‬ومن هذه المؤسسات كذلك الجمعيات الخيرية‬ ‫والثقافية‪ ،‬والنوادي الرياضية‪ ،‬والأحزاب السياسية؛ فالقيم ليس شأن ًا مقصور ًا على مؤسسة‬ ‫متخ ِّصصة‪ ،‬وإ َّنما تتداخل القيم مع سائر وجوه النشاط الاجتماعي‪.‬‬ ‫إ َّن تع ُّلم القيم وتعليمها يم ِّثل عملي ًة مستمر ًة طوال حياة الإنسان‪ ،‬تستهدف صغار‬ ‫السن والبالغين‪ ،‬وحتى الكهول‪ .‬ودعوات الأنبياء كانت ُمو َّجه ًة إلى جميع أفراد المجتمع؛‬ ‫رجالاً‪ ،‬ونسا ًء‪ ،‬وأطفالاً‪ .‬ومحم ٌد ص ّلى الله عليه وس َّلم استجاب لدعوته رجا ٌل ونسا ٌء‬ ‫وأطفا ٌل‪ .‬بيد أ َّن مسؤولي َة السلوك القيمي هي مسؤولي ُة البالغين الكبار بالدرجة الأُولى‪،‬‬ ‫ث َّم يأتي الصغار بال ِّت ْبع‪.‬‬ ‫خاتمة‪:‬‬ ‫كان الهدف من هذا الفصل هو الحديث عن موضوعات الفكر التربوي الإسلامي‪.‬‬ ‫وقد تكون هذه الموضوعات أول ما يتبادر إلى الذهن عند سماع عبارة \"الفكر التربوي‬ ‫الإسلامي\" أو قراءتها‪ .‬وواض ٌح أ َّنها جوا ٌب على سؤال‪ :‬ماذا؟‪ ،‬ث َّم تأتي الأسئلة الأُخرى‪،‬‬ ‫مثل‪ :‬لماذا؟‪ ،‬وكيف؟‪ ،‬وغيرهما من الأسئلة‪ .‬ولا شك في أ َّن الموضوعات التربوية تتم َّثل‬ ‫في محتوى بعض العلوم التي ُتصنَّف ضمن العلوم التربوية‪ ،‬أو ُتصنَّف ضمن محتويات‬ ‫العلوم المتخ ِّصصة التي يتم تعليمها في المؤسسات التربوية والتعليمية‪ .‬ومن أجل ذلك‪،‬‬ ‫بدأنا الحديث عن علاقة الفكر بالعلم في الموضوعات التربوية‪ ،‬واجتهدنا في وضع خريطة‬ ‫لما نراه َأ ْولى بالاهتمام ضمن هذه الموضوعات‪ ،‬وم َّي ْزنا فيها نوع ًا من العلوم أسميناه العلوم‬ ‫المنهجية‪ ،‬مع أ َّن في كل علم من العلوم مك ِّون ًا منهجي ًا لا ُب َّد من الوعي بأهميته‪.‬‬ ‫وبمناسبة الحديث عن العلوم التربوية وفروعها‪ ،‬فقد استطردنا بعض الشيء في‬ ‫الإشارة إلى بنية الفرع العلمي المتخ ِّصص الذي يظهر بوصفه فرع ًا علمي ًا متم ِّيز ًا‪ ،‬مع‬ ‫إشارة عابرة إلى ما َي ِر ُد في دراسات تاريخ الأفكار وتاريخ العلوم عن نشأة الفرع العلمي‪،‬‬ ‫‪416‬‬

‫وتم ُّيزه ع ّما يكون قد نشأ عنه‪ ،‬واستكمال ما َيلزمه حتى يتم الاعتراف به فرع ًا علمي ًا‬ ‫مستقل ًا‪ .‬ون َّوهنا بأهمية حقلين مهمين في الفكر التربوي‪ ،‬هما‪ :‬النظرية التربوية‪ ،‬والفلسفة‬ ‫التربوية‪ .‬وإذا كان ذلك كله حديث ًا عن علوم التربية بصورة عامة‪ ،‬ضمن إطار الفكر التربوي‬ ‫الإسلامي‪ ،‬فقد كان لازم ًا التساؤ ُل عن موقع الإسلام في علوم التربية‪.‬‬ ‫ث َّم اخترنا أ ْن نتح َّدث عن موقع القيم في علوم التربية‪ ،‬في مجالات التنظير والممارسة‪،‬‬ ‫منطلقي َن في ذلك من النظر إلى موضوع القيم لصلته المباشرة بخصوصيات الفكر التربوي‬ ‫الإسلامي‪ ،‬وأقمنا الاهتمام بالقيم على عدد من الافتراضات‪ ،‬وأ َّكدنا أ َّن الاهتمام بالقيم لا‬ ‫يقتصر على التعليم العام لتنشئة الأجيال الجديدة على منظومة القيم التي يتبنّاها المجتمع‪،‬‬ ‫وإ َّنما يمت ُّد ليشمل التعليم الجامعي‪ ،‬الذي يتزايد فيه الوعي بأهمية اعتبار القيم‪ ،‬ولا سيما‬ ‫فيما يخت ُّص بالقيم الأكاديمية والمهنية‪ ،‬إضاف ًة إلى ضرورة تمكين طلبة الجامعات من هذا‬ ‫الوعي‪ ،‬على أساس أ َّن جميع المواقع التي سوف يتو َّلون المسؤولية عنها في المجتمع‬ ‫محكوم ٌة بمنظومة مح َّددة من القيم في دوائر الحياة العملية المختلفة‪.‬‬ ‫هذا عن موضوع الفصل بصورة عامة‪ ،‬ونحن نتوقع أ ْن يشعر القارئ‪ ،‬وهو يقرأ مادة‬ ‫هذا الفصل بعناصره المختلفة‪ ،‬بالحاجة إلى شي ٍء من التفصيل؛ فكل عنصر من عناصر‬ ‫الفصل هو موضوع قائم بنفسه‪ ،‬وله أهمية خاصة‪ .‬ور َّبما يتذ َّكر بع ُض الق ّراء أ َّن كل عنصر‬ ‫منها َي ِر ُد في عناوين عدد من الكتب المتخ ِّصصة فيه‪ .‬و َح ْس ُبنا في هذا الفصل من الكتاب‬ ‫أ ْن َتأخذ موضوعا ُت الفكر التربوي ‪-‬في مجملها‪ -‬ح َّظها من الحديث في كتا ٍب في \"الفكر‬ ‫التربوي الإسلامي\"‪.‬‬ ‫لقد تح َّدثنا في الفصول الأربعة السابقة بشي ٍء من التفصيل عن مفاهيم الفكر التربوي‬ ‫الإسلامية‪ ،‬وحضور هذا الفكر في التراث الإسلامي‪ ،‬والمصادر الأربعة لهذا الفكر التي‬ ‫نك ِّرر الحديث عنها في مناسبات مختلفة‪ ،‬والأهداف التي يراد لهذا الفكر أ ْن يح ِّققها‪ .‬ث َّم‬ ‫جاء هذا الفصل عن موضوعات الفكر التربوي الإسلامي‪ ،‬التي هي المضامين المعرفية‬ ‫لتلك الأهداف‪ ،‬ووسيلة لتحقيقها‪ .‬وبقي أ ْن نتح َّدث عن الخصائص التي نرى أ َّن الفكر‬ ‫التربوي الإسلامي يتم َّيز بها‪ ،‬أو ينبغي أ ْن يتم َّيز بها‪ ،‬وهي موضوع الفصل السادس القادم‪،‬‬ ‫ونختم الكتاب ‪-‬إ ْن شاء الله‪ -‬بالفصل السابع والأخير‪ ،‬برؤية مستقبلية لما نستشرفه من‬ ‫فكر تربوي إسلامي‪ ،‬وما نقترحه لبناء هذا الفكر المنشود‪.‬‬ ‫‪417‬‬



‫الفصل السادس‬ ‫خصائص الفكر التربوي الإسلامي‬ ‫مقدمة‬ ‫المبحث الأول‪ :‬خاصية التكامل والتوازن في الفكر التربوي الإسلامي‬ ‫أولاً‪ :‬طبيعة الاهتمام بشخصية الإنسان‬ ‫ثاني ًا‪ :‬خاصية التكامل والتوازن في بناء مك ِّونات الشخصية‬ ‫المك ِّون المادي‬ ‫المك ِّون العقلي ‬ ‫المك ِّون الروحي‪ /‬النفسي‬ ‫ثالث ًا‪ :‬التكامل والتوازن في الا ِّتباع والإبداع‬ ‫المبحث الثاني‪ :‬خاصية الواقعية في الفكر التربوي الإسلامي‬ ‫أولاً‪ :‬الواقعية والمثالية‬ ‫ثاني ًا‪ :‬بعض تجليات الواقعية في الفكر التربوي الإسلامي‬ ‫ثالث ًا‪ :‬الواقعية في بناء فكر تربوي إسلامي معاصر‬ ‫المبحث الثالث‪َ :‬سعة الفكر التربوي الإسلامي وامتداداته‬ ‫أولاً‪ :‬امتداد الفكر التربوي الإسلامي في الموضوعات؛ َسع ٌة وتكا ُم ٌل‬ ‫ثاني ًا‪ :‬امتداد الفكر التربوي الإسلامي في الزمان‬ ‫ثالث ًا‪ :‬امتداد الفكر التربوي الإسلامي في المكان‬ ‫رابع ًا‪ :‬امتداد الفكر التربوي الإسلامي في الإنسان‬ ‫المبحث الرابع‪ :‬تجليات التكامل والتوازن في الفكر التربوي الإسلامي‬ ‫خاتمة‬



‫الفصل السادس‬ ‫خصائص الفكر التربوي الإسلامي‬ ‫مقدمة‪:‬‬ ‫كثير من الكتب والبحوث التي تناولت خصائص الإسلام‪ ،‬أو خصائص أ ِّي جانب من‬ ‫جوانبه (مثل‪ :‬الثقافة الإسلامية‪ ،‬والتربية الإسلامية‪ ،‬والأُ َّمة الإسلامية‪ ،‬والفكر الإسلامي‪)...‬‬ ‫تح َّدثت عن خصائص عامة‪ ،‬مثل‪ :‬الربانية‪ ،‬والوسطية‪ ،‬والشمولية‪ ،‬والتوا ُزن‪ ،‬وغيرها‪.‬‬ ‫وسبب ذلك غالب ًا هو محاولة اشتقاق هذه الخصائص من النص القرآني والحديث النبوي؛‬ ‫إذ وصف القرآ ُن الكريم الأُ َّم َة بأوصاف‪ ،‬وأعطاها خصائص تم ِّثل مرجعية تستحق أ ْن ُتعت َمد‬ ‫أساس ًا لأ ِّي حديث عن الموضوع‪ .‬فخاصية \"الربانية\" مثل ًا نجدها في القرآن الكريم‪ ،‬وذلك‬ ‫في قوله سبحانه‪﴿ :‬ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ﴾ [آل عمران‪]79:‬؛‬ ‫وخاصية الوسطية نجدها في قوله تعالى‪﴿ :‬ﭪﭫﭬﭭ﴾ [البقرة‪]143:‬؛ وصفة‬ ‫الخيرية نجدها في قوله ع َّز وج َّل‪﴿ :‬ﭞﭟﭠﭡﭢ﴾ [آل عمران‪ ،]110:‬وهكذا‪.‬‬ ‫ومن المؤ َّكد أ َّن الكتابات المشار إليها مفيدة في أغراضها التي ُكتِبت من أجلها‪.‬‬ ‫ومن ناحية ُأخرى‪ ،‬نلاحظ أ َّن كثير ًا من الكتابات في موضوع الخصائص المم ِّيزة‬ ‫لجانب من جوانب الفكر الإسلامي (مثل‪ :‬السياسة‪ ،‬أو الاقتصاد‪ ،‬أو التربية) تتح َّدث عن‬ ‫خصائص الإسلام والأُ َّمة الإسلامية بصورة عامة؛ فلا ينصرف من الحديث إلى الجانب‬ ‫المعني في السياق (السياسة‪ ،‬أو الاقتصاد‪ ،‬أو التربية) إلا القليل‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن من‬ ‫ال ُمتو َّقع أ ْن تنعكس خصائص الإسلام العامة على خصائص أ ِّي جانب منه؛ فخصائص‬ ‫الإسلام هي ‪-‬في الأصل‪ -‬خصائص التص ُّور الإسلامي لأ ِّي نظام من ُن ُظم الإسلام‪ ،‬وهي‬ ‫خصائص تنبثق من رؤية العا َلم ‪ Worldview‬الإسلامية‪ ،‬وهي ما س ّماه سيد قطب فكرة‬ ‫الإسلام عن الله والكون والحياة والإنسان‪ ،‬وكان َي ِع ُد بإخراج بحث عنها منذ وقت مبكر‬ ‫في كتاباته‪ ،‬ول ّما كتب ذلك البحث أصدره عام ‪1964‬م كتاب ًا بعنوان \"خصائص التصور‬ ‫الإسلامي ومقوماته\"‪ (((.‬ث َّم أخذ عنه كثي ٌر من ال ُك ّتاب في كتابة خصائص الإسلام‪ ،‬أو أ ِّي‬ ‫نظام من ُن ُظم الإسلام‪ ،‬ولا سيما في طريقة عرضه خصائص الربانية‪ ،‬والثبات‪ ،‬والشمول‪،‬‬ ‫والتوا ُزن‪ ،‬والإيجابية‪ ،‬والواقعية‪ ،‬والتوحيد‪.‬‬ ‫((( قطب‪ ،‬سيد‪ .‬خصائص التصور الإسلامي ومقوماته‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪1988 ،‬م‪ ،‬ص‪.5‬‬ ‫‪421‬‬

‫وعند مراجعة عدد من المؤ َّلفات في موضوع الفكر التربوي الإسلامي‪ ،‬وجدنا أ َّن‬ ‫ما ُكتِب عن خصائص الفكر التربوي الإسلامي يكاد ينحصر في الحديث عن تج ِّليات‬ ‫هذه الخصائص في التراث التربوي الإسلامي‪ ،‬أو عن خصائص الفكر الإسلامي والثقافة‬ ‫الإسلامية بصورة عامة‪ ،‬من دون أ ْن يتناول تج ِّليات هذه الخصائص في الفكر التربوي‬ ‫الإسلامي تحديد ًا‪ .‬و ُنف ِّضل ألا نذكر أمثل ًة على هذه الكتب؛ لكيلا ُيح َسب ذلك تشهير ًا‬ ‫بها‪ .‬ولكن‪ ،‬يمكن للقارئ أ ْن يختبر هذا الحكم إذا وقعت يده على بعض هذه الكتب‪.‬‬ ‫ونحاول في تناولنا موضوع خصائص الفكر التربوي الإسلامي التركي َز على الجانب‬ ‫التربوي‪ ،‬ث َّم انعكاساته على الجوانب الأُخرى‪ ،‬اعتماد ًا على الأثر الذي تتركه الممارسات‬ ‫التربوية في سلوك الفرد والمجتمع‪ .‬والممارسات التربوية تنطلق من أسس فكرية مح َّددة‪،‬‬ ‫منها ما نعرفه عن تم ُّيز الإنسان عن سائر الكائنات الأُخرى في حاجته إلى التربية‪ ،‬ومنها‬ ‫ما نعرفه عن الهدي التربوي الذي تم ِّثله أصول الإسلام في القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية‬ ‫الشريفة‪ ،‬ومنها ما يهدي إليه التجديد في فهم هذه الأصول مع تط ُّور الخبرة البشرية‪،‬‬ ‫وضرورة التعامل مع النوازل والمستجدات وفق ذلك الفهم المتج ِّدد‪.‬‬ ‫ذلك أ َّن الفرد من البشر‪ ،‬في بدء حياته‪ ،‬يحتاج إلى م َّدة طويلة من العناية التربوية‬ ‫مقارن ًة بالكائنات الأُخرى؛ فالتربية البشرية ليست مج َّرد عناية بالحاجات الفطرية الخاصة‬ ‫بالتغذية والحماية‪ ،‬كما هو حال الكائنات الأُخرى‪ ،‬وإ َّنما تتسع التربية البشرية لتشمل‬ ‫جوانب ُأخرى‪ ،‬تتصل بالمعتقدات والأفكار‪ ،‬وبمنظومة القيم الخاصة بنُ ُظم الحياة‬ ‫الاجتماعية‪ ،‬وبترقية هذه الحياة والتعامل مع ما يطرأ فيها من مستجدات ر َّبما لم تعهدها‬ ‫الأجيال السابقة‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬فإ َّن التربية في الإسلام‪ ،‬وإ ْن كانت تستند إلى بعض المبادئ التي تتصف‬ ‫بالثبات‪ ،‬فيما يخت ُّص بالفضائل والأخلاق الأساسية‪ ،‬فإ َّن واحد ًا من هذه المبادئ سيبقى‬ ‫يفتح الباب باستمرار للتغ ُّير والتط ُّور؛ نتيجة لما يهدي الل ُه إليه الإنسا َن من علوم متج ِّددة‪،‬‬ ‫و ُيك ِس ُبه من خبرات جديدة‪ ،‬وفق قوله تعالى‪﴿ :‬ﯣﯤﯥﯦﯧ﴾ [البقرة‪.]151:‬‬ ‫يأتي هذا الفصل في ثلاثة مباحث؛ الأول‪ :‬خاصية التكا ُمل والتوا ُزن في الفكر‬ ‫التربوي الإسلامي‪ ،‬وفيه نناقش ثلاثة موضوعات تتح َّدث عن الفكر التربوي الإسلامي‬ ‫‪422‬‬

‫في اهتمامه الخاص بشخصية الإنسان‪ ،‬والمك ِّونات الثلاثة لهذه الشخصية (الجسم‪،‬‬ ‫والعقل‪ ،‬والروح)‪ ،‬وحدود التكا ُمل والتوا ُزن في الا ِّتباع والإبداع‪ .‬والثاني‪ :‬خاصية‬ ‫الواقعية في الفكر التربوي الإسلامي‪ ،‬وقد جاء في ثلاثة موضوعات‪ :‬العلاقة بين الواقعية‬ ‫والمثالية‪ ،‬وبعض تج ِّليات الواقعية في الفكر التربوي الإسلامي‪ ،‬والواقعية التي ننشد‬ ‫بناءها في الفكر التربوي الإسلامي المعاصر‪ .‬والثالث‪َ :‬سعة الفكر التربوي الإسلامي‬ ‫وامتداداته‪ .‬وقد ُع ِرضت مادته في أربعة موضوعات‪ :‬امتداد الفكر التربوي الإسلامي في‬ ‫الموضوعات؛ َسع ٌة وتكا ُم ٌل‪ ،‬وامتداد الفكر التربوي الإسلامي في الزمان‪ ،‬وامتداد الفكر‬ ‫التربوي الإسلامي في المكان‪ ،‬وامتداد الفكر التربوي الإسلامي في الإنسان‪.‬‬ ‫‪423‬‬

‫المبحث الأول‬ ‫خاصية التكا ُمل والتوا ُزن في الفكر التربوي الإسلامي‬ ‫أولاً‪ :‬طبيعة الاهتمام بشخصية الإنسان‪:‬‬ ‫الفكر التربوي الإسلامي يستهدف بناء الإنسان‪ ،‬فرد ًا ومجتمع ًا و ُأ َّم ًة؛ لتحقيق مراد‬ ‫الله سبحانه في إعمار هذه الدنيا‪ ،‬بما يريده الله للبشر فيها من خير وصلاح‪ .‬ول ّما كان‬ ‫الفرد الإنساني يش ِّكل وحدة البناء الأُولى للجنس البشري‪ ،‬فإ َّن الصورة التي تتش َّكل فيها‬ ‫شخصية ذلك الفرد ستنعكس على الوحدات الأُخرى في ذلك البناء‪.‬‬ ‫ومفهوم \"الشخصية\" مفهوم مركزي في النظريات التربوية والنفسية على اختلاف‬ ‫مرجعياتها؛ ففي علم النفس الحديث‪ ،‬أصبح لهذا المفهوم فرع علمي مهم هو علم نفس‬ ‫الشخصية‪ .‬وتتع َّدد دلالة مفهوم \"الشخصية\" بتع ُّدد نظريات علم النفس‪ ،‬وما تجعله هذه‬ ‫النظريات من عناصر أو مك ِّونات للشخصية‪ ،‬وبمقدار الأهمية التي تعطيها لكل مك ِّون من‬ ‫هذه المك ِّونات‪ .‬فأكثر هذه النظريات تر ِّكز على أنماط التفكير والمشاعر والسلوك التي‬ ‫تجعل الشخص \"الإنسان\" متم ِّيز ًا عن غيره‪ .‬وهذا لا يعني وجود شخصيات مختلفة بعدد‬ ‫أفراد البشر؛ إذ يمكن تمييز عدد من أنماط ‪ ،Patterns‬أو أنواع مح َّددة للشخصية‪ ،‬يشترك‬ ‫في ك ٍّل منها كثي ٌر من الأفراد‪ .‬و َث َّمة عوام ُل ومؤ ِّثرات ُتس ِهم في تشكيل شخصية الإنسان‪،‬‬ ‫بعضها وراثية تبدأ مع الإنسان منذ ولادته‪ ،‬وبعضها مكتسبة تتط َّور مع نمو الإنسان في‬ ‫البيئة التي يعيش فيها‪ .‬وبعض الصفات التي تع ِّبر عن شخصية الإنسان تبقى معه طوال‬ ‫حياته‪ ،‬وبعضها تتغ َّير بما يكتسبه من خبرات وتجارب‪.‬‬ ‫وتأخذ شخصية الإنسان طرق ًا مختلفة في التصنيف؛ فقد ُتصنَّف على أساس صفة‬ ‫كلية منسوبة إلى الدين عندما يتصف به الإنسان اتصاف ًا كامل ًا‪ ،‬فيقال‪ :‬شخصية إسلامية‬ ‫مثل ًا‪ .‬وقد يكون التصنيف على أساس قدرات الإنسان على التأثير في الآخرين‪ ،‬فيقال‪:‬‬ ‫شخصية جاذبة‪ ،‬أو شخصية قيادية‪ ،‬وقد يكون ذلك بنا ًء على ما يصيب الإنسان من حالات‬ ‫اضطراب أو انحراف في الصحة النفسية‪ ،‬فيقال‪ :‬شخصية انطوائية‪ ،‬أو شخصية عدوانية‪.‬‬ ‫‪424‬‬

‫وقد تح َّدث علماء الإسلام عن الشخصية الإنسانية وأنواعها‪ ،‬وجوانب الصحة‬ ‫والمرض فيها‪ ،‬ولا سيما عند حديثهم عن النفس الإنسانية‪ ،‬وتناولوها في ميادين الدراسة‬ ‫المختلفة؛ في‪ :‬الفقه‪ ،‬وعلم الكلام‪ ،‬والتصوف‪ ،‬والفلسفة‪ ،‬وغيرها‪ .‬وبالرغم من أ َّن بعض‬ ‫العلماء‪ ،‬ولا سيما الفلاسفة والمتصوفة‪ ،‬خلطوا رؤيتهم للشخصية الإنسانية ببعض‬ ‫مقولات الفلاسفة‪ ،‬فإ َّن المرجعية القرآنية في فهم النفس الإنسانية لم تكن غائبة‪.‬‬ ‫إ َّن شخصية الإنسان في الفهم المستند إلى المرجعية القرآنية هي نفسه‪ ،‬وهي ذاته‬ ‫ب ُك ِّل َّيتها جسم ًا وعقل ًا وروح ًا‪ ،‬وهي جوهره الذي يتصف بالإدراك والفكر وال ُخ ُلق‪ ،‬وهي‬ ‫ما يتو َّجه إليه الخطاب بالتكليف‪ .‬و\"يش ِّخص القرآن الكريم النفس ويجعلها الكائن الذي‬ ‫يم ِّثل الإنسان أمام الله‪ ،‬بل وأمام المجتمع أيض ًا؛ فالقتل الذي يصيب الإنسان هو قتل‬ ‫للنفس‪ ...‬وفي مقام القصاص تحسب \"النفس بالنفس\"‪ ...،‬وفي مقام التنويه بالإنسان‬ ‫ودعوته ليلقى الجزاء الحسن ُتخا َطب النفس‪ ...‬والنفس في القرآن هي الإنسان المسؤول‬ ‫المحاسب‪ ...‬إ َّنها التركيبة التي َتخ ِلق في الإنسان ذاتي ًة َيعرف بها أ َّنه ذلك الإنسان‬ ‫بأحاسيسه ووجدانه ومدركاته‪ ،‬النفس هي ذات الإنسان‪ ،‬أو هي مش ِّخصات الإنسان التي‬ ‫ُتنبِئ به عن ذاته‪ ...‬ولذلك كانت موضع الخطاب من الله تعالى‪ ،‬كما أ َّنها موضوع الحساب‬ ‫والثواب والعقاب‪(((\".‬‬ ‫واليوم يأتي البحث عن الشخصية بقدر كبير من التفصيل والتو ُّسع في نظريات علم‬ ‫النفس الحديث‪ ،‬ومدارسه المختلفة‪ :‬السلوكية‪ ،‬والمعرفية‪ ،‬والتحليلية‪ ،‬وغيرها‪ .‬ونظر ًا لأ َّن‬ ‫التفصيل في ذلك ليس من مهمات هذا الفصل؛ فإ َّننا نكتفي بأ ْن نحيل القارئ إلى الكتب‬ ‫المتخ ِّصصة في الموضوع‪ ،‬ومنها كتاب سبق أ ْن أعددنا خطة إنجازه‪ ،‬ون َّفذها أحد علماء‬ ‫النفس المسلمين المعاصرين‪ ،‬ونشرها المعهد العالمي للفكر الإسلامي‪ (((.‬أ ّما الذي َي ُه ُّمنا‬ ‫في سياق هذا الفصل فهو الحديث عن الشخصية التي يريد الفكر التربوي الإسلامي أ ْن‬ ‫يش ِّكلها عن طريق البيئة التربوية التي يو ِّفرها‪ ،‬والأساليب التربوية التي يستخدمها‪.‬‬ ‫((( الخطيب‪ ،‬عبد الكريم‪ .‬التفسير القرآني للقرآن‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار الفكر العربي‪1970 ،‬م‪ ،‬المجلد الرابع (الجزءان‬ ‫التاسع عشر والعشرون)‪ ،‬تفسير سورة الزمر‪ ،‬ص‪.1167-1166‬‬ ‫((( العاني‪ ،‬نزار‪ .‬الشخصية الإنسانية في التراث الإسلامي‪ ،‬هرندن‪ :‬المعهد العالمي للفكر الإسلامي‪ ،‬ط‪1998 ،1‬م‪.‬‬ ‫‪425‬‬

‫لقد تض َّمنت الممارسا ُت التربوية التي عرفها التاريخ الإسلامي أمثل ًة متفاوت ًة للجهود‬ ‫المؤ ِّثرة في تشكيل شخصية الإنسان في المجتمع المسلم‪ .‬ونجد بعض تج ِّليات هذه‬ ‫الجهود في كثير من نصوص التراث الإسلامي التي تتح َّدث ع ّما كانت تقوم به الأسرة‬ ‫مع أبنائها‪ ،‬ويقوم به ال ُمؤ ِّدبون والعلماء وال ُمع ِّلمون‪ ،‬مع نوعيات مختلفة من ال ُمتع ِّلمين‪،‬‬ ‫في مؤسسات مختلفة؛ إذ كانوا يع ِّلمون موضوعات متعددة‪ ،‬بأساليب متن ِّوعة‪ .‬ونجد في‬ ‫التراث بعض الممارسات التي كانت تنطلق من نصوص الوحي الإلهي والهدي النبوي‬ ‫في فهم مقاصد التعليم وتوجيهاته‪ ،‬ونجد فيه ممارسات سقطت فيها همم ال ُمع ِّلمين‬ ‫وال ُمتع ِّلمين عن تحقيق تلك المقاصد‪ ،‬وق َّصرت في الالتزام بتلك التوجيهات‪ ،‬وانعكس‬ ‫أثر ذلك في الحالتين على تشكيل شخصيات ال ُمتع ِّلمين‪ ،‬ث َّم على حالة المجتمع المسلم‬ ‫ق َّو ًة وضعف ًا‪.‬‬ ‫وليس من السهل الحكم على أنماط التربية التي كانت تستهدف شخصية ال ُمتع ِّلم‬ ‫كما يعرضها التراث الإسلامي‪ ،‬لا س ّيما في السنوات الأولى من التعليم في الكتاتيب؛‬ ‫فكثير من نصوص التراث تشير إلى سوء حال هذه الكتاتيب و ُمع ِّلميها‪ ،‬وتدهور مكانتهم‬ ‫الاجتماعية‪ ،‬وسوء تعاملهم مع الأطفال‪ .‬وفيما يخ ُّص مجالس العلم التي كانت ُتع َقد‬ ‫لطلبة العلم المتخ ِّصصين في الفقه أو الحديث من البالغين‪ ،‬فإ َّن كثير ًا م ّما ورد في كتب‬ ‫التراث التربوي الإسلامي تح َّدث ع ّما كان ينبغي أ ْن يكون‪ ،‬من حيث‪ :‬آداب العالِم في‬ ‫نفسه‪ ،‬ومراعاة طلبته ودرسه‪ ،‬وآداب ال ُمتع ِّلم في نفسه ومع شيخه وقدوته‪ ،‬وغير ذلك من‬ ‫آداب العالِم وال ُمتع ِّلم‪ .‬وقليل منه كان يصف ما كان يحدث فعل ًا من مراعاة هذه الآداب‪.‬‬ ‫وبعض ما ورد من هذا القليل ر َّبما يكون أقرب إلى كونه حالات خاصة أكثر م ّما‬ ‫يصف النمط العام‪ .‬وأكثر ما يخت ُّص بجهود بناء شخصية ال ُمتع ِّلم إ َّنما كان من شأن التأديب‬ ‫لا التعليم‪ .‬والتأديب كان صنعة ال ُمؤ ِّدبين مع أولاد الخلفاء والسلاطين والقادة؛ فهو من‬ ‫الحالات الخاصة‪.‬‬ ‫ولتأكيد أ َّن مهمة بناء الشخصية كانت موضوع اهتمام التعليم الخاص لأبناء الملوك‪،‬‬ ‫فقد أشار الماوردي إلى أ َّن اختيار ال ُمع ِّلم ال ُمؤ ِّدب لهذه الفئة من ال ُمتع ِّلمين مهمة خطيرة‬ ‫لا يصلح لها إلا فئة خاصة من ال ُمع ِّلمين‪ ،‬ولذلك جاء في نصيحته إلى الملوك قوله‪\" :‬ث َّم‬ ‫يجب أ ْن يجتهد (أ ِي الملك) في اختيار ال ُمع ِّلم وال ُمؤ ِّدب له (أ ْي للولد) اجتهاده في‬ ‫‪426‬‬

‫اختياره الوالدة والظئر‪ ،‬بل أش ّد منه‪ ،‬فإ َّن الولد يأخذ من ُمؤ ِّدبه من الأخلاق والشمائل‬ ‫والآداب والعادات أكثر م ّما يأخذ من والده؛ لأ َّن مجالسته له أكثر‪ ،‬ومدارسته معه أطول‪،‬‬ ‫والولد قد ُأ ِمر حيث ُس ِّلم إليه بالاقتداء جملة‪ ،‬والائتمار له دفع ًة‪ ،‬وإذا كان هكذا فيجب‬ ‫أ ْن لا يقتصر من ال ُمع ِّلم وال ُمؤ ِّدب؛ على أ ْن يكون قارئ ًا للقرآن‪ ،‬وحافظ ًا للغة‪ ،‬أو راوي ًا‬ ‫للشعر‪ ،‬حتى يكون تقي ًا ورع ًا عفيف ًا د ِّين ًا‪ ،‬فاضل الأخلاق‪ ،‬أديب النفس‪ ،‬نقي الجيب‪ ،‬عالِم ًا‬ ‫بأخلاق الملوك وآدابهم‪(((\". ...‬‬ ‫والفكر التربوي المعاصر الذي ننشد بناءه من أجل تشكيل الشخصية الإسلامية‬ ‫سيستند إلى ما ذكرناه في الفصول السابقة عن مصادر هذا الفكر ومقاصده في الرؤية‬ ‫الإسلامية التي نتبنّاها لهذه الشخصية التي تتم َّيز بالتكا ُمل والتوا ُزن‪ .‬ونود أ ْن نؤ ِّكد من‬ ‫البداية أ َّن الشخصية الإسلامية التي نريدها لا ُتصنَع في معاهد التربية والتعليم‪ ،‬كما ُتصنَع‬ ‫السلع في المصانع بصورة تتشابه أفرادها تمام التشابه‪ ،‬إلا ما قد يقع فيه خطأ‪ ،‬فيخرج‬ ‫مختلف ًا عن صنفه‪ ،‬ف ُيع َزل عن ال ُمن َتجات‪.‬‬ ‫ولا نعرف خبرة تربوية طبعت شخصيات ال ُمتع ِّلمين في أ ِّي مجتمع‪ ،‬وفي أ ِّي عصر‪،‬‬ ‫حتى أصبحوا نسخ ًا متماثلة تمام التماثل‪ ،‬ولا حتى في التربية النبوية؛ لأ َّن ذلك ليس من‬ ‫طبائع البشر‪ ،‬ولا من ُسنَّة الله في خلقهم وتكوينهم‪.‬‬ ‫ونحن نقرأ في سيرة النبي ﷺ و ُسنَّته كيف كان يصف أصحا َبه بصفات يخت ُّص بها‬ ‫أحدهم دون الآخر‪ ،‬بالرغم من وحدة التربية النبوية للصحابة؛ ف ُع َمر رضي الله عنه عبقري‬ ‫لم ي َر النبي أحد ًا يفري َف ْر َيه‪ (((،‬وأبو عبيدة عامر بن الجراح أمين ا ُلأ َّمة‪ (((،‬و ُأب ُّي بن كعب‬ ‫أقر ُأ الصحاب ِة لكتاب الله‪ (((،‬وخالد بن الوليد سي ُف الله المسلول(((‪ ،‬وهكذا‪.‬‬ ‫((( الماوردي‪ ،‬أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب (توفي‪450 :‬ﻫ)‪ .‬نصيحة الملوك‪ ،‬تحقيق‪ :‬خضر محمد خضر‪،‬‬ ‫الكويت‪ :‬مكتبة الفلاح‪ ،‬ط‪1983 ،1‬م‪ ،‬ص‪.171‬‬ ‫((( مسلم‪ .‬صحيح مسلم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬فضائل الصحابة‪ ،‬باب‪ :‬من فضائل عمر رضي الله عنه‪ ،‬حديث رقم‪:‬‬ ‫(‪ ،)2393‬ص‪.975‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬كتاب‪ :‬فضائل الصحابة‪ ،‬فضائل أبي عبيدة بن الجراح‪ ،‬حديث رقم‪ ،)2419( :‬ص‪.985‬‬ ‫((( الترمذي‪ ،‬جامع الترمذي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬المناقب‪ ،‬باب‪ :‬مناقب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبي بن كعب‬ ‫وأبي عبيدة‪ ،‬حديث رقم‪ ،)3791( :‬ص‪.589‬‬ ‫((( البخاري‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬الأطعمة‪ ،‬باب‪ :‬ما كان النبي ﷺ لا يأكل حتى ُيس ّمى له‪ ،‬حديث‬ ‫رقم‪ ،)5391( :‬ص‪.1067‬‬ ‫‪427‬‬

‫ونأخذ من ذلك أ َّن الفكر التربوي الإسلامي ينبغي أ ْن يتيح ُفرص ًا لإعداد شخصية‬ ‫ال ُمتع ِّلم‪ ،‬وفق استعداداته لنمو شخصيته‪ ،‬وإمكانية تم ُّيزه في جانب من الجوانب يكون‬ ‫فيه قادر ًا على خدمة المجتمع خدمة متم ِّيزة‪ .‬وبذلك يتح َّقق هدف مهم من أهداف الفكر‬ ‫التربوي الإسلامي‪ ،‬يتم َّثل في تشكيل شخصية الفرد المسلم‪ ،‬بوصفه عنصر ًا فاعل ًا في‬ ‫تحقيق مراد الله سبحانه في خلقه من حمل الأمانة والخلافة في الأرض‪ ،‬فماذا يعني‬ ‫هذا الهدف؟ وما أهمية التربية الفكرية في بناء شخصية الفرد المسلم‪ ،‬وفي تكا ُمل هذه‬ ‫الشخصية جسم ًا وعقل ًا ونفس ًا وروح ًا‪ ،‬وفي التكوين المتوازن لهذه الشخصية بين العلم‬ ‫والعمل‪ ،‬وبين الدين والعلم‪ ،‬وبين المثال والواقع‪ ،‬وبين الا ِّتباع والإبداع؟‬ ‫والهدف الثاني الذي ينبغي أ ْن يستهدفه الفكر التربوي الإسلامي هو بناء الهوية‬ ‫الجمعية لهذا الفرد‪ ،‬التي تع ِّزز انتماءه إلى المجتمع‪ ،‬وتط ِّور قدرته على العمل مع غيره‪،‬‬ ‫في بناء الهوية وحمايتها‪ ،‬والعمل المشترك والجهد الجماعي اللازم لبناء المجتمع‬ ‫الإسلامي المعاصر وتحقيق نهوضه الحضاري‪ .‬فماذا يعني هذا الهدف؟ وكيف يمكن‬ ‫للتربية الفكرية تحقيقه؟ فلا معنى لعضوية الفرد في المجتمع من دون أ ْن يؤدي للمجتمع‬ ‫من المهمات والوظائف المتخ ِّصصة ما يحتاج إليه مجتمعه‪ ،‬ولك َّن الأهم م ّما يق ِّدمه الفرد‬ ‫للمجتمع منفرد ًا هو تعا ُونه مع غيره في الجماعة العلمية أو المهنية التي ينتسب إليها في‬ ‫ترقية المجتمع والأُ َّمة في جانب من جوانب الاختصاص‪ ،‬وبحثه معهم عن مواطن الثغرات‬ ‫التي يمكن أ ْن ُتؤتى الأُ َّم ُة من خلالها؛ من أجل َس ِّدها‪ ،‬وتقديم مصلحة الأُ َّمة على المصلحة‬ ‫الخاصة للأفراد‪ ،‬وغير ذلك من المسؤوليات التي تتح َّقق من خلال الجهود الجمعية‪.‬‬ ‫ومن المعروف أ َّن بعض الأشخاص ُي ْح ِسنون العمل منفردي َن‪ ،‬ويدركون ما يستطيعون‬ ‫أ ْن يقوموا به وحدهم‪ ،‬وهم يرون الحاضر وما يتط َّلبه في لحظته‪ ،‬ولكنَّهم لا ُي ْح ِسنون العمل‬ ‫في فريق‪ ،‬ولا يدركون الصورة الكلية لواقع المجتمع وما َيلزمه من مشروعات لا ُب َّد لها‬ ‫من التعا ُون والتكا ُمل‪ ،‬ولا يستشرفون المآلات التي يتح َّرك المجتمع نحوها‪ ،‬أو ينبغي‬ ‫أ ْن يتح َّرك نحوها‪ .‬لذلك‪ ،‬فإ َّنه يتع َّين على الفكر التربوي الإسلامي أ ْن يؤ ِّهل كل فرد من‬ ‫هؤلاء للعمل ضمن فريق‪ ،‬ليس لاستثمار طاقاته الفردية فحسب‪ ،‬بل ليتم َّكن مع غيره من‬ ‫استكمال متط َّلبات الأعمال الجماعية اللازمة‪.‬‬ ‫‪428‬‬

‫ومن المؤ َّكد أ َّن الشخصية الإسلامية التي نريد للفكر التربوي الإسلامي أ ْن يش ِّكلها‬ ‫ينبغي أ ْن تتصف بهذين الجانبين بصورة متكاملة؛ فالخطاب القرآني َتو َّجه إلى الإنسان في‬ ‫شخصيته الفردية‪﴿ .‬ﭧﭨ﴾‪ ،‬وبصفته عضو ًا في جماعة لها خصائص مشتركة‪﴿ .‬‬ ‫ﭟﭠﭡ﴾‪ ،‬وتح َّدث عن الفرد الذي ُي ْح ِسن؛ فيأخذ كتابه يوم القيامة بيمينه‪ ،‬والفرد‬ ‫الذي ُيسيء؛ فيأتيه كتابه بشماله‪ .‬وتح َّدث كذلك عن تفاوت الجماعات في صفاتها؛ فمنهم‬ ‫المؤمنون‪ ،‬والكافرون‪ ،‬والمنافقون؛ ومنهم المتقون والفاسقون؛ ومنهم ال ّضالون والمهتدون‪.‬‬ ‫ومنهم َمن يتصف بصفات الخير رجالاً ونسا ًء‪﴿ .‬ﮩﮪﮫﮬ‬ ‫ﮭﮮﮯﮰﮱﯓ﴾ [الأحزاب‪ .]35:‬وتح َّدث‬ ‫أيض ًا عن أفراد من الذكور المؤمنين‪ ،‬منهم‪﴿ :‬ﭴﭵﭶﭷ ﭸﭹﭺ‪،﴾...‬‬ ‫وعن أفراد من الإناث المؤمنات‪﴿ .‬ﯦﯧﯨ‪[ ﴾...‬التحريم‪ ،]١١:‬وتح َّدث عن أفراد كافرين‬ ‫من الذكور والإناث‪﴿ .‬ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮓﮔﮕ‬ ‫ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ﴾ [المسد‪.]5-1:‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬خاصية التكا ُمل والتوا ُزن في بناء مك ِّونات الشخصية‪:‬‬ ‫تم ِّيز دراسات الشخصية بصورة عامة بين ثلاثة مك ِّونات في شخصية الإنسان؛‬ ‫مك ِّو ٍن ماد ٍّي أو جسم ٍّي يخت ُّص بالبنية المادية للإنسان الفرد؛ من‪ :‬حجم‪ ،‬ولون‪ ،‬وملامح‬ ‫شكلية‪ .‬ومك ِّو ٍن عقل ٍّي يخت ُّص بالمعلومات والمعارف والخبرات الفكرية والعملية وطرق‬ ‫اكتسابها‪ .‬ومك ِّون نفس ٍّي وجدان ٍّي يخت ُّص بميول الإنسان‪ ،‬ومشاعره‪ ،‬وأخلاقه‪ ،‬وقيمه التي‬ ‫تصف سلوكه وتعامله‪ .‬وتتكامل هذه المك ِّونات في شخصية الإنسان بصورة لا يسهل‬ ‫تفكيكها إلا لأغراض تسهيل دراستها‪.‬‬ ‫ويحرص الفكر التربوي الإسلامي على أ ْن يبني شخصية إسلامية تتكامل فيها‬ ‫مك ِّوناته الثلاثة‪ :‬جسمه‪ ،‬وعقله‪ ،‬وروحه؛ ذلك أ َّن الإنسان يحيا حياته بهذه المك ِّونات‬ ‫الثلاثة‪ .‬والتربية ‪-‬في حقيقتها‪ -‬ليست إعداد ًا للحياة فحسب‪ ،‬بل هي الحياة نفسها؛ ففيها‬ ‫تتكامل متط َّلباتها في الجوانب المك ِّونة لبنية الإنسان المادية والنفسية والعقلية‪.‬‬ ‫وإذا ص َّح أ ْن نتكلم عن مك ِّونات الإنسان من جسم وعقل وروح‪ ،‬فإ َّن من المؤ َّكد‬ ‫أ َّن كل مك ِّون يحتاج إلى عناية تناسبه من وسائل التنمية والتربية والتزكية؛ فللجسم‬ ‫‪429‬‬

‫تربية ولها وسائلها‪ ،‬وللعقل تربية ولها وسائلها‪ ،‬وللروح تربية ولها وسائلها‪ .‬وخاصية‬ ‫التكا ُمل في الفكر التربوي هي أ ْن ينال كل مك ِّون من مك ِّونات الإنسان القدر اللازم له‬ ‫من التربية والتنمية والتزكية‪ ،‬وبالوسائل التي تناسبه‪ .‬وحتى حين يقوم المتخ ِّصص في‬ ‫التربية الجسمية ‪-‬مثل ًا‪ -‬بعمله في هذه التربية لشخص معين‪ ،‬فإ َّن عليه أ ْن يكون واعي ًا بأ َّن‬ ‫ذلك الشخص يحتاج إلى التربية العقلية‪ ،‬والتربية الروحية‪ ،‬فينتبه وين ِّبه إلى ذلك‪ ،‬ويفسح‬ ‫المجال لما َيلزمهما‪ ،‬وربما يحتاج المتخ ِّصصون في جوانب التربية إلى أ ْن يتعاونوا مع ًا‬ ‫في البحث عن طرق استكمال هذه الجوانب‪ ،‬بحيث يدعم جهد أ ٍّي منهم جهود الآخرين‪.‬‬ ‫فهذه المك ِّونات يرتبط أحدها بالآخر‪ ،‬ويؤ ِّثر فيه‪ ،‬ولك َّن أ َّي مك ِّون منها لا يغني عن غيره‪.‬‬ ‫فالإيمان يحتاج إلى العمل الصالح‪ ،‬ولا يغني أحدهما عن الآخر‪ ،‬ومواصفات‬ ‫العمل الصالح هي ما يح ِّدده الإيمان‪ ،‬ويقتضيه‪ .‬وكثير ًا ما ربط القرآن الكريم بينهما في‬ ‫مثل قوله سبحانه‪﴿ :‬ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ‬ ‫ﭴﭵﭶﭷ﴾ [يونس‪ .]9:‬فالإيمان هو الذي يهدي المؤمنين إلى ما َيلزمهم من‬ ‫عمل الصالحات‪ ،‬التي تؤ ِّهلهم لدخول جنات النعيم‪ .‬ووازع الإيمان لا يغني عن وازع‬ ‫السلطان‪ .‬ختام ًا‪ ،‬فإ َّن التكا ُمل في العمل التربوي لا ُب َّد أ ْن يتو َّجه إلى الرجل والمرأة في‬ ‫المجتمع؛ فتربية أحدهما لا تغني عن تربية الآخر‪ ،‬وإ َّن التربية تتو َّجه لك ٍّل منهما إلى ما‬ ‫يكون إعداد ًا للمهمات المتمايزة بينهما‪.‬‬ ‫‪ .1‬المك ِّون المادي من الشخصية‪:‬‬ ‫مع أ َّن التراث التربوي الإسلامي تح َّدث عن تربية ال ُمتع ِّلم في الجوانب المادية‪،‬‬ ‫في صورة ما ينبغي أ ْن يكون‪ ،‬فإ َّن الممارسة العملية للإعداد المادي لم تأخذ ح َّظها‬ ‫فيما شهده المجتمع الإسلامي من مؤسسات التعليم بصورة ممنهجة‪ ،‬وإ َّنما كان هذا‬ ‫الإعداد يتم بوصفه جزء ًا من الممارسات الاجتماعية التقليدية‪ ،‬أو جزء ًا من متط َّلبات‬ ‫الإعداد للحياة العملية‪ (((.‬ولم نجد فيما تض َّمنه التراث التربوي الإسلامي أمثل ًة كثير ًة‬ ‫((( قال الغزالي في \"إحياء علوم الدين\" عن ضرورة إتاحة المجال للطفل أ ْن يستريح من تعب المكتب باللعب‪:‬‬ ‫\"وينبغي أ ْن ُي ْؤ َذن له بعد الانصراف من ال ُك ّتاب أ ْن يلعب لعب ًا جميل ًا يستريح إليه من تعب المكتب‪ ،‬بحيث لا‬ ‫يتعب في اللعب‪ ،‬فإ َّن َمنْ َع الصبي من اللعب وإرهاقه إلى التعليم دائم ًا يميت قلبه‪ ،‬و ُيب ِطل ذكاءه‪ ،‬و ُين ِّغص عليه‬ ‫العيش حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأس ًا‪ \".‬انظر‪:‬‬ ‫‪ -‬الغزالي‪ ،‬أبو حامد محمد بن محمد (توفي‪505 :‬ﻫ)‪ .‬إحياء علوم الدين‪ ،‬بيروت‪ :‬دار المعرفة‪( ،‬د‪ .‬ت‪،).‬‬ ‫كتاب‪ :‬رياض النفس‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.73‬‬ ‫‪430‬‬

‫على وجود وقت مح َّدد للتربية البدنية في البرنامج الدراسي اليومي أو الأسبوعي‪،‬‬ ‫أو أمثلة على المرافق والمساحات والملاعب اللازمة لمثل هذه التربية في الكتاتيب‬ ‫وأماكن تعليم الصبيان‪(((.‬‬ ‫ور َّبما طرأت الحاجة إلى مثل هذه المرافق ‪-‬فيما بع ُد‪ -‬عند إنشاء المدارس التي‬ ‫كانت ُتص َّمم وفق رؤية مسبقة؛ لتحتوي على مرافق متخ ِّصصة للوضوء‪ ،‬والصلاة‪،‬‬ ‫والطعام‪ ،‬والنوم‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬فقد جاء في كتاب \"تاريخ علماء المستنصرية\" ‪-‬نقل ًا عن‬ ‫عدد من مراجع التراث‪ -‬أ َّن المدرسة المستنصرية (نسب ًة إلى َمن أمر ببنائها؛ وهو الخليفة‬ ‫المستنصر في خلافته الممتدة من عام ‪623‬ﻫ إلى عام‪640‬ﻫ) كانت أقرب إلى أ ْن تكون‬ ‫جامعة لجميع المواد‪ ،‬مثل‪\" :‬علم الطب‪ ،‬وحفظ قوام الصحة‪ ،‬وتقويم الأبدان‪ (((\".‬فض ًلا‬ ‫عن علوم القرآن‪ ،‬والحديث‪ ،‬والفقه‪ ،‬واللغة‪ ،‬وغيرها‪ .‬ونتوقع أ ْن يتض َّمن تصميم المدرسة‬ ‫ما َيلزم لحفظ قوام الصحة‪ ،‬وتقويم الأبدان‪ ،‬من المساحات والمرافق‪(((.‬‬ ‫وتذكر بعض نصوص التراث أ َّن أهل دمشق كانوا ينتقلون يوم السبت إلى مكان‬ ‫ُيس ّمى الميدان الأخضر‪ ،‬وينقلون معهم تجاراتهم‪ ،‬ويمضون يومهم باللهو واللعب‪،‬‬ ‫فإذا كان وقت المغرب ص َّلوا في الجامع‪ ،‬ث َّم عادوا إلى بيوتهم‪ (((.‬وعن أهل ساوة؛ وهي‬ ‫مدينة في شمال إيران حالي ًا‪ ،‬أ َّن غلمانهم كانوا يخرجون في الربيع بعد صلاة الجمعة‬ ‫ليمارسوا الملاكمة‪(((.‬‬ ‫((( نجد في التراث التربوي الإسلامي إشارات عن ضرورة إتاحة المجال أمام الأطفال للترويح واللعب‪ .‬انظر‪:‬‬ ‫‪ -‬الغزالي‪ ،‬إحياء علوم الدين‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.73‬‬ ‫‪ -‬ابن مسكويه‪ ،‬أبو علي أحمد بن محمد (توفي‪421 :‬ﻫ)‪ .‬تهذيب الأخلاق‪ ،‬دراسة وتحقيق‪ :‬عماد الهلالي‪،‬‬ ‫بيروت‪ :‬منشورات الجمل‪2011 ،‬م‪ ،‬ص‪.389‬‬ ‫قال‪\" :‬ذلك أ َّن اللعب ُيشبِه الراحة‪ ،‬والراحة ليست من تمام السعادة‪ ،‬ولا من أسبابها‪ ،‬وإ َّنما يميل إلى الراحات‬ ‫البدنية َمن كان طبيعي الشكل بهيمي النجار‪ ،‬كالعبيد والصبيان والبهائم‪ .‬فليس ينسب الحيوان غير الناطق ولا‬ ‫الصبيان والعبيد إلى السعادة‪ ،‬ولا َمن كان مناسب ًا لهم‪ ،‬وأما العاقل الفاضل فإنه يطلب بهمته أعلى المراتب‪\".‬‬ ‫((( معروف‪ ،‬تاريخ علماء المستنصرية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.1‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.1‬‬ ‫((( القزويني‪ ،‬زكرياء بن محمد بن محمود الأنصاري (توفي‪682 :‬ﻫ)‪ .‬آثار البلاد وأخبار العباد‪ ،‬بيروت‪ :‬دار صادر‪،‬‬ ‫(د‪.‬ت)‪ ،‬ص‪.191‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.389‬‬ ‫‪431‬‬

‫وإذا كانت التربية البدنية جزء ًا من الفكر التربوي الإسلامي بحكم أنماط التنشئة‬ ‫الاجتماعية العادية‪ ،‬فإ َّن الموضوع لم يكن بعيد ًا عن التنظير لهذه التربية‪ ،‬وبيان أهميتها‪،‬‬ ‫وأنواعها‪ ،‬والاستناد في ذلك كله إلى نصوص الشريعة في القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية‪.‬‬ ‫فالمف ِّسرون وقفوا عند عدد من الآيات القرآنية التي تشير إلى فضل الله سبحانه على‬ ‫الإنسان في تسوية صورته ال َخلقية‪ .‬قال القرطبي في تفسير قوله تعالى‪﴿ :‬ﮠ‬ ‫ﮡﮢ﴾ [غافر‪\" :]64:‬وقد مضى معنى التصوير‪ ،‬وأ َّنه التخطيط والتشكيل‪ .‬فإ ْن‬ ‫قيل‪ :‬كيف أحس َن صورهم؟ قيل له‪ :‬جعلهم أحسن الحيوان كله وأبهاه صور ًة‪ ،‬بدليل أ َّن‬ ‫الإنسان لا يتمنّى أ ْن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور‪ ،‬ومن ُح ْسن صورته‬ ‫أ َّنه ُخ ِلق ُمنت ِصب ًا غير ُمنْ َك ٍّب‪(((\".‬‬ ‫ولا شك في أ َّن شكل الجسم جزء من مظهره الذي يعطي انطباع ًا معين ًا عنه‪ ،‬وكذلك‬ ‫الأمر في لغته وبيانه‪ .‬قال الله سبحانه عن المنافقين‪﴿ :‬ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ‬ ‫ﯦﯧﯨ﴾ [المنافقون‪ .]4:‬وقال الرازي في \"التفسير الكبير\"‪\" :‬اعلم أ َّن قو َله تعالى‪﴿ :‬ﯟ‬ ‫ﯠ﴾ يعني‪ ‬عبد الله بن ُأب ٍّي‪ ،‬ومغيث بن قيس‪ ،‬و َج َّد بن قيس‪ ،‬كانت لهم أجسام ومنظر‪،‬‬ ‫تعجبك أجسامهم لحسنها وجمالها‪ ،‬وكان‪ ‬عبد الله بن ُأب ٍّي‪ ‬جسيم ًا صبيح ًا فصيح ًا‪ ،‬وإذا قال‬ ‫سمع النب ُّي ﷺ قوله‪(((\".‬‬ ‫وهذه الآية القرآنية تؤ ِّكد أ َّن للظاهر من جسم الإنسان‪ ،‬وللفصيح البليغ من البيان‪،‬‬ ‫أ َث َرهما الإيجابي في نفس الناظر والسامع‪ ،‬عندما لا يعلم هذا الناظر أو السامع حقيقة ما‬ ‫وراءهما‪ .‬فإ ْن كانت الحقيقة خير ًا‪ ،‬فنِ ْعم ُح ْسن الظاهر و ُح ْسن الكلام‪.‬‬ ‫ولا يغيب عنّا أ َّن في القرآن نصوص ًا كثيرة في فضل امتلاك الق َّوة وأدواتها‪ .‬وحين‬ ‫اختار الله لبني إسرائيل ملك ًا بنا ًء على طلبهم‪ ،‬ث َّم احتجوا على اختياره وفق معاييرهم‪ ،‬ذكر‬ ‫من فضائله فضيلتين؛ فضيلة البسطة في العلم‪ ،‬وفضيلة البسطة في الجسم‪ .‬قال ابن عاشور‬ ‫في تفسير قوله تعالى‪ ﴿ :‬ﮬﮭﮮﮯﮰﮱ﴾ [البقرة‪\" :]247:‬أ َّن الصفات‬ ‫((( القرطبي‪ ،‬الجامع لأحكام القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،21‬ص‪.9‬‬ ‫((( الرازي‪ ،‬التفسير الكبير «مفاتيح الغيب»‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،30‬ص‪.14‬‬ ‫‪432‬‬

‫المحتاج إليها في سياسة أمر الأُ َّمة ترجع إلى أصالة الرأي وق َّوة البدن؛ لأ َّنه بالرأي يهتدي‬ ‫لمصالح الأُ َّمة‪ ،‬لا سيما في وقت المضائق‪ ،‬وعند تع ُّذر الاستشارة‪ ،‬أو عند خلاف أهل‬ ‫الشورى‪ .‬وبالق َّوة يستطيع الثبات في مواقع القتال‪ ،‬فيكون بثباته ثبات نفوس الجيش‪\".‬‬ ‫وبنو إسرائيل إ َّنما طلبوا من نبيهم أ ْن يجعل لهم ملك ًا ليقاتلوا في سبيل الله‪\" .‬فكان اختيار‬ ‫الله لملك فيه من الخصائص ما يم ِّكنه من القيادة العسكرية‪(((\".‬‬ ‫وجاء في \"تفسير المنار\"‪ ،‬في الموضوع نفسه‪ ،‬ما ن ُّصه‪\" :‬وإ َّنما اكتفى بذكر ال َّسعة في‬ ‫العلم الذي يكون به التدبير‪ ،‬وبسطة الجسم المع ِّبر عن صحته وكمال قواه المستلزم ذلك‬ ‫لصحة الفكر‪ ...‬وللشجاعة‪ ،‬والقدرة على المدافعة‪ ،‬وللهيبة‪ ،‬والوقار‪(((\".‬‬ ‫وفي ُسنَّة النبي ﷺ وسيرته الكثي ُر من المواقف التي تؤ ِّكد أهمية نظافة البدن والثوب‬ ‫والمكان؛ سواء في داخل البيت‪ ،‬أو في خارجه‪ ،‬ولا سيما عند اجتماع الناس‪ .‬ومن‬ ‫نصوص ال ُّسنة توجيهات نبوية إلى ما ُيس ّمى سنن الفطرة‪ ،‬وما يخت ُّص باللحية والسواك‬ ‫واستعمال العطر المناسب‪ .‬وفي الحديث الشريف‪َ \" :‬أ ْص ِل ُحوا ِر َحا َل ُكم َو َأ ْص ِل ُحوا لِ َبا َس ُكم‬ ‫ح َّتى تكو ُنوا كال َّشا َم ِة في النَّا ِس‪(((\".‬‬ ‫ولك َّن الإعجاب بالظاهر من ُح ْسن الهيئة والبيان‪ ،‬وتأثيرهما في النفس‪ ،‬لا ينبغي أ ْن‬ ‫يحول دون التأ ُّكد من بواطن الأمور وحقائق الأشياء‪ .‬ولذلك ع َّلم النبي ﷺ أصحابه ألا‬ ‫ُي ْؤ َخذوا بالظواهر؛ فحين كان النبي مع أصحابه اختبر أثر الظاهر فيهم‪ ،‬عندما َم َّر رج ٌل‬ ‫تبدو عليه مظاهر الغنى‪ ،‬فسألهم عنه‪ ،‬فأثنوا عليه‪ ،‬ث َّم َم َّر رج ٌل آخر تبدو عليه مظاهر الفقر‪،‬‬ ‫فسألهم عنه‪ ،‬فلم يثنوا عليه‪ ،‬فقال لهم‪\" :‬هذا خي ٌر من ِملء الأرض مثل هذا‪ (((\".‬فع َّلمهم أ َّن‬ ‫الإعجاب بالهيئة والمظهر لا ينبغي أ ْن يؤ ِّثر في معيار التفاضل بين الناس‪ .‬والشاهد الذي‬ ‫نراه هنا هو أ َّن المعتاد والمألوف عند الناس أ َّن هيئة الإنسان الظاهرة في جسمه ولباسه‬ ‫تترك أثر ًا في قلوبهم‪ ،‬مع أ َّن الله سبحانه يعلم حقيقة الإنسان‪.‬‬ ‫((( ابن عاشور‪ ،‬تفسير التحرير والتنوير‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.491‬‬ ‫((( رضا‪ ،‬محمد رشيد‪ .‬تفسير المنار‪ ،‬القاهرة‪ :‬مطبعة المنار‪1350 ،‬ﻫ‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.477‬‬ ‫((( أبو داود‪ ،‬سنن أبي داود‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬اللباس‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء في إسبال الإزار‪ ،‬حديث رقم‪:‬‬ ‫(‪ ،)4089‬ص‪.446‬‬ ‫((( البخاري‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬النكاح‪ ،‬باب‪ :‬الأكفاء في الدين‪ ،‬حديث رقم‪ ،)5091( :‬ص‪.1009‬‬ ‫‪433‬‬

‫هذه التوجيهات القرآنية والنبوية جعلت العلماء يؤ ِّكدون أهمية ال ُب ْعد الجسمي من‬ ‫شخصية الإنسان‪ ،‬وضرورة العناية به‪ .‬فقد أورد ابن ق ِّيم الجوزية في \"زاد المعاد\" فصل ًا‬ ‫حمل عنوان‪\" :‬هديه ﷺ في الرياضة\"‪ ،‬وقال فيه‪\" :‬تدبير الحركة والسكون‪ ،‬وهو الرياضة‪\".‬‬ ‫وذكر تفاصيل عديدة عن السبب الموجب للرياضة‪ ،‬وفوائدها‪ ،‬ووقتها‪ ،‬وأنواعها‪ ،‬ورياضة‬ ‫النفوس‪ ،‬ورياضات ُأخرى‪ .‬وكان م ّما قاله‪\" :‬ولكل عضو رياضة تخ ُّصه‪ ،‬فذكر الصدر‪،‬‬ ‫والسمع‪ ،‬والبصر‪ ،‬واللسان‪ \".‬ث َّم قال‪\" :‬وكذلك رياضة المشي بالتدريج شيئ ًا فشيئ ًا‪ .‬وأ ّما‬ ‫ركوب الخيل‪ ،‬ورمي النِّ ّشاب‪ ،‬والصراع‪ ،‬والمسابقة على الأقدام‪ ،‬فرياضة للبدن كله‪ ،‬هي‬ ‫قالعة لأمراض مزمنة‪(((\".‬‬ ‫وما ُي ِه ُّمنا في هذا المقام تأكيد أ َّن الفكر التربوي الإسلامي المراد بناؤه لا يمكن أ ْن‬ ‫يستغني عن إعداد الإنسان فيما َيلزم له من سلامة بدنه‪ ،‬وق َّوته للقيام بمهماته في حياته وحياة‬ ‫أسرته ومجتمعه؛ فقوة البدن وسلامته من بدهيات الأمور وطبائعها‪ ،‬ومن متط َّلبات قيام‬ ‫الإنسان بعباداته؛ من‪ :‬صلاة‪ ،‬وصيام‪ ،‬وحج‪ ،‬ومن ضرورات سعيه في كسب رزقه‪ ،‬وما تحتاج‬ ‫إليه حرفته أو مهنته من حركة وجهد بدني‪ ،‬ومشاركته في أعباء الجهاد في وقته‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬ ‫والجسم في شخصية الإنسان هو أساس ًا في صحته وسلامته م ّما يعيقه عن أداء‬ ‫مهماته‪ ،‬وهذه ليست صفة مح َّددة بمقاييس مادية في ال َك ِّم أو الكيف؛ فالناس يتفاوتون‬ ‫كثير ًا في قدراتهم على أداء المهمات المختلفة‪ .‬وقد يكون للإنسان ق َّوة مادية في صفة‬ ‫معينة مع ضعف في صفة مادية ُأخرى‪ .‬وقد تبرز فيه قوى عقلية أو نفسية تزيد من كفاءته‬ ‫الجسمية للقيام بمهمات لا يستطيعها صاحب البسطة في الجسم‪.‬‬ ‫ولذلك‪ ،‬فإ َّن على النظام التربوي أ ْن يو ِّفر لل ُمتع ِّلمين ُفرص ًا مختلفة لتقوية أجسامهم؛‬ ‫فمنهم َمن يقوى على ال َع ْدو والقفز‪ ،‬ومنهم َمن يقوى على الحمل والسحب والدفع‪،‬‬ ‫ومنهم َمن يملك مهارات قتالية متخ ِّصصة‪ ،‬ومنهم َمن ير ِّكز على ق َّوة البصر وق َّوة السمع‪،‬‬ ‫ومهارات الكلام أو الكفاءات المادية اللازمة لأنواع الحرف والمهن‪ .‬فالمجتمع يحتاج‬ ‫إلى كل ذلك‪ ،‬وك ٌّل ُمي َّس ٌر لما ُخ ِلق له‪.‬‬ ‫((( ابن الق ِّيم‪ ،‬أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب (توفي‪751 :‬ﻫ)‪ .‬زاد المعاد في هدي خير العباد‪ ،‬ضبط نصه‪:‬‬ ‫شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط‪ ،‬بيروت‪ :‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬ط‪2009 ،1‬م‪ ،‬ص‪.683-682‬‬ ‫‪434‬‬

‫ث َّم إ َّن النظام التربوي يمكنه أ ْن يرشد ما يحفظ على الناس صحتهم وسلامتهم عن‬ ‫طريق الإرشادات الصحية في النظافة والطعام والشراب؛ لحفظ الجسم م ّما ُي ْض ِعفه‪ ،‬أو‬ ‫ُيق ِّلل من كفاءته؛ إذ يكون الطعام والشراب م ّما أح َّل الله‪ ،‬من دون إسراف وإفراط‪ ،‬ومن‬ ‫دون إنهاك للجسم وإضعاف له‪ .‬وعند المسلم مقتضيات خاصة في الطهارة والنظافة‬ ‫المادية في الجسد‪ ،‬وفي الثوب‪ ،‬وفي المكان‪.‬‬ ‫‪ .2‬المك ِّون العقلي من الشخصية‪:‬‬ ‫لن نطيل الحديث عن المك ِّون العقلي من الشخصية؛ فقد كانت له ‪-‬ولا تزال‪-‬‬ ‫الصدارة في جهود التعليم والتع ُّلم‪ ،‬في التاريخ الإسلامي‪ .‬وبالرغم من أ َّن نصوص التراث‬ ‫التربوي الإسلامي ر َّكزت كثير ًا على فضل العلم والعلماء‪ ،‬وآداب العالِم وال ُمتع ِّلم‪،‬‬ ‫والتلميذ ال ُمتع ِّلم‪ ،‬وما تتض َّمنه هذه الموضوعات من تو ُّجه إلى تشكيل شخصية الإنسان‪،‬‬ ‫فإ َّن الممارسات التعليمية كانت تر ِّكز في الغالب على مواد التعليم‪ ،‬لا سيما القرآن‬ ‫الكريم تلاو ًة وحفظ ًا وتفسير ًا‪ ،‬والحديث النبوي متن ًا وسند ًا‪ ،‬وبعض علوم اللغة والأدب‪،‬‬ ‫وأساسيات الحساب‪ ،‬وغير ذلك من الموضوعات‪.‬‬ ‫صحيح أ َّن المك ِّون العقلي يتصل بالعلوم التي يتل ّقاها ال ُمتع ِّلم‪ ،‬ولكنَّه أوث ُق صل ًة‬ ‫بمنهج اكتساب هذه العلوم‪ ،‬وبعمليات التع ُّقل والتف ُّكر والتد ُّبر؛ لتحقيق الفهم‪ ،‬وبناء‬ ‫الوعي والإدراك لهذه العلوم‪ .‬ولهذا‪ ،‬فإ َّن العلماء عندما تح َّدثوا عن مقاصد الشريعة جعلوا‬ ‫حفظ العقل قرين ًا لحفظ النفس (الحياة)‪ ،‬وحفظ المال (ممتلكات الإنسان)‪ ،‬وحفظ النسل‬ ‫(النوع البشري)‪ ،‬وحفظ ال ِعرض (الكرامة الإنسانية)‪ .‬والأساس في تفعيل مقصد العقل‬ ‫هو اتخاذ الوسائل والأساليب التي ُتس ِهم في إعماله لاكتساب العلم والتف ُّكر والتد ُّبر‬ ‫والتذ ُّكر فيما يكتسبه‪ .‬وهذه المهمات هي من خصائص الإنسان‪ ،‬ومؤ ِّشرات وعيه بذاته‬ ‫وبما حوله؛ لذا وصف القرآن الكريم َمن يتوقف عن إعمال عقله عن أداء هذه المهمات‬ ‫بأ َّنه ِمثل سائر الأنعام‪ ،‬بل هو أضل‪(((.‬‬ ‫((( إشارة إلى قوله تعالى‪﴿ :‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡ﴾ [الفرقان‪،]44 :‬‬ ‫وإلى قوله سبحانه‪﴿ :‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ‬ ‫ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ﴾ [الأعراف‪.]179 :‬‬ ‫‪435‬‬

‫فعمليات التع ُّقل والتف ُّكر والتد ُّبر والتذ ُّكر يمكن أ ْن تكون مجالات خصبة في العمل‬ ‫التربوي‪ ،‬و َتظهر تج ِّلياتها بصورة مباشرة على الشخصية الإنسانية في جانبيها‪ :‬العقلي‪،‬‬ ‫والنفسي‪ .‬وهي ليست عمليات تعليمية مج َّردة قائمة بذاتها في المق َّررات التربوية‪،‬‬ ‫وإ َّنما هي منهج للتعامل مع المواد التعليمية المختلفة؛ ففي تعليم النص القرآني الحكيم‬ ‫مناسبات لاستلهام سبيل الهدى والاعتبار‪ .‬ومن الأمثلة على ذلك أ َّن َق َصص الأنبياء‬ ‫وأقوامهم كانت ُتع َرض من أجل العبرة‪ (((.‬وفي مشاهد الكون عبرة‪ (((،‬وفي تعليم التاريخ‬ ‫مواقف لإعمال العقل في التف ُّكر والاعتبار والتد ُّبر عندما يتض َّمن ذلك التع ُّل ُم والتعليم فه َم‬ ‫الأحداث في سيرورتها وصيرورتها‪ ،‬وفي تعليم العلوم الطبيعية مواقف للنظر والمشاهدة‬ ‫والتأ ُّمل في تكوين الأشياء وخصائصها وتغ ُّيراتها‪ ،‬وفي عمليات الاختبار والتجريب تف ُّك ٌر‬ ‫وتد ُّب ٌر في التن ُّبؤ بالأحداث‪ ،‬وتوجيهها‪ ،‬ور َّبما التح ُّكم فيها وتوظيفها‪.‬‬ ‫ويمكن القول إ َّن في تعليم كل العلوم مجالات لحفظ العقل‪ ،‬بإعماله وتوظيفه‬ ‫لاكتساب المعرفة‪ ،‬وتحقيق متعة التع ُّلم وشغف الفضول العلمي‪ ،‬وبناء الح ِّس النقدي‬ ‫الذي يكشف عن الثغرات فيما وصلت إليه المعرفة‪ ،‬وشحن الذهن وحشد الطاقة على‬ ‫التعامل مع هذه الثغرات‪ ،‬والإسهام في نمو العلم وتطويره‪ ،‬وتحقيق مراد الله في طلب‬ ‫الزيادة في العلم‪.‬‬ ‫إ َّن القدرة على الاكتشاف وتطوير العلوم وتطبيقاتها الصناعية ليست حكر ًا على‬ ‫أهل دين أو عرق‪ ،‬ولا ينحصر ذلك في مكان أو زمان؛ فالقدرة العقلية منحة ربانية متاحة‬ ‫للجميع‪ ،‬وإ َّنما يظهر فعلها فيما يتاح لها من ُفرص النمو والتشغيل‪ .‬فإعمال العقل في كل‬ ‫ذلك إعما ٌر للأرض‪ ،‬وتحقي ٌق لمراد الله سبحانه في الخلافة فيها‪ .‬وفي كل ذلك ‪-‬من أول‬ ‫السعي إلى نهايته‪ -‬تعمي ٌق لإيمان المؤمن بقدرة الله وإرادته وحكمته‪.‬‬ ‫وتعليم العلوم المختلفة من دون وعي بالمك ِّون العقلي من شخصية الإنسان لا‬ ‫يكفي في بناء هذا المك ِّون‪ ،‬بل يقتضي هذا الوعي أ ْن يتح َّدد هدف التربية العقلية بصورة‬ ‫((( إشارة إلى قوله تعالى‪﴿ :‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ‬ ‫ﭣﭤﭥﭦ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ﴾ [ق‪ ،]37 -36:‬وقوله سبحانه‪﴿ :‬ﯫﯬﯭﯮ‬ ‫ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ‬ ‫ﰂ﴾ [يوسف‪.]111 :‬‬ ‫((( إشارة إلى قوله تعالى‪﴿ :‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ﴾ [النور‪.]44 :‬‬ ‫‪436‬‬

‫مباشرة في مناهج التعليم وممارساته‪ .‬ومن ذلك أ ْن تتض َّمن الأهداف تدريب ال ُمتع ِّلمين‬ ‫على التع ُّقل والتف ُّكر والتد ُّبر في عدد من المجالات التي تتو َّزع على فروع العلوم الطبيعية‬ ‫والاجتماعية والدينية‪ .‬ومن ذلك على سبيل المثال‪:‬‬ ‫‪ -‬التف ُّكر فيما شرعه الله سبحانه من أحكام لإدراك حكمته في تحقيق المصالح ودرء‬ ‫المفاسد‪ ،‬على أساس من حرية الإرادة والتفكير الذي ُيط ِلق طاقات العقل بما‬ ‫يقود إلى الإيمان عن رض ًا وقناع ٍة‪.‬‬ ‫‪ -‬التف ُّكر والاعتبار في ُسنَّة الله سبحانه في العا َلم الاجتماعي وأحداث التاريخ‪ ،‬وقيام‬ ‫الدول والحضارات وانهيارها‪ ،‬و َق َصص الأنبياء مع أقوامهم‪.‬‬ ‫‪ -‬التف ُّكر والتد ُّبر في مشاهد العا َلم الطبيعي‪ ،‬وأشيائه‪ ،‬وأحداثه‪ ،‬وظواهره‪ ،‬والسعي‬ ‫لاكتشاف هذه القوانين‪ ،‬واختبارها‪ ،‬وتوظيفها‪.‬‬ ‫‪ -‬التب ُّين والتث ُّبت والتح ّري في ورود الأنباء والأخبار بالوسائل المناسبة لها وفق‬ ‫طبائع الأشياء ووقائعها‪ ،‬ووفق مؤ ِّشرات الصدق والموثوقية في المصادر‪ .‬ويكون‬ ‫ذلك بالتث ُّبت من صحة المنقول‪ ،‬ومن سلامة الدليل‪ ،‬والاستفادة م ّما قادت إليه‬ ‫الخبرة البشرية المعاصرة من أساليب البحث ومناهجه وأدواته‪ ،‬وكل ذلك يكون‬ ‫بالتع ُّلم والتعليم‪ ،‬ومواصلة طلب العلم والزيادة فيه‪.‬‬ ‫‪ -‬تحرير العقل من أسباب الخلل في المك ِّون العقلي في الشخصية الإنسانية‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫الا ِّتباع والتقليد في ممارسة أمور الحياة‪ ،‬واتخاذ المواقف فيها من دون مرجعية‬ ‫معتبرة‪ ،‬وا ِّتباع الظن وما تهوى الأنفس‪ ،‬وعدم البحث الجاد عن مصادر الثقة واليقين‪.‬‬ ‫‪ -‬رفض حالات الاستبداد في الرأي وتقييد الحريات التي تحتكر السلطة في إدارة‬ ‫الدولة‪ ،‬والمجتمع‪ ،‬والأسرة‪ ،‬وسائر المؤسسات؛ فالسلطة المطلقة مفسدة‬ ‫مطلقة‪ ،‬تؤدي إلى قتل الطاقات‪ ،‬وإهدار الإمكانيات‪ ،‬وتضييع ال ُفرص‪.‬‬ ‫ومن أهم ما َيلزم في تجنُّب ضعف العقل وتعطيل فعاليته هو الوعي بالأثر الذي ُت ْح ِدثه‬ ‫بعض وسائل الإعلام التي أصبحت في هذا الزمن تحاصر العقول بالأخبار والتحليلات‬ ‫والمؤ ِّثرات النفسية‪ ،‬فينتهي الأمر بغسيل العقول‪ ،‬وتشكيلها على الطريقة الفرعونية‪(((.‬‬ ‫((( إشارة إلى قوله سبحانه عن فرعون‪﴿ :‬ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ﴾ [غافر‪.]29 :‬‬ ‫‪437‬‬

‫وم ّما يلفت النظر في منهج القرآن الكريم عن العقل أ َّنه لم يرد الحديث عنه بوصفه‬ ‫اسم ًا على شي ٍء‪ ،‬أو عض ٍو ما في جسم الإنسان‪ ،‬كما تح َّدث عن العين أو الأذن‪ ،‬وإ َّنما‬ ‫تح َّدث القرآن الكريم عن العقل بوصفه عمل ًا من الأعمال‪ ،‬وممارسة عملية في الحياة‬ ‫الفردية والاجتماعية‪ ،‬وهو خاصية م َّيز الله بها الإنسان عن سائر الكائنات التي نعرفها‬ ‫في عا َلم الشهادة‪ .‬وقد أجمع أهل ال ِم َّلة ‪-‬كما يقول الإيجي‪ -‬أ َّن هذه الخاصية هي مناط‬ ‫التكليف والمسؤولية‪(((.‬‬ ‫ووظيفة العقل هي تع ُّقل العلوم والمعارف‪ ،‬والوعي بها‪ ،‬وإدراكها‪ .‬وقد يأتي العقل‬ ‫بمعنى العلوم والمعارف نفسها‪ ،‬وقد يكون للدماغ شأن في عمليات التع ُّقل والإدراك‬ ‫والوعي م ّما قد يكشف عنه العلم‪ ،‬ولك َّن القرآن يق ِّرر أ َّن القلوب التي في الصدور هي‬ ‫التي تقوم بتلك العمليات‪﴿ .‬ﯤﯥﯦﯧ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ‬ ‫ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ﴾ [الحج‪.]46:‬‬ ‫ولذلك‪ ،‬لا ُب َّد أ ْن ينعكس فهمنا للعقل والتع ُّقل على ما يمكن بناؤه من الفكر التربوي‬ ‫الإسلامي‪ ،‬بما في ذلك فهمنا وممارستنا لأساليب التعليم‪ .‬وقد لاحظ محمد رشيد رضا‬ ‫في وقت مب ِّكر من القرن العشرين ضع َف المك ِّون العقلي في شخصيات أبناء الأُ َّمة‪،‬‬ ‫وح َّذر من ذلك‪ ،‬قائل ًا‪ :‬إ َّن عنايتنا بتربية المدارس في بلاد العرب والمسلمين يجب أ ْن‬ ‫تكون \"أشد من عناية غيرنا؛ لأ َّننا وقد تع َّذرت علينا التربية الأساسية بجهل نسائنا نرى‬ ‫تلاميذ سرى الفساد إلى أخلاقهم‪ ،‬والخرافات إلى عقولهم‪ ،‬ولكنَّنا لم نقم بهذا الواجب‪،‬‬ ‫ولم ُت ْع َن مدارسنا بالتربية النفسية‪ ،‬ولا بالتربية العقلية التي هي وظيفتها الأُولى‪ .‬لا أعني‬ ‫بالتربية العقلية تعليم العلوم التي يرتقي بها العقل‪ ... ،‬إ َّنما أعني بالتربية العقلية أ ْن يتو ّخى‬ ‫في أسلوب التعليم استقلا ُل عقول الطلاب في الفهم‪ ،‬والحكم في المسائل‪ ،‬وتحرير‬ ‫الحقائق‪ ،‬وألا ُي َع َّو ُدوا أخ َذ المسائل العلمية بالتسليم والتقليد‪(((\".‬‬ ‫ويربط القرآن الكريم في عنايته بالعقل البشري بين ما ُي َع ُّد تربية عقلية وتربية اعتقادية؛‬ ‫فحين يو ِّجه القرآن الكريم الإنسان إلى السير في الأرض‪ ،‬والنظر والتأ ُّمل في المشاهد‬ ‫((( الإيجي‪ ،‬أبو الفضل عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغار (توفي‪756 :‬ﻫ)‪ .‬المواقف في علم الكلام‪،‬‬ ‫القاهرة‪ :‬مكتبة المتنبي‪( ،‬د‪ .‬ت‪ ،).‬ص‪.146‬‬ ‫((( رضا‪ ،‬محمد رشيد‪ .‬مجلة المنار‪ ،‬القاهرة‪ 30 ،‬شعبان‪ ،‬أغسطس ‪1912‬م‪ ،‬المجلد ‪ ،15‬الجزء ‪ ،8‬ص‪.574‬‬ ‫‪438‬‬

‫الكونية؛ من‪ :‬حركات الشمس والقمر‪ ،‬وتق ُّلب الليل والنهار‪ ،‬ونزول المطر‪ ،‬وإحياء‬ ‫الأرض بالنبات‪ ،‬فإ َّنه يجعل العلم والمعرفة العقلية التي يمكن للإنسان أ ْن يكتسبها عن‬ ‫تلك المشاهد دعو ًة لتأ ُّمل خ ْلق الله وحكمته‪ ،‬وسبب ًا في تعميق الإيمان به‪ ،‬والاعتقاد بعلمه‪،‬‬ ‫وقدرته‪ ،‬وحكمته‪ .‬فالله سبحانه خبير بما سيكون من أثر هذه التربية العقلية في التربية‬ ‫الإيمانية والاعتقادية‪﴿ .‬ﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓ﴾ [النمل‪.]88:‬‬ ‫‪ .3‬المك ِّون الروحي‪ /‬النفسي من الشخصية‪:‬‬ ‫أشرنا فيما سبق إلى أ َّن الإنسان ‪-‬عند غالبية مف ِّكري الإسلام قديم ًا وحديث ًا‪ -‬يتك َّون‬ ‫من جسم‪ ،‬وعقل‪ ،‬وروح‪ .‬و ِم ْن َث َّم‪ ،‬فإ َّن أ َّي تربية سوف تتو َّجه إلى هذه المك ِّونات الثلاثة‪،‬‬ ‫وإ َّن أ َّي فكر تربوي سوف يتناولها ويوليها الاهتمام‪ .‬وقد تح َّدثنا عن المك ِّون المادي‬ ‫الجسمي‪ ،‬والمك ِّون العقلي‪ ،‬فما المك ِّون الروحي؟ وما التربية الروحية؟ وما علاقتها‬ ‫بالتربية النفسية؟‬ ‫نتوقع أ َّن أ َّي حديث عن التربية الروحية في الفكر التربوي الإسلامي سيأتي أساس ًا‬ ‫في ضوء حديث القرآن الكريم عن الروح؛ ففي القرآن الكريم جاء لفظ \"الروح\" بمعا ٍن‬ ‫متعددة‪ ،‬منها ما يتصل بالله سبحانه‪ ،‬الذي بدأ خلق الإنسان من طين‪ ،‬ث َّم نفخ فيه من روحه‪،‬‬ ‫وع َّلمه الأسماء كلها‪ ،‬وح َّمله الأمانة‪ ،‬وأوكل إليه مهمة الخلافة على الأرض‪ ،‬ومنحه صفة‬ ‫التكريم‪ .‬ولع َّل هذا المعنى للروح هو الذي ُس ِئل عنه النبي ﷺ‪ ،‬ليأتي الجواب من عند الله‬ ‫ع َّز وج َّل في قوله‪﴿ :‬ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ﴾ [الإسراء‪ .]85:‬ولع َّل في‬ ‫هذا الجواب إشار ًة إلى أ َّن الأَ ْولى ألا نخوض في أ ِّي أمر من أمور الغيب التي اخت َّص الله‬ ‫بها نفسه‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن التراث الإسلامي شهد قدر ًا من الكلام في عدد من التفاصيل‬ ‫التي اعتبرها العلماء ذات صلة بالروح الإنسانية‪ ،‬والنفس الإنسانية‪ ،‬والعلاقة بينهما‪.‬‬ ‫فنحن نجد في \"كتاب الروح\" لابن الق ِّيم مادة كبيرة‪ ،‬كتب الجزء الأكبر منها جواب ًا‬ ‫لأسئلة عن الروح‪ ،‬وأحوال البرزخ‪ ،‬وعذاب القبر‪ ،‬ومستقر الروح بعد الموت‪ ،‬مع جزء‬ ‫يسير حاول فيه التمييز بين الروح والنفس‪ .‬وذكر الكتاب أنواع النفس الثلاثة‪ :‬المطمئنة‪،‬‬ ‫والل ّوامة‪ ،‬والأَ ّمارة بالسوء‪ ،‬التي أشارت إليها الآيات القرآنية‪ .‬وكان م ّما قاله‪\" :‬والمقصود‪:‬‬ ‫التنبيه على بعض أحوال النفس المطمئنة والل ّوامة والأَ ّمارة‪ ،‬وما تشترك فيه النفوس الثلاثة‪،‬‬ ‫‪439‬‬

‫وما يتم َّيز به بعضها من بعض‪ ،‬وأفعا ِل ك ِّل واحد ٍة منها‪ ،‬واختلافها ومقاصدها ون ّياتها‪ ،‬وفي‬ ‫ذلك تنبي ٌه على ما ورا َءه‪ ...‬وهي نف ٌس واحد ٌة تكون َأ ّمار ًة تارة‪ ،‬ول ّوام ًة ُأخرى‪ ،‬ومطمئن ًة‬ ‫ُأخرى‪ .‬وأكثر الناس الغال ُب عليها الأَ ّمارة‪ ،‬وأ ّما المطمئنة فهي أق ُّل النفوس البشرية عدد ًا‪،‬‬ ‫وأعظ ُمها عند الله قدر ًا‪ .‬وهي التي يقال لها‪﴿ :‬ﭥ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ‬ ‫ﭯﭰ﴾ [الفجر‪(((\".]30-28:‬‬ ‫ومن الجدير بالذكر ‪-‬في هذا المقام‪ -‬أ َّن لفظ \"الروح\" جاء في القرآن الكريم‬ ‫بمعا ٍن ُأخرى‪ ،‬منها إشارة إلى الم َلك المو َّكل بالوحي‪ ،‬وهو جبريل في مثل قوله تعالى‪:‬‬ ‫﴿ﭤﭥﭦ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬٍ﴾ [القدر‪ .]4:‬ومنها القرآن الكريم في قوله تعالى‪:‬‬ ‫﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ‬ ‫ﭤ ﭥﭦﭧ﴾ [الشورى‪ .]52:‬والروح قد تكون كلام الله في نحو قوله سبحانه‪﴿ :‬ﯜ‬ ‫ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ﴾‪[ ‬غافر‪ .]15:‬وقد تأتي الروح بمعنى‬ ‫الرحمة‪ ،‬وذلك في قوله تعالى‪﴿ :‬ﭧﭨﭩﭪ ﭫﭬﭭﭮﭯ﴾‬ ‫[المجادلة‪]22:‬؛ أ ْي برحمة منه‪.‬‬ ‫وذكر ُمح ِّقق \"كتاب الروح\" لابن الق ِّيم أ َّن التراث الإسلامي يشير إلى عدد من‬ ‫المؤ َّلفات عن الروح م ّما‪\" :‬لا علم لنا بوجودها في خزائن الكتب‪ ،‬بل لابن الق ِّيم نفسه‬ ‫كتاب آخر كبير أ َّلفه قبل كتاب الروح هذا‪ ،‬وس ّماه الروح والنفس‪ ...‬ولك ْن لم نقف عليه‪،‬‬ ‫لا ندري أضاع فيما ضاع من نفائس تراث ابن الق ِّيم‪ ،‬أم لا يزال مخبوء ًا في زاوية من‬ ‫الزوايا‪ُ ،‬منتظِر ًا َمن ُيف ِّتش عنه‪ ،‬و ُيظ ِهره للناس؛ فكتاب الروح لابن الق ِّيم هو الكتاب الوحيد‬ ‫بين أيدينا اليوم من الكتب ال ُمصنَّفة في هذا الباب على منهج السلف‪(((\".‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن التربية الروحية عند َمن يكتب عنها ِمن المسلمين تعني في الغالب علاقة‬ ‫الإنسان بالله سبحانه‪ ،‬وهي علاقة تتع َّزز بتعميق الإيمان به ع َّز وج َّل‪ ،‬والاتصال الدائم به عن‬ ‫طريق العبادات المفروضة والنوافل‪ .‬ولا نجد في هذا المعنى من التربية الروحية إشكالاً‬ ‫باعتباره جزء ًا من المعنى العام للعبادة في الإسلام‪ ،‬الذي يشمل كل الأعمال الصالحة التي‬ ‫((( ابن ق ِّيم الجوزية‪ ،‬محمد بن أبي بكر بن أيوب (توفي‪751 :‬ﻫ)‪ .‬كتاب الروح‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد أجمل‪ ،‬مكة‬ ‫المكرمة‪ :‬دار عالم الفوائد‪1432 ،‬ﻫ‪ ،‬ص‪.742‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.5‬‬ ‫‪440‬‬

‫يقوم بها المؤمن طاع ًة لله‪ ،‬ورجا ًء ل ُح ْسن ثوابه‪ ،‬من مثل‪ :‬العبادات الشعائرية‪ ،‬وما يتصل‬ ‫بالعلاقات الاجتماعية‪ ،‬والاقتصادية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬والتربوية‪ ،‬والفنية‪ ،‬وغيرها‪.‬‬ ‫وفيما يخ ُّص الآثار الكثيرة التي تتح َّدث عن علاقة أرواح الموتى بالأحياء عن طريق‬ ‫المنامات وما يتع َّلق منها بعا َلم الغيب‪ ،‬فنُف ِّضل الإمساك عن الاهتمام بها‪ ،‬ونمسك كذلك‬ ‫عن الخوض في مسألة الروح الواردة في قوله تعالى عن آدم عليه السلام‪﴿ :‬ﯬﯭ‬ ‫ﯮﯯﯰ ﯱﯲﯳﯴ﴾ [الحجر‪ ،]29:‬وفي قوله سبحانه عن مريم عليها السلام‪:‬‬ ‫﴿ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ﴾ [التحريم‪ .]12:‬وحسبنا الاهتمام‬ ‫بروح الإنسان‪ ،‬والاعتقاد بأ َّن هذه الروح هي من أمر الله‪ ،‬والعلم بأ َّنها موجودة بوجود‬ ‫الحياة في الإنسان في حياته الدنيا‪ ،‬بوظائفها وتم ُّثلاتها‪ ،‬وأ َّن روح الفرد الإنساني تفارق‬ ‫جسده عند انتهاء حياته‪ ،‬وأ َّنها تكون روح ًا مؤمن ًة طيب ًة‪ ،‬أو روح ًا عاصي ًة خبيث ًة‪.‬‬ ‫والكتابات المعاصرة عن التربية الروحية والتربية الإسلامية في الفكر الإسلامي‬ ‫تختلط غالب ًا بالتربية النفسية‪ ،‬والتربية الأخلاقية‪ .‬وك ُّلها؛ أ ِي التربية الروحية‪ ،‬والتربية‬ ‫النفسية‪ ،‬والتربية الأخلاقية‪ ،‬تع ِّبر ع ّما يمكن أ ْن ُنس ّميه التربية الإيمانية؛ أ ِي التق ُّرب إلى الله‬ ‫ع َّز وج َّل بما شرع من أنواع الطاعات‪ ،‬والتر ّقي في مراتب الإيمان وشعبه المتعددة التي‬ ‫تتو َّزع على أبواب العقائد والعبادات والمعاملات‪ ،‬كما جاء في الحديث الصحيح عن‬ ‫ُشعب الإيمان‪(((.‬‬ ‫وحين حاول العلماء َع َّد ما رأوه من ُشعب الإيمان‪ ،‬فإ َّنهم لم يجدوا ُب ّد ًا من تضمين‬ ‫ذلك مسائل العقيدة‪ ،‬بما فيها أركان الإيمان الستة‪ ،‬وموضوعات الصلة بالله سبحانه؛ من‪:‬‬ ‫ُح ٍّب‪ ،‬وخوف‪ ،‬ورجاء؛ ومسائل العبادت‪ ،‬بما فيها أركان الإسلام بأبوابها وأحكامها؛‬ ‫ومسائل المعاملات والصلة بالناس؛ من‪ :‬ب ِّر الوالدين‪ ،‬وصلة الرحم‪ ،‬والأمر بالمعروف‬ ‫والنهي عن المنكر؛ وقضايا الأُ َّمة العامة؛ من‪ُ :‬حكم‪ ،‬وإصلاح بين الناس‪ ،‬وجهاد الأعداء‪،‬‬ ‫والمرابطة والثبات في القتال؛ ومسائل العاد ّيات؛ من‪ :‬مطاعم‪ ،‬ومشارب‪ ،‬وملابس؛‬ ‫ومسائل الآداب؛ من‪ :‬حياء‪ ،‬وإماطة الأذى عن الطريق‪ ،‬وتشميت العاطس‪ ،‬و ُح ْسن‬ ‫((( جاء في صحيح مسلم‪\" :‬ا ِلإي َما ُن بِ ْض ٌع َو َس ْب ُعو َن َأ ْو بِ ْض ٌع َو ِس ُّتو َن ُش ْع َب ًة‪َ ،‬ف َأ ْف َض ُل َها َق ْو ُل لَ إِ َل َه إِلَّ ال َّل ُه‪َ ،‬و َأ ْد َنا َها‬ ‫إِ َما َط ُة الأَ َذى َع ِن ال َّط ِري ِق‪َ .‬وا ْل َح َيا ُء ُش ْع َب ٌة ِم َن ال ِإي َما ِن‪ \".‬انظر‪:‬‬ ‫‪ -‬مسلم‪ ،‬صحيح مسلم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬الإيمان‪ ،‬باب‪ :‬بيان عدد ُشعب الإيمان‪ ،‬حديث رقم‪ ،)35( :‬ص‪.48‬‬ ‫‪441‬‬

‫الخلق‪ .‬وقد ف َّصل الحافظ البيهقي هذه ال ُّشعب حتى أوصلها إلى سبع وسبعين ُشعبة‪(((.‬‬ ‫لقد تض َّمن التراث التربوي الإسلامي ماد ًة غني ًة جد ًا عن النفس الإنسانية‪ُ ،‬كتِب‬ ‫الكثير منها في ظلال الآيات القرآنية الكريمة التي تح َّدثت عن هذه النفس‪ ،‬فكان منها‬ ‫آيات ب َّينت أنواع النفس وحالاتها وأمراضها‪ ،‬وجمعت بعض كتب التراث ما ورد من‬ ‫هدي نبوي‪ ،‬ومن آثار السلف الصالح عن النفس‪ ،‬وتض َّمنت بعض هذه الكتابات بيان ًا‬ ‫مف َّصل ًا عن العلاقة بين النفس والعقل والقلب والروح‪ .‬ودخلت في هذه الكتابات أحيان ًا‬ ‫مقولات فلسفية كان الفكر الإسلامي في ِغن ًى عنها‪ .‬وقد شارك في هذه الكتابات فقهاء‬ ‫ومح ِّدثون وفلاسفة‪ ،‬ولك َّن أكثر َمن كتب عن النفس علماء التصوف وشيوخهم‪ ،‬على‬ ‫اختلا ٍف وتباين كبير في َتو ُّجهاتهم الصوفية‪(((.‬‬ ‫ولا شك في أ َّن العلوم التي كان يق ِّدمها علماء الإسلام في حلقاتهم ومجالسهم‬ ‫التعليمية والتربوية لم تكن هدف ًا في ح ِّد ذاتها‪ ،‬وإ َّنما كان المقصود أ ْن يأتي العمل بعد‬ ‫العلم‪ ،‬والعمل هنا هو عمل الإنسان وسلوكه الظاهر والباطن‪ ،‬بقلبه وعقله وجوارجه‪.‬‬ ‫((( البيهقي‪ ،‬الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي (توفي‪458 :‬ﻫ)‪ .‬الجامع لشعب الإيمان‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد العلي‬ ‫عبد الحميد حامد‪ ،‬الرياض‪ :‬مكتبة الرشد‪2003 ،‬م‪ .‬انظر مجلد الفهارس‪ ،‬ج‪ ،14‬ص‪.728-710‬‬ ‫((( يصعب حصر كتب التراث التي تناولت موضوع النفس الإنسانية‪ ،‬ولذلك نكتفي ببعض الأمثلة التي تشير إلى‬ ‫التن ُّوع في المدارس الفكرية‪:‬‬ ‫‪ -‬المحاسبي‪ ،‬أبو عبد الله الحارث بن أسد (توفي‪243 :‬ﻫ)‪ .‬آداب النفوس‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد القادر أحمد عطا‪،‬‬ ‫بيروت‪ :‬مؤسسة الكتب الثقافية‪ ،‬ط‪1991 ،2‬م‪.‬‬ ‫‪ -‬ابن سينا‪ ،‬أبو علي الحسين بن عبد الله (توفي‪427 :‬ﻫ)‪ .‬رسالة في معرفة النفس الناطقة وأحوالها‪ ،‬وندزور‪،‬‬ ‫المملكة المتحدة‪ :‬مؤسسة هنداوي‪2017 ،‬م‪.‬‬ ‫‪ -‬الغزالي‪ ،‬أبو حامد محمد بن محمد (توفي‪505 :‬ﻫ)‪ .‬معارج القدس في مدارج معرفة النفس‪ ،‬بيروت‪ :‬دار‬ ‫الآفاق الجديدة‪ ،‬ط‪1975 ،2‬م‪.‬‬ ‫‪ -‬ابن باجة‪ ،‬محمد بن باجة الأندلسي (توفي‪533 :‬ﻫ)‪ .‬كتاب النفس‪ ،‬دمشق‪ :‬المجمع العلمي العربي بدمشق‪،‬‬ ‫‪1960‬م‪.‬‬ ‫‪ -‬ابن رشد‪ ،‬أبو الوليد محمد بن أحمد (توفي‪595 :‬ﻫ)‪ .‬تلخيص كتاب النفس‪ ،‬تحقيق‪ :‬ألفرد‪.‬ل‪ .‬عبري‪،‬‬ ‫مراجعة‪ :‬محسن مهدي‪ ،‬تصدير‪ :‬إبراهيم مدكور‪ ،‬القاهرة‪ :‬المجلس الأعلى للثقافة‪1994 ،‬م‪ .‬والكتاب‬ ‫تلخيص وشرح لكتاب أرسطو‪.‬‬ ‫‪ -‬ابن تيمية‪ ،‬تقي الدين أحمد بن عبد الحليم (توفي‪728 :‬ﻫ)‪ .‬تزكية النفس‪ ،‬دراسة وتحقيق‪ :‬محمد بن سعيد‬ ‫القحطاني‪ ،‬الرياض‪ :‬دار المسلم‪ ،‬ط‪1415( ،1‬ﻫ‪1994/‬م)‪.‬‬ ‫‪ -‬ابن ق ِّيم الجوزية‪ ،‬كتاب الروح‪ ،‬مرجع سابق‪( ،‬الكتاب في مجلد واحد)‪.‬‬ ‫‪442‬‬

‫ومن بين هذه الجهود التربوية تخ َّصصت حلقات التصوف وزواياه في القديم والحديث‬ ‫بالتربية الروحية والنفسية‪ ،‬أكثر من اهتمامها بأنواع التربية الأُخرى‪ .‬ونشأ من هذه الجهود‬ ‫نمط في الفكر التربوي الإسلامي‪ ،‬تو َّزع في القديم‪ ،‬ولا يزال يتو َّزع على مدارس صوفية‬ ‫متن ِّوعة‪ ،‬ما بين تصوف العزلة الذي يتجنَّب التفا ُعل مع الحياة العامة وقضايا المجتمع‬ ‫والأُ َّمة طمع ًا في الخلاص الفردي‪ ،‬وتصو ٍف اختلط بشطحات وانحرافات فكرية يرتبط‬ ‫بعضها بأصول الاعتقاد‪ ،‬وتصو ٍف فلسفي يقتصر على بعض التص ُّورات التي لا صلة لها‬ ‫بالأعمال والممارسات الدينية‪ .‬ولا يخلو الأمر من تصوف ُسنِّي يلتزم بأحكام الشريعة‪،‬‬ ‫ويقيم التوا ُزن والتكا ُمل في قيام الإنسان بمسؤولياته الفردية والمجتمعية‪ ،‬ويتخذ من ترقية‬ ‫الروح وتزكية النفس وسيلة للصبر على تح ُّمل أعباء الدعوة إلى الله‪ ،‬والأمر بالمعروف‬ ‫والنهي عن المنكر‪.‬‬ ‫ومن نماذج هذا التصوف الملتزم بأحكام الشريعة تربي ٌة روحي ٌة تتو َّجه إلى العاملين‬ ‫في ميدان الإصلاح الإسلامي المعاصر‪ ،‬والمنتسبين إلى الحركات الإسلامية؛ فاهتمام‬ ‫هؤلاء بغيرهم من الناس‪ ،‬وانشغالهم بالعمل العام في ميادين الفكر والسياسة‪ ،‬وتفاعلهم‬ ‫مع قضايا المجتمع وأحوال العا َلم‪ ،‬ر َّبما ُيلهيهم عن أنفسهم‪ ،‬فتصاب أرواحهم بالجفاف‪،‬‬ ‫وقلوبهم بالقسوة‪ ،‬وأخلاقهم بالضعف‪ ،‬ور َّبما ُيز ِّين الشيطان لبعضهم التفريط في بعض‬ ‫الواجبات الشرعية‪ .‬وقد ح َّذر سعيد ح ّوى أبناء الحركات الإسلامية من الوصول إلى مثل‬ ‫هذه الحالات‪ ،‬فذكر أ َّن الدعوة الإسلامية المعاصرة لا ُب َّد أ ْن تتكامل فيها خصائص الدعوة‬ ‫السلفية‪ ،‬والطريقة ال ُّسنية‪ ،‬والحقيقة الصوفية‪ .‬وقد تو َّقف عند الحقيقة الصوفية‪ ،‬ونشأة‬ ‫علم السلوك أو التصوف؛ إذ رأى أ َّن نشأة هذا العلم كانت نشأ ًة طبيعي ًة ع َّبرت عن فهم‬ ‫علماء الإسلام للنصوص الأصلية في الكتاب وال ُّسنة‪ .‬فقد وجد هؤلاء العلماء في القرآن‬ ‫الكريم وال ُّسنة النبوية \"كلام ًا كثير ًا عن القلب‪ ،‬والإيمان‪ ،‬والذوق‪ ،‬وأمراض القلوب‪،‬‬ ‫ودواء هذه الأمراض‪ ،‬و‪...‬كلام ًا عن َص َم ِم القل ِب و َع َماه‪ ،‬وعن سلامته و َس َقمه‪ ،‬وعن‬ ‫تقواه وفسوقه‪ ،‬وعن النفس البشرية‪ ،‬عن زكاتها وعن فجورها‪ ،‬وأمثال هذه المعاني‪ .‬فشيء‬ ‫عادي أ ْن يس ِّجل علماء المسلمين كل ما له علاقة بهذه المعاني وهذه القضايا ضمن سجل‬ ‫خاص‪ ،‬وأ ْن ينشأ نتيجة لذلك علم خاص في كل ما له علاقة في حيثيات هذه المعاني‪،‬‬ ‫‪443‬‬

‫وكان هذا العلم هو علم التصوف والسلوك‪ (((\".‬ولذلك‪ ،‬رأى سعيد ح ّوى أ َّن من الطبيعي أ ْن‬ ‫تنشأ الحاجة إلى التربية الروحية التي يجب أ ْن يتل ّقاها أبناء الحركات الإسلامية المعاصرة‪،‬‬ ‫وق َّدم تجربته في هذا المجال‪.‬‬ ‫ولك َّن الكاتب هنا يؤ ِّكد‪َ ،‬م َّر ًة بعد ُأخرى‪ ،‬أ َّنه يق ِّدم نوع ًا من التربية الروحية‪ ،‬أو‬ ‫التصوف‪ُ ،‬مق َّيد ًا بالكتاب وال ُّسنة‪ ،‬و ُمح َّرر ًا على ضوء ذلك‪ ،‬بهدف \"أ ْن نح ِّرر التصوف من‬ ‫َد َخنِه لتكون لدى المسلم مناعة ضد الوقوع في أسر جاهل أو جهل‪ ،‬وكل ذلك من أجل‬ ‫الوصول إلى تربية روحية رفيعة وواقعية‪ ...‬على أ ْن يكون ذلك كله مستقيم ًا على أصول‬ ‫الشريعة وفروعها‪ ،‬وألا يكون على حساب واجبات ُأخرى‪ (((\".‬وق َّدم المؤ ِّلف أسباب ًا‬ ‫متعدد ًة لهذا النوع من التصوف الذي ُيس ّميه السير إلى الله ع َّز وج َّل‪ ،‬لينتهي إلى القول‪:‬‬ ‫\"و ِم ْن َث َّم كان السير إلى الله ع َّز وج َّل واجب ًا على درجات تختلف باختلاف الاستعدادات‪،‬‬ ‫فلا ُب َّد من سير‪ ،‬وعلى قدر الهمم تكون درجات السائرين‪(((\".‬‬ ‫ومهما كان ِع ْل ُمنا عن مك ِّونات الإنسان؛ من‪ :‬جسم‪ ،‬وعقل‪ ،‬وروح‪ ،‬وقلب‪ ،‬فإ َّننا نعلم‬ ‫أ َّن الإنسان كيان واحد؛ فأ ُّي عمل يقوم به الإنسان يم ُّر بسلسلة من الخطوات التي يشترك‬ ‫فيها العقل‪ ،‬والقلب‪ ،‬والجسم‪ .‬فكل عمل يبدأ فكر ًة‪َ ،‬ت ِر ُد إلى موضع التع ُّقل من خارجه‪،‬‬ ‫أو يتذ َّكرها العقل م ّما هو مخزون لديه من خبرات سابقة‪ ،‬فيق ِّرر أ َّن الفكرة صحيحة‪ ،‬وأ َّن‬ ‫من المفيد الإتيان بها‪ ،‬ويطمئن القلب إلى سلامة هذا التو ُّج ِه؛ فالقلب كذلك هو موضع‬ ‫الاطمئنان‪﴿ .‬ﰈﰉﰊ ﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓ﴾ [الرعد‪.]٢٨:‬‬ ‫وعندئ ٍذ يندفع جسم الإنسان إلى الفعل والسلوك‪ .‬وجسم الإنسان أعضاء متعددة‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫العين‪ ،‬والأذن‪ ،‬واللسان‪ ،‬ومنها‪ :‬اليد‪ ،‬وال َقدم‪ ...‬فعندئ ٍذ تلتفت العين‪ ،‬وتصغي الأذن‪،‬‬ ‫وينطق اللسان‪ ،‬وتتح َّرك اليد‪ ،‬وتسعى ال َقدم‪ .‬أ ّما المسؤولية عن الفعل فمشتركة بين كل‬ ‫هذه المك ِّونات‪ ،‬وذلك تبع ًا للفعل الذي قام به ك ٌّل منها‪﴿ .‬ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯷ‬ ‫ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ﴾‪[ ‬الإسراء‪ .]٣٦:‬والإنسان حين ُي ْق ِدم على رذيلة‬ ‫((( ح ّوى‪ ،‬سعيد‪ .‬تربيتنا الروحية‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار السلام‪ ،‬ط‪1999 ،6‬م‪ ،‬ص‪.17‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.13-12‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.20-19‬‬ ‫‪444‬‬

‫معينة إ َّنما تبدأ بخاطرة في ذهنه‪ ،‬وشهوة في نفسه‪ ،‬وهوى في قلبه‪ ،‬وتنتهي بحركات في‬ ‫أعضاء جسمه‪ (((،‬وكذلك عندما ُي ْق ِدم على فضيلة‪.‬‬ ‫فالنفس البشرية هي هذا الإنسان بكيانه المو َّحد بمجموع هذه المك ِّونات‪ ،‬ولك َّن القرآن‬ ‫الكريم حين يخاطب النفس بالتكليف والمسؤولية‪ ،‬فإ َّنه يم ِّيز فيها بين ظاهر وباطن؛ ف َث َّمة‬ ‫ظاه ٌر محسوس يبدو للناظر من عمل أعضاء الجسم البشري‪ ،‬وباط ٌن يمكن للإنسان أ ْن‬ ‫ُيـخف َيه في نفسه‪﴿ .‬ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ﴾ [البقرة‪ .]٢٨٤:‬وما يـُخفيه‬ ‫الإنسان‪ ،‬فإ َّنه ي ُـخفيه في صدره‪﴿ .‬ﯻ ﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ﴾ [آل عمران‪.]٢٩:‬‬ ‫والصدر هو مستودع القلب‪﴿ .‬ﯲ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ﴾ [الحج‪.]٤٦:‬‬ ‫ولا نتوقع أ ْن يكون المقصود بباطن الإنسان هذه الأجزاء المادية غير الظاهرة من الجسم‪،‬‬ ‫مثل الرئتين والمعدة والأمعاء‪ ،‬وحتى مضخة الدم التي توجد في الجانب الأيسر من الصدر‪،‬‬ ‫و ُتس ّمى القلب؛ فالباطن هنا هو ما ُيـخفيه القلب‪ ،‬الذي في الصدر‪ ،‬من أعمال يقوم بها القلب‪،‬‬ ‫وهي أعمال معنوية مثل َعق ِد الن َّية والعز ِم‪ ،‬وفع ِل الإرادة‪ ،‬وعر ِض الخاطر‪ ،‬وانفعا ِل النفس‬ ‫بمشاعر ال ُح ِّب وال ُكر ِه‪ ،‬فضل ًا عن تع ُّقل الأفكار وفهمها وتد ُّبرها‪ ،‬وأشوا ِق الروح وتوا ُصلها‬ ‫مع خالقها‪ ،‬ومع غيرها من الأرواح‪(((.‬‬ ‫والآيات القرآنية التي تتح َّدث عن أعمال القلب كثيرة‪ ،‬منها ما يكسبه القلب‪ ،‬ويحاسب‬ ‫عليه‪﴿ .‬ﭗﭘﭙﭚ ﭛﭜ﴾ [البقرة‪ ،]225:‬وأهمها ما انعقدت عليه إرادة الإنسان‪،‬‬ ‫وتع َّم َد ُه قل ُبه‪﴿ .‬ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ﴾ [الأحزاب‪ .]5:‬وقد‬ ‫يلجأ القلب إلى التوبة والخشية والإنابة‪﴿ .‬ﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔ﴾ [ق‪ .]33:‬وقد‬ ‫((( انظر‪:‬‬ ‫‪ -‬البخاري‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬الاستئذان‪ ،‬باب‪ :‬زنى الجوارح دون الفرج‪ ،‬حديث رقم‪:‬‬ ‫(‪ ،)6243‬ص‪ ،1202‬من حديث َأبي ُه َر ْي َر َة‪َ ،‬ع ِن النَّبِ ِّي ﷺ قال‪( :‬إِ َّن ال َّل َه َك َت َب َع َلى ا ْب ِن آ َد َم َح َّظ ُه ِم َن ال ِّز َنا‪،‬‬ ‫َأ ْد َر َك َذلِ َك لاَ َم َحا َل َة‪َ ،‬ف ِز َنا ال َع ْي ِن النَّ َظ ُر‪َ ،‬و ِز َنا ال ِّل َسا ِن ال َمنْطِ ُق‪َ ،‬والنَّ ْف ُس َت َمنَّى َو َت ْش َت ِهي‪َ ،‬وال َف ْر ُج ُي َص ِّد ُق َذلِ َك ُك َّل ُه‬ ‫َو ُي َك ِّذ ُب ُه) وانظر‪:‬‬ ‫‪ -‬مسلم‪ ،‬صحيح مسلم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬القدر‪ ،‬باب‪ :‬كل شيء بقدر‪ ،‬حديث رقم‪ ،)2657( :‬ص‪.1065‬‬ ‫((( إشارة إلى الحديث الصحيح الذي روته ُأ ُّم المؤمنين عائشة ‪ ،‬قالت‪ :‬سمع ُت النب َّي ﷺ يقول‪\" :‬ا َلأ ْروا ُح‬ ‫ُجنو ٌد ُم َجنَّ َد ٌة‪ ،‬ما َت َعا َر َف منها ا ْئ َت َل َف‪ ،‬وما َتنَا َك َر منها ا ْخ َت َل َف‪ \".‬انظر‪:‬‬ ‫‪ -‬البخاري‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬أحاديث الأنبياء‪ ،‬باب‪ :‬الأرواح جنود مجندة‪ ،‬حديث رقم‪:‬‬ ‫(‪ ،)3336‬ص‪.636‬‬ ‫‪445‬‬

‫تلين القلوب‪﴿ .‬ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭱﭲﭳﭴﭵ‬ ‫ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ﴾ [الزمر‪ .]23:‬ويجعل الله في قلوب بعض الناس رأفة ورحمة‪.‬‬ ‫﴿ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ﴾ [الحديد‪ .]27:‬وقد يكون الإنسان غليظ القلب‪.‬‬ ‫﴿ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ﴾ [آل عمران‪ .]159:‬و ِمن الناس َمن تكون قلوبهم قاسية‪.‬‬ ‫﴿ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ﴾ [الزمر‪ .]٢٢:‬والذين لا يؤمنون بالآخرة تشمئز قلوبهم من ذكر‬ ‫الله‪﴿ .‬ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ﴾ [الزمر‪ .]45:‬والقلب مح ُّل‬ ‫الأُلفة وال ُح ِّب‪﴿ .‬ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ‬ ‫ﭮﭯﭰﭱ﴾ [الأنفال‪.]٦٣:‬‬ ‫والآيات كثيرة عن أصنا ٍف من الناس يتصفون بمرض القلوب‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬ﯰ‬ ‫ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ﴾ [محمد‪ ،]٢٩:‬وقال سبحانه‪﴿ :‬ﭬﭭ‬ ‫ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ﴾ [المائدة‪ .]52:‬ومرضى القلوب هؤلاء‬ ‫هم المنافقون الذي أظهروا الإيمان‪ ،‬وأبطنوا الكفر‪ .‬قال ع َّز وج َّل‪﴿ :‬ﭬﭭﭮﭯﭰ‬ ‫ﭱﭲﭳﭴﭵﭶ﴾ [البقرة‪ ،]8:‬وقال تعالى‪﴿ :‬ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ‬ ‫ﯚﯛﯜ﴾ [المنافقون‪.]3:‬‬ ‫إ َّن \"التربية الروحية\" مصطلح مألوف في الأدبيات التربوية الحديثة والمعاصرة‪ ،‬لا‬ ‫سيما تلك التي تخاطب ال َم ْعنِ ّيين في المؤسسات التعليمية ذات المرجعية الدينية؛ من‪:‬‬ ‫راسمي السياسات العامة في هذه المؤسسات‪ ،‬وال ُمع ِّلمين‪ ،‬والطلبة‪ .‬وإ َّن مراجعة سريعة‬ ‫لقواعد البيانات البحثية تكشف عن الكثير من الكتب المنهجية والمرجعية‪ ،‬وبحوث‬ ‫الدوريات العلمية‪ ،‬والأطروحات الجامعية‪ ،‬التي تتناول التربية الروحية من مرجعيات‬ ‫دينية مختلفة؛ إسلامية‪ ،‬ومسيحية‪ ،‬وبوذية؛ وفلسفة طبيعية‪ ،‬وعلمانية‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬وتقع‬ ‫بعض هذه الدراسات ضمن مجال علم النفس‪ ،‬وعلاقة الدراسات النفسية بالمعتقدات‬ ‫الدينية والفكرية‪(((.‬‬ ‫((( من المفيد الا ِّطلاع على بعض الدراسات الحديثة التي تناولت العلاقة بين الصحة النفسية والروحانية‪ ،‬والدين‬ ‫والتد ُّين‪ ،‬الواردة في كتاب \"الدين والصحة النفسية\"‪ .‬انظر في ذلك‪:‬‬ ‫‪ -‬إسماعيل‪ ،‬آزاد علي‪ .‬الدين والصحة النفسية‪ ،‬هرندن‪ :‬المعهد العالمي للفكر الإسلامي‪2014 ،‬م‪.‬‬ ‫‪446‬‬

‫وتنطلق معظم هذه الدراسات من الوعي بطبيعة التغ ُّيرات العميقة التي حصلت في‬ ‫قطاع التعليم العام والتعليم الجامعي في العقود الأخيرة‪ ،‬وهي تغ ُّيرات ح َّولت المجتمع‬ ‫البشري إلى مجتمع تكنولوجي رقمي‪ ،‬وجعلت مهمة التعليم تتو َّجه نحو توفير متط َّلبات‬ ‫سوق العمل المتغ ِّيرة بسرعة هائلة‪ .‬وقد نتج عن ذلك أ ْن َف َق َد الإنسان إمكانية النمو في‬ ‫بعض جوانب شخصيته العاطفية والاجتماعية والروحية‪ .‬فجاء ر ُّد الفعل في تطوير‬ ‫مبادرات مهمة في مجال التربية الروحية في التعليم المدرسي والتعليم الجامعي‪ ،‬وفي‬ ‫المؤسسات المتخ ِّصصة في التربية الدينية‪ ،‬عن طريق تأكيد ما ُيس ّمى التعليم الشمولي‬ ‫‪ Wholistic Education‬الذي يعني تقديم التربية اللازمة لكل مك ِّون من مك ِّونات الإنسان‬ ‫(الجسم‪ ،‬والعقل‪ ،‬والروح)‪ ،‬أو عن طريق التعليم الكلي ‪ Holistic education‬الذي يهتم‬ ‫بالنظر في الترابط بين جوانب شخصية الإنسان؛ فلا ُيف َهم الإنسان إلا ب ُك ِّل َّيته‪ ،‬وهو في‬ ‫حقيقته أكبر من مجموع مك ِّوناته‪.‬‬ ‫ويظهر مصطلح \"التربية الروحية\"‪ ،‬في بعض المجتمعات الإسلامية‪ ،‬في التشريعات‬ ‫التربوية بوصفها هدف ًا من أهداف التعليم؛ إذ ُتع ِّرف المادة الرابعة من قانون التربية والتعليم‬ ‫الأردني المعمول به حالي ًا أهدا َف التربية والتعليم‪ ،‬بالإشارة إلى \"تشكيل المواطن الذي‬ ‫يحظى بالفضائل وال ُمثل الإنسانية‪ ،‬والذي يتط َّور في الجوانب المختلفة من شخصيته‪:‬‬ ‫الجسدية‪ ،‬والعقلية‪ ،‬والروحية‪ ،‬والعاطفية‪ ،‬والاجتماعية‪ (((\".‬ومن أهداف التربية في‬ ‫سلطنة ُعمان \"مساعدة ال ُمتع ِّلمين على النمو المتكامل‪ :‬روحي ًا‪ ،‬ونفسي ًا‪ ،‬وفكري ًا‪ ،‬وخلقي ًا‪،‬‬ ‫وجسماني ًا‪ ،‬واجتماعي ًا‪ (((\".‬وفي الجزائر أصدر المجلس الأعلى للتربية وثيقة المبادئ‬ ‫لسياسة التربية‪ ،‬وقد جاء فيها‪\" :‬تسعى المنظومة التربوية الجزائرية لتحقيق الغايات‬ ‫التالية‪ :‬أولاً‪ :‬بناء مجتمع متكافل متماسك معتز بأصالته وواثق بمستقبله‪ ،‬يقوم على‪:‬‬ ‫الهوية الوطنية المتم ِّثلة في الإسلام عقيد ًة‪ ،‬وسلوك ًا‪ ،‬وحضار ًة‪ ،‬والذي يجب إبراز محتواه‬ ‫الروحي والأخلاقي وإسهامه الحضاري والإنساني‪ ،‬وتعزيز دوره كعامل مو ِّحد للمجتمع‬ ‫((( الموقع الإلكتروني الرسمي لوزارة التربية والتعليم الأردنية‪ .‬انظر‪:‬‬ ‫‪- http: //www.moe.gov.jo/ar/node/15782‬‬ ‫((( وزارة التربية والتعليم في سلطنة ُعمان‪ .‬فلسفة التعليم في سلطنة ُعمان‪ ،‬مسقط‪ :‬مجلس التعليم في سلطنة ُعمان‪،‬‬ ‫ط‪2017 ،1‬م‪ ،‬ص‪ ،20‬تحت عنوان‪\" :‬النمو المتكامل لل ُمتع ِّلم\"‪.‬‬ ‫‪447‬‬

‫الجزائري‪ (((\".‬وفي المملكة العربية السعودية نجد نص ًا صريح ًا عن التربية الروحية‪ِ ،‬صيغ‬ ‫في صورة هدف تربوي‪ ،‬هو‪\" :‬مسايرة خصائص مراحل النمو النفسي للناشئين في كل‬ ‫مرحلة‪ ،‬ومساعدة الفرد على النمو السو ِّي‪ :‬روحي ًا‪ ،‬وعقلي ًا‪ ،‬وعاطفي ًا‪ ،‬واجتماعي ًا‪ ،‬والتأكيد‬ ‫على الناحية الروحية الإسلامية‪ ،‬بحيث تكون هي ال ُمو ِّجه الأول للسلوك الخاص والعام‪،‬‬ ‫للفرد والمجتمع‪(((\".‬‬ ‫ويبدو أ َّن التربية الروحية أخذت تستعيد أهميتها في معظم مجتمعات العا َلم؛ فقد‬ ‫نشر موقع ‪ arabic.rt.com‬الإلكتروني تقرير ًا عن مسائل التربية الروحية والأخلاقية في‬ ‫المجتمع الروسي المعاصر كما جرى تدا ُولها في دائرة مستديرة‪ُ ،‬ع ِقدت في المجلس‬ ‫الاجتماعي الروسي‪ ،‬بعنوان \"قضايا التط ُّور الروحي والأخلاقي والثقافي لروسيا\"‪.‬‬ ‫وقد أشار التقرير إلى خطاب الرئيس الروسي بوتين الذي أ َّكد فيه \"أهمية دور العائلة‬ ‫والمؤسسات التعليمية والمنظمات الاجتماعية في تربية الجيل الناشئ روحي ًا ووطني ًا‪،‬‬ ‫وإنشاء جو المسامحة والتعايش في المجتمعات الإثنية المختلفة‪(((\".‬‬ ‫والأدبيات الخاصة بالتربية الروحية في اللغة العربية كثيرة جد ًا‪ ،‬وهي تتو َّزع على‬ ‫الكتب المنهجية والمرجعية‪ ،‬وبحوث الدوريات‪ ،‬والأطروحات الجامعية‪ .‬وبالمثل‪ ،‬فإ َّن‬ ‫الكتابات الخاصة بالتربية الروحية في اللغات الأُخرى كثيرة‪ .‬ونذكر فيما يأتي عدد ًا من‬ ‫هذه الكتابات باللغة الإنجليزية‪.‬‬ ‫ففيما يخ ُّص التربية الروحية الإسلامية‪ ،‬صدر عام ‪2018‬م كتاب لباحثة أمريكية‬ ‫مسلمة بعنوان \"تعليم الأطفال‪ :‬مدخل أخلاقي وروحي وكلي للنمو التربوي\"‪ ،‬تح َّدثت‬ ‫فيه عن تجربتها في المدارس الإسلامية بالولايات المتحدة الأمريكية‪(((.‬‬ ‫((( المجلس الأعلى للتربیة‪ .‬المبادئ العامة للسیاسة التربویة وإصلاح التعلیم الأساسي‪ ،‬الجزائر‪1998 ،‬م‪ ،‬ص‪.34-33‬‬ ‫((( اللجنة العليا لسياسة التعليم‪ /‬الأمانة العامة‪ .‬وثيقة سياسة التعليم في المملكة‪ ،‬الرياض‪ :‬وزارة التربية والتعليم‬ ‫في المملكة العربية السعودية‪1416 ،‬ﻫ‪ ،‬البند رقم (‪ ،)53‬ص‪.7‬‬ ‫‪(3) https: //arabic.rt.com/news/629921‬‬ ‫ُن ِشر التقرير بتاريخ ‪ 8‬أكتوبر ‪2013‬م‪.‬‬ ‫‪(4) El-Moslimany, Ann. Teaching Children: A Moral, Spiritual, and Holistic Approach‬‬ ‫‪to Educational Development, Herndon, VA: International Institute of Islamic‬‬ ‫‪Thought (January 1, 2018).‬‬ ‫‪448‬‬

‫أ ّما في مجال التربية الروحية المسيحية فصدر كتاب عام ‪2018‬م عن التح ِّديات‬ ‫المعاصرة التي تواجه التربية الدينية والروحية في الخبرة المسيحية الأوروبية‪ .‬وتؤ ِّكد‬ ‫بحوث الكتاب أ َّن التط ُّورات المجتمعية على المستويين المحلي والعالمي ُتو ِّجه السياسيين‬ ‫وصنّاع القرار إلى النظر في موضوع الدين والتربية الروحية على أ َّنه موضوع مهم في الحياة‬ ‫العامة‪ ،‬لا سيما أ َّن دراسات الدماغ والتع ُّلم الإنساني تفتح مجالاً جديد ًا أمام الدين ليؤدي‬ ‫دور ًا أقوى في المناهج الدراسية الحديثة‪ (((.‬أ ّما الكتب والدراسات الخاصة بالتربية الروحية‬ ‫في المدارس والجامعات المتخ ِّصصة في الدراسات الدينية ‪ Seminaries‬فهي كثيرة جد ًا‪.‬‬ ‫وأ ّما في مجال التربية الروحية البوذية فنجد معهد ًا للبحوث التربوية بالجامعة الصينية‬ ‫في هونغ كونغ‪ ،‬أنشأ برنامج ًا بحثي ًا رائد ًا في التربية الروحية‪ ،‬م َّدته ثلاث سنوات (‪-2017‬‬ ‫‪2020‬م)‪ ،‬وحمل عنوان \" َتع َّل ْم لتكون ُم ْل ِهم ًا‪ ،‬ولتكون ُم ْل َهم ًا\" ‪Learning to inspire and‬‬ ‫‪ .be inspired‬ويهدف البرنامج إلى تطوير القيم البوذية من خلال التعليم المدرسي في عدد‬ ‫كبير من المدارس المشاركة في البرنامج‪ (((.‬وقد صدر كتاب يتح َّدث بقدر من التفصيل عن‬ ‫تقنيات وتمارين تطوير التربية الروحية عند أطفال العائلات البوذية في المدارس الاسترالية‪.‬‬ ‫وبالرغم من ِع ْلم مؤ ِّلفة الكتاب بأ َّن البوذية هي دين‪ ،‬فقد فصلت فيه التدريبات المقترحة‬ ‫للتربية الروحية عن الدين‪ (((.‬ولم تعد الديانة البوذية تنحصر في بلدان آسيا‪ ،‬بل بدأ معتنقوها‬ ‫ينتشرون في قارات ُأخرى؛ فبالإضافة إلى الجامعات البوذية في الهند‪ ،‬وسيريلانكا‪،‬‬ ‫والصين‪ ،‬واليابان‪ ،‬وماليزيا‪ ،‬فإ َّن في الولايات المتحدة الأمريكية أربع جامعات حتى عام‬ ‫‪2015‬م‪ ،‬وهي جامعات تق ِّدم شهادات علمية في التخ ُّصصات المختلفة‪ ،‬وتز ِّود طلبتها‬ ‫بتعليم روحي وتربية روحية يقومان على الفلسفة والممارسة البوذية‪(((.‬‬ ‫‪(1) Kuusisto, Arniika. & Lovat, Terry (Editors). Contemporary Challenges for Religious‬‬ ‫‪and Spiritual Education, London and New York: Routledge, 2018.‬‬ ‫‪(2) Miller, Joyce. Education and Learning: A Buddhist Perspective, Journal of the National‬‬ ‫‪Association of Teachers of Religious Education, 29: 3, Summer 2007. See also:‬‬ ‫‪- http: //dhchenfoundation.com/initiatives/inspired-research-project-on-spiritual-education-‬‬ ‫‪hkier-cuhk/‬‬ ‫‪(3) Smith, Sue Erica. Buddhist Voices in School, How a Community Created a Buddhist‬‬ ‫‪Education Program for State Schools, Rotterdam: SensePublishers, 2013.‬‬ ‫‪(4) Storch, Tanya. Buddhist-Based Universities in the United States: Searching for a New Model‬‬ ‫‪in Higher Education, Lanham MD: Lexington Books, 2015.‬‬ ‫‪449‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook