الانفصال هذه هي -في واقع الأمر -علمن ٌة شاملة ،و َت َش ُّي ٌؤ كام ٌل للمعرفة ،وفر ٌض للنماذج المادية .وعملية الانقطاع اكتسحت عا َلمنا الإسلامي أيض ًا ،ولذا يمكن القول بأ َّن العلوم الإنسانية والطبيعية ،التي ُتد َّرس في الجامعات في العا َلم الإسلامي ،تصدر عن المقولات العلمانية الشاملة المتجاوزة للأخلاق وللإنسان .ولن يتوافر الوعي الكامل بالقيم الكامنة (أو اللاقيم الكامنة) في مثل هذه العلوم إلا من خلال الإدراك العميق للأبعاد الكلية والنهائية الإسلامية(((\". إ َّن مسألة حضور القيم في برامج التعليم وفروع العلم هي مسألة لصيقة بالفكر التربوي الإسلامي المنشود ،وهي مسألة اتجاهات نسعى إلى تعميقها في نفوس شباب الأُ َّمة؛ اتجاهات عقلية يتم َّثلونها ،وقيم نفسية يتش َّربونها ،وليست معرفة باردة في بنيتها ووسائلها يمكن أ ْن ُتستو َرد بلا رو ٍح ،أو برو ِح َمن أنتجها ،ف ُتك ِّرس التبعية والتخ ُّلف .وإذا كانت فكرة من أفكار الإصلاح التربوي ،فإ َّنها فكرة ذات قيمة خاصة ،في بناء شخصيات متم ِّيزة في أبناء الأُ َّمة .وكم نحتاج إلى أفكار تح ِّرك الأُ َّمة في اتجاهات التق ُّدم؛ أفكار يؤمن بها شباب الأُ َّمة بصورة تملأ عقولهم وقلوبهم ،وتصبح رسالتهم في التغيير والتق ُّدم. وقد أصبح موضوع القيم وموقعها في التربية قضية تستأثر باهتمام مؤسسات المجتمع على المستويين :المحلي والعالمي ،وتتصل بالعمل التربوي في فلسفته ،و ُأسسه النظرية ،وممارساته العملية ،وذلك بما هو ُملا َحظ من تغ ُّير كبير متواصل في منظومة القيم والسلوك القيمي والأخلاقي في مؤسسات التعليم ،وفي المجتمع بصفة عامة (((.فقد نشرت المجلة العالمية للبحث والتطوير المتق ِّدم بحث ًا بعنوان \"الشباب والقيم الأخلاقية في عا َلم متغ ِّير\" ،كشف فيه الباحث كابل دف عن أ َّن مظاهر السلوك غير الأخلاقي وغير الاجتماعي عند الشباب عموم ًا وطلبة المدارس خصوص ًا تتزايد يومي ًا(((. ((( المسيري ،عبد الوهاب\" .في أهمية الدرس المعرفي\" ،في :نحو نظام معرفي إسلامي ،تحرير :فتحي حسن ملكاوي ،ع ّمان ،الأردن :المعهد العالمي للفكر الإسلامي2000 ،م ،ص.59 ((( َث َّمة دراسا ٌت كثيرة عن موقع القيم في البرامج التعليمية ،والمرجعيات النظرية التي تستند إليها ،وتقويم حضورها في برامج التعليم .ومن هذه الدراسات التي َعرضت رؤي ًة فلسفي ًة لتعليم القيم: -عباس ،علاء صاحب عسكر .نحو رؤية فلسفية تربوية للقيم ،ع ّمان :دار غيداء للنشر والتوزيع2010 ،م. (3) Dev, Kapil. \"Youth and moral values in a changing society\", International Journal of Advanced Research and Development, Issue 4; July 2017, pp. 164-167. 400
وفي عام 2016م ،دخل إلى معاجم اللغة الإنجليزية تعبي ٌر عن حالة جديدة بدأت تنتشر في عا َلم اليوم ،هي حالة ما بعد الحقيقة ،((( Post Truthوقد اع ُتبِرت كلمة ذلك العام The word of the Yearالتي تع ِّبر عن ضياع الحقيقة بسبب انتشار الكذب ،والتزوير، والخداع ،والأخبار المفبركة؛ ما يستدعي -في المقابل -إعادة الاعتبار إلى القيم في الحياة السياسية والإعلامية والتعليمية (((.وقد نشرت صحيفة الغارديان البريطانية في شهر نوفمبر من عام 2017م مقال ًة بعنوان \"نحن الآن في عا َلم ما بعد الحقيقة مع تآكل في الثقة والمساءلة ،ولن ينتهي ذلك إلى خير(((\". ونشرت مجلة الشؤون الدولية التي يصدرها المعهد الملكي للشؤون الدولية البريطاني كاثام هاوس مقال ًة بعنوان \"العلاقات الدولية في عصر سياسة ما بعد الحقيقة\" .وجاء في المقالة أ َّن الأحداث العالمية في السنة السابقة (الحديث عن عام 2016م) أتاحت نشر كتب وتقارير كثيرة تتح َّدث عن أ َّن السياسة المعاصرة قد تح َّولت من عصر العقل والحقائق إلى عصر الإثارة والكذب .والمقالة هي مراجعة لعدد من الكتب التي صدرت مؤ َّخر ًا عن عصر ما بعد الحقيقة ،وقد اقترح كاتب المقالة أ ْن ينصرف الاهتمام من توثيق الأمثلة الكثيرة عن الأخبار الكاذبة إلى دراسة القيم الكامنة وراء اتجاهات الإثارة ،والعنصرية ،والجنسية، ودور وسائل الإعلام وأساليب التوا ُصل في السياسة الدولية المعاصرة(((. ثاني ًا :افتراضات الاهتمام بالقيم في علوم التربية: قيمة الإنسان تكمن فيما يتح ّلى به من قيم ومبادئ راسخة ،تمنحه ثق ًة بنفسه ،ووعي ًا بوظيفته في الحياة ،وحرص ًا على العطاء الدائم؛ فإنسان القيم كالشجرة المباركة ،أصلها ((( \"مصطلح \"ما بعد الحقيقة \"Post Truthصفة تعني الحالة التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثير ًا في تشكيل الرأي العام من اللجوء إلى العواطف والمعتقدات الشخصية ،وهو ما اعتبرته معاجم أكسفورد اللغوية كلمة عام 2016م \".انظر: - https: //www.chronicle.com/specialreport/The-Post-Truth-Issue/84 (2) The Chronicle of Higher Education, Special Report, January 11, 2017. (3) Enfield, Nick. \"We are in a post-turth world with eroding trust and accountability. It can’t end well\", The Gurdian, Thursday 16 Nov. 2017. (4) Crilley, Rhys. International Relations in the Age of ‘Post-Truth’ Politics, International Affairs, Volume 94, Issue 2, 1 March 2018, pp. 417–425. 401
ثابت ،وفرعها في السماء ،تؤتي ُأ ُك َلها ك َّل حين .ومن دون هذه القيم يصبح الإنسان متغ ِّير ًا متل ِّون ًا ،لا رسوخ له على مبدأ ولا موقف ،وتتلاعب به أنانيته وأهواؤه العابرة ،وتقتلعه رياح الفتن الإعلامية ،كأ َّنه ق َّش ٌة تح ِّركها الرياح في كل اتجاه ،وعندئ ٍذ ،لن تزيد قي َم ُته عن ق َّشة حتى لو م َلك القناطير! ولا تقتصر التربية على القيم وتع ُّلمها وتعليمها على الصغار؛ فأخطر ما يه ِّدد القيم في المجتمع هو ألا يتصف الكبار ِسنّ ًا والكبراء في المكانة بالقيم النبيلة .والكبار هنا هم آباء و ُأ َّمهات ،و ُمع ِّلمون و ُمع ِّلمات ،وأساتذة ورؤساء في الجامعات ،وأطباء ومهندسون، وسياسيون وإعلاميون .ألا نسمع كل يوم عن اكتشاف قضايا فساد في ح ِّق أمثلة على هؤلاء جميع ًا؟! ألا نسمع كل يوم خبر ًا عن اكتشاف قصص فساد عند رئيس ،أو وزير ،أو مسؤول كبير في بلد من بلدان العا َلم؟! وتأتي قصص الفساد هذه عادة ضمن تصنيفات معينة ،فيقال :فسا ٌد مالي ،أو إداري ،أو أخلاقي ...بيد أ َّن كل أشكال الفساد هي فساد أخلاقي؛ فسرقة المال ،وتزوير وثائقه ،وتل ِّقي ال ِّر َشا((( أخلا ٌق رذيلة .وممارسة المسؤول الظلم والابتزاز في تعامله مع الموظفين ،فيقيم علاقته بهم على أساس المحسوبية وتبادل المصالح الشخصية ،ضارب ًا ُع ْرض الحائط بالكفاءة والأولوية والحقوق فسا ٌد أخلاقي .وأصحاب المهن من أطباء ومهندسين ومقاولين عندما يمارسون الغ َّش في أعمالهم؛ فإ َّنه فسا ٌد أخلاقي .وك ُّل أشكال الفساد ناتجة عن عدم التح ّلي بالقيم. وعندما نقول إ َّن الكبار في الأسرة ينبغي أ ْن يكونوا في مقام القدوة والأُسوة؛ ليقتفي الصغار أثرهم في التح ّلي بالقيم والأخلاق والفضائل ،فإ َّنه يمكننا أ ْن نقول بالمنطق نفسه إ َّن المسؤول في الحكم يمكنه أ ْن يكون في مقام القدوة والأُسوة كذلك؛ ليقتفي أث َره ((( ال ِّرشا جمع رشوة وهو ما يعطى لقضاء مصلحة أو ما يعطى لإحقاق باطل أو إبطال حق .انظر: -مجمع اللغة العربية .المعجم الوسيط ،استانبول :دار الدعوة1989 ،م ،ج ،1ص.347 -الفيروزآبادي ،مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب (ت817ﻫ) .القاموس المحيط ،تحقيق :مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة ،بإشراف :محمد نعيم العرق ُسوسي ،بيروت :مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع ،ط1426( ،8ﻫ2005/م) ،ص.1288 : 402
المواطنون في التح ّلي بالقيم .والمسؤول في المؤسسة يمكنه أ ْن يكون في مقام القدوة والأُسوة؛ ليقتفي أث َره الموظفون في التح ّلي بالقيم .ويستطيع كل فرد من الكبار أ ْن يتذ َّكر مواقف إيجابية مؤ ِّثرة ،ر َّبما غ َّيرت مسيرة حياته إزاء بعض الأمور ،بسبب سلوك أخلاقي فاضل رآه من وزير ،أو طبيب ،أو أستاذ في الجامعة ،أو سائق سيارة في الطريق. لذلك ،فإ َّن موضوع القيم يحتل مركز الأساس في الفكر التربوي الإسلامي ،وهذا الموضوع وإ ْن كان مقصد ًا وهدف ًا من أهداف التربية ،فإ َّنه -بالإضافة إلى ذلك -واح ٌد من تج ِّليات الفكر التربوي الإسلامي ،ويستحق -في تقديرنا -أ ْن نوليه اهتمام ًا خاص ًا ،للنظر في موقعه في النظام التربوي ،في ضوء عدد من الافتراضات ،منها: القيم ،والمثل العليا ،والأخلاق ،والفضائل ،والاتجاهات النفسية ،والجوانب الانفعالية والوجدانية ،تتداخل فيما بينها إلى ح ٍّد كبير (((.وسنجد واحد ًا من هذه المفاهيم أو أكثر حاضر ًا في أ ِّي حديث عن أهداف التربية في أ ِّي مرحلة ،وأ ِّي بلد من بلدان العا َلم؛ ما يؤ ِّكد أ َّنها تتصل بالفطرة الإنسانية التي َيلزم تزكيتها ،وتعزيزها ،وتع ُّلمها. قضايا القيم والأخلاق هي مح ِّددات وضوابط للسلوك البشري ،ترتبط بالكرامة الإنسانية ،وتم ِّيز النوع الإنساني عن غيره من المخلوقات ،وتتصل بالحياة الفردية للإنسان من حيث وعيه بأهمية جوهره ال ُخ ُلقي الذي يتكامل مع كيانه ال َخ ْلقي (((.وكذلك تتصل اتصالاً وثيق ًا بمتط َّلبات الاجتماع الإنساني والعيش المشترك. ((( اختار بعض الباحثين الإشارة إلى هذا الحقل الدلالي بتعبير مح َّدد ،يلتزم به ك ٌّل منهم في عنوان دراسته وتفاصيلها ،مثل :التربية القيمية ،أو التربية الوجدانية ،أو التربية الأخلاقية .انظر ذلك في: -ابن بوذنينة ،عمر\" .التربية الوجدانية من منظور إسلامي مقارن\"( ،أطروحة دكتوراه ،كلية أصول الدين، جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية ،قسنطينة /الجزائر2017 ،م). -كنعان ،عباس صبحي\" .التربية الأخلاقية وبناء المنهج التعليمي في لبنان\"( ،أطروحة دكتوراه في التربية، الجامعة العالمية للعلوم2016 ،م). ((( في مسند أحمد ،مرجع سابق ،ج ،40حديث رقم )24392( :صَ ،457ع ِن أم المؤمنين عائشة ،قالتَ \" :كا َن َر ُسو َل الل ِه ﷺ َي ُقو ُل :الل ُه َّم َأ ْح َسنْ َت َخ ْل ِقيَ ،ف َأ ْح ِس ْن ُخ ُل ِقي\" .وهو في المسند أيض ًا ،كتاب :المكثرين من الصحابة ،مسند :عبدالله بن مسعود .ج ،6حديث رقم )3823( :ص .373وقد ص ّحح العلماء هذا الحديث، ولكنهم ضعفوا روايات متعددة له تتضمن أن يقول المسلم هذا النص عندما ينظر إلى صورته في المرآة. 403
قضايا القيم تقع في القلب م ّما ش َّرعت له الأديان والفلسفات المختلفة منذ بدء الحياة البشرية .و ِم ْن َث َّم ،فإ َّن هذه القضايا لا ُتت َرك للقناعات الشخصية والتو ُّجهات الأيديولوجية للفرد ،وهي ليست معايير يتم تحديدها والتقنين لها بالأساليب الديمقراطية؛ ليلتزم بها أفراد الجماعة ،مع إبقاء هامش كبير للحريات الشخصية .ولا عجب في تأكيدنا أ َّن في القيم والأخلاق م ْطلقا ٍت موضوعي ًة عامة ُيج ِمع عليها العقلاء من الناس؛ لخصائص فيها في ح ِّد ذاتها. الاهتمام بقضايا القيم في التعليم يتم بأحد اتجاهين؛ الأول :الاتجاه السلبي الذي يقوم على معالجة المخالفات عند وقوعها ،والثاني :الاتجاه الإيجابي الذي يقوم على تعليم القيم بهدف منع وقوع المخالفات .ونلاحظ أ َّن التشريعات التربوية في موضوع القيم تتض َّمن الاتجاهين مع ًا؛ ف َث َّمة نوعا ِن من هذه التشريعات؛ الأول يورد القيم ضمن الأهداف التربوية التي يجب أ ْن ت َّتجه التربية لتحقيقها ،وهي غالب ًا نصوص إنشائية عامة تفتقد أساليب مناسبة للتقويم .والنوع الثاني يورد الأنظمة والتعليمات الخاصة بالعقوبات والإجراءات التأديبية اللازمة لمعالجة ما يقع من مخالفات لهذه الأنظمة والتعليمات؛ سواء من ال ُمع ِّلمين ،أو الطلبة .وهذه تأتي بنصوص إجرائية مح َّددة وواضحة .وعلى أهمية هذين الاتجاهين من الاهتمام بالقيم ،فإ َّن الاتجاه الإيجابي الذي ير ِّكز على التح ّلي بالقيم والالتزام بها هو الأساس الذي يجب أ ْن يتو َّجه إليه الجهد التربوي. القيم تع ِّبر عن مشاعر وجدانية انفعالية في نفس الفرد .ومع ذلك ،فإ َّن القيمة تتح َّدد بمك ِّون معرفي يع ِّبر عن موضوع القيمة ،وما عند الفرد من أفكار ومعلومات عن هذا الموضوع .وفي الوقت نفسه تتج ّلى القيمة في مك ِّون سلوكي يع ِّبر عن فعل يقوم به الإنسان عن رضا و ُح ٍّب ،أو لا يقوم به ،تعبير ًا عن اتجاهه الإيجابي أو السلبي؛ فللقيمة ثلاثة مك ِّونات ،هي :مك ِّون انفعالي ،ومك ِّون معرفي ،ومك ِّون سلوكي. القيم والأخلاق -في سياق هذا البحث -لا تقتصر على ما كان معروف ًا من قضايا الصدق ،والأمانة ،والوفاء ،وأمثالها من الفضائل العامة ،التي تتع َّلق بسلوك الفرد مع نفسه ومع الآخرين ،وإ َّنما تشمل -بالإضافة إليها -فئات من القيم الخاصة بالحياة المدنية؛ من: 404
مسؤولية اجتماعية ،واحترام للآخرين ،وقيم الولاء والانتماء العامة في الدوائر المختلفة على مستوى المجتمع والأُ َّمة والإنسانية .وتشمل كذلك القيم المهنية المتع ِّلقة بالوظائف والأعمال المتخ ِّصصة ،وبالتعامل مع أشياء البيئة وحسن تنظيمها واستثمارها ،والقيم العلمية \"الأكاديمية\" الخاصة بأصول البحث وأخلاقياته ،وغير ذلك. ثالث ًا :تعليم القيم في الجامعات: إ َّن الحديث عن القيم وما يتصل بها من أخلاق واتجاهات في المجال التربويَ ،ي ِر ُد عادة في التعليم العام ،ولا سيما في المراحل الأُولى من التعليم المدرسي .ومع ذلك ،فإ ّنا لا نعدم نشاطات معتبرة تهتم بالقيم في التعليم الجامعي. وفي هذا السياق ،تجدر الإشارة إلى جمعية القيم في التعليم الجامعي Society for Values in Higher Educationالتي تعود جذور تأسيسها إلى عام 1923م ،ولكنَّها تط َّورت لتأخذ شكلها واسمها الحالي عام 1975م ،وعقدت مؤتمر ًا سنوي ًا ق َّدمت فيه البحوث والدراسات ،ون َّظمت الدورات التدريبية وورش العمل في قضايا القيم في التعليم الجامعي (((.ومن بين المحاور التي تهتم بها الجمعية موضوعات ذات صلة مباشرة بالقيم ،مثل :قاموس القيم في التعليم الجامعي ،والثقافة المقارنة والدين ،والثقافة الشعبية ،والدين والعنف ،ومستقبل الأخلاقية العامة ،ودور القيم في تشكيل الممارسات التعليمية الجامعية ،ونشاطات تع ُّلم القيم وتعليمها ،وتقويم تع ُّلم القيم وتعليمها .وقد ُع ِقد المؤتمر الخامس والتسعون في الم َّدة من 10إلى 14يوليو 2019م ،بجامعة لويولا في شيكاغو ،وكان موضوع المؤتمر \"تضارب الملكات :الندرة والمنافسة في التعليم العالي\" .وكانت الجمعية قد ن َّظمت عام 2018م ،بالتعا ُون مع جامعة إنديانا ،ورشة عمل عن الشعبوية الجديدة New Populismوسياسات التفرقة والتمييز. وتصدر هذه الجمعية مجلة فصلية متعددة التخ ُّصصات ،تحمل عنوان ،Soundings وتنشر مقالا ٍت وبحوث ًا عن موضوعات تتع َّلق بجميع جوانب القيم الإنسانية ،بما في ذلك القيم الجمالية ،والأخلاقية ،والسياسية ،والاقتصادية ،والعلمية ،والدينية .وتصدر كذلك (1) https: //www.svhe.org. 405
مجلة شهرية رقمية باسم \"منتدى القيم في التعليم العالي\" ،وهي أيض ًا مجلة مح َّكمة ،ولديها منتدى مفتوح لمناقشة قضايا القيم التي تؤ ِّثر في التعليم العالي بالولايات المتحدة الأمريكية. ولك َّن قضية القيم في التعليم العالي ليست قضية محلية مرتبطة بمجتمع أو خاصة بممارسات دينية ،وإ َّنما هي قضية عالمية .ولذلك أصدرت منظمة اليونسكو عام 1998م وثيق ًة خاص ًة بالموضوع ،تحمل عنوان \"الإعلان العالمي حول التعليم العالي للقرن الحادي والعشرين :رؤية وتنفيذ\" ،وتؤ ِّكد حاجة التعليم العالي إلى تن ُّوع واسع ووعي كبير بالأهمية الحيوية للتط ُّور الاجتماعي /الثقافي ،والنمو الاقتصادي ،وبناء مستقبل الأجيال القادمة ال ُمس َّلحة بمهارات ومعارف و ُمثل عديدة جديدة .وقد خ ُلصت الوثيقة إلى أ َّن المجتمعات المعاصرة في العا َلم تم ُّر بأزمة عميقة في مجال القيم (الصفحة الثانية)؛ لذا أشارت في عدد من موادها إلى ضرورة تبنّي قيم خاصة للتعليم العالي (المادة الأُولى) ،وتطوير أدوار المسؤولية الأخلاقية (المادة الثانية) ،وتحديد معايير أخلاقية (المادة السادسة) وضرورة أخذ القيم الثقافية الوطنية بالاعتبار (المادة الحادية عشرة) ...وهكذا((( . وتأتي إشارتنا إلى مسألة القيم في التعليم الجامعي ،من أ َّن كتابنا هذا يستهدف بالدرجة الأُولى أساتذة الجامعات ،وأ َّن معظم َمن يعمل في التعليم المدرسي يكون قد تل ّقى شيئ ًا من إعداده في الجامعات .وقد وجدنا أ َّن الاتحاد الدولي للجامعات ،International Association of Universitiesوهو شريك رسمي مع اليونسكو ،يهتم بموضوع القيم بصفة عامة ،وبنوع من القيم الخاصة بالجامعات بوجه خاص .ولذلك نجد الاتحاد المذكور قد ن َّص في تعريفه برسالته على سعيه لدعم القيم الأكاديمية الجامعية ،مثل :الحرية الأكاديمية ،واستقلال الجامعات ،وحق المعرفة للجميع، واحترام الاختلاف في الرأي ،وواجب الجامعات حيال تطوير الفكر الناقد في البحث عن الحقيقة .ون َّص الاتحاد أيض ًا على دعم القيم الأخلاقية فيما يخت ُّص بمسؤولية الجامعات نحو المجتمع ،بوصفها مؤسسات اجتماعية ،وبخاصة فيما يتع َّلق بتوجيه التعليم والبحث لخدمة المجتمعات ،وتطوير مبادئ الحرية والعدل والتنمية ،إضاف ًة (1) UNESCO. World Declaration on Higher Education for the Twenty-First Century: Vision and Action. Paris: UNESCO, 1998. انظر تحديد ًا الصفحات.14 ،10-9 ،5-1 : 406
إلى صون الكرامة الإنسانية ،والتضامن بين البشر (((.وين ِّظم الاتحاد كل سن ٍة مؤتمر ًا عن قضية عامة لا تخلو من محاور تخت ُّص بالأبعاد القيمية للقضية ،وتكون القيم في بعض المؤتمرات هي قضية المؤتمر بكامله. ومن مؤسسات الاهتمام العالمي ،شبكة أخلاقيات عالمية ،Globethics.netومق ُّرها في جنيف ،ولها مجلس دولي من شخصيات بارزة من مختلف أنحاء العا َلم .وتو ِّفر الشبكة من َّصة إلكترونية للتفكير والممارسات الأخلاقية (((،وتمارس نشاطات متن ِّوعة في مجال البحث واكتساب المعرفة في الأخلاق .وهدفها المعلن على موقعها الإلكتروني هو ضمان تمكين الناس في جميع مناطق العا َلم من التفكير والتصرف في القضايا الأخلاقية من أجل ضمان الوصول إلى موارد المعرفة في الأخلاقيات التطبيقية .وهي تو ِّفر مكتبة رقمية عالمية رائدة في مجالات القيم والأخلاق ،تتيح للأفراد التسجيل المجاني فيها للوصول إلى النصوص الكاملة للمجلات ،والموسوعات ،والكتب الإلكترونية ،وغيرها من الموارد في المكتبة. لقد أصبح موضوع القيم والخصائص الانفعالية والوجدانية موضوع ًا لكثير من الدراسات التي تتناول الموضوع من زوايا مختلفة :فلسفية ،ونفسية ،وتربوية ،واجتماعية، وسياسية ،وإدارية ،وغيرها .وقد دخل في فهم موضوع القيم وموقعه في برامج التعليم خل ٌط كبير ساهم في التشويش على أ َّية مرجعية تفيد في تص ُّوره ،والحكم عليه ،والتعامل معه .ف ِمن قائل :إ َّن القيم والأخلاق قضايا ُعرفية نسبية ،تتغ َّير وفق ما يطرأ في حياة الناس من تغ ُّيرات ومستجدات .و ِمن قائل :إ َّن القيم والأخلاق ليس لها صلة بالدين؛ إذ قد نجد ما ُي َع ُّد من الفضائل الأخلاقية الراقية عند َمن لا دين لهم .و ِمن قائل :إ َّن التق ُّدم صفة كلية؛ فالمتق ِّدم في الق َّوة والعلم والحضارة صاحب قيم تستحق التقدير ،وله موقع القدوة. فقيم المتق ِّدمين هي الأَ ْولى بالتبنّي والتم ُّثل .و ِمن قائل :إ َّن العا َلم وصل إلى درجة من التوا ُصل والتكا ُمل ما تجاوز بها القيم الخاصة بالمجتمعات المحلية؛ فالقيم المعتبرة هي القيم العالمية الخاصة بالسلام ،والتعايش ،والمساواة التامة ،والحريات العامة ،وحقوق الإنسان؛ طفل ًا ،ورجل ًا ،وامرأ ًة ،إلى غير ذلك من المقولات. (1) htttp: //www.unesco.org/iau/iau-mission.html. (2) www.globethics.net. 407
ورافق ذلك سرعة انتشار هذه الأفكار وأمثالها في ساحة العا َلم المفتوحة؛ لما ي َّسر ْت ُه أساليب التوا ُصل والاتصال الحديثة .ولك َّن المسألة لم تقف عند الأفكار وانتشارها؛ فقد رافق ذلك أيض ًا تزايد ملحوظ لحالات القلق والإحباط والبؤس من جهة ،وحالات التط ُّرف والعدوان والجريمة بأشكالها من جهة ُأخرى .وأصبحت قيم الحياة الفاضلة ،ومعايير السلوك الأخلاقي النبيل ،ومفاهيم \"الحق\" و\"العدل\" و\"الخير\" تغيب عن الممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ،على المستويات العلمية والإقليمية والمحلية ،فضل ًا عن إشعال الحروب ب ُحجج كاذبة ،وإبادة مجتمعات بشرية كاملة بسبب معتقداتها ،وانتشار ظاهرة ما بعد الحقيقة Post-Truthالمشار إليها في مكان آخر من هذا الفصل(((. فقد نشرت مجلة وقائع التعليم العالي Chronicle of Higher Educationفي عددها الصادر بتاريخ 15يناير (كانون الثاني) 2017م ،ملف ًا من ست مقالات بعنوان \"قضية ما بعد الحقيقة\" ،وقد جاءت عناوينها كما يأتي\" :عندما تصبح الحقيقة سلعة\" ،و\" ُأ َّمة لا تعرف شيئ ًا\" ،و\"حرب الأكاذيب\" ،و\"مؤامرة ضد أمريكا\" ،و\"الفيسبوك والكذب\"، و\"جوجل وجمهور مض َّلل\". وقد تح َّدثت مقالات الملف عن ظواهر جديدة في التعليم الجامعي الأمريكي، مثل\" :تدليل\" الطلبة والتعامل معهم بوصفهم زبائن ،وانتشار الجامعات المز َّيفة ،وتض ُّخم علامات الطلبة ،وانعكاس طبيعة العلاقة بين ال ُمع ِّلم والطالب ،وغير ذلك م ّما أصبح ظواهر أكاديمية مو َّثقة تمام ًا في نظر أحد ُك ّتاب المقالات .ومع هذا ،فإ َّن الكاتب َع َّد ذلك كله مسائل جزئية ،بالمقارنة مع مسألة كلية أكبر منها بكثير ،هي ظهور خلل في مفهوم \"المواطنة\" ،حين نجد مواطنين يفشل النظام التعليمي في إعدادهم لأداء واجباتهم في الحياة العامة\" ،ويغرقون في الفوضى نتيجة اللامبالاة والانشغال الكسول في مصادر المعرفة المتاحة في أحاديث الإذاعة ،وشبكات الإنترنت .وهناك ما هو أسوأ من ذلك يتم َّثل في عزوف المواطنين عن المشاركة في السياسة بوصفها واجب ًا مدني ًا ،وينخرطون بدلاً من ذلك في صراع لا هوادة فيه على وسائل التوا ُصل الاجتماعي ،فيهاجمون كل شيء بينما يؤمنون بأ ِّي شيء\"(((. ((( انظر الهامش رقم ( ،)١ص ٤٠١من هذا الكتاب. (2) https: //www.chronicle.com/specialreport/The-Post-Truth-Issue/84 408
وجاء في إحدى مقالات الملف ما ن ُّصه\" :فشلت الجامعات ليس فقط في رسالتها في تعليم الشباب من الذكور والإناث ،وإ َّنما في تقديم أسس المعرفة الحضارية التي تقوم عليها الممارسة المدنية في عملية انتخاب بنا ًء على ما َيلزم من معرفة ،وهذه الصور من الفشل ته ِّدد بقاء الديمقراطية الأمريكية ومستقبلها(((\". إ َّن هذا الاستطراد في الحديث ع ّما نشرته هذه المجلة عن فشل التعليم العالي في أمريكا ،قد لا ُيظ ِهر الحقيقة الكاملة عن واقع التعليم الجامعي الأمريكي ،وما قد يكون فيه من خبرات وقيم إيجابية أو سلبية ،ولكنَّه مع ذلك مؤ ِّش ٌر مهم يدفعنا إلى الوعي بما نجده من أوجه الخلل القيمي في جامعاتنا في العا َلم العربي والإسلامي ،والانتباه الشديد عندما نتط َّلع إلى الاستفادة من تجارب التعليم في بلاد ُأخرى. وقد صدرت كتب مرجعية ومنهجية كثيرة في مجال القيم في التعليم الجامعي ،لا يتسع المقام هنا لاستقصائها .ونكتفي بذكر بعض الأمثلة على الكتب التي صدرت حديث ًا؛ إذ يتح َّدث كتا ٌب عن تعليم القيم في الجامعات ،ويقول المؤ ِّلفان في مقدمته\" :إ َّن الهدف من الكتاب هو دعوة الجامعات لتح ُّمل مسؤوليتها في التعامل مع المشكلات المعقدة التي تواجه العا َلم اليوم؛ لأ َّن خريجي هذه الجامعات مسؤولون -جزئي ًا على الأقل -عن هذه المشكلات ،مع العلم بأ َّن المجتمع يستثمر موارد كثيرة جد ًا في التعليم الجامعي على أمل الوصول إلى مستقبل أفضل .وإذا كان قطاع التعليم الجامعي يرغب في القيام بمهمته في تشكيل هذا المستقبل ،فعليه أ ْن يغ ِّير من الطريقة التي يف ِّكر فيها في أهدافه ،وفي مواجهة مسؤولياته أمام المجتمع .وهذا التغيير المطلوب هو سؤال القيم قبل كل شيء (((\".ومع ذلك ،فإ َّن المؤ ِّلف ْي ِن يعترفان بصعوبة تعليم القيم ،واضطرار الأستاذ الجامعي في كثير من الأحيان إلى تهميش القيم؛ لصعوبة الدفاع عن قيمه الخاصة ،أو قيم مجتمعه. وفي كتاب آخر ،يرى مؤ ِّلفاه أ َّن القيم والفضائل التي يمكن أ ْن تسود الحياة الجامعية في التعليم والممارسة ،تؤ ِّثر تأثير ًا كبير ًا في بناء قيادات المستقبل .ولكن ،في الحقيقة ،إذا تجاوزنا الأمثلة التي تتف َّوق فيها بعض المؤسسات التعليمية التي تقع في دائرة الضوء ،فإ َّننا نجد انتهاكا ٍت مقلق ًة للممارسات الجيدة ،وتزايد ًا مضطرد ًا في السلوك غير الأخلاقي. (1) Ibid. (2) Harland, Tony & Pichering, Neil. Values in Higher Education Teaching New York: Routledge, 2011. 409
ولذلك يحاول الكتاب تقديم توضيحات وتوصيات للتخفيف من الأزمة الأخلاقية الموجودة في جميع أنحاء العا َلم ،عن طريق التعليم المناسب في مجال الأخلاقيات ،في مؤسسات التعليم العالي(((. ونحن لا نعدم وجود مواد متخ ِّصصة في تعليم القيم باللغة العربيةُ ،نع ِّلمها لطلبة الجامعات ،ولا سيما ل َمن ُي َع ّدون للتعليم العام(((. رابع ًا :التربية على القيم: تحتل تربية القيم موقع ًا مركزي ًا في جهود الإصلاح التربوي في المرجعية الإسلامية. ويجدر بنا أ ْن نلاحظ الصفة التكاملية والتبادلية بين التربية والقيم؛ فالتربية هي وسيلة لتنمية القيم ،والقيم هي ُمو ِّجهات للتربية .إذن ،فالتربية قيم ،وفي التربية قيم تربوية ،والتربية سلوك قيمي. إ َّن تربية القيم ،أو التربية على القيم ،أو التربية القيمية ،هي تربي ٌة أخلاقية ،وتأ ُّد ٌب بآداب وفضائل نفسية وسلوكية؛ من :صدق ،ووفاء ،وإيثار ،وغير ذلك من الفضائل والشمائل .وإذا كان التعليم جزء ًا من التربية ،فإ َّن إعداد ال ُمتع ِّلمين على الآداب والأخلاق والشمائل والقيم يسبق التعليم كما يرى الإمام أبو حامد الغزالي (((.ولك َّن هذه التربية تتسع لتشمل قيم ًا في الاجتماع البشري؛ فطري ًة ،وتعاقدي ًة .فحياة البشر إ َّنما تقوم على علاقات اجتماعية تفرض حقوق ًا وواجبا ٍت ،وتبني ُن ُظم ًا ،وتضع عقود ًا ،وتق ِّرر التزامات، تقوم كلها على الشعور بالمسؤولية والرعاية والتكافل .وتستمر التربية القيمية في التو ُّسع لتحقيق قيم المسؤولية عن الحياة ،والاستخلاف في الأرض وعمرانها المادي والمعنوي، وما َيلزم ذلك من قيم الاجتماع البشري. (1) Singh, Divya & Stuckerlberger,Christoph (editors). Ethics in Higher Education: Values-driven Leaders for the Future. Geneva, Switzerland: Globethics. 2017. ((( الجلاد ،ماجد .تعلم القيم وتعليمها :تصور نظري وتطبيقي لطرائق واستراتيجيات تدريس القيم ،ع ّمان :دار المسيرة ،ط1430( ،3ﻫ2010/م). ((( قال أبو حامد الغزالي عن عمل المع ِّلم\" :ث َّم يبدأ بالتأديب ،ث َّم بالتعليم ،فإ َّن التعليم لا يكون إلا بعد التأديب؛ لأ َّن َمن ليس له أد ٌب ،ليس له ِع ْلم \".انظر: -الغزالي ،أبو حامد محمد بن محمد (توفي505:ﻫ) .منهاج المتعلم ،تحقيق وتعليق :طه ياسين ،دمشق :دار طيبة ودار النهضة ،ط2007 ،1م ،ص.80 410
و ُين َظر إلى تعليم القيم في برامج ومناهج التعليم العام من خلال ثلاثة مداخل: .١النظر إلى المهمة التربوية للمدرسة على أ َّنها تعليم المواد الدراسية المختلفة المق َّررة في المنهاج الرسمي \"ال ُمع َلن\" ،مع الوعي بما ُيس ّمى المنهاج الخفي Hidden Curriculumالذي يكون أحيان ًا مقصود ًا في الممارسات التعليمية والإدارية للمدرسة ،مثل :إشراك الطلبة في مناقشة بعض المسائل لاتخاذ القرار المناسب ،وتنمية روح التعا ُون والشعور بالمسؤولية المشتركة في الإنجاز، وإشاعة أجواء التقدير المتبادل واحترام الرأي الآخر ،والتعامل التعليمي مع الأخطاء .وقد تتم مثل هذه الممارسات بصورة عفوية اعتاد عليها المجتمع المدرسي ،ويتم التأ ُّثر الإيجابي بها بصورة عفوية كذلك. .٢الربط المباشر بين المادة الدراسية ،وما قد تتض َّمنه من قيم .ولا تخلو أ ُّي مادة دراسية من مواقف َي ْح ُسن فيها هذا الربط المباشر؛ فدراسة التاريخ تشير إلى سبب انهيار بعض النُّ ُظم نتيجة ممارسة الظلم والجشع في امتلاك الق َّوة والمال بالقهر والاستبداد ،و ِم ْن َث َّم تأتي الحاجة إلى قيم العدل ،والحرية ،والمساواة، والشورى ،والمشاركة؛ لتعزيز نظام المجتمع وتماسكه من الداخل ومقاومته للعدوان الخارجي .وفي تدريس العلوم الطبيعية ُفر ٌص كثير ٌة لإثارة الفضول العلمي ،وتعزيز روح التساؤل والبحث ،ود َّقة الملاحظة ،والتوظيف الرشيد للموارد ،وحفظ البيئة الطبيعية والحيوية ،وغير ذلك من قيم تتصل بالتف ُّكر في أشياء العا َلم الطبيعي وأحداثه وظواهره ،وتكوين اتجاهات إيجابية نحو البحث العلمي ،وتقدير جهود العلماء(((. .٣تعليم القيم عن طريق مواد دراسية خاصة بها ،وتحديد أوقات مح َّددة في البرنامج الدراسي لها .وقد تكون هذه المواد مبرمجة على مستوى الصف ،أو الفصل ((( َث َّمة جهو ٌد تربوية ُمق َّدرة تخت ُّص بإدماج القيم في البرامج التعليمية المدرسية .انظر في ذلك الخبرات والمقترحات والبرامج التي تشير إليها كتب ،مثل: -الصمدي ،خالد .إدماج القيم الإسلامية في المناهج الدراسية ،الرباط :المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسسكو)2003 ،م. -الصمدي ،خالد .القيم التربوية في المنظومة التربوية :دراسة للقيم الإسلامية وآليات تعزيزها ،الرباط: المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسسكو) ،ط2008 ،1م. 411
الدراسي ،أو على مستوى البيئة المدرسية بكاملها .وقد تكون مسائل ُمو َّزعة زمني ًا على مستوى الأسبوع ،أو الشهر ،أو السنة .ويمكن تضمين هذا البرنامج الأبعاد القيمية والأخلاقية لقضايا سياسية ،أو اقتصادية ،أو اجتماعية ،تع ِّبر عن حضور التعليم المدرسي في الواقع الاجتماعي المحلي والدولي .ويكون تنظيم هذه المسائل في مشروعات مح َّددة ،تشترك في نظرتها العقلانية للموضوع ،وقدرتها على تحليل المعطيات وإصدار الأحكام الأخلاقية مع الممارسة والسلوك العملي الذي ينتهي بنتائج ذات صلة مباشرة بالقيم والاتجاهات المح َّددة لكل برنامج. والتربية على القيم يمكن أ ْن تتم في أ ِّي مؤسسة من المؤسسات التي تؤدي دور ًا تربوي ًا؛ بما في ذلك :الأسرة ،والمدرسة ،ووسائل الإعلام ،ومؤسسات المجتمع الدينية والثقافية والرياضية ،من دون أ ْن ننسى مسؤولية الفرد نفسه عن نفسه كلما امتلك قدر ًا من الوعي بضرورة السلوك القيمي وأهميته في تشكيل شخصيته ومكانته في المجتمع والحياة. وعندما نتح َّدث عن وظيفة الأسرة في التربية على القيم ،فإ َّننا نأخذ بالحسبان أ َّنه لا معنى للقيم إلا إذا كانت صفا ٍت متج ِّسد ًة في مشاعر الناس وسلوكهم وأعمالهم .وفي المجتمع البشري أساليب تنشئة تعتمد أساس ًا على تقليد الصغير للكبير ،وأحيان ًا يكون التقليد بطريقة عفوية ،فينشأ الأطفال -مثل ًا -على القيم وأخلاق التعامل التي يلاحظونها ويعيشونها في ج ِّو الأسرة .وإذا حاول الطفل أ ْن يسلك سلوك ًا معين ًا يتنافى مع القيم السائدة في حياة الأسرة ،فالمعتاد والطبيعي أ ْن يتم تنبيهه وتوجيهه .و َث َّمة مواق ُف في الأسرة ُيل ِّقن فيها الأبوان الأطفال قيم ًا معين ًة ،بوصف هذه القيم خصائص وصفات لأفراد العائلة ،أو لثقافة المجتمع ،وهي في الأساس خصائص وفضائل بشرية نبيلة .ولا شك في أ َّن تجسيد القيم عملي ًا في واقع الأسرة النواة ،والأسرة الممتدة ،هو الوسيلة الفطرية لتش ُّرب القيم، والتط ُّبع عليها. والأسرة هي الحصن الأخير لقيم المجتمع وهويته وانتمائه ،وحين نتذ َّكر الهجوم الكاسح في الثقافة العالمية على مؤسسة الأسرة ،فما الذي سيبقى؟ و َمن الذي يستطيع أ ْن يع ِّوض ما تقوم به الأسرة؟ 412
والتعليم النظامي في المدرسة مسؤول عن ترشيد التربية الأسرية على القيم، وتعزيزها ،واستكمالها .ولك َّن القيم هي روح العمل التربوي ،والأساس الذي ُتبنى عليه البرامج والمناهج والأهداف التربوية؛ لأ َّن هدف التربية هو الإنسان ،والقيم هي الصفة الأساسية للإنسان الذي تعمل التربية على إخراجه .فالقيم ليست مج َّرد مك ِّون من مك ِّونات الأهداف التربوية ،وإ َّنما هي الإطار الذي يعطي الأهدا َف الأُخرى قيم َتها وأهمي َتها وفاعلي َتها. وتعليم القيم أو التربية على القيم في المدرسة يتم كذلك بالتط ُّبع على القيم التي تجعلها المدرسة ثقافة نظرية وممارسة عملية ،يشترك فيها كل الحاضرين في المدرسة. ومهما استخدمت المدرسة من أساليب لتضمين القيم في برامج التعليم ،فإ َّنها لن تستغني عن أمرين أساسيين؛ الأول :وجود القدوة والأُسوة العملية التي تتم َّثل في سلوك ال ُمع ِّلم، فيما يقول ويعمل .والثاني :سيادة ثقافة مدرسية في العمل المدرسي ،تتج ّلى فيها القيم الأخلاقية والاجتماعية والمهنية ،في البيئة المادية والعلاقات الشخصية والاجتماعية، وطرق التعامل بين جميع َمن في المدرسة ومحيطها الإداري والاجتماعي .و ُي َع ُّد التزا ُم مدير المدرسة بسيادة منظومة القيم والثقافة المدرسية القائمة على هذه القي ِم العام َل المهم في ضبط التزام مجتمع المدرسة ،وتم ُّثلها بهذه القيم. وقد ظهرت دعوات متزايدة في السنوات الأخيرة ،صدرت عن تربويين وحكومات ومجتمعات محلية ،إلى ضرورة تعليم القيم في المدارس العامة بالولايات المتحدة الأمريكية؛ ما قاد إلى تطوير برامج لتربية القيم ،أو التربية على القيم .وقد أشارت نتائج تقويم بعض هذه البرامج إلى أ َّن تربية القيم لا ُب َّد أ ْن تكون جزء ًا أساسي ًا من الحياة المدرسية الأمريكية .وقد َتب َّين أ َّن النظريات الطبيعية والاجتماعية لا تقود إلى الالتزام الأخلاقي الكافي لإقناع البشر بإعطاء المصال ِح العام ِة الأولوي َة ،والتخفيف من التمركز حول الذات الطبيعية، وقد و َّلد ذلك مشكل ًة أساسي ًة فيما يخت ُّص بتعليم القيم في المدارس ،هي غياب أ ِّي أساس لتحقيق المصداقية في هذه البرامج .ولذلك تو َّصلت الدراسة المشار إليها إلى أ َّن الأساس المناسب لتدريس القيم هو الأساس الإيماني الذي يقوم على المرجعية الدينية الإلهية(((. (1) Etherington, Matthew. Values Education: Why The Teaching Of Values In Schools Is Necessary, But Not Sufficient, Journal Of Research On Christian Education, 2013, 22: 2, pp. 189-210. 413
وفي دراسة نشرتها مؤسسة متخ ِّصصة في التع ُّلم الافتراضي (الرقمي) Digital ،Learningواستطلعت فيها آراء عدد من المتخ ِّصصين في التعليم والتكنولوجيا من مختلف أنحاء العا َلم ،حول الاتجاهات والتح ِّديات التي تواجه التعليم والتكنولوجيا عام 2016م؛ فقد أظهرت النتائ ُج أهمي َة تضمين القيم في التعليم(((. ومن البرامج التربوية ما ُي َع ُّد تربية للقيم على وجه الخصوص ،ولذلك وجدنا بعض المهتمين بموضوع القيم يضعون مناهج خاصة بالقيم ،تتض َّمن مقترحات للتعامل مع القيم بطرق مختلفة ،منها :دمج القيم في النشاطات المدرسية العامة ،أو التعامل معها ضمن موضوعات المواد الدراسية ،أو تدريسها بوصفها ماد ًة دراسي ًة مستقل ًة(((. ولع َّل المؤ ِّثر الأكبر في حالة المجتمع المعاصر هو الإعلام؛ فالمجتمع المعاصر وصل إلى حالة من الطغيان الإعلامي بتع ُّدد وسائله ،وكثرة مؤسساته ،وجاذبية معروضاته، وحضوره على مدار أربع وعشرين ساعة أسبوعي ًا ،ث َّم بتح ُّوله إلى إعلام فضائي رقمي، أوجد عا َلم ًا افتراضي ًا يعيش فيه الناس ،بحيث يفتقدون عا َلمهم الواقعي .وقد بلغ في انتشاره وق َّوة تأثيره أ ْن أصبح الفرد ضحية لما يقذف به الإعلام من أفكار وأخبار ،ومن اختيارات وتفضيلات ومغريات ،وما يتس َّلل من ذلك كله بذكاء ودهاء؛ من :بناء قيم معينة، وهدم قيم ُأخرى .ويتم ذلك كله بطريقة تدريجية لا تسمح بتع ُّقل خطورة هذه التح ُّولات، أو الشعور بخطورتها وبناء وسائل حماية. إ َّن مجتمعاتنا المعاصرة تحتاج إلى ما ُيس ّمى التربية الإعلامية .وتتسع دائرة هذا المفهوم لتكون جزء ًا من تعلي ِم الأفراد -من مختلف الأعمار -طر َق التعامل مع وسائل الإعلام والاتصال المعاصرة .والتربية الإعلامية لا تقتصر على الوعي بالمخاطر التي يم ِّثلها الإعلام المعاصر ،وإن َّما تشمل كذلك التدريب على أساليب توظيف وسائل الإعلام المتاحة إيجابي ًا ،واستخدامها في تصحيح الأخبار ،وإصلاح الأفكار ،وعرض النماذج الخ ِّيرة ،وتكريس القيم الفاضلة. (1) https: //www.goconqr.com/en/blog/the-importance-of-teaching-values-in-education. ((( العبد الجادر ،فيصل فهد .تعزيز القيم في مناهج التعليم العام :إطار عام للتربية القيمية ،الكويت :المركز العربي للبحوث التربوية لدول الخليج2014 ،م. 414
و َث َّمة دراسا ٌت تربوية كثيرة تناولت أسباب تدهور القيم الأخلاقية في المدارس بالمجتمعات المعاصرة في جميع أنحاء العا َلم .ومعظم هذه الدراسات أظهرت أ َّن ما يتل ّقاه الطلبة من وسائل الإعلام والتوا ُصل ،وما ُين َشر فيهاُ ،ي َع ُّد سبب ًا رئيس ًا في تدهور القيم الأخلاقية .ومن هذه الدراسات دراس ٌة مقارنة \"عبر -ثقافية\" عن أسباب تدهور القيم الأخلاقيةُ ،ق ِّدمت إلى المؤتمر الأكاديمي التربوي الذي ن َّظمه معهد الغرب والشرق((( عام 2016م في مدينة بوستن بولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ استطلع ثلاثة باحثين ،من تركيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية ،آرا َء ع ِّين ٍة من ال ُمع ِّلمين في البلدان الثلاثة .وقد تو َّصلوا إلى أ َّن تآ ُكل القيم الأخلاقية أصبح ظاهرة ملحوظة في هذه البلدان ،تم َّثلت في أشكال من الممارسات والسلوكات الخاطئة ،مثل :العنف ،والتمركز حول الذات ،والخيانة ،والبلطجة ،والوقاحة .وتو َّصلوا كذلك إلى أ َّن هذه السلوكات عند الشباب وطلبة المدارس آخذ ٌة في التزايد بصورة كبيرة. وتو َّصلت الدراسة أيض ًا إلى أ َّن ال ُمع ِّلمين الذين شملتهم الع ِّينة في البلدان الثلاثة أجمعوا على أ َّن القيم الأخلاقية تعاني ضعف ًا متزايد ًا في مجتمعاتهم المدرسية ،وأ َّن أهم سببين لتدهور هذه القيم ،هما :الإعلام ،والعولمة .وقد أشارت هذه الدراسة إلى دراسا ٍت متعددة ُأخرى في بلدان مختلفة أظهرت نتائج مشابهة. وأوصت الدراسة بضرورة اهتمام الأسرة والمدرسة ،وتعا ُونهما على تطوير القيم النبيلة في المراحل المبكرة من عمر الأطفال ،على أساس أ َّن السنوات الأُولى من أعمارهم لها أهمية كبيرة في تش ُّكل العادات والقيم الأخلاقية .وأ َّكدت الدراس ُة ضرور َة تضمين برامج إعداد ال ُمع ِّلمين إجراءات وتدريبات تدريسية لتعليم القيم في الصفوف المدرسية(((. (1) The West East Institute- WEI. (2) Taneri, Pervin Oya. & Gao, Jie. & Johnson, Rodger. \"Reasons for the Deterioration of Moral Values: Cross-Cultural Comparative Analysis\", Boston, USA: The 2016 WEI International Academic Conference Proceedings, 2016, pp. 242-252. يمكن استرجاع الدراسة كاملة من الرابط: - https: //www.westeastinstitute.com/wp-content/uploads/2016/09/P.-O.-Taneri-J.-Gao- R.-Johnson.pdf. 415
إ َّن الأثر التربوي في الأسرة والمدرسة يخت ُّص بمرحلة الطفولة ،ومرحلة الشباب المبكر .أ ّما الأثر التربوي للإعلام فيخت ُّص بهاتين المرحلتين ،إضاف ًة إلى المراحل اللاحقة .و َث َّمة مؤسسا ٌت ُأخرى لها أثر في جميع المراحل ،منها مؤسسة المسجد الذي ُي َع ُّد بيئ ًة لتع ُّلم الفضائل والتأ ُّدب بها ،والتخ ُّلق بمكارم الأخلاق ،لا سيما أ َّن للذهاب إلى المسجد آداب ًا وأخلاق ًا نفسي ًة واجتماعي ًة .ومن هذه المؤسسات كذلك الجمعيات الخيرية والثقافية ،والنوادي الرياضية ،والأحزاب السياسية؛ فالقيم ليس شأن ًا مقصور ًا على مؤسسة متخ ِّصصة ،وإ َّنما تتداخل القيم مع سائر وجوه النشاط الاجتماعي. إ َّن تع ُّلم القيم وتعليمها يم ِّثل عملي ًة مستمر ًة طوال حياة الإنسان ،تستهدف صغار السن والبالغين ،وحتى الكهول .ودعوات الأنبياء كانت ُمو َّجه ًة إلى جميع أفراد المجتمع؛ رجالاً ،ونسا ًء ،وأطفالاً .ومحم ٌد ص ّلى الله عليه وس َّلم استجاب لدعوته رجا ٌل ونسا ٌء وأطفا ٌل .بيد أ َّن مسؤولي َة السلوك القيمي هي مسؤولي ُة البالغين الكبار بالدرجة الأُولى، ث َّم يأتي الصغار بال ِّت ْبع. خاتمة: كان الهدف من هذا الفصل هو الحديث عن موضوعات الفكر التربوي الإسلامي. وقد تكون هذه الموضوعات أول ما يتبادر إلى الذهن عند سماع عبارة \"الفكر التربوي الإسلامي\" أو قراءتها .وواض ٌح أ َّنها جوا ٌب على سؤال :ماذا؟ ،ث َّم تأتي الأسئلة الأُخرى، مثل :لماذا؟ ،وكيف؟ ،وغيرهما من الأسئلة .ولا شك في أ َّن الموضوعات التربوية تتم َّثل في محتوى بعض العلوم التي ُتصنَّف ضمن العلوم التربوية ،أو ُتصنَّف ضمن محتويات العلوم المتخ ِّصصة التي يتم تعليمها في المؤسسات التربوية والتعليمية .ومن أجل ذلك، بدأنا الحديث عن علاقة الفكر بالعلم في الموضوعات التربوية ،واجتهدنا في وضع خريطة لما نراه َأ ْولى بالاهتمام ضمن هذه الموضوعات ،وم َّي ْزنا فيها نوع ًا من العلوم أسميناه العلوم المنهجية ،مع أ َّن في كل علم من العلوم مك ِّون ًا منهجي ًا لا ُب َّد من الوعي بأهميته. وبمناسبة الحديث عن العلوم التربوية وفروعها ،فقد استطردنا بعض الشيء في الإشارة إلى بنية الفرع العلمي المتخ ِّصص الذي يظهر بوصفه فرع ًا علمي ًا متم ِّيز ًا ،مع إشارة عابرة إلى ما َي ِر ُد في دراسات تاريخ الأفكار وتاريخ العلوم عن نشأة الفرع العلمي، 416
وتم ُّيزه ع ّما يكون قد نشأ عنه ،واستكمال ما َيلزمه حتى يتم الاعتراف به فرع ًا علمي ًا مستقل ًا .ون َّوهنا بأهمية حقلين مهمين في الفكر التربوي ،هما :النظرية التربوية ،والفلسفة التربوية .وإذا كان ذلك كله حديث ًا عن علوم التربية بصورة عامة ،ضمن إطار الفكر التربوي الإسلامي ،فقد كان لازم ًا التساؤ ُل عن موقع الإسلام في علوم التربية. ث َّم اخترنا أ ْن نتح َّدث عن موقع القيم في علوم التربية ،في مجالات التنظير والممارسة، منطلقي َن في ذلك من النظر إلى موضوع القيم لصلته المباشرة بخصوصيات الفكر التربوي الإسلامي ،وأقمنا الاهتمام بالقيم على عدد من الافتراضات ،وأ َّكدنا أ َّن الاهتمام بالقيم لا يقتصر على التعليم العام لتنشئة الأجيال الجديدة على منظومة القيم التي يتبنّاها المجتمع، وإ َّنما يمت ُّد ليشمل التعليم الجامعي ،الذي يتزايد فيه الوعي بأهمية اعتبار القيم ،ولا سيما فيما يخت ُّص بالقيم الأكاديمية والمهنية ،إضاف ًة إلى ضرورة تمكين طلبة الجامعات من هذا الوعي ،على أساس أ َّن جميع المواقع التي سوف يتو َّلون المسؤولية عنها في المجتمع محكوم ٌة بمنظومة مح َّددة من القيم في دوائر الحياة العملية المختلفة. هذا عن موضوع الفصل بصورة عامة ،ونحن نتوقع أ ْن يشعر القارئ ،وهو يقرأ مادة هذا الفصل بعناصره المختلفة ،بالحاجة إلى شي ٍء من التفصيل؛ فكل عنصر من عناصر الفصل هو موضوع قائم بنفسه ،وله أهمية خاصة .ور َّبما يتذ َّكر بع ُض الق ّراء أ َّن كل عنصر منها َي ِر ُد في عناوين عدد من الكتب المتخ ِّصصة فيه .و َح ْس ُبنا في هذا الفصل من الكتاب أ ْن َتأخذ موضوعا ُت الفكر التربوي -في مجملها -ح َّظها من الحديث في كتا ٍب في \"الفكر التربوي الإسلامي\". لقد تح َّدثنا في الفصول الأربعة السابقة بشي ٍء من التفصيل عن مفاهيم الفكر التربوي الإسلامية ،وحضور هذا الفكر في التراث الإسلامي ،والمصادر الأربعة لهذا الفكر التي نك ِّرر الحديث عنها في مناسبات مختلفة ،والأهداف التي يراد لهذا الفكر أ ْن يح ِّققها .ث َّم جاء هذا الفصل عن موضوعات الفكر التربوي الإسلامي ،التي هي المضامين المعرفية لتلك الأهداف ،ووسيلة لتحقيقها .وبقي أ ْن نتح َّدث عن الخصائص التي نرى أ َّن الفكر التربوي الإسلامي يتم َّيز بها ،أو ينبغي أ ْن يتم َّيز بها ،وهي موضوع الفصل السادس القادم، ونختم الكتاب -إ ْن شاء الله -بالفصل السابع والأخير ،برؤية مستقبلية لما نستشرفه من فكر تربوي إسلامي ،وما نقترحه لبناء هذا الفكر المنشود. 417
الفصل السادس خصائص الفكر التربوي الإسلامي مقدمة المبحث الأول :خاصية التكامل والتوازن في الفكر التربوي الإسلامي أولاً :طبيعة الاهتمام بشخصية الإنسان ثاني ًا :خاصية التكامل والتوازن في بناء مك ِّونات الشخصية المك ِّون المادي المك ِّون العقلي المك ِّون الروحي /النفسي ثالث ًا :التكامل والتوازن في الا ِّتباع والإبداع المبحث الثاني :خاصية الواقعية في الفكر التربوي الإسلامي أولاً :الواقعية والمثالية ثاني ًا :بعض تجليات الواقعية في الفكر التربوي الإسلامي ثالث ًا :الواقعية في بناء فكر تربوي إسلامي معاصر المبحث الثالثَ :سعة الفكر التربوي الإسلامي وامتداداته أولاً :امتداد الفكر التربوي الإسلامي في الموضوعات؛ َسع ٌة وتكا ُم ٌل ثاني ًا :امتداد الفكر التربوي الإسلامي في الزمان ثالث ًا :امتداد الفكر التربوي الإسلامي في المكان رابع ًا :امتداد الفكر التربوي الإسلامي في الإنسان المبحث الرابع :تجليات التكامل والتوازن في الفكر التربوي الإسلامي خاتمة
الفصل السادس خصائص الفكر التربوي الإسلامي مقدمة: كثير من الكتب والبحوث التي تناولت خصائص الإسلام ،أو خصائص أ ِّي جانب من جوانبه (مثل :الثقافة الإسلامية ،والتربية الإسلامية ،والأُ َّمة الإسلامية ،والفكر الإسلامي)... تح َّدثت عن خصائص عامة ،مثل :الربانية ،والوسطية ،والشمولية ،والتوا ُزن ،وغيرها. وسبب ذلك غالب ًا هو محاولة اشتقاق هذه الخصائص من النص القرآني والحديث النبوي؛ إذ وصف القرآ ُن الكريم الأُ َّم َة بأوصاف ،وأعطاها خصائص تم ِّثل مرجعية تستحق أ ْن ُتعت َمد أساس ًا لأ ِّي حديث عن الموضوع .فخاصية \"الربانية\" مثل ًا نجدها في القرآن الكريم ،وذلك في قوله سبحانه﴿ :ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ﴾ [آل عمران]79:؛ وخاصية الوسطية نجدها في قوله تعالى﴿ :ﭪﭫﭬﭭ﴾ [البقرة]143:؛ وصفة الخيرية نجدها في قوله ع َّز وج َّل﴿ :ﭞﭟﭠﭡﭢ﴾ [آل عمران ،]110:وهكذا. ومن المؤ َّكد أ َّن الكتابات المشار إليها مفيدة في أغراضها التي ُكتِبت من أجلها. ومن ناحية ُأخرى ،نلاحظ أ َّن كثير ًا من الكتابات في موضوع الخصائص المم ِّيزة لجانب من جوانب الفكر الإسلامي (مثل :السياسة ،أو الاقتصاد ،أو التربية) تتح َّدث عن خصائص الإسلام والأُ َّمة الإسلامية بصورة عامة؛ فلا ينصرف من الحديث إلى الجانب المعني في السياق (السياسة ،أو الاقتصاد ،أو التربية) إلا القليل .ومع ذلك ،فإ َّن من ال ُمتو َّقع أ ْن تنعكس خصائص الإسلام العامة على خصائص أ ِّي جانب منه؛ فخصائص الإسلام هي -في الأصل -خصائص التص ُّور الإسلامي لأ ِّي نظام من ُن ُظم الإسلام ،وهي خصائص تنبثق من رؤية العا َلم Worldviewالإسلامية ،وهي ما س ّماه سيد قطب فكرة الإسلام عن الله والكون والحياة والإنسان ،وكان َي ِع ُد بإخراج بحث عنها منذ وقت مبكر في كتاباته ،ول ّما كتب ذلك البحث أصدره عام 1964م كتاب ًا بعنوان \"خصائص التصور الإسلامي ومقوماته\" (((.ث َّم أخذ عنه كثي ٌر من ال ُك ّتاب في كتابة خصائص الإسلام ،أو أ ِّي نظام من ُن ُظم الإسلام ،ولا سيما في طريقة عرضه خصائص الربانية ،والثبات ،والشمول، والتوا ُزن ،والإيجابية ،والواقعية ،والتوحيد. ((( قطب ،سيد .خصائص التصور الإسلامي ومقوماته ،القاهرة :دار الشروق1988 ،م ،ص.5 421
وعند مراجعة عدد من المؤ َّلفات في موضوع الفكر التربوي الإسلامي ،وجدنا أ َّن ما ُكتِب عن خصائص الفكر التربوي الإسلامي يكاد ينحصر في الحديث عن تج ِّليات هذه الخصائص في التراث التربوي الإسلامي ،أو عن خصائص الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية بصورة عامة ،من دون أ ْن يتناول تج ِّليات هذه الخصائص في الفكر التربوي الإسلامي تحديد ًا .و ُنف ِّضل ألا نذكر أمثل ًة على هذه الكتب؛ لكيلا ُيح َسب ذلك تشهير ًا بها .ولكن ،يمكن للقارئ أ ْن يختبر هذا الحكم إذا وقعت يده على بعض هذه الكتب. ونحاول في تناولنا موضوع خصائص الفكر التربوي الإسلامي التركي َز على الجانب التربوي ،ث َّم انعكاساته على الجوانب الأُخرى ،اعتماد ًا على الأثر الذي تتركه الممارسات التربوية في سلوك الفرد والمجتمع .والممارسات التربوية تنطلق من أسس فكرية مح َّددة، منها ما نعرفه عن تم ُّيز الإنسان عن سائر الكائنات الأُخرى في حاجته إلى التربية ،ومنها ما نعرفه عن الهدي التربوي الذي تم ِّثله أصول الإسلام في القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية الشريفة ،ومنها ما يهدي إليه التجديد في فهم هذه الأصول مع تط ُّور الخبرة البشرية، وضرورة التعامل مع النوازل والمستجدات وفق ذلك الفهم المتج ِّدد. ذلك أ َّن الفرد من البشر ،في بدء حياته ،يحتاج إلى م َّدة طويلة من العناية التربوية مقارن ًة بالكائنات الأُخرى؛ فالتربية البشرية ليست مج َّرد عناية بالحاجات الفطرية الخاصة بالتغذية والحماية ،كما هو حال الكائنات الأُخرى ،وإ َّنما تتسع التربية البشرية لتشمل جوانب ُأخرى ،تتصل بالمعتقدات والأفكار ،وبمنظومة القيم الخاصة بنُ ُظم الحياة الاجتماعية ،وبترقية هذه الحياة والتعامل مع ما يطرأ فيها من مستجدات ر َّبما لم تعهدها الأجيال السابقة. وهكذا ،فإ َّن التربية في الإسلام ،وإ ْن كانت تستند إلى بعض المبادئ التي تتصف بالثبات ،فيما يخت ُّص بالفضائل والأخلاق الأساسية ،فإ َّن واحد ًا من هذه المبادئ سيبقى يفتح الباب باستمرار للتغ ُّير والتط ُّور؛ نتيجة لما يهدي الل ُه إليه الإنسا َن من علوم متج ِّددة، و ُيك ِس ُبه من خبرات جديدة ،وفق قوله تعالى﴿ :ﯣﯤﯥﯦﯧ﴾ [البقرة.]151: يأتي هذا الفصل في ثلاثة مباحث؛ الأول :خاصية التكا ُمل والتوا ُزن في الفكر التربوي الإسلامي ،وفيه نناقش ثلاثة موضوعات تتح َّدث عن الفكر التربوي الإسلامي 422
في اهتمامه الخاص بشخصية الإنسان ،والمك ِّونات الثلاثة لهذه الشخصية (الجسم، والعقل ،والروح) ،وحدود التكا ُمل والتوا ُزن في الا ِّتباع والإبداع .والثاني :خاصية الواقعية في الفكر التربوي الإسلامي ،وقد جاء في ثلاثة موضوعات :العلاقة بين الواقعية والمثالية ،وبعض تج ِّليات الواقعية في الفكر التربوي الإسلامي ،والواقعية التي ننشد بناءها في الفكر التربوي الإسلامي المعاصر .والثالثَ :سعة الفكر التربوي الإسلامي وامتداداته .وقد ُع ِرضت مادته في أربعة موضوعات :امتداد الفكر التربوي الإسلامي في الموضوعات؛ َسع ٌة وتكا ُم ٌل ،وامتداد الفكر التربوي الإسلامي في الزمان ،وامتداد الفكر التربوي الإسلامي في المكان ،وامتداد الفكر التربوي الإسلامي في الإنسان. 423
المبحث الأول خاصية التكا ُمل والتوا ُزن في الفكر التربوي الإسلامي أولاً :طبيعة الاهتمام بشخصية الإنسان: الفكر التربوي الإسلامي يستهدف بناء الإنسان ،فرد ًا ومجتمع ًا و ُأ َّم ًة؛ لتحقيق مراد الله سبحانه في إعمار هذه الدنيا ،بما يريده الله للبشر فيها من خير وصلاح .ول ّما كان الفرد الإنساني يش ِّكل وحدة البناء الأُولى للجنس البشري ،فإ َّن الصورة التي تتش َّكل فيها شخصية ذلك الفرد ستنعكس على الوحدات الأُخرى في ذلك البناء. ومفهوم \"الشخصية\" مفهوم مركزي في النظريات التربوية والنفسية على اختلاف مرجعياتها؛ ففي علم النفس الحديث ،أصبح لهذا المفهوم فرع علمي مهم هو علم نفس الشخصية .وتتع َّدد دلالة مفهوم \"الشخصية\" بتع ُّدد نظريات علم النفس ،وما تجعله هذه النظريات من عناصر أو مك ِّونات للشخصية ،وبمقدار الأهمية التي تعطيها لكل مك ِّون من هذه المك ِّونات .فأكثر هذه النظريات تر ِّكز على أنماط التفكير والمشاعر والسلوك التي تجعل الشخص \"الإنسان\" متم ِّيز ًا عن غيره .وهذا لا يعني وجود شخصيات مختلفة بعدد أفراد البشر؛ إذ يمكن تمييز عدد من أنماط ،Patternsأو أنواع مح َّددة للشخصية ،يشترك في ك ٍّل منها كثي ٌر من الأفراد .و َث َّمة عوام ُل ومؤ ِّثرات ُتس ِهم في تشكيل شخصية الإنسان، بعضها وراثية تبدأ مع الإنسان منذ ولادته ،وبعضها مكتسبة تتط َّور مع نمو الإنسان في البيئة التي يعيش فيها .وبعض الصفات التي تع ِّبر عن شخصية الإنسان تبقى معه طوال حياته ،وبعضها تتغ َّير بما يكتسبه من خبرات وتجارب. وتأخذ شخصية الإنسان طرق ًا مختلفة في التصنيف؛ فقد ُتصنَّف على أساس صفة كلية منسوبة إلى الدين عندما يتصف به الإنسان اتصاف ًا كامل ًا ،فيقال :شخصية إسلامية مثل ًا .وقد يكون التصنيف على أساس قدرات الإنسان على التأثير في الآخرين ،فيقال: شخصية جاذبة ،أو شخصية قيادية ،وقد يكون ذلك بنا ًء على ما يصيب الإنسان من حالات اضطراب أو انحراف في الصحة النفسية ،فيقال :شخصية انطوائية ،أو شخصية عدوانية. 424
وقد تح َّدث علماء الإسلام عن الشخصية الإنسانية وأنواعها ،وجوانب الصحة والمرض فيها ،ولا سيما عند حديثهم عن النفس الإنسانية ،وتناولوها في ميادين الدراسة المختلفة؛ في :الفقه ،وعلم الكلام ،والتصوف ،والفلسفة ،وغيرها .وبالرغم من أ َّن بعض العلماء ،ولا سيما الفلاسفة والمتصوفة ،خلطوا رؤيتهم للشخصية الإنسانية ببعض مقولات الفلاسفة ،فإ َّن المرجعية القرآنية في فهم النفس الإنسانية لم تكن غائبة. إ َّن شخصية الإنسان في الفهم المستند إلى المرجعية القرآنية هي نفسه ،وهي ذاته ب ُك ِّل َّيتها جسم ًا وعقل ًا وروح ًا ،وهي جوهره الذي يتصف بالإدراك والفكر وال ُخ ُلق ،وهي ما يتو َّجه إليه الخطاب بالتكليف .و\"يش ِّخص القرآن الكريم النفس ويجعلها الكائن الذي يم ِّثل الإنسان أمام الله ،بل وأمام المجتمع أيض ًا؛ فالقتل الذي يصيب الإنسان هو قتل للنفس ...وفي مقام القصاص تحسب \"النفس بالنفس\" ...،وفي مقام التنويه بالإنسان ودعوته ليلقى الجزاء الحسن ُتخا َطب النفس ...والنفس في القرآن هي الإنسان المسؤول المحاسب ...إ َّنها التركيبة التي َتخ ِلق في الإنسان ذاتي ًة َيعرف بها أ َّنه ذلك الإنسان بأحاسيسه ووجدانه ومدركاته ،النفس هي ذات الإنسان ،أو هي مش ِّخصات الإنسان التي ُتنبِئ به عن ذاته ...ولذلك كانت موضع الخطاب من الله تعالى ،كما أ َّنها موضوع الحساب والثواب والعقاب(((\". واليوم يأتي البحث عن الشخصية بقدر كبير من التفصيل والتو ُّسع في نظريات علم النفس الحديث ،ومدارسه المختلفة :السلوكية ،والمعرفية ،والتحليلية ،وغيرها .ونظر ًا لأ َّن التفصيل في ذلك ليس من مهمات هذا الفصل؛ فإ َّننا نكتفي بأ ْن نحيل القارئ إلى الكتب المتخ ِّصصة في الموضوع ،ومنها كتاب سبق أ ْن أعددنا خطة إنجازه ،ون َّفذها أحد علماء النفس المسلمين المعاصرين ،ونشرها المعهد العالمي للفكر الإسلامي (((.أ ّما الذي َي ُه ُّمنا في سياق هذا الفصل فهو الحديث عن الشخصية التي يريد الفكر التربوي الإسلامي أ ْن يش ِّكلها عن طريق البيئة التربوية التي يو ِّفرها ،والأساليب التربوية التي يستخدمها. ((( الخطيب ،عبد الكريم .التفسير القرآني للقرآن ،القاهرة :دار الفكر العربي1970 ،م ،المجلد الرابع (الجزءان التاسع عشر والعشرون) ،تفسير سورة الزمر ،ص.1167-1166 ((( العاني ،نزار .الشخصية الإنسانية في التراث الإسلامي ،هرندن :المعهد العالمي للفكر الإسلامي ،ط1998 ،1م. 425
لقد تض َّمنت الممارسا ُت التربوية التي عرفها التاريخ الإسلامي أمثل ًة متفاوت ًة للجهود المؤ ِّثرة في تشكيل شخصية الإنسان في المجتمع المسلم .ونجد بعض تج ِّليات هذه الجهود في كثير من نصوص التراث الإسلامي التي تتح َّدث ع ّما كانت تقوم به الأسرة مع أبنائها ،ويقوم به ال ُمؤ ِّدبون والعلماء وال ُمع ِّلمون ،مع نوعيات مختلفة من ال ُمتع ِّلمين، في مؤسسات مختلفة؛ إذ كانوا يع ِّلمون موضوعات متعددة ،بأساليب متن ِّوعة .ونجد في التراث بعض الممارسات التي كانت تنطلق من نصوص الوحي الإلهي والهدي النبوي في فهم مقاصد التعليم وتوجيهاته ،ونجد فيه ممارسات سقطت فيها همم ال ُمع ِّلمين وال ُمتع ِّلمين عن تحقيق تلك المقاصد ،وق َّصرت في الالتزام بتلك التوجيهات ،وانعكس أثر ذلك في الحالتين على تشكيل شخصيات ال ُمتع ِّلمين ،ث َّم على حالة المجتمع المسلم ق َّو ًة وضعف ًا. وليس من السهل الحكم على أنماط التربية التي كانت تستهدف شخصية ال ُمتع ِّلم كما يعرضها التراث الإسلامي ،لا س ّيما في السنوات الأولى من التعليم في الكتاتيب؛ فكثير من نصوص التراث تشير إلى سوء حال هذه الكتاتيب و ُمع ِّلميها ،وتدهور مكانتهم الاجتماعية ،وسوء تعاملهم مع الأطفال .وفيما يخ ُّص مجالس العلم التي كانت ُتع َقد لطلبة العلم المتخ ِّصصين في الفقه أو الحديث من البالغين ،فإ َّن كثير ًا م ّما ورد في كتب التراث التربوي الإسلامي تح َّدث ع ّما كان ينبغي أ ْن يكون ،من حيث :آداب العالِم في نفسه ،ومراعاة طلبته ودرسه ،وآداب ال ُمتع ِّلم في نفسه ومع شيخه وقدوته ،وغير ذلك من آداب العالِم وال ُمتع ِّلم .وقليل منه كان يصف ما كان يحدث فعل ًا من مراعاة هذه الآداب. وبعض ما ورد من هذا القليل ر َّبما يكون أقرب إلى كونه حالات خاصة أكثر م ّما يصف النمط العام .وأكثر ما يخت ُّص بجهود بناء شخصية ال ُمتع ِّلم إ َّنما كان من شأن التأديب لا التعليم .والتأديب كان صنعة ال ُمؤ ِّدبين مع أولاد الخلفاء والسلاطين والقادة؛ فهو من الحالات الخاصة. ولتأكيد أ َّن مهمة بناء الشخصية كانت موضوع اهتمام التعليم الخاص لأبناء الملوك، فقد أشار الماوردي إلى أ َّن اختيار ال ُمع ِّلم ال ُمؤ ِّدب لهذه الفئة من ال ُمتع ِّلمين مهمة خطيرة لا يصلح لها إلا فئة خاصة من ال ُمع ِّلمين ،ولذلك جاء في نصيحته إلى الملوك قوله\" :ث َّم يجب أ ْن يجتهد (أ ِي الملك) في اختيار ال ُمع ِّلم وال ُمؤ ِّدب له (أ ْي للولد) اجتهاده في 426
اختياره الوالدة والظئر ،بل أش ّد منه ،فإ َّن الولد يأخذ من ُمؤ ِّدبه من الأخلاق والشمائل والآداب والعادات أكثر م ّما يأخذ من والده؛ لأ َّن مجالسته له أكثر ،ومدارسته معه أطول، والولد قد ُأ ِمر حيث ُس ِّلم إليه بالاقتداء جملة ،والائتمار له دفع ًة ،وإذا كان هكذا فيجب أ ْن لا يقتصر من ال ُمع ِّلم وال ُمؤ ِّدب؛ على أ ْن يكون قارئ ًا للقرآن ،وحافظ ًا للغة ،أو راوي ًا للشعر ،حتى يكون تقي ًا ورع ًا عفيف ًا د ِّين ًا ،فاضل الأخلاق ،أديب النفس ،نقي الجيب ،عالِم ًا بأخلاق الملوك وآدابهم(((\". ... والفكر التربوي المعاصر الذي ننشد بناءه من أجل تشكيل الشخصية الإسلامية سيستند إلى ما ذكرناه في الفصول السابقة عن مصادر هذا الفكر ومقاصده في الرؤية الإسلامية التي نتبنّاها لهذه الشخصية التي تتم َّيز بالتكا ُمل والتوا ُزن .ونود أ ْن نؤ ِّكد من البداية أ َّن الشخصية الإسلامية التي نريدها لا ُتصنَع في معاهد التربية والتعليم ،كما ُتصنَع السلع في المصانع بصورة تتشابه أفرادها تمام التشابه ،إلا ما قد يقع فيه خطأ ،فيخرج مختلف ًا عن صنفه ،ف ُيع َزل عن ال ُمن َتجات. ولا نعرف خبرة تربوية طبعت شخصيات ال ُمتع ِّلمين في أ ِّي مجتمع ،وفي أ ِّي عصر، حتى أصبحوا نسخ ًا متماثلة تمام التماثل ،ولا حتى في التربية النبوية؛ لأ َّن ذلك ليس من طبائع البشر ،ولا من ُسنَّة الله في خلقهم وتكوينهم. ونحن نقرأ في سيرة النبي ﷺ و ُسنَّته كيف كان يصف أصحا َبه بصفات يخت ُّص بها أحدهم دون الآخر ،بالرغم من وحدة التربية النبوية للصحابة؛ ف ُع َمر رضي الله عنه عبقري لم ي َر النبي أحد ًا يفري َف ْر َيه (((،وأبو عبيدة عامر بن الجراح أمين ا ُلأ َّمة (((،و ُأب ُّي بن كعب أقر ُأ الصحاب ِة لكتاب الله (((،وخالد بن الوليد سي ُف الله المسلول((( ،وهكذا. ((( الماوردي ،أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب (توفي450 :ﻫ) .نصيحة الملوك ،تحقيق :خضر محمد خضر، الكويت :مكتبة الفلاح ،ط1983 ،1م ،ص.171 ((( مسلم .صحيح مسلم ،مرجع سابق ،كتاب :فضائل الصحابة ،باب :من فضائل عمر رضي الله عنه ،حديث رقم: ( ،)2393ص.975 ((( المرجع السابق ،كتاب :فضائل الصحابة ،فضائل أبي عبيدة بن الجراح ،حديث رقم ،)2419( :ص.985 ((( الترمذي ،جامع الترمذي ،مرجع سابق ،كتاب :المناقب ،باب :مناقب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبي بن كعب وأبي عبيدة ،حديث رقم ،)3791( :ص.589 ((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :الأطعمة ،باب :ما كان النبي ﷺ لا يأكل حتى ُيس ّمى له ،حديث رقم ،)5391( :ص.1067 427
ونأخذ من ذلك أ َّن الفكر التربوي الإسلامي ينبغي أ ْن يتيح ُفرص ًا لإعداد شخصية ال ُمتع ِّلم ،وفق استعداداته لنمو شخصيته ،وإمكانية تم ُّيزه في جانب من الجوانب يكون فيه قادر ًا على خدمة المجتمع خدمة متم ِّيزة .وبذلك يتح َّقق هدف مهم من أهداف الفكر التربوي الإسلامي ،يتم َّثل في تشكيل شخصية الفرد المسلم ،بوصفه عنصر ًا فاعل ًا في تحقيق مراد الله سبحانه في خلقه من حمل الأمانة والخلافة في الأرض ،فماذا يعني هذا الهدف؟ وما أهمية التربية الفكرية في بناء شخصية الفرد المسلم ،وفي تكا ُمل هذه الشخصية جسم ًا وعقل ًا ونفس ًا وروح ًا ،وفي التكوين المتوازن لهذه الشخصية بين العلم والعمل ،وبين الدين والعلم ،وبين المثال والواقع ،وبين الا ِّتباع والإبداع؟ والهدف الثاني الذي ينبغي أ ْن يستهدفه الفكر التربوي الإسلامي هو بناء الهوية الجمعية لهذا الفرد ،التي تع ِّزز انتماءه إلى المجتمع ،وتط ِّور قدرته على العمل مع غيره، في بناء الهوية وحمايتها ،والعمل المشترك والجهد الجماعي اللازم لبناء المجتمع الإسلامي المعاصر وتحقيق نهوضه الحضاري .فماذا يعني هذا الهدف؟ وكيف يمكن للتربية الفكرية تحقيقه؟ فلا معنى لعضوية الفرد في المجتمع من دون أ ْن يؤدي للمجتمع من المهمات والوظائف المتخ ِّصصة ما يحتاج إليه مجتمعه ،ولك َّن الأهم م ّما يق ِّدمه الفرد للمجتمع منفرد ًا هو تعا ُونه مع غيره في الجماعة العلمية أو المهنية التي ينتسب إليها في ترقية المجتمع والأُ َّمة في جانب من جوانب الاختصاص ،وبحثه معهم عن مواطن الثغرات التي يمكن أ ْن ُتؤتى الأُ َّم ُة من خلالها؛ من أجل َس ِّدها ،وتقديم مصلحة الأُ َّمة على المصلحة الخاصة للأفراد ،وغير ذلك من المسؤوليات التي تتح َّقق من خلال الجهود الجمعية. ومن المعروف أ َّن بعض الأشخاص ُي ْح ِسنون العمل منفردي َن ،ويدركون ما يستطيعون أ ْن يقوموا به وحدهم ،وهم يرون الحاضر وما يتط َّلبه في لحظته ،ولكنَّهم لا ُي ْح ِسنون العمل في فريق ،ولا يدركون الصورة الكلية لواقع المجتمع وما َيلزمه من مشروعات لا ُب َّد لها من التعا ُون والتكا ُمل ،ولا يستشرفون المآلات التي يتح َّرك المجتمع نحوها ،أو ينبغي أ ْن يتح َّرك نحوها .لذلك ،فإ َّنه يتع َّين على الفكر التربوي الإسلامي أ ْن يؤ ِّهل كل فرد من هؤلاء للعمل ضمن فريق ،ليس لاستثمار طاقاته الفردية فحسب ،بل ليتم َّكن مع غيره من استكمال متط َّلبات الأعمال الجماعية اللازمة. 428
ومن المؤ َّكد أ َّن الشخصية الإسلامية التي نريد للفكر التربوي الإسلامي أ ْن يش ِّكلها ينبغي أ ْن تتصف بهذين الجانبين بصورة متكاملة؛ فالخطاب القرآني َتو َّجه إلى الإنسان في شخصيته الفردية﴿ .ﭧﭨ﴾ ،وبصفته عضو ًا في جماعة لها خصائص مشتركة﴿ . ﭟﭠﭡ﴾ ،وتح َّدث عن الفرد الذي ُي ْح ِسن؛ فيأخذ كتابه يوم القيامة بيمينه ،والفرد الذي ُيسيء؛ فيأتيه كتابه بشماله .وتح َّدث كذلك عن تفاوت الجماعات في صفاتها؛ فمنهم المؤمنون ،والكافرون ،والمنافقون؛ ومنهم المتقون والفاسقون؛ ومنهم ال ّضالون والمهتدون. ومنهم َمن يتصف بصفات الخير رجالاً ونسا ًء﴿ .ﮩﮪﮫﮬ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓ﴾ [الأحزاب .]35:وتح َّدث أيض ًا عن أفراد من الذكور المؤمنين ،منهم﴿ :ﭴﭵﭶﭷ ﭸﭹﭺ،﴾... وعن أفراد من الإناث المؤمنات﴿ .ﯦﯧﯨ[ ﴾...التحريم ،]١١:وتح َّدث عن أفراد كافرين من الذكور والإناث﴿ .ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮓﮔﮕ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ﴾ [المسد.]5-1: ثاني ًا :خاصية التكا ُمل والتوا ُزن في بناء مك ِّونات الشخصية: تم ِّيز دراسات الشخصية بصورة عامة بين ثلاثة مك ِّونات في شخصية الإنسان؛ مك ِّو ٍن ماد ٍّي أو جسم ٍّي يخت ُّص بالبنية المادية للإنسان الفرد؛ من :حجم ،ولون ،وملامح شكلية .ومك ِّو ٍن عقل ٍّي يخت ُّص بالمعلومات والمعارف والخبرات الفكرية والعملية وطرق اكتسابها .ومك ِّون نفس ٍّي وجدان ٍّي يخت ُّص بميول الإنسان ،ومشاعره ،وأخلاقه ،وقيمه التي تصف سلوكه وتعامله .وتتكامل هذه المك ِّونات في شخصية الإنسان بصورة لا يسهل تفكيكها إلا لأغراض تسهيل دراستها. ويحرص الفكر التربوي الإسلامي على أ ْن يبني شخصية إسلامية تتكامل فيها مك ِّوناته الثلاثة :جسمه ،وعقله ،وروحه؛ ذلك أ َّن الإنسان يحيا حياته بهذه المك ِّونات الثلاثة .والتربية -في حقيقتها -ليست إعداد ًا للحياة فحسب ،بل هي الحياة نفسها؛ ففيها تتكامل متط َّلباتها في الجوانب المك ِّونة لبنية الإنسان المادية والنفسية والعقلية. وإذا ص َّح أ ْن نتكلم عن مك ِّونات الإنسان من جسم وعقل وروح ،فإ َّن من المؤ َّكد أ َّن كل مك ِّون يحتاج إلى عناية تناسبه من وسائل التنمية والتربية والتزكية؛ فللجسم 429
تربية ولها وسائلها ،وللعقل تربية ولها وسائلها ،وللروح تربية ولها وسائلها .وخاصية التكا ُمل في الفكر التربوي هي أ ْن ينال كل مك ِّون من مك ِّونات الإنسان القدر اللازم له من التربية والتنمية والتزكية ،وبالوسائل التي تناسبه .وحتى حين يقوم المتخ ِّصص في التربية الجسمية -مثل ًا -بعمله في هذه التربية لشخص معين ،فإ َّن عليه أ ْن يكون واعي ًا بأ َّن ذلك الشخص يحتاج إلى التربية العقلية ،والتربية الروحية ،فينتبه وين ِّبه إلى ذلك ،ويفسح المجال لما َيلزمهما ،وربما يحتاج المتخ ِّصصون في جوانب التربية إلى أ ْن يتعاونوا مع ًا في البحث عن طرق استكمال هذه الجوانب ،بحيث يدعم جهد أ ٍّي منهم جهود الآخرين. فهذه المك ِّونات يرتبط أحدها بالآخر ،ويؤ ِّثر فيه ،ولك َّن أ َّي مك ِّون منها لا يغني عن غيره. فالإيمان يحتاج إلى العمل الصالح ،ولا يغني أحدهما عن الآخر ،ومواصفات العمل الصالح هي ما يح ِّدده الإيمان ،ويقتضيه .وكثير ًا ما ربط القرآن الكريم بينهما في مثل قوله سبحانه﴿ :ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭴﭵﭶﭷ﴾ [يونس .]9:فالإيمان هو الذي يهدي المؤمنين إلى ما َيلزمهم من عمل الصالحات ،التي تؤ ِّهلهم لدخول جنات النعيم .ووازع الإيمان لا يغني عن وازع السلطان .ختام ًا ،فإ َّن التكا ُمل في العمل التربوي لا ُب َّد أ ْن يتو َّجه إلى الرجل والمرأة في المجتمع؛ فتربية أحدهما لا تغني عن تربية الآخر ،وإ َّن التربية تتو َّجه لك ٍّل منهما إلى ما يكون إعداد ًا للمهمات المتمايزة بينهما. .1المك ِّون المادي من الشخصية: مع أ َّن التراث التربوي الإسلامي تح َّدث عن تربية ال ُمتع ِّلم في الجوانب المادية، في صورة ما ينبغي أ ْن يكون ،فإ َّن الممارسة العملية للإعداد المادي لم تأخذ ح َّظها فيما شهده المجتمع الإسلامي من مؤسسات التعليم بصورة ممنهجة ،وإ َّنما كان هذا الإعداد يتم بوصفه جزء ًا من الممارسات الاجتماعية التقليدية ،أو جزء ًا من متط َّلبات الإعداد للحياة العملية (((.ولم نجد فيما تض َّمنه التراث التربوي الإسلامي أمثل ًة كثير ًة ((( قال الغزالي في \"إحياء علوم الدين\" عن ضرورة إتاحة المجال للطفل أ ْن يستريح من تعب المكتب باللعب: \"وينبغي أ ْن ُي ْؤ َذن له بعد الانصراف من ال ُك ّتاب أ ْن يلعب لعب ًا جميل ًا يستريح إليه من تعب المكتب ،بحيث لا يتعب في اللعب ،فإ َّن َمنْ َع الصبي من اللعب وإرهاقه إلى التعليم دائم ًا يميت قلبه ،و ُيب ِطل ذكاءه ،و ُين ِّغص عليه العيش حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأس ًا \".انظر: -الغزالي ،أبو حامد محمد بن محمد (توفي505 :ﻫ) .إحياء علوم الدين ،بيروت :دار المعرفة( ،د .ت،). كتاب :رياض النفس ،ج ،3ص.73 430
على وجود وقت مح َّدد للتربية البدنية في البرنامج الدراسي اليومي أو الأسبوعي، أو أمثلة على المرافق والمساحات والملاعب اللازمة لمثل هذه التربية في الكتاتيب وأماكن تعليم الصبيان(((. ور َّبما طرأت الحاجة إلى مثل هذه المرافق -فيما بع ُد -عند إنشاء المدارس التي كانت ُتص َّمم وفق رؤية مسبقة؛ لتحتوي على مرافق متخ ِّصصة للوضوء ،والصلاة، والطعام ،والنوم ،وغير ذلك .فقد جاء في كتاب \"تاريخ علماء المستنصرية\" -نقل ًا عن عدد من مراجع التراث -أ َّن المدرسة المستنصرية (نسب ًة إلى َمن أمر ببنائها؛ وهو الخليفة المستنصر في خلافته الممتدة من عام 623ﻫ إلى عام640ﻫ) كانت أقرب إلى أ ْن تكون جامعة لجميع المواد ،مثل\" :علم الطب ،وحفظ قوام الصحة ،وتقويم الأبدان (((\".فض ًلا عن علوم القرآن ،والحديث ،والفقه ،واللغة ،وغيرها .ونتوقع أ ْن يتض َّمن تصميم المدرسة ما َيلزم لحفظ قوام الصحة ،وتقويم الأبدان ،من المساحات والمرافق(((. وتذكر بعض نصوص التراث أ َّن أهل دمشق كانوا ينتقلون يوم السبت إلى مكان ُيس ّمى الميدان الأخضر ،وينقلون معهم تجاراتهم ،ويمضون يومهم باللهو واللعب، فإذا كان وقت المغرب ص َّلوا في الجامع ،ث َّم عادوا إلى بيوتهم (((.وعن أهل ساوة؛ وهي مدينة في شمال إيران حالي ًا ،أ َّن غلمانهم كانوا يخرجون في الربيع بعد صلاة الجمعة ليمارسوا الملاكمة(((. ((( نجد في التراث التربوي الإسلامي إشارات عن ضرورة إتاحة المجال أمام الأطفال للترويح واللعب .انظر: -الغزالي ،إحياء علوم الدين ،مرجع سابق ،ج ،3ص.73 -ابن مسكويه ،أبو علي أحمد بن محمد (توفي421 :ﻫ) .تهذيب الأخلاق ،دراسة وتحقيق :عماد الهلالي، بيروت :منشورات الجمل2011 ،م ،ص.389 قال\" :ذلك أ َّن اللعب ُيشبِه الراحة ،والراحة ليست من تمام السعادة ،ولا من أسبابها ،وإ َّنما يميل إلى الراحات البدنية َمن كان طبيعي الشكل بهيمي النجار ،كالعبيد والصبيان والبهائم .فليس ينسب الحيوان غير الناطق ولا الصبيان والعبيد إلى السعادة ،ولا َمن كان مناسب ًا لهم ،وأما العاقل الفاضل فإنه يطلب بهمته أعلى المراتب\". ((( معروف ،تاريخ علماء المستنصرية ،مرجع سابق ،ص.1 ((( المرجع السابق ،ص.1 ((( القزويني ،زكرياء بن محمد بن محمود الأنصاري (توفي682 :ﻫ) .آثار البلاد وأخبار العباد ،بيروت :دار صادر، (د.ت) ،ص.191 ((( المرجع السابق ،ص.389 431
وإذا كانت التربية البدنية جزء ًا من الفكر التربوي الإسلامي بحكم أنماط التنشئة الاجتماعية العادية ،فإ َّن الموضوع لم يكن بعيد ًا عن التنظير لهذه التربية ،وبيان أهميتها، وأنواعها ،والاستناد في ذلك كله إلى نصوص الشريعة في القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية. فالمف ِّسرون وقفوا عند عدد من الآيات القرآنية التي تشير إلى فضل الله سبحانه على الإنسان في تسوية صورته ال َخلقية .قال القرطبي في تفسير قوله تعالى﴿ :ﮠ ﮡﮢ﴾ [غافر\" :]64:وقد مضى معنى التصوير ،وأ َّنه التخطيط والتشكيل .فإ ْن قيل :كيف أحس َن صورهم؟ قيل له :جعلهم أحسن الحيوان كله وأبهاه صور ًة ،بدليل أ َّن الإنسان لا يتمنّى أ ْن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور ،ومن ُح ْسن صورته أ َّنه ُخ ِلق ُمنت ِصب ًا غير ُمنْ َك ٍّب(((\". ولا شك في أ َّن شكل الجسم جزء من مظهره الذي يعطي انطباع ًا معين ًا عنه ،وكذلك الأمر في لغته وبيانه .قال الله سبحانه عن المنافقين﴿ :ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯦﯧﯨ﴾ [المنافقون .]4:وقال الرازي في \"التفسير الكبير\"\" :اعلم أ َّن قو َله تعالى﴿ :ﯟ ﯠ﴾ يعني عبد الله بن ُأب ٍّي ،ومغيث بن قيس ،و َج َّد بن قيس ،كانت لهم أجسام ومنظر، تعجبك أجسامهم لحسنها وجمالها ،وكان عبد الله بن ُأب ٍّي جسيم ًا صبيح ًا فصيح ًا ،وإذا قال سمع النب ُّي ﷺ قوله(((\". وهذه الآية القرآنية تؤ ِّكد أ َّن للظاهر من جسم الإنسان ،وللفصيح البليغ من البيان، أ َث َرهما الإيجابي في نفس الناظر والسامع ،عندما لا يعلم هذا الناظر أو السامع حقيقة ما وراءهما .فإ ْن كانت الحقيقة خير ًا ،فنِ ْعم ُح ْسن الظاهر و ُح ْسن الكلام. ولا يغيب عنّا أ َّن في القرآن نصوص ًا كثيرة في فضل امتلاك الق َّوة وأدواتها .وحين اختار الله لبني إسرائيل ملك ًا بنا ًء على طلبهم ،ث َّم احتجوا على اختياره وفق معاييرهم ،ذكر من فضائله فضيلتين؛ فضيلة البسطة في العلم ،وفضيلة البسطة في الجسم .قال ابن عاشور في تفسير قوله تعالى ﴿ :ﮬﮭﮮﮯﮰﮱ﴾ [البقرة\" :]247:أ َّن الصفات ((( القرطبي ،الجامع لأحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،21ص.9 ((( الرازي ،التفسير الكبير «مفاتيح الغيب» ،مرجع سابق ،ج ،30ص.14 432
المحتاج إليها في سياسة أمر الأُ َّمة ترجع إلى أصالة الرأي وق َّوة البدن؛ لأ َّنه بالرأي يهتدي لمصالح الأُ َّمة ،لا سيما في وقت المضائق ،وعند تع ُّذر الاستشارة ،أو عند خلاف أهل الشورى .وبالق َّوة يستطيع الثبات في مواقع القتال ،فيكون بثباته ثبات نفوس الجيش\". وبنو إسرائيل إ َّنما طلبوا من نبيهم أ ْن يجعل لهم ملك ًا ليقاتلوا في سبيل الله\" .فكان اختيار الله لملك فيه من الخصائص ما يم ِّكنه من القيادة العسكرية(((\". وجاء في \"تفسير المنار\" ،في الموضوع نفسه ،ما ن ُّصه\" :وإ َّنما اكتفى بذكر ال َّسعة في العلم الذي يكون به التدبير ،وبسطة الجسم المع ِّبر عن صحته وكمال قواه المستلزم ذلك لصحة الفكر ...وللشجاعة ،والقدرة على المدافعة ،وللهيبة ،والوقار(((\". وفي ُسنَّة النبي ﷺ وسيرته الكثي ُر من المواقف التي تؤ ِّكد أهمية نظافة البدن والثوب والمكان؛ سواء في داخل البيت ،أو في خارجه ،ولا سيما عند اجتماع الناس .ومن نصوص ال ُّسنة توجيهات نبوية إلى ما ُيس ّمى سنن الفطرة ،وما يخت ُّص باللحية والسواك واستعمال العطر المناسب .وفي الحديث الشريفَ \" :أ ْص ِل ُحوا ِر َحا َل ُكم َو َأ ْص ِل ُحوا لِ َبا َس ُكم ح َّتى تكو ُنوا كال َّشا َم ِة في النَّا ِس(((\". ولك َّن الإعجاب بالظاهر من ُح ْسن الهيئة والبيان ،وتأثيرهما في النفس ،لا ينبغي أ ْن يحول دون التأ ُّكد من بواطن الأمور وحقائق الأشياء .ولذلك ع َّلم النبي ﷺ أصحابه ألا ُي ْؤ َخذوا بالظواهر؛ فحين كان النبي مع أصحابه اختبر أثر الظاهر فيهم ،عندما َم َّر رج ٌل تبدو عليه مظاهر الغنى ،فسألهم عنه ،فأثنوا عليه ،ث َّم َم َّر رج ٌل آخر تبدو عليه مظاهر الفقر، فسألهم عنه ،فلم يثنوا عليه ،فقال لهم\" :هذا خي ٌر من ِملء الأرض مثل هذا (((\".فع َّلمهم أ َّن الإعجاب بالهيئة والمظهر لا ينبغي أ ْن يؤ ِّثر في معيار التفاضل بين الناس .والشاهد الذي نراه هنا هو أ َّن المعتاد والمألوف عند الناس أ َّن هيئة الإنسان الظاهرة في جسمه ولباسه تترك أثر ًا في قلوبهم ،مع أ َّن الله سبحانه يعلم حقيقة الإنسان. ((( ابن عاشور ،تفسير التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،2ص.491 ((( رضا ،محمد رشيد .تفسير المنار ،القاهرة :مطبعة المنار1350 ،ﻫ ،ج ،2ص.477 ((( أبو داود ،سنن أبي داود ،مرجع سابق ،كتاب :اللباس ،باب :ما جاء في إسبال الإزار ،حديث رقم: ( ،)4089ص.446 ((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :النكاح ،باب :الأكفاء في الدين ،حديث رقم ،)5091( :ص.1009 433
هذه التوجيهات القرآنية والنبوية جعلت العلماء يؤ ِّكدون أهمية ال ُب ْعد الجسمي من شخصية الإنسان ،وضرورة العناية به .فقد أورد ابن ق ِّيم الجوزية في \"زاد المعاد\" فصل ًا حمل عنوان\" :هديه ﷺ في الرياضة\" ،وقال فيه\" :تدبير الحركة والسكون ،وهو الرياضة\". وذكر تفاصيل عديدة عن السبب الموجب للرياضة ،وفوائدها ،ووقتها ،وأنواعها ،ورياضة النفوس ،ورياضات ُأخرى .وكان م ّما قاله\" :ولكل عضو رياضة تخ ُّصه ،فذكر الصدر، والسمع ،والبصر ،واللسان \".ث َّم قال\" :وكذلك رياضة المشي بالتدريج شيئ ًا فشيئ ًا .وأ ّما ركوب الخيل ،ورمي النِّ ّشاب ،والصراع ،والمسابقة على الأقدام ،فرياضة للبدن كله ،هي قالعة لأمراض مزمنة(((\". وما ُي ِه ُّمنا في هذا المقام تأكيد أ َّن الفكر التربوي الإسلامي المراد بناؤه لا يمكن أ ْن يستغني عن إعداد الإنسان فيما َيلزم له من سلامة بدنه ،وق َّوته للقيام بمهماته في حياته وحياة أسرته ومجتمعه؛ فقوة البدن وسلامته من بدهيات الأمور وطبائعها ،ومن متط َّلبات قيام الإنسان بعباداته؛ من :صلاة ،وصيام ،وحج ،ومن ضرورات سعيه في كسب رزقه ،وما تحتاج إليه حرفته أو مهنته من حركة وجهد بدني ،ومشاركته في أعباء الجهاد في وقته ،وغير ذلك. والجسم في شخصية الإنسان هو أساس ًا في صحته وسلامته م ّما يعيقه عن أداء مهماته ،وهذه ليست صفة مح َّددة بمقاييس مادية في ال َك ِّم أو الكيف؛ فالناس يتفاوتون كثير ًا في قدراتهم على أداء المهمات المختلفة .وقد يكون للإنسان ق َّوة مادية في صفة معينة مع ضعف في صفة مادية ُأخرى .وقد تبرز فيه قوى عقلية أو نفسية تزيد من كفاءته الجسمية للقيام بمهمات لا يستطيعها صاحب البسطة في الجسم. ولذلك ،فإ َّن على النظام التربوي أ ْن يو ِّفر لل ُمتع ِّلمين ُفرص ًا مختلفة لتقوية أجسامهم؛ فمنهم َمن يقوى على ال َع ْدو والقفز ،ومنهم َمن يقوى على الحمل والسحب والدفع، ومنهم َمن يملك مهارات قتالية متخ ِّصصة ،ومنهم َمن ير ِّكز على ق َّوة البصر وق َّوة السمع، ومهارات الكلام أو الكفاءات المادية اللازمة لأنواع الحرف والمهن .فالمجتمع يحتاج إلى كل ذلك ،وك ٌّل ُمي َّس ٌر لما ُخ ِلق له. ((( ابن الق ِّيم ،أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب (توفي751 :ﻫ) .زاد المعاد في هدي خير العباد ،ضبط نصه: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط ،بيروت :مؤسسة الرسالة ،ط2009 ،1م ،ص.683-682 434
ث َّم إ َّن النظام التربوي يمكنه أ ْن يرشد ما يحفظ على الناس صحتهم وسلامتهم عن طريق الإرشادات الصحية في النظافة والطعام والشراب؛ لحفظ الجسم م ّما ُي ْض ِعفه ،أو ُيق ِّلل من كفاءته؛ إذ يكون الطعام والشراب م ّما أح َّل الله ،من دون إسراف وإفراط ،ومن دون إنهاك للجسم وإضعاف له .وعند المسلم مقتضيات خاصة في الطهارة والنظافة المادية في الجسد ،وفي الثوب ،وفي المكان. .2المك ِّون العقلي من الشخصية: لن نطيل الحديث عن المك ِّون العقلي من الشخصية؛ فقد كانت له -ولا تزال- الصدارة في جهود التعليم والتع ُّلم ،في التاريخ الإسلامي .وبالرغم من أ َّن نصوص التراث التربوي الإسلامي ر َّكزت كثير ًا على فضل العلم والعلماء ،وآداب العالِم وال ُمتع ِّلم، والتلميذ ال ُمتع ِّلم ،وما تتض َّمنه هذه الموضوعات من تو ُّجه إلى تشكيل شخصية الإنسان، فإ َّن الممارسات التعليمية كانت تر ِّكز في الغالب على مواد التعليم ،لا سيما القرآن الكريم تلاو ًة وحفظ ًا وتفسير ًا ،والحديث النبوي متن ًا وسند ًا ،وبعض علوم اللغة والأدب، وأساسيات الحساب ،وغير ذلك من الموضوعات. صحيح أ َّن المك ِّون العقلي يتصل بالعلوم التي يتل ّقاها ال ُمتع ِّلم ،ولكنَّه أوث ُق صل ًة بمنهج اكتساب هذه العلوم ،وبعمليات التع ُّقل والتف ُّكر والتد ُّبر؛ لتحقيق الفهم ،وبناء الوعي والإدراك لهذه العلوم .ولهذا ،فإ َّن العلماء عندما تح َّدثوا عن مقاصد الشريعة جعلوا حفظ العقل قرين ًا لحفظ النفس (الحياة) ،وحفظ المال (ممتلكات الإنسان) ،وحفظ النسل (النوع البشري) ،وحفظ ال ِعرض (الكرامة الإنسانية) .والأساس في تفعيل مقصد العقل هو اتخاذ الوسائل والأساليب التي ُتس ِهم في إعماله لاكتساب العلم والتف ُّكر والتد ُّبر والتذ ُّكر فيما يكتسبه .وهذه المهمات هي من خصائص الإنسان ،ومؤ ِّشرات وعيه بذاته وبما حوله؛ لذا وصف القرآن الكريم َمن يتوقف عن إعمال عقله عن أداء هذه المهمات بأ َّنه ِمثل سائر الأنعام ،بل هو أضل(((. ((( إشارة إلى قوله تعالى﴿ :ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡ﴾ [الفرقان،]44 : وإلى قوله سبحانه﴿ :ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ﴾ [الأعراف.]179 : 435
فعمليات التع ُّقل والتف ُّكر والتد ُّبر والتذ ُّكر يمكن أ ْن تكون مجالات خصبة في العمل التربوي ،و َتظهر تج ِّلياتها بصورة مباشرة على الشخصية الإنسانية في جانبيها :العقلي، والنفسي .وهي ليست عمليات تعليمية مج َّردة قائمة بذاتها في المق َّررات التربوية، وإ َّنما هي منهج للتعامل مع المواد التعليمية المختلفة؛ ففي تعليم النص القرآني الحكيم مناسبات لاستلهام سبيل الهدى والاعتبار .ومن الأمثلة على ذلك أ َّن َق َصص الأنبياء وأقوامهم كانت ُتع َرض من أجل العبرة (((.وفي مشاهد الكون عبرة (((،وفي تعليم التاريخ مواقف لإعمال العقل في التف ُّكر والاعتبار والتد ُّبر عندما يتض َّمن ذلك التع ُّل ُم والتعليم فه َم الأحداث في سيرورتها وصيرورتها ،وفي تعليم العلوم الطبيعية مواقف للنظر والمشاهدة والتأ ُّمل في تكوين الأشياء وخصائصها وتغ ُّيراتها ،وفي عمليات الاختبار والتجريب تف ُّك ٌر وتد ُّب ٌر في التن ُّبؤ بالأحداث ،وتوجيهها ،ور َّبما التح ُّكم فيها وتوظيفها. ويمكن القول إ َّن في تعليم كل العلوم مجالات لحفظ العقل ،بإعماله وتوظيفه لاكتساب المعرفة ،وتحقيق متعة التع ُّلم وشغف الفضول العلمي ،وبناء الح ِّس النقدي الذي يكشف عن الثغرات فيما وصلت إليه المعرفة ،وشحن الذهن وحشد الطاقة على التعامل مع هذه الثغرات ،والإسهام في نمو العلم وتطويره ،وتحقيق مراد الله في طلب الزيادة في العلم. إ َّن القدرة على الاكتشاف وتطوير العلوم وتطبيقاتها الصناعية ليست حكر ًا على أهل دين أو عرق ،ولا ينحصر ذلك في مكان أو زمان؛ فالقدرة العقلية منحة ربانية متاحة للجميع ،وإ َّنما يظهر فعلها فيما يتاح لها من ُفرص النمو والتشغيل .فإعمال العقل في كل ذلك إعما ٌر للأرض ،وتحقي ٌق لمراد الله سبحانه في الخلافة فيها .وفي كل ذلك -من أول السعي إلى نهايته -تعمي ٌق لإيمان المؤمن بقدرة الله وإرادته وحكمته. وتعليم العلوم المختلفة من دون وعي بالمك ِّون العقلي من شخصية الإنسان لا يكفي في بناء هذا المك ِّون ،بل يقتضي هذا الوعي أ ْن يتح َّدد هدف التربية العقلية بصورة ((( إشارة إلى قوله تعالى﴿ :ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭣﭤﭥﭦ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ﴾ [ق ،]37 -36:وقوله سبحانه﴿ :ﯫﯬﯭﯮ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﰂ﴾ [يوسف.]111 : ((( إشارة إلى قوله تعالى﴿ :ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ﴾ [النور.]44 : 436
مباشرة في مناهج التعليم وممارساته .ومن ذلك أ ْن تتض َّمن الأهداف تدريب ال ُمتع ِّلمين على التع ُّقل والتف ُّكر والتد ُّبر في عدد من المجالات التي تتو َّزع على فروع العلوم الطبيعية والاجتماعية والدينية .ومن ذلك على سبيل المثال: -التف ُّكر فيما شرعه الله سبحانه من أحكام لإدراك حكمته في تحقيق المصالح ودرء المفاسد ،على أساس من حرية الإرادة والتفكير الذي ُيط ِلق طاقات العقل بما يقود إلى الإيمان عن رض ًا وقناع ٍة. -التف ُّكر والاعتبار في ُسنَّة الله سبحانه في العا َلم الاجتماعي وأحداث التاريخ ،وقيام الدول والحضارات وانهيارها ،و َق َصص الأنبياء مع أقوامهم. -التف ُّكر والتد ُّبر في مشاهد العا َلم الطبيعي ،وأشيائه ،وأحداثه ،وظواهره ،والسعي لاكتشاف هذه القوانين ،واختبارها ،وتوظيفها. -التب ُّين والتث ُّبت والتح ّري في ورود الأنباء والأخبار بالوسائل المناسبة لها وفق طبائع الأشياء ووقائعها ،ووفق مؤ ِّشرات الصدق والموثوقية في المصادر .ويكون ذلك بالتث ُّبت من صحة المنقول ،ومن سلامة الدليل ،والاستفادة م ّما قادت إليه الخبرة البشرية المعاصرة من أساليب البحث ومناهجه وأدواته ،وكل ذلك يكون بالتع ُّلم والتعليم ،ومواصلة طلب العلم والزيادة فيه. -تحرير العقل من أسباب الخلل في المك ِّون العقلي في الشخصية الإنسانية ،مثل: الا ِّتباع والتقليد في ممارسة أمور الحياة ،واتخاذ المواقف فيها من دون مرجعية معتبرة ،وا ِّتباع الظن وما تهوى الأنفس ،وعدم البحث الجاد عن مصادر الثقة واليقين. -رفض حالات الاستبداد في الرأي وتقييد الحريات التي تحتكر السلطة في إدارة الدولة ،والمجتمع ،والأسرة ،وسائر المؤسسات؛ فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة ،تؤدي إلى قتل الطاقات ،وإهدار الإمكانيات ،وتضييع ال ُفرص. ومن أهم ما َيلزم في تجنُّب ضعف العقل وتعطيل فعاليته هو الوعي بالأثر الذي ُت ْح ِدثه بعض وسائل الإعلام التي أصبحت في هذا الزمن تحاصر العقول بالأخبار والتحليلات والمؤ ِّثرات النفسية ،فينتهي الأمر بغسيل العقول ،وتشكيلها على الطريقة الفرعونية(((. ((( إشارة إلى قوله سبحانه عن فرعون﴿ :ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ﴾ [غافر.]29 : 437
وم ّما يلفت النظر في منهج القرآن الكريم عن العقل أ َّنه لم يرد الحديث عنه بوصفه اسم ًا على شي ٍء ،أو عض ٍو ما في جسم الإنسان ،كما تح َّدث عن العين أو الأذن ،وإ َّنما تح َّدث القرآن الكريم عن العقل بوصفه عمل ًا من الأعمال ،وممارسة عملية في الحياة الفردية والاجتماعية ،وهو خاصية م َّيز الله بها الإنسان عن سائر الكائنات التي نعرفها في عا َلم الشهادة .وقد أجمع أهل ال ِم َّلة -كما يقول الإيجي -أ َّن هذه الخاصية هي مناط التكليف والمسؤولية(((. ووظيفة العقل هي تع ُّقل العلوم والمعارف ،والوعي بها ،وإدراكها .وقد يأتي العقل بمعنى العلوم والمعارف نفسها ،وقد يكون للدماغ شأن في عمليات التع ُّقل والإدراك والوعي م ّما قد يكشف عنه العلم ،ولك َّن القرآن يق ِّرر أ َّن القلوب التي في الصدور هي التي تقوم بتلك العمليات﴿ .ﯤﯥﯦﯧ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ﴾ [الحج.]46: ولذلك ،لا ُب َّد أ ْن ينعكس فهمنا للعقل والتع ُّقل على ما يمكن بناؤه من الفكر التربوي الإسلامي ،بما في ذلك فهمنا وممارستنا لأساليب التعليم .وقد لاحظ محمد رشيد رضا في وقت مب ِّكر من القرن العشرين ضع َف المك ِّون العقلي في شخصيات أبناء الأُ َّمة، وح َّذر من ذلك ،قائل ًا :إ َّن عنايتنا بتربية المدارس في بلاد العرب والمسلمين يجب أ ْن تكون \"أشد من عناية غيرنا؛ لأ َّننا وقد تع َّذرت علينا التربية الأساسية بجهل نسائنا نرى تلاميذ سرى الفساد إلى أخلاقهم ،والخرافات إلى عقولهم ،ولكنَّنا لم نقم بهذا الواجب، ولم ُت ْع َن مدارسنا بالتربية النفسية ،ولا بالتربية العقلية التي هي وظيفتها الأُولى .لا أعني بالتربية العقلية تعليم العلوم التي يرتقي بها العقل ... ،إ َّنما أعني بالتربية العقلية أ ْن يتو ّخى في أسلوب التعليم استقلا ُل عقول الطلاب في الفهم ،والحكم في المسائل ،وتحرير الحقائق ،وألا ُي َع َّو ُدوا أخ َذ المسائل العلمية بالتسليم والتقليد(((\". ويربط القرآن الكريم في عنايته بالعقل البشري بين ما ُي َع ُّد تربية عقلية وتربية اعتقادية؛ فحين يو ِّجه القرآن الكريم الإنسان إلى السير في الأرض ،والنظر والتأ ُّمل في المشاهد ((( الإيجي ،أبو الفضل عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغار (توفي756 :ﻫ) .المواقف في علم الكلام، القاهرة :مكتبة المتنبي( ،د .ت ،).ص.146 ((( رضا ،محمد رشيد .مجلة المنار ،القاهرة 30 ،شعبان ،أغسطس 1912م ،المجلد ،15الجزء ،8ص.574 438
الكونية؛ من :حركات الشمس والقمر ،وتق ُّلب الليل والنهار ،ونزول المطر ،وإحياء الأرض بالنبات ،فإ َّنه يجعل العلم والمعرفة العقلية التي يمكن للإنسان أ ْن يكتسبها عن تلك المشاهد دعو ًة لتأ ُّمل خ ْلق الله وحكمته ،وسبب ًا في تعميق الإيمان به ،والاعتقاد بعلمه، وقدرته ،وحكمته .فالله سبحانه خبير بما سيكون من أثر هذه التربية العقلية في التربية الإيمانية والاعتقادية﴿ .ﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓ﴾ [النمل.]88: .3المك ِّون الروحي /النفسي من الشخصية: أشرنا فيما سبق إلى أ َّن الإنسان -عند غالبية مف ِّكري الإسلام قديم ًا وحديث ًا -يتك َّون من جسم ،وعقل ،وروح .و ِم ْن َث َّم ،فإ َّن أ َّي تربية سوف تتو َّجه إلى هذه المك ِّونات الثلاثة، وإ َّن أ َّي فكر تربوي سوف يتناولها ويوليها الاهتمام .وقد تح َّدثنا عن المك ِّون المادي الجسمي ،والمك ِّون العقلي ،فما المك ِّون الروحي؟ وما التربية الروحية؟ وما علاقتها بالتربية النفسية؟ نتوقع أ َّن أ َّي حديث عن التربية الروحية في الفكر التربوي الإسلامي سيأتي أساس ًا في ضوء حديث القرآن الكريم عن الروح؛ ففي القرآن الكريم جاء لفظ \"الروح\" بمعا ٍن متعددة ،منها ما يتصل بالله سبحانه ،الذي بدأ خلق الإنسان من طين ،ث َّم نفخ فيه من روحه، وع َّلمه الأسماء كلها ،وح َّمله الأمانة ،وأوكل إليه مهمة الخلافة على الأرض ،ومنحه صفة التكريم .ولع َّل هذا المعنى للروح هو الذي ُس ِئل عنه النبي ﷺ ،ليأتي الجواب من عند الله ع َّز وج َّل في قوله﴿ :ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ﴾ [الإسراء .]85:ولع َّل في هذا الجواب إشار ًة إلى أ َّن الأَ ْولى ألا نخوض في أ ِّي أمر من أمور الغيب التي اخت َّص الله بها نفسه .ومع ذلك ،فإ َّن التراث الإسلامي شهد قدر ًا من الكلام في عدد من التفاصيل التي اعتبرها العلماء ذات صلة بالروح الإنسانية ،والنفس الإنسانية ،والعلاقة بينهما. فنحن نجد في \"كتاب الروح\" لابن الق ِّيم مادة كبيرة ،كتب الجزء الأكبر منها جواب ًا لأسئلة عن الروح ،وأحوال البرزخ ،وعذاب القبر ،ومستقر الروح بعد الموت ،مع جزء يسير حاول فيه التمييز بين الروح والنفس .وذكر الكتاب أنواع النفس الثلاثة :المطمئنة، والل ّوامة ،والأَ ّمارة بالسوء ،التي أشارت إليها الآيات القرآنية .وكان م ّما قاله\" :والمقصود: التنبيه على بعض أحوال النفس المطمئنة والل ّوامة والأَ ّمارة ،وما تشترك فيه النفوس الثلاثة، 439
وما يتم َّيز به بعضها من بعض ،وأفعا ِل ك ِّل واحد ٍة منها ،واختلافها ومقاصدها ون ّياتها ،وفي ذلك تنبي ٌه على ما ورا َءه ...وهي نف ٌس واحد ٌة تكون َأ ّمار ًة تارة ،ول ّوام ًة ُأخرى ،ومطمئن ًة ُأخرى .وأكثر الناس الغال ُب عليها الأَ ّمارة ،وأ ّما المطمئنة فهي أق ُّل النفوس البشرية عدد ًا، وأعظ ُمها عند الله قدر ًا .وهي التي يقال لها﴿ :ﭥ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭯﭰ﴾ [الفجر(((\".]30-28: ومن الجدير بالذكر -في هذا المقام -أ َّن لفظ \"الروح\" جاء في القرآن الكريم بمعا ٍن ُأخرى ،منها إشارة إلى الم َلك المو َّكل بالوحي ،وهو جبريل في مثل قوله تعالى: ﴿ﭤﭥﭦ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬٍ﴾ [القدر .]4:ومنها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦﭧ﴾ [الشورى .]52:والروح قد تكون كلام الله في نحو قوله سبحانه﴿ :ﯜ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ﴾[ غافر .]15:وقد تأتي الروح بمعنى الرحمة ،وذلك في قوله تعالى﴿ :ﭧﭨﭩﭪ ﭫﭬﭭﭮﭯ﴾ [المجادلة]22:؛ أ ْي برحمة منه. وذكر ُمح ِّقق \"كتاب الروح\" لابن الق ِّيم أ َّن التراث الإسلامي يشير إلى عدد من المؤ َّلفات عن الروح م ّما\" :لا علم لنا بوجودها في خزائن الكتب ،بل لابن الق ِّيم نفسه كتاب آخر كبير أ َّلفه قبل كتاب الروح هذا ،وس ّماه الروح والنفس ...ولك ْن لم نقف عليه، لا ندري أضاع فيما ضاع من نفائس تراث ابن الق ِّيم ،أم لا يزال مخبوء ًا في زاوية من الزواياُ ،منتظِر ًا َمن ُيف ِّتش عنه ،و ُيظ ِهره للناس؛ فكتاب الروح لابن الق ِّيم هو الكتاب الوحيد بين أيدينا اليوم من الكتب ال ُمصنَّفة في هذا الباب على منهج السلف(((\". ومع ذلك ،فإ َّن التربية الروحية عند َمن يكتب عنها ِمن المسلمين تعني في الغالب علاقة الإنسان بالله سبحانه ،وهي علاقة تتع َّزز بتعميق الإيمان به ع َّز وج َّل ،والاتصال الدائم به عن طريق العبادات المفروضة والنوافل .ولا نجد في هذا المعنى من التربية الروحية إشكالاً باعتباره جزء ًا من المعنى العام للعبادة في الإسلام ،الذي يشمل كل الأعمال الصالحة التي ((( ابن ق ِّيم الجوزية ،محمد بن أبي بكر بن أيوب (توفي751 :ﻫ) .كتاب الروح ،تحقيق :محمد أجمل ،مكة المكرمة :دار عالم الفوائد1432 ،ﻫ ،ص.742 ((( المرجع السابق ،ص.5 440
يقوم بها المؤمن طاع ًة لله ،ورجا ًء ل ُح ْسن ثوابه ،من مثل :العبادات الشعائرية ،وما يتصل بالعلاقات الاجتماعية ،والاقتصادية ،والسياسية ،والتربوية ،والفنية ،وغيرها. وفيما يخ ُّص الآثار الكثيرة التي تتح َّدث عن علاقة أرواح الموتى بالأحياء عن طريق المنامات وما يتع َّلق منها بعا َلم الغيب ،فنُف ِّضل الإمساك عن الاهتمام بها ،ونمسك كذلك عن الخوض في مسألة الروح الواردة في قوله تعالى عن آدم عليه السلام﴿ :ﯬﯭ ﯮﯯﯰ ﯱﯲﯳﯴ﴾ [الحجر ،]29:وفي قوله سبحانه عن مريم عليها السلام: ﴿ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ﴾ [التحريم .]12:وحسبنا الاهتمام بروح الإنسان ،والاعتقاد بأ َّن هذه الروح هي من أمر الله ،والعلم بأ َّنها موجودة بوجود الحياة في الإنسان في حياته الدنيا ،بوظائفها وتم ُّثلاتها ،وأ َّن روح الفرد الإنساني تفارق جسده عند انتهاء حياته ،وأ َّنها تكون روح ًا مؤمن ًة طيب ًة ،أو روح ًا عاصي ًة خبيث ًة. والكتابات المعاصرة عن التربية الروحية والتربية الإسلامية في الفكر الإسلامي تختلط غالب ًا بالتربية النفسية ،والتربية الأخلاقية .وك ُّلها؛ أ ِي التربية الروحية ،والتربية النفسية ،والتربية الأخلاقية ،تع ِّبر ع ّما يمكن أ ْن ُنس ّميه التربية الإيمانية؛ أ ِي التق ُّرب إلى الله ع َّز وج َّل بما شرع من أنواع الطاعات ،والتر ّقي في مراتب الإيمان وشعبه المتعددة التي تتو َّزع على أبواب العقائد والعبادات والمعاملات ،كما جاء في الحديث الصحيح عن ُشعب الإيمان(((. وحين حاول العلماء َع َّد ما رأوه من ُشعب الإيمان ،فإ َّنهم لم يجدوا ُب ّد ًا من تضمين ذلك مسائل العقيدة ،بما فيها أركان الإيمان الستة ،وموضوعات الصلة بالله سبحانه؛ من: ُح ٍّب ،وخوف ،ورجاء؛ ومسائل العبادت ،بما فيها أركان الإسلام بأبوابها وأحكامها؛ ومسائل المعاملات والصلة بالناس؛ من :ب ِّر الوالدين ،وصلة الرحم ،والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وقضايا الأُ َّمة العامة؛ منُ :حكم ،وإصلاح بين الناس ،وجهاد الأعداء، والمرابطة والثبات في القتال؛ ومسائل العاد ّيات؛ من :مطاعم ،ومشارب ،وملابس؛ ومسائل الآداب؛ من :حياء ،وإماطة الأذى عن الطريق ،وتشميت العاطس ،و ُح ْسن ((( جاء في صحيح مسلم\" :ا ِلإي َما ُن بِ ْض ٌع َو َس ْب ُعو َن َأ ْو بِ ْض ٌع َو ِس ُّتو َن ُش ْع َب ًةَ ،ف َأ ْف َض ُل َها َق ْو ُل لَ إِ َل َه إِلَّ ال َّل ُهَ ،و َأ ْد َنا َها إِ َما َط ُة الأَ َذى َع ِن ال َّط ِري ِقَ .وا ْل َح َيا ُء ُش ْع َب ٌة ِم َن ال ِإي َما ِن \".انظر: -مسلم ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،كتاب :الإيمان ،باب :بيان عدد ُشعب الإيمان ،حديث رقم ،)35( :ص.48 441
الخلق .وقد ف َّصل الحافظ البيهقي هذه ال ُّشعب حتى أوصلها إلى سبع وسبعين ُشعبة(((. لقد تض َّمن التراث التربوي الإسلامي ماد ًة غني ًة جد ًا عن النفس الإنسانيةُ ،كتِب الكثير منها في ظلال الآيات القرآنية الكريمة التي تح َّدثت عن هذه النفس ،فكان منها آيات ب َّينت أنواع النفس وحالاتها وأمراضها ،وجمعت بعض كتب التراث ما ورد من هدي نبوي ،ومن آثار السلف الصالح عن النفس ،وتض َّمنت بعض هذه الكتابات بيان ًا مف َّصل ًا عن العلاقة بين النفس والعقل والقلب والروح .ودخلت في هذه الكتابات أحيان ًا مقولات فلسفية كان الفكر الإسلامي في ِغن ًى عنها .وقد شارك في هذه الكتابات فقهاء ومح ِّدثون وفلاسفة ،ولك َّن أكثر َمن كتب عن النفس علماء التصوف وشيوخهم ،على اختلا ٍف وتباين كبير في َتو ُّجهاتهم الصوفية(((. ولا شك في أ َّن العلوم التي كان يق ِّدمها علماء الإسلام في حلقاتهم ومجالسهم التعليمية والتربوية لم تكن هدف ًا في ح ِّد ذاتها ،وإ َّنما كان المقصود أ ْن يأتي العمل بعد العلم ،والعمل هنا هو عمل الإنسان وسلوكه الظاهر والباطن ،بقلبه وعقله وجوارجه. ((( البيهقي ،الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي (توفي458 :ﻫ) .الجامع لشعب الإيمان ،تحقيق :عبد العلي عبد الحميد حامد ،الرياض :مكتبة الرشد2003 ،م .انظر مجلد الفهارس ،ج ،14ص.728-710 ((( يصعب حصر كتب التراث التي تناولت موضوع النفس الإنسانية ،ولذلك نكتفي ببعض الأمثلة التي تشير إلى التن ُّوع في المدارس الفكرية: -المحاسبي ،أبو عبد الله الحارث بن أسد (توفي243 :ﻫ) .آداب النفوس ،تحقيق :عبد القادر أحمد عطا، بيروت :مؤسسة الكتب الثقافية ،ط1991 ،2م. -ابن سينا ،أبو علي الحسين بن عبد الله (توفي427 :ﻫ) .رسالة في معرفة النفس الناطقة وأحوالها ،وندزور، المملكة المتحدة :مؤسسة هنداوي2017 ،م. -الغزالي ،أبو حامد محمد بن محمد (توفي505 :ﻫ) .معارج القدس في مدارج معرفة النفس ،بيروت :دار الآفاق الجديدة ،ط1975 ،2م. -ابن باجة ،محمد بن باجة الأندلسي (توفي533 :ﻫ) .كتاب النفس ،دمشق :المجمع العلمي العربي بدمشق، 1960م. -ابن رشد ،أبو الوليد محمد بن أحمد (توفي595 :ﻫ) .تلخيص كتاب النفس ،تحقيق :ألفرد.ل .عبري، مراجعة :محسن مهدي ،تصدير :إبراهيم مدكور ،القاهرة :المجلس الأعلى للثقافة1994 ،م .والكتاب تلخيص وشرح لكتاب أرسطو. -ابن تيمية ،تقي الدين أحمد بن عبد الحليم (توفي728 :ﻫ) .تزكية النفس ،دراسة وتحقيق :محمد بن سعيد القحطاني ،الرياض :دار المسلم ،ط1415( ،1ﻫ1994/م). -ابن ق ِّيم الجوزية ،كتاب الروح ،مرجع سابق( ،الكتاب في مجلد واحد). 442
ومن بين هذه الجهود التربوية تخ َّصصت حلقات التصوف وزواياه في القديم والحديث بالتربية الروحية والنفسية ،أكثر من اهتمامها بأنواع التربية الأُخرى .ونشأ من هذه الجهود نمط في الفكر التربوي الإسلامي ،تو َّزع في القديم ،ولا يزال يتو َّزع على مدارس صوفية متن ِّوعة ،ما بين تصوف العزلة الذي يتجنَّب التفا ُعل مع الحياة العامة وقضايا المجتمع والأُ َّمة طمع ًا في الخلاص الفردي ،وتصو ٍف اختلط بشطحات وانحرافات فكرية يرتبط بعضها بأصول الاعتقاد ،وتصو ٍف فلسفي يقتصر على بعض التص ُّورات التي لا صلة لها بالأعمال والممارسات الدينية .ولا يخلو الأمر من تصوف ُسنِّي يلتزم بأحكام الشريعة، ويقيم التوا ُزن والتكا ُمل في قيام الإنسان بمسؤولياته الفردية والمجتمعية ،ويتخذ من ترقية الروح وتزكية النفس وسيلة للصبر على تح ُّمل أعباء الدعوة إلى الله ،والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن نماذج هذا التصوف الملتزم بأحكام الشريعة تربي ٌة روحي ٌة تتو َّجه إلى العاملين في ميدان الإصلاح الإسلامي المعاصر ،والمنتسبين إلى الحركات الإسلامية؛ فاهتمام هؤلاء بغيرهم من الناس ،وانشغالهم بالعمل العام في ميادين الفكر والسياسة ،وتفاعلهم مع قضايا المجتمع وأحوال العا َلم ،ر َّبما ُيلهيهم عن أنفسهم ،فتصاب أرواحهم بالجفاف، وقلوبهم بالقسوة ،وأخلاقهم بالضعف ،ور َّبما ُيز ِّين الشيطان لبعضهم التفريط في بعض الواجبات الشرعية .وقد ح َّذر سعيد ح ّوى أبناء الحركات الإسلامية من الوصول إلى مثل هذه الحالات ،فذكر أ َّن الدعوة الإسلامية المعاصرة لا ُب َّد أ ْن تتكامل فيها خصائص الدعوة السلفية ،والطريقة ال ُّسنية ،والحقيقة الصوفية .وقد تو َّقف عند الحقيقة الصوفية ،ونشأة علم السلوك أو التصوف؛ إذ رأى أ َّن نشأة هذا العلم كانت نشأ ًة طبيعي ًة ع َّبرت عن فهم علماء الإسلام للنصوص الأصلية في الكتاب وال ُّسنة .فقد وجد هؤلاء العلماء في القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية \"كلام ًا كثير ًا عن القلب ،والإيمان ،والذوق ،وأمراض القلوب، ودواء هذه الأمراض ،و...كلام ًا عن َص َم ِم القل ِب و َع َماه ،وعن سلامته و َس َقمه ،وعن تقواه وفسوقه ،وعن النفس البشرية ،عن زكاتها وعن فجورها ،وأمثال هذه المعاني .فشيء عادي أ ْن يس ِّجل علماء المسلمين كل ما له علاقة بهذه المعاني وهذه القضايا ضمن سجل خاص ،وأ ْن ينشأ نتيجة لذلك علم خاص في كل ما له علاقة في حيثيات هذه المعاني، 443
وكان هذا العلم هو علم التصوف والسلوك (((\".ولذلك ،رأى سعيد ح ّوى أ َّن من الطبيعي أ ْن تنشأ الحاجة إلى التربية الروحية التي يجب أ ْن يتل ّقاها أبناء الحركات الإسلامية المعاصرة، وق َّدم تجربته في هذا المجال. ولك َّن الكاتب هنا يؤ ِّكدَ ،م َّر ًة بعد ُأخرى ،أ َّنه يق ِّدم نوع ًا من التربية الروحية ،أو التصوفُ ،مق َّيد ًا بالكتاب وال ُّسنة ،و ُمح َّرر ًا على ضوء ذلك ،بهدف \"أ ْن نح ِّرر التصوف من َد َخنِه لتكون لدى المسلم مناعة ضد الوقوع في أسر جاهل أو جهل ،وكل ذلك من أجل الوصول إلى تربية روحية رفيعة وواقعية ...على أ ْن يكون ذلك كله مستقيم ًا على أصول الشريعة وفروعها ،وألا يكون على حساب واجبات ُأخرى (((\".وق َّدم المؤ ِّلف أسباب ًا متعدد ًة لهذا النوع من التصوف الذي ُيس ّميه السير إلى الله ع َّز وج َّل ،لينتهي إلى القول: \"و ِم ْن َث َّم كان السير إلى الله ع َّز وج َّل واجب ًا على درجات تختلف باختلاف الاستعدادات، فلا ُب َّد من سير ،وعلى قدر الهمم تكون درجات السائرين(((\". ومهما كان ِع ْل ُمنا عن مك ِّونات الإنسان؛ من :جسم ،وعقل ،وروح ،وقلب ،فإ َّننا نعلم أ َّن الإنسان كيان واحد؛ فأ ُّي عمل يقوم به الإنسان يم ُّر بسلسلة من الخطوات التي يشترك فيها العقل ،والقلب ،والجسم .فكل عمل يبدأ فكر ًةَ ،ت ِر ُد إلى موضع التع ُّقل من خارجه، أو يتذ َّكرها العقل م ّما هو مخزون لديه من خبرات سابقة ،فيق ِّرر أ َّن الفكرة صحيحة ،وأ َّن من المفيد الإتيان بها ،ويطمئن القلب إلى سلامة هذا التو ُّج ِه؛ فالقلب كذلك هو موضع الاطمئنان﴿ .ﰈﰉﰊ ﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓ﴾ [الرعد.]٢٨: وعندئ ٍذ يندفع جسم الإنسان إلى الفعل والسلوك .وجسم الإنسان أعضاء متعددة ،منها: العين ،والأذن ،واللسان ،ومنها :اليد ،وال َقدم ...فعندئ ٍذ تلتفت العين ،وتصغي الأذن، وينطق اللسان ،وتتح َّرك اليد ،وتسعى ال َقدم .أ ّما المسؤولية عن الفعل فمشتركة بين كل هذه المك ِّونات ،وذلك تبع ًا للفعل الذي قام به ك ٌّل منها﴿ .ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯷ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ﴾[ الإسراء .]٣٦:والإنسان حين ُي ْق ِدم على رذيلة ((( ح ّوى ،سعيد .تربيتنا الروحية ،القاهرة :دار السلام ،ط1999 ،6م ،ص.17 ((( المرجع السابق ،ص.13-12 ((( المرجع السابق ،ص .20-19 444
معينة إ َّنما تبدأ بخاطرة في ذهنه ،وشهوة في نفسه ،وهوى في قلبه ،وتنتهي بحركات في أعضاء جسمه (((،وكذلك عندما ُي ْق ِدم على فضيلة. فالنفس البشرية هي هذا الإنسان بكيانه المو َّحد بمجموع هذه المك ِّونات ،ولك َّن القرآن الكريم حين يخاطب النفس بالتكليف والمسؤولية ،فإ َّنه يم ِّيز فيها بين ظاهر وباطن؛ ف َث َّمة ظاه ٌر محسوس يبدو للناظر من عمل أعضاء الجسم البشري ،وباط ٌن يمكن للإنسان أ ْن ُيـخف َيه في نفسه﴿ .ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ﴾ [البقرة .]٢٨٤:وما يـُخفيه الإنسان ،فإ َّنه ي ُـخفيه في صدره﴿ .ﯻ ﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ﴾ [آل عمران.]٢٩: والصدر هو مستودع القلب﴿ .ﯲ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ﴾ [الحج.]٤٦: ولا نتوقع أ ْن يكون المقصود بباطن الإنسان هذه الأجزاء المادية غير الظاهرة من الجسم، مثل الرئتين والمعدة والأمعاء ،وحتى مضخة الدم التي توجد في الجانب الأيسر من الصدر، و ُتس ّمى القلب؛ فالباطن هنا هو ما ُيـخفيه القلب ،الذي في الصدر ،من أعمال يقوم بها القلب، وهي أعمال معنوية مثل َعق ِد الن َّية والعز ِم ،وفع ِل الإرادة ،وعر ِض الخاطر ،وانفعا ِل النفس بمشاعر ال ُح ِّب وال ُكر ِه ،فضل ًا عن تع ُّقل الأفكار وفهمها وتد ُّبرها ،وأشوا ِق الروح وتوا ُصلها مع خالقها ،ومع غيرها من الأرواح(((. والآيات القرآنية التي تتح َّدث عن أعمال القلب كثيرة ،منها ما يكسبه القلب ،ويحاسب عليه﴿ .ﭗﭘﭙﭚ ﭛﭜ﴾ [البقرة ،]225:وأهمها ما انعقدت عليه إرادة الإنسان، وتع َّم َد ُه قل ُبه﴿ .ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ﴾ [الأحزاب .]5:وقد يلجأ القلب إلى التوبة والخشية والإنابة﴿ .ﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔ﴾ [ق .]33:وقد ((( انظر: -البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :الاستئذان ،باب :زنى الجوارح دون الفرج ،حديث رقم: ( ،)6243ص ،1202من حديث َأبي ُه َر ْي َر َةَ ،ع ِن النَّبِ ِّي ﷺ قال( :إِ َّن ال َّل َه َك َت َب َع َلى ا ْب ِن آ َد َم َح َّظ ُه ِم َن ال ِّز َنا، َأ ْد َر َك َذلِ َك لاَ َم َحا َل َةَ ،ف ِز َنا ال َع ْي ِن النَّ َظ ُرَ ،و ِز َنا ال ِّل َسا ِن ال َمنْطِ ُقَ ،والنَّ ْف ُس َت َمنَّى َو َت ْش َت ِهيَ ،وال َف ْر ُج ُي َص ِّد ُق َذلِ َك ُك َّل ُه َو ُي َك ِّذ ُب ُه) وانظر: -مسلم ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،كتاب :القدر ،باب :كل شيء بقدر ،حديث رقم ،)2657( :ص.1065 ((( إشارة إلى الحديث الصحيح الذي روته ُأ ُّم المؤمنين عائشة ،قالت :سمع ُت النب َّي ﷺ يقول\" :ا َلأ ْروا ُح ُجنو ٌد ُم َجنَّ َد ٌة ،ما َت َعا َر َف منها ا ْئ َت َل َف ،وما َتنَا َك َر منها ا ْخ َت َل َف \".انظر: -البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :أحاديث الأنبياء ،باب :الأرواح جنود مجندة ،حديث رقم: ( ،)3336ص.636 445
تلين القلوب﴿ .ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭱﭲﭳﭴﭵ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ﴾ [الزمر .]23:ويجعل الله في قلوب بعض الناس رأفة ورحمة. ﴿ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ﴾ [الحديد .]27:وقد يكون الإنسان غليظ القلب. ﴿ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ﴾ [آل عمران .]159:و ِمن الناس َمن تكون قلوبهم قاسية. ﴿ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ﴾ [الزمر .]٢٢:والذين لا يؤمنون بالآخرة تشمئز قلوبهم من ذكر الله﴿ .ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ﴾ [الزمر .]45:والقلب مح ُّل الأُلفة وال ُح ِّب﴿ .ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ ﭮﭯﭰﭱ﴾ [الأنفال.]٦٣: والآيات كثيرة عن أصنا ٍف من الناس يتصفون بمرض القلوب .قال تعالى﴿ :ﯰ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ﴾ [محمد ،]٢٩:وقال سبحانه﴿ :ﭬﭭ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ﴾ [المائدة .]52:ومرضى القلوب هؤلاء هم المنافقون الذي أظهروا الإيمان ،وأبطنوا الكفر .قال ع َّز وج َّل﴿ :ﭬﭭﭮﭯﭰ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶ﴾ [البقرة ،]8:وقال تعالى﴿ :ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯚﯛﯜ﴾ [المنافقون.]3: إ َّن \"التربية الروحية\" مصطلح مألوف في الأدبيات التربوية الحديثة والمعاصرة ،لا سيما تلك التي تخاطب ال َم ْعنِ ّيين في المؤسسات التعليمية ذات المرجعية الدينية؛ من: راسمي السياسات العامة في هذه المؤسسات ،وال ُمع ِّلمين ،والطلبة .وإ َّن مراجعة سريعة لقواعد البيانات البحثية تكشف عن الكثير من الكتب المنهجية والمرجعية ،وبحوث الدوريات العلمية ،والأطروحات الجامعية ،التي تتناول التربية الروحية من مرجعيات دينية مختلفة؛ إسلامية ،ومسيحية ،وبوذية؛ وفلسفة طبيعية ،وعلمانية ،وغير ذلك .وتقع بعض هذه الدراسات ضمن مجال علم النفس ،وعلاقة الدراسات النفسية بالمعتقدات الدينية والفكرية(((. ((( من المفيد الا ِّطلاع على بعض الدراسات الحديثة التي تناولت العلاقة بين الصحة النفسية والروحانية ،والدين والتد ُّين ،الواردة في كتاب \"الدين والصحة النفسية\" .انظر في ذلك: -إسماعيل ،آزاد علي .الدين والصحة النفسية ،هرندن :المعهد العالمي للفكر الإسلامي2014 ،م. 446
وتنطلق معظم هذه الدراسات من الوعي بطبيعة التغ ُّيرات العميقة التي حصلت في قطاع التعليم العام والتعليم الجامعي في العقود الأخيرة ،وهي تغ ُّيرات ح َّولت المجتمع البشري إلى مجتمع تكنولوجي رقمي ،وجعلت مهمة التعليم تتو َّجه نحو توفير متط َّلبات سوق العمل المتغ ِّيرة بسرعة هائلة .وقد نتج عن ذلك أ ْن َف َق َد الإنسان إمكانية النمو في بعض جوانب شخصيته العاطفية والاجتماعية والروحية .فجاء ر ُّد الفعل في تطوير مبادرات مهمة في مجال التربية الروحية في التعليم المدرسي والتعليم الجامعي ،وفي المؤسسات المتخ ِّصصة في التربية الدينية ،عن طريق تأكيد ما ُيس ّمى التعليم الشمولي Wholistic Educationالذي يعني تقديم التربية اللازمة لكل مك ِّون من مك ِّونات الإنسان (الجسم ،والعقل ،والروح) ،أو عن طريق التعليم الكلي Holistic educationالذي يهتم بالنظر في الترابط بين جوانب شخصية الإنسان؛ فلا ُيف َهم الإنسان إلا ب ُك ِّل َّيته ،وهو في حقيقته أكبر من مجموع مك ِّوناته. ويظهر مصطلح \"التربية الروحية\" ،في بعض المجتمعات الإسلامية ،في التشريعات التربوية بوصفها هدف ًا من أهداف التعليم؛ إذ ُتع ِّرف المادة الرابعة من قانون التربية والتعليم الأردني المعمول به حالي ًا أهدا َف التربية والتعليم ،بالإشارة إلى \"تشكيل المواطن الذي يحظى بالفضائل وال ُمثل الإنسانية ،والذي يتط َّور في الجوانب المختلفة من شخصيته: الجسدية ،والعقلية ،والروحية ،والعاطفية ،والاجتماعية (((\".ومن أهداف التربية في سلطنة ُعمان \"مساعدة ال ُمتع ِّلمين على النمو المتكامل :روحي ًا ،ونفسي ًا ،وفكري ًا ،وخلقي ًا، وجسماني ًا ،واجتماعي ًا (((\".وفي الجزائر أصدر المجلس الأعلى للتربية وثيقة المبادئ لسياسة التربية ،وقد جاء فيها\" :تسعى المنظومة التربوية الجزائرية لتحقيق الغايات التالية :أولاً :بناء مجتمع متكافل متماسك معتز بأصالته وواثق بمستقبله ،يقوم على: الهوية الوطنية المتم ِّثلة في الإسلام عقيد ًة ،وسلوك ًا ،وحضار ًة ،والذي يجب إبراز محتواه الروحي والأخلاقي وإسهامه الحضاري والإنساني ،وتعزيز دوره كعامل مو ِّحد للمجتمع ((( الموقع الإلكتروني الرسمي لوزارة التربية والتعليم الأردنية .انظر: - http: //www.moe.gov.jo/ar/node/15782 ((( وزارة التربية والتعليم في سلطنة ُعمان .فلسفة التعليم في سلطنة ُعمان ،مسقط :مجلس التعليم في سلطنة ُعمان، ط2017 ،1م ،ص ،20تحت عنوان\" :النمو المتكامل لل ُمتع ِّلم\". 447
الجزائري (((\".وفي المملكة العربية السعودية نجد نص ًا صريح ًا عن التربية الروحيةِ ،صيغ في صورة هدف تربوي ،هو\" :مسايرة خصائص مراحل النمو النفسي للناشئين في كل مرحلة ،ومساعدة الفرد على النمو السو ِّي :روحي ًا ،وعقلي ًا ،وعاطفي ًا ،واجتماعي ًا ،والتأكيد على الناحية الروحية الإسلامية ،بحيث تكون هي ال ُمو ِّجه الأول للسلوك الخاص والعام، للفرد والمجتمع(((\". ويبدو أ َّن التربية الروحية أخذت تستعيد أهميتها في معظم مجتمعات العا َلم؛ فقد نشر موقع arabic.rt.comالإلكتروني تقرير ًا عن مسائل التربية الروحية والأخلاقية في المجتمع الروسي المعاصر كما جرى تدا ُولها في دائرة مستديرةُ ،ع ِقدت في المجلس الاجتماعي الروسي ،بعنوان \"قضايا التط ُّور الروحي والأخلاقي والثقافي لروسيا\". وقد أشار التقرير إلى خطاب الرئيس الروسي بوتين الذي أ َّكد فيه \"أهمية دور العائلة والمؤسسات التعليمية والمنظمات الاجتماعية في تربية الجيل الناشئ روحي ًا ووطني ًا، وإنشاء جو المسامحة والتعايش في المجتمعات الإثنية المختلفة(((\". والأدبيات الخاصة بالتربية الروحية في اللغة العربية كثيرة جد ًا ،وهي تتو َّزع على الكتب المنهجية والمرجعية ،وبحوث الدوريات ،والأطروحات الجامعية .وبالمثل ،فإ َّن الكتابات الخاصة بالتربية الروحية في اللغات الأُخرى كثيرة .ونذكر فيما يأتي عدد ًا من هذه الكتابات باللغة الإنجليزية. ففيما يخ ُّص التربية الروحية الإسلامية ،صدر عام 2018م كتاب لباحثة أمريكية مسلمة بعنوان \"تعليم الأطفال :مدخل أخلاقي وروحي وكلي للنمو التربوي\" ،تح َّدثت فيه عن تجربتها في المدارس الإسلامية بالولايات المتحدة الأمريكية(((. ((( المجلس الأعلى للتربیة .المبادئ العامة للسیاسة التربویة وإصلاح التعلیم الأساسي ،الجزائر1998 ،م ،ص.34-33 ((( اللجنة العليا لسياسة التعليم /الأمانة العامة .وثيقة سياسة التعليم في المملكة ،الرياض :وزارة التربية والتعليم في المملكة العربية السعودية1416 ،ﻫ ،البند رقم ( ،)53ص.7 (3) https: //arabic.rt.com/news/629921 ُن ِشر التقرير بتاريخ 8أكتوبر 2013م. (4) El-Moslimany, Ann. Teaching Children: A Moral, Spiritual, and Holistic Approach to Educational Development, Herndon, VA: International Institute of Islamic Thought (January 1, 2018). 448
أ ّما في مجال التربية الروحية المسيحية فصدر كتاب عام 2018م عن التح ِّديات المعاصرة التي تواجه التربية الدينية والروحية في الخبرة المسيحية الأوروبية .وتؤ ِّكد بحوث الكتاب أ َّن التط ُّورات المجتمعية على المستويين المحلي والعالمي ُتو ِّجه السياسيين وصنّاع القرار إلى النظر في موضوع الدين والتربية الروحية على أ َّنه موضوع مهم في الحياة العامة ،لا سيما أ َّن دراسات الدماغ والتع ُّلم الإنساني تفتح مجالاً جديد ًا أمام الدين ليؤدي دور ًا أقوى في المناهج الدراسية الحديثة (((.أ ّما الكتب والدراسات الخاصة بالتربية الروحية في المدارس والجامعات المتخ ِّصصة في الدراسات الدينية Seminariesفهي كثيرة جد ًا. وأ ّما في مجال التربية الروحية البوذية فنجد معهد ًا للبحوث التربوية بالجامعة الصينية في هونغ كونغ ،أنشأ برنامج ًا بحثي ًا رائد ًا في التربية الروحية ،م َّدته ثلاث سنوات (-2017 2020م) ،وحمل عنوان \" َتع َّل ْم لتكون ُم ْل ِهم ًا ،ولتكون ُم ْل َهم ًا\" Learning to inspire and .be inspiredويهدف البرنامج إلى تطوير القيم البوذية من خلال التعليم المدرسي في عدد كبير من المدارس المشاركة في البرنامج (((.وقد صدر كتاب يتح َّدث بقدر من التفصيل عن تقنيات وتمارين تطوير التربية الروحية عند أطفال العائلات البوذية في المدارس الاسترالية. وبالرغم من ِع ْلم مؤ ِّلفة الكتاب بأ َّن البوذية هي دين ،فقد فصلت فيه التدريبات المقترحة للتربية الروحية عن الدين (((.ولم تعد الديانة البوذية تنحصر في بلدان آسيا ،بل بدأ معتنقوها ينتشرون في قارات ُأخرى؛ فبالإضافة إلى الجامعات البوذية في الهند ،وسيريلانكا، والصين ،واليابان ،وماليزيا ،فإ َّن في الولايات المتحدة الأمريكية أربع جامعات حتى عام 2015م ،وهي جامعات تق ِّدم شهادات علمية في التخ ُّصصات المختلفة ،وتز ِّود طلبتها بتعليم روحي وتربية روحية يقومان على الفلسفة والممارسة البوذية(((. (1) Kuusisto, Arniika. & Lovat, Terry (Editors). Contemporary Challenges for Religious and Spiritual Education, London and New York: Routledge, 2018. (2) Miller, Joyce. Education and Learning: A Buddhist Perspective, Journal of the National Association of Teachers of Religious Education, 29: 3, Summer 2007. See also: - http: //dhchenfoundation.com/initiatives/inspired-research-project-on-spiritual-education- hkier-cuhk/ (3) Smith, Sue Erica. Buddhist Voices in School, How a Community Created a Buddhist Education Program for State Schools, Rotterdam: SensePublishers, 2013. (4) Storch, Tanya. Buddhist-Based Universities in the United States: Searching for a New Model in Higher Education, Lanham MD: Lexington Books, 2015. 449
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210
- 211
- 212
- 213
- 214
- 215
- 216
- 217
- 218
- 219
- 220
- 221
- 222
- 223
- 224
- 225
- 226
- 227
- 228
- 229
- 230
- 231
- 232
- 233
- 234
- 235
- 236
- 237
- 238
- 239
- 240
- 241
- 242
- 243
- 244
- 245
- 246
- 247
- 248
- 249
- 250
- 251
- 252
- 253
- 254
- 255
- 256
- 257
- 258
- 259
- 260
- 261
- 262
- 263
- 264
- 265
- 266
- 267
- 268
- 269
- 270
- 271
- 272
- 273
- 274
- 275
- 276
- 277
- 278
- 279
- 280
- 281
- 282
- 283
- 284
- 285
- 286
- 287
- 288
- 289
- 290
- 291
- 292
- 293
- 294
- 295
- 296
- 297
- 298
- 299
- 300
- 301
- 302
- 303
- 304
- 305
- 306
- 307
- 308
- 309
- 310
- 311
- 312
- 313
- 314
- 315
- 316
- 317
- 318
- 319
- 320
- 321
- 322
- 323
- 324
- 325
- 326
- 327
- 328
- 329
- 330
- 331
- 332
- 333
- 334
- 335
- 336
- 337
- 338
- 339
- 340
- 341
- 342
- 343
- 344
- 345
- 346
- 347
- 348
- 349
- 350
- 351
- 352
- 353
- 354
- 355
- 356
- 357
- 358
- 359
- 360
- 361
- 362
- 363
- 364
- 365
- 366
- 367
- 368
- 369
- 370
- 371
- 372
- 373
- 374
- 375
- 376
- 377
- 378
- 379
- 380
- 381
- 382
- 383
- 384
- 385
- 386
- 387
- 388
- 389
- 390
- 391
- 392
- 393
- 394
- 395
- 396
- 397
- 398
- 399
- 400
- 401
- 402
- 403
- 404
- 405
- 406
- 407
- 408
- 409
- 410
- 411
- 412
- 413
- 414
- 415
- 416
- 417
- 418
- 419
- 420
- 421
- 422
- 423
- 424
- 425
- 426
- 427
- 428
- 429
- 430
- 431
- 432
- 433
- 434
- 435
- 436
- 437
- 438
- 439
- 440
- 441
- 442
- 443
- 444
- 445
- 446
- 447
- 448
- 449
- 450
- 451
- 452
- 453
- 454
- 455
- 456
- 457
- 458
- 459
- 460
- 461
- 462
- 463
- 464
- 465
- 466
- 467
- 468
- 469
- 470
- 471
- 472
- 473
- 474
- 475
- 476
- 477
- 478
- 479
- 480
- 481
- 482
- 483
- 484
- 485
- 486
- 487
- 488
- 489
- 490
- 491
- 492
- 493
- 494
- 495
- 496
- 497
- 498
- 499
- 500
- 501
- 502
- 503
- 504
- 505
- 506
- 507
- 508
- 509
- 510
- 511
- 512
- 513
- 514
- 515
- 516
- 517
- 518
- 519
- 520
- 521
- 522
- 523
- 524
- 525
- 526
- 527
- 528
- 529
- 530
- 531
- 532
- 533
- 534
- 535
- 536
- 537
- 538
- 539
- 540
- 541
- 542
- 543
- 544
- 545
- 546
- 547
- 548
- 549
- 550
- 551
- 552
- 553
- 554
- 555
- 556
- 557
- 558
- 559
- 560
- 561
- 562
- 563
- 564
- 565
- 566
- 567
- 568
- 569
- 570
- 571
- 572
- 573
- 574
- 575
- 576
- 577
- 578
- 579
- 580
- 581
- 582
- 583
- 584
- 585
- 586
- 587
- 588
- 589
- 590
- 591
- 592
- 593
- 594
- 595
- 596
- 597
- 598
- 599
- 600
- 601
- 602
- 603
- 604
- 605
- 606
- 607
- 608
- 609
- 610
- 611
- 612
- 613
- 614
- 615
- 616
- 617
- 618
- 619
- 620
- 621
- 622
- 623
- 624
- 625
- 626
- 627
- 628
- 629
- 630
- 631
- 632
- 633
- 634
- 635
- 636
- 637
- 638
- 639
- 640
- 641
- 642
- 643
- 644
- 645
- 646
- 647
- 648
- 649
- 650
- 651
- 652
- 653
- 654
- 655
- 656
- 657
- 658
- 659
- 660
- 661
- 662
- 663
- 664
- 665
- 666
- 1 - 50
- 51 - 100
- 101 - 150
- 151 - 200
- 201 - 250
- 251 - 300
- 301 - 350
- 351 - 400
- 401 - 450
- 451 - 500
- 501 - 550
- 551 - 600
- 601 - 650
- 651 - 666
Pages: