الفصل السابع واقع الفكر التربوي الإسلامي و ُسبل إصلاحه مقدمة المبحث الأول :وصف إجمالي لواقع الفكر التربوي الإسلامي وسياقه التاريخي والمعاصر أولاً :مناهج التعليم الجامعي ثاني ًا :البحوث والمؤسسات البحثية ثالث ًا :تو ُّجهات سياسية واقتصادية رابع ًا :السياق التاريخي لواقع الفكر التربوي الإسلامي خامس ًا :أزمة التعليم أزمة عالمية المبحث الثاني :المرجعية في الفكر التربوي المعاصر أولاً :مفهوم \"المرجعية\" ،وأنواعها ،ومستوياتها ثاني ًا :ملامح عامة في مرجعية الفكر التربوي الغربي ثالث ًا :تع ُّدد الفلسفات في مرجعية الفكر الغربي المبحث الثالث :الوعي بقضية الإصلاح التربوي ومسؤوليات الأوساط التربوية أولاً :حضور الرؤية الإسلامية في الإصلاح التربوي ثاني ًا :صورة الواقع والتغ ُّير المنشود ثالث ًا :بناء الوعي بواقع الفكر التربوي المعاصر ومنطلقات إصلاحه رابع ًا :أوساط التربية وأهميتها في جهود الإصلاح التربوي خاتمة
الفصل السابع واقع الفكر التربوي الإسلامي و ُسبل إصلاحه مقدمة: أشارت مادة الفصول السابقة إلى بعض العناصر التي تش ِّكل ملامح من واقع الفكر التربوي السائد في معظم البلدان الإسلامية .وكذلك أشارت إلى بعض الآمال التي تراود ال ُمص ِلحين الذين ينشدون تغيير هذا الواقع ،وإصلاح ما فيه من خلل .وسنحاول في هذا الفصل التو ُّقف قليل ًا عند حالة الفكر التربوي الإسلامي كما تبدو لنا من ملاحظاتنا ،ومن نتائج الدراسات والإحصائيات الدولية والإقليمية والمحلية ،ث َّم اقتراح ما نراه ضروري ًا للانتقال بهذه الحالة إلى ما نطمح إليه. والحديث عن واقع الفكر التربوي في المجتمعات الإسلامية حديث متش ِّعب، يتناول فهم الملامح العامة المتم ِّثلة في النُّ ُظم التربوية العامة ،وما تقوم عليه من فلسفات، وسياسات ،ونظريات ،واستراتيجيات .ويتناول كذلك تفاصيل النظام التربوي ،ومك ِّوناته، ومستوياته الإدارية والتعليمية ،وما فيها من مرافق ،ووسائط ،وبرامج ،ومناهج ،وأساليب للتعليم والتقويم ،وغير ذلك .ونظر ًا لأ َّننا نتوقع أ ْن يكون القارئ الكريم على صلة مباشرة بهذه التفاصيل؛ فنحن جميع ًا من مخرجات أوساط التربية المعاصرة ،سواء ما يخت ُّص بالأسرة ،أو المدرسة ،أو الجامعة ،أو مؤسسات المجتمع الأُخرى ،فإ َّننا لن نتناول هذه التفاصيل التي تملأ معلوماتها صفحات المجلات العلمية والأطروحات الجامعية ،وحتى الصحف اليومية .وسنلجأ بدلاً من ذلك إلى النظر في عدد من القضايا التي ر َّبما لا تأخذ ح َّظها المناسب في البحوث والتحقيقات المعاصرة. ور َّبما لا نجد اختلاف ًا كبير ًا في تأكيد أ َّن الأمر الطبيعي هو أ ْن يكون لكل مجتمع نظامه التعليمي الذي يح ِّدد مواصفات الإنسان الذي ينشد تشكيل شخصيته ،والإسهام في تنميته وبناء مستقبله .ور َّبما لا نجد اختلاف ًا كبير ًا في حاجة المجتمعات إلى التفا ُعل والتثا ُقف، ور ُّبما التعا ُون في تطوير بعض الخبرات التي يستفيد منها الجميع .والمشكلة أ َّن الفكر 503
التربوي السائد في الأنظمة التعليمية الرسمية ،في معظم البلاد الإسلامية ،هو فك ٌر تربوي مستورد بكامله ،أو متأ ِّث ٌر كثير ًا بالنُّ ُظم التربوية الغربية؛ الأوروبية والأمريكية تحديد ًا. وتصبح المشكلة أكثر ِح َّد ًة عندما يفتقد المجتمع عناصر الفكر التربوي الخاص به، ويتخذ من الفكر التربوي الخاص بمجتمع آخر ماد ًة لتربية أبنائه .فحين تتبنّى المجتمعات الإسلامية الفكر التربوي الغربي ،فإ َّن من الطبيعي أ ْن ينشأ أبناؤها على قيم الفكر الغربي وأعرافه وتقاليده ،وإذا بقي لدى أبنائها بق َّية من قيم الإسلام وأعرافه -نتيجة عوامل تنشئة ُأخرى -فإ َّنها تكون في حالة صراع وتنافس مع القيم الغربية ،بحيث تتم َّزق معها شخصية الإنسان المسلم ،وتضعف لديه مق ِّومات الهوية الإسلامية ،أو تتلاشى ملامحها. وتتع َّمق المشكلة عندما تجد صنّاع القرار السياسي في المجتمعات الإسلامية، وقيادات الفكر التربوي فيه ،يتجاهلون صفة التح ُّيز في الفكر التربوي الغربي أو ين ِكرونها، ب ُحجج واهية ،من مثل القول بأ َّن العلم لا دين له ولا وطن ،أو بأهمية التط ُّور واللحاق بالمتق ِّدمين ،أو بضرورة التحديث والتنوير والخروج من حالة التخ ُّلف ،أو بغير ذلك من ال ُمب ِّررات ،التي كانت ُح َّجة الأنظمة في العا َلم الإسلامي في ممارساتها طوال قرن من الزمن ،ولم تكن نتيجتها إلا مزيد ًا من التخ ُّلف والتبعية وضياع الهوية ،والعجز عن الحضور الفاعل في ساحة العا َلم. ومع هذا التعميم عن حالة الفكر التربوي السائد في العا َلم الإسلامي اليوم ،فلا ُب َّد من الاستدراك على هذا التعميم بالقول إ َّن َث َّمة مصدر ًا آخ َر لقطاع من الفكر التربوي في بعض البلدان الإسلامية يستمد مفاهيمه ومبادئه ونظرياته وممارساته التربوية من التراث التربوي الإسلامي .ونحن نرى أ َّن َث َّمة مشكل ًة حقيقية في المصدرين؛ فبالرغم من أ َّن التراث التربوي الإسلامي هو تجربة إسلامية ،فإ َّنه َيلزم فهم هذه التجربة في سياق الزمان والمكان من جهة، وتقويمها على أساس المرجعية الإسلامية التي يح ِّددها فهمنا المعاصر للمقاصد التربوية للتوجيه الإلهي والهدي النبوي من جهة ُأخرى .وفي ضوء هذا التقويم سنجد أ َّن في التراث كثير ًا من الأفكار \"الح َّية\" التي تحتفظ بصلتها بالواقع ،فلا تفقد معاصر َتها ،وتبقى الحاجة إليها قائمة في مجتمعاتنا والمجتمعات البشرية بصفة عامة .وسنجد في ذلك التراث كذلك أفكار ًا يسهل تمييز أ َّنها ر َّبما كانت خط ًأ في تدوين التاريخ ،أو سوء فهم ،أو سوء تطبيق 504
لمقاصد الإسلام التربوية .ومن الأمانة في التقويم ،وواجب التد ُّبر في الخبرة التاريخية، والجرأة في النقد أ ْن يتم الكشف عن ذلك؛ فر َّبما لا تكون هذه الأفكار مح َض أفكار \"م ِّيتة\"، وإ َّنما قد تكون أفكار ًا \" ُم ِميتة\" إ ْن تواصل أثرها في واقع الأُ َّمة. وفيما يخ ُّص مشكلة المصدر الغربي للفكر التربوي السائد في العا َلم الإسلامي ،فإ َّن الخبرة البشرية التي نجدها فيه تحتاج إلى أ ْن ُتف َهم في ضوء المرجعية الفكرية الغربية أولاً، وفي ضوء حاجة مجتمعاتنا وطبيعة مشكلاتها ثاني ًا .ومع أ َّننا سنجد أ َّن بعض هذه الخبرات مفيد ،وأ َّنه يصلح للنظر فيه ،وتقييمه ،وتكييفه ،وتوظيفه ،فإ َّن لبعض هذه الخبرات إحالا ٍت فلسفي ًة وثقافية واجتماعية تتس َّبب في التغريب وضياع الهوية في حال توظيفها في مجتمعاتنا. فالمشكلة -في نهاية المطاف -ليست كامنة في المصدر الغربي نفسه ،وإ َّنما في طريقة تعاملنا معه؛ ذلك أ َّن المشكلة الحقيقية لا تخت ُّص بالثقافة الغربية وطبيعتها ومرجعياتها ،بل تخت ُّص بكيفية تعاملنا معها. ولا يزال الواقع التربوي في مجتمعاتنا يعاني هذه الازدواجية التي بدأت تظهر في المجتمع الإسلامي منذ القرن التاسع عشر .وبالرغم من الدعوات ال ُم ِل َّحة التي كانت -ولا تزال -تتك َّرر منذ مطلع القرن العشرين إلى التكا ُمل المعرفي بين تجديد فهمنا للمقاصد التربوية في الإسلام ،والاستفادة من التجربة البشرية المعاصرة ،و ِم ْن َث َّم العمل على توحيد نظامي التعليم الإسلامي التقليدي والغربي الحديث والمعاصر في نظام واحد ،يستفيد م ّما في النظامين من حسنات ،ويستبعد ما فيهما من نقائص؛ بالرغم من ذلك ،فإ َّن هذه الازدواجية لا تزال قائمة بصور ش ّتى ،مع انزياح متزايد نحو اعتماد التجربة الغربية أساس ًا لكل تخطيط وممارسة تربوية في مجتمعاتنا ،وانحسار متزايد لما ُيس ّمى التعليم الديني في دروس محدودة في التعليم العام ،وفي كليات أو أقسام جامعية لتعليم \"الشريعة\". وتتك َّون مادة هذا الفصل من ثلاثة موضوعات ،ق َّدمنا في أولها وصف ًا إجمالي ًا لواقع الفكر التربوي الإسلامي في سياقه التاريخي والمعاصر ،اعتماد ًا على ما تكشف عنه مناهج التعليم الجامعي ،ونتائج البحوث والمؤسسات البحثية ،والمؤ ِّثرات السياسية والاقتصادية ،مع الإشارة إلى أ َّننا ننظر إلى واقع الفكر التربوي الإسلامي في ظ ِّل ما قد ُي َع ُّد أزم ًة عالمي ًة في التعليم. 505
وجاء الثاني ُمط َّولاً نسبي ًا عن مشكلة المرجعية في الفكر التربوي المعاصر .فأ ُّي فكر تربوي لا ُب َّد أ ْن تكون له مرجعية معينة ،ينطلق منها ،ويحتكم إليها؛ إذ نجد من الضروري أ ْن َي ِع َي التربويون في مجتمعاتنا الإسلامية تمام الوعي بالمرجعية الغربية للفكر التربوي السائد في البلدان الغربية؛ ذلك أ َّن معظم مجتمعاتنا تستمد فكرها التربوي من التجربة الغربية المعاصرة ،بمرجعيته وممارساته .والمعروف أ َّن الفكر التربوي الغربي يبدأ بالإشارة إلى عمقه التاريخي من أقدم العصور ،بالإحالة إلى إنجازات فلاسفة اليونان والإغريق .ور َّبما نجد إشارات عابرة إلى بعض الحضارات القديمة في مصر والهند والعراق .ث َّم يشير إلى المرجعية الدينية المسيحية ،ث َّم يتجاوز عص َر الظلمات الأوروبي، متجاهل ًا تاريخ العا َلم وحضاراته الأُخرى خارج أوروبا في أثناء هذا العصر ،الذي يقابله العصر الذهبي للحضارة الإسلامية ،ليقفز إلى عصر الأنوار الأوروبي ،وعصر الاكتشافات العلمية والجغرافية ،ويشير إلى إسهامات حشد كبير من المف ِّكرين والتربويين في الغرب الأوروبي والأمريكي ،مع تغييب كامل لإسهامات غيرهم من مف ِّكري الشعوب الأُخرى، لا سيما مف ِّكري الحضارة الإسلامية. أ ّما الثالث فقد خ َّصصناه للحديث عن طبيعة الوعي بقضية الإصلاح التربوي ومسؤوليات الأوساط التربوية في هذا الإصلاح .وتض َّمن إشارة إلى درجة حضور الرؤية الإسلامية في الإصلاح التربوي ،ومتط َّلبات التغ ُّير المنشود في ضوء صورة الواقع، والوعي بمنطلقات الإصلاح. وانتهى الفصل بخاتمة أشارت -بإيجاز -إلى متط َّلبات الإصلاح من الجهد والوقت، ومسؤولية الباحثين والقادة التربويين في النظر إلى قضية الإصلاح التربوي بما َيلزمها من روح الرسالة وحمل الأمانة. 506
المبحث الأول وصف إجمالي لواقع الفكر التربوي الإسلامي وسياقه التاريخي والمعاصر أولاً :مناهج التعليم الجامعي: لع َّل أول مصادر المعرفة بحالة الفكر التربوي السائد في البلدان الإسلامية هو النظر في مناهج التعليم الجامعي؛ إذ تكشف هذه المناهج عن حالة التعليم بصورة واضحة؛ ذلك أ َّن البرامج والمناهج الجامعية تصوغ معرفة طلبة الجامعة ،وتؤ ِّطر تفكيرهم في مصادر هذه المعرفة .وتنتقل هذه المعرفة ومرجعياتها الفكرية إلى فكر الـ ُمع ِّلمين في التعليم العام من خلال ممارساتهم التعليمية .ولنأخذ مثالاً على ذلك من موقع الشخصيات المؤ ِّثرة في الفكر التربوي والتعليمي في الماضي والحاضر؛ إذ نجد أ َّنه يتع َّين على دارسي التربية في جامعات العا َلم العربي والإسلامي ،في مستويات التعليم المختلفة؛ من :البكالوريوس، والدبلوم ،والماجستير ،والدكتوراه ،أ ْن يعرفوا إسهامات عدد كبير من الشخصيات الغربية، وما ق َّدموا من نظريات في التخ ُّصصات التربوية المختلفة؛ سواء في فلسفة التربية ،أو أصول التربية ،أو تاريخ التربية ،أو أسس التربية ،أو علم النفس التربوي ،أو في العلوم التربوية، مثل :المناهج ،والقياس والتقويم التربوي ،ونماذج التع ُّلم ،وأساليب التعليم ،وغير ذلك. بل إ َّننا نجد هذه الأسماء تتك َّرر في مواد التربية المختلفة ،حيث تتقاطع الإشارة إلى إنجازاتها في محتوى هذه المواد ،وتتع َّدد الإشارات إليها أحيان ًا إلى درجة الملل .وفي المقابل ،تغيب الشخصيات الإسلامية التربوية من محتوى هذه المواد غياب ًا كامل ًا ،حتى لا نجد الدارسين يعرفون شيئ ًا عن المحاسبي ،وابن عبد البر ،وابن سحنون ،والقابسي، والزرنوجي ،وابن جماعة ،والغزالي ،وابن خلدون ،والشوكاني ،وأمثالهم ،باستثناء َمن ُأتيحت له دراسة مادة في \"تاريخ التربية الإسلامية\" ،أو أولئك الذين ُأتيح لهم اختيار واحد من هؤلاء الأعلام موضوع ًا لأطروحة جامعية .أليس ذلك من تج ِّليات المرجعية الغربية في تحديد المحطات التاريخية في الفكر التربوي في العا َلم؟! 507
صحي ٌح أ َّن حقبة زمنية َم َّرت بالعا َلم الإسلامي في الربع الأخير من القرن العشرين، وظهرت فيها مادة في \"التربية في الإسلام\" ،أو \"التربية الإسلامية\" ،و ُأن ِجزت فيها أطروحات جامعية عن إسهامات شخصيات من التراث التربوي الإسلامي ،ولك َّن هذه الظاهرة بقيت معزولة في إطارها المح َّدد ،من دون أ ْن تتفاعل مع برامج الإعداد التربوي في المواد الجامعية الأُخرى ،ولم تنعكس آثارها على التخ ُّصصات التربوية المتعددة التي بقيت صور ًة طبق الأصل في أسمائها وبرامجها ومتط َّلباتها ع ّما يتم في الجامعات الغربية. ولع َّل من المفيد أ ْن يعرف القارئ أ َّن مادة في \"التربية الإسلامية\" ،وأطروحات عن شخصيات تربوية إسلامية ،قد أصبحت موضوعات للدراسة في كثير من الجامعات الغربية (((.ومن المفيد كذلك أ ْن يعرف القارئ أ َّن الطبعات الحديثة لبعض الكتب المنهجية في \"أسس التربية\" - Foundations of Educationمثل ًا -قد أضافت فقرات، وأحيان ًا فصل ًا كامل ًا عن \"التربية الإسلامية\" ،ولم تكن هذه الإضافات موجودة في الطبعات السابقة من الكتب نفسها (((.ور َّبما يعكس ذلك التط ُّور شيئ ًا من آثار الحضور الإسلامي المحلي المحدود في المجتمعات الغربية ،أكثر م ّما يعكس اهتمام ًا بملايين المسلمين في العا َلم ،أو بالاعتراف بعراقة الحضارة الإسلامية وعمق إسهاماتها في تاريخ الإنسان .ور َّبما يكون الحضور الفكري والثقافي الإسلامي في الغرب -على محدوديته- أكثر وزن ًا من مجموع الأُ َّمة الإسلامية ،التي يقتصر حضورها في الاستراتيجية الغربية على كونها مصدر ًا للمواد الخام ،وسوق ًا لل ُمن َتجات الغربية. ((( عند مراجعة ملخصات الأطروحات الجامعية International Abstract Dissertationفي الشبكة الإلكترونية (الإنترنت) ،سيجد القارئ تحت عنوان Islamic Educationعدد ًا من الأطروحات .وإذا أدخل التهجئة المناسبة لأسماء الشخصيات الإسلامية ،فسيجد أطروحات عن الإسهام التربوي لابن تيمية ،وابن خلدون، وغيرهما .ث َّم إ َّن بعض مراكز البحث في الجامعات الأوروبية والأمريكية تنشر كتب ًا متخصصة في التراث التربوي الإسلامي .انظر مثل ًا: - Bradley, Cook. & Malkawi, Fathi (Editors). Classical Foundations of Islamic Educational Thought: A Compendium of Parallel English-Arabic Texts, Islamic Translation Series, Provo, UT.: Brigham Young University, (February 15, 2011). ((( انظر مث ًلا: - McNergney, Robert & Herbert, Joanne. Foundations of Education: The Challenge of- Professional Practice. Third Edition. Boston: Allyn & Bacon, 2001, p. 152. 508
ثاني ًا :البحوث والمؤسسات البحثية: يمكن التمييز بين ثلاثة أنواع من البحوث التي نجدها في المجلات المتخ ِّصصة في البحث ،والأطروحات الجامعية ،ومراكز البحث في المؤسسات المحلية والإقليمية والدولية .وما َي ُه ُّمنا في هذا السياق هو صلة هذه البحوث بالمرجعية الفكرية الإسلامية. أ ّما النوع الأول من البحوث ذات الصلة بالفكر التربوي الإسلامي فينحصر غالب ًا في التراث التربوي الإسلامي ،مع صلة ضعيفة (أو مفقودة) بالواقع التربوي المعاصر .وأ ّما النوع الثاني من البحوث فيتمحور حول قضايا جزئية ذات طبيعة فنية يشتغل فيها الباحث ضمن النموذج القياسي السائد ،Paradigmحتى يتي َّسر نشره أو قبوله ،وق َّلما يكون هاجس الرؤية الفكرية الإسلامية حاضر ًا عند الباحث .وأ ّما النوع الثالث فهو ما تقوم به مؤسسات سياسية أو فكرية أو بحثية من دراسات وبحوث وتقارير موسمية أو دورية عن حالة التعليم في بلدان العا َلم ،ولا يعنيها كثير ًا البحث في مصادر الاستمداد والتل ّقي التربوي؛ لأ َّن المحسوم لديها لصالح اعتبار حال التربية في العا َلم المعاصر هو المصدر ،لا غير. ومن أمثلة النوع الثالث من البحوث والتقارير البحثية ما تقوم به مؤسسات دولية، مثل :البنك الدولي ،واليونسكو؛ ومؤسسات إقليمية ،مثل مؤسسة الفكر العربي ،إضاف ًة إلى الوزارات المتخ ِّصصة في كل دولة ،ومراكز البحوث المحلية .وال ُملا َحظ أ َّن هذه الدراسات والتقارير تر ِّكز على الإحصائيات والجوانب ال َك ِّمية ،مقارن ًة بواقع الدول الصناعية .وق َّلما نجد فيها من البيانات النوعية التي تخت ُّص بالهوية الفكرية لأبناء المجتمعات العربية ،أو بال ُفرص التي تق ِّدمها مؤسسات التعليم العالي للتنمية الاجتماعية والاقتصادية ،حتى إ َّن تقرير مؤسسة الفكر العربي يشير إلى \"أ َّن مخرجات التعليم العالي ليست بعلاقة وثيقة بعا َلم العمل(((\". وأفاد التقرير المشار إليه بتزايد معدلات الالتحاق بالتعليم العالي في العا َلم العربي؛ نظر ًا للعدد المتزايد من مؤسسات التعليم العالي .والسبب في هذا التزايد هو \"اعتماد دول المنطقة سياسات انفتاح وتشريعات سمحت للقطاع الأهلي والخاص الوطني ((( مؤسسة الفكر العربي .الابتكار أو الاندثار :البحث العلمي العربي :واقعه وتحدياته وآفاقه ،التقرير العربي العاشر للتنمية الثقافية لعام 2018م ،بيروت :مؤسسة الفكر العربي2018 ،م ،ص.152 509
والأجنبي ،بإنشاء مؤسسات للتعلم العالي \".إضاف ًة إلى برامج خاصة في الجامعات الحكومية ،هدفها س ُّد العجز المالي؛ ما أ ّدى إلى رفع كلفة التعليم .ومع ذلك ،يصعب الحصول على تفاصيل وإحصائيات دقيقة عن هذا الموضوع؛ نظر ًا لغياب المعلومات التي تو ِّضح أعداد هذه المؤسسات ،وأنواعها ،وتبعياتها ،والبرامج التي تق ِّدمها ،وأعداد الطلبة فيها ،وما إلى ذلك من أمور تسمح برسم صورة واضحة عن مؤسسات التعليم العالي في الوطن العربي (((.وقد نتج عن هذا الوضع تحديات متعددة ،تم َّثلت في طبيعة العلاقة بين الجامعات والحكومة ،وآليات الرقابة والرصد ،وضمان الجودة (((.ومثل هذه الحالة تثير أسئل ًة عن الهوية الوطنية والقومية والدينية لمخرجات هذا النوع من التعليم، ومدى الإسهام في الخروج من حالة التخ ُّلف والتبعية ،ولا سيما إذا أضفنا إلى ذلك ما جاء في التقرير عن برامج التربية؛ إذ \"يش ِّكل النقص الفادح في أعداد طلبة برامج التربية في معظم دول المنطقة (العربية) ،وفي خريجي هذه البرامج ،تحدي ًا لاستمرار تد ّني جودة التعليم في مراحله المختلفة(((\". وقد أصبح هدف التنمية المستدامة وإجراءات تحقيق هذا الهدف موضوع ًا مهم ًا في مجتمعات العا َلم ،وأخذت مؤسسات التعليم العالي تهتم ببرامج متن ِّوعة لتحقيق هذا الهدف ،منها برامج التع ُّلم مدى الحياة ،عن طريق عقد دورات متخ ِّصصة في التأهيل الفني والتنمية الإدارية وغيرهما من ُفرص تطوير المهارات والخبرات؛ للتك ُّيف مع التغ ُّير المتواصل في متط َّلبات الحياة العملية .وقد أشار تقرير مؤسسة الفكر العربي إلى أ َّن مثل هذه البرامج التي تق ِّدمها الجامعات العربية \"أخفقت في ربط الجوانب الرئيسة للتع ُّلم مدى الحياة ،والتعليم من أجل التربية المستدامة(((\". وذكر تقرير التنمية العربية المشار إليه أ َّن عملية التعليم المدرسي والجامعي لا تزال تعتمد على التلقين والحفظ ،وتعتبر \"ال ُمد ِّرس هو الحجر الأساس والتلميذ هو المتل ّقي السلبي في العملية التعليمية( ... ،وتقوم) الامتحانات على تذ ُّكر المعلومات واجترارها\". في حين كان ينبغي أ ْن \"تر ِّكز أساليب التدريس على العناصر المتع ِّلقة بعمليات التع ُّلم ((( المرجع السابق ،ص.143 ((( المرجع السابق ،ص.160-159 ((( المرجع السابق ،ص.156 ((( المرجع السابق ،ص.159 510
المعتمدة على التفكير النقدي ،بدلاً من تراكم المعرفة؛ لتطوير مهارات الخريجين، وقابلياتهم في التك ُّيف والابتكار والإبداع(((\". وحتى في التوصيات التي ق َّدمها الفصل الأول عن \"واقع التعليم العالي في الدول العربية\" ،فإ َّن غاية ما فيها هي التوصية بعدد من الأمور التي ُتع ِّزز قدرة الجامعات العربية \"على تخ ّطي الوضع الراهن ،والوصول إلى مستويات التعليم العالي والبحث العلمي العالمية (((\".وفي حين تفتقر الدول العربية إلى برامج تعا ُون في التعليم العالي ،تدخل بعض هذه الدول في برامج تعا ُو ٍن و َت َب ٍّن كام ٍل لنُ ُظم التعليم في بلدان ُأخرى ،كما هو الحال في الدول العربية التي اعتمدت النموذج الأوروبي في التعليم الذي تضمنته اتفاقية بولونيا للتعا ُون الأوروبي في التعليم العالي. ولك ْن ما َي ُه ُّمنا في هذا السياق هو إدراك أ َّن مشكلات التربية في بلدان العا َلم الإسلامي ذات طبيعة ُمر َّكبة؛ فهي من جانب تتأ َّثر بالمشكلات التربوية العالمية بحكم التبعية ،ولك ْن بصورة أش َّد ِح َّد ًة ،وهي من جانب آخر تع ِّبر عن عدم ملاءمة الفكر التربوي المستورد لطبيعة المجتمعات الإسلامية وحاجاتها ومشكلاتها الحقيقية؛ إذ توجد مشكلات خاصة ببعض المجتمعات الإسلامية ،تتم َّثل في ارتفاع نسبة الأُ ِّمية .فقد أعلنت المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة (أليكسو) أ َّن نسبة الأُ ِّمية بالبلاد العربية في آخر عام 2017م هي %21تقريب ًا (((،ل َمن تتجاوز أعمارهم 15عام ًا ،في مقابل النسبة العالمية ،%13.6 وهذا يعني أ َّنه يوجد 45مليون عربي ُأ ِّمي ،وأ َّن ما نسبته %13.5من العرب لا يدخلون المدارس ،وأ َّن نسبة الأُ ِّمية في مصر ارتفعت إلى ((( ،%25.8وفي المغرب إلى (((.%30 ((( المرجع السابق ،ص.163 ((( المرجع السابق ،ص.167 ((( انظر الموقع الإلكتروني للمنظمة ،حيث ُن ِشر التقرير في الرابط: - http: //www.alecso.org/newsite/2016-02-02-13-47-43/2114-2018-09-07-11-52-52.html ((( وصلت نسبة ا ُلأ ِّمية في مصر إلى %25.8من مجموع السكان ،وهي بين الإناث %30.8مقابل %21.1بين الذكور ،وذلك بحسب إحصائيات عام 2017م .انظر جريدة اليوم السابع ،بتاريخ :الجمعة 6يوليه (تموز) 2018م .انظر رابط النسخة الإلكترونية: - http: //tiny.cc/tmws6y ((( ص َّرح بذلك الوزير مصطفى الخلفي ،و ُن ِشرت تصريحاته يوم 31أكتوبر 2017م ،في جريدة إيلاف الإلكترونية التي تصدر في لندن .انظر الرابط: - https: //elaph.com/Web/News/2017/10/1174739.html 511
أ ّما في العا َلم الإسلامي فقد أعلنت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسسكو) أ َّن نسبة الأُ ِّمية عام 2014م بلغت نحو %50؛ فهي للذكور ،%40وللإناث (((.%65وهي -مث ًلا -في الباكستان (((،%42وفي أفغانستان %68عند الإناث، ونحو %40بين الذكور (((.و ِم ْن َث َّم ،فإ َّنه من ال ُمتو َّقع أ ْن تكون التربية السائدة في العا َلم الإسلامي عاجز ًة عن معالجة المشكلات المحلية ،فضل ًا عن الإسهام في معالجة المشكلات العالمية. وسيكون من المفيد إجراء دراسة مسحية لأدبيات الإصلاح التربوي على مستوى العا َلم؛ للبحث عن موقع الباحثين المسلمين ،في هذه الأدبيات ،وعن الفكر التربوي الإسلامي ومنهجه الإصلاحي ،الذي يمكن أ ْن ُيس ِهم في ح ِّل المشكلات ،أو التخفيف من ِح َّدتها ،ليس في مجتمعات المسلمين فحسب ،بل في سائر المجتمعات .أفلا نحتاج إلى دراسة من هذا النوع لتكشف لنا عن غياب الفكر التربوي الإسلامي عن ساحة العا َلم، ولنستنتج أ َّن العا َلم العربي والإسلامي هو ساحة للنظر والاختبار ومقارنة فعل الأنظمة التربوية الغربية عندما ُتستن َبت في بلادنا؟ ثالث ًا :تو ُّجهات سياسية واقتصادية: يخضع التعليم العام في المجتمعات الإسلامية اليوم إلى ضغوط هائلة من القوى العالمية المهيمنة لتغيير المناهج ،وإزالة ما فيها من نصوص َي َّدعون أ َّنها \"تثير الكراهية\"، ولا \"تحترم الآخر\" ،و ُتل ِّقن \"ثقافة الإرهاب\" .وتحت هذه الا ِّدعاءات ُتستب َعد نصو ٌص من القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ،و ُيستب َدل بها موا ُّد ُتب ِّشر بالسلام ،وتدعو إلى المحبة، و ُتر ِّحب بالأعداء ،و ُتن ِكر الخصوصيات ،و ُته ِّدد بإلغاء الهوية .ولا تكتفي هذه الضغوط ((( وفق ما نقلته الصفحة الإلكترونية لقناة الجزيرة بتاريخ 2014 /9/5م ،في الرابط: - http: //tiny.cc/osws6y ((( كما جاء في جريدة Nationالباكستانية ضمن تقرير صدر مطلع عام 2018م .انظر ذلك في رابط النسخة الإلكترونية للجريدة: - https: //nation.com.pk/08-Feb-2018/literacy-rate-in-pakistan ((( ورد ذلك في إحصائيات أطلس العالم .انظر الرابط: - https: //ar.actualitix.com/country/afg/ar-statistics-education-afghanistan.php 512
بالمطالب السياسية الصريحة ،وإ َّنما تدعمها بما َيلزم من متط َّلبات التغيير في المناهج؛ من :أموال ،وخبرات ،وتدريب .وتجد هذه الضغوط َمن تط َّبعت عقو ُلـهم وضمائ ُرهم على قبول ذلك ،والمسارعة إلى تنفيذه ،والدفاع عنه. وفي الوقت الذي شهد فيه العا َلم المعاصر دعوات كثيرة من خارج العا َلم الإسلامي، ث َّم من داخله ،لعمل دراسات مستفيضة عن مناهج التعليم في البلدان الإسلامية ،بدعوى أ َّنها ُتش ِّجع على الكراهية ،و ُتخ ِّرج َمن ُيؤ ِّيد الإرهاب ويمارسه؛ فإ َّننا لم نجد دليل ًا واحد ًا ق َّدمته هذه الدراسات على ارتباط هذه المناهج بأ ِّي شيء من ممارسات التط ُّرف ،أو العنف ،أو ب ِّث الكراهية .والغريب أ َّننا لم نشهد في هذه الحقبة من الزمن دعوات لدراسة مناهج المدارس اليهودية أو النصرانية ،أو تأثيرات اليمين ال ُمتط ِّرف في الولايات المتحدة الأمريكية والبلدان الأوروبية ،في تغذية ظاهرة الكراهية ،أو التط ُّرف ،أو العنف. وفيما يخ ُّص التعليم الجامعي في المجتمعات الإسلامية اليوم ،فإ َّن الأمثلة على غياب المرجعية الفكرية الإسلامية كثيرة؛ ما ُي ْخلي السبيل أمام قوى العولمة وعناصرها الغربية. ومن هذه الأمثلة ما يخت ُّص بنُ ُظم التعليم ،وبرامجه ،ومناهجه؛ ففلسفة التعليم الجامعي، ومعايير جودته ،و ُن ُظم تصنيف الجامعات ،تقوم على حضور علمي شكلي ،وتقديرات َك ِّمية ،وتيسيرات ماديةَ ،تح َّد َد ْت في ضوء ما تم تطويره واعتماده في المجتمعات الأُخرى، وتغيب عنها أ َّية مرجعيات قيمية إسلامية ،فضل ًا عن غياب السياسات الملائمة للتطوير الاجتماعي ،والتق ُّدم الثقافي ،والتنمية الاقتصادية .فنُ ُظم القبول والاعتراف والاعتماد في الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص هي الأساس في صياغة ُن ُظم التعليم في المجتمعات الإسلامية. ومن أمثلة الضغوط التي تمارسها العولمة ما يخت ُّص بالسعي لتحقيق الجودة في التعليم .فقد رصدت اليونسكو اتجاه معالجة الجودة في التعليم العالي \"نحو المعايير التي يمكن الرجوع إليها دولي ًا؛ أ ِي التح ُّرك نحو الاعتراف المتبادل والثقة ،بحيث تتصف البرامج الوطنية لضمان الجودة بمصداقية دولية(((\". (1) Altbach, Philip G. & Reisberg, Liz. & Rumbley, Laura E. Trends in Global Higher Education: Tracking an Academic Revolution, A Report Prepared for the 2009 World Conference on Higher Education, Paris: UNESCO, 2009, p. 168. 513
ومن أمثلة التاريخ الحديث على اقتراض بعض المجتمعات الإسلامية لنظام تعليمي أجنبي؛ عنوان ًا وروح ًا ون ّص ًا ،بصورة تكشف عن طبيعة التبعية والاستلاب الثقافي- التعليمي؛ تطبيق نظام \"ل م د\" للتعليم الجامعي في عدد من هذه المجتمعات ،علم ًا بأ َّن هذه النظام -في الأساس -هو محاولة لتوحيد المعايير النوعية للتعليم العالي في دول الاتحاد الأوروبي ،اعتماد ًا على عدد من المبادئ ،أهمها :توحيد الرتب الأكاديمية ،وتسهيل حركة الطلبة والأساتذة والباحثين ،وتعزيز ال ُب ْعد الأوروبي للتعليم العالي في محاولة لتح ّدي الهيمنة الأمريكية .ومع ذلك ،فقد كانت هذه المجتمعات الإسلامية أسرع تطبيق ًا لهذا النظام ،وأكثر التزام ًا به من الدول الأوروبية نفسها. إ َّن أهم القوى المؤ ِّثرة في اتجاهات \"العولمة\" و\"التدويل\" ،وما تمارسه هذه الاتجاهات من ضغوط سياسية في هذه الأيام ،يتم َّثل في طبيعة الاقتصاد العالمي القائم على تسويق ثقافة استهلاكية شديدة الجاذبية ،تدعمها ق َّوة سياسية قاهرة ،تستخدم أدوات إعلامية شديدة التأثير والفاعلية .وفي مثل هذا الواقع أصبح النظام التربوي في المجتمع المعاصر متأ ِّثر ًا منفعل ًا بدل أ ْن يكون مؤ ِّثر ًا فاعل ًا ،وأصبح لِزام ًا على النظام التربوي أ ْن يتك َّيف مع التغ ُّيرات المتلاحقة في المجتمع الحديث بدل أ ْن يكون أدا ًة لتغيير المجتمع وتنميته في اتجاهات مح َّددة. رابع ًا :السياق التاريخي لواقع الفكر التربوي الإسلامي: سعى المجتمع المسلم -منذ بواكير نشأته -إلى اكتساب العلم من مصادره ومظا ِّنه، بوسائله وأدواته ،فكان مجتمع ِع ْل ٍم وتع ُّل ٍم وتعلي ٍم ،وكان في حالة تغ ُّي ٍر دؤو ٍب للخروج من الأُ ِّمية عن طريق الأخذ بالوسائل والأساليب الأساسية للعلم والتع ُّلم ،لا سيما القراءة والكتابة .وكان يتع َّين على َمن يدخل في الإسلام أ ْن يتع َّلم القرآن الكريم و ُسنَّة النب ِّي ص ّلى الله عليه وس َّلم ،وما فيهما من أحكام وتوجيهات في المعتقدات والعبادات والمعاملات، وسائر شؤون الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها ،وكان لِزام ًا على المجتمع أ ْن يت ِقن ما هو بحاجة إليه من فنون العلم والمعرفة في بناء المدن وهندستها وإدارتها، وتنظيم الموارد الاقتصادية من زراعة وتجارة وحرف ومهن؛ وأ ْن يتع َّلم الجديد في أمور حماية المجتمع م ّما يتط َّلبه أمنه الداخلي ،فضل ًا عن متط َّلبات أمنه الخارجي ،وما َيلزم ذلك من وسائل الدفاع والقتال. 514
وكل ذلك يحتاج إلى تنظيم وإدارة تتض َّمن تدوين الدواوين ،وتوفير الموارد وإدارتها .ولأ َّن المجتمع المسلم كان في حالة اتصال دائم بغيره من شعوب المجتمعات الأُخرى بال ِّس ْلم والحرب؛ فقد تع َّين عليه أ ْن يط ِّور أساليب التعامل مع الثقافات الأُخرى؛ تع ُّلم ًا ،وتعليم ًا. وكانت كل هذه التح ُّولات تتم في عهد الرسالة عن طريق التربية القرآنية والنبوية، بصورة متد ِّرجة في ظ ِّل الحالات والمناسبات والأحداث التي يم ُّر بها الأفراد ،ويم ُّر بها المجتمع الناشئ .وبعد عهد الرسالة بقيت نصوص القرآن الكريم وبيانها العملي في ال ُّسنة والسيرة النبوية هي المرجعية الحاكمة لكل أمور العلم والتع ُّلم؛ فقد تط َّور فهم هذه النصوص وما فيها من توجيهات إلى علوم الفقه وأصوله ،ف ُد ِّونت كتب الفقه ،وتو َّزعت في مدارس فكرية ُع ِرفت بالمذاهب الفقهية ،و ُد ِّونت كتب العقيدة وقضايا الإيمان، وتو َّزعت في مدارس فكرية ُع ِرفت بالمذاهب الكلامية .وتط َّورت الحاجة إلى تع ُّلم اللغة العربية وضبطها ،فاس ُتح ِدثت علوم في قواعد اللغة نحو ًا وصرف ًا ،وفي معاجم المفردات والمعاني ،وصنوف الأدب والنقد .ونظر ًا لأ َّن العهد أخذ يبتعد بالناس عن لغة القرآن الكريم والحديث النبوي؛ فقد جاءت كتب التفسير والشرح لتقريب المعاني الأصلية وفق مناسباتها ومقاصدها .ولم تكن علوم التاريخ والسير والفلك والهندسة والطب غائبة عن هذه الحركة العلمية المتواصلة. وقد ُد ِّونت في كل ذلك مصنَّفات كثيرة ،كان المؤ ِّلف في ك ٍّل منها يجمع ما يستفيده من مصادره ،بجهد كبير يتض َّمن ر ْصد ما لدى شيوخه من نصوص وآثار ،والتن ُّقل والسفر من بلد إلى آخر ،من دون أ ْن يبخل بما يتوافر له من سنوات العمر ،وجهد النفس ،وبذل المال ،وما يتم َّكن من إضافته؛ من :حكمته ،وخبرته ،وتجربته الشخصية. وكانت علوم الشعوب الأُخرى وخبراتها حاضرة في مجمل هذه الحركة العلمية؛ إذ دخلها المسلمون في ميادينها المناسبة ،بعد تصفيتها ضمن المرجعية الإيمانية للمجتمع المسلم ،وصهرها بثقافته ،وتوظيفها لمقاصده .وقد رافق التع ُّلم من خبرات الشعوب الأُخرى حيا َة المجتمع المسلم من أيامه الأولى؛ فقد تع َّلم المسلمون فكرة حفر الخندق حول المدينة بوصف ذلك إحدى استراتيجيات الحرب في بعض الحالات ،وهو أمر لم يكن معروف ًا في المجتمع المسلم الجديد ،ولكنَّه كان معروف ًا في مجتمعات ُأخرى .وتع َّلم 515
المسلمون استخدام المنجنيق والدبابة في حصار الطائف .وعندما شعر النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم بحاجة المجتمع المسلم إلى بعض اللغات الأجنبية أمر بتع ُّلمها .وأخذ عمر بن الخطاب بنظام الدواوين الذي لم يكن معروف ًا في المجتمع الإسلامي ،وأخذ عثمان بن ع ّفان بفكرة كتابة المصحف وتوزيعه على ولايات الدولة الإسلامية ،وأخذ عبد الملك بن مروان ب َس ِّك ال ُع ْملة الإسلامية بعد أ ْن كان المسلمون يستعملون الدينار البيزنطي والدرهم الساساني ،وهكذا في سائر مجالات الخبرة البشرية المتاحة. وكانت هذه الحركة العلمية المتواصلة خلال القرون الثلاثة الأُولى من عمر المجتمع المسلم هي أساس التط ُّور والتق ُّدم الحضاري في سائر الميادين ،لا سيما أ َّن هذا المجتمع وصل إلى درجة من التو ُّسع والامتداد الجغرافي ،بحيث شمل أجزا ًء كبير ًة من العا َلم المعروف آنذاك في آسيا وإفريقيا وأوروبا .ونشأ عن هذا الامتداد الجغرافي والإنجاز الحضاري نظا ٌم عالمي إسلامي لم تجد الشعوب الأُخرى مناص ًا من الاعتراف به ،والتعامل معه. ومع هذا القدر من الوضوح في مسألة السعي المتواصل في العلم والتع ُّلم ،والحرص على تق ُّدم المجتمع المسلم وتوظيفه لما أصبح متاح ًا من العلوم والمعارف في المجالات المختلفة ،فإ َّن الأمر تع َّرض لحالات من ال َغ َب ِش في بعض الظروف .فقد جاء القرن الرابع ببعض الانتكاسات العلمية التي أخذت تتك َّرس شيئ ًا فشيئ ًا في القرون اللاحقة ،فبدأ الجمود على التقليد لأسباب مختلفة ،منها عدم توافر الجرأة عند العلماء على الاجتهاد كما كان يجتهد السابقون ،من باب الورع والتواضع والحذر من أهواء النفس ،أو الخشية من مواجهة انتقادات أهل التقليد ،أو الرغبة في مطاوعة الحالة السياسية والعلمية التي عرفت التع ُّصب المذهبي ،واقتصار التعليم في ال ُق ْطر الواحد على المذهب ال ُمعت َمد فيه بأمر من السلطان .وكان السبب في ذلك أحيان ًا الحذر من أ ْن يقع العالِم في َأتون المعارك العلمية التي سعت إلى تت ُّبع مقولات العلماء ومواقفهم؛ بحث ًا ع ّما قد ُي َع ُّد موضع ًا للنقد ،أو سعي ًا للحكم بالز َّلة أو الانحراف. وبدلاً من مواصلة التأليف العلمي الأصيل في الموضوعات المختلفة ،أخذ التأليف يقتصر على شرح كتب السابقين ،ووضع هوامش على المتون ،أو تلخيص المتون واختصار الشروح ،أو وضع المتون في منظومات شعرية لتسهيل حفظها ،ث َّم لزم شر ُح 516
هذه المنظومات وف ُّك ُع َقدها .وكان كل ذلك من صور التو ُّقف عن التجديد ،والجمود على التقليد .واستمر ذلك حتى بعد أ ْن أخذت الشعوب الأُخرى ،لا سيما في أوروبا ،في النهوض ،وامتلاك أسباب الق َّوة والتق ُّدم في ميادين العلم والصناعة والاختراع ،وأخذت تستخدم هذه الق َّوة في غزو بلاد المسلمين ،واقتطاع أجزائها ،وفرض شروطها عليها. ومع ذلك ،فقد وصل الأمر ببعض العلماء -في بعض المراحل -إلى إنكار توظيف العلوم والخبرات والصناعات التي ط َّورها غير المسلمين؛ ما و َّسع ال ُه َّوة بين واقع المجتمع المسلم وواقع المجتمعات الأُخرى. والحقيقة أ َّن الوعي بمشكلة تخ ُّلف العلم كان مبكر ًا ،وتو َّزع حملته ضمن فئات مختلفة ،لم تنجح بعضها في استمرار حركته وتق ُّدمها ،وو َّظفت ُأخرى علمها لهوى النفس أو هوى السلطان ،و َج َم َدت بعضها على التقليد؛ جهل ًا أو كسل ًا ،في حين آث َر ببعضها الآخر الحياة الدينا. ونكتفي بتوثيق نصين من نصوص التخ ُّلف الذي أصاب المجتمع الإسلامي؛ إذ قال أبو حامد الغزالي\" :فأدلة الطريق هم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء ،وقد َش َغ َر منهم الزمان، ولم يب َق إلا المتر ِّسمون ،وقد استحوذ على أكثرهم الشيطان ،واستغواهم الطغيان ،وأصبح كل واحد من أ ْجل ح ِّظه مشغوف ًا ،فصار يرى المعروف منكر ًا والمنكر معروف ًا ،حتى ظ َّل َع َل ُم الدين مندرس ًا ،ومنا ُر الهدى في أقطار الأرض منطمس ًا ،ولقد َخ َّيلوا إلى الخلق أ ْن لا علم إلا فتوى حكومة ،تستعين بهم القضاة على فصل الخصام عند تهاوش ال َّطغام ،أو جد ٌل يتد َّر ُع به طالب المباهاة إلى الغلبة والإفحام ،أو سج ٌع مزخرف يتو َّسل به الواعظ إلى استدراج العوام؛ إذا لم يروا ما سوى هذه الثلاثة مصيدة للحرام ،وشبكة لل ُحطام. فأ ّما طريق الآخرة وما درج عليه السلف الصالح م ّما س ّماه الله سبحانه في كتابه فقه ًا وحكم ًة وعلم ًا وضيا ًء وهداي ًة ورشد ًا ،فقد أصبح من بين الخلق مطوي ًا ،وصار نسي ًا منسي ًا. ول ّما كان هذا َث ْلم ًا في الدين ُم ِل ّم ًا ،وخطب ًا ُم ْدل ِه ّم ًا ،رأيت الاشتغال بتحرير هذا الكتاب مه ّم ًا؛ إحيا ًء لعلوم الدين ،وكشف ًا عن مناهج الأئمة المتق ِّدمين ،وإيضاح ًا لمباهي العلوم النافعة عند النبيين والسلف الصالحين(((\". ((( الغزالي ،أبو حامد محمد بن محمد (توفي505 :ﻫ) .إحياء علوم الدين ،بيروت :دار ابن حزم ،ط2005 ،1م ،ص.8 517
وقد ب َّين ولِ ُّي الله الدهلوي ما انتهى إليه المجتمع الإسلامي بعد المئة الرابعة ،فقال: \"وحدث فيهم أمور منها الجدل والخلاف في علم الفقه وتفصيله ...ومنها أ َّنهم اطمأنوا بالتقليد ،ود َّب التقليد في صدورهم دبيب النمل وهم لا يشعرون .وكان سبب ذلك تزاحم الفقهاء وتجادلهم فيما بينهم؛ فإ َّنهم ل ّما وقعت فيهم المزاحمة في الفتوى كان كل َمن أفتى بشي ٍء ُنو ِقض في فتواه ،و ُر َّد عليه ،فلم ينقطع الكلام إلا بالمصير إلى تصريح رجل من المتق ِّدمين في المسألة ،وأيض ًا جور القضاة ...وأيض ًا جهل رؤوس الناس ...وفي ذلك الوقت ثبتوا على التع ُّصب ...وفتنة هذا الجدال والخلاف والتع ُّمق قريبة من الفتنة الأُولى حين تشاجروا في ال ُم ْلك ،وانتصر كل رجل لصاحبه ،فكما أعقبت تلك ُم ْلك ًا عضوض ًا ووقائع ص ّماء عمياء ،فكذلك أعقبت هذه جهل ًا واختلاط ًا وشكوك ًا ووهم ًا ما لها من أرجاء ،فنشأت بعدهم قرون على التقليد الصرف ...ولم يأ ِت قرن بعد ذلك إلا وهو أكثر فتن ًة ،وأوفر تقليد ًا ،وأشد انتزاع ًا للأمانة من صدور الرجال ،حتى اطمأنوا بترك الخوض في أمر الدين ،وبأ ْن يقولوا\" :إِ َّنا َو َج ْد َنا َءا َبا َء َنا َع َلى ُأ َّم ٍة َوإِ َّنا َع َلى َءا َٰث ِر ِهم ُّم ْه َت ُدو َن\" ،وإلى الله المشتكى وهو المستعان(((\". ... وإذا كان النصان السابقان يتح َّدثان عن واقع الحركة العلمية اعتبار ًا من القرن الرابع، فكيف أصبح هذا الواقع في القرون اللاحقة؟ في مطلع القرن الثالث عشر حاول السلطان سليم الثالث (1222-1203ﻫ) تهدئة وتيرة المعارك الحربية مع خصوم الدولة العثمانية من أجل الإصلاحات الداخلية .ونظر ًا للتف ُّوق الأوروبي في مجال الق َّوة العسكرية وأساليبها المستحدثة؛ فقد بدأ بمحاولة إعادة تنظيم الجيش ،والتخ ُّلص من نظام الانكشارية ،والاستفادة من الخبرة الأوروبية في التعليم العسكري والصناعات العسكرية ،لك َّن مواقع النفود والمصالح في المجتمع العثماني كانت بالمرصاد لمحاولات التحديث .وقد تم َّثلت هذه القوى المعارضة للتحديث في جهات ِع َّدة ،منها :النظام الانكشاري في الجيش ،وأعيان المجتمع م َّمن ارتبطت مصالحهم بالواقع المتخ ِّلف ،ومشايخ الإفتاء الرسمي الذي ح َّرموا استعمال الأسلحة الحديثة لأ َّنها من صنع الكفار. ((( الدهلوي ،أحمد بن عبدالرحيم الفاروقي الهندي ،الملقب شاه ولي الله (توفي1176ﻫ) .الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف ،بيروت :دار النفائس ،ط1404 ،2ﻫ ،ص.95-93 518
وقد و َّثق محمد فريد بك في تأريخه للدولة العثمانية بعض أحداث تلك الفترة ،ودور العلماء في معارضة الإصلاحات ،فكان م ّما أورده عن هذه المحاولة ونتائجها\" :وفي غضون ذلك تو ِّفي المفتي الذي كان معضد ًا للسلطان على إدخال الإصلاحات العسكرية، وتو ّلى مكانه قاضي عسكر الرومللي ،وكان على الض ِّد من سلفه ،فاتحد مع مصطفى باشا قائم مقام الصدر الأعظم المتغ ِّيب في محاربة الروس ،ولفيف من العلماء ،على السعي في إبطال النظام العسكري الجديد ،قائلين إ َّنه بدعة مخالفة للشرع .وللوصول إلى غايتهم هذه أخذوا يغرون العساكر ،...وأدخلوا في آذانهم أ َّنهم لم يأتوا من بلادهم إلا لإجبارهم على الانخراط في سلك النظام ،وإكراههم على لبس الملابس الغربية ،والتزيي بز ِّي النصارى، مع ما في ذلك من مخالفة القرآن الشريف والشرع المنيف على زعمهم \"...ث َّم وصف المؤ ِّلف كيف تم تأليف قوى المعارضة من الانكشارية وغيرهم ،حيث ع َّينوا للثائرين \"أسماء جميع المعضدين لمشروع النظام العسكري من الوزراء أو الذوات والأعيان، فانتشر الثائرون إلى منازلهم ،وقتلوهم ،وأتوا برؤوسهم ...ول ّما بلغ السلطان خبر هذه الثورة أصدر على الفور أمر ًا بإلغاء النظام الجديد ،وصرف العساكر النظامية .لك ْن لم يكت ِف الثائرون ،بل ق َّرروا عزل السلطان خوف ًا من أ ْن يعود لتنفيذ مشروعه ،وساعدهم على ذلك المفتي الذي هو في الحقيقة المح ِّرك لهذه الثورة ،فأفتى بأ َّن كل سلطان يدخل نظامات الإفرنج وعوائدهم ويجبر الرعية على ا ِّتباعها لا يكون صالح ًا لل ُم ْلك ...واستمرت الثورة يومين ث َّم نودي بفصل السلطان سليم الثالث ،ف ُع ِزل(((\". وعرض أبو الأعلى المودودي تلك الصفحات التاريخية بطريقته ،فقال\" :إ َّنه في أوائل القرن التاسع عشر أح َّس السلطان سليم (الثالث) بهذا الضعف في الأُ َّمة التركية ،فأخذ في إصلاح نظام إدارة الحكم ،وفي نشر العلوم الجديدة ،وتنظيم الجنود على النمط الحديث، وترويج الآلات الحربية الأوروبية ،ولك َّن الصوفية ال ُج ّهال والعلماء الرجعيين م َّمن ليس لهم نصيب من علم الدين وروحه قاموا يعارضون إصلاحات السلطان .فجعلوا تنظيم الجنود على الطريقة الغربية في حكم اللادينية ،وجعلوا لبس الزي الجندي الحديث في حكم التش ُّبه بالنصارى ،وقد خالفوا حتى استعمال البنادق ذات الحراب؛ لأ َّن استعمال أسلحة الكفار عندهم إثم عظيم ...وأساؤوا إلى الإسلام بترويجه أساليب الكفار ،فأفتى شيخ الإسلام ((( فريد ،محمد فريد بك المحامي .تاريخ الدولة العلية العثمانية ،تحقيق :إحسان حقي ،بيروت :دار النفائس، 1981م ،ص.393-392 519
عطاء الله أفندي أ َّن السلطان الذي \"يعمل بخلاف القرآن\" لا يجدر بالبقاء على العرش .وفي آخر المطاف ُع ِزل السلطان سليم في سنة 1807م .وهذه أول َم َّر ٍة ق َّدم فيها الزعماء الدينيون بجهالتهم وظلمة فكرهم التص ُّور الخاطئ أ َّن الإسلام عائق للرقي ...ولك َّن زعماء الأتراك الدينيين الذين كانوا صفر ًا من روح التف ُّقه والاجتهاد ،وجاهلين للتعاليم الإسلامية الحقيقية أغمضوا عيونهم عن كل التغ ُّير والانقلاب ... ،وتبع السلطان سليم السلطان محمود في الحكم ،فحاول الإصلاح ،ولك َّن العلماء والمشايخ خالفوه َم َّر ًة ُأخرى .وبتذليل كثير من العوائق والصعوبات تم َّكن السلطان في سنة 1826م من ترويج التنظيم العسكري الجديد في تركيا ،ولك َّن العلماء لم يزالوا ينادون بأ َّن كل تلك الإصلاحات بدعة سيئة يراد بها تخريب الإسلام ،وأ َّن السلطان قد مرق من الدين ،وأ َّن التط ُّوع في الجندية من هذا الطراز الحديث مفسدة لإيمان المسلمين(((\". وقد أطال محمد الطاهر بن عاشور في بيان \"تأ ُّخر التعليم\" في العا َلم الإسلامي ومظاهره الكثيرة ،من ملاحظته لما كان عليه الأمر في تونس على وجه الخصوص ،في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ،ولكنَّه أشار كذلك إلى النقد الذي و َّجهه كثير من العلماء إلى حالة التعليم في القرون السابقة ،وذكر منهم القاضي أبا بكر بن العربي ،وابن خلدون، وذكر من العلماء المحدثين الذين ب َّينوا تأ ُّخر التعليم صدي َقه محمد الخضر الحسين(((. وقد انشغل ابن عاشور -منذ مطلع حياته العلمية -بقضية التعليم ،و َد َر َس حالة تخ ُّلف الأُ َّمة الإسلامية في هذا الميدان ،التي كانت تتج ّلى في مشكلات متعددة ،منها ما يخت ُّص بحالة ال ُمع ِّلم ،وأساليبه في التعليم ،وبحال مناهج التعليم ،ولكنَّه رأى أ َّن المشكلة الأساسية هي فساد النظام التعليمي في جملته .وقد ح َّدد سببين عامين لتأ ُّخر التعليم ،هما\" :الأسباب العامة التي قضت بتأ ُّخر المسلمين على اختلاف أقاليمهم وعوائدهم ولغاتهم ...،وتغ ُّير نظام الحياة الاجتماعية في أنحاء العا َلم تغ ُّير ًا استدعى تب ُّدل الأفكار والأغراض والقيم العقلية ...ك ُّل ذلك نشأ َن ْشئ ًا سريع ًا ،وسار سير ًا فسيح ًا ،والمسلمون -وخاصة أهل العلوم الإسلامية -في سبات عميق ،حال دونهم ودون إصلاح برامج تعاليمهم(((\". ((( المودودي ،أبو الأعلى .نحن والحضارة الغربية ،دمشق :دار الفكر ،ط1964 ،1م ،ص.100-99 ((( ابن عاشور ،أليس الصبح بقريب؟ التعليم العربي الإسلامي :دراسة تاريخية وآراء إصلاحية ،مرجع سابق ،ص.17-16 ((( المرجع السابق ،ص.105-104 520
لقد وصف ابن عاشور حالة التعليم التي كانت سائدة في جامعة الزيتونة ،في مطلع القرن العشرين ،وصف ًا دقيق ًا لما كان عليه الأساتذة والطلبة ،والمناهج والكتب الدراسية، وم َّدة التعليم ،وطرق التقويم والبرنامج الدراسي ،وموضوعات التعليم ،وغير ذلك، ُمب ِّين ًا ما كان فيها من مشكلات ،وكان من ذلك ما رآه من أسباب التأ ُّخر في تطوير العلوم والمعارف في الأُ َّمة الإسلامية ،وضرورة ملاحظة المشكلات التي تعانيها علوم التراث الإسلامي ،وح َّدد ما رآه من متط َّلبات الإصلاح ،في نظام التعليم وقواعده ومبادئه، وفي كل علم من العلوم النقلية والعقلية ،وفي إصلاح حال ال ُمع ِّلمين .وكان واضح ًا أ َّن ابن عاشور كان يشعر بثقل مقترحاته على بعض الناس ،فع َّبر عن ذلك بقولهُ \" :أب ِّلغهم نصيحتي وأنا موقن أ َّن فيهم َمن لا يح ُّب الناصحين ،ويلمز الداعين إلى إصلاح الحال، ولك َّن الذي يناديه ضميره بوجوب الإصلاح لا ُيف ِشله ذلك ،ولنا في الذين لقوا من الأذى ما ب َّينه الكتاب المجيد والتاريخ \".وكان يشعر كذلك بأهمية اقتناع ال ُمع ِّلمين بالإصلاح، وبأ َّنهم قد يش ِّكلون عقبة في تحقيقه ،فقال\" :إ َّن الفساد الأكبر الذي يلقاه ُمص ِلح التعليم في ال ُمع ِّلمين هو كراهية النظام ،وكراهية القوانين ،وسوء الإلمام بوجوب العناية بالتعليم ،ولا يرون التعليم إلا كيفية واحدة هي التي تعارفوهاُ ،معت ِذرين بأ َّن بها ر َقى سلفنا ،وهذه معذرة ال ُمب ِغضين منهم للإصلاح ،فأ ّما ال ُمتحذلِقون فإ َّن لهم معذر ًة ُأخرى ،وهي أ َّن وضع القانون للتعليم يغ ُّل يد ال ُمع ِّلم ،ويحرمه ال ُفرص التي يستخدم فيها مواهبه لنهوض التلامذة... وهي كلمة ح ٍّق ُأريد بها باطل؛ ...فضبط التعليم بالقواعد ُيق َصد منه الأمن عليه من عبث العابثين وخديعة المرائين ،على أ َّن في ضبط التعليم سعة من التفويض لاجتهاد ال ُمع ِّلم... ولع َّل صاحب المواهب من ال ُمع ِّلمين لا يزيده القانون إلا تعضيد ًا لمواهبه(((\". وو َّثق عبد الحميد عشاق من المعاصرين عدد ًا من الأمثلة ،تؤ ِّكد أ َّن الواقع التربوي المتخ ِّلف في المجتمعات الإسلامية اليوم كانت له جذور في مراحل تاريخية مختلفة. وقد أسهب في وصف ما صارت إليه بلاد المغرب في أحوالها الداخلية وعلاقاتها بالقوى الأوروبية المتف ِّوقة (((.ث َّم ع َّبر عن فهمه لجذور الأزمة التربوية المعاصرة ،قائ ًلاُ \" :يخ ِطئ ((( المرجع السابق ،ص.203 ((( عشاق ،عبد الحميد .داء العطب قديم :المشروع التربوي الإسلامي وعوائق التجديد ،الرباط :الرابطة المحمدية، 2015م ،ص.36-25 521
البعض في التأريخ لأزمة النظام التربوي الإسلامي ،ابتدا ًء من سيطرة الحكم التركي على البلاد الإسلامية ،أو بوصول الحملة الفرنسية إلى مصر ،أو بالاحتلال البريطاني بعد ذلك، أو بالاجتياح الفرنسي للجزائر .والح ُّق أ َّن داء العطب قديم ،ومقدمات الأزمة وموجبات الخلل بدأت قبل هذا التاريخ بكثير؛ إذ يمكن القول :إ َّن المشكلة التربوية برزت ونمت بموازاة بداية طور الانحطاط الذي ُيؤ َّرخ له في العادة بأفول حضارة الموحدين .فمنذ القرنين السادس والسابع لم يتم َّكن النظام التربوي الإسلامي من أ ْن يتح َّرر من الركود والعجز الذي أصابه ،فأخذ ابتدا ًء من القرن الثامن في التدهور والاضمحلال حتى مطلع القرن الرابع عشر الهجري ،فصار إلى ما صار إليه من العطل والضعف ،والتخ ُّلف عن مقتضيات الوقت ،وال ُب ْعد عن الواقع ،والدوران مع التقليد ،والرضا بالجمود ،والتو ُّقف عند آراء السابقين ،إ ّما بالشرح ،أو التلخيص ،أو التحشية ،أو النَّ ْظم \".ث َّم أشار المؤ ِّلف إلى أ َّن رصد ُمبت َدأ الانحدار جاء في نصوص كثير من علماء التراث الإسلامي ،وذكر منهم: أبو الحسن الماوردي (توفي450:ﻫ) ،وابن عبد البر (توفي463:ﻫ) ،والخطيب البغدادي (توفي463:ﻫ) ،وأبو حامد الغزالي (توفي505:ﻫ) ،وابن العربي (توفي543:ﻫ) ،والقاضي عياض (توفي544:ﻫ) ،وابن عساكر (توفي571:م) ،وابن الجوزي (توفي590:ﻫ) وابن تيمية (توفي728:ﻫ) ،والسبكي (توفي771:ﻫ) ،والشاطبي (توفي790:م) ،وابن خلدون (توفي808:ﻫ) ،وغيرهم(((. وهكذا نرى أ َّن تخ ُّلف المجتمعات الإسلامية قد بدأ بالانحراف عن روح العلم والتجديد التي يفرضها الإسلام ،وانتهى بالتخ ُّلف عن اكتساب الخبرة اللازمة للتعامل مع التط ُّور في ميادين الحياة ومتط َّلباتها .ففي حين كانت بعض الشعوب تكتسب علم ًا وخبر ًة جديد ًة ،تسبق بها ما كان معروف ًا في المجتمع المسلم ،كان المجتمع المسلم يستمر على حاله ،فيظهر تخ ُّلفه .والأمثلة على ذلك كثيرة في مجالات الصناعة ،وأدوات الحرب، ومؤسسات التعليم ،وغيرها .فالواقع المتخ ِّلف في المجتمعات الإسلامية المعاصرة ليس حصيلة الحقبة الزمنية الحديثة أو المعاصرة فحسب ،بل َث َّمة عناص ُر من التخ ُّلف رافقت حياة المجتمع الإسلامي من عصور سابقة ،وأ َّية جهود إصلاحية في الواقع التربوي الإسلامي لا ُب َّد أ ْن تأخذ ذلك بالحسبان. ((( المرجع السابق ،ص.58-43 522
خامس ًا :أزمة التعليم أزمة عالمية: من الإنصاف أ ْن نشير إلى أ َّن مشكلات التربية المعاصرة ليست مقصور ًة على بلدان العا َلم الإسلامي؛ فقد لاحظنا -م ّما سبق في فصول هذا الكتاب -أ َّن البحوث والدراسات التي تتح َّدث عن واقع التعليم في العا َلم تع ِّبر عن حالات كثيرة من القلق وعدم الرضا؛ إذ إ َّن كثير ًا من جهود الإصلاح والتغيير المتلاحقة كانت تبوء بالفشل في تحقيق أهدافها، وتستمر مشكلات التعليم في التوالي والتج ُّدد .ولع َّل من أسباب ذلك أ َّن مؤسسات التعليم تقوم -في الأساس -على توفير المعرفة لل ُمتع ِّلمين ،ولك َّن المعرفة هي في حالة زيادة وتج ُّدد سريعي ِن .وهذه الزيادة وهذا التج ُّدد يحدثان خارج المؤسسات التعليمية؛ في مراكز الفكر والبحث ومختبراتها .ويأخذ وصول المعرفة إلى مناهج التعليم وبرامج إعداد ال ُمع ِّلمين وقت ًا يطول أو يقصر ،فتتخ َّلف المعرفة في هذه المناهج والبرامج ،ور َّبما تصل إلى وسائل الإعلام قبل ذلك. إذا كان واقع الفكر التربوي المعاصر في العا َلم الإسلامي يعاني أزمات مح َّددة ،فهل لهذه الأزمات صلة بواقع الفكر التربوي السائد في عا َلم اليوم؟ إ َّن الانطباع العام الذي يمكن أ ْن نجد له توثيق ًا \"إمبريقي ًا\" من التحليلات البحثية القائمة على الإحصائيات والتقارير الرسمية المحلية والدولية ،أ َّن حالة التعليم في العا َلم المعاصر ،والفكر التربوي الذي يح ِّدد مواصفات هذه الحالة ،قد تش َّكلا بتأثير المرجعية الفكرية الغربية ،وأ َّن ذلك قد أدخل التربية والتعليم -خارج الغرب -في بعض الأزمات التي تخت ُّص بالهوية القومية أو الدينية ،لك َّن ذلك لا يعني أ َّن المصادر الغربية نفسها لا تدرك هذه الأزمة ،ولا تكشف عن تج ِّليات ُأخرى لأزمة التربية والتعليم في العا َلم الغربي نفسه ،وتتح َّدث عن أزمة عالمية في التعليم. فقد يكون مفيد ًا أ ْن ُنلقي الضوء على بعض تج ِّليات أزمة التعليم في العا َلم المعاصر، ولا سيما أ َّن التفكير في حالة العا َلم وقضاياه ومشكلاته ليس أمر ًا جديد ًا؛ فما كان إنشاء الإمبراطوريات في التاريخ القديم إلا نتيجة لهذا التفكير .ومعظم شعوب العا َلم في القديم كانت تتط َّلع إلى خارج حدودها ،ولذلك كانت ترسم خرائط و ُمص َّورات للعا َلم المعروف ،وتستخدمها في أغراض تخت ُّص بال ِّس ْلم والحرب. 523
وحالة العا َلم هي شأن من الشؤون التي لا ُب َّد للمسلم أ ْن يوليه الاهتمام اللازم. وم ّما يلفت النظر أ َّن التفكير في حالة العا َلم كان عند المسلمين منذ وقت مب ِّكر ،حتى في العهد المكي ،وهو ما و َّثقته الآيات الأُولى من سورة الروم﴿ .ﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ﴾ [الروم.]5-1: أ ّما اليوم ف َث َّمة قضايا متعددة في العا َلم لا تخ ُّص مجتمع ًا دون آخر ،مثل :تغ ُّير المناخ، والتل ُّوث البيئي ،وحقوق الملكية الدولية ،والعقاقير الطبية ،والتن ُّوع البيولوجي ،وأثر التعديل الوراثي في الحيوانات والنباتات و ُمن َتجاتها ،وما شابه ذلك؛ وكلها قضايا قد أصبحت مسائل علمية عالمية\" .وأصبح العلماء ،من الاختصاصات الطبيعية والاجتماعية، معتادين التفكير في هذه القضايا على المستوى العالمي .في المقارنة بين الاختصاصات، يمكن القول إ َّن هذه الظاهرة ر َّبما تحدث أكثر في الاختصاصات العلمية الطبيعية .وهكذا فالموضوعات وال ِفرق المتخ ِّصصة أصبحت عالمية ،وكذلك تدريب المتخ ِّصصين، لتصبح وسيل ًة لتغذية التوزيع الدولي للكفاءات ،وهو ما يجعل كل طالب دكتوراه جديد مشرو َع مهاجر في المستقبل(((\". وحين يكون الحديث عن العولمة والتدويل في التعليم ،فإ َّننا سنجد كثير ًا من البحوث والدراسات التي تتح َّدث عن أزمة عالمية في التعليم .وحين نتح َّدث عن حالة التعليم في العا َلم الإسلامي وما تعانيه من أزمات ،فإ َّن من الإنصاف أ ْن نشير إلى أ َّن مشكلات التربية المعاصرة ليست مقصورة على بلدان العا َلم الإسلامي. فمنذ منتصف القرن العشرين الميلادي ونحن نجد حديث ًا متواصل ًا عن أزمة عالمية في التربية والتعليم ،تتح َّدث عنها الدراسات والكتب والتقارير والصحف .وفكرة وجود أزمة عالمية جديدة في التعليم تك َّررت في كتابات فيليب كومب منذ كتابه الذي صدر عام 1968م ،وو َّثق فيه أعمال مؤتمر دولي عن أزمة التعليم في العا َلم عام 1967م (((،ث َّم في ((( حنفي ،ساري\" .أسلمة وتأصيل العلوم الاجتماعية\" ،مجلة المستقبل العربي ،العدد ( ،)451أيلول/سبتمبر 2016م ،ص.64-45 (2) Coombs, Phillip H. The World Educational Crisis: A Analysis System, New York and Oxford: Oxford University Press, 1968. 524
كتابه الذي صدر عام 1985م ،وحمل عنوان \"المشكلة العالمية في التعليم :رؤية من عقد الثمانينيات\" (((.ولك َّن الإشارة إلى هذا الموضوع تك َّررت في كثير من الكتب والبحوث والتقارير التي تصدرها مؤسسات دولية ،مثل :اليونسكو ،والبنك الدولي ،وهو موضوع ُأثير في كثير من المؤتمرات العالمية ذات الصلة بالتعليم ،التي تتك َّرر فيها الإشارة إلى أ َّن ُن ُظم التعليم العام في كثير من دول العا َلم أصبحت أق َّل كفاءة ،وأضعف صلة بالواقع. وتتح َّدث الأدبيات عادة عن مشكلات مح َّددة في النُّ ُظم التعليمية في الدول الغنية، تخت ُّص بتطوير المناهج ،وإعداد ال ُمع ِّلمين ،وربط نتائج التعليم بسوق العمل ،وأثر التط ُّور التكنولوجي ،والتن ُّوع المتزايد في خلفيات الطلبة .بيد أ َّن كثير ًا من التركيز ينصرف إلى التفاوت في حالة التعليم بين الدول الغنية والدول الفقيرة ،ولا سيما في ظاهرة عدم الالتحاق بالمدارس ،وضعف الموارد ،وق َّلة الإنفاق على التعليم ،ومشكلة تعليم الإناث، وأثر المعونات الخارجية ،وفشل تجارب التطوير ،وغير ذلك .وسنجد أ َّن مفتاح معالجة أزمة التعليم العالمية هو التعا ُون الدولي ،الذي لا يعني -في الأساس -تبادل الخبرات وتطويرها ،بقدر ما يعني تقديم خبرات الدول الغنية للدول الفقيرة. وتستكشف بعض هذه الأدبيات العلاقة المتبادلة بين الأزمة التعليمية والقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ،وتضع هذه العلاقة في سياق عالمي .ونذكر من ذلك على سبيل المثال مجموعة الدراسات التي تض َّمنها كتاب صدر عام 2015م، وعرض صور ًا للخطابات المتعددة في بيان أزمة التعليم في بلدان العا َلم ،اعتماد ًا على دراسات علمية .ويتك َّون الكتاب من أربع عشرة دراسة عن التعليم في بلدان مختلفة، من أوروبا وآسيا وإفريقيا ،تناولت التعليم المدرسي ،والتعليم الجامعي ،وإدارة التعليم، وتمويل التعليم ،وأثر التق ُّدم التكنولوجي ،والهجرة ،وقضايا العولمة والتع ُّددية الثقافية في التعليم ،وقضايا إعداد ال ُمع ِّلمين ،والعنف في المدارس ،وغير ذلك(((. (1) Coombs, Phillip H. The World Crisis in Education: The view from the Eighties, New York and Oxford: Oxford University Press, 1985. (2) Calogiannakis, Pella. & Papadakis, Nikos. & Ifanti, Amalia (Editors). Crisis in Education: Socio- Economic, Political and Cultural challenges, Nicosia, Cyprus: HM Studies. 2015. 525
وفي تقرير اليونسكو عن الاتجاهات العالمية للتعليم العالي الذي صدر عام 2009م، جاء في خاتمته ما يؤ ِّكد الصلة بين الاقتصاد والتعليم العالي ،ويب ِّين أ َّن الصلة بين الاقتصاد والتعليم العالي تستمر في تشكيل الفارق بين الدول؛ ذلك أ َّن \"التح ّدي الهائل الذي ينتظرنا هو التوزيع غير المتكافئ لرأس المال البشري ،والأموال التي ستسمح لبعض الدول بالاستفادة الكاملة من ال ُفرص الجديدة ،بينما تنحرف دول ُأخرى أكثر فأكثر(((\". وفي الخلاصة التنفيذية للتقرير ال ُمتض َّمن في هذا الكتاب تفصيلات عن الأزمة المالية التي ُته ِّدد العا َلم بصورة عامة ،والتي ستكون لها آثار كثيرة في التعليم العالي ،بعضها يمكن التن ُّبؤ به م ّما هو قائم الآن ،ولك َّن بعض الآثار لم تتضح بع ُد .وبطبيعة الحال ،فإ َّن الدول النامية ستكون أكثر تأ ُّثر ًا ،ولك ْن \"لا أحد يعرف مدى عمق الأزمة أو طولها .ومع ذلك، فإ َّن معظم الخبراء يش ِّككون في الشفاء السريع .وبالتالي ،فمن ال ُمر َّجح أ َّن التعليم العالي يدخل فترة من التخفيضات المهمة .ليس هناك ش ٌّك في أ َّن التعليم العالي يدخل فترة أزمة، لم يسبق لها مثيل منذ الحرب العالمية الثانية ،والتأثير الكامل لم يتضح بع ُد(((\". ولع َّل من المهم ملاحظة أ َّن أدبيات الأزمة العالمية في التعليم -عندما تتح َّدث عن المجتمعات الإسلامية -تهتم بالجوانب الإحصائية ،مقارن ًة بالمجتمعات الأُخرى ،ولا تهتم بتج ِّليات الأزمة التي تخت ُّص بالخصوصيات الفكرية والثقافية لهذه المجتمعات. ومع ذلك ،فلا نن ِكر أ َّن بعض تقارير المنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) قد لفتت الانتباه إلى هذه المسألة؛ ففي التقرير الذي نشرته اليونسكو عام 2009م ،تم التح ُّدث باستفاضة عن أزمة التربية في العا َلم ،في سياق التح ُّولات الاقتصادية والتقانية التي يم ُّر بها العا َلم ،فضل ًا عن بيان حالة التعليم في البلدان النامية ،مقارن ًة بالبلدان الغنية ،في مجال المهارات التقانية واللغوية .ولم ين َس التقرير الإشارة إلى الخطر الذي يته َّدد الخصوصيات الثقافية للمجتمعات ،فتح َّدث ع ّما س ّماه الصراع من أجل روح (1) Altbach, Philip G. & Reisberg, Liz. & Rumbley, Laura E. Trends in Global Higher Education: Tracking an Academic Revolution, A Report Prepared for the 2009 World Conference on Higher Education, Paris: UNESCO, 2009, p. 171. (2) Ibid., page xx, from the Executive Summary of the Report. 526
التعليم العالي ،وجاء فيه\" :خضعت المهمة المجتمعية التقليدية للتعليم العالي إلى ضغوط متزايدة ،بدء ًا من منتصف القرن العشرين .فالجامعات التي ُين َظر إليها تقليدي ًا على أ َّنها مؤسسات ثقافية رئيسية لتكون مسؤولة عن التنوير الثقافي والاجتماعي العام ،أصبحت ُمل َزمة بشكل متزايد للتعامل مع العديد من الضغوط الجديدة ال ُمو َّضحة في هذا التقرير. فقد فرض \"تسويق\" التعليم العالي ضغط ًا كبير ًا على رسالته الاجتماعية \".وسوف يستمر الجدل حول المهمة الأساسية وأولويات التعليم العالي في أجزاء كثيرة من العا َلم ،وسوف تزداد المع ِّوقات التي تحاول حماية الأنشطة التي تخدم الصالح العام للمجتمع في مواجهة القيود المالية المتزايدة ومتط َّلبات السوق .وسوف يواجه كل مجتمع تحديات التوا ُزن بين الاحتياجات والأولويات المحلية مع المعايير والممارسات والتوقعات المح َّددة على المستوى الدولي .هل ستر ِّكز البحوث على الاحتياجات والأولويات التعليمية المحلية أم تكون أكثر ميل ًا لمتابعة القضايا الأكثر جاذبية للمجلات الدولية والمم ِّولين؟(((\". ومع وجود ملامح عامة مشتركة لأزمة التربية في بلدان العا َلم ،فإ َّن لكل بلد مشكلاته الخاصة .ويمكن توثيق الحديث عن مشكلات التعليم في كل بلد؛ ففي مجلة \"وقائع التعليم العالي\" Chronicle of Higher Educationالأمريكية حديث متواصل عن مشكلات تعليمية متن ِّوعة تخت ُّص بقضايا الإدارة ،والتمويل ،والمناهج ،والعنف، والسلوك الأخلاقي ،وغير ذلك .وفي بريطانيا نشر الموقع الإلكتروني ال ُمس ّمى المحادثة The Conversationفي 20فبراير 2019م ،تقرير ًا ُمط َّولاً حمل عنوان \"النظام المدرسي في إنجلترا في أزمة\" ،England’s school system is in crisisوتح َّدث عن عدد من المشكلات ،مثل :النقص في عدد ال ُمد ِّرسين ،والتدريس من أجل الاختبارات ،وعدم تكافؤ ال ُفرص بين مدارس تأخذ رسوم ًا عالي ًة ،ويدخلها أبناء الأغنياء ،ومدارس ُأخرى يدخلها أبناء العامة ،ولا يتوافر فيها التعليم الجيد .وتح َّدث التقرير كذلك عن الجامعات البريطانية ،فذكر أ َّنها تعاني أزمات مالية خطيرة ،جعلتها تعرض برامج تستقطب مزيد ًا من الطلبة دون شروط ،وبذلك ح َّولت الطلبة إلى عملاء أو زبائن .customersوأخذت (1) Ibid., P. 170 527
الجامعات ُتس ِّوق نفسها بوصفها الأكثر جاذبية من حيث \"قابلية التوظيف\" ،للتعامل مع أزمة تناقص ال ُفرص المتاحة في سوق العمل .وقد تض َّمن التقرير ما يشير إلى التزايد في معدل التض ُّخم في العلامات ،ومنح عدد كبير جد ًا من الطلبة أعلى الدرجات(((. وقد نشرت مجلة \"الغارديان\" البريطانية ُمؤ َّخر ًا ( 18نيسان/أبريل 2019م) مقالاً ُمط َّولاً عن أزمة التعليم في بريطانيا ،تض َّمن موضوعات ِع َّدة ،أهمها :نقص عدد ال ُمع ِّلمين، ورغبتهم في ترك العمل بسبب الأعباء المتزايدة عليهم ،ونقص الإنفاق على التعليم؛ ما أ ّدى إلى نقص الخدمات المدرسية ،وزيادة عدد الطلبة في الصف الواحد ،وتع ُّرض الأساتذة لعنف الطلبة .وذكر التقرير أ َّن نحو %26من ال ُمع ِّلمين ذوي الخبرات التي تق ُّل عن خمس سنوات ق َّرروا ترك مهنة التعليم قبل عام 2024م؛ لأ َّنه يتع َّين على ال ُمع ِّلم أ ْن يعمل ( )70-60ساعة في الأسبوع ،ليس لتعليم الأطفال ،وإ َّنما لتمكينهم من الحصول على علامات في الاختبار(((. وجاء في تقرير للبنك الدوليُ ،ن ِشر على موقعه الإلكتروني بتاريخ 22يناير (كانون الثاني) 2019م ،ما ن ُّصه\" :إ َّن العا َلم يواجه أزمة في التعليم .فعلى الرغم من التزايد الكبير في ُفرص الحصول على التعليم ،فإ َّن الالتحاق بالمدرسة لا يعني حصول التعليم بالضرورة؛ فمئات الملايين من الأطفال الذين يدخلون المدارس في جميع أنحاء العا َلم يصلون إلى س ِّن البلوغ دون إتقان بعض المهارات الأساسية التي تتط َّلبها الحياة المعاصرة ،ولا يكتسبون ما َيلزمهم لإتقان مهنة مناسبة ،أو بناء أسرهم ،وإحسان تربية أطفالهم .ويشير التقرير إلى أ َّن أهم مشكلة في توفير التعليم المدرسي هي وجود ال ُمع ِّلم الجيد .فإذا كانت أزمة التع ُّلم هي في جوهرها أزمة تعليمية ،فإ َّن الطلبة يحتاجون إلى ُمد ِّرسين جيدين ،بالإضافة إلى أهمية التكنولوجيا الحديثة في تحسين التعليم(((\". (1) https: //theconversation.com/englands-school-system-is-in-crisis-could-labours-national- education-service-be-the-solution-111555. (2) https: //www.theguardian.com/education/2019/apr/18/english-schools-will-see-super-sized- classes-warns-teachers-union. (3) https: //www.worldbank.org/en/news/immersive-story/2019/01/22/pass-or-fail-how-can-the- world-do-its-homework. 528
ونلا ِحظ أ َّن أكثر ما ُين َشر عن أزمة التعليم في العا َلم يخت ُّص بالمقارنات بين الدول المتفاوتة في متو ِّسطات الدخل المالي ،وأ َّن ما ُيعت َمد عليه فيما ُين َقل عن حالة التعليم في العا َلم هو ما يتوافر من معلومات عن المجتمعات التي تشارك في الاختبارات الدولية ،مثل: اختبار ((( ،PISAواختبار ((( .TIMSSوكذلك يتم الاعتماد على بيانات الدول المختلفة التي يو ِّفرها البنك الدولي .ف َث َّمة حالا ٌت لا تتوافر فيها المدارس ،وحالات تتوافر فيها المدارس، ولك َّن الطلبة يتس َّربون منها دون أ ْن يمتلكوا أساسيات التعليم ،وحالات ينهي فيها الطلبة تعليمهم المدرسي من دون أ ْن تق ِّدم لهم المدارس تعليم ًا جيد ًا .والتعليم الجيد في مثل هذه الدراسات يتم َّثل في مهارات القراءة والكتابة ،والحساب ،واستعمال التكنولوجيا، واكتساب مهارات الحياة. وقد نشر البنك الدولي عام 2014م كتاب ًا عن نتائج تقويم 22برنامج ًا من برامج الإصلاح التربوي في 11دولة في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية ،وكان عنوان الكتاب \"جعل المدارس تعمل :دليل جديد عن المساءلة في برامج الإصلاحات\" .وقد وصف الكتاب المخاطر التي تواجه نوعية التعليم في العا َلم لأسباب لا تتع َّلق بق َّلة الموارد ،وق َّدم بيانات عن حالات تم فيها تطوير سياسات تعليمية ،لكنَّها لم ُت ْف ِض إلى التحسين الذي كان مأمولاً .وكذلك ب َّين الكتاب حجم هذا الفشل وكلفته ،ورأى أ َّن السبب العميق للفشل هو ضعف المساءلة بين الأطراف التي تق ِّدم الخدمة التربوية من جهة ،وال ُمش ِرفون على البرامج وال ُمع ِّلمون من جهة ُأخرى .وأ َّكد الكتاب أ َّن التربية التي هي \"بؤرة بناء رأس المال البشري\" في أزمة حقيقية ،وبخاصة أ َّن إنتاجية %56من أطفال العا َلم هي أق ُّل من نصف ما يمكن أ ْن يؤدوه لو توافر لهم التعليم الجيد(((. وال ُملا َحظ أ َّن معظم ما تنشره المؤسسات الدولية عن أزمة التعليم في العا َلم ،ومعظم ما تنتهي إليه توصيات المؤتمرات الدولية بخصوص إصلاح التعليم في العا َلم ،على مدار نصف القرن الماضي؛ لا تزال تدور في الفلك نفسه الذي د َّشنه المؤتمر الدولي الذي (1) Programme for International Student Assessment. (2) Trends of International Mathematics and Science Study. (3) http: //documents.worldbank.org/curated/en/483221468147581570/Making-schools-work- new-evidence-on-accountability-reforms. 529
ُع ِقد في وليامزبرغ /فرجينيا في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1967م ،والذي ل َّخص أزمة التعليم في العا َلم بأ َّنها تتم َّثل في تخ ُّلف الدول النامية والفقيرة عن الدول المتقدمة والغنية .و ِم ْن َث َّم ،فلا ُب َّد أ ْن تستفيد الدول النامية م ّما تو َّصلت إليه الدول المتقدمة ،ولا ُب َّد أ ْن تق ِّدم الدول المتق ِّدمة الدعم التربوي للدول النامية ،وعلى نح ٍو لا يخلو من روح الاستعلاء والتمركز الغربي. وقد أشار تقرير المؤتمر المذكور آنف ًا إلى الأسباب التي تجعل القادة التربويين وال ُمع ِّلمين في البلدان النامية يدركون بسرع ٍة ووضو ٍح حاجتهم إلى التخ ّلي عن \"الفولكلور والموانع الأُخرى\" التي تمنعهم من انتهاج اتجاه تربوي جديد لبلادهم \".ومع ذلك ،فإ َّن المؤ ِّلف ُيطم ِئن هؤلاء القادة التربويين أ َّنهم إ ْن فعلوا ذلك فلن يكون بعيد ًا ذلك اليوم الذي يمكن فيه أ ْن تتجه التحديثات التربوية من الأمم الفقيرة إلى الأمم الغنية. وأ َّكد التقرير أ َّن أ َّية استراتيجية للتطوير التربوي في أ ِّي بلد يجب أ ْن تأخذ بالحسبان أ َّن على كل مجتمع -مهما كانت حالته في الغنى أو الفقر -أ ْن يصنع مصيره التربوي بنفسه .ولك َّن المؤ ِّلف يؤ ِّكد -في الوقت نفسه -أ َّن أ َّي مجتمع لا يستطيع ذلك منفرد ًا. ومع ذلك ،فقد أ َّكدت التوصية الأُولى لمداولات ذلك المؤتمر أ َّن التعليم هو الشاغل المركزي لجميع الشعوب في العا َلم .ولك ْن ،من ال ُمؤ َّكد أ َّن الخطط التربوية لا تتم بأقصى نجاح ممكن إلا بالقياس إلى النُّ ُظم والخطط التربوية في البلدان الأُخرى. 530
المبحث الثاني المرجعية في الفكر التربوي المعاصر: لا خلاف على أ َّن الواقع التربوي المعاصر في العا َلم الإسلامي يتل َّون بلون الفكر التربوي السائد في العا َلم ،ويغلب عليه الفكر الغربي بمفاهيمه ونظرياته وممارساته، والأهم من ذلك كله مرجعياته الفكرية .ولذلك ،فإ َّن من المفيد التو ُّسع في تحليل المرجعية الفلسفية والعملية للفكر التربوي الغربي السائد ،حتى ُيس ِهم ذلك في فهمنا لواقع الفكر التربوي المعاصر في العا َلم الإسلامي ،وفي بناء رؤيتنا لكيفية التعامل مع هذه المرجعية الغربية في سعينا لإصلاح واقعنا التربوي. لا يوجد فكر تربوي يفتقد المرجعي َة التي ينطلق منها ،ويتأ َّطر بحدودها الفلسفية والثقافية والاجتماعية .و ِم ْن َث َّم ،فإ َّن من ال ُمتو َّقع أ ْن يتل َّون الفكر التربوي؛ مضمون ًا وممارسات ،في أ ِّي مجتمع ،بِ َل ْون المرجعية الفكرية والثقافة الخاصة بذلك المجتمع، و َل ْون القيم والأعراف والتقاليد السائدة فيه .وهذا تعبير عن تح ُّي ِز لا مناص منه؛ إذ ليس من ال ُمتو َّقع في الحالة الطبيعية أ ْن تتجه التربية إلى الانتقاص من قيم المجتمع ،أو الح ِّط من شأن الأعراف والتقاليد فيه؛ فهي تدعمها ،وتك ِّرسها ،وتزيد حرص الطلبة عليها، وافتخارهم بها .وتتم َّثل مهمة ال ُمر ّبي وال ُمع ِّلم في التأ ُّكد من ذلك ،وتنظيم الموقف التربوي الذي يتيح للطلبة ُفرص الفهم والتفكير والموازنة ،التي تم ِّكنهم من تبنّي قيم مجتمعهم عن إيمان وقناعة ،والكشف عن المشكلات التي قد تم ِّثل انحراف ًا عن هذه القيم وكيفية معالجتها ،وتمكينهم -في نهاية المطاف -من أداء مهماتهم المستقبلية في بناء مجتمعهم ،وتنميته ،وتعزيز هويته. وتظهر أهمية المرجعية في الفكر التربوي الإسلامي في مفهومها الذي سنعرض إليه؛ فهي أساس المعتقدات والقيم والأفكار التي يك ِّونها الفرد (أو المجتمع) عن نفسه ،وعن الكون والحياة ،وتش ِّكل معيار ًا للمواقف والسلوك في القضايا الفرعية ،بما تتمتع به من الثبات ،وبعمق أثرها الكامن في عقول أصحابها وقلوبهم ،وفي قدرتها على بناء عناصر التوا ُفق بين مك ِّونات المجتمع ،حين تتفق على المرجعية ،وتفسير أسباب الخصومات والصراعات التي تظهر غالب ًا في صورة خلافات تتع َّلق بالمرجعية؛ فوحدة المرجعية صمام أمان المجتمع من الاختلافات والنزاعات. 531
وتبرز أهمية هذه المرجعية كذلك من صلتها الوثيقة بفلسفة التربية ،وسياساتها، وبرامجها ،وممارساتها؛ فهذه المرجعية -في نهاية المطاف -هي رؤية للعا َلم تق ِّدم تص ُّو َرنا وفه َمنا للإنسان ،الذي هو موضوع التربية .فشخصية الإنسان في جانب ْيها العقلي والنفسي، واستعداده الفطري للتع ُّلم واكتساب المعرفة ،والطرق والبرامج والأساليب الأكثر كفاءة في التع ُّلم والتعليم ،ومادة العلم التي يحتاج إليها الإنسان ،وغير ذلك من أسس التربية الفلسفية ،والنفسية ،والاجتماعية ،والمعرفية؛ كل ذلك يتح َّدد في ضوء المرجعية. وقد عالجنا في الفصل الأول من هذا الكتاب موضوع الفلسفات والمرجعيات الحديثة في الفكر التربوي الغربي .أما في هذا الموقع من الفصل الأخير من الكتاب فإننا نعالج مفهوم المرجعية في حد ذاته ،ونشير -بإيجاز -إلى أنواع المرجعية ،ومستوياتها، ونب ِّين بعض الملامح العامة في مرجعية الفكر الغربي ،ونو ِّضح المقصود بعد ٍد من هذه الفلسفات ،وبعض تم ُّثلاتها في الفكر التربوي المعاصر .ونهدف من ذلك إلى الإسهام في فهم الفكر التربوي السائد في المجتمعات المسلمة ،في حالته الراهنة والمنشودة ،وتيسير ُسبل إعادة الفكر التربوي الإسلامي المعاصر إلى مرجعيته؛ ليؤدي مهمته في الإصلاح التربوي ،وفي الإصلاح الشامل لمجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة. أولاً :مفهوم \"المرجعية\" ،وأنواعها ،ومستوياتها: المرجعية في اللغة مصدر صناعي ،أ ْص ُله الفعل الثلاثيَ :ر َج َع ،ومنه :الرجوع، والمرجع .فالمرجع هو المرجوع إليه ،ويعني عود ًة بالفكرة أو الموضوع أو القضية إلى أص ٍل ُمعت َمد ،أو حال ٍة ُيقاس عليها .وفي القرآن الكريم تشترك ألفاظ الرجوع والعودة وال َّر ِّد في توضيح عدد من المعاني ذات الصلة ببعضها .ونختار أ ْن نشير إلى ما يق ِّدمه لفظا \"رجع\" و\"ر َّد\" م ّما له صلة بالمرجعية .قال تعالى﴿ :ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﮞﮟﮠ﴾ [العلق ،]8-6:فكيف يستغني الإنسان عن ر ِّبه وهو ُمفت ِقر إليه؟! \"إ َّن استغناءه غير حقيقي؛ لأ َّنه ُمفت ِقر إليه في أهم أموره ،ولا يدري ماذا ُيص ِّي ُره إليه ر ُّبه من العواقب ،فلا َي ْز َد ِه بغن ًى زائف في هذه الحياة ،فيكون \"ال ُّر ْج َعى\" ُمستع َمل ًا في مجازه ،وهو الاحتياج إلى المرجوع إليه(((\". ((( ابن عاشور .تفسير التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،30ص.446 532
وفي قصة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم﴿ :ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ﴾ [يوسف ،]50:لا ُب َّد من كشف الحقيقة ،واعتراف َمن صدر منه الاتهام ببراءة الم َّت َهم ،فكان المطلوب أ ْن \"يعود\" الرسول إلى ال َم ِلك قبل أ ْن يل ّبي يوسف طلبه بالحضور؛ من أجل \"مراجعة\" ملف الاتهام، والتح ُّقق من البراءة على لسان َمن صدر منه الاتهام ،وبذلك ُي َر ُّد الأمر إلى نصابه .فالمرجعية تعني -في السياق الذي نحن فيه -العودة والر َّد .ومعنى الر ِّد يتضح تمام ًا في عدد من الآيات القرآنية ،مثل قوله تعالى﴿ :ﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇ﴾ [النساء ،]59:وقوله سبحانه: ﴿ﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ﴾ [النساء .]83:فالر ُّد هنا هو تفويض إلى مرجع أعلى مقام ًا ِمن مواقف َمن يختصمون في فهم الحكم. \"وعلى هذا ،فاستعارة فعل \"رجع\" بهذا المعنى في الفكر العربي والإسلامي المعاصر ،والذي منه \"المرجع\" و\"المرجعية\" ،يعني أ َّن المرجوع إليه ،الذي ُي َر ُّد ويعاد إليه، أص ٌل ومبد ٌأ كل ٌّي جام ٌع ،يحسم الخلاف ،وينهي النزاع؛ إذ غالب الرجوع بما هو ر ٌّد وعودة إلى أصل يكون بعد خلاف في فرع أو نزاع (((\".ومن الواضح أ َّن ال َّر َّد إلى الأصل والرجوع إليه لحسم الخلاف لا يكون جزء ًا من عناصر الخلاف ،وإ َّنما هو \"مرجعية\" مشتركة للمختلفين؛ لأ َّنها تعبير عن الهوية الأصلية التي تجمعهم ،والذات الحضارية المم ِّيزة لهم. وفي دائرة العلوم الإسلامية اختلف الناس قديم ًا ،ولا يزالون يختلفون ،في \"المرجعية\" التي يرجعون إليها لحسم الاختلاف في الرأي ،أو الحكم على مسألة من المسائل؛ ف َث َّمة َمن لا يرى مرجعي ًة إلا القرآن الكريم ،و َمن يرى أ َّن ال ُّسن َة قاضي ٌة على القرآن الكريم ،و َمن يرى مرجعية عمل الصحابة أو أهل المدينة ،و َمن يق ِّدم التجربة التاريخية التي يع ِّبر عنها التراث ،و َمن يرى الأحكام الفقهية الخاصة بالمذهب أو بإمام المذهب. وكان مثل هذا الاختلاف على المرجعية سبب ًا في ظهور تيارات فكرية تع َّصب لها أتباعها بصورة أفقدت الأُ َّمة وحدتها .مع العلم بأ َّن الله سبحانه أراد أ ْن يكون الوحي الإلهي والهدي النبوي ،لتنزيل هذا الوحي في الواقع ،مرجعي ًة لل ُأ َّمة لا يزيغ عنها إلا هالك .بل ((( شبار ،سعيد\" .في مفهوم المرجعية واستعمالات الفكر العربي والإسلامي المعاصر\" ،مجلة دراسات مصطلحية (المغرب) ،العدد (1423( ،)2ﻫ2002/م) ،ص.86 533
إ َّن الله سبحانه أراد أ ْن تكون هناك مرجعية تجمع المؤمنين وأهل الكتاب على كلمة سواء. قال تعالى﴿ :ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭺﭻﭼﭽ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃ[ ﴾...آل عمران .]64:وكان التشريع المدني الذي صاغه النب ُّي ص ّلى الله عليه وس َّلم في \"وثيقة المدينة\" مرجعي ًة لك ِّل َمن كان في المدينة ِمن المسلمين وغيرهم. فتحديد المرجعية هو سعي لأمر كلي جامع ،تصاغ فيه المشتركات التي يتفق عليها أفراد المجتمع وفئاته ،وهو الإطار الجامع الذي يح ِّقق أكب َر قد ٍر من المصالح ،ويدرأ أكب َر قد ٍر من المفاسد ،دون أ ْن يعني ذلك إلغاء الاختلافات الجزئية في المذاهب والمدارس الفكرية. وهكذا ،فإ َّن المرجعية مصطل ٌح يشير إلى المعتقدات والمبادئ والقيم التي تش ِّكل مرجع ًا حاكم ًاُ ،ير َجع إليه عند الحكم على موقف ،أو رأي ،أو سلوك بالصواب أو الخطأ. وبذلك تم ِّثل المرجعية سلط ًة ،Authorityتتصف بأ َّنها قاضية عند الخلاف ،أو تم ِّثل إطار ًا مرجعي ًا ،Frame of Referenceتستند إليه الإجراءات والخطوات العملية في الشؤون العامة السياسية ،أو الاقتصادية ،أو الاجتماعية ،أو التربوية ،أو القانونية ،أو غيرها. وتكون المرجعية في مستويات متعددة؛ ف َث َّمة مرجعي ٌة كلية تع ِّبر عن المعتقدات والقيم الخاصة ب ُأ َّمة من الأمم ،وهويتها ،وخصائصها .و ُتع َرف المرجعية أحيان ًا ،في هذا المستوى ،بالرؤية الكلية ،أو رؤية العا َلم ،Worldviewالتي تح ِّدد المعتقدات الخاصة بالعا َلم الطبيعي والاجتماعي والنفسي ،مثل :أصل الكون والحياة والإنسان ،وقيم السلوك ،ومسائل المعرفة ،والموت والحياة ،والخير والشر ،والتاريخ والثقافة والحضارة. فالمرجعية في هذا المستوى الأعلى؛ مستوى العقيدة أو الفلسفة الكلية\" :هي الفكرة الجوهرية التي تش ِّكل أساس كل الأفكار في نموذج معين ،والركيزة النهائية الثابتة له ،التي لا يمكن أ ْن تقوم رؤية العا َلم دونها ...والمبدأ الواحد الذي ُت َر ُّد إليه ك ُّل الأشياء ،و ُتن َسب إليه ... ،ومن هنا ،يمكن القول بأ َّن المرجعية هي المطلق المكتفي بذاته ،والذي يتجاوز كل الأفراد والأشياء والظواهر ،وهو الذي يمنح العا َلم تماسكه ونظامه ومعناه ،ويح ِّدد حلاله وحرامه(((\". ((( المسيري ،عبد الوهاب .الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان ،دمشق :دار الفكر ،الإعادة الثانية2007 ،م ،ص.36 534
و ُيط ِلق الـ َم ِسير ُّي على هذا المستوى التجريدي الأعلى من المرجعية مصطلح \"المرجعية النهائية\" ،و ُيم ِّيز بين نوعين منها؛ النوع الأول :هو مرجعية نهائية متجاوزة، خارج الطبيعة المادية ،ومتجاوزة لها؛ وهي رؤية للعا َلم ،والعنصر الأساس فيها هو وجود الإله الخالق\" ،الواحد ال ُمن َّزه على الطبيعة والتاريخ ،الذي يح ِّركهما ،ولا يح ُّل فيهما \".أ ّما الإنسان فبالرغم من أ َّنه جزء من الطبيعة ،فإ َّن له حال ًة خاص ًة يتجاوز بها الطبيعة ،فلا يذوب فيها\" .فالإنسان قد خلقه الله ،ونفخ فيه من روحه ،وك َّرمه ،واستأمنه على العا َلم ،واستخلفه فيه؛ أي إ َّن الإنسان أصبح مركز الكون بعد أ ْن حمل عبء الأمانة والاستخلاف ....ولذا فهو يظل مقولة مستقلة داخل النظام الطبيعي .كما أ َّنه يعني أ َّن إنسانية الإنسان وجوهره الإنساني مرتبط تمام الارتباط بالعنصر الرباني فيه\". أ ّما النوع الثاني من المرجعية النهائية فهو المرجعية النهائية الكامنة؛ وهي كذلك رؤية للعا َلم ،الذي يكون فيها محتوي ًا في داخله \"ما يكفي لتفسيره دون حاجة إلى اللجوء إلى أ ِّي شيء خارج النظام الطبيعي ،...ففي إطار المرجعية الكامنة لا يوجد سوى جوهر واحد في الكون ،مادة واحدة يتك َّون منها ك ُّل شيء ... ،ونحن نذهب إلى أ َّن كل النُّ ُظم المادية تدور في إطار المرجعية الكامنة .ومن هنا ،كانت إشارتنا إلى المادية باعتبارها وحدة الوجود المادية \".فالإنسان في هذه المرجعية النهائية الكامنة \"كائ ٌن طبيعي ،وليس مقولة مستقلة داخل النظام الطبيعي ،وإ َّنما هو ُمستو َعب تمام ًا فيه ،ويسقط تمام ًا من قبضة الصيرورة، فتسقط المرجعية الإنسانية ،وتصبح الطبيعة /المادة هي المرجعية النهائية\". و َث َّمة صور ٌة ُأخرى للمرجعية النهائية الكامنة ،تتم َّثل في صورة ُأخرى هي \"وحدة الوجود الروحية\" التي تؤ ِمن بوجود الإله الواحد ،ولكنَّه حا ٌّل في الوجود ،وكامن فيه؛ فهو\" :إله َي ِح ُّل في مخلوقاته ،ويمتزج ث َّم يتو َّحد معها ،ويذوب فيها تمام ًا ،بحيث لا يصير له وجود دونها ،ولا يصير لها وجود دونه ...فهو إله اسم ًا ،ولكنَّه هو الطبيعة/ المادية فعل ًا(((\". ث َّم إ َّن المرجعية أنواع متعددة؛ فقد تتم َّثل في القوانين والتشريعات التي يتفق عليها المنتمون إلى مجتمع أو دولة لإدارة شؤونهم ،وتكون في صورة دستور الدولة وما ينبثق عنه من قوانين هي مرجعية لتلك الدولة. ((( المرجع السابق ،ص.39-37 535
ومن أنواع المرجعية ما تع ِّبر عنه وثائق الاتفاقات الخاصة بين الأفراد ،أو الجماعات، أو الدول؛ أو مجل ٌس يوكل إليه مهمة إصدار الفتوى في قضايا فقهية ،أو قانونية .و َث َّمة ُأط ٌر مرجعية خاصة لكل مهنة من المهن .وقد تكون المرجعية في صورة أفكار واجتهادات لشخصية علمية ،أو فكرية ،أو سياسية ،أو في كتاب يجمع هذه الأفكار؛ فالإمام الشافعي هو مرجعي ُة المذهب الشافعي ،وأفلاطون مرجعي ٌة في الفلسفة المثالية ،وفرويد مرجعي ٌة في علم النفس التحليلي ،ودارون مرجعي ُة التط ُّور العضوي ،وهكذا .والقرآن الكريم هو المرجعية العليا للمسلمين ،والإنجيل (أو مجموعة الأناجيل الأربعة ال ُمس ّماة العهد الجديد) هو المرجعية العليا عند المسيحيين ،وكتاب \"ثروة الأمم\" من تأليف آدم سميث (توفي1790:م) كتاب مرجعي في علم الاقتصاد الحديث ،وهكذا(((. وقد دأبت شعوب العا َلم -على مدار التاريخ -على تحديد خصوصيات دينية أو دهرية ،اتخذتها مرجعي ًة لها في ُن ُظمها الداخلية وعلاقاتها الخارجية ،ولك َّن شعوب العا َلم دخلت -منذ منتصف القرن العشرين -في مرحلة ،أخذت فيها خصوصياتها ُت ْخ ِلي مواق َعها أمام \"الشرعية الدولية\" ،بوصف هذه الشرعية مرجعي ًة لا سبيل إلى تجاوزها .وقد بدأت الشرعية الدولية أ َّول الأمر بصورة قرارات سياسية وعسكرية ،لكنَّها أصبحت بالتدريج مبادئ في حقوق الإنسان ،والثقافة السكانية ،والمجتمع المدني ،وحقوق المرأة ،ومفهوم \"الأسرة\" ،وغيرها .وبذلك أصبحت \"مرجعية\" الشرعية الدولية \"قيم ًا دولي ًة\" يتم َتبنّيها؛ طوع ًا ،أو كره ًا .والأخطر من كل ذلك أ َّنها أصبحت موضوعا ٍت للحرب الفكرية التي ترافِق أشكال الحرب الأُخرى ،أو بديل ًا \"ناعم ًا\" عن أشكال الحرب الأُخرى ،وبات هدفها كسب العقول والقلوب ،ودارت رحاها في ميادين التعليم والإعلام والمؤتمرات الإقليمية والدولية ،وحاولت فيها القوى الكبرى في العا َلم أ ْن تنش َر مباد َئها وقي َمها ،وتفر َضها على الكيانات الضعيفة(((. ((( المراجع :هي الكتب التي يرجع إليها الباحث أو المؤ ِّلف ،ويشير إليها في توثيق الأفكار التي استفادها منها. والكتب المرجعية في علم المكتبات :هي الكتب التي ُج ِمعت مادة ك ٍّل منها بصورة تي ِّسر على الباحث الوصول إلى ما يريده من الكتاب ،دون أ ْن يكون بحاجة إلى قراءة الكتاب كامل ًا. ((( ملكاوي ،فتحي حسن\" .الصراع على مرجعية القيم في العالم المعاصر\" ،ورقة علمية ُق ِّدمت في :المؤتمر الرابع لمركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق ،جامعة حمد بن خليفة ،الدوحة ،قطر 3-2 ،أبريل (نيسان) 2016م. 536
وبصورة عامة ،فإ َّن المرجعية الفكرية في مستوياتها الفرعية تنبثق -في الأساس- من المرجعية الكلية؛ فهذه المرجعية هي رؤية للعا َلم ،وتص ُّور كلي ،ولا يقتصر مجالها على ال ُب ْعد العقدي ،وإ َّنما يمتد ليشمل نظام الحياة وما يتصل به من تشريعات في الحكم، والاقتصاد ،والقانون ،والتربية ،والإعلام ،وغير ذلك .وهي تح ِّدد منهج التفكير والنظر والبحث ،والتعامل مع الأفكار والأشياء والأحداث. وقد ك ُثر الجدل السياسي والإعلامي في السنوات الأخيرة حول مصطلح \"المرجعية الإسلامية\" ،وذلك في سياق الحديث عن الدولة الحديثة التي تسعى المجتمعات العربية والإسلامية إلى بنائها .ف َث َّمة تيارا ٌت تريد أ ْن تقتفي أثر الغرب في بناء دولة مدنية ،تفصل الدين عن الحياة العامة؛ لتكون الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية مستقلة عن الأحكام الدينية .وقد تأ َّثرت هذه التيارات بمفهوم \"الدولة المدنية\" مقابل مفهوم \"الدولة الدينية\" بالمعنى اللاهوتي الكنسي الذي عرفته أوروبا .و َث َّمة تيارا ٌت ُأخرى لا ترى مشكلة في أ ْن تكون الدولة \"مدني ًة\" بمعنى غير عسكرية ،وغير دينية بالمعنى الأوروبي المشار إليه؛ شريطة ألا تكون \" َم َدن َّية الدولة\" طريق ًا لاستبعاد الدين من الحياة العامة .فالدين في المجتمعات الإسلامية هو الهوية الأصلية المم ِّيزة للهوية الجامعة والذات الحضارية. لذلك ،لا ُب َّد أ ْن تكون \"المرجعية الإسلامية\" أساس ًا لأ َّية تشريعات مدنية .أ ّما الدولة الدينية التي عرفتها أوروبا في القرون الوسطى فهي شيء مختلف عن تشريعات الإسلام والمرجعية الإسلامية. ثاني ًا :ملامح عامة في مرجعية الفكر التربوي الغربي: تستمد معظ ُم مجتمعاتنا المسلمة اليوم فك َرها التربوي ،بمفاهيمه ومبادئه وممارساته، من التجربة الغربية المعاصرة .ولذلك نجد من الضروري أ ْن نكون على تمام الوعي بمرجعية الفكر التربوي السائد في البلدان الغربية؛ لنتب َّين ما قد يكون من خطر في استيراد هذا الفكر .إ َّن التد ُّبر العميق لمرجعية الفكر الغربي عموم ًا والفكر التربوي الغربي على وجه الخصوص يجب أ ْن يكون بقدر من الوعي والمسؤولية ،والموضوعية كذلك. 537
والمعروف أ َّن الفكر التربوي الغربي يبدأ الإشار َة إلى عمقه التاريخي من أقدم العصور بالإحالة إلى إنجازات فلاسفة اليونان والإغريق .ور َّبما نجد إشارات عابرة إلى بعض الحضارات القديمة في مصر والهند والعراق .ث َّم يتجاوز التأري ُخ للفكر التربوي عص َر الظلمات الأوروبيُ ،متجا ِهل ًا تاريخ العا َلم وحضاراته الأُخرى خارج أوروبا في أثناء هذا العصر ،الذي يقابله العصر الذهبي للحضارة الإسلامية ،ليقفز إلى عصر الأنوار الأوروبي ،وعصر الاكتشافات العلمية والجغرافية ،ويشير إلى إسهامات بيكون وديكارت وهيوم ،ث َّم فولتير ورو ّسو وفروبل ،إلى أ ْن يم َّر بشخصيات القرن العشرين ،مع تركيز على ديوي ،وفرويد ،وبستالوزي ،وبينيه ،وبياجيه ،وواطسن ،وماسلو ،وبلوم ،وتايلر ،وسكنر، وأوزبل ،وبرونر ،وغيرهم. ويتم َّثل مفهوم \"الغرب\" اليوم ،في ُب ْعده الجغرافي ،في دول القارة الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية ،وبعض البلاد الأُخرى ،مثل :كندا ،وأستراليا .وقد وصل الفكر الغربي إلى حالته المعاصرة عبر مسيرة من التط ُّور التاريخي ،الذي لم تقتصر أحداثه على البلدان المشار إليها ،وإ َّنما امت َّد أثر الفكر الغربي إلى كثير من بلدان العا َلم نتيجة علاقات الغرب السياسية والعسكرية مع هذه البلدان؛ سواء تم َّثلت هذه العلاقات في حقبة الاستعمار ،والحروب ،أو في علاقات الهيمنة السياسية والاقتصادية .وقد َي ِر ُد بعض الاستدراك على وجود مصطلح \"الغربي\" في عبارة \"الفكر التربوي الغربي\" ب ُح َّجة أ َّن الفكر التربوي السائد في الغرب اليوم هو حصيلة تط ُّور في الخبرة البشرية ،عبر مراحل ومحطات تاريخية متتابعة ،شاركت فيها شعوب مختلفة ،ولا سيما أ َّننا نستطيع أ ْن نم ِّيز في هذه المراحل إسهامات الإغريق واليونان والحضارات القديمة في مصر والعراق وفارس والهند والصين ،فضل ًا عن هدي الأنبياء وأتباعهم على مدار التاريخ ،مرور ًا بما أنجزته الحضارة الإسلامية من فكر تربوي وتعليمي في بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة وغرناطة ،ث َّم ما كان من تط ُّورات عصر النهضة والتنوير الأوروبي وما نتج منه من حداثة، وصولاً إلى الخبرة التربوية المعاصرة ،التي يمكن أ ْن نم ِّيز فيها إسهامات مف ِّكرين من مختلف أقطار العا َلم. 538
وعلى ما في هذا الاستدراك من حق ،فإ َّننا نتجاوزه؛ للتنبية على أمرين :أولهما أ َّن الغرب -الأوروبي الأمريكيَ -ي َّدعي اليوم أ َّنه صاحب الشأن في الإنتاج الفكري المعاصر في العلوم التربوية كما في سائر الميادين ،وثانيهما أ َّن معظم دول العا َلم اليوم في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية ،بما في ذلك المجتمعات العربية والإسلاميةُ ،ت ِق ُّر للغرب بهذا الا ِّدعاء ،وتستمد فكرها وممارساتها من الإنتاج الفكري الغربي طوع ًا أو كره ًا! ونسارع هنا إلى إبداء ملاحظة قد نجد ما يشهد لها من الفارق بين أثر الفكر التربوي الغربي في الغرب ،وأثره في البلدان التي تقتبسه من الغرب؛ إذ يكون الاقتباس -في كثير من الأحيان -للشكل لا للجوهر ،وللقالب لا للروح؛ ففي الجوهر والروح بعض الجوانب الإيجابية التي نفتقدها في الاقتباس والاستيراد. ونجد في العا َلم العربي مؤسسات متعددة تحرص على ترجمة ما عرفه الفكر الغربي إلى اللغة العربية ،مع قدر من التنويه بضرورة المثاقفة ،والوعي بالحالة الفكرية والثقافية في العا َلم ،والتفا ُعل معها .ويفتقد هذا التنوي ُه -في كثير من الأحيان -بيا َن الصورة الكاملة لما يتم اختياره للترجمة ،من حيث :المرجعية الفكرية التي يستند إليها ،أو النقد الذي ُو ِّجه إليه في الدائرة الغربية نفسها. ومن المناسب أ ْن نق ِّرر أ َّننا -في هذا المقام -لا نعارض مبدأ الترجمة ،ولا ما تهدف إليه من تفا ُعل ومثاقفة .ولك ْن ،لا ُب َّد أ ْن نشير هنا إلى ملاحظتين؛ الأُولى :المثاقفة هي تفا ُعل بين طرفين ،لك ٍّل منهما هوي ٌة تم ِّيزه ،وعطا ٌء يق ِّدمه ،و ِم ْن َث َّم تكون حركة المثاقفة في اتجاهين .والذي نلاحظه أ َّن التفا ُعل الذي تمارسه النخبة المثقفة في العا َلم العربي والإسلامي يسير في اتجاه واحد ،من الغرب إلينا؛ سواء في المجال الفكري والثقافي ،أو في المجال العلمي والتكنولوجي؛ ما جعلنا نكتفي بموقف المتل ّقي .والملاحظة الثانية: موقف المتل ّقي هذا تس ِّوغه هذه النخبة المثقفة ب ُح َّجة أ َّننا بصدد الخروج من واقع التخ ُّلف الذي تعانيه الأُ َّمة .و ِم ْن َث َّم ،فنحن بحاجة إلى الأخذ بمبادئ التنوير ،والحداثة ،والعقلانية، والعلمية ...،كما أخذ بها الغرب لنتق َّدم كما تق َّدم ،مع العلم بأ َّننا منذ قرنين من الزمان ونحن نأخذ من الغرب ك َّل شيء عنده ،فما َتح َّقق لدينا شيء من حداثة الغرب ،ولا َبنَ ْينا شيئ ًا من عناصر حداثتنا الخاصة ،ولم نخرج من حالة التخ ُّلف ،وكدنا نفقد كل شيء من عناصر وجودنا الفكري وعطائنا الثقافي. 539
ويبدو أ َّن الفلسفات ،أو النظريات ،أو المدارس الفكرية ،أو المناهج الجديدة التي نشأت في الغربُ ،تع َرض أحيان ًا بشيء من الإطراء والزخرفة اللفظية ،وبصورة تدعو إلى الإعجاب؛ نظر ًا لمدى ما تختلف به عن النظريات السابقة .ولك ْن ،من الجدير بالملاحظة هنا أ َّن هذه الفلسفات قد نشأت -ولا تزال تنشأ -في صورة فِ ْع ٍل و َر ِّد فِ ْع ٍل؛ فالفلسفة الطبيعية في الفكر الغربي هي َر ُّد فِ ْع ٍل على الغيبية ،والوضعية َر ُّد فِ ْع ٍل على المعيارية، والعلمانية َر ُّد فِ ْع ٍل على الدينية ،وما بعد الحداثة َر ُّد فِ ْع ٍل على الحداثة ،والتفكيكية َر ُّد فِ ْع ٍل على البنيوية ،وهكذا .ث َّم إ َّن كل فلسفة ،أو مدرسة تنشأ في الغرب ،لا تنشأ ابتدا ًء من دون أصل تط َّورت منه ،واستندت إليه ،أو اعترضت عليه .ور َّبما نستطيع أ ْن نم ِّيز في الفلسفة الجديدة عناصر الأصل لنجد أ َّن الجديد تداخل مع القديم ،من دون أ ْن يفتقد أ ٌّي منهما المرجعي َة نف َسها. ومن الأمثلة على علاقة الفلسفة التالية بالفلسفة التي سبقتها ،ما قاله غارودي عن البنيوية التي جاءت بعد الوجوديةَ \" :ث َّمة عه ٌد في الفلسفة على وشك أ ْن ُتطوى صفحته؛ إ َّنه عهد الوجودية الذي دام ثلث قرن ون ِّيف ًا ...ض َّحت الوجودية بالعقلاني والموضوعي، بالصرامة العلمية والانضباط الثوري ،فلكأ َّن التاريخ منسوج فقط من بزوغ مشاريع ح َّرة ...إ َّن هذا التفكير بصدد الذات قد ألهب حماسة جي ٍل ما ل ُيسا ِوره ،في أيام الحرب والاحتلال ،الشعو ُر بع َّزته الشخصية إلا عن طريق النفي والتم ُّرد .وهكذا لم تعد الوجودية محض تص ُّو ٍر للعا َلم ،وإ َّنما درجة أو موضة هيمنة ،مع التحرير ولسنوات ِع َّدة، على الأدب والأعراف .ولك ْن عندما انطرحت مسألة البناء انكشف عجز الوجودية ،عجز نظري وعجز عملي في آ ٍن مع ًا(((\". ويتداخل أثر التاريخ والدين في تط ُّور الفكر الغربي؛ فقد شهد التاريخ الديني على وجه الخصوص أحداث ًا وملابسا ٍت كانت لها نتائجها العميقة في تحديد طبيعة الفكر التربوي الغربي وموقفه من الدين والمرجعية الدينية .فبعد طول صراع بين السلطة الدينية والسلطة السياسية في أوروبا ،اضطرت الكنيسة أ ْن تجعل الدين مسأل ًة شخصي ًة وعائلي ًة تخت ُّص بالعلاقة مع الله سبحانه ،وتركت للمؤمنين إقام َة أنظمة حياتهم ،وس َّن تشريعاتهم ((( غارودي ،روجيه .البنيوية :فلسفة موت الإنسان ،ترجمة :جورج طرابيشي ،بيروت :دار الطليعة ،ط1979 ،1م. صدر الأصل الفرنسي للكتاب عام 1969م ،ص.14 540
وفق ما قادتهم إليه الخبرة والتجربة ،فاستأثرت السلطة السياسية بشؤون الحكم والاقتصاد والقانون والتربية .وقد حدث هذا التغ ُّير في مرجعية الدين من نظام للحياة في سائر مجالاتها ،ليكون شأن ًا شخصي ًا ،في الوقت الذي حدثت فيه تط ُّورات كبيرة في مفاهيم \"الحرية\" ،و\"الفردية\" ،و\"النظرة المادية\" ،وما رافق ذلك من رخاء اقتصادي ،وتق ُّدم علمي، فانعكس كل ذلك على النظرة إلى الدين ،فأصبح التح ُّرر من المرجعية الدينية في الحياة العامة ،في نظر الغربيين ،سبب ًا في التق ُّدم ،وأصبح اعتماد المرجعية الدينية في المجتمعات غير الغربية يف ِّسر ما هي عليه من مظاهر التخ ُّلف. ومن الجدير بالذكر أ َّن هذا العرض لموقع الدين في الحضارة الغربية المعاصرة وجد َمن يرفضه جمل ًة وتفصيل ًا ِمن بعض الغربيين ،الذين حاولوا إعادة بناء الفهم التاريخي لنشأة الحضارة الغربية وتم ُّيزها بالعبقرية الاستثنائية ،وإعادة تفسير تاريخ أوروبا بنا ًء على هذا الأساس ،بما في ذلك :عدم أخذ الغرب من الحضارات الأُخرى ،وإنكار الروح الاستعمارية في العقل والوجدان والممارسة عند الغربيين ،ونفي وجود عصور مظلمة في التاريخ الأوروبي ،وعدم وقوف الكنيسة في وجه العلم ،واعتبار الحروب الصليبية مع المسلمين دفاع ًا عن النفس .وسنجد في هذه المحاولات من الروح الاستعلائية والغطرسة ،ما يف ِّسر سلوك الغرب تجاه الشعوب الأُخرى(((. وسواء تم َّثلت روح الاستعلاء عند الغربي في ال ُب ْعد الديني ،أو التق ُّدم العلمي ،أو التف ُّوق الحضاري ،فإ َّن هذه الروح قد ش َّكلت ذاكر ًة تاريخي ًة ،وثقاف ًة عام ًة تتوارثها أجيال الغربيين .ويتع َّزز أثر هذه الثقافة بما يشاهده الغربي من واقع التخ ُّلف الذي تعانيه كثير من المجتمعات غير الغربية ،ولا سيما مجتمعات المسلمين .وتع َّززت ثقافة الغربيين بالثقافة التي تو َّلدت في مجتمعات المسلمين التي أصبحت تعاني الاستلا َب ،وعدم الثقة بالنفس، وربط إمكانية التق ُّدم بالتط ُّلع إلى التجربة الغربية. ((( من أمثلة هذه المحاولات كتاب صدر عام 2015م ،وكانت له ردود فعل متفاوتة ،لكنَّه ع َّمق الشعور بتف ُّوق ال ِعرق الأبيض ،و َق َصر التط ُّور الحضاري في تاريخ العالم على التجربة الأوروبية وامتدادها الأمريكي ،ور َّبما تع ِّزز مادة الكتاب نمط التفكير الذي أخذ ينتشر في الغرب؛ من تف ّشي مشاعر الكراهية للمهاجرين ،وظاهرة الإسلاموفوبيا ،والاعتداء على مساجد المسلمين ،وغير ذلك من الاتجاهات السلبية تجاه غير الغربيين. وعنوان الكتاب بالعربية هو \"كيف انتصر الغرب :القصة المهملة في انتصار الحداثة\" .وهذه بيانات الكتاب: - Stark. Rodney. How the West Won: The Neglected Story of the Triumph of Modernity. Wilmington, DE: Intercollegiate Studies Institute, 2015. 541
وكان أخطر ما نتج عن ذلك أ ْن ِصيغت المعرفة في مناهج التربية بطريقة استعلائية، ُت ْعلي من شأن المركزية الغربية ،وتح ُّط من قدر الهوامش الإفريقية والآسيوية ،وتضع الثقة في قدرة الإنسان الغربي ،وتؤ ِّكد العجز والتخ ُّلف عند غيره؛ فالبلدان الغربية متح ِّضرة متق ِّدمة، والبلدان الأُخرى تقليدية متخ ِّلفة ،وكل مشاريع التنمية من أجل التق ُّدم في هذه البلدان غير الغربية تتع َّثر وتفشل ،ما دامت تحتفظ بشيء من ثقافتها التقليدية ذات المرجعية الدينية. ومن السهل أ ْن نجد مرجعية الفكر التربوي الغربي في رؤيته لدور التربية والتعليم في إعادة بناء المجتمعات الأُخرى ،عبر النمط الغربي؛ فلا ُب َّد من العلمانية لح ِّل مشكلة الدين ،ولا ُب َّد من القروض الربوية لح ِّل مشكلة الاقتصاد ،ولا ُب َّد من السوق الح َّرة لتحقيق التنمية ،ولا ُب َّد من الديمقراطية والتع ُّددية الحزبية في النموذج الغربي لتطوير الواقع السياسي ،ولا ُب َّد من النظام التعليمي القائم على هيكل التعليم في المدارس والجامعات. وسيكون التركي ُز في التعليم على العلوم والرياضيات واللغات الأجنبية والحاسوب \"الكمبيوتر\" وسيل ًة سهل ًة سريع ًة للتق ُّدم؛ فهذه العلوم هي مركز الاهتمام وعمقه .أ ّما مواد بناء الأُ َّمة؛ من :دين ،وتاريخ ،ولغة ،فهي خصوصيات ُمعت َرف بها ،ولذلك ُيعطى لها هامش من العناية ،من دون أ ْن يؤ ِّثر هذا الهامش في مركز الاهتمام وعمقه. ومسألة فهم المرجعية الغربية في بناء المناهج التربوية لا تخت ُّص فقط بالمواد الدراسية؛ فهي تهتم بطرائق التفكير والاتجاهات النفسية؛ ذلك أ َّن المنهج الاستقرائي التجريبي ،الذي يعتمد الخبرة الح ِّسية ،والمشاهدة ،والتجربة العملية ،هو الأساس في إنتاج المعرفة ،واختبارها ،وتوظيفها .وقد كان هو الأساس في انتقال أوروبا من عصر الظلمات إلى عصر الأنوار ،ث َّم تحقيق النهضة الصناعية ،وتطوير وسائل الإنتاج وأدوات الاتصال والنقل .و ِم ْن َث َّم ،فإ َّن العلم الذي يستحق الاهتمام به في المرجعية الغربية هو ما يثبت بالتجربة والمشاهدة الح ِّسية .ولذلك ،فالعلوم الح َّقة الدقيقة هي الفيزياء والكيمياء، وما في مستواهما .أ ّما العلوم الاجتماعية فهي ُتس ّمى علم ًا مجاز ًا فقط .ولك ْن ،يمكن بناؤها على أسس علمية تجريبية عبر مراحل من النمو والتط ُّور العلمي ،وهي الآن في مرحلة متخ ِّلفة ،وقد تلحق بالعلوم الح َّقة يوم ًا ما .أ ّما طرائق التفكير والبحث ذات الصلة بالأبعاد الغيبية -الميتافيزيقية فلم يعد لها مكان في برامج التعليم. 542
وم ّما يلفت النظر أ َّن التربويين الغربيين قد بذلوا جهود ًا كبير ًة في بناء التربية على أساس العلم التجريبي ،ولا يزالون يبذلونها (((.ومع ذلك ،فقد ظهرت تيارات ُأخرى في البحث التربوي تؤ ِّكد أ َّن ميدان التربية ،مثله مثل ميادين العلوم الاجتماعية الأُخرى ،لا يصلح أ ْن ُيط َّبق عليه المنهج العلمي الذي ُيط َّبق على العلوم الطبيعية ،بسبب الفوارق الجوهرية بين سلوك المادة ،وفق قوانين ثابتة ،وبطريقة يسهل التح ُّكم التجريبي فيها، وسلوك أفراد البشر ومجموعاتهم ،وفق قوانين غير معروفة تمام ًا .ولذلك ظهرت مناهج للبحث التربوي والاجتماعي تعتمد الوصف الكيفي للظواهر والمواقف بدلاً من الوصف ال َك ِّمي ،وتعتمد بناء الفرضيات بدلاً من اختبارها ،وتعترف بالفارق بين التعامل مع الأشياء المادية في العلوم الطبيعية ،والسلوك البشري في العلوم الإنسانية والاجتماعية(((. ثالث ًا :تع ُّدد الفلسفات في مرجعية الفكر الغربي: تمتلئ لغة الفكر الغربي بعدد كبير من المفاهيم والمصطلحات التي يأخذ بعضها صفة الفلسفة ،أو المنهج ،أو المدرسة الفكرية .وفيما يأتي بيان لبعض صور التع ُّدد في المرجعيات العامة في الفكر التربوي الغربي: .1العلمانية في مرجعية الفكر الغربي: من الأفكار التي ارتبطت بمرجعية الفكر الغربي فكرة العلمانية التي أصبحت مبد ًأ، ليس في الفهم والممارسة في الحياة الغربية فحسب ،بل في فهم حالة المجتمعات (1) Gage, N. L. The Scientific Basis of the Art of Teaching. New York: Teacher College Press, Coumbia University, 1977. see also: - Subotnik, Rena & Walberg, Herbert. The Scientific Basis of Education Productivity, Research in Educational Productivity, Charlotte, North Carolina: Information Age Publishing, 2006. - Appleton, lilla Estella. A Comparative Study of the Play Activities of Adult Savages and Civilized Children; An Investigation of the Scientific Basis of Education, Victoria, Australia: Leopold Classic Library, 2017. (2) See for example specialized journals such as: International Journal of Qualitative Studies in Education, and related textbooks such as: - Anfara, Vincent. & Mertz, Norma (Eidors). Theoretical Frameworks in Qualitative Research, Los Angeles and London: Sage Publication, Inc. 2015. - Mackson, Alecia. & Mazzei, Lisa. Thinking with Theory in Qualitative Research: Viewing Data across Multiple Perspectives, London and New York: Routledge, 2011. 543
الأُخرى ،وتفسيرها ،وتحديد ُسبل التعامل معها .ولا يبدو أ َّن للعلمانية مفهوم ًا واحد ًا في البلدان الغربية؛ ففي حين كان المعنى الأصلي لهذا المفهوم هو فصل الدين عن أنظمة الحياة العامة في الشؤون السياسية والاقتصادية وغيرها ،مع الاعتراف بالحاجة إلى الدين في العلاقات الشخصية والتنمية الروحية ،فإ َّن هذا المعنى في الممارسة تو َّزع على عدد من الأشكال ،وبطرق مختلفة بين البلدان الأوروبية. ويح ِّدد موقع الجمعية الوطنية للعلمانية ((( National Secular Societyثلاثة مبادئ للعلمانية تحمي الحريات التي يجب أ ْن يتمتع بها الناس وتدعمها ،وهي\" :فصل المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة ،بحيث يكون للدين إسهامه في الحياة العامة دون أ ْن يكون له السيطرة ،وحرية الفرد في ممارسة دينه أو معتقده ،وفق ًا لضميره دون الإضرار بالآخرين ،أو تغيير معتقداتهم ،أو إجبارهم على عدم الإيمان بدين؛ وتحقيق المساواة بحيث لا يكون وجود المعتقد الديني أو غيابه سبب ًا في تحقيق مصلحة أو ضرر(((\". وقد جرى تبنّي العلمانية في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية في صورة مبدأ دستوري ،تكون فيه المؤسسات السياسية والدينية منفصلة ،ولك ٍّل منها مجالها الخاص بها ،علم ًا بأ َّن السلطة السياسية حيادية فيما يخ ُّص الإيمان ،أو عدم الإيمان الديني. وتتخذ التشريعات والسياسات في الدولة وفق المتط َّلبات الدنيوية من دون مرجعية دينية معينة .وأ ُّي تد ُّخل من السلطة الدينية في شؤون الدولة ،أو جعل الدين نقط ًة مرجعي ًة أو مصدر ًا للتشريع ،يتناقض مع مبدأ العلمانية ،و ُيف ِقد الدولة مشروعيتها. ويمكن أ ْن نم ِّيز في العلمانية ثلاثة أنواع :سياسي ،وفلسفي ،وثقافي-اجتماعي؛ فالعلمانية في ُب ْعدها السياسي وجدت قبولاً واسع ًا في الغرب؛ سواء من المتد ِّينين ،أو غير المتد ِّينين .فهذا المبدأ يعطي حقوق ًا متساوي ًة للمجموعات الدينية ،ول َمن لا دين له .وترى الفئتان أ َّن العلمانية ليست حماية للدولة فحسب ،بل هي حماية للدين كذلك. ((( الجمعية الوطنية للعلمانية ُأن ِشئت في بريطانيا عام 1866م ،في صورة جمعية غير هادفة للربح ،وبدعم من أعضائها ،وهي تدعو إلى فصل الدين عن الدولة ،وإلغاء الكنيسة الإنجليزية ،واعتبار العلمانية أفضل وسيلة لبناء مجتمع عادل ،يعيش فيه المواطنون -مهما اختلفت أديانهم ،أو كانوا بلا دين -حياتهم متساوين في الحقوق والواجبات. (2) https: //www.secularism.org.uk/what-is-secularism.html ومن الجدير بالذكر أ َّن شعار الجمعية هو\" :تح ّدي الامتيازات الدينية\" .Challenging Religious Privilege 544
وكان من الطبيعي أ ْن ينعكس مبدأ العلمانية وتطبيقاته في الغرب على التعليم بصورة عامة ،والتعليم العام الذي ُتش ِرف عليه الدولة بصورة خاصة .فمع نشأة مبدأ العلمانية نشأ مصطلح \"التعليم العلماني\" في القرن التاسع عشر ،في ك ٍّل من الولايات المتحدة الأمريكية ،وبريطانيا .وقد لاقى دعم ًا كبير ًا من السلطات الكنسية لح ِّل مشكلة التنافس في تقديم تعليم ديني من الطوائف الدينية المسيحية المختلفة؛ إذ كانت هذه الطوائف ُتف ِّضل تعليم ًا مدرسي ًا حيادي ًا وموضوعي ًا حتى لا يؤ ِّثر أ ُّي تعليم ديني في معتقدات الطلبة الدينية. فالمنهاج الخالي من أ ِّي تعليم ديني سيكون أفضل من منهاج يستعمل معتقدات مسيحية خاص ٍة برؤي ِة طائفة مسيحية ُأخرى .وهكذا وجد دعاة العلمانية ُفرص َتهم لإزالة جميع صور التلقين الديني أو الممارسات الدينية من مناهج التعليم العام .ولجأت كل طائفة مسيحية إلى إنشاء مدارس خاصة تتض َّمن تعليم ًا ديني ًا خاص ًا بمعتقدات تلك الطائفة. ولك َّن موضوع التعليم الديني والتضمينات الدينية لبعض الموضوعات العلمية كان -ولا يزال -موضوع جدل قانونيُ ،تص ِدر فيه المحاكم قراراتها وفق ًا لتفسيراتها المتفاوتة للمبادئ القانونية ،ولم تستطع المحاكم في الولايات المتحدة الأمريكية الوصول إلى ح ٍّل نهائي لحسم هذا الجدل .وبينما لا تزال الدعاوى والدعاوى المضادة حول الدين في المدارس العامة مستمرة في محاكم الولايات المتحدة الأمريكية ،فإ َّن الصلاة الدينية اليومية في المدارس البريطانية مستمرة حتى الآن ،وهي كذلك في عدد من الدول الأوروبية الأُخرى .ومع ذلك ،فإ َّن عدد ًا قليل ًا من المدارس في الولايات المتحدة الأمريكية تق ِّدم مادة دراسية عن الدين ،في حين تفعل ذلك معظم المدارس في أوروبا .ولك َّن الشرط في هذه الحالة أ ْن يكون \"التعليم عن الدين\" متوازن ًا ،وموضوعي ًا ،وعادلاً ،وحيادي ًا؛ أ ْي عدم تعليم الدين على أ َّنه صحيح ،أو أ َّن دين ًا ما صحيح أكثر من غيره. وأخذت العلمانية وضرورة اعتمادها في التعليم العام تجد دعم ًا متزايد ًا بدء ًا من منتصف القرن العشرين ،من دعاة المجتمع الليبرالي ،ولا سيما على المستوى الأكاديمي والقانوني؛ فهؤلاء َي ُع ّدون الدين مناقض ًا لروح المجتمع المنفتح والثقافة العلمية(((. (1) Ibid., page 402-403. 545
وقد شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين ظهور ًا متزايد ًا للدين في الحياة العامة في معظم أنحاء العا َلم ،ويصدق ذلك على الأديان المختلفة .ومعظم أشكال هذا الظهور كان يتم بممارسات سلمية ،وفي قليل من الحالات كان يرافقه ممارسات لا تخلو من الكراهية والعنف وإشعال الاضطرابات .ور َّبما كانت هذه الحالات صور ًا من استغلال المشاعر الدينية لأغراض سياسية. وقد كان لموجات الهجرة إلى الغرب أثر في الإخلال بالمجتمع المتجانس نسبي ًا في الصفة العلمانية ،ولا سيما في البلدان الأوروبية .ويرى بعض الباحثين في أوروبا أ َّن تح ُّول هذه البلدان إلى مجتمعات متعددة الثقافة والأديان قد ش َّكل تحدي ًا للأطروحة العلمانية التي كانت تتوقع تلاشي سلطة الدين تدريجي ًا من التأثير في الحياة العامة ،وتأخذ موقعها في دائرتها الخاصة بها(((. ولذلك ،فإ َّن الأدبيات المتنامية عن الحضور المتزايد للدين أخذت تتح َّدث عن دخول العا َلم في \"عصر ما بعد العلمانية\" ،حيث يستعيد الدين ق َّوته المؤ ِّثرة في المجتمع. وفي الوقت نفسه تشير هذه الأدبيات إلى أ َّن تراجع العلمانية يش ِّكل أيض ًا تح ِّدي ًا للشرعية التي تستمد منها الدول الديمقراطية الدستورية سلطتها .ونتيجة لذلك ،ظهرت أصوات تدعو إلى مراجعة النهج العلماني ،أو حتى التخ ُّلص منه ،والاستعاضة عنه بمبدأ ي ِقيم تحديد ًا جديد ًا للعلاقة بين الدين والدولة(((. (1) Usturali, Adil. A Conceptual Analysis of Secularism and Its Legitimacy in the Constitutional Democratic State, Policy Brief Series, Fox International Fellowship, 2015. See the link: - https: //foxfellowship.yale.edu/sites/default/files/files/Adil%20Ustrulai%20-%20 PolicyBrief.pdf انظر مزيد ًا من التفاصيل في المراجع المتخصصة في بيان علاقة العلمانية بالدين ،ومن ذلك مثل ًا: (2) Kettell, Steven. Secularism and Religion, Oxford Research Encyclopedias (Politics), Online Publication, Jan 2019. See the link: -https: //oxfordre.com/politics/view/10.1093/acrefore/9780190228637.001.0001/acrefore- 9780190228637-e-898. See also: - Bhargava, Rajeev. State, religious diversity and the crisis of secularism, Open Democracy: free thinking for the world, 22 march 2011. See the link: - https: //www.opendemocracy.net/en/states-religious-diversity-and-crisis-of-secularism-0. 546
وعلى كل حال ،فإ َّن الذين يدعون إلى الاستفادة من تجربة العلمانية الغربية في حياة الشعوب المسلمة ،في مجال التربية والتعليم وغيره من المجالات ،يتجاهلون الاختلاف الجوهري بين طبيعة المسيحية والإسلام ،والظروف التي قادت إلى نشأة العلمانية، ويتجاهلون أ َّن الإسلام ليس فيه سلطة دينية بالمعنى الذي عرفته أوروبا حتى يتم المطالبة بفصلها عن السلطة الزمنية. وينعكس أثر المرجعية الفكرية الغربية على موقع القيم الأخلاقية في منظومة التربية وعملية التك ُّيف الاجتماعي التي تحاول التربية تيسيرها أو توجيهها؛ فالمناهج التربوية في الغرب هي انعكاس لواقع المجتمع الغربي والقيم الاجتماعية والأخلاقية السائدة فيه. ولذلك لا ُب َّد من الوعي بموقع القيم في الفكر التربوي الإسلامي؛ فهي قيم تقود المجتمع، وتو ِّجهه ،وترتقي به ،و ِم ْن َث َّم تش ِّكل ،في موقعها ومهمتها ،مرجعية متم ِّيزة تمام ًا عن أ َّية مرجعيات ُأخرى. .2العولمة والتدويل: جاء مصطلح \"العولمة\" - Globalizationفي الأساس -لوصف التغ ُّيرات الحادثة في الاقتصاد العالمي في منتصف ثمانينيات القرن العشرين ،ولك َّن المصطلح سرعان ما انتقل إلى وصف التغ ُّيرات في المجالات السياسية والثقافية والتربوية التي تؤ ِّثر بطرق متعددة في قسم كبير من سكان العا َلم .والذي َي ُه ُّمنا هنا هو ما يخت ُّص بعلاقة العولمة بالتربية والتعليم. ويشير مصطلح \"عولمة التعليم\" إلى شبكات ومؤسسات وعمليات عالمية تؤ ِّثر في السياسات والممارسات التعليمية المحلية .ولك ٍّل من هذه الشبكات والمؤسسات والعمليات بنية فوقية تتجاوز النُّ ُظم المدرسية الوطنية المحلية ،وما يحدث فيها يتم على مستوى عالمي ،وبسرعة كبيرة .وتضطر المجتمعات إلى اختيار سياسات تتبنّى فيها ما تأتي به نتائج هذه العولمة؛ رغب ًة في المنافسة على المستوى الاقتصادي والحضور العالمي ،وأحيان ًا خضوع ًا للضغوط السياسية والاقتصادية .ومن هذه المؤسسات العالمية 547
التي تؤ ِّثر في السياسات التربوية :منظمة التعا ُون الاقتصادي والتنمية ،OECDوالبنك الدولي ،ومنظمة اليونسكو ،ومنظمة التجارة الدولية ،WTOوالاتفاقية العامة للتجارة والخدمات ،GATSوالمنظمات الدولية الحكومية ،IGOsوالمنظمات غير الحكومية ،NGOsمثل :منظمات حقوق الإنسان ،والبيئة ،والمنظمات النسوية(((. ويرى جول سبرنغ Joel Springفي كتابه عن \"عولمة التعليم\" أ َّن أهم الاتجاهات التي ُتقاد إليها التربية هي إضفاء ك ٍّل من الطابع المؤسسي العالمي ،Global Corporatization والصفة الاقتصادية على التعليم ،Economization of Educationوتعميم اللغة الإنجليزية بوصفها اللغة الأساسية للمنظمات الدولية المشار إليها .وتمارس هذه المؤسسات الدولية ضغوط ًا كبير ًة على أنظمة التربية الوطنية لتبنّي سياسات تربوية معينة؛ ُب ْغ َي َة تشكيل السلوك الإنساني المناسب لمجالات عمل هذه المنظمات وأغراضها ،ولأسواق عمل تستخدم نظريات اقتصادية خاصة برأس المال البشري ،بدعوى أ َّن اقتصاديات رأس المال البشري َتستثمر في التربية والتعليم لإنتاج عمالة بشرية أكثر ملاءمة للنمو الاقتصادي ،وتق ِّلل من فوارق الدخل ،وتزيد من ُفرص العمل(((. ويضع المؤ ِّلف عشرة مك ِّونات للعولمة التعليمية ،Educational Globalization منها أ َّن الشعوب تتبنّى أنظمة وممارسات تعليمية متشابهة ،بما في ذلك :المناهج، والتنظيم المدرسي ،وأساليب التعليم ،و ُن ُظم التعليم الجامعي ،وإعداد ال ُمع ِّلمين ،وتطوير ُمن َتجات للسوق التربوي ،مثل :الاختبارات ،والمناهج ،والمواد المدرسية ،وبرامج التعليم الرقمي ،وتعميم اللغة الإنجليزية في برامج التعليم المحلية بوصفها لغة التجارة العالمية ،وتعميم نماذج عولمة من التعليم الديني ،أو التعليم عن الدين((( . و َث َّمة نق ٌد ُمو َّج ٌه إلى اتجاه عولمة التعليم وسياساته؛ فالتعليم من أجل اقتصاد المعرفة لا يح ِّقق أ َّي فائدة عندما لا تتوافر ُفرص مناسبة للتعليم ،وكثير من الأعمال أصبحت المعرفة اللازمة لها روتينية اعتيادية ،تتط َّلب توا ُفر ع ّما ٍل أقل مهارة .أ ّما التعليم من أجل المهارات العليا فلم يعد يعني عائد ًا مالي ًا أعلى للموظفين والع ّمال .ومن المخاطر التي (1) Sring, Joel. Golbalization of Education: An Introducation. New York: Routledge, 2015, pp 1-2. (2) Ibid., p. 32. (3) Ibid., p. 49. 548
فتحتها عولمة التعليم ظاهرة هجرة العمالة ،ولا سيما في مجال البرمجة الحاسوبية؛ فوجود أعداد كبيرة من الهنود في هذا المجال أ ّدى إلى تو ُّقف زيادة الأجور في الولايات المتحدة الأمريكية ،وفقدان موارد رأس المال البشري في الهند .ومن هذه المخاطر أيض ًا ظاهرة الهدر العقلي Brain Waste؛ فأفضل خريجي برامج التعليم لا يجدون ُفرص عمل مناسبة لمهاراتهم؛ ما أ ّدى إلى انخفاض النمو في الدخل عند خريجي الجامعات في البلدان الصناعية ،وإجبارهم على قبول وظائف لا تتط َّلب مستويات متق ِّدمة من التعليم(((. وتتج ّلى مظاهر إضفاء الصفة الاقتصادية على التعليم في المرجعية التي يستند إليها الاقتصاد اليوم .فقد أصبح السوق شعار ًا للاقتصاد ،وأصبحت المعرفة سلعة في هذا السوق ،وأصبح السوق كأ َّنه ذا ٌت ُمق َّدس ٌة لها نفس خصائص القداسة التي يعطيها المتد ِّينون لله سبحانه .ومن أواخر ما ُن ِشر عن هذا الموضوع كتا ٌب لأستا ٍذ في جامعة هارفارد ،بعنوان \"السوق بوصفه إله ًا\" (((،حيث وصف المؤ ِّلف عناصر \"تأليه\" السوق ،وما ُينا ِظرها مع الخصائص اللاهوتية في المسيحية والإسلام .ث َّم ف َّسر المؤ ِّلف مشكلات العا َلم المعاصر بما في ذلك :اتساع نطاق الفوارق ،والفقر ،والاحترار العالمي ،وغيرها ،على أساس ما وصل إليها السوق من وضعه الإلهي؛ فقد انحدر عا َلمنا إلى علم \"لاهوت العرض والطلب\"، وأصبح السو ُق كل َّي القدرة ،حاضر ًا في كل مكان ،يعرف قيمة كل شيء ،ويح ِّدد نتائج كل معاملة ،ويرفع ُأ َّم ًة ويد ِّمر ُأخرى ،ولا شيء يفلت من اختزاله إلى سلعة .وقد فرض نفسه بوصفه دين ًا له عقائده ،وأنبياؤه ،ورموزه ،وقيمه ،ونظامه العالمي ،وحماسته في تحويل العا َلم إلى طريقته في الحياة. لقد أصبح نموذج التعليم من أجل الاقتصاد تقليد ًا شائع ًا في التربية الغربية ،وانتشرت أفكاره التربوية في العا َلم ،وهو تعليم ُمص َّمم للمجتمع العلماني الذي يهدف إلى التط ُّور الاقتصادي ،أو المساواة الاقتصادية ،وهو غير معني بالأهداف ذات الصلة بالدين ،أو القيم ذات المرجعية الدينية ،أو بال ُب ْعد الروحي للإنسان. (1) Ibid., p. 54. (2) Cox, Harvey. The Market as God, Cambridge, MA: Harvard University Press, 2016. انظر التعريف بالكتاب في موقع \"أمازون\" ضمن الرابط الآتي: - https: //www.amazon.com/Market-as-God-Harvey-Cox/dp/0674659686 549
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210
- 211
- 212
- 213
- 214
- 215
- 216
- 217
- 218
- 219
- 220
- 221
- 222
- 223
- 224
- 225
- 226
- 227
- 228
- 229
- 230
- 231
- 232
- 233
- 234
- 235
- 236
- 237
- 238
- 239
- 240
- 241
- 242
- 243
- 244
- 245
- 246
- 247
- 248
- 249
- 250
- 251
- 252
- 253
- 254
- 255
- 256
- 257
- 258
- 259
- 260
- 261
- 262
- 263
- 264
- 265
- 266
- 267
- 268
- 269
- 270
- 271
- 272
- 273
- 274
- 275
- 276
- 277
- 278
- 279
- 280
- 281
- 282
- 283
- 284
- 285
- 286
- 287
- 288
- 289
- 290
- 291
- 292
- 293
- 294
- 295
- 296
- 297
- 298
- 299
- 300
- 301
- 302
- 303
- 304
- 305
- 306
- 307
- 308
- 309
- 310
- 311
- 312
- 313
- 314
- 315
- 316
- 317
- 318
- 319
- 320
- 321
- 322
- 323
- 324
- 325
- 326
- 327
- 328
- 329
- 330
- 331
- 332
- 333
- 334
- 335
- 336
- 337
- 338
- 339
- 340
- 341
- 342
- 343
- 344
- 345
- 346
- 347
- 348
- 349
- 350
- 351
- 352
- 353
- 354
- 355
- 356
- 357
- 358
- 359
- 360
- 361
- 362
- 363
- 364
- 365
- 366
- 367
- 368
- 369
- 370
- 371
- 372
- 373
- 374
- 375
- 376
- 377
- 378
- 379
- 380
- 381
- 382
- 383
- 384
- 385
- 386
- 387
- 388
- 389
- 390
- 391
- 392
- 393
- 394
- 395
- 396
- 397
- 398
- 399
- 400
- 401
- 402
- 403
- 404
- 405
- 406
- 407
- 408
- 409
- 410
- 411
- 412
- 413
- 414
- 415
- 416
- 417
- 418
- 419
- 420
- 421
- 422
- 423
- 424
- 425
- 426
- 427
- 428
- 429
- 430
- 431
- 432
- 433
- 434
- 435
- 436
- 437
- 438
- 439
- 440
- 441
- 442
- 443
- 444
- 445
- 446
- 447
- 448
- 449
- 450
- 451
- 452
- 453
- 454
- 455
- 456
- 457
- 458
- 459
- 460
- 461
- 462
- 463
- 464
- 465
- 466
- 467
- 468
- 469
- 470
- 471
- 472
- 473
- 474
- 475
- 476
- 477
- 478
- 479
- 480
- 481
- 482
- 483
- 484
- 485
- 486
- 487
- 488
- 489
- 490
- 491
- 492
- 493
- 494
- 495
- 496
- 497
- 498
- 499
- 500
- 501
- 502
- 503
- 504
- 505
- 506
- 507
- 508
- 509
- 510
- 511
- 512
- 513
- 514
- 515
- 516
- 517
- 518
- 519
- 520
- 521
- 522
- 523
- 524
- 525
- 526
- 527
- 528
- 529
- 530
- 531
- 532
- 533
- 534
- 535
- 536
- 537
- 538
- 539
- 540
- 541
- 542
- 543
- 544
- 545
- 546
- 547
- 548
- 549
- 550
- 551
- 552
- 553
- 554
- 555
- 556
- 557
- 558
- 559
- 560
- 561
- 562
- 563
- 564
- 565
- 566
- 567
- 568
- 569
- 570
- 571
- 572
- 573
- 574
- 575
- 576
- 577
- 578
- 579
- 580
- 581
- 582
- 583
- 584
- 585
- 586
- 587
- 588
- 589
- 590
- 591
- 592
- 593
- 594
- 595
- 596
- 597
- 598
- 599
- 600
- 601
- 602
- 603
- 604
- 605
- 606
- 607
- 608
- 609
- 610
- 611
- 612
- 613
- 614
- 615
- 616
- 617
- 618
- 619
- 620
- 621
- 622
- 623
- 624
- 625
- 626
- 627
- 628
- 629
- 630
- 631
- 632
- 633
- 634
- 635
- 636
- 637
- 638
- 639
- 640
- 641
- 642
- 643
- 644
- 645
- 646
- 647
- 648
- 649
- 650
- 651
- 652
- 653
- 654
- 655
- 656
- 657
- 658
- 659
- 660
- 661
- 662
- 663
- 664
- 665
- 666
- 1 - 50
- 51 - 100
- 101 - 150
- 151 - 200
- 201 - 250
- 251 - 300
- 301 - 350
- 351 - 400
- 401 - 450
- 451 - 500
- 501 - 550
- 551 - 600
- 601 - 650
- 651 - 666
Pages: