Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

Published by آيه الشوابكه, 2021-04-03 00:56:36

Description: الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

Search

Read the Text Version

‫الفصل السابع‬ ‫واقع الفكر التربوي الإسلامي و ُسبل إصلاحه‬ ‫مقدمة‬ ‫المبحث الأول‪ :‬وصف إجمالي لواقع الفكر التربوي الإسلامي وسياقه‬ ‫التاريخي والمعاصر‬ ‫أولاً‪ :‬مناهج التعليم الجامعي‬ ‫ثاني ًا‪ :‬البحوث والمؤسسات البحثية‬ ‫ثالث ًا‪ :‬تو ُّجهات سياسية واقتصادية‬ ‫رابع ًا‪ :‬السياق التاريخي لواقع الفكر التربوي الإسلامي‬ ‫خامس ًا‪ :‬أزمة التعليم أزمة عالمية‬ ‫المبحث الثاني‪ :‬المرجعية في الفكر التربوي المعاصر‬ ‫أولاً‪ :‬مفهوم \"المرجعية\"‪ ،‬وأنواعها‪ ،‬ومستوياتها‬ ‫ثاني ًا‪ :‬ملامح عامة في مرجعية الفكر التربوي الغربي‬ ‫ثالث ًا‪ :‬تع ُّدد الفلسفات في مرجعية الفكر الغربي‬ ‫المبحث الثالث‪ :‬الوعي بقضية الإصلاح التربوي ومسؤوليات الأوساط التربوية‬ ‫أولاً‪ :‬حضور الرؤية الإسلامية في الإصلاح التربوي‬ ‫ثاني ًا‪ :‬صورة الواقع والتغ ُّير المنشود‬ ‫ثالث ًا‪ :‬بناء الوعي بواقع الفكر التربوي المعاصر ومنطلقات إصلاحه‬ ‫رابع ًا‪ :‬أوساط التربية وأهميتها في جهود الإصلاح التربوي‬ ‫خاتمة‬



‫الفصل السابع‬ ‫واقع الفكر التربوي الإسلامي و ُسبل إصلاحه‬ ‫مقدمة‪:‬‬ ‫أشارت مادة الفصول السابقة إلى بعض العناصر التي تش ِّكل ملامح من واقع الفكر‬ ‫التربوي السائد في معظم البلدان الإسلامية‪ .‬وكذلك أشارت إلى بعض الآمال التي تراود‬ ‫ال ُمص ِلحين الذين ينشدون تغيير هذا الواقع‪ ،‬وإصلاح ما فيه من خلل‪ .‬وسنحاول في هذا‬ ‫الفصل التو ُّقف قليل ًا عند حالة الفكر التربوي الإسلامي كما تبدو لنا من ملاحظاتنا‪ ،‬ومن‬ ‫نتائج الدراسات والإحصائيات الدولية والإقليمية والمحلية‪ ،‬ث َّم اقتراح ما نراه ضروري ًا‬ ‫للانتقال بهذه الحالة إلى ما نطمح إليه‪.‬‬ ‫والحديث عن واقع الفكر التربوي في المجتمعات الإسلامية حديث متش ِّعب‪،‬‬ ‫يتناول فهم الملامح العامة المتم ِّثلة في النُّ ُظم التربوية العامة‪ ،‬وما تقوم عليه من فلسفات‪،‬‬ ‫وسياسات‪ ،‬ونظريات‪ ،‬واستراتيجيات‪ .‬ويتناول كذلك تفاصيل النظام التربوي‪ ،‬ومك ِّوناته‪،‬‬ ‫ومستوياته الإدارية والتعليمية‪ ،‬وما فيها من مرافق‪ ،‬ووسائط‪ ،‬وبرامج‪ ،‬ومناهج‪ ،‬وأساليب‬ ‫للتعليم والتقويم‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬ونظر ًا لأ َّننا نتوقع أ ْن يكون القارئ الكريم على صلة مباشرة‬ ‫بهذه التفاصيل؛ فنحن جميع ًا من مخرجات أوساط التربية المعاصرة‪ ،‬سواء ما يخت ُّص‬ ‫بالأسرة‪ ،‬أو المدرسة‪ ،‬أو الجامعة‪ ،‬أو مؤسسات المجتمع الأُخرى‪ ،‬فإ َّننا لن نتناول هذه‬ ‫التفاصيل التي تملأ معلوماتها صفحات المجلات العلمية والأطروحات الجامعية‪ ،‬وحتى‬ ‫الصحف اليومية‪ .‬وسنلجأ بدلاً من ذلك إلى النظر في عدد من القضايا التي ر َّبما لا تأخذ‬ ‫ح َّظها المناسب في البحوث والتحقيقات المعاصرة‪.‬‬ ‫ور َّبما لا نجد اختلاف ًا كبير ًا في تأكيد أ َّن الأمر الطبيعي هو أ ْن يكون لكل مجتمع نظامه‬ ‫التعليمي الذي يح ِّدد مواصفات الإنسان الذي ينشد تشكيل شخصيته‪ ،‬والإسهام في تنميته‬ ‫وبناء مستقبله‪ .‬ور َّبما لا نجد اختلاف ًا كبير ًا في حاجة المجتمعات إلى التفا ُعل والتثا ُقف‪،‬‬ ‫ور ُّبما التعا ُون في تطوير بعض الخبرات التي يستفيد منها الجميع‪ .‬والمشكلة أ َّن الفكر‬ ‫‪503‬‬

‫التربوي السائد في الأنظمة التعليمية الرسمية‪ ،‬في معظم البلاد الإسلامية‪ ،‬هو فك ٌر تربوي‬ ‫مستورد بكامله‪ ،‬أو متأ ِّث ٌر كثير ًا بالنُّ ُظم التربوية الغربية؛ الأوروبية والأمريكية تحديد ًا‪.‬‬ ‫وتصبح المشكلة أكثر ِح َّد ًة عندما يفتقد المجتمع عناصر الفكر التربوي الخاص به‪،‬‬ ‫ويتخذ من الفكر التربوي الخاص بمجتمع آخر ماد ًة لتربية أبنائه‪ .‬فحين تتبنّى المجتمعات‬ ‫الإسلامية الفكر التربوي الغربي‪ ،‬فإ َّن من الطبيعي أ ْن ينشأ أبناؤها على قيم الفكر الغربي‬ ‫وأعرافه وتقاليده‪ ،‬وإذا بقي لدى أبنائها بق َّية من قيم الإسلام وأعرافه ‪-‬نتيجة عوامل تنشئة‬ ‫ُأخرى‪ -‬فإ َّنها تكون في حالة صراع وتنافس مع القيم الغربية‪ ،‬بحيث تتم َّزق معها شخصية‬ ‫الإنسان المسلم‪ ،‬وتضعف لديه مق ِّومات الهوية الإسلامية‪ ،‬أو تتلاشى ملامحها‪.‬‬ ‫وتتع َّمق المشكلة عندما تجد صنّاع القرار السياسي في المجتمعات الإسلامية‪،‬‬ ‫وقيادات الفكر التربوي فيه‪ ،‬يتجاهلون صفة التح ُّيز في الفكر التربوي الغربي أو ين ِكرونها‪،‬‬ ‫ب ُحجج واهية‪ ،‬من مثل القول بأ َّن العلم لا دين له ولا وطن‪ ،‬أو بأهمية التط ُّور واللحاق‬ ‫بالمتق ِّدمين‪ ،‬أو بضرورة التحديث والتنوير والخروج من حالة التخ ُّلف‪ ،‬أو بغير ذلك‬ ‫من ال ُمب ِّررات‪ ،‬التي كانت ُح َّجة الأنظمة في العا َلم الإسلامي في ممارساتها طوال قرن‬ ‫من الزمن‪ ،‬ولم تكن نتيجتها إلا مزيد ًا من التخ ُّلف والتبعية وضياع الهوية‪ ،‬والعجز عن‬ ‫الحضور الفاعل في ساحة العا َلم‪.‬‬ ‫ومع هذا التعميم عن حالة الفكر التربوي السائد في العا َلم الإسلامي اليوم‪ ،‬فلا ُب َّد من‬ ‫الاستدراك على هذا التعميم بالقول إ َّن َث َّمة مصدر ًا آخ َر لقطاع من الفكر التربوي في بعض‬ ‫البلدان الإسلامية يستمد مفاهيمه ومبادئه ونظرياته وممارساته التربوية من التراث التربوي‬ ‫الإسلامي‪ .‬ونحن نرى أ َّن َث َّمة مشكل ًة حقيقية في المصدرين؛ فبالرغم من أ َّن التراث التربوي‬ ‫الإسلامي هو تجربة إسلامية‪ ،‬فإ َّنه َيلزم فهم هذه التجربة في سياق الزمان والمكان من جهة‪،‬‬ ‫وتقويمها على أساس المرجعية الإسلامية التي يح ِّددها فهمنا المعاصر للمقاصد التربوية‬ ‫للتوجيه الإلهي والهدي النبوي من جهة ُأخرى‪ .‬وفي ضوء هذا التقويم سنجد أ َّن في التراث‬ ‫كثير ًا من الأفكار \"الح َّية\" التي تحتفظ بصلتها بالواقع‪ ،‬فلا تفقد معاصر َتها‪ ،‬وتبقى الحاجة‬ ‫إليها قائمة في مجتمعاتنا والمجتمعات البشرية بصفة عامة‪ .‬وسنجد في ذلك التراث كذلك‬ ‫أفكار ًا يسهل تمييز أ َّنها ر َّبما كانت خط ًأ في تدوين التاريخ‪ ،‬أو سوء فهم‪ ،‬أو سوء تطبيق‬ ‫‪504‬‬

‫لمقاصد الإسلام التربوية‪ .‬ومن الأمانة في التقويم‪ ،‬وواجب التد ُّبر في الخبرة التاريخية‪،‬‬ ‫والجرأة في النقد أ ْن يتم الكشف عن ذلك؛ فر َّبما لا تكون هذه الأفكار مح َض أفكار \"م ِّيتة\"‪،‬‬ ‫وإ َّنما قد تكون أفكار ًا \" ُم ِميتة\" إ ْن تواصل أثرها في واقع الأُ َّمة‪.‬‬ ‫وفيما يخ ُّص مشكلة المصدر الغربي للفكر التربوي السائد في العا َلم الإسلامي‪ ،‬فإ َّن‬ ‫الخبرة البشرية التي نجدها فيه تحتاج إلى أ ْن ُتف َهم في ضوء المرجعية الفكرية الغربية أولاً‪،‬‬ ‫وفي ضوء حاجة مجتمعاتنا وطبيعة مشكلاتها ثاني ًا‪ .‬ومع أ َّننا سنجد أ َّن بعض هذه الخبرات‬ ‫مفيد‪ ،‬وأ َّنه يصلح للنظر فيه‪ ،‬وتقييمه‪ ،‬وتكييفه‪ ،‬وتوظيفه‪ ،‬فإ َّن لبعض هذه الخبرات إحالا ٍت‬ ‫فلسفي ًة وثقافية واجتماعية تتس َّبب في التغريب وضياع الهوية في حال توظيفها في مجتمعاتنا‪.‬‬ ‫فالمشكلة ‪-‬في نهاية المطاف‪ -‬ليست كامنة في المصدر الغربي نفسه‪ ،‬وإ َّنما في طريقة تعاملنا‬ ‫معه؛ ذلك أ َّن المشكلة الحقيقية لا تخت ُّص بالثقافة الغربية وطبيعتها ومرجعياتها‪ ،‬بل تخت ُّص‬ ‫بكيفية تعاملنا معها‪.‬‬ ‫ولا يزال الواقع التربوي في مجتمعاتنا يعاني هذه الازدواجية التي بدأت تظهر في‬ ‫المجتمع الإسلامي منذ القرن التاسع عشر‪ .‬وبالرغم من الدعوات ال ُم ِل َّحة التي كانت ‪-‬ولا‬ ‫تزال‪ -‬تتك َّرر منذ مطلع القرن العشرين إلى التكا ُمل المعرفي بين تجديد فهمنا للمقاصد‬ ‫التربوية في الإسلام‪ ،‬والاستفادة من التجربة البشرية المعاصرة‪ ،‬و ِم ْن َث َّم العمل على توحيد‬ ‫نظامي التعليم الإسلامي التقليدي والغربي الحديث والمعاصر في نظام واحد‪ ،‬يستفيد‬ ‫م ّما في النظامين من حسنات‪ ،‬ويستبعد ما فيهما من نقائص؛ بالرغم من ذلك‪ ،‬فإ َّن هذه‬ ‫الازدواجية لا تزال قائمة بصور ش ّتى‪ ،‬مع انزياح متزايد نحو اعتماد التجربة الغربية أساس ًا‬ ‫لكل تخطيط وممارسة تربوية في مجتمعاتنا‪ ،‬وانحسار متزايد لما ُيس ّمى التعليم الديني في‬ ‫دروس محدودة في التعليم العام‪ ،‬وفي كليات أو أقسام جامعية لتعليم \"الشريعة\"‪.‬‬ ‫وتتك َّون مادة هذا الفصل من ثلاثة موضوعات‪ ،‬ق َّدمنا في أولها وصف ًا إجمالي ًا لواقع‬ ‫الفكر التربوي الإسلامي في سياقه التاريخي والمعاصر‪ ،‬اعتماد ًا على ما تكشف عنه‬ ‫مناهج التعليم الجامعي‪ ،‬ونتائج البحوث والمؤسسات البحثية‪ ،‬والمؤ ِّثرات السياسية‬ ‫والاقتصادية‪ ،‬مع الإشارة إلى أ َّننا ننظر إلى واقع الفكر التربوي الإسلامي في ظ ِّل ما قد‬ ‫ُي َع ُّد أزم ًة عالمي ًة في التعليم‪.‬‬ ‫‪505‬‬

‫وجاء الثاني ُمط َّولاً نسبي ًا عن مشكلة المرجعية في الفكر التربوي المعاصر‪ .‬فأ ُّي فكر‬ ‫تربوي لا ُب َّد أ ْن تكون له مرجعية معينة‪ ،‬ينطلق منها‪ ،‬ويحتكم إليها؛ إذ نجد من الضروري‬ ‫أ ْن َي ِع َي التربويون في مجتمعاتنا الإسلامية تمام الوعي بالمرجعية الغربية للفكر التربوي‬ ‫السائد في البلدان الغربية؛ ذلك أ َّن معظم مجتمعاتنا تستمد فكرها التربوي من التجربة‬ ‫الغربية المعاصرة‪ ،‬بمرجعيته وممارساته‪ .‬والمعروف أ َّن الفكر التربوي الغربي يبدأ‬ ‫بالإشارة إلى عمقه التاريخي من أقدم العصور‪ ،‬بالإحالة إلى إنجازات فلاسفة اليونان‬ ‫والإغريق‪ .‬ور َّبما نجد إشارات عابرة إلى بعض الحضارات القديمة في مصر والهند‬ ‫والعراق‪ .‬ث َّم يشير إلى المرجعية الدينية المسيحية‪ ،‬ث َّم يتجاوز عص َر الظلمات الأوروبي‪،‬‬ ‫متجاهل ًا تاريخ العا َلم وحضاراته الأُخرى خارج أوروبا في أثناء هذا العصر‪ ،‬الذي يقابله‬ ‫العصر الذهبي للحضارة الإسلامية‪ ،‬ليقفز إلى عصر الأنوار الأوروبي‪ ،‬وعصر الاكتشافات‬ ‫العلمية والجغرافية‪ ،‬ويشير إلى إسهامات حشد كبير من المف ِّكرين والتربويين في الغرب‬ ‫الأوروبي والأمريكي‪ ،‬مع تغييب كامل لإسهامات غيرهم من مف ِّكري الشعوب الأُخرى‪،‬‬ ‫لا سيما مف ِّكري الحضارة الإسلامية‪.‬‬ ‫أ ّما الثالث فقد خ َّصصناه للحديث عن طبيعة الوعي بقضية الإصلاح التربوي‬ ‫ومسؤوليات الأوساط التربوية في هذا الإصلاح‪ .‬وتض َّمن إشارة إلى درجة حضور الرؤية‬ ‫الإسلامية في الإصلاح التربوي‪ ،‬ومتط َّلبات التغ ُّير المنشود في ضوء صورة الواقع‪،‬‬ ‫والوعي بمنطلقات الإصلاح‪.‬‬ ‫وانتهى الفصل بخاتمة أشارت ‪-‬بإيجاز‪ -‬إلى متط َّلبات الإصلاح من الجهد والوقت‪،‬‬ ‫ومسؤولية الباحثين والقادة التربويين في النظر إلى قضية الإصلاح التربوي بما َيلزمها من‬ ‫روح الرسالة وحمل الأمانة‪.‬‬ ‫‪506‬‬

‫المبحث الأول‬ ‫وصف إجمالي لواقع الفكر التربوي الإسلامي‬ ‫وسياقه التاريخي والمعاصر‬ ‫أولاً‪ :‬مناهج التعليم الجامعي‪:‬‬ ‫لع َّل أول مصادر المعرفة بحالة الفكر التربوي السائد في البلدان الإسلامية هو النظر‬ ‫في مناهج التعليم الجامعي؛ إذ تكشف هذه المناهج عن حالة التعليم بصورة واضحة؛ ذلك‬ ‫أ َّن البرامج والمناهج الجامعية تصوغ معرفة طلبة الجامعة‪ ،‬وتؤ ِّطر تفكيرهم في مصادر‬ ‫هذه المعرفة‪ .‬وتنتقل هذه المعرفة ومرجعياتها الفكرية إلى فكر الـ ُمع ِّلمين في التعليم العام‬ ‫من خلال ممارساتهم التعليمية‪ .‬ولنأخذ مثالاً على ذلك من موقع الشخصيات المؤ ِّثرة في‬ ‫الفكر التربوي والتعليمي في الماضي والحاضر؛ إذ نجد أ َّنه يتع َّين على دارسي التربية في‬ ‫جامعات العا َلم العربي والإسلامي‪ ،‬في مستويات التعليم المختلفة؛ من‪ :‬البكالوريوس‪،‬‬ ‫والدبلوم‪ ،‬والماجستير‪ ،‬والدكتوراه‪ ،‬أ ْن يعرفوا إسهامات عدد كبير من الشخصيات الغربية‪،‬‬ ‫وما ق َّدموا من نظريات في التخ ُّصصات التربوية المختلفة؛ سواء في فلسفة التربية‪ ،‬أو أصول‬ ‫التربية‪ ،‬أو تاريخ التربية‪ ،‬أو أسس التربية‪ ،‬أو علم النفس التربوي‪ ،‬أو في العلوم التربوية‪،‬‬ ‫مثل‪ :‬المناهج‪ ،‬والقياس والتقويم التربوي‪ ،‬ونماذج التع ُّلم‪ ،‬وأساليب التعليم‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬ ‫بل إ َّننا نجد هذه الأسماء تتك َّرر في مواد التربية المختلفة‪ ،‬حيث تتقاطع الإشارة إلى‬ ‫إنجازاتها في محتوى هذه المواد‪ ،‬وتتع َّدد الإشارات إليها أحيان ًا إلى درجة الملل‪ .‬وفي‬ ‫المقابل‪ ،‬تغيب الشخصيات الإسلامية التربوية من محتوى هذه المواد غياب ًا كامل ًا‪ ،‬حتى‬ ‫لا نجد الدارسين يعرفون شيئ ًا عن المحاسبي‪ ،‬وابن عبد البر‪ ،‬وابن سحنون‪ ،‬والقابسي‪،‬‬ ‫والزرنوجي‪ ،‬وابن جماعة‪ ،‬والغزالي‪ ،‬وابن خلدون‪ ،‬والشوكاني‪ ،‬وأمثالهم‪ ،‬باستثناء َمن‬ ‫ُأتيحت له دراسة مادة في \"تاريخ التربية الإسلامية\"‪ ،‬أو أولئك الذين ُأتيح لهم اختيار واحد‬ ‫من هؤلاء الأعلام موضوع ًا لأطروحة جامعية‪ .‬أليس ذلك من تج ِّليات المرجعية الغربية‬ ‫في تحديد المحطات التاريخية في الفكر التربوي في العا َلم؟!‬ ‫‪507‬‬

‫صحي ٌح أ َّن حقبة زمنية َم َّرت بالعا َلم الإسلامي في الربع الأخير من القرن العشرين‪،‬‬ ‫وظهرت فيها مادة في \"التربية في الإسلام\"‪ ،‬أو \"التربية الإسلامية\"‪ ،‬و ُأن ِجزت فيها‬ ‫أطروحات جامعية عن إسهامات شخصيات من التراث التربوي الإسلامي‪ ،‬ولك َّن هذه‬ ‫الظاهرة بقيت معزولة في إطارها المح َّدد‪ ،‬من دون أ ْن تتفاعل مع برامج الإعداد التربوي‬ ‫في المواد الجامعية الأُخرى‪ ،‬ولم تنعكس آثارها على التخ ُّصصات التربوية المتعددة التي‬ ‫بقيت صور ًة طبق الأصل في أسمائها وبرامجها ومتط َّلباتها ع ّما يتم في الجامعات الغربية‪.‬‬ ‫ولع َّل من المفيد أ ْن يعرف القارئ أ َّن مادة في \"التربية الإسلامية\"‪ ،‬وأطروحات عن‬ ‫شخصيات تربوية إسلامية‪ ،‬قد أصبحت موضوعات للدراسة في كثير من الجامعات‬ ‫الغربية‪ (((.‬ومن المفيد كذلك أ ْن يعرف القارئ أ َّن الطبعات الحديثة لبعض الكتب‬ ‫المنهجية في \"أسس التربية\" ‪- Foundations of Education‬مثل ًا‪ -‬قد أضافت فقرات‪،‬‬ ‫وأحيان ًا فصل ًا كامل ًا عن \"التربية الإسلامية\"‪ ،‬ولم تكن هذه الإضافات موجودة في‬ ‫الطبعات السابقة من الكتب نفسها‪ (((.‬ور َّبما يعكس ذلك التط ُّور شيئ ًا من آثار الحضور‬ ‫الإسلامي المحلي المحدود في المجتمعات الغربية‪ ،‬أكثر م ّما يعكس اهتمام ًا بملايين‬ ‫المسلمين في العا َلم‪ ،‬أو بالاعتراف بعراقة الحضارة الإسلامية وعمق إسهاماتها في تاريخ‬ ‫الإنسان‪ .‬ور َّبما يكون الحضور الفكري والثقافي الإسلامي في الغرب ‪-‬على محدوديته‪-‬‬ ‫أكثر وزن ًا من مجموع الأُ َّمة الإسلامية‪ ،‬التي يقتصر حضورها في الاستراتيجية الغربية‬ ‫على كونها مصدر ًا للمواد الخام‪ ،‬وسوق ًا لل ُمن َتجات الغربية‪.‬‬ ‫((( عند مراجعة ملخصات الأطروحات الجامعية ‪ International Abstract Dissertation‬في الشبكة الإلكترونية‬ ‫(الإنترنت)‪ ،‬سيجد القارئ تحت عنوان ‪ Islamic Education‬عدد ًا من الأطروحات‪ .‬وإذا أدخل التهجئة‬ ‫المناسبة لأسماء الشخصيات الإسلامية‪ ،‬فسيجد أطروحات عن الإسهام التربوي لابن تيمية‪ ،‬وابن خلدون‪،‬‬ ‫وغيرهما‪ .‬ث َّم إ َّن بعض مراكز البحث في الجامعات الأوروبية والأمريكية تنشر كتب ًا متخصصة في التراث‬ ‫التربوي الإسلامي‪ .‬انظر مثل ًا‪:‬‬ ‫‪- Bradley, Cook. & Malkawi, Fathi (Editors). Classical Foundations of Islamic Educational‬‬ ‫‪Thought: A Compendium of Parallel English-Arabic Texts, Islamic Translation Series,‬‬ ‫‪Provo, UT.: Brigham Young University, (February 15, 2011).‬‬ ‫((( انظر مث ًلا‪:‬‬ ‫‪- McNergney, Robert & Herbert, Joanne. Foundations of Education: The Challenge of-‬‬ ‫‪Professional Practice. Third Edition. Boston: Allyn & Bacon, 2001, p. 152.‬‬ ‫‪508‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬البحوث والمؤسسات البحثية‪:‬‬ ‫يمكن التمييز بين ثلاثة أنواع من البحوث التي نجدها في المجلات المتخ ِّصصة‬ ‫في البحث‪ ،‬والأطروحات الجامعية‪ ،‬ومراكز البحث في المؤسسات المحلية والإقليمية‬ ‫والدولية‪ .‬وما َي ُه ُّمنا في هذا السياق هو صلة هذه البحوث بالمرجعية الفكرية الإسلامية‪.‬‬ ‫أ ّما النوع الأول من البحوث ذات الصلة بالفكر التربوي الإسلامي فينحصر غالب ًا في‬ ‫التراث التربوي الإسلامي‪ ،‬مع صلة ضعيفة (أو مفقودة) بالواقع التربوي المعاصر‪ .‬وأ ّما‬ ‫النوع الثاني من البحوث فيتمحور حول قضايا جزئية ذات طبيعة فنية يشتغل فيها الباحث‬ ‫ضمن النموذج القياسي السائد ‪ ،Paradigm‬حتى يتي َّسر نشره أو قبوله‪ ،‬وق َّلما يكون هاجس‬ ‫الرؤية الفكرية الإسلامية حاضر ًا عند الباحث‪ .‬وأ ّما النوع الثالث فهو ما تقوم به مؤسسات‬ ‫سياسية أو فكرية أو بحثية من دراسات وبحوث وتقارير موسمية أو دورية عن حالة التعليم‬ ‫في بلدان العا َلم‪ ،‬ولا يعنيها كثير ًا البحث في مصادر الاستمداد والتل ّقي التربوي؛ لأ َّن‬ ‫المحسوم لديها لصالح اعتبار حال التربية في العا َلم المعاصر هو المصدر‪ ،‬لا غير‪.‬‬ ‫ومن أمثلة النوع الثالث من البحوث والتقارير البحثية ما تقوم به مؤسسات دولية‪،‬‬ ‫مثل‪ :‬البنك الدولي‪ ،‬واليونسكو؛ ومؤسسات إقليمية‪ ،‬مثل مؤسسة الفكر العربي‪ ،‬إضاف ًة إلى‬ ‫الوزارات المتخ ِّصصة في كل دولة‪ ،‬ومراكز البحوث المحلية‪ .‬وال ُملا َحظ أ َّن هذه الدراسات‬ ‫والتقارير تر ِّكز على الإحصائيات والجوانب ال َك ِّمية‪ ،‬مقارن ًة بواقع الدول الصناعية‪ .‬وق َّلما نجد‬ ‫فيها من البيانات النوعية التي تخت ُّص بالهوية الفكرية لأبناء المجتمعات العربية‪ ،‬أو بال ُفرص‬ ‫التي تق ِّدمها مؤسسات التعليم العالي للتنمية الاجتماعية والاقتصادية‪ ،‬حتى إ َّن تقرير مؤسسة‬ ‫الفكر العربي يشير إلى \"أ َّن مخرجات التعليم العالي ليست بعلاقة وثيقة بعا َلم العمل‪(((\".‬‬ ‫وأفاد التقرير المشار إليه بتزايد معدلات الالتحاق بالتعليم العالي في العا َلم العربي؛‬ ‫نظر ًا للعدد المتزايد من مؤسسات التعليم العالي‪ .‬والسبب في هذا التزايد هو \"اعتماد‬ ‫دول المنطقة سياسات انفتاح وتشريعات سمحت للقطاع الأهلي والخاص الوطني‬ ‫((( مؤسسة الفكر العربي‪ .‬الابتكار أو الاندثار‪ :‬البحث العلمي العربي‪ :‬واقعه وتحدياته وآفاقه‪ ،‬التقرير العربي‬ ‫العاشر للتنمية الثقافية لعام ‪2018‬م‪ ،‬بيروت‪ :‬مؤسسة الفكر العربي‪2018 ،‬م‪ ،‬ص‪.152‬‬ ‫‪509‬‬

‫والأجنبي‪ ،‬بإنشاء مؤسسات للتعلم العالي‪ \".‬إضاف ًة إلى برامج خاصة في الجامعات‬ ‫الحكومية‪ ،‬هدفها س ُّد العجز المالي؛ ما أ ّدى إلى رفع كلفة التعليم‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يصعب‬ ‫الحصول على تفاصيل وإحصائيات دقيقة عن هذا الموضوع؛ نظر ًا لغياب المعلومات‬ ‫التي تو ِّضح أعداد هذه المؤسسات‪ ،‬وأنواعها‪ ،‬وتبعياتها‪ ،‬والبرامج التي تق ِّدمها‪ ،‬وأعداد‬ ‫الطلبة فيها‪ ،‬وما إلى ذلك من أمور تسمح برسم صورة واضحة عن مؤسسات التعليم‬ ‫العالي في الوطن العربي‪ (((.‬وقد نتج عن هذا الوضع تحديات متعددة‪ ،‬تم َّثلت في طبيعة‬ ‫العلاقة بين الجامعات والحكومة‪ ،‬وآليات الرقابة والرصد‪ ،‬وضمان الجودة‪ (((.‬ومثل هذه‬ ‫الحالة تثير أسئل ًة عن الهوية الوطنية والقومية والدينية لمخرجات هذا النوع من التعليم‪،‬‬ ‫ومدى الإسهام في الخروج من حالة التخ ُّلف والتبعية‪ ،‬ولا سيما إذا أضفنا إلى ذلك ما‬ ‫جاء في التقرير عن برامج التربية؛ إذ \"يش ِّكل النقص الفادح في أعداد طلبة برامج التربية‬ ‫في معظم دول المنطقة (العربية)‪ ،‬وفي خريجي هذه البرامج‪ ،‬تحدي ًا لاستمرار تد ّني جودة‬ ‫التعليم في مراحله المختلفة‪(((\".‬‬ ‫وقد أصبح هدف التنمية المستدامة وإجراءات تحقيق هذا الهدف موضوع ًا مهم ًا‬ ‫في مجتمعات العا َلم‪ ،‬وأخذت مؤسسات التعليم العالي تهتم ببرامج متن ِّوعة لتحقيق هذا‬ ‫الهدف‪ ،‬منها برامج التع ُّلم مدى الحياة‪ ،‬عن طريق عقد دورات متخ ِّصصة في التأهيل‬ ‫الفني والتنمية الإدارية وغيرهما من ُفرص تطوير المهارات والخبرات؛ للتك ُّيف مع التغ ُّير‬ ‫المتواصل في متط َّلبات الحياة العملية‪ .‬وقد أشار تقرير مؤسسة الفكر العربي إلى أ َّن مثل‬ ‫هذه البرامج التي تق ِّدمها الجامعات العربية \"أخفقت في ربط الجوانب الرئيسة للتع ُّلم‬ ‫مدى الحياة‪ ،‬والتعليم من أجل التربية المستدامة‪(((\".‬‬ ‫وذكر تقرير التنمية العربية المشار إليه أ َّن عملية التعليم المدرسي والجامعي لا تزال‬ ‫تعتمد على التلقين والحفظ‪ ،‬وتعتبر \"ال ُمد ِّرس هو الحجر الأساس والتلميذ هو المتل ّقي‬ ‫السلبي في العملية التعليمية‪( ... ،‬وتقوم) الامتحانات على تذ ُّكر المعلومات واجترارها‪\".‬‬ ‫في حين كان ينبغي أ ْن \"تر ِّكز أساليب التدريس على العناصر المتع ِّلقة بعمليات التع ُّلم‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.143‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.160-159‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.156‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.159‬‬ ‫‪510‬‬

‫المعتمدة على التفكير النقدي‪ ،‬بدلاً من تراكم المعرفة؛ لتطوير مهارات الخريجين‪،‬‬ ‫وقابلياتهم في التك ُّيف والابتكار والإبداع‪(((\".‬‬ ‫وحتى في التوصيات التي ق َّدمها الفصل الأول عن \"واقع التعليم العالي في الدول‬ ‫العربية\"‪ ،‬فإ َّن غاية ما فيها هي التوصية بعدد من الأمور التي ُتع ِّزز قدرة الجامعات العربية‬ ‫\"على تخ ّطي الوضع الراهن‪ ،‬والوصول إلى مستويات التعليم العالي والبحث العلمي‬ ‫العالمية‪ (((\".‬وفي حين تفتقر الدول العربية إلى برامج تعا ُون في التعليم العالي‪ ،‬تدخل‬ ‫بعض هذه الدول في برامج تعا ُو ٍن و َت َب ٍّن كام ٍل لنُ ُظم التعليم في بلدان ُأخرى‪ ،‬كما هو الحال‬ ‫في الدول العربية التي اعتمدت النموذج الأوروبي في التعليم الذي تضمنته اتفاقية بولونيا‬ ‫للتعا ُون الأوروبي في التعليم العالي‪.‬‬ ‫ولك ْن ما َي ُه ُّمنا في هذا السياق هو إدراك أ َّن مشكلات التربية في بلدان العا َلم الإسلامي‬ ‫ذات طبيعة ُمر َّكبة؛ فهي من جانب تتأ َّثر بالمشكلات التربوية العالمية بحكم التبعية‪ ،‬ولك ْن‬ ‫بصورة أش َّد ِح َّد ًة‪ ،‬وهي من جانب آخر تع ِّبر عن عدم ملاءمة الفكر التربوي المستورد‬ ‫لطبيعة المجتمعات الإسلامية وحاجاتها ومشكلاتها الحقيقية؛ إذ توجد مشكلات خاصة‬ ‫ببعض المجتمعات الإسلامية‪ ،‬تتم َّثل في ارتفاع نسبة الأُ ِّمية‪ .‬فقد أعلنت المنظمة العربية‬ ‫للتربية والعلوم والثقافة (أليكسو) أ َّن نسبة الأُ ِّمية بالبلاد العربية في آخر عام ‪2017‬م‬ ‫هي ‪ %21‬تقريب ًا‪ (((،‬ل َمن تتجاوز أعمارهم ‪ 15‬عام ًا‪ ،‬في مقابل النسبة العالمية ‪،%13.6‬‬ ‫وهذا يعني أ َّنه يوجد ‪ 45‬مليون عربي ُأ ِّمي‪ ،‬وأ َّن ما نسبته ‪ %13.5‬من العرب لا يدخلون‬ ‫المدارس‪ ،‬وأ َّن نسبة الأُ ِّمية في مصر ارتفعت إلى ‪ ((( ،%25.8‬وفي المغرب إلى ‪(((.%30‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.163‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.167‬‬ ‫((( انظر الموقع الإلكتروني للمنظمة‪ ،‬حيث ُن ِشر التقرير في الرابط‪:‬‬ ‫‪- http: //www.alecso.org/newsite/2016-02-02-13-47-43/2114-2018-09-07-11-52-52.html‬‬ ‫((( وصلت نسبة ا ُلأ ِّمية في مصر إلى ‪ %25.8‬من مجموع السكان‪ ،‬وهي بين الإناث ‪ %30.8‬مقابل ‪ %21.1‬بين‬ ‫الذكور‪ ،‬وذلك بحسب إحصائيات عام ‪2017‬م‪ .‬انظر جريدة اليوم السابع‪ ،‬بتاريخ‪ :‬الجمعة ‪ 6‬يوليه (تموز)‬ ‫‪2018‬م‪ .‬انظر رابط النسخة الإلكترونية‪:‬‬ ‫‪- http: //tiny.cc/tmws6y‬‬ ‫((( ص َّرح بذلك الوزير مصطفى الخلفي‪ ،‬و ُن ِشرت تصريحاته يوم ‪ 31‬أكتوبر ‪2017‬م‪ ،‬في جريدة إيلاف الإلكترونية‬ ‫التي تصدر في لندن‪ .‬انظر الرابط‪:‬‬ ‫‪- https: //elaph.com/Web/News/2017/10/1174739.html‬‬ ‫‪511‬‬

‫أ ّما في العا َلم الإسلامي فقد أعلنت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة‬ ‫(الإيسسكو) أ َّن نسبة الأُ ِّمية عام ‪2014‬م بلغت نحو ‪%50‬؛ فهي للذكور ‪ ،%40‬وللإناث‬ ‫‪ (((.%65‬وهي ‪-‬مث ًلا‪ -‬في الباكستان ‪ (((،%42‬وفي أفغانستان ‪ %68‬عند الإناث‪،‬‬ ‫ونحو ‪ %40‬بين الذكور‪ (((.‬و ِم ْن َث َّم‪ ،‬فإ َّنه من ال ُمتو َّقع أ ْن تكون التربية السائدة في‬ ‫العا َلم الإسلامي عاجز ًة عن معالجة المشكلات المحلية‪ ،‬فضل ًا عن الإسهام في معالجة‬ ‫المشكلات العالمية‪.‬‬ ‫وسيكون من المفيد إجراء دراسة مسحية لأدبيات الإصلاح التربوي على مستوى‬ ‫العا َلم؛ للبحث عن موقع الباحثين المسلمين‪ ،‬في هذه الأدبيات‪ ،‬وعن الفكر التربوي‬ ‫الإسلامي ومنهجه الإصلاحي‪ ،‬الذي يمكن أ ْن ُيس ِهم في ح ِّل المشكلات‪ ،‬أو التخفيف‬ ‫من ِح َّدتها‪ ،‬ليس في مجتمعات المسلمين فحسب‪ ،‬بل في سائر المجتمعات‪ .‬أفلا نحتاج‬ ‫إلى دراسة من هذا النوع لتكشف لنا عن غياب الفكر التربوي الإسلامي عن ساحة العا َلم‪،‬‬ ‫ولنستنتج أ َّن العا َلم العربي والإسلامي هو ساحة للنظر والاختبار ومقارنة فعل الأنظمة‬ ‫التربوية الغربية عندما ُتستن َبت في بلادنا؟‬ ‫ثالث ًا‪ :‬تو ُّجهات سياسية واقتصادية‪:‬‬ ‫يخضع التعليم العام في المجتمعات الإسلامية اليوم إلى ضغوط هائلة من القوى‬ ‫العالمية المهيمنة لتغيير المناهج‪ ،‬وإزالة ما فيها من نصوص َي َّدعون أ َّنها \"تثير الكراهية\"‪،‬‬ ‫ولا \"تحترم الآخر\"‪ ،‬و ُتل ِّقن \"ثقافة الإرهاب\"‪ .‬وتحت هذه الا ِّدعاءات ُتستب َعد نصو ٌص‬ ‫من القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية‪ ،‬و ُيستب َدل بها موا ُّد ُتب ِّشر بالسلام‪ ،‬وتدعو إلى المحبة‪،‬‬ ‫و ُتر ِّحب بالأعداء‪ ،‬و ُتن ِكر الخصوصيات‪ ،‬و ُته ِّدد بإلغاء الهوية‪ .‬ولا تكتفي هذه الضغوط‬ ‫((( وفق ما نقلته الصفحة الإلكترونية لقناة الجزيرة بتاريخ ‪2014 /9/5‬م‪ ،‬في الرابط‪:‬‬ ‫‪- http: //tiny.cc/osws6y‬‬ ‫((( كما جاء في جريدة ‪ Nation‬الباكستانية ضمن تقرير صدر مطلع عام ‪2018‬م‪ .‬انظر ذلك في رابط النسخة‬ ‫الإلكترونية للجريدة‪:‬‬ ‫‪- https: //nation.com.pk/08-Feb-2018/literacy-rate-in-pakistan‬‬ ‫((( ورد ذلك في إحصائيات أطلس العالم‪ .‬انظر الرابط‪:‬‬ ‫‪- https: //ar.actualitix.com/country/afg/ar-statistics-education-afghanistan.php‬‬ ‫‪512‬‬

‫بالمطالب السياسية الصريحة‪ ،‬وإ َّنما تدعمها بما َيلزم من متط َّلبات التغيير في المناهج؛‬ ‫من‪ :‬أموال‪ ،‬وخبرات‪ ،‬وتدريب‪ .‬وتجد هذه الضغوط َمن تط َّبعت عقو ُلـهم وضمائ ُرهم‬ ‫على قبول ذلك‪ ،‬والمسارعة إلى تنفيذه‪ ،‬والدفاع عنه‪.‬‬ ‫وفي الوقت الذي شهد فيه العا َلم المعاصر دعوات كثيرة من خارج العا َلم الإسلامي‪،‬‬ ‫ث َّم من داخله‪ ،‬لعمل دراسات مستفيضة عن مناهج التعليم في البلدان الإسلامية‪ ،‬بدعوى‬ ‫أ َّنها ُتش ِّجع على الكراهية‪ ،‬و ُتخ ِّرج َمن ُيؤ ِّيد الإرهاب ويمارسه؛ فإ َّننا لم نجد دليل ًا واحد ًا‬ ‫ق َّدمته هذه الدراسات على ارتباط هذه المناهج بأ ِّي شيء من ممارسات التط ُّرف‪ ،‬أو‬ ‫العنف‪ ،‬أو ب ِّث الكراهية‪ .‬والغريب أ َّننا لم نشهد في هذه الحقبة من الزمن دعوات لدراسة‬ ‫مناهج المدارس اليهودية أو النصرانية‪ ،‬أو تأثيرات اليمين ال ُمتط ِّرف في الولايات المتحدة‬ ‫الأمريكية والبلدان الأوروبية‪ ،‬في تغذية ظاهرة الكراهية‪ ،‬أو التط ُّرف‪ ،‬أو العنف‪.‬‬ ‫وفيما يخ ُّص التعليم الجامعي في المجتمعات الإسلامية اليوم‪ ،‬فإ َّن الأمثلة على غياب‬ ‫المرجعية الفكرية الإسلامية كثيرة؛ ما ُي ْخلي السبيل أمام قوى العولمة وعناصرها الغربية‪.‬‬ ‫ومن هذه الأمثلة ما يخت ُّص بنُ ُظم التعليم‪ ،‬وبرامجه‪ ،‬ومناهجه؛ ففلسفة التعليم الجامعي‪،‬‬ ‫ومعايير جودته‪ ،‬و ُن ُظم تصنيف الجامعات‪ ،‬تقوم على حضور علمي شكلي‪ ،‬وتقديرات‬ ‫َك ِّمية‪ ،‬وتيسيرات مادية‪َ ،‬تح َّد َد ْت في ضوء ما تم تطويره واعتماده في المجتمعات الأُخرى‪،‬‬ ‫وتغيب عنها أ َّية مرجعيات قيمية إسلامية‪ ،‬فضل ًا عن غياب السياسات الملائمة للتطوير‬ ‫الاجتماعي‪ ،‬والتق ُّدم الثقافي‪ ،‬والتنمية الاقتصادية‪ .‬فنُ ُظم القبول والاعتراف والاعتماد‬ ‫في الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص هي الأساس في‬ ‫صياغة ُن ُظم التعليم في المجتمعات الإسلامية‪.‬‬ ‫ومن أمثلة الضغوط التي تمارسها العولمة ما يخت ُّص بالسعي لتحقيق الجودة في‬ ‫التعليم‪ .‬فقد رصدت اليونسكو اتجاه معالجة الجودة في التعليم العالي \"نحو المعايير‬ ‫التي يمكن الرجوع إليها دولي ًا؛ أ ِي التح ُّرك نحو الاعتراف المتبادل والثقة‪ ،‬بحيث تتصف‬ ‫البرامج الوطنية لضمان الجودة بمصداقية دولية‪(((\".‬‬ ‫‪(1) Altbach, Philip G. & Reisberg, Liz. & Rumbley, Laura E. Trends in Global Higher‬‬ ‫‪Education: Tracking an Academic Revolution, A Report Prepared for the 2009 World‬‬ ‫‪Conference on Higher Education, Paris: UNESCO, 2009, p. 168.‬‬ ‫‪513‬‬

‫ومن أمثلة التاريخ الحديث على اقتراض بعض المجتمعات الإسلامية لنظام تعليمي‬ ‫أجنبي؛ عنوان ًا وروح ًا ون ّص ًا‪ ،‬بصورة تكشف عن طبيعة التبعية والاستلاب الثقافي‪-‬‬ ‫التعليمي؛ تطبيق نظام \"ل م د\" للتعليم الجامعي في عدد من هذه المجتمعات‪ ،‬علم ًا بأ َّن هذه‬ ‫النظام ‪-‬في الأساس‪ -‬هو محاولة لتوحيد المعايير النوعية للتعليم العالي في دول الاتحاد‬ ‫الأوروبي‪ ،‬اعتماد ًا على عدد من المبادئ‪ ،‬أهمها‪ :‬توحيد الرتب الأكاديمية‪ ،‬وتسهيل حركة‬ ‫الطلبة والأساتذة والباحثين‪ ،‬وتعزيز ال ُب ْعد الأوروبي للتعليم العالي في محاولة لتح ّدي‬ ‫الهيمنة الأمريكية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فقد كانت هذه المجتمعات الإسلامية أسرع تطبيق ًا لهذا‬ ‫النظام‪ ،‬وأكثر التزام ًا به من الدول الأوروبية نفسها‪.‬‬ ‫إ َّن أهم القوى المؤ ِّثرة في اتجاهات \"العولمة\" و\"التدويل\"‪ ،‬وما تمارسه هذه‬ ‫الاتجاهات من ضغوط سياسية في هذه الأيام‪ ،‬يتم َّثل في طبيعة الاقتصاد العالمي القائم‬ ‫على تسويق ثقافة استهلاكية شديدة الجاذبية‪ ،‬تدعمها ق َّوة سياسية قاهرة‪ ،‬تستخدم أدوات‬ ‫إعلامية شديدة التأثير والفاعلية‪ .‬وفي مثل هذا الواقع أصبح النظام التربوي في المجتمع‬ ‫المعاصر متأ ِّثر ًا منفعل ًا بدل أ ْن يكون مؤ ِّثر ًا فاعل ًا‪ ،‬وأصبح لِزام ًا على النظام التربوي أ ْن‬ ‫يتك َّيف مع التغ ُّيرات المتلاحقة في المجتمع الحديث بدل أ ْن يكون أدا ًة لتغيير المجتمع‬ ‫وتنميته في اتجاهات مح َّددة‪.‬‬ ‫رابع ًا‪ :‬السياق التاريخي لواقع الفكر التربوي الإسلامي‪:‬‬ ‫سعى المجتمع المسلم ‪-‬منذ بواكير نشأته‪ -‬إلى اكتساب العلم من مصادره ومظا ِّنه‪،‬‬ ‫بوسائله وأدواته‪ ،‬فكان مجتمع ِع ْل ٍم وتع ُّل ٍم وتعلي ٍم‪ ،‬وكان في حالة تغ ُّي ٍر دؤو ٍب للخروج‬ ‫من الأُ ِّمية عن طريق الأخذ بالوسائل والأساليب الأساسية للعلم والتع ُّلم‪ ،‬لا سيما القراءة‬ ‫والكتابة‪ .‬وكان يتع َّين على َمن يدخل في الإسلام أ ْن يتع َّلم القرآن الكريم و ُسنَّة النب ِّي ص ّلى‬ ‫الله عليه وس َّلم‪ ،‬وما فيهما من أحكام وتوجيهات في المعتقدات والعبادات والمعاملات‪،‬‬ ‫وسائر شؤون الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها‪ ،‬وكان لِزام ًا على المجتمع‬ ‫أ ْن يت ِقن ما هو بحاجة إليه من فنون العلم والمعرفة في بناء المدن وهندستها وإدارتها‪،‬‬ ‫وتنظيم الموارد الاقتصادية من زراعة وتجارة وحرف ومهن؛ وأ ْن يتع َّلم الجديد في أمور‬ ‫حماية المجتمع م ّما يتط َّلبه أمنه الداخلي‪ ،‬فضل ًا عن متط َّلبات أمنه الخارجي‪ ،‬وما َيلزم ذلك‬ ‫من وسائل الدفاع والقتال‪.‬‬ ‫‪514‬‬

‫وكل ذلك يحتاج إلى تنظيم وإدارة تتض َّمن تدوين الدواوين‪ ،‬وتوفير الموارد‬ ‫وإدارتها‪ .‬ولأ َّن المجتمع المسلم كان في حالة اتصال دائم بغيره من شعوب المجتمعات‬ ‫الأُخرى بال ِّس ْلم والحرب؛ فقد تع َّين عليه أ ْن يط ِّور أساليب التعامل مع الثقافات الأُخرى؛‬ ‫تع ُّلم ًا‪ ،‬وتعليم ًا‪.‬‬ ‫وكانت كل هذه التح ُّولات تتم في عهد الرسالة عن طريق التربية القرآنية والنبوية‪،‬‬ ‫بصورة متد ِّرجة في ظ ِّل الحالات والمناسبات والأحداث التي يم ُّر بها الأفراد‪ ،‬ويم ُّر بها‬ ‫المجتمع الناشئ‪ .‬وبعد عهد الرسالة بقيت نصوص القرآن الكريم وبيانها العملي في‬ ‫ال ُّسنة والسيرة النبوية هي المرجعية الحاكمة لكل أمور العلم والتع ُّلم؛ فقد تط َّور فهم هذه‬ ‫النصوص وما فيها من توجيهات إلى علوم الفقه وأصوله‪ ،‬ف ُد ِّونت كتب الفقه‪ ،‬وتو َّزعت‬ ‫في مدارس فكرية ُع ِرفت بالمذاهب الفقهية‪ ،‬و ُد ِّونت كتب العقيدة وقضايا الإيمان‪،‬‬ ‫وتو َّزعت في مدارس فكرية ُع ِرفت بالمذاهب الكلامية‪ .‬وتط َّورت الحاجة إلى تع ُّلم اللغة‬ ‫العربية وضبطها‪ ،‬فاس ُتح ِدثت علوم في قواعد اللغة نحو ًا وصرف ًا‪ ،‬وفي معاجم المفردات‬ ‫والمعاني‪ ،‬وصنوف الأدب والنقد‪ .‬ونظر ًا لأ َّن العهد أخذ يبتعد بالناس عن لغة القرآن‬ ‫الكريم والحديث النبوي؛ فقد جاءت كتب التفسير والشرح لتقريب المعاني الأصلية وفق‬ ‫مناسباتها ومقاصدها‪ .‬ولم تكن علوم التاريخ والسير والفلك والهندسة والطب غائبة عن‬ ‫هذه الحركة العلمية المتواصلة‪.‬‬ ‫وقد ُد ِّونت في كل ذلك مصنَّفات كثيرة‪ ،‬كان المؤ ِّلف في ك ٍّل منها يجمع ما يستفيده‬ ‫من مصادره‪ ،‬بجهد كبير يتض َّمن ر ْصد ما لدى شيوخه من نصوص وآثار‪ ،‬والتن ُّقل والسفر‬ ‫من بلد إلى آخر‪ ،‬من دون أ ْن يبخل بما يتوافر له من سنوات العمر‪ ،‬وجهد النفس‪ ،‬وبذل‬ ‫المال‪ ،‬وما يتم َّكن من إضافته؛ من‪ :‬حكمته‪ ،‬وخبرته‪ ،‬وتجربته الشخصية‪.‬‬ ‫وكانت علوم الشعوب الأُخرى وخبراتها حاضرة في مجمل هذه الحركة العلمية؛ إذ‬ ‫دخلها المسلمون في ميادينها المناسبة‪ ،‬بعد تصفيتها ضمن المرجعية الإيمانية للمجتمع‬ ‫المسلم‪ ،‬وصهرها بثقافته‪ ،‬وتوظيفها لمقاصده‪ .‬وقد رافق التع ُّلم من خبرات الشعوب‬ ‫الأُخرى حيا َة المجتمع المسلم من أيامه الأولى؛ فقد تع َّلم المسلمون فكرة حفر الخندق‬ ‫حول المدينة بوصف ذلك إحدى استراتيجيات الحرب في بعض الحالات‪ ،‬وهو أمر لم‬ ‫يكن معروف ًا في المجتمع المسلم الجديد‪ ،‬ولكنَّه كان معروف ًا في مجتمعات ُأخرى‪ .‬وتع َّلم‬ ‫‪515‬‬

‫المسلمون استخدام المنجنيق والدبابة في حصار الطائف‪ .‬وعندما شعر النبي ص ّلى الله‬ ‫عليه وس َّلم بحاجة المجتمع المسلم إلى بعض اللغات الأجنبية أمر بتع ُّلمها‪ .‬وأخذ عمر‬ ‫بن الخطاب بنظام الدواوين الذي لم يكن معروف ًا في المجتمع الإسلامي‪ ،‬وأخذ عثمان بن‬ ‫ع ّفان بفكرة كتابة المصحف وتوزيعه على ولايات الدولة الإسلامية‪ ،‬وأخذ عبد الملك بن‬ ‫مروان ب َس ِّك ال ُع ْملة الإسلامية بعد أ ْن كان المسلمون يستعملون الدينار البيزنطي والدرهم‬ ‫الساساني‪ ،‬وهكذا في سائر مجالات الخبرة البشرية المتاحة‪.‬‬ ‫وكانت هذه الحركة العلمية المتواصلة خلال القرون الثلاثة الأُولى من عمر‬ ‫المجتمع المسلم هي أساس التط ُّور والتق ُّدم الحضاري في سائر الميادين‪ ،‬لا سيما أ َّن‬ ‫هذا المجتمع وصل إلى درجة من التو ُّسع والامتداد الجغرافي‪ ،‬بحيث شمل أجزا ًء كبير ًة‬ ‫من العا َلم المعروف آنذاك في آسيا وإفريقيا وأوروبا‪ .‬ونشأ عن هذا الامتداد الجغرافي‬ ‫والإنجاز الحضاري نظا ٌم عالمي إسلامي لم تجد الشعوب الأُخرى مناص ًا من الاعتراف‬ ‫به‪ ،‬والتعامل معه‪.‬‬ ‫ومع هذا القدر من الوضوح في مسألة السعي المتواصل في العلم والتع ُّلم‪ ،‬والحرص‬ ‫على تق ُّدم المجتمع المسلم وتوظيفه لما أصبح متاح ًا من العلوم والمعارف في المجالات‬ ‫المختلفة‪ ،‬فإ َّن الأمر تع َّرض لحالات من ال َغ َب ِش في بعض الظروف‪ .‬فقد جاء القرن الرابع‬ ‫ببعض الانتكاسات العلمية التي أخذت تتك َّرس شيئ ًا فشيئ ًا في القرون اللاحقة‪ ،‬فبدأ‬ ‫الجمود على التقليد لأسباب مختلفة‪ ،‬منها عدم توافر الجرأة عند العلماء على الاجتهاد‬ ‫كما كان يجتهد السابقون‪ ،‬من باب الورع والتواضع والحذر من أهواء النفس‪ ،‬أو الخشية‬ ‫من مواجهة انتقادات أهل التقليد‪ ،‬أو الرغبة في مطاوعة الحالة السياسية والعلمية التي‬ ‫عرفت التع ُّصب المذهبي‪ ،‬واقتصار التعليم في ال ُق ْطر الواحد على المذهب ال ُمعت َمد فيه‬ ‫بأمر من السلطان‪ .‬وكان السبب في ذلك أحيان ًا الحذر من أ ْن يقع العالِم في َأتون المعارك‬ ‫العلمية التي سعت إلى تت ُّبع مقولات العلماء ومواقفهم؛ بحث ًا ع ّما قد ُي َع ُّد موضع ًا للنقد‪ ،‬أو‬ ‫سعي ًا للحكم بالز َّلة أو الانحراف‪.‬‬ ‫وبدلاً من مواصلة التأليف العلمي الأصيل في الموضوعات المختلفة‪ ،‬أخذ التأليف‬ ‫يقتصر على شرح كتب السابقين‪ ،‬ووضع هوامش على المتون‪ ،‬أو تلخيص المتون‬ ‫واختصار الشروح‪ ،‬أو وضع المتون في منظومات شعرية لتسهيل حفظها‪ ،‬ث َّم لزم شر ُح‬ ‫‪516‬‬

‫هذه المنظومات وف ُّك ُع َقدها‪ .‬وكان كل ذلك من صور التو ُّقف عن التجديد‪ ،‬والجمود‬ ‫على التقليد‪ .‬واستمر ذلك حتى بعد أ ْن أخذت الشعوب الأُخرى‪ ،‬لا سيما في أوروبا‪ ،‬في‬ ‫النهوض‪ ،‬وامتلاك أسباب الق َّوة والتق ُّدم في ميادين العلم والصناعة والاختراع‪ ،‬وأخذت‬ ‫تستخدم هذه الق َّوة في غزو بلاد المسلمين‪ ،‬واقتطاع أجزائها‪ ،‬وفرض شروطها عليها‪.‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬فقد وصل الأمر ببعض العلماء ‪-‬في بعض المراحل‪ -‬إلى إنكار توظيف العلوم‬ ‫والخبرات والصناعات التي ط َّورها غير المسلمين؛ ما و َّسع ال ُه َّوة بين واقع المجتمع‬ ‫المسلم وواقع المجتمعات الأُخرى‪.‬‬ ‫والحقيقة أ َّن الوعي بمشكلة تخ ُّلف العلم كان مبكر ًا‪ ،‬وتو َّزع حملته ضمن فئات‬ ‫مختلفة‪ ،‬لم تنجح بعضها في استمرار حركته وتق ُّدمها‪ ،‬وو َّظفت ُأخرى علمها لهوى النفس‬ ‫أو هوى السلطان‪ ،‬و َج َم َدت بعضها على التقليد؛ جهل ًا أو كسل ًا‪ ،‬في حين آث َر ببعضها‬ ‫الآخر الحياة الدينا‪.‬‬ ‫ونكتفي بتوثيق نصين من نصوص التخ ُّلف الذي أصاب المجتمع الإسلامي؛ إذ قال‬ ‫أبو حامد الغزالي‪\" :‬فأدلة الطريق هم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء‪ ،‬وقد َش َغ َر منهم الزمان‪،‬‬ ‫ولم يب َق إلا المتر ِّسمون‪ ،‬وقد استحوذ على أكثرهم الشيطان‪ ،‬واستغواهم الطغيان‪ ،‬وأصبح‬ ‫كل واحد من أ ْجل ح ِّظه مشغوف ًا‪ ،‬فصار يرى المعروف منكر ًا والمنكر معروف ًا‪ ،‬حتى ظ َّل‬ ‫َع َل ُم الدين مندرس ًا‪ ،‬ومنا ُر الهدى في أقطار الأرض منطمس ًا‪ ،‬ولقد َخ َّيلوا إلى الخلق أ ْن‬ ‫لا علم إلا فتوى حكومة‪ ،‬تستعين بهم القضاة على فصل الخصام عند تهاوش ال َّطغام‪ ،‬أو‬ ‫جد ٌل يتد َّر ُع به طالب المباهاة إلى الغلبة والإفحام‪ ،‬أو سج ٌع مزخرف يتو َّسل به الواعظ إلى‬ ‫استدراج العوام؛ إذا لم يروا ما سوى هذه الثلاثة مصيدة للحرام‪ ،‬وشبكة لل ُحطام‪.‬‬ ‫فأ ّما طريق الآخرة وما درج عليه السلف الصالح م ّما س ّماه الله سبحانه في كتابه فقه ًا‬ ‫وحكم ًة وعلم ًا وضيا ًء وهداي ًة ورشد ًا‪ ،‬فقد أصبح من بين الخلق مطوي ًا‪ ،‬وصار نسي ًا منسي ًا‪.‬‬ ‫ول ّما كان هذا َث ْلم ًا في الدين ُم ِل ّم ًا‪ ،‬وخطب ًا ُم ْدل ِه ّم ًا‪ ،‬رأيت الاشتغال بتحرير هذا الكتاب‬ ‫مه ّم ًا؛ إحيا ًء لعلوم الدين‪ ،‬وكشف ًا عن مناهج الأئمة المتق ِّدمين‪ ،‬وإيضاح ًا لمباهي العلوم‬ ‫النافعة عند النبيين والسلف الصالحين‪(((\".‬‬ ‫((( الغزالي‪ ،‬أبو حامد محمد بن محمد (توفي‪505 :‬ﻫ)‪ .‬إحياء علوم الدين‪ ،‬بيروت‪ :‬دار ابن حزم‪ ،‬ط‪2005 ،1‬م‪ ،‬ص‪.8‬‬ ‫‪517‬‬

‫وقد ب َّين ولِ ُّي الله الدهلوي ما انتهى إليه المجتمع الإسلامي بعد المئة الرابعة‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫\"وحدث فيهم أمور منها الجدل والخلاف في علم الفقه وتفصيله‪ ...‬ومنها أ َّنهم اطمأنوا‬ ‫بالتقليد‪ ،‬ود َّب التقليد في صدورهم دبيب النمل وهم لا يشعرون‪ .‬وكان سبب ذلك تزاحم‬ ‫الفقهاء وتجادلهم فيما بينهم؛ فإ َّنهم ل ّما وقعت فيهم المزاحمة في الفتوى كان كل َمن أفتى‬ ‫بشي ٍء ُنو ِقض في فتواه‪ ،‬و ُر َّد عليه‪ ،‬فلم ينقطع الكلام إلا بالمصير إلى تصريح رجل من‬ ‫المتق ِّدمين في المسألة‪ ،‬وأيض ًا جور القضاة‪ ...‬وأيض ًا جهل رؤوس الناس‪ ...‬وفي ذلك‬ ‫الوقت ثبتوا على التع ُّصب‪ ...‬وفتنة هذا الجدال والخلاف والتع ُّمق قريبة من الفتنة الأُولى‬ ‫حين تشاجروا في ال ُم ْلك‪ ،‬وانتصر كل رجل لصاحبه‪ ،‬فكما أعقبت تلك ُم ْلك ًا عضوض ًا‬ ‫ووقائع ص ّماء عمياء‪ ،‬فكذلك أعقبت هذه جهل ًا واختلاط ًا وشكوك ًا ووهم ًا ما لها من‬ ‫أرجاء‪ ،‬فنشأت بعدهم قرون على التقليد الصرف‪ ...‬ولم يأ ِت قرن بعد ذلك إلا وهو أكثر‬ ‫فتن ًة‪ ،‬وأوفر تقليد ًا‪ ،‬وأشد انتزاع ًا للأمانة من صدور الرجال‪ ،‬حتى اطمأنوا بترك الخوض‬ ‫في أمر الدين‪ ،‬وبأ ْن يقولوا‪\" :‬إِ َّنا َو َج ْد َنا َءا َبا َء َنا َع َلى ُأ َّم ٍة َوإِ َّنا َع َلى َءا َٰث ِر ِهم ُّم ْه َت ُدو َن\"‪ ،‬وإلى الله‬ ‫المشتكى وهو المستعان‪(((\". ...‬‬ ‫وإذا كان النصان السابقان يتح َّدثان عن واقع الحركة العلمية اعتبار ًا من القرن الرابع‪،‬‬ ‫فكيف أصبح هذا الواقع في القرون اللاحقة؟‬ ‫في مطلع القرن الثالث عشر حاول السلطان سليم الثالث (‪1222-1203‬ﻫ) تهدئة‬ ‫وتيرة المعارك الحربية مع خصوم الدولة العثمانية من أجل الإصلاحات الداخلية‪ .‬ونظر ًا‬ ‫للتف ُّوق الأوروبي في مجال الق َّوة العسكرية وأساليبها المستحدثة؛ فقد بدأ بمحاولة‬ ‫إعادة تنظيم الجيش‪ ،‬والتخ ُّلص من نظام الانكشارية‪ ،‬والاستفادة من الخبرة الأوروبية‬ ‫في التعليم العسكري والصناعات العسكرية‪ ،‬لك َّن مواقع النفود والمصالح في المجتمع‬ ‫العثماني كانت بالمرصاد لمحاولات التحديث‪ .‬وقد تم َّثلت هذه القوى المعارضة‬ ‫للتحديث في جهات ِع َّدة‪ ،‬منها‪ :‬النظام الانكشاري في الجيش‪ ،‬وأعيان المجتمع م َّمن‬ ‫ارتبطت مصالحهم بالواقع المتخ ِّلف‪ ،‬ومشايخ الإفتاء الرسمي الذي ح َّرموا استعمال‬ ‫الأسلحة الحديثة لأ َّنها من صنع الكفار‪.‬‬ ‫((( الدهلوي‪ ،‬أحمد بن عبدالرحيم الفاروقي الهندي‪ ،‬الملقب شاه ولي الله (توفي‪1176‬ﻫ)‪ .‬الإنصاف في بيان‬ ‫أسباب الاختلاف‪ ،‬بيروت‪ :‬دار النفائس‪ ،‬ط‪1404 ،2‬ﻫ‪ ،‬ص‪.95-93‬‬ ‫‪518‬‬

‫وقد و َّثق محمد فريد بك في تأريخه للدولة العثمانية بعض أحداث تلك الفترة‪ ،‬ودور‬ ‫العلماء في معارضة الإصلاحات‪ ،‬فكان م ّما أورده عن هذه المحاولة ونتائجها‪\" :‬وفي‬ ‫غضون ذلك تو ِّفي المفتي الذي كان معضد ًا للسلطان على إدخال الإصلاحات العسكرية‪،‬‬ ‫وتو ّلى مكانه قاضي عسكر الرومللي‪ ،‬وكان على الض ِّد من سلفه‪ ،‬فاتحد مع مصطفى باشا‬ ‫قائم مقام الصدر الأعظم المتغ ِّيب في محاربة الروس‪ ،‬ولفيف من العلماء‪ ،‬على السعي في‬ ‫إبطال النظام العسكري الجديد‪ ،‬قائلين إ َّنه بدعة مخالفة للشرع‪ .‬وللوصول إلى غايتهم هذه‬ ‫أخذوا يغرون العساكر‪ ،...‬وأدخلوا في آذانهم أ َّنهم لم يأتوا من بلادهم إلا لإجبارهم على‬ ‫الانخراط في سلك النظام‪ ،‬وإكراههم على لبس الملابس الغربية‪ ،‬والتزيي بز ِّي النصارى‪،‬‬ ‫مع ما في ذلك من مخالفة القرآن الشريف والشرع المنيف على زعمهم‪ \"...‬ث َّم وصف‬ ‫المؤ ِّلف كيف تم تأليف قوى المعارضة من الانكشارية وغيرهم‪ ،‬حيث ع َّينوا للثائرين‬ ‫\"أسماء جميع المعضدين لمشروع النظام العسكري من الوزراء أو الذوات والأعيان‪،‬‬ ‫فانتشر الثائرون إلى منازلهم‪ ،‬وقتلوهم‪ ،‬وأتوا برؤوسهم‪ ...‬ول ّما بلغ السلطان خبر هذه‬ ‫الثورة أصدر على الفور أمر ًا بإلغاء النظام الجديد‪ ،‬وصرف العساكر النظامية‪ .‬لك ْن لم يكت ِف‬ ‫الثائرون‪ ،‬بل ق َّرروا عزل السلطان خوف ًا من أ ْن يعود لتنفيذ مشروعه‪ ،‬وساعدهم على ذلك‬ ‫المفتي الذي هو في الحقيقة المح ِّرك لهذه الثورة‪ ،‬فأفتى بأ َّن كل سلطان يدخل نظامات‬ ‫الإفرنج وعوائدهم ويجبر الرعية على ا ِّتباعها لا يكون صالح ًا لل ُم ْلك‪ ...‬واستمرت الثورة‬ ‫يومين ث َّم نودي بفصل السلطان سليم الثالث‪ ،‬ف ُع ِزل‪(((\".‬‬ ‫وعرض أبو الأعلى المودودي تلك الصفحات التاريخية بطريقته‪ ،‬فقال‪\" :‬إ َّنه في أوائل‬ ‫القرن التاسع عشر أح َّس السلطان سليم (الثالث) بهذا الضعف في الأُ َّمة التركية‪ ،‬فأخذ في‬ ‫إصلاح نظام إدارة الحكم‪ ،‬وفي نشر العلوم الجديدة‪ ،‬وتنظيم الجنود على النمط الحديث‪،‬‬ ‫وترويج الآلات الحربية الأوروبية‪ ،‬ولك َّن الصوفية ال ُج ّهال والعلماء الرجعيين م َّمن ليس لهم‬ ‫نصيب من علم الدين وروحه قاموا يعارضون إصلاحات السلطان‪ .‬فجعلوا تنظيم الجنود‬ ‫على الطريقة الغربية في حكم اللادينية‪ ،‬وجعلوا لبس الزي الجندي الحديث في حكم التش ُّبه‬ ‫بالنصارى‪ ،‬وقد خالفوا حتى استعمال البنادق ذات الحراب؛ لأ َّن استعمال أسلحة الكفار‬ ‫عندهم إثم عظيم‪ ...‬وأساؤوا إلى الإسلام بترويجه أساليب الكفار‪ ،‬فأفتى شيخ الإسلام‬ ‫((( فريد‪ ،‬محمد فريد بك المحامي‪ .‬تاريخ الدولة العلية العثمانية‪ ،‬تحقيق‪ :‬إحسان حقي‪ ،‬بيروت‪ :‬دار النفائس‪،‬‬ ‫‪1981‬م‪ ،‬ص‪.393-392‬‬ ‫‪519‬‬

‫عطاء الله أفندي أ َّن السلطان الذي \"يعمل بخلاف القرآن\" لا يجدر بالبقاء على العرش‪ .‬وفي‬ ‫آخر المطاف ُع ِزل السلطان سليم في سنة ‪1807‬م‪ .‬وهذه أول َم َّر ٍة ق َّدم فيها الزعماء الدينيون‬ ‫بجهالتهم وظلمة فكرهم التص ُّور الخاطئ أ َّن الإسلام عائق للرقي‪ ...‬ولك َّن زعماء الأتراك‬ ‫الدينيين الذين كانوا صفر ًا من روح التف ُّقه والاجتهاد‪ ،‬وجاهلين للتعاليم الإسلامية الحقيقية‬ ‫أغمضوا عيونهم عن كل التغ ُّير والانقلاب‪ ... ،‬وتبع السلطان سليم السلطان محمود في‬ ‫الحكم‪ ،‬فحاول الإصلاح‪ ،‬ولك َّن العلماء والمشايخ خالفوه َم َّر ًة ُأخرى‪ .‬وبتذليل كثير من‬ ‫العوائق والصعوبات تم َّكن السلطان في سنة ‪1826‬م من ترويج التنظيم العسكري الجديد‬ ‫في تركيا‪ ،‬ولك َّن العلماء لم يزالوا ينادون بأ َّن كل تلك الإصلاحات بدعة سيئة يراد بها‬ ‫تخريب الإسلام‪ ،‬وأ َّن السلطان قد مرق من الدين‪ ،‬وأ َّن التط ُّوع في الجندية من هذا الطراز‬ ‫الحديث مفسدة لإيمان المسلمين‪(((\".‬‬ ‫وقد أطال محمد الطاهر بن عاشور في بيان \"تأ ُّخر التعليم\" في العا َلم الإسلامي ومظاهره‬ ‫الكثيرة‪ ،‬من ملاحظته لما كان عليه الأمر في تونس على وجه الخصوص‪ ،‬في نهاية القرن‬ ‫التاسع عشر ومطلع القرن العشرين‪ ،‬ولكنَّه أشار كذلك إلى النقد الذي و َّجهه كثير من العلماء‬ ‫إلى حالة التعليم في القرون السابقة‪ ،‬وذكر منهم القاضي أبا بكر بن العربي‪ ،‬وابن خلدون‪،‬‬ ‫وذكر من العلماء المحدثين الذين ب َّينوا تأ ُّخر التعليم صدي َقه محمد الخضر الحسين‪(((.‬‬ ‫وقد انشغل ابن عاشور ‪-‬منذ مطلع حياته العلمية‪ -‬بقضية التعليم‪ ،‬و َد َر َس حالة تخ ُّلف‬ ‫الأُ َّمة الإسلامية في هذا الميدان‪ ،‬التي كانت تتج ّلى في مشكلات متعددة‪ ،‬منها ما يخت ُّص‬ ‫بحالة ال ُمع ِّلم‪ ،‬وأساليبه في التعليم‪ ،‬وبحال مناهج التعليم‪ ،‬ولكنَّه رأى أ َّن المشكلة الأساسية‬ ‫هي فساد النظام التعليمي في جملته‪ .‬وقد ح َّدد سببين عامين لتأ ُّخر التعليم‪ ،‬هما‪\" :‬الأسباب‬ ‫العامة التي قضت بتأ ُّخر المسلمين على اختلاف أقاليمهم وعوائدهم ولغاتهم‪ ...،‬وتغ ُّير‬ ‫نظام الحياة الاجتماعية في أنحاء العا َلم تغ ُّير ًا استدعى تب ُّدل الأفكار والأغراض والقيم‬ ‫العقلية‪ ...‬ك ُّل ذلك نشأ َن ْشئ ًا سريع ًا‪ ،‬وسار سير ًا فسيح ًا‪ ،‬والمسلمون ‪-‬وخاصة أهل العلوم‬ ‫الإسلامية‪ -‬في سبات عميق‪ ،‬حال دونهم ودون إصلاح برامج تعاليمهم‪(((\".‬‬ ‫((( المودودي‪ ،‬أبو الأعلى‪ .‬نحن والحضارة الغربية‪ ،‬دمشق‪ :‬دار الفكر‪ ،‬ط‪1964 ،1‬م‪ ،‬ص‪.100-99‬‬ ‫((( ابن عاشور‪ ،‬أليس الصبح بقريب؟ التعليم العربي الإسلامي‪ :‬دراسة تاريخية وآراء إصلاحية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.17-16‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.105-104‬‬ ‫‪520‬‬

‫لقد وصف ابن عاشور حالة التعليم التي كانت سائدة في جامعة الزيتونة‪ ،‬في مطلع‬ ‫القرن العشرين‪ ،‬وصف ًا دقيق ًا لما كان عليه الأساتذة والطلبة‪ ،‬والمناهج والكتب الدراسية‪،‬‬ ‫وم َّدة التعليم‪ ،‬وطرق التقويم والبرنامج الدراسي‪ ،‬وموضوعات التعليم‪ ،‬وغير ذلك‪،‬‬ ‫ُمب ِّين ًا ما كان فيها من مشكلات‪ ،‬وكان من ذلك ما رآه من أسباب التأ ُّخر في تطوير العلوم‬ ‫والمعارف في الأُ َّمة الإسلامية‪ ،‬وضرورة ملاحظة المشكلات التي تعانيها علوم التراث‬ ‫الإسلامي‪ ،‬وح َّدد ما رآه من متط َّلبات الإصلاح‪ ،‬في نظام التعليم وقواعده ومبادئه‪،‬‬ ‫وفي كل علم من العلوم النقلية والعقلية‪ ،‬وفي إصلاح حال ال ُمع ِّلمين‪ .‬وكان واضح ًا أ َّن‬ ‫ابن عاشور كان يشعر بثقل مقترحاته على بعض الناس‪ ،‬فع َّبر عن ذلك بقوله‪ُ \" :‬أب ِّلغهم‬ ‫نصيحتي وأنا موقن أ َّن فيهم َمن لا يح ُّب الناصحين‪ ،‬ويلمز الداعين إلى إصلاح الحال‪،‬‬ ‫ولك َّن الذي يناديه ضميره بوجوب الإصلاح لا ُيف ِشله ذلك‪ ،‬ولنا في الذين لقوا من الأذى‬ ‫ما ب َّينه الكتاب المجيد والتاريخ‪ \".‬وكان يشعر كذلك بأهمية اقتناع ال ُمع ِّلمين بالإصلاح‪،‬‬ ‫وبأ َّنهم قد يش ِّكلون عقبة في تحقيقه‪ ،‬فقال‪\" :‬إ َّن الفساد الأكبر الذي يلقاه ُمص ِلح التعليم في‬ ‫ال ُمع ِّلمين هو كراهية النظام‪ ،‬وكراهية القوانين‪ ،‬وسوء الإلمام بوجوب العناية بالتعليم‪ ،‬ولا‬ ‫يرون التعليم إلا كيفية واحدة هي التي تعارفوها‪ُ ،‬معت ِذرين بأ َّن بها ر َقى سلفنا‪ ،‬وهذه معذرة‬ ‫ال ُمب ِغضين منهم للإصلاح‪ ،‬فأ ّما ال ُمتحذلِقون فإ َّن لهم معذر ًة ُأخرى‪ ،‬وهي أ َّن وضع القانون‬ ‫للتعليم يغ ُّل يد ال ُمع ِّلم‪ ،‬ويحرمه ال ُفرص التي يستخدم فيها مواهبه لنهوض التلامذة‪...‬‬ ‫وهي كلمة ح ٍّق ُأريد بها باطل؛‪ ...‬فضبط التعليم بالقواعد ُيق َصد منه الأمن عليه من عبث‬ ‫العابثين وخديعة المرائين‪ ،‬على أ َّن في ضبط التعليم سعة من التفويض لاجتهاد ال ُمع ِّلم‪...‬‬ ‫ولع َّل صاحب المواهب من ال ُمع ِّلمين لا يزيده القانون إلا تعضيد ًا لمواهبه‪(((\".‬‬ ‫وو َّثق عبد الحميد عشاق من المعاصرين عدد ًا من الأمثلة‪ ،‬تؤ ِّكد أ َّن الواقع التربوي‬ ‫المتخ ِّلف في المجتمعات الإسلامية اليوم كانت له جذور في مراحل تاريخية مختلفة‪.‬‬ ‫وقد أسهب في وصف ما صارت إليه بلاد المغرب في أحوالها الداخلية وعلاقاتها بالقوى‬ ‫الأوروبية المتف ِّوقة‪ (((.‬ث َّم ع َّبر عن فهمه لجذور الأزمة التربوية المعاصرة‪ ،‬قائ ًلا‪ُ \" :‬يخ ِطئ‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.203‬‬ ‫((( عشاق‪ ،‬عبد الحميد‪ .‬داء العطب قديم‪ :‬المشروع التربوي الإسلامي وعوائق التجديد‪ ،‬الرباط‪ :‬الرابطة المحمدية‪،‬‬ ‫‪2015‬م‪ ،‬ص‪.36-25‬‬ ‫‪521‬‬

‫البعض في التأريخ لأزمة النظام التربوي الإسلامي‪ ،‬ابتدا ًء من سيطرة الحكم التركي على‬ ‫البلاد الإسلامية‪ ،‬أو بوصول الحملة الفرنسية إلى مصر‪ ،‬أو بالاحتلال البريطاني بعد ذلك‪،‬‬ ‫أو بالاجتياح الفرنسي للجزائر‪ .‬والح ُّق أ َّن داء العطب قديم‪ ،‬ومقدمات الأزمة وموجبات‬ ‫الخلل بدأت قبل هذا التاريخ بكثير؛ إذ يمكن القول‪ :‬إ َّن المشكلة التربوية برزت ونمت‬ ‫بموازاة بداية طور الانحطاط الذي ُيؤ َّرخ له في العادة بأفول حضارة الموحدين‪ .‬فمنذ‬ ‫القرنين السادس والسابع لم يتم َّكن النظام التربوي الإسلامي من أ ْن يتح َّرر من الركود‬ ‫والعجز الذي أصابه‪ ،‬فأخذ ابتدا ًء من القرن الثامن في التدهور والاضمحلال حتى مطلع‬ ‫القرن الرابع عشر الهجري‪ ،‬فصار إلى ما صار إليه من العطل والضعف‪ ،‬والتخ ُّلف عن‬ ‫مقتضيات الوقت‪ ،‬وال ُب ْعد عن الواقع‪ ،‬والدوران مع التقليد‪ ،‬والرضا بالجمود‪ ،‬والتو ُّقف‬ ‫عند آراء السابقين‪ ،‬إ ّما بالشرح‪ ،‬أو التلخيص‪ ،‬أو التحشية‪ ،‬أو النَّ ْظم‪ \".‬ث َّم أشار المؤ ِّلف إلى‬ ‫أ َّن رصد ُمبت َدأ الانحدار جاء في نصوص كثير من علماء التراث الإسلامي‪ ،‬وذكر منهم‪:‬‬ ‫أبو الحسن الماوردي (توفي‪450:‬ﻫ)‪ ،‬وابن عبد البر (توفي‪463:‬ﻫ)‪ ،‬والخطيب البغدادي‬ ‫(توفي‪463:‬ﻫ)‪ ،‬وأبو حامد الغزالي (توفي‪505:‬ﻫ)‪ ،‬وابن العربي (توفي‪543:‬ﻫ)‪ ،‬والقاضي‬ ‫عياض (توفي‪544:‬ﻫ)‪ ،‬وابن عساكر (توفي‪571:‬م)‪ ،‬وابن الجوزي (توفي‪590:‬ﻫ) وابن‬ ‫تيمية (توفي‪728:‬ﻫ)‪ ،‬والسبكي (توفي‪771:‬ﻫ)‪ ،‬والشاطبي (توفي‪790:‬م)‪ ،‬وابن خلدون‬ ‫(توفي‪808:‬ﻫ)‪ ،‬وغيرهم‪(((.‬‬ ‫وهكذا نرى أ َّن تخ ُّلف المجتمعات الإسلامية قد بدأ بالانحراف عن روح العلم‬ ‫والتجديد التي يفرضها الإسلام‪ ،‬وانتهى بالتخ ُّلف عن اكتساب الخبرة اللازمة للتعامل مع‬ ‫التط ُّور في ميادين الحياة ومتط َّلباتها‪ .‬ففي حين كانت بعض الشعوب تكتسب علم ًا وخبر ًة‬ ‫جديد ًة‪ ،‬تسبق بها ما كان معروف ًا في المجتمع المسلم‪ ،‬كان المجتمع المسلم يستمر على‬ ‫حاله‪ ،‬فيظهر تخ ُّلفه‪ .‬والأمثلة على ذلك كثيرة في مجالات الصناعة‪ ،‬وأدوات الحرب‪،‬‬ ‫ومؤسسات التعليم‪ ،‬وغيرها‪ .‬فالواقع المتخ ِّلف في المجتمعات الإسلامية المعاصرة ليس‬ ‫حصيلة الحقبة الزمنية الحديثة أو المعاصرة فحسب‪ ،‬بل َث َّمة عناص ُر من التخ ُّلف رافقت‬ ‫حياة المجتمع الإسلامي من عصور سابقة‪ ،‬وأ َّية جهود إصلاحية في الواقع التربوي‬ ‫الإسلامي لا ُب َّد أ ْن تأخذ ذلك بالحسبان‪.‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.58-43‬‬ ‫‪522‬‬

‫خامس ًا‪ :‬أزمة التعليم أزمة عالمية‪:‬‬ ‫من الإنصاف أ ْن نشير إلى أ َّن مشكلات التربية المعاصرة ليست مقصور ًة على بلدان‬ ‫العا َلم الإسلامي؛ فقد لاحظنا ‪-‬م ّما سبق في فصول هذا الكتاب‪ -‬أ َّن البحوث والدراسات‬ ‫التي تتح َّدث عن واقع التعليم في العا َلم تع ِّبر عن حالات كثيرة من القلق وعدم الرضا؛ إذ‬ ‫إ َّن كثير ًا من جهود الإصلاح والتغيير المتلاحقة كانت تبوء بالفشل في تحقيق أهدافها‪،‬‬ ‫وتستمر مشكلات التعليم في التوالي والتج ُّدد‪ .‬ولع َّل من أسباب ذلك أ َّن مؤسسات‬ ‫التعليم تقوم ‪-‬في الأساس‪ -‬على توفير المعرفة لل ُمتع ِّلمين‪ ،‬ولك َّن المعرفة هي في حالة‬ ‫زيادة وتج ُّدد سريعي ِن‪ .‬وهذه الزيادة وهذا التج ُّدد يحدثان خارج المؤسسات التعليمية؛ في‬ ‫مراكز الفكر والبحث ومختبراتها‪ .‬ويأخذ وصول المعرفة إلى مناهج التعليم وبرامج إعداد‬ ‫ال ُمع ِّلمين وقت ًا يطول أو يقصر‪ ،‬فتتخ َّلف المعرفة في هذه المناهج والبرامج‪ ،‬ور َّبما تصل‬ ‫إلى وسائل الإعلام قبل ذلك‪.‬‬ ‫إذا كان واقع الفكر التربوي المعاصر في العا َلم الإسلامي يعاني أزمات مح َّددة‪ ،‬فهل‬ ‫لهذه الأزمات صلة بواقع الفكر التربوي السائد في عا َلم اليوم؟ إ َّن الانطباع العام الذي‬ ‫يمكن أ ْن نجد له توثيق ًا \"إمبريقي ًا\" من التحليلات البحثية القائمة على الإحصائيات والتقارير‬ ‫الرسمية المحلية والدولية‪ ،‬أ َّن حالة التعليم في العا َلم المعاصر‪ ،‬والفكر التربوي الذي يح ِّدد‬ ‫مواصفات هذه الحالة‪ ،‬قد تش َّكلا بتأثير المرجعية الفكرية الغربية‪ ،‬وأ َّن ذلك قد أدخل التربية‬ ‫والتعليم ‪-‬خارج الغرب‪ -‬في بعض الأزمات التي تخت ُّص بالهوية القومية أو الدينية‪ ،‬لك َّن‬ ‫ذلك لا يعني أ َّن المصادر الغربية نفسها لا تدرك هذه الأزمة‪ ،‬ولا تكشف عن تج ِّليات ُأخرى‬ ‫لأزمة التربية والتعليم في العا َلم الغربي نفسه‪ ،‬وتتح َّدث عن أزمة عالمية في التعليم‪.‬‬ ‫فقد يكون مفيد ًا أ ْن ُنلقي الضوء على بعض تج ِّليات أزمة التعليم في العا َلم المعاصر‪،‬‬ ‫ولا سيما أ َّن التفكير في حالة العا َلم وقضاياه ومشكلاته ليس أمر ًا جديد ًا؛ فما كان إنشاء‬ ‫الإمبراطوريات في التاريخ القديم إلا نتيجة لهذا التفكير‪ .‬ومعظم شعوب العا َلم في‬ ‫القديم كانت تتط َّلع إلى خارج حدودها‪ ،‬ولذلك كانت ترسم خرائط و ُمص َّورات للعا َلم‬ ‫المعروف‪ ،‬وتستخدمها في أغراض تخت ُّص بال ِّس ْلم والحرب‪.‬‬ ‫‪523‬‬

‫وحالة العا َلم هي شأن من الشؤون التي لا ُب َّد للمسلم أ ْن يوليه الاهتمام اللازم‪.‬‬ ‫وم ّما يلفت النظر أ َّن التفكير في حالة العا َلم كان عند المسلمين منذ وقت مب ِّكر‪ ،‬حتى في‬ ‫العهد المكي‪ ،‬وهو ما و َّثقته الآيات الأُولى من سورة الروم‪﴿ .‬ﮫﮬﮭﮮﮯﮰ‬ ‫ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ‬ ‫ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ﴾ [الروم‪.]5-1:‬‬ ‫أ ّما اليوم ف َث َّمة قضايا متعددة في العا َلم لا تخ ُّص مجتمع ًا دون آخر‪ ،‬مثل‪ :‬تغ ُّير المناخ‪،‬‬ ‫والتل ُّوث البيئي‪ ،‬وحقوق الملكية الدولية‪ ،‬والعقاقير الطبية‪ ،‬والتن ُّوع البيولوجي‪ ،‬وأثر‬ ‫التعديل الوراثي في الحيوانات والنباتات و ُمن َتجاتها‪ ،‬وما شابه ذلك؛ وكلها قضايا قد‬ ‫أصبحت مسائل علمية عالمية‪\" .‬وأصبح العلماء‪ ،‬من الاختصاصات الطبيعية والاجتماعية‪،‬‬ ‫معتادين التفكير في هذه القضايا على المستوى العالمي‪ .‬في المقارنة بين الاختصاصات‪،‬‬ ‫يمكن القول إ َّن هذه الظاهرة ر َّبما تحدث أكثر في الاختصاصات العلمية الطبيعية‪ .‬وهكذا‬ ‫فالموضوعات وال ِفرق المتخ ِّصصة أصبحت عالمية‪ ،‬وكذلك تدريب المتخ ِّصصين‪،‬‬ ‫لتصبح وسيل ًة لتغذية التوزيع الدولي للكفاءات‪ ،‬وهو ما يجعل كل طالب دكتوراه جديد‬ ‫مشرو َع مهاجر في المستقبل‪(((\".‬‬ ‫وحين يكون الحديث عن العولمة والتدويل في التعليم‪ ،‬فإ َّننا سنجد كثير ًا من البحوث‬ ‫والدراسات التي تتح َّدث عن أزمة عالمية في التعليم‪ .‬وحين نتح َّدث عن حالة التعليم في‬ ‫العا َلم الإسلامي وما تعانيه من أزمات‪ ،‬فإ َّن من الإنصاف أ ْن نشير إلى أ َّن مشكلات التربية‬ ‫المعاصرة ليست مقصورة على بلدان العا َلم الإسلامي‪.‬‬ ‫فمنذ منتصف القرن العشرين الميلادي ونحن نجد حديث ًا متواصل ًا عن أزمة عالمية‬ ‫في التربية والتعليم‪ ،‬تتح َّدث عنها الدراسات والكتب والتقارير والصحف‪ .‬وفكرة وجود‬ ‫أزمة عالمية جديدة في التعليم تك َّررت في كتابات فيليب كومب منذ كتابه الذي صدر عام‬ ‫‪1968‬م‪ ،‬وو َّثق فيه أعمال مؤتمر دولي عن أزمة التعليم في العا َلم عام ‪1967‬م‪ (((،‬ث َّم في‬ ‫((( حنفي‪ ،‬ساري‪\" .‬أسلمة وتأصيل العلوم الاجتماعية\"‪ ،‬مجلة المستقبل العربي‪ ،‬العدد (‪ ،)451‬أيلول‪/‬سبتمبر‬ ‫‪2016‬م‪ ،‬ص‪.64-45‬‬ ‫‪(2) Coombs, Phillip H. The World Educational Crisis: A Analysis System, New York and‬‬ ‫‪Oxford: Oxford University Press, 1968.‬‬ ‫‪524‬‬

‫كتابه الذي صدر عام ‪1985‬م‪ ،‬وحمل عنوان \"المشكلة العالمية في التعليم‪ :‬رؤية من عقد‬ ‫الثمانينيات\"‪ (((.‬ولك َّن الإشارة إلى هذا الموضوع تك َّررت في كثير من الكتب والبحوث‬ ‫والتقارير التي تصدرها مؤسسات دولية‪ ،‬مثل‪ :‬اليونسكو‪ ،‬والبنك الدولي‪ ،‬وهو موضوع‬ ‫ُأثير في كثير من المؤتمرات العالمية ذات الصلة بالتعليم‪ ،‬التي تتك َّرر فيها الإشارة إلى أ َّن‬ ‫ُن ُظم التعليم العام في كثير من دول العا َلم أصبحت أق َّل كفاءة‪ ،‬وأضعف صلة بالواقع‪.‬‬ ‫وتتح َّدث الأدبيات عادة عن مشكلات مح َّددة في النُّ ُظم التعليمية في الدول الغنية‪،‬‬ ‫تخت ُّص بتطوير المناهج‪ ،‬وإعداد ال ُمع ِّلمين‪ ،‬وربط نتائج التعليم بسوق العمل‪ ،‬وأثر التط ُّور‬ ‫التكنولوجي‪ ،‬والتن ُّوع المتزايد في خلفيات الطلبة‪ .‬بيد أ َّن كثير ًا من التركيز ينصرف إلى‬ ‫التفاوت في حالة التعليم بين الدول الغنية والدول الفقيرة‪ ،‬ولا سيما في ظاهرة عدم‬ ‫الالتحاق بالمدارس‪ ،‬وضعف الموارد‪ ،‬وق َّلة الإنفاق على التعليم‪ ،‬ومشكلة تعليم الإناث‪،‬‬ ‫وأثر المعونات الخارجية‪ ،‬وفشل تجارب التطوير‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬وسنجد أ َّن مفتاح معالجة‬ ‫أزمة التعليم العالمية هو التعا ُون الدولي‪ ،‬الذي لا يعني ‪-‬في الأساس‪ -‬تبادل الخبرات‬ ‫وتطويرها‪ ،‬بقدر ما يعني تقديم خبرات الدول الغنية للدول الفقيرة‪.‬‬ ‫وتستكشف بعض هذه الأدبيات العلاقة المتبادلة بين الأزمة التعليمية والقضايا‬ ‫الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية‪ ،‬وتضع هذه العلاقة في سياق عالمي‪ .‬ونذكر‬ ‫من ذلك على سبيل المثال مجموعة الدراسات التي تض َّمنها كتاب صدر عام ‪2015‬م‪،‬‬ ‫وعرض صور ًا للخطابات المتعددة في بيان أزمة التعليم في بلدان العا َلم‪ ،‬اعتماد ًا على‬ ‫دراسات علمية‪ .‬ويتك َّون الكتاب من أربع عشرة دراسة عن التعليم في بلدان مختلفة‪،‬‬ ‫من أوروبا وآسيا وإفريقيا‪ ،‬تناولت التعليم المدرسي‪ ،‬والتعليم الجامعي‪ ،‬وإدارة التعليم‪،‬‬ ‫وتمويل التعليم‪ ،‬وأثر التق ُّدم التكنولوجي‪ ،‬والهجرة‪ ،‬وقضايا العولمة والتع ُّددية الثقافية في‬ ‫التعليم‪ ،‬وقضايا إعداد ال ُمع ِّلمين‪ ،‬والعنف في المدارس‪ ،‬وغير ذلك‪(((.‬‬ ‫‪(1) Coombs, Phillip H. The World Crisis in Education: The view from the Eighties, New York‬‬ ‫‪and Oxford: Oxford University Press, 1985.‬‬ ‫‪(2) Calogiannakis, Pella. & Papadakis, Nikos. & Ifanti, Amalia (Editors). Crisis in Education:‬‬ ‫‪Socio- Economic, Political and Cultural challenges, Nicosia, Cyprus: HM Studies. 2015.‬‬ ‫‪525‬‬

‫وفي تقرير اليونسكو عن الاتجاهات العالمية للتعليم العالي الذي صدر عام ‪2009‬م‪،‬‬ ‫جاء في خاتمته ما يؤ ِّكد الصلة بين الاقتصاد والتعليم العالي‪ ،‬ويب ِّين أ َّن الصلة بين الاقتصاد‬ ‫والتعليم العالي تستمر في تشكيل الفارق بين الدول؛ ذلك أ َّن \"التح ّدي الهائل الذي‬ ‫ينتظرنا هو التوزيع غير المتكافئ لرأس المال البشري‪ ،‬والأموال التي ستسمح لبعض‬ ‫الدول بالاستفادة الكاملة من ال ُفرص الجديدة‪ ،‬بينما تنحرف دول ُأخرى أكثر فأكثر‪(((\".‬‬ ‫وفي الخلاصة التنفيذية للتقرير ال ُمتض َّمن في هذا الكتاب تفصيلات عن الأزمة المالية‬ ‫التي ُته ِّدد العا َلم بصورة عامة‪ ،‬والتي ستكون لها آثار كثيرة في التعليم العالي‪ ،‬بعضها يمكن‬ ‫التن ُّبؤ به م ّما هو قائم الآن‪ ،‬ولك َّن بعض الآثار لم تتضح بع ُد‪ .‬وبطبيعة الحال‪ ،‬فإ َّن الدول‬ ‫النامية ستكون أكثر تأ ُّثر ًا‪ ،‬ولك ْن \"لا أحد يعرف مدى عمق الأزمة أو طولها‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬ ‫فإ َّن معظم الخبراء يش ِّككون في الشفاء السريع‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فمن ال ُمر َّجح أ َّن التعليم العالي‬ ‫يدخل فترة من التخفيضات المهمة‪ .‬ليس هناك ش ٌّك في أ َّن التعليم العالي يدخل فترة أزمة‪،‬‬ ‫لم يسبق لها مثيل منذ الحرب العالمية الثانية‪ ،‬والتأثير الكامل لم يتضح بع ُد‪(((\".‬‬ ‫ولع َّل من المهم ملاحظة أ َّن أدبيات الأزمة العالمية في التعليم ‪-‬عندما تتح َّدث عن‬ ‫المجتمعات الإسلامية‪ -‬تهتم بالجوانب الإحصائية‪ ،‬مقارن ًة بالمجتمعات الأُخرى‪ ،‬ولا‬ ‫تهتم بتج ِّليات الأزمة التي تخت ُّص بالخصوصيات الفكرية والثقافية لهذه المجتمعات‪.‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬فلا نن ِكر أ َّن بعض تقارير المنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة‬ ‫(اليونسكو) قد لفتت الانتباه إلى هذه المسألة؛ ففي التقرير الذي نشرته اليونسكو عام‬ ‫‪2009‬م‪ ،‬تم التح ُّدث باستفاضة عن أزمة التربية في العا َلم‪ ،‬في سياق التح ُّولات الاقتصادية‬ ‫والتقانية التي يم ُّر بها العا َلم‪ ،‬فضل ًا عن بيان حالة التعليم في البلدان النامية‪ ،‬مقارن ًة بالبلدان‬ ‫الغنية‪ ،‬في مجال المهارات التقانية واللغوية‪ .‬ولم ين َس التقرير الإشارة إلى الخطر الذي‬ ‫يته َّدد الخصوصيات الثقافية للمجتمعات‪ ،‬فتح َّدث ع ّما س ّماه الصراع من أجل روح‬ ‫‪(1) Altbach, Philip G. & Reisberg, Liz. & Rumbley, Laura E. Trends in Global Higher‬‬ ‫‪Education: Tracking an Academic Revolution, A Report Prepared for the 2009 World‬‬ ‫‪Conference on Higher Education, Paris: UNESCO, 2009, p. 171.‬‬ ‫‪(2) Ibid., page xx, from the Executive Summary of the Report.‬‬ ‫‪526‬‬

‫التعليم العالي‪ ،‬وجاء فيه‪\" :‬خضعت المهمة المجتمعية التقليدية للتعليم العالي إلى ضغوط‬ ‫متزايدة‪ ،‬بدء ًا من منتصف القرن العشرين‪ .‬فالجامعات التي ُين َظر إليها تقليدي ًا على أ َّنها‬ ‫مؤسسات ثقافية رئيسية لتكون مسؤولة عن التنوير الثقافي والاجتماعي العام‪ ،‬أصبحت‬ ‫ُمل َزمة بشكل متزايد للتعامل مع العديد من الضغوط الجديدة ال ُمو َّضحة في هذا التقرير‪.‬‬ ‫فقد فرض \"تسويق\" التعليم العالي ضغط ًا كبير ًا على رسالته الاجتماعية‪ \".‬وسوف يستمر‬ ‫الجدل حول المهمة الأساسية وأولويات التعليم العالي في أجزاء كثيرة من العا َلم‪ ،‬وسوف‬ ‫تزداد المع ِّوقات التي تحاول حماية الأنشطة التي تخدم الصالح العام للمجتمع في مواجهة‬ ‫القيود المالية المتزايدة ومتط َّلبات السوق‪ .‬وسوف يواجه كل مجتمع تحديات التوا ُزن بين‬ ‫الاحتياجات والأولويات المحلية مع المعايير والممارسات والتوقعات المح َّددة على‬ ‫المستوى الدولي‪ .‬هل ستر ِّكز البحوث على الاحتياجات والأولويات التعليمية المحلية أم‬ ‫تكون أكثر ميل ًا لمتابعة القضايا الأكثر جاذبية للمجلات الدولية والمم ِّولين؟‪(((\".‬‬ ‫ومع وجود ملامح عامة مشتركة لأزمة التربية في بلدان العا َلم‪ ،‬فإ َّن لكل بلد‬ ‫مشكلاته الخاصة‪ .‬ويمكن توثيق الحديث عن مشكلات التعليم في كل بلد؛ ففي مجلة‬ ‫\"وقائع التعليم العالي\" ‪ Chronicle of Higher Education‬الأمريكية حديث متواصل‬ ‫عن مشكلات تعليمية متن ِّوعة تخت ُّص بقضايا الإدارة‪ ،‬والتمويل‪ ،‬والمناهج‪ ،‬والعنف‪،‬‬ ‫والسلوك الأخلاقي‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬وفي بريطانيا نشر الموقع الإلكتروني ال ُمس ّمى المحادثة‬ ‫‪ The Conversation‬في ‪ 20‬فبراير ‪2019‬م‪ ،‬تقرير ًا ُمط َّولاً حمل عنوان \"النظام المدرسي‬ ‫في إنجلترا في أزمة\" ‪ ،England’s school system is in crisis‬وتح َّدث عن عدد من‬ ‫المشكلات‪ ،‬مثل‪ :‬النقص في عدد ال ُمد ِّرسين‪ ،‬والتدريس من أجل الاختبارات‪ ،‬وعدم‬ ‫تكافؤ ال ُفرص بين مدارس تأخذ رسوم ًا عالي ًة‪ ،‬ويدخلها أبناء الأغنياء‪ ،‬ومدارس ُأخرى‬ ‫يدخلها أبناء العامة‪ ،‬ولا يتوافر فيها التعليم الجيد‪ .‬وتح َّدث التقرير كذلك عن الجامعات‬ ‫البريطانية‪ ،‬فذكر أ َّنها تعاني أزمات مالية خطيرة‪ ،‬جعلتها تعرض برامج تستقطب مزيد ًا‬ ‫من الطلبة دون شروط‪ ،‬وبذلك ح َّولت الطلبة إلى عملاء أو زبائن ‪ .customers‬وأخذت‬ ‫‪(1) Ibid., P. 170‬‬ ‫‪527‬‬

‫الجامعات ُتس ِّوق نفسها بوصفها الأكثر جاذبية من حيث \"قابلية التوظيف\"‪ ،‬للتعامل مع‬ ‫أزمة تناقص ال ُفرص المتاحة في سوق العمل‪ .‬وقد تض َّمن التقرير ما يشير إلى التزايد في‬ ‫معدل التض ُّخم في العلامات‪ ،‬ومنح عدد كبير جد ًا من الطلبة أعلى الدرجات‪(((.‬‬ ‫وقد نشرت مجلة \"الغارديان\" البريطانية ُمؤ َّخر ًا (‪ 18‬نيسان‪/‬أبريل ‪2019‬م) مقالاً‬ ‫ُمط َّولاً عن أزمة التعليم في بريطانيا‪ ،‬تض َّمن موضوعات ِع َّدة‪ ،‬أهمها‪ :‬نقص عدد ال ُمع ِّلمين‪،‬‬ ‫ورغبتهم في ترك العمل بسبب الأعباء المتزايدة عليهم‪ ،‬ونقص الإنفاق على التعليم؛ ما‬ ‫أ ّدى إلى نقص الخدمات المدرسية‪ ،‬وزيادة عدد الطلبة في الصف الواحد‪ ،‬وتع ُّرض‬ ‫الأساتذة لعنف الطلبة‪ .‬وذكر التقرير أ َّن نحو ‪ %26‬من ال ُمع ِّلمين ذوي الخبرات التي تق ُّل‬ ‫عن خمس سنوات ق َّرروا ترك مهنة التعليم قبل عام ‪2024‬م؛ لأ َّنه يتع َّين على ال ُمع ِّلم أ ْن‬ ‫يعمل (‪ )70-60‬ساعة في الأسبوع‪ ،‬ليس لتعليم الأطفال‪ ،‬وإ َّنما لتمكينهم من الحصول‬ ‫على علامات في الاختبار‪(((.‬‬ ‫وجاء في تقرير للبنك الدولي‪ُ ،‬ن ِشر على موقعه الإلكتروني بتاريخ ‪ 22‬يناير (كانون‬ ‫الثاني) ‪2019‬م‪ ،‬ما ن ُّصه‪\" :‬إ َّن العا َلم يواجه أزمة في التعليم‪ .‬فعلى الرغم من التزايد‬ ‫الكبير في ُفرص الحصول على التعليم‪ ،‬فإ َّن الالتحاق بالمدرسة لا يعني حصول التعليم‬ ‫بالضرورة؛ فمئات الملايين من الأطفال الذين يدخلون المدارس في جميع أنحاء‬ ‫العا َلم يصلون إلى س ِّن البلوغ دون إتقان بعض المهارات الأساسية التي تتط َّلبها الحياة‬ ‫المعاصرة‪ ،‬ولا يكتسبون ما َيلزمهم لإتقان مهنة مناسبة‪ ،‬أو بناء أسرهم‪ ،‬وإحسان تربية‬ ‫أطفالهم‪ .‬ويشير التقرير إلى أ َّن أهم مشكلة في توفير التعليم المدرسي هي وجود ال ُمع ِّلم‬ ‫الجيد‪ .‬فإذا كانت أزمة التع ُّلم هي في جوهرها أزمة تعليمية‪ ،‬فإ َّن الطلبة يحتاجون إلى‬ ‫ُمد ِّرسين جيدين‪ ،‬بالإضافة إلى أهمية التكنولوجيا الحديثة في تحسين التعليم‪(((\".‬‬ ‫‪(1) https: //theconversation.com/englands-school-system-is-in-crisis-could-labours-national-‬‬ ‫‪education-service-be-the-solution-111555.‬‬ ‫‪(2) https: //www.theguardian.com/education/2019/apr/18/english-schools-will-see-super-sized-‬‬ ‫‪classes-warns-teachers-union.‬‬ ‫‪(3) https: //www.worldbank.org/en/news/immersive-story/2019/01/22/pass-or-fail-how-can-the-‬‬ ‫‪world-do-its-homework.‬‬ ‫‪528‬‬

‫ونلا ِحظ أ َّن أكثر ما ُين َشر عن أزمة التعليم في العا َلم يخت ُّص بالمقارنات بين الدول‬ ‫المتفاوتة في متو ِّسطات الدخل المالي‪ ،‬وأ َّن ما ُيعت َمد عليه فيما ُين َقل عن حالة التعليم في‬ ‫العا َلم هو ما يتوافر من معلومات عن المجتمعات التي تشارك في الاختبارات الدولية‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫اختبار (((‪ ،PISA‬واختبار (((‪ .TIMSS‬وكذلك يتم الاعتماد على بيانات الدول المختلفة التي‬ ‫يو ِّفرها البنك الدولي‪ .‬ف َث َّمة حالا ٌت لا تتوافر فيها المدارس‪ ،‬وحالات تتوافر فيها المدارس‪،‬‬ ‫ولك َّن الطلبة يتس َّربون منها دون أ ْن يمتلكوا أساسيات التعليم‪ ،‬وحالات ينهي فيها الطلبة‬ ‫تعليمهم المدرسي من دون أ ْن تق ِّدم لهم المدارس تعليم ًا جيد ًا‪ .‬والتعليم الجيد في مثل‬ ‫هذه الدراسات يتم َّثل في مهارات القراءة والكتابة‪ ،‬والحساب‪ ،‬واستعمال التكنولوجيا‪،‬‬ ‫واكتساب مهارات الحياة‪.‬‬ ‫وقد نشر البنك الدولي عام ‪2014‬م كتاب ًا عن نتائج تقويم ‪ 22‬برنامج ًا من برامج‬ ‫الإصلاح التربوي في ‪ 11‬دولة في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية‪ ،‬وكان عنوان الكتاب‬ ‫\"جعل المدارس تعمل‪ :‬دليل جديد عن المساءلة في برامج الإصلاحات\"‪ .‬وقد وصف‬ ‫الكتاب المخاطر التي تواجه نوعية التعليم في العا َلم لأسباب لا تتع َّلق بق َّلة الموارد‪ ،‬وق َّدم‬ ‫بيانات عن حالات تم فيها تطوير سياسات تعليمية‪ ،‬لكنَّها لم ُت ْف ِض إلى التحسين الذي‬ ‫كان مأمولاً‪ .‬وكذلك ب َّين الكتاب حجم هذا الفشل وكلفته‪ ،‬ورأى أ َّن السبب العميق للفشل‬ ‫هو ضعف المساءلة بين الأطراف التي تق ِّدم الخدمة التربوية من جهة‪ ،‬وال ُمش ِرفون على‬ ‫البرامج وال ُمع ِّلمون من جهة ُأخرى‪ .‬وأ َّكد الكتاب أ َّن التربية التي هي \"بؤرة بناء رأس المال‬ ‫البشري\" في أزمة حقيقية‪ ،‬وبخاصة أ َّن إنتاجية ‪ %56‬من أطفال العا َلم هي أق ُّل من نصف ما‬ ‫يمكن أ ْن يؤدوه لو توافر لهم التعليم الجيد‪(((.‬‬ ‫وال ُملا َحظ أ َّن معظم ما تنشره المؤسسات الدولية عن أزمة التعليم في العا َلم‪ ،‬ومعظم‬ ‫ما تنتهي إليه توصيات المؤتمرات الدولية بخصوص إصلاح التعليم في العا َلم‪ ،‬على مدار‬ ‫نصف القرن الماضي؛ لا تزال تدور في الفلك نفسه الذي د َّشنه المؤتمر الدولي الذي‬ ‫‪(1) Programme for International Student Assessment.‬‬ ‫‪(2) Trends of International Mathematics and Science Study.‬‬ ‫‪(3) http: //documents.worldbank.org/curated/en/483221468147581570/Making-schools-work-‬‬ ‫‪new-evidence-on-accountability-reforms.‬‬ ‫‪529‬‬

‫ُع ِقد في وليامزبرغ‪ /‬فرجينيا في الولايات المتحدة الأمريكية عام ‪1967‬م‪ ،‬والذي ل َّخص‬ ‫أزمة التعليم في العا َلم بأ َّنها تتم َّثل في تخ ُّلف الدول النامية والفقيرة عن الدول المتقدمة‬ ‫والغنية‪ .‬و ِم ْن َث َّم‪ ،‬فلا ُب َّد أ ْن تستفيد الدول النامية م ّما تو َّصلت إليه الدول المتقدمة‪ ،‬ولا‬ ‫ُب َّد أ ْن تق ِّدم الدول المتق ِّدمة الدعم التربوي للدول النامية‪ ،‬وعلى نح ٍو لا يخلو من روح‬ ‫الاستعلاء والتمركز الغربي‪.‬‬ ‫وقد أشار تقرير المؤتمر المذكور آنف ًا إلى الأسباب التي تجعل القادة التربويين‬ ‫وال ُمع ِّلمين في البلدان النامية يدركون بسرع ٍة ووضو ٍح حاجتهم إلى التخ ّلي عن \"الفولكلور‬ ‫والموانع الأُخرى\" التي تمنعهم من انتهاج اتجاه تربوي جديد لبلادهم‪ \".‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن‬ ‫المؤ ِّلف ُيطم ِئن هؤلاء القادة التربويين أ َّنهم إ ْن فعلوا ذلك فلن يكون بعيد ًا ذلك اليوم الذي‬ ‫يمكن فيه أ ْن تتجه التحديثات التربوية من الأمم الفقيرة إلى الأمم الغنية‪.‬‬ ‫وأ َّكد التقرير أ َّن أ َّية استراتيجية للتطوير التربوي في أ ِّي بلد يجب أ ْن تأخذ بالحسبان‬ ‫أ َّن على كل مجتمع ‪-‬مهما كانت حالته في الغنى أو الفقر‪ -‬أ ْن يصنع مصيره التربوي‬ ‫بنفسه‪ .‬ولك َّن المؤ ِّلف يؤ ِّكد ‪-‬في الوقت نفسه‪ -‬أ َّن أ َّي مجتمع لا يستطيع ذلك منفرد ًا‪.‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬فقد أ َّكدت التوصية الأُولى لمداولات ذلك المؤتمر أ َّن التعليم هو الشاغل‬ ‫المركزي لجميع الشعوب في العا َلم‪ .‬ولك ْن‪ ،‬من ال ُمؤ َّكد أ َّن الخطط التربوية لا تتم بأقصى‬ ‫نجاح ممكن إلا بالقياس إلى النُّ ُظم والخطط التربوية في البلدان الأُخرى‪.‬‬ ‫‪530‬‬

‫المبحث الثاني‬ ‫المرجعية في الفكر التربوي المعاصر‪:‬‬ ‫لا خلاف على أ َّن الواقع التربوي المعاصر في العا َلم الإسلامي يتل َّون بلون الفكر‬ ‫التربوي السائد في العا َلم‪ ،‬ويغلب عليه الفكر الغربي بمفاهيمه ونظرياته وممارساته‪،‬‬ ‫والأهم من ذلك كله مرجعياته الفكرية‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإ َّن من المفيد التو ُّسع في تحليل‬ ‫المرجعية الفلسفية والعملية للفكر التربوي الغربي السائد‪ ،‬حتى ُيس ِهم ذلك في فهمنا‬ ‫لواقع الفكر التربوي المعاصر في العا َلم الإسلامي‪ ،‬وفي بناء رؤيتنا لكيفية التعامل مع‬ ‫هذه المرجعية الغربية في سعينا لإصلاح واقعنا التربوي‪.‬‬ ‫لا يوجد فكر تربوي يفتقد المرجعي َة التي ينطلق منها‪ ،‬ويتأ َّطر بحدودها الفلسفية‬ ‫والثقافية والاجتماعية‪ .‬و ِم ْن َث َّم‪ ،‬فإ َّن من ال ُمتو َّقع أ ْن يتل َّون الفكر التربوي؛ مضمون ًا‬ ‫وممارسات‪ ،‬في أ ِّي مجتمع‪ ،‬بِ َل ْون المرجعية الفكرية والثقافة الخاصة بذلك المجتمع‪،‬‬ ‫و َل ْون القيم والأعراف والتقاليد السائدة فيه‪ .‬وهذا تعبير عن تح ُّي ِز لا مناص منه؛ إذ ليس‬ ‫من ال ُمتو َّقع في الحالة الطبيعية أ ْن تتجه التربية إلى الانتقاص من قيم المجتمع‪ ،‬أو الح ِّط‬ ‫من شأن الأعراف والتقاليد فيه؛ فهي تدعمها‪ ،‬وتك ِّرسها‪ ،‬وتزيد حرص الطلبة عليها‪،‬‬ ‫وافتخارهم بها‪ .‬وتتم َّثل مهمة ال ُمر ّبي وال ُمع ِّلم في التأ ُّكد من ذلك‪ ،‬وتنظيم الموقف‬ ‫التربوي الذي يتيح للطلبة ُفرص الفهم والتفكير والموازنة‪ ،‬التي تم ِّكنهم من تبنّي قيم‬ ‫مجتمعهم عن إيمان وقناعة‪ ،‬والكشف عن المشكلات التي قد تم ِّثل انحراف ًا عن هذه‬ ‫القيم وكيفية معالجتها‪ ،‬وتمكينهم ‪-‬في نهاية المطاف‪ -‬من أداء مهماتهم المستقبلية في‬ ‫بناء مجتمعهم‪ ،‬وتنميته‪ ،‬وتعزيز هويته‪.‬‬ ‫وتظهر أهمية المرجعية في الفكر التربوي الإسلامي في مفهومها الذي سنعرض إليه؛‬ ‫فهي أساس المعتقدات والقيم والأفكار التي يك ِّونها الفرد (أو المجتمع) عن نفسه‪ ،‬وعن‬ ‫الكون والحياة‪ ،‬وتش ِّكل معيار ًا للمواقف والسلوك في القضايا الفرعية‪ ،‬بما تتمتع به من‬ ‫الثبات‪ ،‬وبعمق أثرها الكامن في عقول أصحابها وقلوبهم‪ ،‬وفي قدرتها على بناء عناصر‬ ‫التوا ُفق بين مك ِّونات المجتمع‪ ،‬حين تتفق على المرجعية‪ ،‬وتفسير أسباب الخصومات‬ ‫والصراعات التي تظهر غالب ًا في صورة خلافات تتع َّلق بالمرجعية؛ فوحدة المرجعية‬ ‫صمام أمان المجتمع من الاختلافات والنزاعات‪.‬‬ ‫‪531‬‬

‫وتبرز أهمية هذه المرجعية كذلك من صلتها الوثيقة بفلسفة التربية‪ ،‬وسياساتها‪،‬‬ ‫وبرامجها‪ ،‬وممارساتها؛ فهذه المرجعية ‪-‬في نهاية المطاف‪ -‬هي رؤية للعا َلم تق ِّدم تص ُّو َرنا‬ ‫وفه َمنا للإنسان‪ ،‬الذي هو موضوع التربية‪ .‬فشخصية الإنسان في جانب ْيها العقلي والنفسي‪،‬‬ ‫واستعداده الفطري للتع ُّلم واكتساب المعرفة‪ ،‬والطرق والبرامج والأساليب الأكثر كفاءة‬ ‫في التع ُّلم والتعليم‪ ،‬ومادة العلم التي يحتاج إليها الإنسان‪ ،‬وغير ذلك من أسس التربية‬ ‫الفلسفية‪ ،‬والنفسية‪ ،‬والاجتماعية‪ ،‬والمعرفية؛ كل ذلك يتح َّدد في ضوء المرجعية‪.‬‬ ‫وقد عالجنا في الفصل الأول من هذا الكتاب موضوع الفلسفات والمرجعيات‬ ‫الحديثة في الفكر التربوي الغربي‪ .‬أما في هذا الموقع من الفصل الأخير من الكتاب فإننا‬ ‫نعالج مفهوم المرجعية في حد ذاته‪ ،‬ونشير ‪-‬بإيجاز‪ -‬إلى أنواع المرجعية‪ ،‬ومستوياتها‪،‬‬ ‫ونب ِّين بعض الملامح العامة في مرجعية الفكر الغربي‪ ،‬ونو ِّضح المقصود بعد ٍد من هذه‬ ‫الفلسفات‪ ،‬وبعض تم ُّثلاتها في الفكر التربوي المعاصر‪ .‬ونهدف من ذلك إلى الإسهام في‬ ‫فهم الفكر التربوي السائد في المجتمعات المسلمة‪ ،‬في حالته الراهنة والمنشودة‪ ،‬وتيسير‬ ‫ُسبل إعادة الفكر التربوي الإسلامي المعاصر إلى مرجعيته؛ ليؤدي مهمته في الإصلاح‬ ‫التربوي‪ ،‬وفي الإصلاح الشامل لمجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة‪.‬‬ ‫أولاً‪ :‬مفهوم \"المرجعية\"‪ ،‬وأنواعها‪ ،‬ومستوياتها‪:‬‬ ‫المرجعية في اللغة مصدر صناعي‪ ،‬أ ْص ُله الفعل الثلاثي‪َ :‬ر َج َع‪ ،‬ومنه‪ :‬الرجوع‪،‬‬ ‫والمرجع‪ .‬فالمرجع هو المرجوع إليه‪ ،‬ويعني عود ًة بالفكرة أو الموضوع أو القضية إلى‬ ‫أص ٍل ُمعت َمد‪ ،‬أو حال ٍة ُيقاس عليها‪ .‬وفي القرآن الكريم تشترك ألفاظ الرجوع والعودة‬ ‫وال َّر ِّد في توضيح عدد من المعاني ذات الصلة ببعضها‪ .‬ونختار أ ْن نشير إلى ما يق ِّدمه لفظا‬ ‫\"رجع\" و\"ر َّد\" م ّما له صلة بالمرجعية‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ‬ ‫ﮞﮟﮠ﴾ [العلق‪ ،]8-6:‬فكيف يستغني الإنسان عن ر ِّبه وهو ُمفت ِقر إليه؟! \"إ َّن استغناءه غير‬ ‫حقيقي؛ لأ َّنه ُمفت ِقر إليه في أهم أموره‪ ،‬ولا يدري ماذا ُيص ِّي ُره إليه ر ُّبه من العواقب‪ ،‬فلا‬ ‫َي ْز َد ِه بغن ًى زائف في هذه الحياة‪ ،‬فيكون \"ال ُّر ْج َعى\" ُمستع َمل ًا في مجازه‪ ،‬وهو الاحتياج إلى‬ ‫المرجوع إليه‪(((\".‬‬ ‫((( ابن عاشور‪ .‬تفسير التحرير والتنوير‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،30‬ص‪.446‬‬ ‫‪532‬‬

‫وفي قصة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم‪﴿ :‬ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ‬ ‫ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ﴾ [يوسف‪ ،]50:‬لا ُب َّد من‬ ‫كشف الحقيقة‪ ،‬واعتراف َمن صدر منه الاتهام ببراءة الم َّت َهم‪ ،‬فكان المطلوب أ ْن \"يعود\"‬ ‫الرسول إلى ال َم ِلك قبل أ ْن يل ّبي يوسف طلبه بالحضور؛ من أجل \"مراجعة\" ملف الاتهام‪،‬‬ ‫والتح ُّقق من البراءة على لسان َمن صدر منه الاتهام‪ ،‬وبذلك ُي َر ُّد الأمر إلى نصابه‪ .‬فالمرجعية‬ ‫تعني ‪-‬في السياق الذي نحن فيه‪ -‬العودة والر َّد‪ .‬ومعنى الر ِّد يتضح تمام ًا في عدد من الآيات‬ ‫القرآنية‪ ،‬مثل قوله تعالى‪﴿ :‬ﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇ﴾ [النساء‪ ،]59:‬وقوله سبحانه‪:‬‬ ‫﴿ﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ﴾ [النساء‪ .]83:‬فالر ُّد هنا‬ ‫هو تفويض إلى مرجع أعلى مقام ًا ِمن مواقف َمن يختصمون في فهم الحكم‪.‬‬ ‫\"وعلى هذا‪ ،‬فاستعارة فعل \"رجع\" بهذا المعنى في الفكر العربي والإسلامي‬ ‫المعاصر‪ ،‬والذي منه \"المرجع\" و\"المرجعية\"‪ ،‬يعني أ َّن المرجوع إليه‪ ،‬الذي ُي َر ُّد ويعاد إليه‪،‬‬ ‫أص ٌل ومبد ٌأ كل ٌّي جام ٌع‪ ،‬يحسم الخلاف‪ ،‬وينهي النزاع؛ إذ غالب الرجوع بما هو ر ٌّد وعودة‬ ‫إلى أصل يكون بعد خلاف في فرع أو نزاع‪ (((\".‬ومن الواضح أ َّن ال َّر َّد إلى الأصل والرجوع‬ ‫إليه لحسم الخلاف لا يكون جزء ًا من عناصر الخلاف‪ ،‬وإ َّنما هو \"مرجعية\" مشتركة‬ ‫للمختلفين؛ لأ َّنها تعبير عن الهوية الأصلية التي تجمعهم‪ ،‬والذات الحضارية المم ِّيزة لهم‪.‬‬ ‫وفي دائرة العلوم الإسلامية اختلف الناس قديم ًا‪ ،‬ولا يزالون يختلفون‪ ،‬في‬ ‫\"المرجعية\" التي يرجعون إليها لحسم الاختلاف في الرأي‪ ،‬أو الحكم على مسألة من‬ ‫المسائل؛ ف َث َّمة َمن لا يرى مرجعي ًة إلا القرآن الكريم‪ ،‬و َمن يرى أ َّن ال ُّسن َة قاضي ٌة على القرآن‬ ‫الكريم‪ ،‬و َمن يرى مرجعية عمل الصحابة أو أهل المدينة‪ ،‬و َمن يق ِّدم التجربة التاريخية‬ ‫التي يع ِّبر عنها التراث‪ ،‬و َمن يرى الأحكام الفقهية الخاصة بالمذهب أو بإمام المذهب‪.‬‬ ‫وكان مثل هذا الاختلاف على المرجعية سبب ًا في ظهور تيارات فكرية تع َّصب لها‬ ‫أتباعها بصورة أفقدت الأُ َّمة وحدتها‪ .‬مع العلم بأ َّن الله سبحانه أراد أ ْن يكون الوحي الإلهي‬ ‫والهدي النبوي‪ ،‬لتنزيل هذا الوحي في الواقع‪ ،‬مرجعي ًة لل ُأ َّمة لا يزيغ عنها إلا هالك‪ .‬بل‬ ‫((( شبار‪ ،‬سعيد‪\" .‬في مفهوم المرجعية واستعمالات الفكر العربي والإسلامي المعاصر\"‪ ،‬مجلة دراسات مصطلحية‬ ‫(المغرب)‪ ،‬العدد (‪1423( ،)2‬ﻫ‪2002/‬م)‪ ،‬ص‪.86‬‬ ‫‪533‬‬

‫إ َّن الله سبحانه أراد أ ْن تكون هناك مرجعية تجمع المؤمنين وأهل الكتاب على كلمة سواء‪.‬‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ‬ ‫ﭺﭻﭼﭽ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃ‪[ ﴾...‬آل عمران‪ .]64:‬وكان التشريع المدني الذي‬ ‫صاغه النب ُّي ص ّلى الله عليه وس َّلم في \"وثيقة المدينة\" مرجعي ًة لك ِّل َمن كان في المدينة ِمن‬ ‫المسلمين وغيرهم‪.‬‬ ‫فتحديد المرجعية هو سعي لأمر كلي جامع‪ ،‬تصاغ فيه المشتركات التي يتفق عليها أفراد‬ ‫المجتمع وفئاته‪ ،‬وهو الإطار الجامع الذي يح ِّقق أكب َر قد ٍر من المصالح‪ ،‬ويدرأ أكب َر قد ٍر من‬ ‫المفاسد‪ ،‬دون أ ْن يعني ذلك إلغاء الاختلافات الجزئية في المذاهب والمدارس الفكرية‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬فإ َّن المرجعية مصطل ٌح يشير إلى المعتقدات والمبادئ والقيم التي تش ِّكل‬ ‫مرجع ًا حاكم ًا‪ُ ،‬ير َجع إليه عند الحكم على موقف‪ ،‬أو رأي‪ ،‬أو سلوك بالصواب أو الخطأ‪.‬‬ ‫وبذلك تم ِّثل المرجعية سلط ًة ‪ ،Authority‬تتصف بأ َّنها قاضية عند الخلاف‪ ،‬أو تم ِّثل إطار ًا‬ ‫مرجعي ًا ‪ ،Frame of Reference‬تستند إليه الإجراءات والخطوات العملية في الشؤون‬ ‫العامة السياسية‪ ،‬أو الاقتصادية‪ ،‬أو الاجتماعية‪ ،‬أو التربوية‪ ،‬أو القانونية‪ ،‬أو غيرها‪.‬‬ ‫وتكون المرجعية في مستويات متعددة؛ ف َث َّمة مرجعي ٌة كلية تع ِّبر عن المعتقدات‬ ‫والقيم الخاصة ب ُأ َّمة من الأمم‪ ،‬وهويتها‪ ،‬وخصائصها‪ .‬و ُتع َرف المرجعية أحيان ًا‪ ،‬في هذا‬ ‫المستوى‪ ،‬بالرؤية الكلية‪ ،‬أو رؤية العا َلم ‪ ،Worldview‬التي تح ِّدد المعتقدات الخاصة‬ ‫بالعا َلم الطبيعي والاجتماعي والنفسي‪ ،‬مثل‪ :‬أصل الكون والحياة والإنسان‪ ،‬وقيم‬ ‫السلوك‪ ،‬ومسائل المعرفة‪ ،‬والموت والحياة‪ ،‬والخير والشر‪ ،‬والتاريخ والثقافة والحضارة‪.‬‬ ‫فالمرجعية في هذا المستوى الأعلى؛ مستوى العقيدة أو الفلسفة الكلية‪\" :‬هي الفكرة‬ ‫الجوهرية التي تش ِّكل أساس كل الأفكار في نموذج معين‪ ،‬والركيزة النهائية الثابتة له‪ ،‬التي‬ ‫لا يمكن أ ْن تقوم رؤية العا َلم دونها‪ ...‬والمبدأ الواحد الذي ُت َر ُّد إليه ك ُّل الأشياء‪ ،‬و ُتن َسب‬ ‫إليه‪ ... ،‬ومن هنا‪ ،‬يمكن القول بأ َّن المرجعية هي المطلق المكتفي بذاته‪ ،‬والذي يتجاوز‬ ‫كل الأفراد والأشياء والظواهر‪ ،‬وهو الذي يمنح العا َلم تماسكه ونظامه ومعناه‪ ،‬ويح ِّدد‬ ‫حلاله وحرامه‪(((\".‬‬ ‫((( المسيري‪ ،‬عبد الوهاب‪ .‬الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان‪ ،‬دمشق‪ :‬دار الفكر‪ ،‬الإعادة الثانية‪2007 ،‬م‪ ،‬ص‪.36‬‬ ‫‪534‬‬

‫و ُيط ِلق الـ َم ِسير ُّي على هذا المستوى التجريدي الأعلى من المرجعية مصطلح‬ ‫\"المرجعية النهائية\"‪ ،‬و ُيم ِّيز بين نوعين منها؛ النوع الأول‪ :‬هو مرجعية نهائية متجاوزة‪،‬‬ ‫خارج الطبيعة المادية‪ ،‬ومتجاوزة لها؛ وهي رؤية للعا َلم‪ ،‬والعنصر الأساس فيها هو وجود‬ ‫الإله الخالق‪\" ،‬الواحد ال ُمن َّزه على الطبيعة والتاريخ‪ ،‬الذي يح ِّركهما‪ ،‬ولا يح ُّل فيهما‪ \".‬أ ّما‬ ‫الإنسان فبالرغم من أ َّنه جزء من الطبيعة‪ ،‬فإ َّن له حال ًة خاص ًة يتجاوز بها الطبيعة‪ ،‬فلا يذوب‬ ‫فيها‪\" .‬فالإنسان قد خلقه الله‪ ،‬ونفخ فيه من روحه‪ ،‬وك َّرمه‪ ،‬واستأمنه على العا َلم‪ ،‬واستخلفه‬ ‫فيه؛ أي إ َّن الإنسان أصبح مركز الكون بعد أ ْن حمل عبء الأمانة والاستخلاف‪ ....‬ولذا‬ ‫فهو يظل مقولة مستقلة داخل النظام الطبيعي‪ .‬كما أ َّنه يعني أ َّن إنسانية الإنسان وجوهره‬ ‫الإنساني مرتبط تمام الارتباط بالعنصر الرباني فيه‪\".‬‬ ‫أ ّما النوع الثاني من المرجعية النهائية فهو المرجعية النهائية الكامنة؛ وهي كذلك رؤية‬ ‫للعا َلم‪ ،‬الذي يكون فيها محتوي ًا في داخله \"ما يكفي لتفسيره دون حاجة إلى اللجوء إلى أ ِّي‬ ‫شيء خارج النظام الطبيعي‪ ،...‬ففي إطار المرجعية الكامنة لا يوجد سوى جوهر واحد في‬ ‫الكون‪ ،‬مادة واحدة يتك َّون منها ك ُّل شيء‪ ... ،‬ونحن نذهب إلى أ َّن كل النُّ ُظم المادية تدور‬ ‫في إطار المرجعية الكامنة‪ .‬ومن هنا‪ ،‬كانت إشارتنا إلى المادية باعتبارها وحدة الوجود‬ ‫المادية‪ \".‬فالإنسان في هذه المرجعية النهائية الكامنة \"كائ ٌن طبيعي‪ ،‬وليس مقولة مستقلة‬ ‫داخل النظام الطبيعي‪ ،‬وإ َّنما هو ُمستو َعب تمام ًا فيه‪ ،‬ويسقط تمام ًا من قبضة الصيرورة‪،‬‬ ‫فتسقط المرجعية الإنسانية‪ ،‬وتصبح الطبيعة‪ /‬المادة هي المرجعية النهائية‪\".‬‬ ‫و َث َّمة صور ٌة ُأخرى للمرجعية النهائية الكامنة‪ ،‬تتم َّثل في صورة ُأخرى هي \"وحدة‬ ‫الوجود الروحية\" التي تؤ ِمن بوجود الإله الواحد‪ ،‬ولكنَّه حا ٌّل في الوجود‪ ،‬وكامن فيه؛‬ ‫فهو‪\" :‬إله َي ِح ُّل في مخلوقاته‪ ،‬ويمتزج ث َّم يتو َّحد معها‪ ،‬ويذوب فيها تمام ًا‪ ،‬بحيث لا‬ ‫يصير له وجود دونها‪ ،‬ولا يصير لها وجود دونه‪ ...‬فهو إله اسم ًا‪ ،‬ولكنَّه هو الطبيعة‪/‬‬ ‫المادية فعل ًا‪(((\".‬‬ ‫ث َّم إ َّن المرجعية أنواع متعددة؛ فقد تتم َّثل في القوانين والتشريعات التي يتفق عليها‬ ‫المنتمون إلى مجتمع أو دولة لإدارة شؤونهم‪ ،‬وتكون في صورة دستور الدولة وما ينبثق‬ ‫عنه من قوانين هي مرجعية لتلك الدولة‪.‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.39-37‬‬ ‫‪535‬‬

‫ومن أنواع المرجعية ما تع ِّبر عنه وثائق الاتفاقات الخاصة بين الأفراد‪ ،‬أو الجماعات‪،‬‬ ‫أو الدول؛ أو مجل ٌس يوكل إليه مهمة إصدار الفتوى في قضايا فقهية‪ ،‬أو قانونية‪ .‬و َث َّمة ُأط ٌر‬ ‫مرجعية خاصة لكل مهنة من المهن‪ .‬وقد تكون المرجعية في صورة أفكار واجتهادات‬ ‫لشخصية علمية‪ ،‬أو فكرية‪ ،‬أو سياسية‪ ،‬أو في كتاب يجمع هذه الأفكار؛ فالإمام الشافعي‬ ‫هو مرجعي ُة المذهب الشافعي‪ ،‬وأفلاطون مرجعي ٌة في الفلسفة المثالية‪ ،‬وفرويد مرجعي ٌة‬ ‫في علم النفس التحليلي‪ ،‬ودارون مرجعي ُة التط ُّور العضوي‪ ،‬وهكذا‪ .‬والقرآن الكريم‬ ‫هو المرجعية العليا للمسلمين‪ ،‬والإنجيل (أو مجموعة الأناجيل الأربعة ال ُمس ّماة العهد‬ ‫الجديد) هو المرجعية العليا عند المسيحيين‪ ،‬وكتاب \"ثروة الأمم\" من تأليف آدم سميث‬ ‫(توفي‪1790:‬م) كتاب مرجعي في علم الاقتصاد الحديث‪ ،‬وهكذا‪(((.‬‬ ‫وقد دأبت شعوب العا َلم ‪-‬على مدار التاريخ‪ -‬على تحديد خصوصيات دينية أو‬ ‫دهرية‪ ،‬اتخذتها مرجعي ًة لها في ُن ُظمها الداخلية وعلاقاتها الخارجية‪ ،‬ولك َّن شعوب العا َلم‬ ‫دخلت ‪-‬منذ منتصف القرن العشرين‪ -‬في مرحلة‪ ،‬أخذت فيها خصوصياتها ُت ْخ ِلي مواق َعها‬ ‫أمام \"الشرعية الدولية\"‪ ،‬بوصف هذه الشرعية مرجعي ًة لا سبيل إلى تجاوزها‪ .‬وقد بدأت‬ ‫الشرعية الدولية أ َّول الأمر بصورة قرارات سياسية وعسكرية‪ ،‬لكنَّها أصبحت بالتدريج‬ ‫مبادئ في حقوق الإنسان‪ ،‬والثقافة السكانية‪ ،‬والمجتمع المدني‪ ،‬وحقوق المرأة‪ ،‬ومفهوم‬ ‫\"الأسرة\"‪ ،‬وغيرها‪ .‬وبذلك أصبحت \"مرجعية\" الشرعية الدولية \"قيم ًا دولي ًة\" يتم َتبنّيها؛‬ ‫طوع ًا‪ ،‬أو كره ًا‪ .‬والأخطر من كل ذلك أ َّنها أصبحت موضوعا ٍت للحرب الفكرية التي‬ ‫ترافِق أشكال الحرب الأُخرى‪ ،‬أو بديل ًا \"ناعم ًا\" عن أشكال الحرب الأُخرى‪ ،‬وبات هدفها‬ ‫كسب العقول والقلوب‪ ،‬ودارت رحاها في ميادين التعليم والإعلام والمؤتمرات الإقليمية‬ ‫والدولية‪ ،‬وحاولت فيها القوى الكبرى في العا َلم أ ْن تنش َر مباد َئها وقي َمها‪ ،‬وتفر َضها على‬ ‫الكيانات الضعيفة‪(((.‬‬ ‫((( المراجع‪ :‬هي الكتب التي يرجع إليها الباحث أو المؤ ِّلف‪ ،‬ويشير إليها في توثيق الأفكار التي استفادها منها‪.‬‬ ‫والكتب المرجعية في علم المكتبات‪ :‬هي الكتب التي ُج ِمعت مادة ك ٍّل منها بصورة تي ِّسر على الباحث الوصول‬ ‫إلى ما يريده من الكتاب‪ ،‬دون أ ْن يكون بحاجة إلى قراءة الكتاب كامل ًا‪.‬‬ ‫((( ملكاوي‪ ،‬فتحي حسن‪\" .‬الصراع على مرجعية القيم في العالم المعاصر\"‪ ،‬ورقة علمية ُق ِّدمت في‪ :‬المؤتمر‬ ‫الرابع لمركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق‪ ،‬جامعة حمد بن خليفة‪ ،‬الدوحة‪ ،‬قطر‪ 3-2 ،‬أبريل‬ ‫(نيسان) ‪2016‬م‪.‬‬ ‫‪536‬‬

‫وبصورة عامة‪ ،‬فإ َّن المرجعية الفكرية في مستوياتها الفرعية تنبثق ‪-‬في الأساس‪-‬‬ ‫من المرجعية الكلية؛ فهذه المرجعية هي رؤية للعا َلم‪ ،‬وتص ُّور كلي‪ ،‬ولا يقتصر مجالها‬ ‫على ال ُب ْعد العقدي‪ ،‬وإ َّنما يمتد ليشمل نظام الحياة وما يتصل به من تشريعات في الحكم‪،‬‬ ‫والاقتصاد‪ ،‬والقانون‪ ،‬والتربية‪ ،‬والإعلام‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬وهي تح ِّدد منهج التفكير والنظر‬ ‫والبحث‪ ،‬والتعامل مع الأفكار والأشياء والأحداث‪.‬‬ ‫وقد ك ُثر الجدل السياسي والإعلامي في السنوات الأخيرة حول مصطلح \"المرجعية‬ ‫الإسلامية\"‪ ،‬وذلك في سياق الحديث عن الدولة الحديثة التي تسعى المجتمعات العربية‬ ‫والإسلامية إلى بنائها‪ .‬ف َث َّمة تيارا ٌت تريد أ ْن تقتفي أثر الغرب في بناء دولة مدنية‪ ،‬تفصل‬ ‫الدين عن الحياة العامة؛ لتكون الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية مستقلة عن‬ ‫الأحكام الدينية‪ .‬وقد تأ َّثرت هذه التيارات بمفهوم \"الدولة المدنية\" مقابل مفهوم \"الدولة‬ ‫الدينية\" بالمعنى اللاهوتي الكنسي الذي عرفته أوروبا‪ .‬و َث َّمة تيارا ٌت ُأخرى لا ترى مشكلة‬ ‫في أ ْن تكون الدولة \"مدني ًة\" بمعنى غير عسكرية‪ ،‬وغير دينية بالمعنى الأوروبي المشار‬ ‫إليه؛ شريطة ألا تكون \" َم َدن َّية الدولة\" طريق ًا لاستبعاد الدين من الحياة العامة‪ .‬فالدين في‬ ‫المجتمعات الإسلامية هو الهوية الأصلية المم ِّيزة للهوية الجامعة والذات الحضارية‪.‬‬ ‫لذلك‪ ،‬لا ُب َّد أ ْن تكون \"المرجعية الإسلامية\" أساس ًا لأ َّية تشريعات مدنية‪ .‬أ ّما الدولة‬ ‫الدينية التي عرفتها أوروبا في القرون الوسطى فهي شيء مختلف عن تشريعات الإسلام‬ ‫والمرجعية الإسلامية‪.‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬ملامح عامة في مرجعية الفكر التربوي الغربي‪:‬‬ ‫تستمد معظ ُم مجتمعاتنا المسلمة اليوم فك َرها التربوي‪ ،‬بمفاهيمه ومبادئه وممارساته‪،‬‬ ‫من التجربة الغربية المعاصرة‪ .‬ولذلك نجد من الضروري أ ْن نكون على تمام الوعي‬ ‫بمرجعية الفكر التربوي السائد في البلدان الغربية؛ لنتب َّين ما قد يكون من خطر في استيراد‬ ‫هذا الفكر‪ .‬إ َّن التد ُّبر العميق لمرجعية الفكر الغربي عموم ًا والفكر التربوي الغربي على‬ ‫وجه الخصوص يجب أ ْن يكون بقدر من الوعي والمسؤولية‪ ،‬والموضوعية كذلك‪.‬‬ ‫‪537‬‬

‫والمعروف أ َّن الفكر التربوي الغربي يبدأ الإشار َة إلى عمقه التاريخي من أقدم‬ ‫العصور بالإحالة إلى إنجازات فلاسفة اليونان والإغريق‪ .‬ور َّبما نجد إشارات عابرة إلى‬ ‫بعض الحضارات القديمة في مصر والهند والعراق‪ .‬ث َّم يتجاوز التأري ُخ للفكر التربوي‬ ‫عص َر الظلمات الأوروبي‪ُ ،‬متجا ِهل ًا تاريخ العا َلم وحضاراته الأُخرى خارج أوروبا في‬ ‫أثناء هذا العصر‪ ،‬الذي يقابله العصر الذهبي للحضارة الإسلامية‪ ،‬ليقفز إلى عصر الأنوار‬ ‫الأوروبي‪ ،‬وعصر الاكتشافات العلمية والجغرافية‪ ،‬ويشير إلى إسهامات بيكون وديكارت‬ ‫وهيوم‪ ،‬ث َّم فولتير ورو ّسو وفروبل‪ ،‬إلى أ ْن يم َّر بشخصيات القرن العشرين‪ ،‬مع تركيز على‬ ‫ديوي‪ ،‬وفرويد‪ ،‬وبستالوزي‪ ،‬وبينيه‪ ،‬وبياجيه‪ ،‬وواطسن‪ ،‬وماسلو‪ ،‬وبلوم‪ ،‬وتايلر‪ ،‬وسكنر‪،‬‬ ‫وأوزبل‪ ،‬وبرونر‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬ ‫ويتم َّثل مفهوم \"الغرب\" اليوم‪ ،‬في ُب ْعده الجغرافي‪ ،‬في دول القارة الأوروبية‬ ‫والولايات المتحدة الأمريكية‪ ،‬وبعض البلاد الأُخرى‪ ،‬مثل‪ :‬كندا‪ ،‬وأستراليا‪ .‬وقد وصل‬ ‫الفكر الغربي إلى حالته المعاصرة عبر مسيرة من التط ُّور التاريخي‪ ،‬الذي لم تقتصر‬ ‫أحداثه على البلدان المشار إليها‪ ،‬وإ َّنما امت َّد أثر الفكر الغربي إلى كثير من بلدان العا َلم‬ ‫نتيجة علاقات الغرب السياسية والعسكرية مع هذه البلدان؛ سواء تم َّثلت هذه العلاقات‬ ‫في حقبة الاستعمار‪ ،‬والحروب‪ ،‬أو في علاقات الهيمنة السياسية والاقتصادية‪ .‬وقد َي ِر ُد‬ ‫بعض الاستدراك على وجود مصطلح \"الغربي\" في عبارة \"الفكر التربوي الغربي\" ب ُح َّجة‬ ‫أ َّن الفكر التربوي السائد في الغرب اليوم هو حصيلة تط ُّور في الخبرة البشرية‪ ،‬عبر مراحل‬ ‫ومحطات تاريخية متتابعة‪ ،‬شاركت فيها شعوب مختلفة‪ ،‬ولا سيما أ َّننا نستطيع أ ْن نم ِّيز‬ ‫في هذه المراحل إسهامات الإغريق واليونان والحضارات القديمة في مصر والعراق‬ ‫وفارس والهند والصين‪ ،‬فضل ًا عن هدي الأنبياء وأتباعهم على مدار التاريخ‪ ،‬مرور ًا بما‬ ‫أنجزته الحضارة الإسلامية من فكر تربوي وتعليمي في بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة‬ ‫وغرناطة‪ ،‬ث َّم ما كان من تط ُّورات عصر النهضة والتنوير الأوروبي وما نتج منه من حداثة‪،‬‬ ‫وصولاً إلى الخبرة التربوية المعاصرة‪ ،‬التي يمكن أ ْن نم ِّيز فيها إسهامات مف ِّكرين من‬ ‫مختلف أقطار العا َلم‪.‬‬ ‫‪538‬‬

‫وعلى ما في هذا الاستدراك من حق‪ ،‬فإ َّننا نتجاوزه؛ للتنبية على أمرين‪ :‬أولهما أ َّن‬ ‫الغرب ‪-‬الأوروبي الأمريكي‪َ -‬ي َّدعي اليوم أ َّنه صاحب الشأن في الإنتاج الفكري المعاصر‬ ‫في العلوم التربوية كما في سائر الميادين‪ ،‬وثانيهما أ َّن معظم دول العا َلم اليوم في آسيا‬ ‫وإفريقيا وأمريكا الجنوبية‪ ،‬بما في ذلك المجتمعات العربية والإسلامية‪ُ ،‬ت ِق ُّر للغرب بهذا‬ ‫الا ِّدعاء‪ ،‬وتستمد فكرها وممارساتها من الإنتاج الفكري الغربي طوع ًا أو كره ًا!‬ ‫ونسارع هنا إلى إبداء ملاحظة قد نجد ما يشهد لها من الفارق بين أثر الفكر التربوي‬ ‫الغربي في الغرب‪ ،‬وأثره في البلدان التي تقتبسه من الغرب؛ إذ يكون الاقتباس ‪-‬في كثير‬ ‫من الأحيان‪ -‬للشكل لا للجوهر‪ ،‬وللقالب لا للروح؛ ففي الجوهر والروح بعض الجوانب‬ ‫الإيجابية التي نفتقدها في الاقتباس والاستيراد‪.‬‬ ‫ونجد في العا َلم العربي مؤسسات متعددة تحرص على ترجمة ما عرفه الفكر الغربي‬ ‫إلى اللغة العربية‪ ،‬مع قدر من التنويه بضرورة المثاقفة‪ ،‬والوعي بالحالة الفكرية والثقافية‬ ‫في العا َلم‪ ،‬والتفا ُعل معها‪ .‬ويفتقد هذا التنوي ُه ‪-‬في كثير من الأحيان‪ -‬بيا َن الصورة الكاملة‬ ‫لما يتم اختياره للترجمة‪ ،‬من حيث‪ :‬المرجعية الفكرية التي يستند إليها‪ ،‬أو النقد الذي ُو ِّجه‬ ‫إليه في الدائرة الغربية نفسها‪.‬‬ ‫ومن المناسب أ ْن نق ِّرر أ َّننا ‪-‬في هذا المقام‪ -‬لا نعارض مبدأ الترجمة‪ ،‬ولا ما تهدف‬ ‫إليه من تفا ُعل ومثاقفة‪ .‬ولك ْن‪ ،‬لا ُب َّد أ ْن نشير هنا إلى ملاحظتين؛ الأُولى‪ :‬المثاقفة هي‬ ‫تفا ُعل بين طرفين‪ ،‬لك ٍّل منهما هوي ٌة تم ِّيزه‪ ،‬وعطا ٌء يق ِّدمه‪ ،‬و ِم ْن َث َّم تكون حركة المثاقفة‬ ‫في اتجاهين‪ .‬والذي نلاحظه أ َّن التفا ُعل الذي تمارسه النخبة المثقفة في العا َلم العربي‬ ‫والإسلامي يسير في اتجاه واحد‪ ،‬من الغرب إلينا؛ سواء في المجال الفكري والثقافي‪ ،‬أو‬ ‫في المجال العلمي والتكنولوجي؛ ما جعلنا نكتفي بموقف المتل ّقي‪ .‬والملاحظة الثانية‪:‬‬ ‫موقف المتل ّقي هذا تس ِّوغه هذه النخبة المثقفة ب ُح َّجة أ َّننا بصدد الخروج من واقع التخ ُّلف‬ ‫الذي تعانيه الأُ َّمة‪ .‬و ِم ْن َث َّم‪ ،‬فنحن بحاجة إلى الأخذ بمبادئ التنوير‪ ،‬والحداثة‪ ،‬والعقلانية‪،‬‬ ‫والعلمية‪ ...،‬كما أخذ بها الغرب لنتق َّدم كما تق َّدم‪ ،‬مع العلم بأ َّننا منذ قرنين من الزمان‬ ‫ونحن نأخذ من الغرب ك َّل شيء عنده‪ ،‬فما َتح َّقق لدينا شيء من حداثة الغرب‪ ،‬ولا َبنَ ْينا‬ ‫شيئ ًا من عناصر حداثتنا الخاصة‪ ،‬ولم نخرج من حالة التخ ُّلف‪ ،‬وكدنا نفقد كل شيء من‬ ‫عناصر وجودنا الفكري وعطائنا الثقافي‪.‬‬ ‫‪539‬‬

‫ويبدو أ َّن الفلسفات‪ ،‬أو النظريات‪ ،‬أو المدارس الفكرية‪ ،‬أو المناهج الجديدة التي‬ ‫نشأت في الغرب‪ُ ،‬تع َرض أحيان ًا بشيء من الإطراء والزخرفة اللفظية‪ ،‬وبصورة تدعو إلى‬ ‫الإعجاب؛ نظر ًا لمدى ما تختلف به عن النظريات السابقة‪ .‬ولك ْن‪ ،‬من الجدير بالملاحظة‬ ‫هنا أ َّن هذه الفلسفات قد نشأت ‪-‬ولا تزال تنشأ‪ -‬في صورة فِ ْع ٍل و َر ِّد فِ ْع ٍل؛ فالفلسفة‬ ‫الطبيعية في الفكر الغربي هي َر ُّد فِ ْع ٍل على الغيبية‪ ،‬والوضعية َر ُّد فِ ْع ٍل على المعيارية‪،‬‬ ‫والعلمانية َر ُّد فِ ْع ٍل على الدينية‪ ،‬وما بعد الحداثة َر ُّد فِ ْع ٍل على الحداثة‪ ،‬والتفكيكية َر ُّد فِ ْع ٍل‬ ‫على البنيوية‪ ،‬وهكذا‪ .‬ث َّم إ َّن كل فلسفة‪ ،‬أو مدرسة تنشأ في الغرب‪ ،‬لا تنشأ ابتدا ًء من دون‬ ‫أصل تط َّورت منه‪ ،‬واستندت إليه‪ ،‬أو اعترضت عليه‪ .‬ور َّبما نستطيع أ ْن نم ِّيز في الفلسفة‬ ‫الجديدة عناصر الأصل لنجد أ َّن الجديد تداخل مع القديم‪ ،‬من دون أ ْن يفتقد أ ٌّي منهما‬ ‫المرجعي َة نف َسها‪.‬‬ ‫ومن الأمثلة على علاقة الفلسفة التالية بالفلسفة التي سبقتها‪ ،‬ما قاله غارودي عن‬ ‫البنيوية التي جاءت بعد الوجودية‪َ \" :‬ث َّمة عه ٌد في الفلسفة على وشك أ ْن ُتطوى صفحته؛‬ ‫إ َّنه عهد الوجودية الذي دام ثلث قرن ون ِّيف ًا‪ ...‬ض َّحت الوجودية بالعقلاني والموضوعي‪،‬‬ ‫بالصرامة العلمية والانضباط الثوري‪ ،‬فلكأ َّن التاريخ منسوج فقط من بزوغ مشاريع‬ ‫ح َّرة‪ ...‬إ َّن هذا التفكير بصدد الذات قد ألهب حماسة جي ٍل ما ل ُيسا ِوره‪ ،‬في أيام الحرب‬ ‫والاحتلال‪ ،‬الشعو ُر بع َّزته الشخصية إلا عن طريق النفي والتم ُّرد‪ .‬وهكذا لم تعد‬ ‫الوجودية محض تص ُّو ٍر للعا َلم‪ ،‬وإ َّنما درجة أو موضة هيمنة‪ ،‬مع التحرير ولسنوات ِع َّدة‪،‬‬ ‫على الأدب والأعراف‪ .‬ولك ْن عندما انطرحت مسألة البناء انكشف عجز الوجودية‪ ،‬عجز‬ ‫نظري وعجز عملي في آ ٍن مع ًا‪(((\".‬‬ ‫ويتداخل أثر التاريخ والدين في تط ُّور الفكر الغربي؛ فقد شهد التاريخ الديني على‬ ‫وجه الخصوص أحداث ًا وملابسا ٍت كانت لها نتائجها العميقة في تحديد طبيعة الفكر‬ ‫التربوي الغربي وموقفه من الدين والمرجعية الدينية‪ .‬فبعد طول صراع بين السلطة الدينية‬ ‫والسلطة السياسية في أوروبا‪ ،‬اضطرت الكنيسة أ ْن تجعل الدين مسأل ًة شخصي ًة وعائلي ًة‬ ‫تخت ُّص بالعلاقة مع الله سبحانه‪ ،‬وتركت للمؤمنين إقام َة أنظمة حياتهم‪ ،‬وس َّن تشريعاتهم‬ ‫((( غارودي‪ ،‬روجيه‪ .‬البنيوية‪ :‬فلسفة موت الإنسان‪ ،‬ترجمة‪ :‬جورج طرابيشي‪ ،‬بيروت‪ :‬دار الطليعة‪ ،‬ط‪1979 ،1‬م‪.‬‬ ‫صدر الأصل الفرنسي للكتاب عام ‪1969‬م‪ ،‬ص‪.14‬‬ ‫‪540‬‬

‫وفق ما قادتهم إليه الخبرة والتجربة‪ ،‬فاستأثرت السلطة السياسية بشؤون الحكم والاقتصاد‬ ‫والقانون والتربية‪ .‬وقد حدث هذا التغ ُّير في مرجعية الدين من نظام للحياة في سائر‬ ‫مجالاتها‪ ،‬ليكون شأن ًا شخصي ًا‪ ،‬في الوقت الذي حدثت فيه تط ُّورات كبيرة في مفاهيم‬ ‫\"الحرية\"‪ ،‬و\"الفردية\"‪ ،‬و\"النظرة المادية\"‪ ،‬وما رافق ذلك من رخاء اقتصادي‪ ،‬وتق ُّدم علمي‪،‬‬ ‫فانعكس كل ذلك على النظرة إلى الدين‪ ،‬فأصبح التح ُّرر من المرجعية الدينية في الحياة‬ ‫العامة‪ ،‬في نظر الغربيين‪ ،‬سبب ًا في التق ُّدم‪ ،‬وأصبح اعتماد المرجعية الدينية في المجتمعات‬ ‫غير الغربية يف ِّسر ما هي عليه من مظاهر التخ ُّلف‪.‬‬ ‫ومن الجدير بالذكر أ َّن هذا العرض لموقع الدين في الحضارة الغربية المعاصرة وجد‬ ‫َمن يرفضه جمل ًة وتفصيل ًا ِمن بعض الغربيين‪ ،‬الذين حاولوا إعادة بناء الفهم التاريخي‬ ‫لنشأة الحضارة الغربية وتم ُّيزها بالعبقرية الاستثنائية‪ ،‬وإعادة تفسير تاريخ أوروبا بنا ًء على‬ ‫هذا الأساس‪ ،‬بما في ذلك‪ :‬عدم أخذ الغرب من الحضارات الأُخرى‪ ،‬وإنكار الروح‬ ‫الاستعمارية في العقل والوجدان والممارسة عند الغربيين‪ ،‬ونفي وجود عصور مظلمة‬ ‫في التاريخ الأوروبي‪ ،‬وعدم وقوف الكنيسة في وجه العلم‪ ،‬واعتبار الحروب الصليبية‬ ‫مع المسلمين دفاع ًا عن النفس‪ .‬وسنجد في هذه المحاولات من الروح الاستعلائية‬ ‫والغطرسة‪ ،‬ما يف ِّسر سلوك الغرب تجاه الشعوب الأُخرى‪(((.‬‬ ‫وسواء تم َّثلت روح الاستعلاء عند الغربي في ال ُب ْعد الديني‪ ،‬أو التق ُّدم العلمي‪ ،‬أو‬ ‫التف ُّوق الحضاري‪ ،‬فإ َّن هذه الروح قد ش َّكلت ذاكر ًة تاريخي ًة‪ ،‬وثقاف ًة عام ًة تتوارثها أجيال‬ ‫الغربيين‪ .‬ويتع َّزز أثر هذه الثقافة بما يشاهده الغربي من واقع التخ ُّلف الذي تعانيه كثير من‬ ‫المجتمعات غير الغربية‪ ،‬ولا سيما مجتمعات المسلمين‪ .‬وتع َّززت ثقافة الغربيين بالثقافة‬ ‫التي تو َّلدت في مجتمعات المسلمين التي أصبحت تعاني الاستلا َب‪ ،‬وعدم الثقة بالنفس‪،‬‬ ‫وربط إمكانية التق ُّدم بالتط ُّلع إلى التجربة الغربية‪.‬‬ ‫((( من أمثلة هذه المحاولات كتاب صدر عام ‪2015‬م‪ ،‬وكانت له ردود فعل متفاوتة‪ ،‬لكنَّه ع َّمق الشعور بتف ُّوق‬ ‫ال ِعرق الأبيض‪ ،‬و َق َصر التط ُّور الحضاري في تاريخ العالم على التجربة الأوروبية وامتدادها الأمريكي‪ ،‬ور َّبما‬ ‫تع ِّزز مادة الكتاب نمط التفكير الذي أخذ ينتشر في الغرب؛ من تف ّشي مشاعر الكراهية للمهاجرين‪ ،‬وظاهرة‬ ‫الإسلاموفوبيا‪ ،‬والاعتداء على مساجد المسلمين‪ ،‬وغير ذلك من الاتجاهات السلبية تجاه غير الغربيين‪.‬‬ ‫وعنوان الكتاب بالعربية هو \"كيف انتصر الغرب‪ :‬القصة المهملة في انتصار الحداثة\"‪ .‬وهذه بيانات الكتاب‪:‬‬ ‫‪- Stark. Rodney. How the West Won: The Neglected Story of the Triumph of Modernity.‬‬ ‫‪Wilmington, DE: Intercollegiate Studies Institute, 2015.‬‬ ‫‪541‬‬

‫وكان أخطر ما نتج عن ذلك أ ْن ِصيغت المعرفة في مناهج التربية بطريقة استعلائية‪،‬‬ ‫ُت ْعلي من شأن المركزية الغربية‪ ،‬وتح ُّط من قدر الهوامش الإفريقية والآسيوية‪ ،‬وتضع الثقة في‬ ‫قدرة الإنسان الغربي‪ ،‬وتؤ ِّكد العجز والتخ ُّلف عند غيره؛ فالبلدان الغربية متح ِّضرة متق ِّدمة‪،‬‬ ‫والبلدان الأُخرى تقليدية متخ ِّلفة‪ ،‬وكل مشاريع التنمية من أجل التق ُّدم في هذه البلدان غير‬ ‫الغربية تتع َّثر وتفشل‪ ،‬ما دامت تحتفظ بشيء من ثقافتها التقليدية ذات المرجعية الدينية‪.‬‬ ‫ومن السهل أ ْن نجد مرجعية الفكر التربوي الغربي في رؤيته لدور التربية والتعليم‬ ‫في إعادة بناء المجتمعات الأُخرى‪ ،‬عبر النمط الغربي؛ فلا ُب َّد من العلمانية لح ِّل مشكلة‬ ‫الدين‪ ،‬ولا ُب َّد من القروض الربوية لح ِّل مشكلة الاقتصاد‪ ،‬ولا ُب َّد من السوق الح َّرة لتحقيق‬ ‫التنمية‪ ،‬ولا ُب َّد من الديمقراطية والتع ُّددية الحزبية في النموذج الغربي لتطوير الواقع‬ ‫السياسي‪ ،‬ولا ُب َّد من النظام التعليمي القائم على هيكل التعليم في المدارس والجامعات‪.‬‬ ‫وسيكون التركي ُز في التعليم على العلوم والرياضيات واللغات الأجنبية والحاسوب‬ ‫\"الكمبيوتر\" وسيل ًة سهل ًة سريع ًة للتق ُّدم؛ فهذه العلوم هي مركز الاهتمام وعمقه‪ .‬أ ّما مواد‬ ‫بناء الأُ َّمة؛ من‪ :‬دين‪ ،‬وتاريخ‪ ،‬ولغة‪ ،‬فهي خصوصيات ُمعت َرف بها‪ ،‬ولذلك ُيعطى لها‬ ‫هامش من العناية‪ ،‬من دون أ ْن يؤ ِّثر هذا الهامش في مركز الاهتمام وعمقه‪.‬‬ ‫ومسألة فهم المرجعية الغربية في بناء المناهج التربوية لا تخت ُّص فقط بالمواد‬ ‫الدراسية؛ فهي تهتم بطرائق التفكير والاتجاهات النفسية؛ ذلك أ َّن المنهج الاستقرائي‬ ‫التجريبي‪ ،‬الذي يعتمد الخبرة الح ِّسية‪ ،‬والمشاهدة‪ ،‬والتجربة العملية‪ ،‬هو الأساس في‬ ‫إنتاج المعرفة‪ ،‬واختبارها‪ ،‬وتوظيفها‪ .‬وقد كان هو الأساس في انتقال أوروبا من عصر‬ ‫الظلمات إلى عصر الأنوار‪ ،‬ث َّم تحقيق النهضة الصناعية‪ ،‬وتطوير وسائل الإنتاج وأدوات‬ ‫الاتصال والنقل‪ .‬و ِم ْن َث َّم‪ ،‬فإ َّن العلم الذي يستحق الاهتمام به في المرجعية الغربية هو ما‬ ‫يثبت بالتجربة والمشاهدة الح ِّسية‪ .‬ولذلك‪ ،‬فالعلوم الح َّقة الدقيقة هي الفيزياء والكيمياء‪،‬‬ ‫وما في مستواهما‪ .‬أ ّما العلوم الاجتماعية فهي ُتس ّمى علم ًا مجاز ًا فقط‪ .‬ولك ْن‪ ،‬يمكن‬ ‫بناؤها على أسس علمية تجريبية عبر مراحل من النمو والتط ُّور العلمي‪ ،‬وهي الآن في‬ ‫مرحلة متخ ِّلفة‪ ،‬وقد تلحق بالعلوم الح َّقة يوم ًا ما‪ .‬أ ّما طرائق التفكير والبحث ذات الصلة‬ ‫بالأبعاد الغيبية‪ -‬الميتافيزيقية فلم يعد لها مكان في برامج التعليم‪.‬‬ ‫‪542‬‬

‫وم ّما يلفت النظر أ َّن التربويين الغربيين قد بذلوا جهود ًا كبير ًة في بناء التربية على‬ ‫أساس العلم التجريبي‪ ،‬ولا يزالون يبذلونها‪ (((.‬ومع ذلك‪ ،‬فقد ظهرت تيارات ُأخرى في‬ ‫البحث التربوي تؤ ِّكد أ َّن ميدان التربية‪ ،‬مثله مثل ميادين العلوم الاجتماعية الأُخرى‪ ،‬لا‬ ‫يصلح أ ْن ُيط َّبق عليه المنهج العلمي الذي ُيط َّبق على العلوم الطبيعية‪ ،‬بسبب الفوارق‬ ‫الجوهرية بين سلوك المادة‪ ،‬وفق قوانين ثابتة‪ ،‬وبطريقة يسهل التح ُّكم التجريبي فيها‪،‬‬ ‫وسلوك أفراد البشر ومجموعاتهم‪ ،‬وفق قوانين غير معروفة تمام ًا‪ .‬ولذلك ظهرت مناهج‬ ‫للبحث التربوي والاجتماعي تعتمد الوصف الكيفي للظواهر والمواقف بدلاً من الوصف‬ ‫ال َك ِّمي‪ ،‬وتعتمد بناء الفرضيات بدلاً من اختبارها‪ ،‬وتعترف بالفارق بين التعامل مع الأشياء‬ ‫المادية في العلوم الطبيعية‪ ،‬والسلوك البشري في العلوم الإنسانية والاجتماعية‪(((.‬‬ ‫ثالث ًا‪ :‬تع ُّدد الفلسفات في مرجعية الفكر الغربي‪:‬‬ ‫تمتلئ لغة الفكر الغربي بعدد كبير من المفاهيم والمصطلحات التي يأخذ بعضها‬ ‫صفة الفلسفة‪ ،‬أو المنهج‪ ،‬أو المدرسة الفكرية‪ .‬وفيما يأتي بيان لبعض صور التع ُّدد في‬ ‫المرجعيات العامة في الفكر التربوي الغربي‪:‬‬ ‫‪ .1‬العلمانية في مرجعية الفكر الغربي‪:‬‬ ‫من الأفكار التي ارتبطت بمرجعية الفكر الغربي فكرة العلمانية التي أصبحت مبد ًأ‪،‬‬ ‫ليس في الفهم والممارسة في الحياة الغربية فحسب‪ ،‬بل في فهم حالة المجتمعات‬ ‫‪(1) Gage, N. L. The Scientific Basis of the Art of Teaching. New York: Teacher College Press,‬‬ ‫‪Coumbia University, 1977. see also:‬‬ ‫‪- Subotnik, Rena & Walberg, Herbert. The Scientific Basis of Education Productivity,‬‬ ‫‪Research in Educational Productivity, Charlotte, North Carolina: Information Age‬‬ ‫‪Publishing, 2006.‬‬ ‫‪- Appleton, lilla Estella. A Comparative Study of the Play Activities of Adult Savages‬‬ ‫‪and Civilized Children; An Investigation of the Scientific Basis of Education, Victoria,‬‬ ‫‪Australia: Leopold Classic Library, 2017.‬‬ ‫‪(2) See for example specialized journals such as: International Journal of Qualitative Studies‬‬ ‫‪in Education, and related textbooks such as:‬‬ ‫‪- Anfara, Vincent. & Mertz, Norma (Eidors). Theoretical Frameworks in Qualitative‬‬ ‫‪Research, Los Angeles and London: Sage Publication, Inc. 2015.‬‬ ‫‪- Mackson, Alecia. & Mazzei, Lisa. Thinking with Theory in Qualitative Research:‬‬ ‫‪Viewing Data across Multiple Perspectives, London and New York: Routledge, 2011.‬‬ ‫‪543‬‬

‫الأُخرى‪ ،‬وتفسيرها‪ ،‬وتحديد ُسبل التعامل معها‪ .‬ولا يبدو أ َّن للعلمانية مفهوم ًا واحد ًا في‬ ‫البلدان الغربية؛ ففي حين كان المعنى الأصلي لهذا المفهوم هو فصل الدين عن أنظمة‬ ‫الحياة العامة في الشؤون السياسية والاقتصادية وغيرها‪ ،‬مع الاعتراف بالحاجة إلى الدين‬ ‫في العلاقات الشخصية والتنمية الروحية‪ ،‬فإ َّن هذا المعنى في الممارسة تو َّزع على عدد‬ ‫من الأشكال‪ ،‬وبطرق مختلفة بين البلدان الأوروبية‪.‬‬ ‫ويح ِّدد موقع الجمعية الوطنية للعلمانية‪ ((( National Secular Society‬ثلاثة‬ ‫مبادئ للعلمانية تحمي الحريات التي يجب أ ْن يتمتع بها الناس وتدعمها‪ ،‬وهي‪\" :‬فصل‬ ‫المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة‪ ،‬بحيث يكون للدين إسهامه في الحياة العامة دون‬ ‫أ ْن يكون له السيطرة‪ ،‬وحرية الفرد في ممارسة دينه أو معتقده‪ ،‬وفق ًا لضميره دون الإضرار‬ ‫بالآخرين‪ ،‬أو تغيير معتقداتهم‪ ،‬أو إجبارهم على عدم الإيمان بدين؛ وتحقيق المساواة‬ ‫بحيث لا يكون وجود المعتقد الديني أو غيابه سبب ًا في تحقيق مصلحة أو ضرر‪(((\".‬‬ ‫وقد جرى تبنّي العلمانية في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية في‬ ‫صورة مبدأ دستوري‪ ،‬تكون فيه المؤسسات السياسية والدينية منفصلة‪ ،‬ولك ٍّل منها مجالها‬ ‫الخاص بها‪ ،‬علم ًا بأ َّن السلطة السياسية حيادية فيما يخ ُّص الإيمان‪ ،‬أو عدم الإيمان الديني‪.‬‬ ‫وتتخذ التشريعات والسياسات في الدولة وفق المتط َّلبات الدنيوية من دون مرجعية دينية‬ ‫معينة‪ .‬وأ ُّي تد ُّخل من السلطة الدينية في شؤون الدولة‪ ،‬أو جعل الدين نقط ًة مرجعي ًة أو‬ ‫مصدر ًا للتشريع‪ ،‬يتناقض مع مبدأ العلمانية‪ ،‬و ُيف ِقد الدولة مشروعيتها‪.‬‬ ‫ويمكن أ ْن نم ِّيز في العلمانية ثلاثة أنواع‪ :‬سياسي‪ ،‬وفلسفي‪ ،‬وثقافي‪-‬اجتماعي؛‬ ‫فالعلمانية في ُب ْعدها السياسي وجدت قبولاً واسع ًا في الغرب؛ سواء من المتد ِّينين‪ ،‬أو غير‬ ‫المتد ِّينين‪ .‬فهذا المبدأ يعطي حقوق ًا متساوي ًة للمجموعات الدينية‪ ،‬ول َمن لا دين له‪ .‬وترى‬ ‫الفئتان أ َّن العلمانية ليست حماية للدولة فحسب‪ ،‬بل هي حماية للدين كذلك‪.‬‬ ‫((( الجمعية الوطنية للعلمانية ُأن ِشئت في بريطانيا عام ‪1866‬م‪ ،‬في صورة جمعية غير هادفة للربح‪ ،‬وبدعم من‬ ‫أعضائها‪ ،‬وهي تدعو إلى فصل الدين عن الدولة‪ ،‬وإلغاء الكنيسة الإنجليزية‪ ،‬واعتبار العلمانية أفضل وسيلة‬ ‫لبناء مجتمع عادل‪ ،‬يعيش فيه المواطنون ‪-‬مهما اختلفت أديانهم‪ ،‬أو كانوا بلا دين‪ -‬حياتهم متساوين في‬ ‫الحقوق والواجبات‪.‬‬ ‫‪(2) https: //www.secularism.org.uk/what-is-secularism.html‬‬ ‫ومن الجدير بالذكر أ َّن شعار الجمعية هو‪\" :‬تح ّدي الامتيازات الدينية\" ‪.Challenging Religious Privilege‬‬ ‫‪544‬‬

‫وكان من الطبيعي أ ْن ينعكس مبدأ العلمانية وتطبيقاته في الغرب على التعليم بصورة‬ ‫عامة‪ ،‬والتعليم العام الذي ُتش ِرف عليه الدولة بصورة خاصة‪ .‬فمع نشأة مبدأ العلمانية‬ ‫نشأ مصطلح \"التعليم العلماني\" في القرن التاسع عشر‪ ،‬في ك ٍّل من الولايات المتحدة‬ ‫الأمريكية‪ ،‬وبريطانيا‪ .‬وقد لاقى دعم ًا كبير ًا من السلطات الكنسية لح ِّل مشكلة التنافس في‬ ‫تقديم تعليم ديني من الطوائف الدينية المسيحية المختلفة؛ إذ كانت هذه الطوائف ُتف ِّضل‬ ‫تعليم ًا مدرسي ًا حيادي ًا وموضوعي ًا حتى لا يؤ ِّثر أ ُّي تعليم ديني في معتقدات الطلبة الدينية‪.‬‬ ‫فالمنهاج الخالي من أ ِّي تعليم ديني سيكون أفضل من منهاج يستعمل معتقدات مسيحية‬ ‫خاص ٍة برؤي ِة طائفة مسيحية ُأخرى‪ .‬وهكذا وجد دعاة العلمانية ُفرص َتهم لإزالة جميع صور‬ ‫التلقين الديني أو الممارسات الدينية من مناهج التعليم العام‪ .‬ولجأت كل طائفة مسيحية‬ ‫إلى إنشاء مدارس خاصة تتض َّمن تعليم ًا ديني ًا خاص ًا بمعتقدات تلك الطائفة‪.‬‬ ‫ولك َّن موضوع التعليم الديني والتضمينات الدينية لبعض الموضوعات العلمية كان‬ ‫‪-‬ولا يزال‪ -‬موضوع جدل قانوني‪ُ ،‬تص ِدر فيه المحاكم قراراتها وفق ًا لتفسيراتها المتفاوتة‬ ‫للمبادئ القانونية‪ ،‬ولم تستطع المحاكم في الولايات المتحدة الأمريكية الوصول إلى‬ ‫ح ٍّل نهائي لحسم هذا الجدل‪ .‬وبينما لا تزال الدعاوى والدعاوى المضادة حول الدين‬ ‫في المدارس العامة مستمرة في محاكم الولايات المتحدة الأمريكية‪ ،‬فإ َّن الصلاة الدينية‬ ‫اليومية في المدارس البريطانية مستمرة حتى الآن‪ ،‬وهي كذلك في عدد من الدول الأوروبية‬ ‫الأُخرى‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن عدد ًا قليل ًا من المدارس في الولايات المتحدة الأمريكية تق ِّدم‬ ‫مادة دراسية عن الدين‪ ،‬في حين تفعل ذلك معظم المدارس في أوروبا‪ .‬ولك َّن الشرط في‬ ‫هذه الحالة أ ْن يكون \"التعليم عن الدين\" متوازن ًا‪ ،‬وموضوعي ًا‪ ،‬وعادلاً‪ ،‬وحيادي ًا؛ أ ْي عدم‬ ‫تعليم الدين على أ َّنه صحيح‪ ،‬أو أ َّن دين ًا ما صحيح أكثر من غيره‪.‬‬ ‫وأخذت العلمانية وضرورة اعتمادها في التعليم العام تجد دعم ًا متزايد ًا بدء ًا من‬ ‫منتصف القرن العشرين‪ ،‬من دعاة المجتمع الليبرالي‪ ،‬ولا سيما على المستوى الأكاديمي‬ ‫والقانوني؛ فهؤلاء َي ُع ّدون الدين مناقض ًا لروح المجتمع المنفتح والثقافة العلمية‪(((.‬‬ ‫‪(1) Ibid., page 402-403.‬‬ ‫‪545‬‬

‫وقد شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين ظهور ًا متزايد ًا للدين في الحياة العامة‬ ‫في معظم أنحاء العا َلم‪ ،‬ويصدق ذلك على الأديان المختلفة‪ .‬ومعظم أشكال هذا الظهور‬ ‫كان يتم بممارسات سلمية‪ ،‬وفي قليل من الحالات كان يرافقه ممارسات لا تخلو من‬ ‫الكراهية والعنف وإشعال الاضطرابات‪ .‬ور َّبما كانت هذه الحالات صور ًا من استغلال‬ ‫المشاعر الدينية لأغراض سياسية‪.‬‬ ‫وقد كان لموجات الهجرة إلى الغرب أثر في الإخلال بالمجتمع المتجانس نسبي ًا‬ ‫في الصفة العلمانية‪ ،‬ولا سيما في البلدان الأوروبية‪ .‬ويرى بعض الباحثين في أوروبا‬ ‫أ َّن تح ُّول هذه البلدان إلى مجتمعات متعددة الثقافة والأديان قد ش َّكل تحدي ًا للأطروحة‬ ‫العلمانية التي كانت تتوقع تلاشي سلطة الدين تدريجي ًا من التأثير في الحياة العامة‪ ،‬وتأخذ‬ ‫موقعها في دائرتها الخاصة بها‪(((.‬‬ ‫ولذلك‪ ،‬فإ َّن الأدبيات المتنامية عن الحضور المتزايد للدين أخذت تتح َّدث عن‬ ‫دخول العا َلم في \"عصر ما بعد العلمانية\"‪ ،‬حيث يستعيد الدين ق َّوته المؤ ِّثرة في المجتمع‪.‬‬ ‫وفي الوقت نفسه تشير هذه الأدبيات إلى أ َّن تراجع العلمانية يش ِّكل أيض ًا تح ِّدي ًا للشرعية‬ ‫التي تستمد منها الدول الديمقراطية الدستورية سلطتها‪ .‬ونتيجة لذلك‪ ،‬ظهرت أصوات‬ ‫تدعو إلى مراجعة النهج العلماني‪ ،‬أو حتى التخ ُّلص منه‪ ،‬والاستعاضة عنه بمبدأ ي ِقيم‬ ‫تحديد ًا جديد ًا للعلاقة بين الدين والدولة‪(((.‬‬ ‫‪(1) Usturali, Adil. A Conceptual Analysis of Secularism and Its Legitimacy in the Constitutional‬‬ ‫‪Democratic State, Policy Brief Series, Fox International Fellowship, 2015. See the link:‬‬ ‫‪- https: //foxfellowship.yale.edu/sites/default/files/files/Adil%20Ustrulai%20-%20‬‬ ‫‪PolicyBrief.pdf‬‬ ‫انظر مزيد ًا من التفاصيل في المراجع المتخصصة في بيان علاقة العلمانية بالدين‪ ،‬ومن ذلك مثل ًا‪:‬‬ ‫‪(2) Kettell, Steven. Secularism and Religion, Oxford Research Encyclopedias (Politics),‬‬ ‫‪Online Publication, Jan 2019. See the link:‬‬ ‫‪-https: //oxfordre.com/politics/view/10.1093/acrefore/9780190228637.001.0001/acrefore-‬‬ ‫‪9780190228637-e-898.‬‬ ‫‪See also:‬‬ ‫‪- Bhargava, Rajeev. State, religious diversity and the crisis of secularism, Open Democracy:‬‬ ‫‪free thinking for the world, 22 march 2011. See the link:‬‬ ‫‪- https: //www.opendemocracy.net/en/states-religious-diversity-and-crisis-of-secularism-0.‬‬ ‫‪546‬‬

‫وعلى كل حال‪ ،‬فإ َّن الذين يدعون إلى الاستفادة من تجربة العلمانية الغربية في حياة‬ ‫الشعوب المسلمة‪ ،‬في مجال التربية والتعليم وغيره من المجالات‪ ،‬يتجاهلون الاختلاف‬ ‫الجوهري بين طبيعة المسيحية والإسلام‪ ،‬والظروف التي قادت إلى نشأة العلمانية‪،‬‬ ‫ويتجاهلون أ َّن الإسلام ليس فيه سلطة دينية بالمعنى الذي عرفته أوروبا حتى يتم المطالبة‬ ‫بفصلها عن السلطة الزمنية‪.‬‬ ‫وينعكس أثر المرجعية الفكرية الغربية على موقع القيم الأخلاقية في منظومة التربية‬ ‫وعملية التك ُّيف الاجتماعي التي تحاول التربية تيسيرها أو توجيهها؛ فالمناهج التربوية في‬ ‫الغرب هي انعكاس لواقع المجتمع الغربي والقيم الاجتماعية والأخلاقية السائدة فيه‪.‬‬ ‫ولذلك لا ُب َّد من الوعي بموقع القيم في الفكر التربوي الإسلامي؛ فهي قيم تقود المجتمع‪،‬‬ ‫وتو ِّجهه‪ ،‬وترتقي به‪ ،‬و ِم ْن َث َّم تش ِّكل‪ ،‬في موقعها ومهمتها‪ ،‬مرجعية متم ِّيزة تمام ًا عن أ َّية‬ ‫مرجعيات ُأخرى‪.‬‬ ‫‪ .2‬العولمة والتدويل‪:‬‬ ‫جاء مصطلح \"العولمة\" ‪- Globalization‬في الأساس‪ -‬لوصف التغ ُّيرات الحادثة‬ ‫في الاقتصاد العالمي في منتصف ثمانينيات القرن العشرين‪ ،‬ولك َّن المصطلح سرعان ما‬ ‫انتقل إلى وصف التغ ُّيرات في المجالات السياسية والثقافية والتربوية التي تؤ ِّثر بطرق‬ ‫متعددة في قسم كبير من سكان العا َلم‪ .‬والذي َي ُه ُّمنا هنا هو ما يخت ُّص بعلاقة العولمة‬ ‫بالتربية والتعليم‪.‬‬ ‫ويشير مصطلح \"عولمة التعليم\" إلى شبكات ومؤسسات وعمليات عالمية تؤ ِّثر‬ ‫في السياسات والممارسات التعليمية المحلية‪ .‬ولك ٍّل من هذه الشبكات والمؤسسات‬ ‫والعمليات بنية فوقية تتجاوز النُّ ُظم المدرسية الوطنية المحلية‪ ،‬وما يحدث فيها يتم‬ ‫على مستوى عالمي‪ ،‬وبسرعة كبيرة‪ .‬وتضطر المجتمعات إلى اختيار سياسات تتبنّى فيها‬ ‫ما تأتي به نتائج هذه العولمة؛ رغب ًة في المنافسة على المستوى الاقتصادي والحضور‬ ‫العالمي‪ ،‬وأحيان ًا خضوع ًا للضغوط السياسية والاقتصادية‪ .‬ومن هذه المؤسسات العالمية‬ ‫‪547‬‬

‫التي تؤ ِّثر في السياسات التربوية‪ :‬منظمة التعا ُون الاقتصادي والتنمية ‪ ،OECD‬والبنك‬ ‫الدولي‪ ،‬ومنظمة اليونسكو‪ ،‬ومنظمة التجارة الدولية ‪ ،WTO‬والاتفاقية العامة للتجارة‬ ‫والخدمات ‪ ،GATS‬والمنظمات الدولية الحكومية ‪ ،IGOs‬والمنظمات غير الحكومية‬ ‫‪ ،NGOs‬مثل‪ :‬منظمات حقوق الإنسان‪ ،‬والبيئة‪ ،‬والمنظمات النسوية‪(((.‬‬ ‫ويرى جول سبرنغ ‪ Joel Spring‬في كتابه عن \"عولمة التعليم\" أ َّن أهم الاتجاهات التي‬ ‫ُتقاد إليها التربية هي إضفاء ك ٍّل من الطابع المؤسسي العالمي ‪،Global Corporatization‬‬ ‫والصفة الاقتصادية على التعليم ‪ ،Economization of Education‬وتعميم اللغة الإنجليزية‬ ‫بوصفها اللغة الأساسية للمنظمات الدولية المشار إليها‪ .‬وتمارس هذه المؤسسات الدولية‬ ‫ضغوط ًا كبير ًة على أنظمة التربية الوطنية لتبنّي سياسات تربوية معينة؛ ُب ْغ َي َة تشكيل السلوك‬ ‫الإنساني المناسب لمجالات عمل هذه المنظمات وأغراضها‪ ،‬ولأسواق عمل تستخدم‬ ‫نظريات اقتصادية خاصة برأس المال البشري‪ ،‬بدعوى أ َّن اقتصاديات رأس المال البشري‬ ‫َتستثمر في التربية والتعليم لإنتاج عمالة بشرية أكثر ملاءمة للنمو الاقتصادي‪ ،‬وتق ِّلل من‬ ‫فوارق الدخل‪ ،‬وتزيد من ُفرص العمل‪(((.‬‬ ‫ويضع المؤ ِّلف عشرة مك ِّونات للعولمة التعليمية ‪،Educational Globalization‬‬ ‫منها أ َّن الشعوب تتبنّى أنظمة وممارسات تعليمية متشابهة‪ ،‬بما في ذلك‪ :‬المناهج‪،‬‬ ‫والتنظيم المدرسي‪ ،‬وأساليب التعليم‪ ،‬و ُن ُظم التعليم الجامعي‪ ،‬وإعداد ال ُمع ِّلمين‪ ،‬وتطوير‬ ‫ُمن َتجات للسوق التربوي‪ ،‬مثل‪ :‬الاختبارات‪ ،‬والمناهج‪ ،‬والمواد المدرسية‪ ،‬وبرامج‬ ‫التعليم الرقمي‪ ،‬وتعميم اللغة الإنجليزية في برامج التعليم المحلية بوصفها لغة التجارة‬ ‫العالمية‪ ،‬وتعميم نماذج عولمة من التعليم الديني‪ ،‬أو التعليم عن الدين‪((( .‬‬ ‫و َث َّمة نق ٌد ُمو َّج ٌه إلى اتجاه عولمة التعليم وسياساته؛ فالتعليم من أجل اقتصاد المعرفة‬ ‫لا يح ِّقق أ َّي فائدة عندما لا تتوافر ُفرص مناسبة للتعليم‪ ،‬وكثير من الأعمال أصبحت‬ ‫المعرفة اللازمة لها روتينية اعتيادية‪ ،‬تتط َّلب توا ُفر ع ّما ٍل أقل مهارة‪ .‬أ ّما التعليم من أجل‬ ‫المهارات العليا فلم يعد يعني عائد ًا مالي ًا أعلى للموظفين والع ّمال‪ .‬ومن المخاطر التي‬ ‫‪(1) Sring, Joel. Golbalization of Education: An Introducation. New York: Routledge, 2015, pp 1-2.‬‬ ‫‪(2) Ibid., p. 32.‬‬ ‫‪(3) Ibid., p. 49.‬‬ ‫‪548‬‬

‫فتحتها عولمة التعليم ظاهرة هجرة العمالة‪ ،‬ولا سيما في مجال البرمجة الحاسوبية؛‬ ‫فوجود أعداد كبيرة من الهنود في هذا المجال أ ّدى إلى تو ُّقف زيادة الأجور في الولايات‬ ‫المتحدة الأمريكية‪ ،‬وفقدان موارد رأس المال البشري في الهند‪ .‬ومن هذه المخاطر أيض ًا‬ ‫ظاهرة الهدر العقلي ‪Brain Waste‬؛ فأفضل خريجي برامج التعليم لا يجدون ُفرص عمل‬ ‫مناسبة لمهاراتهم؛ ما أ ّدى إلى انخفاض النمو في الدخل عند خريجي الجامعات في‬ ‫البلدان الصناعية‪ ،‬وإجبارهم على قبول وظائف لا تتط َّلب مستويات متق ِّدمة من التعليم‪(((.‬‬ ‫وتتج ّلى مظاهر إضفاء الصفة الاقتصادية على التعليم في المرجعية التي يستند إليها‬ ‫الاقتصاد اليوم‪ .‬فقد أصبح السوق شعار ًا للاقتصاد‪ ،‬وأصبحت المعرفة سلعة في هذا‬ ‫السوق‪ ،‬وأصبح السوق كأ َّنه ذا ٌت ُمق َّدس ٌة لها نفس خصائص القداسة التي يعطيها المتد ِّينون‬ ‫لله سبحانه‪ .‬ومن أواخر ما ُن ِشر عن هذا الموضوع كتا ٌب لأستا ٍذ في جامعة هارفارد‪ ،‬بعنوان‬ ‫\"السوق بوصفه إله ًا\"‪ (((،‬حيث وصف المؤ ِّلف عناصر \"تأليه\" السوق‪ ،‬وما ُينا ِظرها مع‬ ‫الخصائص اللاهوتية في المسيحية والإسلام‪ .‬ث َّم ف َّسر المؤ ِّلف مشكلات العا َلم المعاصر‬ ‫بما في ذلك‪ :‬اتساع نطاق الفوارق‪ ،‬والفقر‪ ،‬والاحترار العالمي‪ ،‬وغيرها‪ ،‬على أساس ما‬ ‫وصل إليها السوق من وضعه الإلهي؛ فقد انحدر عا َلمنا إلى علم \"لاهوت العرض والطلب\"‪،‬‬ ‫وأصبح السو ُق كل َّي القدرة‪ ،‬حاضر ًا في كل مكان‪ ،‬يعرف قيمة كل شيء‪ ،‬ويح ِّدد نتائج كل‬ ‫معاملة‪ ،‬ويرفع ُأ َّم ًة ويد ِّمر ُأخرى‪ ،‬ولا شيء يفلت من اختزاله إلى سلعة‪ .‬وقد فرض نفسه‬ ‫بوصفه دين ًا له عقائده‪ ،‬وأنبياؤه‪ ،‬ورموزه‪ ،‬وقيمه‪ ،‬ونظامه العالمي‪ ،‬وحماسته في تحويل‬ ‫العا َلم إلى طريقته في الحياة‪.‬‬ ‫لقد أصبح نموذج التعليم من أجل الاقتصاد تقليد ًا شائع ًا في التربية الغربية‪ ،‬وانتشرت‬ ‫أفكاره التربوية في العا َلم‪ ،‬وهو تعليم ُمص َّمم للمجتمع العلماني الذي يهدف إلى التط ُّور‬ ‫الاقتصادي‪ ،‬أو المساواة الاقتصادية‪ ،‬وهو غير معني بالأهداف ذات الصلة بالدين‪ ،‬أو‬ ‫القيم ذات المرجعية الدينية‪ ،‬أو بال ُب ْعد الروحي للإنسان‪.‬‬ ‫‪(1) Ibid., p. 54.‬‬ ‫‪(2) Cox, Harvey. The Market as God, Cambridge, MA: Harvard University Press, 2016.‬‬ ‫انظر التعريف بالكتاب في موقع \"أمازون\" ضمن الرابط الآتي‪:‬‬ ‫‪- https: //www.amazon.com/Market-as-God-Harvey-Cox/dp/0674659686‬‬ ‫‪549‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook