Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

Published by آيه الشوابكه, 2021-04-03 00:56:36

Description: الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

Search

Read the Text Version

‫‪﴿ -‬ﯼﯽﯾ﴾ [آل عمران‪.]132:‬‬ ‫‪﴿ -‬ﮏﮐﮑ﴾ [الأنفال‪.]20:‬‬ ‫‪﴿ -‬ﯸﯹﯺﯻ﴾ [النساء‪.]59:‬‬ ‫‪﴿ -‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ﴾ [النساء‪.]80:‬‬ ‫‪﴿ -‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢ‬ ‫ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ﴾ [النور‪.]54:‬‬ ‫‪﴿ -‬ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ﴾ [النور‪.]56:‬‬ ‫ث َّم إ َّن القرآ َن الكريم ن َّص على أ َّن ما ينطق به النبي ﷺ إ َّنما هو وحي يوحى‪ .‬ولا‬ ‫خلاف على أ َّن القرآن الكريم وحي أوحى به الله إلى رسوله‪ ،‬ولك ْن من الوحي ما هو غي ُر‬ ‫القرآن؛ من بيا ٍن لما في القرآن من أحكام وتوجيهات‪ .‬وقد ن َّص القرآ ُن كذلك على ضرورة‬ ‫ا ِّتباع النبي فيما يو ِّجه إليه‪ ،‬أو يقضي به‪ .‬قال سبحانه‪﴿ :‬ﭮﭯﭰﭱﭲ ﭳﭴ‬ ‫ﭵﭶﭷﭸﭹ﴾ [آل عمران‪ ،]31:‬وقال تعالى‪﴿ :‬ﯜﯝﯞﯟ ﯠﯡﯢ‬ ‫ﯣﯤﯥﯦﯧ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ﴾ [النساء‪ ،]65:‬وقال‬ ‫ع َّز وج َّل‪﴿ :‬ﮠﮡﮢﮣﮤ ﮥﮦﮧﮨ﴾ [الحشر‪ ،]7:‬وقال ع َّز من قائل‪:‬‬ ‫﴿ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ﴾ [النور‪.]63:‬‬ ‫وتعليم النبي ﷺ للمؤمنين لا يقتصر على تعليم أصحابه الذين كانوا حوله في‬ ‫حياته‪ ،‬وإ َّنما هو تعليم مستمر متصل للمؤمنين فيما يأتي بعد ذلك من أجيال الناس على‬ ‫تن ُّوع الزمان والمكان‪ .‬فالنص القرآني في تعليم المؤمنين جاء بصيغة الفعل المضارع‪.‬‬ ‫﴿ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ﴾‬ ‫[البقرة‪ .]151:‬قال أبو حيان في \"تفسير البحر المحيط\" عند قوله تعالى‪﴿ :‬ﯜﯝﯞ‬ ‫ﯟﯠ﴾…\" ‪ :‬وأتى بهذه الصفات فعل ًا مضارع ًا ليدل بذلك على التج ُّدد؛‬ ‫لأ َّن التلاوة والتزكية والتعليم تتج َّدد دائم ًا‪ (((\".‬والتعليم الحق الذي يحصل منه أثر في‬ ‫نفس ال ُمتع ِّلم يحتاج إلى تكرير وتكثير‪ ،‬كما جاء في مفردات الراغب‪\" :‬وأعلمته وع َّلمته‬ ‫((( أبو حيان الأندلسي‪ ،‬تفسير البحر المحيط‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.618‬‬ ‫‪250‬‬

‫في الأصل واحد‪ ،‬إلا أ َّن الإعلام اخت َّص بما كان بإخبار سريع‪ ،‬والتعليم اخت َّص بما يكون‬ ‫بتكرير وتكثير حتى يحصل منه أثر في نفس ال ُمتع ِّلم‪(((\".‬‬ ‫وفي ال ُّسنة النبوية نفسها نصوص كثيرة تؤ ِّكد ُحجية توجيهات النبي ﷺ؛ فقد ورد في‬ ‫\"سنن أبي داود\" قوله ﷺ‪\" :‬ألا إ ِّني ُأوتِ ْي ُت الكتا َب وم ْث َله معه‪ ،‬ألا يوشك رج ٌل شبعان على‬ ‫أريكته‪ ،‬يقول‪ :‬عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأ ِح ُّلوه‪ ،‬وما وجدتم فيه من‬ ‫حرام فح ِّرموه‪ ،‬ألا لا يح ُّل لكم لح ُم الحمار الأهلي‪ ،‬ولا ك ُّل ذي نا ٍب من السبع‪ ،‬ولا ُل َق َط ُة‬ ‫معاه ٍد إلا أ ْن يستغني عنها صاحبها‪(((\".‬‬ ‫وفي ال ُّسنة ما يشير إلى مسارعة الصحابة إلى الأخذ بتوجيهاته وتنفيذها‪ ،‬ور َّبما‬ ‫الاستفسار عن بعض ما ورد فيها لمزي ٍد من الوضوح؛ ففي قصة فتح خيبر‪ ،‬أصاب الصحاب َة‬ ‫مسغب ٌة كبيرة‪ ،‬فأخذوا يذبحون ال ُح ُمر الأهلية التي وجدوها خارج حصون خيبر‪ ،‬ليأكلوها‪،‬‬ ‫فنهاهم النبي ﷺ‪ ،‬فانتهوا‪ .‬وقد أورد البخاري في ذلك حديث سلمة بن الأكوع‪ ،‬وفيه‪:‬‬ ‫\"فل ّما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم‪ ،‬أوقدوا نيران ًا كثيرة‪ ،‬فقال النبي ﷺ‪ :‬ما‬ ‫هذه النيران؟ على أ ِّي شيء تو ِقدون؟ قالوا‪ :‬على َل ْح ٍم‪ ،‬قال‪ :‬على أ ِّي لحم؟ قالوا‪َ :‬ل ْحم‬ ‫ُح ُمر الإنسية‪ .‬قال النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم‪ :‬أهريقوها واكسروها‪ .‬فقال رجل‪ :‬يا رسول‬ ‫الله‪ ،‬أو نه ِري ُقها ونغ ِس ُلها‪ ،‬قال‪ :‬أ ْو ذلك‪ (((\".‬وفي رواية‪ :‬قالوا‪ :‬ألا نه ِري ُقها ونغ ِس ُلها؟ قال‪:‬‬ ‫اغ ِسلوا‪ (((\".‬وكان عدول النبي عن الكسر‪ ،‬وإباحة الغسل؛ إ ّما َو ْحي ًا‪ ،‬وإ ّما اجتهاد ًا منه ﷺ‪.‬‬ ‫والنبي ﷺ يأمر وينهى بوحي من ربه‪ ،‬فما ح َّرمه فهو حرام‪ .‬وقد ثبت تحريمه لل ُح ُمر‬ ‫الأهلية بأحاديث متواترة في الصحيحين وغيرهما‪.‬‬ ‫وفي الحديث عند أبي داود أ َّن الصحابة كانوا يسألون رسول الله ﷺ عن مسائل في‬ ‫الطهارة‪ ،‬فيجيبهم‪ ،‬وكان م ّما قاله‪\" :‬إِ َّن َما َأ َنا َل ُك ْم بِ َمنْ ِز َل ِة ا ْل َوالِ ِد ُأ َع ِّل ُم ُك ْم‪(((\".‬‬ ‫((( الراغب الأصفهاني‪ ،‬المفردات في غريب القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.446‬‬ ‫((( أبو داود‪ ،‬سليمان بن الأشعث السجستاني (توفي‪275 :‬ﻫ)‪ .‬سنن أبي داود‪ ،‬اعتنى به‪ :‬فريق بيت الأفكار الدولية‪،‬‬ ‫الرياض‪ :‬بيت الأفكار الدولية‪ ،‬ط‪1999 ،1‬م‪ ،‬كتاب‪ :‬السنة‪ ،‬باب‪ :‬في لزوم السنة‪ ،‬حديث رقم‪ ،)4604( :‬ص‪.503‬‬ ‫((( البخاري‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬المغازي‪ ،‬باب‪ :‬غزوة خيبر‪ ،‬حديث رقم‪ ،)4196( :‬ص‪.796‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬كتاب‪ :‬المظالم‪ ،‬باب‪ :‬هل تكسر الدنان التي فيها خمر‪ ،‬حديث رقم‪ ،)2477( :‬ص‪.468‬‬ ‫((( أبو داود‪ ،‬سنن أبي داود‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬الطهارة‪ ،‬باب‪ :‬كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة‪ ،‬حديث‬ ‫رقم‪ ،)8( :‬ص‪.25‬‬ ‫‪251‬‬

‫وكنّا قد أشرنا سابق ًا في هذا الفصل إلى عدد من الآيات القرآنية التي تتح َّدث عن‬ ‫النبي ﷺ بوصفه ُمع ِّلم ًا‪ ،‬وعن بعض صفاته التعليمية‪ .‬ونشير هنا إلى أ َّن الصحابة رضوان‬ ‫الله عليهم قد لاحظوا هذه الصفات‪ ،‬وحكموا على أ َّنهم لم يروا أحسن من النبي ﷺ‬ ‫ُمع ِّلم ًا‪ ،‬ولا أحسن من تعليمه تعليم ًا‪ .‬فقد ُب ِعث محمد ﷺ برسالة الإسلام إلى قوم هو‬ ‫رج ٌل منهم‪ ،‬يعرفون ُخ ُلقه وأمانته‪ ،‬فكان رسولاً منهم‪ ،‬يخاطبهم بلغتهم ل ُيب ِّين لهم‪﴿ .‬ﮖ‬ ‫ﮗ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ﴾ [إبراهيم‪ .]4:‬فل ّما كان هذا الرسول واحد ًا‬ ‫من قومه يخاطبهم بلغتهم تي َّسرت مهمته في إيصال الرسالة إليهم والتأثير فيهم‪ ،‬فأحبوه‬ ‫وا َّتخذوه ُأسو ًة وقدو ًة ُيحتذى‪ .‬وكان بذلك ُمع ِّلم ًا و ُمر ِّبي ًا‪ ،‬بل كان خي َر ُمع ِّل ٍم و ُم َر ٍّب يمكن‬ ‫للبشر أ ْن يتخ َّيلوه‪ .‬وبطبيعة الحال‪ ،‬فإننا لا ننسى في هذا السياق أن الله سبحانه قد أعد هذا‬ ‫النب ّي ليكون على هذا الخلق وهذه الصفات‪ ،‬وأن رسالته هي رسالة خير وعدل ورحمة‪،‬‬ ‫وإخراج من ظلمات الجهل والشرك وظروف الظلم والاضطهاد‪.‬‬ ‫وفي هذا الشأن روى الإمام مسلم في \"صحيحه\" عن معاوية بن الحكم ال ُّس َلمي‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫بينا أنا ُأص ّلي مع رسول الله ص ّلى الله عليه وس َّلم إذ َع َط َس رج ٌل من القوم‪ ،‬فقل ُت‪ :‬يرح ُمك‬ ‫الله‪ .‬فرماني القو ُم بأبصارهم‪ ،‬فقل ُت‪َ :‬وا ُث ْك َل ُأ ِّم ّيا ْه؛ ما ش ْأ ُنكم َتنْظرو َن إ َل َّي؟! فجعلوا‬ ‫َي ْضربو َن بأيديهم على أفخاذهم‪ ،‬فل ّما رأيتهم ُي َص ِّمتو َنني‪ ،‬لكنّي َس َك ُّت‪ ،‬فل ّما ص ّلى رسول‬ ‫الله ﷺ‪ ،‬فبأبي هو و ُأ ّمي؛ ما رأي ُت ُمع ِّلم ًا قبله ولا بعده أحس َن تعليم ًا منه‪ ،‬فوالله ما َك َه َرني‬ ‫ولا ضربني ولا شتمني‪ ،‬قال‪\" :‬إ َّن هذه الصلاة لا يصل ُح فيها شي ٌء من كلام الناس‪ ،‬إ َّنما هو‬ ‫التسبيح والتكبير وقراءة القرآن‪(((\".‬‬ ‫وقد اصطفى الله محمد ًا ﷺ من سائر الناس ليكون حامل رسالته الأخيرة إلى الناس‬ ‫جميع ًا‪ ،‬وتو ّلى الله سبحانه إعداده لإبلاغ الرسالة‪ ،‬وتح ُّمل أعبائها ومهامها‪﴿ .‬ﯱﯲﯳ‬ ‫ﯴﯵ﴾ [الأنعام‪ .]124:‬ف ُح ِّب َب إليه التف ُّكر والتع ُّبد بعيد ًا عن أعين الناس‪ ،‬وتجنَّ َب‬ ‫بفطرته الزكية معتقدات الجاهلية‪ ،‬وضلالاتها‪ ،‬وممارساتها‪ ،‬حتى اش ُت ِهر بين الناس قبل البعثة‬ ‫بصفة \"الصادق الأمين\"‪ .‬ث َّم جاءت مرحلة النبوة‪ ،‬فكان الله سبحانه ُيع ِّلمه و ُيو ِّجهه بما يوحي‬ ‫((( مسلم‪ ،‬صحيح مسلم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬المساجد ومواضع الصلاة‪ ،‬باب‪ :‬تحريم الكلام في الصلاة‪ ،‬حديث‬ ‫رقم‪ ،)537( :‬ص‪.217‬‬ ‫‪252‬‬

‫إليه‪ ،‬وبما ُيع ِّلمه إ ّياه أمين الوحي جبريل عليه السلام؛ فهذا القرآن ُمن َّزل من الله سبحانه‪.‬‬ ‫﴿ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ﴾ [الأنعام‪ .]114:‬وقد ن َّزله روح القدس جبريل‬ ‫على قلب الرسول من الله‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ﴾ [النحل‪،]102:‬‬ ‫وقال سبحانه‪﴿ :‬ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ﴾ [البقرة‪ .]97:‬فجبريل‬ ‫هذا هو \"شديد القوى\" ع َّلم الرسو َل القرآ َن‪﴿ .‬ﭦﭧﭨ﴾ [النجم‪ .]5:‬فأرسل الله الرسول‬ ‫بهذا القرآن ليتلو على الصحابة آياته‪ ،‬و ُيع ِّلمهم علومه وأحكامه‪﴿ .‬ﯗﯘﯙﯚ‬ ‫ﯛ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧ﴾‬ ‫[البقرة‪ .]151:‬فالله سبحانه ُيع ِّلم جبريل‪ ،‬وجبريل ُيع ِّلم الرسول‪ ،‬والرسول ُيع ِّلم الصحابة‪،‬‬ ‫والصحابة يع ِّلمون التابعين‪ ،‬وهكذا؛ فدين الله سبحانه كله علم وتعليم‪.‬‬ ‫فإذا كانت وظيفة الرسول هي التعليم‪ ،‬فإ َّن ما ورد في ُسنَّة الرسول من تعليم وبيان‬ ‫وبلاغ وتربية وتزكية هو مصدر أساسي للفكر التربوي في غاياته ومضامينه وأساليبه‪.‬‬ ‫فما العلوم التي تو ّلى الرسول ﷺ تعليمها للناس‪ ،‬أو دعاهم إلى تع ُّلمها من مصادرها؟‬ ‫ثالث ًا‪ :‬ال ُّسنة النبوية في العلوم الواجب تع ُّلمها وتعليمها‪:‬‬ ‫ليس من السهل الإحاطة بالأمثلة التي يمكن أ ْن نجدها عن مواقف التعليم والتربية‬ ‫النبوية؛ فوظيفة النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم الأساسية هي بيان ما في كتاب الله من أحكام‬ ‫وتوجيهات‪ ،‬وإبلاغها وتعليمها للناس‪ .‬فحياته كلها كانت تعليم ًا؛ كل كلمة يقولها‪ ،‬وكل‬ ‫حركة يفعلها‪ ،‬وكل موقف أو رأي أو ُحكم‪ ،‬إ َّنما كان تعليم ًا‪ .‬ومع أ َّن القرآن الكريم قد‬ ‫تض َّمن صفحات من قصة نبي الله إبراهيم عليه السلام‪ ،‬وأ َّنه ُأسوة للمؤمنين في موقف‬ ‫المفاصلة الكاملة مع الكفار‪ ،‬والبراءة منهم و ِم ّما يعبدون‪ (((،‬فإ َّن ما ورد في القرآن الكريم‬ ‫عن صفات محمد ص ّلى الله عليه وس َّلم‪ ،‬وما حفظته ال ُّسنة النبوية عن تفاصيل سيرته وحياته‪،‬‬ ‫جعله ُأسو ًة حسنة للمؤمنين في كل شأن‪﴿ .‬ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ‬ ‫ﯻﯼﯽﯾﯿ﴾ [الأحزاب‪ .]21:‬وسوف نكتفي بالإشارة إلى عدد قليل من الأمثلة‪.‬‬ ‫((( إشارة إلى قوله تعالى‪﴿ :‬ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ‬ ‫ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ﴾ [الممتحنة‪.]4 :‬‬ ‫‪253‬‬

‫لقد ارتبطت قراءة ال ُّسنة النبوية باهتمام القارئ وتخ ُّصصه؛ فالسياسي يقرأ ال ُّسنة‬ ‫بطريقته‪ ،‬وكذلك الاقتصادي‪ ،‬وعالِم النفس‪ ،‬وغيرهم من المتخ ِّصصين؛ ك ٌّل يقرأ ال ُّسنة‬ ‫بحث ًا ع َّما يشعر أ َّنه يحتاج إليه في تخ ُّصصه‪ ،‬ور َّبما يستنبط منها ما لا يستنبطه غيره‪ ،‬ويجتهد‬ ‫في دلالة حديث معين على مسألة من مسائل تخ ُّصصه‪ .‬ور َّبما يرى في الحديث نوع ًا من‬ ‫الإعجاز أو السبق في ال ُّسنة النبوية‪ ،‬وقد يدخل الباحث في فهمه للحديث في مقارنات‬ ‫ومقاربات ُتح ِّمل الحديث فوق ما يحتمل‪.‬‬ ‫ومعظم العلوم لها جانب نظري وجانب عملي‪ ،‬وبعض العلوم ُت َع ُّد أساس ًا نظري ًا لعلوم‬ ‫ُأخرى يغلب عليها الجانب التطبيقي العملي‪ .‬وقد رصد العلماء المتخ ِّصصون حضور‬ ‫ال ُّسنة النبوية في العلوم النظرية والعملية؛ فعلم النفس ‪-‬مثل ًا‪ُ -‬ي َع ُّد الأساس النظري للعلوم‬ ‫التربوية‪ ،‬ونجد أحد المتخ ِّصصين في علم النفس يؤ ِّلف كتاب ًا من عشرة فصول للحديث‬ ‫عن حضور ال ُّسنة النبوية في علم النفس‪ ،‬وهذه الفصول هي‪ :‬دوافع السلوك‪ ،‬الانفعالات‪،‬‬ ‫الإدراك الحسي‪ ،‬التفكير‪ ،‬التع ُّلم‪ ،‬العلم اللدني‪ ،‬النمو‪ ،‬الشخصية‪ ،‬الصحة النفسية‪ ،‬العلاج‬ ‫النفسي‪ .‬وقد أثبت المؤ ِّلف ما رآه شاهد ًا من الحديث النبوي على بعض المسائل التي َت ِر ُد في‬ ‫علم النفس المعاصر تحت هذه العناوين العشرة‪ (((.‬ور َّبما نجد بحوث ًا متخ ِّصصة في موضوع‬ ‫واحد من موضوعات علم النفس‪ ،‬مثل‪ :‬الرؤى‪ ،‬والأحلام‪ (((،‬والطب النفسي‪ (((،‬وغيرها‪.‬‬ ‫وهذا النوع من البحوث نجد كثير ًا منه في الدوريات العلمية المتخ ِّصصة‪ ،‬ونجد منه‬ ‫أطروحات جامعية كثيرة كذلك‪.‬‬ ‫ونجد المتخ ِّصصين في الاقتصاد يتح َّدثون عن الاقتصاد في الإسلام‪ ،‬ومرجعيتهم‬ ‫القرآن وال ُّسنة‪ .‬و ُن ِشرت كتب وبحوث كثيرة في هذا المجال‪ ،‬وقد يقتصر العمل على‬ ‫((( نجاتي‪ ،‬محمد عثمان‪ .‬الحديث النبوي وعلم النفس‪ .‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪ ،‬ط‪2005 ،5‬م‪.‬‬ ‫((( العمري‪ ،‬عبد الله محمد أمين يونس‪ .‬الرؤى والأحلام في السنة النبوية‪ :‬دراسة وجمع وتصنيف وتخريج‪ ،‬ع ّمان‪:‬‬ ‫الجامعة الأردنية‪1996 ،‬م‪ .‬انظر كذلك‪:‬‬ ‫‪ -‬الجمعان‪ ،‬محمد بن عبد العزيز‪\" .‬الرؤى والأحلام في هدي السنة النبوية\"‪( ،‬أطروحة ماجستير‪ ،‬في قسم‬ ‫الثقافة الإسلامية‪ ،‬كلية التربية‪ ،‬جامعة الملك سعود‪ ،‬الرياض‪1430 ،‬ﻫ)‪.‬‬ ‫((( الزيان‪ ،‬رمضان إسحاق‪\" .‬الطب النفسي في ضوء السنة النبوية\"‪( ،‬أطروحة ماجستير غير منشورة‪ ،‬كلية أصول‬ ‫الدين والتربية‪ ،‬جامعة أم درمان الإسلامية‪ ،‬السودان‪1990 ،‬م)‪.‬‬ ‫‪254‬‬

‫تصنيف آيات القرآن والأحاديث النبوية على أبواب الاقتصاد المعاصر كما فعل منذر‬ ‫قحف‪ (((،‬وقد يقتصر على حضور ال ُّسنة النبوية في الاقتصاد‪ (((،‬وقد تكون المؤ َّلفات عن‬ ‫التربية الاقتصادية في الإسلام‪ ،‬مع تضمينها نصوص ًا من القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية‪(((.‬‬ ‫ونحن نجد حول هذه العلوم وغيرها توجيهات نبوية تح ِّدد ما َيلزم أ ْن يتع َّلم المسلم‬ ‫منها‪ ،‬وكيف يتعامل معها‪.‬‬ ‫وحضور العلوم التجريبية في ال ُّسنة النبوية لا يقل عن حضور المجالات العلمية‬ ‫الأُخرى‪ ،‬مثل‪ :‬علم النفس‪ ،‬وعلم الاقتصاد‪ ،‬وغيرهما‪ .‬وقد اختار يوسف القرضاوي أ ْن‬ ‫يضرب للعلوم التجريبية مثل ًا بعلم الطب للكشف عن هذا الحضور‪ ،‬وأشار إلى الأحاديث‬ ‫النبوية ذات الصلة بعدد من المبادئ التي تصلح أساس ًا لتشييد صر ٍح \"لطب علمي سليم\"‪،‬‬ ‫فذكر سبعة مبادئ مارسها المجتمع المسلم‪ ،‬هي‪:‬‬ ‫‪ -‬إقرار قيمة البدن‪.‬‬ ‫‪ -‬ضرورة طلب العلاج‪.‬‬ ‫‪ -‬فتح باب الأمل بالشفاء‪.‬‬ ‫‪ -‬الاعتراف ب ُسنَّة الله في العدوى‪.‬‬ ‫‪ -‬مقاومة طب الكهنة والسحرة‪.‬‬ ‫‪ -‬مسؤولية أدعياء الطب عن أخطائهم‪.‬‬ ‫‪ -‬جواز الاستعانة بالطبيب غير المسلم‪.‬‬ ‫((( قحف‪ ،‬منذر‪ .‬النصوص الاقتصادية من القرآن والسنة‪ ،‬جدة‪ :‬مركز النشر العلمي‪ ،‬جامعة الملك عبد العزيز‪،‬‬ ‫‪2009‬م‪ .‬وهو كتاب كبير جاء في (‪ )1026‬صفحة‪ ،‬وقد رصد فيه المؤ ِّلف ما َع َّده نصوص ًا اقتصادي ًة من القرآن‬ ‫الكريم وال ُّسنة النبوية على أبواب السلوك الاقتصادي‪ ،‬وأسس النشاط الاقتصادي والمبادئ والقوانين الأساسية‬ ‫للنظام الاقتصادي‪ ،‬ونظرية الاستهلاك وسلوك المستهلك‪ ،‬ونظرية الإنتاج‪ ،‬ونظام السوق‪ ،‬ونظرية الاقتصاد‬ ‫الكلي‪ ،‬ودور الدولة الاقتصادي‪ ،‬والمالية العامة‪ ،‬والأسعار‪ .‬وفي كل فصل من هذه الفصول فروع كثيرة‪.‬‬ ‫((( حطاب‪ ،‬كمال‪\" .‬التعاليم الاقتصادية في السنة النبوية\"‪ ،‬بحث مق َّدم إلى‪ :‬مؤتمر السنة النبوية في الدراسات‬ ‫المعاصرة‪ ،‬الذي ن َّظمته جامعة اليرموك في الأردن‪2007/4/18-17 :‬م‪ .‬ويمكن استرجاعه على الرابط‪:‬‬ ‫‪- https: //www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=98045‬‬ ‫((( التركاوي‪ ،‬كيندة حامد‪ .‬التربية الاقتصادية في الإسلام وأهميتها للنشء الجديد‪( ،‬د‪ .‬م‪ :).‬دار إحياء للنشر‬ ‫الإلكتروني‪2010 ،‬م‪ .‬وكان عدد الأحاديث النبوية التي وردت في بعض جوانب التربية الاقتصادية (‪)111‬‬ ‫حديث ًا نبوي ًا‪ ،‬في حين بلغ عدد الآيات القرآنية التي استشهدت بها المؤ ِّلفة (‪ )90‬آية‪.‬‬ ‫‪255‬‬

‫ث َّم أشار القرضاوي إلى أ َّن النبي ﷺ كان في مقام الأُسوة الحسنة‪ ،‬حيث ق َّدر الطب‬ ‫القائم على العلم والتجربة‪ .‬وقد استشهد القرضاوي لكل مبدأ من هذه المبادئ بأحاديث‬ ‫نبوية صحيحة‪ ،‬ورأى أ َّن هذه المبادئ كانت كافية \"لإلقاء الضوء على موقف الرسول‬ ‫من الطب‪ ،‬وهو موقف سبق عصر النهضة في الغرب بقرون‪ ،‬وقام على أساسه في عا َلم‬ ‫الإسلام طب نظري وعملي‪ ،‬كانت كتبه مراجع لأوروبا وغيرها ِع َّدة قرون‪ ،‬ويكفي في‬ ‫ذلك كتاب \"القانون\" لابن سينا‪ ،‬و\"الحاوي\" للرازي‪ ،‬و\"الكليات\" لابن رشد‪(((\".‬‬ ‫رابع ًا‪ :‬التع َّلم في ال ُّسنة النبوية‪:‬‬ ‫فيما يخ ُّص علوم التربية والتعليم‪ ،‬فقد كانت ال ُّسنة النبوية حاضرة في مجالات كثيرة‪،‬‬ ‫منها‪ :‬التع ُّلم أو طلب العلم فريضة‪ ،‬وحضور الن َّية في طلب العلم‪ ،‬والصبر على متاعب‬ ‫الطلب‪ ،‬وطلب الزيادة في العلم‪ ،‬وبيان ما يجب تع ُّلمه‪ ،‬والتعليم فريضة‪ ،‬وله وسائله‬ ‫وأساليبه‪ ،‬وبيان منزلة العلماء وتوقيرهم‪ ،‬وتدوين العلم وكتابته‪ ،‬والمواقف العملية‬ ‫الكثيرة التي كان فيها النبي ُمع ِّلم ًا‪ ،‬وغير ذلك كثير‪.‬‬ ‫وقد اش ُت ِهر حديث‪\" :‬طلب العلم فريضة على كل مسلم‪ (((\".‬وك ُثر الكلام عليه؛ سواء‬ ‫في سنده‪ ،‬أو دلالاته‪ .‬وبقطع النظر عن هذا الكلام‪ ،‬فإ َّنه يمكن أ ْن ُيف َهم الحديث في ضوء‬ ‫مقاصد الإسلام العامة التي تجعل العلم فر َض ع ْي ٍن أو فر َض كفاي ٍة‪ ،‬وتفرض على المجتمع‬ ‫المسلم توفير ما َيلزم تع ُّلمه في الحالتين‪ ،‬م ّما يفي بحاجة الفرد والمجتمع والأُ َّمة من‬ ‫أمور الدين والدنيا‪ .‬ومن ال ُمتو َّقع أ ْن نجد ثلاثة أنواع من هذه العلوم؛ أولها علوم استقرت‬ ‫فرضيتها العينية‪ ،‬بأهدافها وموضوعاتها مع ما يتج َّدد في طرقها وأساليبها‪ ،‬مثل قضايا‬ ‫العقائد والعبادات‪ .‬وثانيها علوم متط ِّورة ومتج ِّددة في جانبيها‪ :‬العيني والكفائي‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫((( القرضاوي‪ ،‬الرسول والعلم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.60-57‬‬ ‫((( قال السيوطي‪\" :‬جمعت له خمسين طريق ًا‪ ،‬وحكمت بصحته لغيره‪ .‬ولم ُأص ِّحح حديث ًا لم أسبق لتصحيحه سواه‪\".‬‬ ‫وقال السخاوي‪\" :‬له شاهد عند ابن شاهين‪ ،‬ورجاله ثقات عن أنس‪ ،‬ورواه عنه نحو عشرين تابعي ًا‪ \".‬انظر‪:‬‬ ‫‪ -‬المناوي‪ ،‬محمد عبد الرؤوف‪ .‬فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير‪ ،‬للحافظ جلال‬ ‫الدين عبد الرحمن السيوطي‪ ،‬ضبط وتصحيح‪ :‬أحمد عبد السلام‪ ،‬بيروت‪ :‬دار المعرفة‪ ،‬ط‪1972 ،2‬م‪،‬‬ ‫حديث رقم‪ ،)5264( :‬ج‪ ،4‬ص‪ .267‬وقد ص َّححه الألباني‪ .‬انظر‪:‬‬ ‫‪ -‬الألباني‪ ،‬محمد ناصر الدين‪ .‬صحيح الجامع الصغير وزياداته (الفتح الكبير)‪ ،‬دمشق‪ :‬المكتب الإسلامي‪،‬‬ ‫ط‪1408( ،3‬ﻫ‪1988 /‬م)‪ ،‬حديث رقم‪ ،)3913( :‬ص‪.727‬‬ ‫‪256‬‬

‫قضايا المعاملات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية‪ ،‬والعلوم الطبيعية والطبية والهندسية‬ ‫وغير ذلك‪ .‬وثالثها علوم جديدة قد تنشأ على غير سابقة‪ ،‬ولكنَّها تحمل درجة متج ِّددة من‬ ‫كونها فرض عين‪ ،‬أو فرض كفاية‪ ،‬مثل‪ :‬بعض فروع الرياضيات‪ ،‬والحاسوب‪ ،‬والفيزياء‬ ‫النظرية‪ ،‬والفلك‪ ،‬والفضاء‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬ ‫ث َّم إ َّن فرضية التع ُّلم على كل مسلم حاضرة في عدد كبير من الأحاديث التي تح ُّث‬ ‫على طلب العلم‪ ،‬وتر ِّغب فيه‪ ،‬وتب ِّين فضل العلم والعلماء‪ .‬ومن ذلك تأكي ُده ﷺ أ َّن التع ُّلم‬ ‫واكتساب العلم يحتاج إلى ن َّي ٍة ورغبة واجتهاد؛ فهو يقول‪\" :‬يا أيها الناس تع َّلموا‪ ،‬إ َّنما العلم‬ ‫بالتع ُّلم‪ ،‬والفقه بالتف ُّقه‪ ،‬و َمن ُي ِر ِد الله به خير ًا يف ِّقه في الدين‪ (((\".‬ويؤ ِّكد ﷺ أ َّن َمن توافرت له‬ ‫هذه الن َّية‪ ،‬وسعى إلى طلب العلم‪ ،‬فإ َّن الله يس ِّهل له طريق ًا إلى الجنة‪ُ ،‬مب ِّين ًا فضل الاجتماع‬ ‫في حلقات العلم والمدارسة؛ إذ يقول‪\" :‬و َمن سلك طريق ًا يلتمس فيه ِع ْلم ًا س َّهل ال َّله له به‬ ‫طريق ًا إلى الجنة‪ ،‬وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا‬ ‫نزلت عليهم السكينة‪ ،‬وغشيتهم الرحمة‪ ،‬وح َّف ْتهم الملائكة‪ ،‬وذكرهم الله في َمن عنده‪(((\".‬‬ ‫وكان من ثمار ح ِّث النبي ﷺ للصحابة على التع ُّلم أ َّنهم كانوا يحرصون على ألا يفوت‬ ‫أح َدهم شي ٌء م ّما ُيع ِّلمه النبي لأصحابه‪ .‬ومن ذلك قصة عمر بن الخطاب ‪ ‬الذي كان‬ ‫يسكن في عوالي المدينة‪ ،‬وينزل هو وصحابي من الأنصار بالتناوب إلى رسول الله ﷺ‪،‬‬ ‫ويخبر ك ٌّل منهما الآخ َر بما تع َّلم منه في يومه؛ إذ قال‪\" :‬كن ُت أنا وجا ٌر لي من الأنصار في بني‬ ‫ُأ َم َّية بن زيد‪ (((،‬وهي من عوالي المدينة‪ ،‬وكنّا نتناوب النزول على رسول الله ﷺ‪ ،‬ينزل يوم ًا‪،‬‬ ‫وأنزل يوم ًا‪ ،‬فإذا نزل ُت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره‪ ،‬وإذا نزل فعل مثل ذلك‪(((\".‬‬ ‫ولم يقتصر هذا الحرص على الصحابة؛ فالتابعون و َمن جاء بعدهم تابعوا هذا‬ ‫الحرص‪ ،‬وج ُّدوا في طلب ما ُأثِر عن النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم‪ ،‬وتن َّقلوا في البلاد بحث ًا‬ ‫((( ابن حجر‪ ،‬الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي العسقلاني (توفي‪852 :‬ﻫ)‪ .‬فتح الباري بشرح صحيح البخاري‪،‬‬ ‫تعليقات‪ :‬عبد الرحيم البراك‪ ،‬اعتناء‪ :‬أبو قتيبة الفارياني‪ ،‬الرياض‪ :‬دار طيبة‪2005 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ .184‬ناقش ابن‬ ‫حجر رواية الحديث‪ ،‬وقال‪\" :‬إ َّن إسناده حسن‪ ،‬ويعتضد بمجيئه من وجوه ُأخرى‪\".‬‬ ‫((( مسلم‪ ،‬صحيح مسلم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار‪ ،‬باب‪ :‬فضل الاجتماع على تلاوة‬ ‫القرآن وعلى الذكر‪ ،‬حديث رقم‪ ،)2699( :‬ص‪.1082‬‬ ‫((( اسم المكان الذي كانا يسكنانه‪.‬‬ ‫((( البخاري‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬العلم‪ ،‬باب‪ :‬التناوب في العلم‪ ،‬حديث رقم‪ ،)89( :‬ص‪.43‬‬ ‫‪257‬‬

‫ع َّمن يعلم ولو خبر ًا واحد ًا عنه ﷺ‪ .‬وقد خ َّصص الخطيب البغدادي كتاب ًا كامل ًا عن‬ ‫الرحلة في طلب الحديث‪ ،‬وب َّين فيه اهتمام الأُ َّمة بالحديث والإسناد‪ ،‬وأهداف الرحلة عند‬ ‫المحدثين‪ ،‬وما تعود به الرحلة من فوائد في النمو العلمي للمحدثين‪ ،‬بما يكون بينهم من‬ ‫تذاكر‪ ،‬إضاف ًة إلى توثيق العلم‪ ،‬وضبطه‪ ،‬وحفظه‪ ،‬ونشره‪(((.‬‬ ‫فقد روى الخطيب البغدادي في كتاب \"الرحلة في طلب الحديث\" بسنده إلى يزيد‬ ‫بن هارون قائل ًا لحماد بن زيد‪\" :‬يا أبا إسماعيل هل ذ َك َر الله تعالى أصحا َب الحديث‬ ‫في القرآن؟ فقال‪ :‬نعم‪ ،‬ألم تسمع إلى قوله ع َّز وج َّل‪﴿ :‬ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ‬ ‫ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ﴾ [التوبة‪ .]122:‬فهذا في كل َمن رحل في طلب‬ ‫العلم والفقه‪ ،‬ورجع إلى َمن وراءه فع َّلمه إ ّياه‪ (((\".‬وقد رأى ُمح ِّقق هذا الكتاب نور الدين‬ ‫عتر أ َّن ما أورده الخطيب البغدادي في الكتاب يدور حول نصين؛ أحدهما الآية القرآنية‬ ‫الكريمة‪َ \" :‬ف َل ْو َل َن َف َر‪ ،\"...‬والآخر حديث الإمام مسلم المشار إليه‪َ \" :‬من سلك طريق ًا يلتمس‬ ‫فيه ِع ْلم ًا‪ \"...‬لذا جعل الـ ُمح ِّقق هذين النصين فاتحة الكتاب‪.‬‬ ‫خامس ًا‪ :‬التعليم في ال ُّسنة النبوية‪:‬‬ ‫كثير من نصوص ال ُّسنة النبوية تجمع بين أكثر من موضوع؛ فبعض الأحاديث تجمع‬ ‫بين الح ِّث على التع ُّلم والتعليم مع ًا لأ َّنهما ‪-‬في النهاية‪ -‬عملية واحدة فيها طرفان‪ .‬ومن‬ ‫هذه الأحاديث ما رواه الطبراني عن أبي بكرة‪ ،‬قال‪ :‬سمعت النبي ﷺ يقول‪\" :‬اغ ُد عالِم ًا‬ ‫أو ُمتع ِّلم ًا‪ ،‬أو ُمست ِمع ًا أو ُم ِحب ًا‪ ،‬ولا تكن الخامسة فته َلك‪ ،‬قال عطاء‪ :‬قال لي مسعر‪ :‬زدتنا‬ ‫خامسة لم تكن عندنا‪ ،‬والخامسة أ ْن ُتب ِغ َض العل َم وأه َله‪ (((\".‬ومثل ذلك ما رواه ابن ماجة عن‬ ‫أبي هريرة‪ ،‬أ َّن النبي ﷺ قال‪\" :‬أفضل الصدقة أ ْن يتع َّلم المرء ِع ْلم ًا ث َّم ُيع ِّلمه أخاه المسلم‪(((\".‬‬ ‫((( الخطيب البغدادي‪ ،‬أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت (توفي‪463 :‬ﻫ)‪ .‬الرحلة في طلب الحديث‪ ،‬تحقيق‪ :‬نور‬ ‫الدين عتر‪ ،‬بيروت‪ :‬دار الكتب العلمية‪ ،‬ط‪1975 ،1‬م‪.‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.87‬‬ ‫((( الهيثمي‪ ،‬نور الدين بن أبي بكر (توفي‪807 :‬ﻫ)‪ .‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد‪ ،‬تحقيق‪ :‬حسن سليم الداراني‪،‬‬ ‫دمشق‪ :‬دار المأمون للتراث‪1991 ،‬م‪ ،‬حديث رقم‪ ،)501( :‬ج‪ ،2‬ص‪ .240‬قال الهيثمي‪\" :‬رواه الطبراني في‬ ‫الثلاثة‪ ،‬والبزار‪ ،‬ورجاله مو َّثقون‪\".‬‬ ‫((( ابن ماجة‪ ،‬أبو عبد الله محمد بن يزيد (توفي‪273 :‬ﻫ)‪ .‬سنن ابن ماجة‪ ،‬اعتنى به‪ :‬فريق بيت الأفكار الدولية‪ ،‬الرياض‪:‬‬ ‫بيت الأفكار الدولية‪ ،‬ط‪1999 ،1‬م‪ ،‬كتاب‪ :‬المقدمة‪ ،‬باب‪ :‬ثواب معلم الناس الخير‪ ،‬حديث رقم‪ ،)243( :‬ص‪.41‬‬ ‫‪258‬‬

‫ويدخل في الأحاديث ذات الصلة بالتعليم مكانة ال ُمع ِّلم‪ ،‬وتكريمه‪ ،‬والتنويه بفضله‬ ‫وقدره‪ ،‬وهل أفضل من كون ال ُمع ِّلم يقوم في التعليم بما يقوم به الرسول؟ ففي صحيح‬ ‫مسلم‪\" :‬إ َّن الله لم يبعثني ُمعنِّت ًا ولا ُمتعنِّت ًا‪ ،‬ولك ْن بعثني ُمع ِّلم ًا ُمي ِّسر ًا‪(((\".‬‬ ‫والأحاديث في التعليم كثيرة جد ًا‪ ،‬منها ما يفرض على المجتمع توفير التعليم‬ ‫لجميع أفراده‪ ،‬حتى إ َّن من واجب الجار الذي لديه شي ٌء من العلم أ ْن يق ِّدمه ل َمن ليس‬ ‫لديهم ذلك العلم من الجيران‪ .‬وفي ذلك يروي الإمام الطبراني أ َّن النبي ﷺ قال‪\" :‬ما با ُل‬ ‫أقوا ٍم لا ُيف ِّقهون جيرا َنهم‪ ،‬ولا ُيع ِّلمونهم‪ ،‬ولا َي ِعظو َنهم‪ ،‬ولا يأمرونهم‪ ،‬ولا ينهونهم؟!‬ ‫وما با ُل أقوا ٍم لا يتع َّلمون من جيرانهم‪ ،‬ولا يتف َّقهون‪ ،‬ولا ي َّت ِعظون؟! واللهِ َل ُيع ِّل َم َّن قو ٌم‬ ‫جيرا َنهم‪ ،‬و ُيف ِّقهونهم‪ ،‬و َي ِعظو َنهم‪ ،‬ويأمرونهم‪ ،‬وينهونهم‪ ،‬وليتع َّل َم َّن قو ٌم من جيرانهم‪،‬‬ ‫ويتف َّقهون‪ ،‬وي َّت ِعظون‪ ،‬أو لأُعا ِجلنَّهم العقوب َة‪ .‬ث َّم نزل‪ .‬فقال قو ٌم‪َ :‬من ترو َنه َعنِ َي بهؤلا ِء؟‬ ‫قال‪ :‬الأشعر ِّيي َن‪ ،‬هم قو ٌم فقها ُء‪ ،‬ولهم جيرا ٌن جفا ٌة من أهل المياه والأعراب‪ .‬فبلغ ذلك‬ ‫الأشعر ِّيي َن‪ ،‬فأتوا رسول الله فقالوا‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬ذكر َت قوم ًا بخي ٍر‪ ،‬وذكر َتنا بش ٍّر‪ ،‬فما‬ ‫با ُلنا؟ فقال‪َ :‬ل ُيع ِّل َم َّن قو ٌم جيرا َنهم ول َي ِع ُظنَّهم‪ ،‬وليأم ُر َّنهم‪ ،‬ولينهو َّنهم‪ ،‬وليتع َّل َم َّن قو ٌم من‬ ‫جيرانهم وي َّت ِعظون ويتف َّقهون‪ ،‬أو لأُعا ِجلنَّهم العقوب َة في الدنيا‪ .‬فقالوا‪ :‬يا رسول الله‪َ ،‬أ ُن َف ِّط ُن‬ ‫غي َرنا؟ فأعاد قو َله عليهم‪ ،‬فأعادوا قو َلهم‪َ :‬أ ُن َف ِّط ُن غي َرنا؟ فقال ذلك أيض ًا‪ .‬فقالوا‪َ :‬أم ِه ْلنا‬ ‫سن ًة‪ ،‬ف َأمه َلهم سن ًة‪ ،‬ل ُيف ِّقهونهم‪ ،‬و ُيع ِّلمونهم‪ ،‬وي ِعظونهم‪(((\".‬‬ ‫ومنها ما يخت ُّص بالأساليب التي استعملها النبي ﷺ‪ ،‬أو دعا إلى استعمالها‪ ،‬من‬ ‫توظيف الأحداث والمناسبات والمواقف لتقديم العلم المناسب‪ .‬ففي حادثة كسوف‬ ‫الشمس‪ ،‬روى البخاري في \"صحيحه\" عن المغيرة بن شعبة‪ ،‬قال‪َ \" :‬كسفت الشمس على‬ ‫عهد رسول الله ﷺ يو َم مات إبراهيم‪ ،‬فقال الناس‪َ :‬كسفت الشمس لموت إبراهيم‪ ،‬فقال‬ ‫رسول الله ﷺ‪\" :‬إ َّن الشمس والقمر من آيات الله‪ ،‬وإ َّنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا‬ ‫لحياته‪ .‬فإذا رأيتم ذلك فص ُّلوا وادعوا الله‪(((\".‬‬ ‫((( مسلم‪ ،‬صحيح مسلم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬الطلاق‪ ،‬باب‪ :‬بيان أ َّن تخيير امرأته لا يكون طلاق ًا إلا بالدية‪ ،‬حديث‬ ‫رقم‪ ،)1478( :‬ص‪.592‬‬ ‫((( الهيثمي‪ ،‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬العلم‪ ،‬باب‪ :‬في تعليم َمن لا يعلم‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.164‬‬ ‫قال‪\" :‬رواه‪ ‬الطبراني‪ ‬في الكبير‪ ،‬وفيه‪ ‬بكير بن معروف‪ \".‬وقال‪ ‬البخاري‪\" :‬ار ِم به‪ \".‬وو َّثقه‪ ‬أحمد‪ ‬في رواية‪،‬‬ ‫وض َّعفه في ُأخرى‪ .‬وقال‪ ‬ابن عدي‪\" :‬أرجو أ َّنه لا بأس به‪ \".‬‬ ‫((( البخاري‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬الكسوف‪ ،‬باب‪ :‬الصلاة في كسوف الشمس‪ ،‬حديث رقم‪ ،)1043( :‬ص‪.207‬‬ ‫‪259‬‬

‫وفي ذلك تصحي ٌح لما كان سائد ًا من العلوم الفاسدة في الجاهلية؛ من أ َّن ظواهر‬ ‫الشمس والقمر والنجوم تؤ ِّثر في حياة الناس‪ ،‬ولا سيما في حالات الولادة والموت‪.‬‬ ‫ومنها تهيئة ال ُمتع ِّلمين للموضوع من خلال السؤال‪ ،‬ومنها التر ُّفق بهم‪ ،‬والترحيب‬ ‫بهم‪ ،‬وعدم الإملال عليهم بطول التعليم‪ ،‬ومراعاة ما بينهم من فروق؛ ومنها عدم إلقاء‬ ‫العلم َم َّر ًة واحدة‪ ،‬والتد ُّرج في عرض الموضوع‪.‬‬ ‫ومنها توضيح المسألة باستخدام ما يناسبها من الوسائل ال ُم ِعينة بالإشارة والرمز‬ ‫والرسم‪ .‬ومن ذلك ما رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود ‪ ،‬قال‪َ \" :‬خ َّط النَّبِ ُّي ﷺ‬ ‫َخ ّط ًا ُم َر َّبع ًا‪َ ،‬و َخ َّط َخ ّط ًا فِي ال َو َس ِط َخا ِرج ًا ِمنْ ُه‪َ ،‬و َخ َّط ُخ َطط ًا ِص َغار ًا إِ َلى َه َذا ا َّل ِذي فِي ال َو َس ِط‬ ‫ِم ْن َجانِبِ ِه ا َّل ِذي فِي ال َو َس ِط‪َ ،‬و َقا َل‪َ \" :‬ه َذا ال ِإ ْن َسا ُن‪َ ،‬و َه َذا َأ َج ُل ُه ُم ِحي ٌط بِ ِه ‪َ -‬أ ْو‪َ :‬ق ْد َأ َحا َط بِ ِه‪-‬‬ ‫َو َه َذا ا َّل ِذي ُه َو َخا ِر ٌج َأ َم ُل ُه‪َ ،‬و َه ِذ ِه ال ُخ َط ُط ال ِّص َغا ُر الأَ ْع َرا ُض‪َ ،‬فإِ ْن َأ ْخ َط َأ ُه َه َذا َن َه َش ُه َه َذا‪َ ،‬وإِ ْن‬ ‫َأ ْخ َط َأ ُه َه َذا َن َه َش ُه َه َذا‪(((\".‬‬ ‫وقد اجتهدنا في عمل هذا‬ ‫الرسم الذي ر َّبما يم ِّثل خريطة‬ ‫مفاهيمية تع ِّبر عن مضمون هذا‬ ‫الحديث النبوي‪.‬‬ ‫ويمكن القول إ َّننا نستنبط من‬ ‫بعض مواقف التعليم النبوي طريقة العرض العلمي في التعليم‪ ،‬ولا سيما إتقان أصحاب‬ ‫الحرف والصنائع أعمالهم‪ .‬فقد جاء في سنن ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري َأ َّن َر ُسو َل ال َّل ِه‬ ‫ﷺ َم َّر بِ ُغ َل ٍم َي ْس ُل ُخ َشا ًة‪َ ،‬ف َقا َل َل ُه َر ُسو ُل ال َّل ِه ﷺ‪َ \" :‬تنَ َّح‪َ ،‬ح َّتى ُأ ِر َي َك‪َ \".‬ف َأ ْد َخ َل َر ُسو ُل ال َّل ِه ﷺَ‬ ‫َي َد ُه َب ْي َن ا ْل ِج ْل ِد َوال َّل ْح ِم‪َ ،‬ف َد َح َس بِ َها‪َ ،‬ح َّتى َت َوا َر ْت إِ َلى ا ْ ِلبِ ِط‪َ  ‬و َقا َل‪َ \" :‬يا ُغ َل ُم َه َك َذا َفا ْس ُل ْخ‪ُ \".‬ث َّم‬ ‫َم َضى َو َص َّلى لِلنَّا ِس‪َ ،‬و َل ْم َي َت َو َّض ْأ‪(((\".‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬كتاب‪ :‬الرقاق‪ ،‬باب‪ :‬في الأمل وطوله‪ ،‬حديث رقم‪ ،)6417( :‬ص‪.1233‬‬ ‫((( ابن ماجة‪ ،‬سنن ابن ماجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬الذبائح‪ ،‬باب‪ :‬السلخ‪ ،‬حديث رقم‪ ،)3179( :‬ص‪ .346‬انظر‪:‬‬ ‫‪ -‬أبو داود‪ ،‬سنن أبي داود‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬الطهارة‪ ،‬باب‪ :‬الوضوء من مس اللحم النيئ وغلسه‪ ،‬حديث رقم‪.)185( :‬‬ ‫‪260‬‬

‫ولا شك في أ َّن الصحابة تع َّلموا من رسول الله ﷺ كثير ًا من الأعمال التي رأوه يأتي‬ ‫بها‪ ،‬وأ َّنه ص ّلى الله عليه وس َّلم كان ُيو ِّجههم إلى الأخذ بها‪ ،‬فضل ًا عن تم ُّثل الحالات العلمية‬ ‫التي رأوه فيها‪ .‬ومن ذلك قوله ﷺ لهم‪\" :‬ص ُّلوا كما رأيتموني ُأص ّلي\"(((‪ ،‬وقوله ص ّلى الله عليه‬ ‫وس َّلم‪\" :‬خذوا عنّي مناسككم‪ (((\".‬وكان ﷺ يرى الواحد منهم يقوم بعمل لا ُي ْح ِسنه ف ُيو ِّجهه‬ ‫إلى جوانب النقص والقصور فيها‪ .‬وحديث \"المسيء صلاته\"((( مثا ٌل في هذا الباب‪(((.‬‬ ‫ونلاحظ أ َّن الأساليب المتعددة التي مارسها النبي ﷺ في تعليمه للصحابة كانت‬ ‫تستهدف في الأساس بناء شخصية الإنسان المسلم على الأخلاق القويمة‪ ،‬على اعتبار‬ ‫أ َّن إتمام مكارم الأخلاق هو من أهداف البعثة النبوية‪ .‬قال ﷺ\" \"إ َّنما ُب ِع ْث ُت لأُت ِّمم مكارم‬ ‫الأخلاق\"(((‪ ،‬وقوله ﷺ‪\" :‬ما من شي ٍء أثقل في الميزان من ُح ْس ِن الخلق‪ (((\".‬وفي رواية‬ ‫عند الترمذي‪\" :‬إ َّن من أح ِّبكم إل َّي‪ ،‬وأقربِكم منّي مجلس ًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاق ًا‪(((\".‬‬ ‫((( البخاري‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬الأدب‪ ،‬باب‪ :‬رحمة الناس والبهائم‪ ،‬حديث رقم‪ ،)6008( :‬ص‪.1164‬‬ ‫((( مسلم‪ ،‬صحيح مسلم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬الحج‪ ،‬باب‪ :‬استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكب ًا‪ ،‬وبيان قوله‬ ‫ﷺ‪\" :‬لتأخذوا مناسككم\"‪ ،‬حديث رقم‪ ،)1297( :‬ص‪.512‬‬ ‫((( عن َأبِي ُه َر ْي َر َة‪َ :‬أ َّن َر ُسو َل الل ِه ﷺ َد َخ َل ال َم ْس ِج َد َف َد َخ َل َر ُج ٌل َف َص َّلى‪َ ،‬ف َس َّل َم َع َلى النَّبِ ِّي ﷺ َف َر َّد َو َقا َل‪\" :‬ا ْر ِج ْع َف َص ِّل‪َ ،‬فإِ َّن َك َل ْم‬ ‫ُت َص ِّل\"‪َ ،‬ف َر َج َع ُي َص ِّلي َك َما َص َّلى‪ُ ،‬ث َّم َجا َء َف َس َّل َم َع َلى النَّبِ ِّي ﷺ‪َ ،‬ف َقال‪\" :‬ا ْر ِج ْع َف َص ِّل‪َ ،‬فإِ َّن َك َل ْم ُت َص ِّل\" َث َل ًثا‪َ ،‬ف َقا َل‪َ \" :‬وا َّل ِذي َب َع َث َك‬ ‫بِال َح ِّق َما ُأ ْح ِس ُن َغ ْي َر ُه‪َ ،‬ف َع ِّل ْمنِي\"‪َ ،‬ف َقا َل‪\" :‬إِ َذا ُق ْم َت إِ َلى ال َّص َل ِة َف َك ِّب ْر‪ُ ،‬ث َّم ا ْق َر ْأ َما َت َي َّس َر َم َع َك ِم َن ال ُق ْرآ ِن‪ُ ،‬ث َّم ا ْر َك ْع َح َّتى َت ْط َم ِئ َّن َرا ِك ًعا‪،‬‬ ‫ُث َّم ا ْر َف ْع َح َّتى َت ْع ِد َل َقا ِئ ًما‪ُ ،‬ث َّم ا ْس ُج ْد َح َّتى َت ْط َم ِئ َّن َسا ِج ًدا‪ُ ،‬ث َّم ا ْر َف ْع َح َّتى َت ْط َم ِئ َّن َجالِ ًسا‪َ ،‬وا ْف َع ْل َذلِ َك فِي َص َلتِ َك ُك ِّل َها‪ \".‬انظر‪:‬‬ ‫‪ -‬البخاري‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬الآذان‪ ،‬باب‪ :‬وجوب القراءة للإمام والمأموم‪ ،‬حديث رقم‪:‬‬ ‫(‪ ،)755‬ص‪.759‬‬ ‫((( النسائي‪ .‬المجتبى من السنن «سنن النسائي»‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬التطبيق‪ ،‬باب‪ :‬الرخصة في ترك الذكر في‬ ‫السجود‪ ،‬حديث رقم‪ ،)1136( :‬ص‪.136‬‬ ‫((( أخرجه أحمد في مسنده‪ .‬انظر‪:‬‬ ‫‪ -‬ابن حنبل‪ ،‬الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (توفي‪241 :‬ﻫ)‪ .‬مسند الإمام أحمد بن حنبل‪ ،‬الرياض‪ :‬بيت‬ ‫الأفكار الدولية‪1998 ،‬م‪ ،‬حديث رقم‪ ،)8939( :‬ص‪.655‬‬ ‫((( أخرجه أبو داود في سننه والترمذي في جامعه‪ .‬انظر‪:‬‬ ‫‪ -‬أبو داود‪ ،‬سنن أبي داود‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬الأدب‪ ،‬باب‪ :‬في حسن الخلق‪ ،‬حديث رقم‪ ،)4799( :‬ص‪.523‬‬ ‫‪ -‬الترمذي‪ ،‬جامع الترمذي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬البر والصلة‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء في حسن الخلق‪ ،‬حديث رقم‪:‬‬ ‫(‪ ،)2002‬ص‪.333‬‬ ‫((( الترمذي‪ ،‬جامع الترمذي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬البر والصلة‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء في معاني الأخلاق‪ ،‬حديث رقم‪:‬‬ ‫(‪ ،)2018‬ص‪.335‬‬ ‫‪261‬‬

‫المبحث الثالث‬ ‫التراث التربوي الإسلامي مصدر ًا للفكر التربوي الإسلامي المعاصر‬ ‫سبق نش َر هذا الكتاب عن \"الفكر التربوي الإسلامي\" صدو ُر سلسلة من ثلاثة كتب‬ ‫للمؤ ِّلف عن \"التراث التربوي الإسلامي\"‪ ،‬تض َّمنت قدر ًا من التفصيل عن التراث التربوي‬ ‫الإسلامي‪ ،‬وحالة البحث المعاصرة فيه‪ ،‬وبعض التحليل لنصوصه ومدارسه‪ ،‬واقتراح‬ ‫عدد من المشروعات البحثية فيه‪ .‬وجاء في الفصل الثاني من كتابنا هذا \"الفكر التربوي‬ ‫الإسلامي\" إشارة إلى الجدل حول القديم والجديد في التراث التربوي الإسلامي‪ ،‬ورصد‬ ‫معالم التط ُّور فيه‪ ،‬ورؤية تحليلية للأدبيات الكثيرة حوله‪ .‬فما الذي بقي من الحديث عن‬ ‫التراث التربوي الإسلامي ليكون مادة هذا الموضع من هذا الفصل؟‬ ‫للإجابة عن هذا السؤال‪َ ،‬يلزمنا أ ْن نتذ َّكر أمرين؛ أولهما أ َّن مهمة هذا الفصل هي‬ ‫الحديث عن مصادر الفكر التربوي الإسلامي المعاصر الذي نريد أ ْن ن ْبنِ َيه اليوم لصياغة‬ ‫حياتنا التربوية؛ نظر ًا وممارس ًة‪ ،‬وتوجيهها إلى مستقبل منشود يكون أكثر إشراق ًا من ماضينا‬ ‫وحاضرنا‪ .‬وثانيهما الصورة التي حضر فيها التراث التربوي الإسلامي ‪-‬ولا يزال يحضر‪-‬‬ ‫في حياتنا التربوية المعاصرة؛ فر َّبما لا نجافي الحقيقة كثير ًا إذا قلنا إ َّن التراث التربوي‬ ‫الإسلامي‪ ،‬في أحسن أحواله‪ ،‬حضر –ويحضر‪ -‬في صورة مادة دراسية لفئة قليلة من‬ ‫المتخ ِّصصين‪ ،‬فيما يس ّمى التربية الإسلامية‪ ،‬أو في تاريخ التربية‪ ،‬أو برنامج دراسي في هذا‬ ‫التخ ُّصص‪ .‬والمدخل الأساس لهذا الحضور هو المدخل التاريخي الذي يعيد نشر بعض‬ ‫ما جاء من الكتابات التراثية عن واقع التعليم في بعض العصور‪ ،‬وبعض المناطق‪ ،‬وبعض‬ ‫المذاهب‪ ،‬مع قليل جد ًا من أحكام المقارنات والمقاربات عن صلة التراث التربوي‬ ‫الإسلامي بالحياة التربوية للمجتمعات الإسلامية المعاصرة‪.‬‬ ‫ولذلك‪ ،‬فإ َّن سؤالين آخرين يأتيان أكثر ق َّوة وأشد أهمية من السؤال السابق‪ ،‬هما‪:‬‬ ‫‪ -‬ما الذي يمكن أ ْن نجده في التراث التربوي الإسلامي م ّما يش ِّكل مصدر ًا للفكر‬ ‫التربوي الإسلامي المعاصر؟‬ ‫‪-‬كيف يمكن توظيف ما قد نجده لهذا الغرض؟‬ ‫هذا ما سوف نشير إليه هنا من هذا الفصل‪.‬‬ ‫‪262‬‬

‫أولاً‪ :‬مصدر التراث و ُحجيته‪:‬‬ ‫قلنا في مكان آخر إ َّن كثير ًا م ّما ُكتِب عن الفكر التربوي الإسلامي كان حديث ًا ع ّما كان‬ ‫عليه هذا الفكر عند عدد من العلماء‪ ،‬أو المذاهب‪ ،‬أو الأزمنة‪ ،‬أو الأمكنة‪ ،‬م ّما ينتسب‬ ‫إلى التاريخ الإسلامي‪ ،‬وكل ذلك يقع ضمن ما اصطلحنا على كونه تراث ًا إسلامي ًا‪ .‬ومع‬ ‫ذلك‪ ،‬فلا ُب َّد أ ْن نق َّر بأ َّن ذلك التراث \"التاريخي\" هو اليوم جزء من خريطة الفكر التربوي‬ ‫الإسلامي المعاصر‪ .‬وبنا ًء على ذلك‪ ،‬فإ َّن تقويم التراث وبيان فائدته في حياتنا المعاصرة‬ ‫هو قضية مهمة في التعامل مع التراث‪ ،‬والأهم من ذلك هو وضع المبادئ التي يمكن‬ ‫توظيفها في الحكم على التراث‪ ،‬وبيان قيمته في بناء الفكر التربوي الإسلامي المعاصر‪.‬‬ ‫إذا كان التراث التربوي الذي نقصده في السياق الحالي هو ما كتبه علماء المسلمين‬ ‫عن الفكر التربوي الذي كان سائد ًا في أزمانهم‪ ،‬والممارسات التربوية التي اعتمدت على‬ ‫ذلك الفكر‪ ،‬فإ َّن م ّما لا شك فيه أ َّن القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية كانا المصدرين الأساسيين‬ ‫لذلك التراث‪ .‬وي َّتضح ذلك تمام الوضوح عندما نجد أ َّن كثير ًا من كتب التراث التربوي‬ ‫الإسلامي كانت تبدأ بما ورد في القرآن الكريم من نصوص ت َّتصل بالموضوع‪ ،‬ث َّم ُت َثنّي بعد‬ ‫ذلك بنصوص ال ُّسنة النبوية‪ ،‬ث َّم ُت ْتبِع ذلك بما نس ّميه التراث؛ وهو ما ورد من أقوال مأثورة‬ ‫للصحابة والتابعين وتابعيهم إلى عصر المؤ ِّلف‪ ،‬م ّما فهمه أصحاب هذه الأقوال من تلك‬ ‫النصوص‪ ،‬أو م ّما مارسوه‪ .‬ومع أ َّننا حين نصف مرجعية التراث التربوي الإسلامي بأ َّنها‬ ‫القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية على هذا الوجه‪ ،‬فإ َّننا نستدرك بالقول‪ :‬إ َّن بعض نصوص التراث‬ ‫كانت ُتست َمد ‪-‬إضاف ًة إلى ذلك‪ ،‬وليس بديل ًا عنه‪ -‬من مصادر ُأخرى؛ يونانية‪ ،‬أو فارسية‪ ،‬أو‬ ‫هندية‪ ،‬م ّما كان معروف ًا في أيام المؤ ِّلف‪ ،‬ولك َّن هذا الاستمداد هو الاستثناء وليس الأصل‪.‬‬ ‫فإذا كان المصدر المؤ ِّسس للتراث هو القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية على الوجه الذي‬ ‫ذكرنا‪ ،‬فإ َّن علينا أ ْن نجيب عن الأسئلة الآتية‪:‬‬ ‫‪ -‬هل يكفي ذلك لإعطاء التراث مرجعية كافية ليكون مصدر ًا لنا اليوم؟‬ ‫‪ -‬هل َيلزمنا اليوم أ ْن ننظر إلى القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية بعين التراث‪ ،‬أم أ َّن‬ ‫بإمكاننا أ ْن نستمد فكرنا من ذلك المصدر المؤ ِّسس مباشرة دون أن يكون التراث‬ ‫وسيط ًا للاستمداد المباشر أو حائل ًا دونه؟‬ ‫‪263‬‬

‫‪ -‬إذا جاز لنا أ ْن نستمد فكرنا التربوي المعاصر من القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية‪ ،‬فما‬ ‫قيمة التراث التربوي الإسلامي في هذه الحالة؟‬ ‫ثاني ًا‪ :‬مسألة تجاوز التراث إلى الاهتداء بالقرآن الكريم وال ُّسنة النبوية مباشرة‪:‬‬ ‫تؤ ِّكد نصوص القرآن الكريم أ َّن هذا القرآن جاء ليكون هد ًى وب ِّينا ٍت من الهدى‪ .‬قال‬ ‫تعالى‪﴿ :‬ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ﴾‬ ‫[البقرة‪ .]185:‬وليكون كذلك تبيان ًا وهد ًى ورحم ًة وشفا ًء للمسلمين‪ .‬قال ع َّز وج َّل‪:‬‬ ‫﴿ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭶﭷﭸ﴾ [النحل‪ .]89:‬وليكون‬ ‫أيض ًا بصائ َر للناس وهد ًى ورحم ًة‪ .‬قال سبحانه وتعالى‪﴿ :‬ﯘﯙﯚﯛﯜ‬ ‫ﯝﯞ﴾ [الجاثية‪ .]20:‬والآيات في ذلك كثيرة‪ ،‬وكلها تشير إلى الوظائف التي ورد‬ ‫ذكرها في القرآن الكريم‪ .‬ومع تع ُّدد أوصاف هذه الوظائف (تبيان‪ ،‬بلاغ‪ ،‬شفاء‪ ،‬رحمة‪،‬‬ ‫بشرى‪ ،)...‬فإ َّن الهدى صفة ملازمة لأ ٍّي منها‪ ،‬والذين يهتدون بهذا القرآن يزيدهم الله‬ ‫هدى‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬ﯻﯼﯽﯾﯿﰀ﴾ [مريم‪ .]76:‬والرسول فيما يب ِّلغه عن‬ ‫ربه‪ ،‬ويدعو إليه‪ ،‬هو على هدى مستقيم‪ .‬قال ع َّز من قائل‪﴿ :‬ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ‬ ‫ﮍ﴾ [الحج‪ .]67:‬والهدى يقابله الضلال‪ .‬قال سبحانه‪﴿ :‬ﭬﭭﭮﭯﭰ‬ ‫ﭱﭲﭳﭴﭵ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ﴾ [سبأ‪ .]24:‬والذين لا يهتدون‬ ‫بهذا الهدى سيكونون ص ّم ًا لا يسمعون‪ ،‬وعمي ًا لا يبصرون‪ .‬قال ع َّز وج َّل‪﴿ :‬ﯖﯗ‬ ‫ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜﯝﯞﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ‬ ‫ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ﴾ [ ُف ِّصلت‪(((.]44:‬‬ ‫وقد كان القرآن الكريم هد ًى وب ِّينا ٍت وبصائ َر ل َمن َتنَ َّزل عليهم‪ ،‬ففهموه حكم ًا ومعن ًى‪،‬‬ ‫واهتدوا به تطبيق ًا وعمل ًا؛ إذ كان‪﴿ :‬ﯣﯤﯥﯦﯧ﴾ [الزمر‪ ،]28:‬وهو ﴿ﭘﭙ‬ ‫ﭚﭛﭜﭝﭞ﴾ [ ُف ِّصلت‪﴿ ،]3:‬ﯹﯺﯻﯼﯽ﴾ [الأحقاف‪ .]12:‬فقد‬ ‫كانوا أهل فصاحة وبلاغة‪ ،‬وكان واضح ًا ُمي َّسر ًا في نصه وأحكامه‪ .‬ونحن نؤمن بأ َّن القرآن‬ ‫((( \"الهدى في القرآن الكريم\" موضوع مناسب لبحث علمي‪ ،‬يستقصي ألفاظ \"الهدى\" في القرآن الكريم‪ ،‬وسياقات‬ ‫هذه الألفاظ‪ ،‬وما ُيستن َبط من كثافة حضورها وسياقاتها من عوامل الرشد والهداية ل َمن يهتدي بالقرآن الكريم‪.‬‬ ‫ومثل هذه الجهد يصلح أ ْن يكون دراسة معرفية منهجية‪ ،‬أو دراسة في التفسير الموضوعي‪ ،‬أو دراسة مصطلحية‪.‬‬ ‫‪264‬‬

‫سيبقى كتاب ًا مفتوح ًا للهداية الدائمة للبشرية‪ ،‬يجد فيه كل جيل من الفهم المتج ِّدد ما تصلح‬ ‫به أحوالهم؛ فلن َتن َفد هداي ُته‪ ،‬ولن ُتستن َفد أغرا ُضه‪ ،‬ولن يحتاج الناس إلى نبي جديد يتن َّزل‬ ‫عليه كتاب جديد‪.‬‬ ‫ولذلك لم يثبت أ َّن النبي ﷺ احتاج إلى تفسير القرآن كله‪ ،‬وإ َّنما هي حالات محدودة‪،‬‬ ‫قرأ فيها النبي ﷺ الآية‪ ،‬ث َّم أعطى توضيح ًا لها‪ ،‬أو ُس ِئل عن آية فف َّسرها بلفظ‪ ،‬أو مثال‪ ،‬أو بآية‬ ‫ُأخرى‪ ،‬أو فهم بعض الصحابة شيئ ًا من القرآن على غير وجهه فص َّحح لهم النبي الفهم‪ .‬ومن‬ ‫النادر أ ْن نجد حديث ًا يف ِّسر معنى لفظ من ألفاظ القرآن؛ فالفصاحة اللغوية لجيل الصحابة‬ ‫كانت كافية لفهمهم عربية القرآن الكريم‪ ،‬واستلهامهم هديه بصورة مباشرة‪.‬‬ ‫ونحن نجد فيما يجعله بعض المف ِّسرين من الأحاديث النبوية تفسير ًا لآيات قرآنية‬ ‫اعتساف ًا وتأويل ًا في غير مح ِّله‪ .‬ومن ذلك ‪-‬مثل ًا‪ -‬تفسير الإمام الرازي((( لقوله تعالى‪:‬‬ ‫﴿ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ﴾ [ص‪ ]34:‬بحديث في \"صحيح البخاري\" أ َّن‬ ‫النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم قال‪\" :‬قال سليمان بن داود‪ :‬لأطوفن الليلة على سبعين امرأة‪،‬‬ ‫تحمل كل امرأة فارس ًا يجاهد في سبيل الله‪ ،‬فقال له صاحبه‪ :‬إ ْن شاء الله‪ ،‬فلم يقل‪ ،‬ولم‬ ‫تحمل شيئ ًا إلا واحد ًا ساقط ًا أحد شقيه‪ ،‬فقال النبي ﷺ‪ :‬لو قالها لجاهدوا في سبيل الله‪(((\".‬‬ ‫وينفي بعض العلماء الم ْح َدثين صلة الحديث بالآية‪ ،‬ويستندون في ذلك إلى أ َّن البخاري‬ ‫لم يضع الحديث في كتاب التفسير‪ ،‬ويف ِّسرون الآية بدلاً من ذلك بتفسيرات ُأخرى‪(((.‬‬ ‫فمهمة الرسول هي تلاوة الآيات كما ُأن ِزلت‪ ،‬وهذا هو الإبلاغ الذي ُك ِّلف به‪ .‬قال‬ ‫تعالى‪﴿ :‬ﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮀﮁﮂ﴾ [المائدة‪ .]67:‬وقد كان حرص الرسول على‬ ‫البلاغ يجعله يح ِّرك لسانه حتى لا ينسى‪ ،‬فأنزل الله عليه‪﴿ :‬ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ‬ ‫ﰀﰁﰂ﴾ [القيامة‪ .]17-16:‬قال ابن عباس عن هذه الآية‪\" :‬جمعه في صدرك ث َّم تقرؤه‬ ‫((( الرازي‪ ،‬فخر الدين محمد بن ضياء الدين عمر (توفي‪604 :‬ﻫ)‪ .‬تفسير الفخر الرازي «التفسير الكبير‪ ،‬أومفاتيح‬ ‫الغيب»‪ ،‬دمشق‪ :‬دار الفكر‪1981 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،26‬ص‪ .209-208‬ومن الملاحظ أ َّن الإمام الرازي ذكر أ َّن تفسير‬ ‫الآية بالحديث المذكور هو من أقوال أهل التحقيق‪ ،‬ومع ذلك ذكر تفسيرات ُأخرى لا صلة لها بالحديث‪.‬‬ ‫((( البخاري‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬الأنبياء‪ ،‬باب‪ :‬قول الله تعالى‪﴿ :‬ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ‬ ‫ﮃﮄ﴾ [ص‪ ]30 :‬حديث رقم‪ ،)3424( :‬ص‪.659‬‬ ‫((( عباس‪ ،‬فضل حسن‪ .‬قصص القرآن الكريم‪ ،‬ع ّمان‪ :‬دار النفائس للنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪2010 ،3‬م‪ ،‬ص‪.657-652‬‬ ‫‪265‬‬

‫﴿ﰄﰅﰆﰇ﴾ قال‪ :‬فا ْست ِم ْع له وأ ْن ِصت‪ ،‬ث َّم إ َّن علينا أ ْن تقر َأه‪ ،‬قال‪ :‬فكان رسول الله‬ ‫ﷺ إذا أتاه جبريل ‪ ‬است َم َع‪ ،‬فإذا انطلق جبريل َق َر َأه النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم كما‬ ‫أ ْق َر َأه‪ (((\".‬وقد قرأه النبي ﷺ على الناس بلفظه العربي ال ُمبِين كما وصله من أمين الوحي‬ ‫جبريل‪ .‬فقراءة القرآن بلسان النبي ﷺ هي بيان ُمبِين واضح المعنى والدلالة‪ .‬قال سبحانه‪:‬‬ ‫﴿ﰉﰊﰋﰌ﴾ [القيامة‪\" .]19:‬فالبيان هنا بيان ألفاظه‪ ،‬وليس بيان معانيه؛ لأ َّن بيان معانيه‬ ‫ملازم لورود ألفاظه‪(((\".‬‬ ‫وقد كانت حياة النبي ﷺ مع الصحابة‪ ،‬وسيرته في إبلاغ القرآن الكريم‪ ،‬وتنزيل‬ ‫أحكامه وتوجيهاته في مجالات الحياة المختلفة في ال ِّش َّدة والفرج‪ ،‬والعسر واليسر‪،‬‬ ‫والفقر والغنى‪ ،‬وال ِّس ْلم والحرب‪ ،‬وعادات الطعام والشراب والكساء والسكن‪ ،‬ومع‬ ‫الصغير والكبير‪ ،‬والصديق والعدو‪ ،‬وشؤون الحكم والسياسة والعلاقات الدولية‪ ،‬وفي‬ ‫أخ ِّص خصائص شؤون الحياة الشخصية والأسرية والاجتماعية؛ كل ذلك كان أنموذج ًا‬ ‫لما يريد القرآن الكريم أ ْن يح ِّققه في حياة الناس‪ .‬فكانت تصرفات النبي ﷺ في كل هذه‬ ‫الأحوال وغيرها م ّما يعتري حياة البشر في الظروف العادية والاستثنائية تربي ًة وتزكي ًة لجيل‬ ‫الصحابة‪ ،‬فأنتجت هذه التربية والتزكية النبوية جيل ًا فريد ًا وأنموذج ًا صالح ًا‪ ،‬للاقتداء به‪،‬‬ ‫وبفهمه لمقاصد القرآن ومقاصد ال ُّسنة‪.‬‬ ‫وقد ي َّسر الله لهذه الأُ َّمة توثيق هذا الهدي النبوي بتفاصيله‪ ،‬فيما ُس ِّمي ال ُّسنة والسيرة‪،‬‬ ‫بصورة لم يعرفها تاريخ البشر من قب ُل ومن بع ُد‪ ،‬وأصبحت ال ُّسنة بهذا التوثيق التفصيلي‬ ‫مصدر ًا متاح ًا للاهتداء بها في أ ِّي مجال من مجالات الحياة‪ .‬فلو ر َّكزنا النظر في جانب‬ ‫التعليم والتربية لوجدنا حياة النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم كلها تعليم ًا وتربي ًة وتزكي ًة؛ تعليم ًا‬ ‫لنص القرآن الكريم‪ ،‬ولما فيه من الأحكام والتوجيهات‪ ،‬وما فيه من اللغة وأساليب البيان‬ ‫والقصص والأمثال‪ ،‬وتعليم ًا لأساليب النظر والتفكير‪ ،‬وطرق العرض والتعبير اللفظي‬ ‫والبصري؛ وتربي ًة عملي ًة في طرق التعامل والسلوك؛ وتزكي ًة خلقي ًة للمشاعر وط ِّب القلوب‪،‬‬ ‫فكيف لا يكون ذلك مصدر ًا للفكر التربوي الإسلامي الذي بنته أجيال الأُ َّمة عبر تاريخها‪،‬‬ ‫ومصدر ًا للفكر التربوي المعاصر الذي نريد أ ْن نبنيه ليومنا الحاضر وغدنا القادم؟!‬ ‫((( البخاري‪ .‬صحيح البخاري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬التوحيد‪ ،‬باب‪ :‬قوله تعالى‪﴿ :‬ﯸﯹﯺﯻﯼﯽ﴾‬ ‫[القيامة‪ ،]16 :‬حديث رقم‪ ،)7524( :‬ص‪.1860‬‬ ‫((( ابن عاشور‪ ،‬تفسير التحرير والتنوير‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،29‬ص‪.350‬‬ ‫‪266‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬قيمة التراث التربوي الإسلامي بوصفه مصدر ًا‪:‬‬ ‫نحن نؤمن أ َّن القرآن الكريم هو المصدر المنشئ للتوجيهات والأحكام التربوية‪ ،‬وأ َّن‬ ‫ال ُّسنة النبوية هي المصدر ال ُمب ِّين لهذه التوجيهات والأحكام‪ ،‬وأ َّن الأخذ بهذه التوجيهات‬ ‫والأحكام أمر ملزم‪ ،‬وأ َّن القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ليسا من التراث في اصطلاحنا‬ ‫المعتمد‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإ َّن منهج تعاملنا مع التراث بوصفه مصدر ًا للفكر التربوي سيكون‬ ‫مختلف ًا عن التزامنا بالقرآن الكريم وال ُّسنة النبوية‪.‬‬ ‫إ َّن التراث عنصر أساسي من عناصر الوعي بالذات الثقافية والحضارية والاجتماعية‪،‬‬ ‫لا سيما التراث التربوي الثاوي في الفكر والممارسة‪ ،‬الذي يظهر أثره في صياغة شخصية‬ ‫الفرد والمجتمع بصورة غير واعية في كثير من الأحيان‪ .‬وإذا كان التراث التربوي الإسلامي‬ ‫الذي نتح َّدث عنه هو ما كتبه العلماء عن الفكر والممارسة في مجال التربية والتعليم‪،‬‬ ‫وليس الوحي الإلهي والهدي النبوي‪ ،‬فإ َّن الوعي بالذات يوجب النظر التحليلي الناقد‬ ‫للتراث؛ تمييز ًا بين مك ِّوناته وطريقة فعلها وتشكيلها للذات التاريخية والذات المعاصرة‪.‬‬ ‫وعندئ ٍذ‪ ،‬فإ َّن من ال ُمتو َّقع أ ْن تقودنا الدراسة التحليلية النقدية للتراث إلى عدد من النتائج‪،‬‬ ‫أهمها ملاحظة التن ُّوع الواسع في مادة التراث‪ ،‬ومدارسه‪ ،‬ومستوياته‪ ،‬والتغ ُّير والتط ُّور‬ ‫الذي لازمه عبر أجيال الزمان وتع ُّدد المكان‪ ،‬وحضور عدد من العناصر المنهجية التي‬ ‫تفيدنا في تحديد قيمة التراث في حياتنا التربوية المعاصرة‪.‬‬ ‫ولع َّل من أهم هذه العناصر المنهجية النظ َر إلى التراث بوصفه إنتاج ًا زمني ًا تاريخي ًا‬ ‫في عملية تدوينه أولاً‪ ،‬وفي تعبيره عن الحوادث والوقائع التي يتم تدوينها ثاني ًا‪ .‬وهذه‬ ‫الحوادث والوقائع إ َّنما تع ِّبر عن الاجتماع الإنساني‪ ،‬وعمران العا َلم ‪-‬بحسب تعبير ابن‬ ‫خلدون‪ -‬وما يعرض لهذا العمران من الأحوال الحضارية المتق ِّلبة‪ .‬فإذا كانت حقيقة‬ ‫التراث ملتبسة بحقيقة التاريخ‪ ،‬فإ َّن ذلك سيح ِّدد الصورة التي يمكن أ ْن يكون فيها التراث‬ ‫مصدر ًا من مصادر الفكر التربوي المعاصر‪ .‬ففي التراث‪ ،‬كما في التاريخ‪ :‬صعود وهبوط‪،‬‬ ‫وتق ُّدم وتخ ُّلف‪ .‬و ِم ْن َث َّم‪ ،‬فلا ُب َّد من مرجعية لتحديد ما نأخذ منه‪ ،‬وما ن َدع‪.‬‬ ‫‪267‬‬

‫وقد تط َّرقنا في مقام سابق ‪-‬بقدر من التفصيل‪ -‬إلى منهج التعامل مع التراث التربوي‬ ‫الإسلامي‪ ،‬وم َّيزنا بين غرضين للتعامل مع هذا التراث؛ الغرض الأول هو تحقيق أهداف‬ ‫علمية تاريخية تخت ُّص بفهم الواقع التاريخي الذي يتح َّدث عنه التاريخ زمان ًا ومكان ًا‬ ‫وحالاً‪ ،‬أو يكون التعامل مع التراث لأغراض علمية نظرية تخت ُّص بفهم مادة التراث‬ ‫وموقعها في السياقات الزمانية والمكانية‪ ،‬ومظاهر التكا ُمل المعرفي بين عناصرها‪ ،‬وحالة‬ ‫النمو والتط ُّور استجاب ًة للمستجدات‪ ،‬واكتشاف بعض العوامل والمؤ ِّثرات التي حكمت‬ ‫إنتاج ذلك التراث وطبعته بطابعها‪.‬‬ ‫والغرض الثاني هو تحقيق أهداف توظيفية عملية تخت ُّص بالتوظيف والتطبيق العملي‬ ‫لما في التراث من أفكار ح َّية يمكن أ ْن ُتس ِهم في النهوض بحياتنا التربوية المعاصرة‪ .‬وفي‬ ‫هذا المجال سوف يكون بإمكاننا أ ْن نو ِّظف التراث لتحقيق ما يأتي‪(((:‬‬ ‫‪ .1‬بناء قدر من الثقة بالنفس وأداء وظيفة نفسية للاعتزاز بالهوية‪ ،‬والانتماء لأمة لها‬ ‫تاريخ يع ِّبر التراث عن بعض تج ِّلياته‪ ،‬ويبين كيف أسهمت هذه الأمة في تطور‬ ‫الحضارة البشرية عن طريق منجزاتها التي يكشف عنها التراث‪ ،‬ويدفع أجيال‬ ‫ال َخ َلف لتسهم في الحضارة كما أسهمت أجيال السلف‪ .‬ومع أن النُّ ُظم السياسية‬ ‫السائدة في المجتمعات البشرية الحديثة قد استلبت كثير ًا من خصائص هذه‬ ‫المجتمعات ول ّونتها بلونها‪ ،‬فإن النظام السياسي في أي بلد إنما يعتمد على‬ ‫النظام التعليمي في غرس الانتماء للأمة والاعتزاز بهويتها‪ ،‬عن طريق التنويه‬ ‫بالإنجازات التي يتحدث عنها تراثها‪.‬‬ ‫‪ .2‬اكتشاف س ِّر ق َّوة المجتمع الإسلامي في بعض العصور‪ ،‬وصلة هذه الق َّوة بالنظام‬ ‫التربوي الذي كان سائد ًا؛ من أجل بناء برنامج يتيح للتربويين المعاصرين‬ ‫الاستفادة منه‪ ،‬وممارسة التحليل النقدي ‪-‬في الوقت نفسه‪ -‬لذلك التراث‬ ‫التربوي بوصفه تعبير ًا عن حالة المعرفة العلمية للنظام التربوي‪ ،‬والحالة‬ ‫الحضارية التي كان المجتمع يعيشها؛ إذ إ َّن حالة المعرفة وحالة الحضارة‬ ‫((( انظر تفاصيل ذلك في كتابنا‪:‬‬ ‫‪ -‬ملكاوي‪ ،‬التراث التربوي الإسلامي‪ :‬حالة البحث فيه‪ ،‬ولمحات من تطوره‪ ،‬وقطوف من نصوصه ومدارسه‪،‬‬ ‫مرجع سابق‪ ،‬ص‪.464-459‬‬ ‫‪268‬‬

‫كانتا في تغ ُّير مستمر؛ صعود ًا وهبوط ًا‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإ َّن ما يعرضه التراث التربوي‬ ‫عن التغ ُّير والتط ُّور سيكون مهم ًا في الكشف عن عوامل النهوض أو التراجع‬ ‫الحضاري‪ ،‬والدروس التي يمكن للمجتمع المعاصر أ ْن يستفيدها من نتائج‬ ‫دراسة التراث لهذا الغرض‪.‬‬ ‫‪ .3‬البحث في التراث عن البديل الممكن لأنماط التعليم المعاصر الذي اقتبسته‬ ‫المجتمعات الإسلامية من التجربة الغربية‪ ،‬أو ُف ِرض عليها في المرحلة‬ ‫الاستعمارية‪ ،‬ولم تتمكن من التخ ُّلص منه‪.‬‬ ‫‪ .4‬أداء وظيفة لغوية تب ِّين كيف تمكنت اللغة العربية من استيعاب مستجدات المعرفة‬ ‫البشرية في المراحل التاريخية التي ُكتِب فيها التراث‪ .‬وتمتد هذه الوظيفة لتكون‬ ‫مفردا ُت اللغة وتراكيبها أدوا ٍت لدراسة تاريخ الأفكار‪ ،‬ونمو المصطلحات‬ ‫وتط ُّورها‪ .‬ومن جهة ُأخرى‪ ،‬فإ َّن لغة التراث هي مرجع مهم في بناء معجم معاصر‬ ‫لمصطلحات العلوم التربوية‪.‬‬ ‫‪ .5‬أداء وظيفة تعليمية؛ فالعقل الإنساني في مراحل التاريخ جميعها حرص على بناء‬ ‫صورة للأشياء والأحداث‪ ،‬وما كانت تعنيه من أفكار؛ لذا ُت ْبنى المتاحف التي‬ ‫تعرض بعض تج ِّليات التراث من مقتنيات المكتوب بأنواعه وأدواته‪ ،‬والمنحوت‬ ‫بمج َّسماته‪ ،‬والمرسوم بأشكاله وألوانه‪ ،‬والملبوس بمواده وأنواعه‪ .‬وقد أصبحت‬ ‫هذه المتاحف من الأماكن المهمة التي يرتادها الباحثون وال ُمتع ِّلمون‪.‬‬ ‫‪ .6‬أداء وظيفة حضارية تجديدية؛ فالتراث التربوي الإسلامي كان ينطلق ويهتدي‬ ‫بمبادئ الإسلام التي تجعل الاجتهاد في تطوير الحياة والتجديد في وسائلها فريضة‬ ‫ماضية‪ ،‬و ُسنَّة م َّت َبعة‪ .‬والتراث يكشف عن المستوى الذي َتح َّقق من ذلك الاجتهاد‬ ‫والتجديد‪ ،‬ويعطي الجيل المعاصر درس ًا في توظيف هذه الخبرة التاريخية‪ ،‬في‬ ‫مواصلة التجديد والإبداع‪ ،‬ف َت ْبني على المفيد‪ ،‬وتستدرك على القصور‪.‬‬ ‫وم ّما يلفت النظر أ َّن كثير ًا من مادة التراث التربوي الإسلامي كانت تدور حول‬ ‫مفاهيم مركزية ثلاثة‪ ،‬تم ِّثل أركان العملية التربوية قديم ًا وحديث ًا‪ ،‬وما لك ٍّل منها من فضل‬ ‫ومنزلة‪ ،‬وهذه المفاهيم هي‪ :‬العلم‪ ،‬والتع ُّلم‪ ،‬والتعليم‪ .‬ور َّبما يكون سبب ذلك هو كثرة‬ ‫‪269‬‬

‫التنويه بهذه المفاهيم في القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية‪ .‬وقد استوعبت الأجيال الأُولى من‬ ‫تاريخ الأُ َّمة الإسلامية قيمة هذا التنويه‪ ،‬فانتقلت بالأُ َّمة من حالة الأُ ِم َّية التي ا َّتصف بها‬ ‫معظم العرب إلى ُأ َّمة القراءة والكتابة والإنجاز العلمي والحضاري في سائر الميادين‪.‬‬ ‫بيد أ َّن هذا الانتقال لم يكن َم َّر ًة واحد ًة‪ ،‬وإ َّنما حصل عن طريق الفهم النامي المتط ِّور‬ ‫بالممارسة العملية‪.‬‬ ‫رابع ًا‪ :‬أمثلة على طريقة توظيف مادة التراث في قضايا تربوية معاصرة‪:‬‬ ‫اخترنا في مقام آخر سبع َة أمثل ٍة على قضايا في التراث التربوي الإسلامي؛ لبيان‬ ‫أهمية دراستها‪ ،‬وفهم موقعها في الخبرة التربوية الإسلامية عبر التاريخ‪ ،‬وكيف يمكن أ ْن‬ ‫تنعكس نتائج هذه الدراسة على ممارستنا التربوية المعاصرة‪ .‬وكانت هذه القضايا هي‪:‬‬ ‫مكانة ال ُمع ِّلم في التراث التربوي الإسلامي‪ ،‬والمناهج التعليمية في التراث الإسلامي‪،‬‬ ‫وطرق التدريس في التراث التربوي الإسلامي‪ ،‬والأدب والتأديب في التراث الإسلامي‪،‬‬ ‫وأماكن التعليم في التراث التربوي الإسلامي‪ ،‬والأوقاف التعليمية في التراث الإسلامي‪،‬‬ ‫وإجازات التعليم في التراث الإسلامي‪.‬‬ ‫ونجد أ َّن من المفيد أ ْن يستحضر القارئ لهذا الجزء من الفصل ما أثبتناه هناك من‬ ‫بيان‪ .‬ونكتفي في مقامنا هذا بالإشارة إلى ِمثال ْين م ّما َيلزم التدقيق في الحالة التي يكشف‬ ‫عنها التراث التربوي الإسلامي في هذين المثالين‪ ،‬والطريقة التي َيلزم أ ْن نتعامل بها مع‬ ‫التراث الخاص بك ٍّل منهما‪ ،‬في حياتنا التربوية المعاصرة‪ .‬وهذان المثالان هما‪ :‬إلزامية‬ ‫التعليم‪ ،‬ومكانة ال ُمع ِّلم‪.‬‬ ‫‪ .1‬إلزامية التعليم‪:‬‬ ‫نحن نفهم مبدأ إلزامية التعليم اليوم على أ َّنه ضرورة حضارية يفرضها الشرع والقانون‬ ‫بقطع النظر عن توظيف خبرات التراث التربوي الإسلامي في طريقه فهم هذا المبدأ أو‬ ‫ممارسته في مرحلة معينة‪ .‬فمن الواضح من خبرات التراث أ َّن علماء المسلمين فهموا من‬ ‫نصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية مبدأ فرضية التعليم على كل مسلم‪ ،‬وإلزامية الوالدين‬ ‫بتوفير ُفرص التعليم لأبنائهم‪ .‬وقد عمل بعض الخلفاء والأمراء على تطبيق هذه الإلزامية‬ ‫‪270‬‬

‫في ولاياتهم‪ ،‬بما في ذلك إرسال ال ُمع ِّلمين‪ ،‬وتوفير حاجاتهم المالية للتف ُّرغ لمهنة التعليم‪،‬‬ ‫وتوفير متط َّلبات الحياة الكريمة للطلبة المتف ِّرغين للتعليم؛ من‪ :‬سكن‪ ،‬وطعام‪ ،‬وكساء‪.‬‬ ‫ولك َّن بعض هؤلاء العلماء فهموا من مبدأ فرضية التعليم وإلزاميته مسؤولية الوالدين‪،‬‬ ‫وليس الحاكم‪ .‬ومسؤولية الوالدين إ َّنما تتح َّقق رغب ًة في ثواب الله سبحانه‪ ،‬وخوف ًا من‬ ‫عقابه‪ .‬وللحاكم أ ْن يجتهد في تنفيذ هذا المبدأ‪ ،‬وتكون مسؤولية ال ُمتع ِّلمين وال ُمع ِّلمين‬ ‫وأولياء الأمور في التنفيذ من باب طاعة ولي الأمر‪ ،‬وهي كذلك مسألة شرعية‪.‬‬ ‫إ َّن مبدأ إلزامية التعليم يتصل بكثير من قضايا العمل التربوي والتعليم في المجتمع‪.‬‬ ‫وكل هذه القضايا كانت ُتف َهم بطرق مختلفة‪ ،‬وتط َّور فهم الأجيال لها بالممارسة العملية؛‬ ‫فمسؤولية الدولة عن تعميم التعليم ومحو الأمية‪ ،‬والحق في التعليم‪ ،‬وقبول الأجر على‬ ‫التعليم‪ ،‬وترتيب مواد التعليم‪ ،‬وتحديد المشروع من أساليب التأديب وضبط السلوك‪،‬‬ ‫ونظام الإجازات‪ ،‬وغير ذلك؛ كان يخضع لاجتهادات متفاوتة‪ ،‬واحتاج الأمر إلى بعض‬ ‫التط ُّور حتى تستقر بعض المبادئ العامة التي تحكم الممارسات العملية في التعليم‪.‬‬ ‫وإذا كان مبدأ إلزامية تعليم أبناء الأُ َّمة‪ ،‬والمسؤولية عن هذا التعليم قد ورد في‬ ‫نصوص التراث التربوي الإسلامي‪ ،‬فهل كانت الدولة َم ْعنِ َّي ًة بتطبيق ذلك أم اقتصر الأمر‬ ‫على أولياء أمور الأبناء في تح ُّمل المسؤولية؟ والظاهر أ َّن هذا الأمر لم يكن محسوم ًا‪،‬‬ ‫وأ َّن صور التعامل مع الموضوع اختلفت باختلاف القيادات والظروف؛ فإ َّن روح الإسلام‬ ‫ومقاصده تجعل إلزامية التعليم في المجتمعات الإسلامية المعاصرة مبد ًأ أساسي ًا يتط َّلب‬ ‫وضع التشريعات القانونية اللازمة لتطبيقه‪ .‬ونستطيع أ ْن نعتمد في فهمنا لهذا المبدأ‬ ‫والالتزام بتطبيقه على ثلاثة مصادر؛ الأول‪ :‬الاستلهام المعاصر لنصوص القرآن الكريم‬ ‫وال ُّسنة النبوية‪ ،‬والثاني‪ :‬توظيف الأفكار الح َّية لبعض الممارسات التعليمية في التراث‬ ‫الإسلامي‪ ،‬والثالث‪ :‬توظيف الخبرات التربوية والتعليمية المعاصرة الكفيلة بتحقيق‬ ‫مصالح الأُ َّمة‪ ،‬والتعامل الحكيم مع مستجدات الزمان والمكان والأحوال‪(((.‬‬ ‫((( َث َّمة بحو ٌث كثيرة تناولت مسائل مح َّددة من علوم التربية والتعليم‪ ،‬جمعت بين ما قد يخت ُّص بكل مسألة من نصوص‬ ‫القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية والتراث الإسلامي‪ .‬ومن ذلك على سبيل المثال مسألة التعليم الإلزامي‪ .‬انظر في ذلك‪:‬‬ ‫‪ -‬العلي‪ ،‬صالح‪\" .‬التعليم الإلزامي في القرآن والسنة وفقه الأئمة\"‪ ،‬مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية‬ ‫والقانونية‪ ،‬مجلد (‪ ،)22‬العدد (‪2006 ،)2‬م‪ ،‬ص‪.465-459‬‬ ‫‪271‬‬

‫‪ .2‬مكانة ال ُمع ِّلم‪:‬‬ ‫من المناسب أ ْن نلاحظ أ َّن مكانة ال ُمع ِّلم في التراث الإسلامي قد ارتبطت بمكانة‬ ‫العالِم الذي كان محور الحركة العلمية والتعليمية في المجتمع الإسلامي‪ .‬ولفظ \"العالِم\"‬ ‫في هذا التراث كان ُيستع َمل لوصف الشخصيات التي أنجزت أعمالاً ُمق َّدر ًة في مجالات‬ ‫العلوم المختلفة؛ من‪ :‬حديث‪ ،‬وفقه‪ ،‬وتفسير‪ ،‬وحتى من‪ :‬طب‪ ،‬وفلسفة‪ ،‬ورياضيات‪،‬‬ ‫وفلك‪ ،‬أو غيرها‪ .‬فكل هؤلاء علماء‪ ،‬ومعظمهم جمع بين أكثر من ِع ْلم‪ .‬ولك َّن معظم‬ ‫هؤلاء العلماء كانوا ُمع ِّلمين‪َ ،‬ير َح ُل طلبة العلم إلى أماكن وجودهم؛ لنيل شرف التتلمذ‬ ‫عليهم‪ ،‬حتى يرتبط اسم التلميذ باسم أستاذه‪ .‬ولذلك نجد في ترجمة حياة أ ِّي عالِم فقر ًة‬ ‫مهم ًة عن أساتذته الذين أخذ العلم عنهم‪ ،‬وفقر ًة مهم ًة ُأخرى عن أسماء تلاميذه‪ .‬ومثل‬ ‫ذلك عندما يكون العالِم مح ِّدث ًا متخ ِّصص ًا في رواية الحديث‪ ،‬فيصدق أ ْن يكون الكلام عن‬ ‫المح ِّدث كلام ًا عن ال ُمع ِّلم‪(((.‬‬ ‫وبالنظر إلى ما نعرفه ع ّما يمكن تسميته المدارس التربوية؛ الفقهية‪ ،‬والفلسفية‪،‬‬ ‫والصوفية‪ ،... (((،‬فإ َّن الشيخ في المدرسة الصوفية ‪-‬مث ًلا‪ -‬هو ال ُمك َّلف بتأديب المريدين‬ ‫وتعليمهم وتربيتهم‪ .‬قال الغزالي في ذلك‪\" :‬وأ ّما التأديب فإ ّنما نعني به أ ْن ُي َر ِّوض غيره‪،‬‬ ‫وهو حال شيخ الصوفية معهم؛ فإ َّنه لا يقدر على تهذيبهم إلا بمخالطتهم‪ ،‬وحا ُله حا ُل‬ ‫ال ُمع ِّلم وحك ُمه‪(((\".‬‬ ‫لقد انطلق التراث التربوي الإسلامي من نصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية فيما‬ ‫يخ ُّص مكانة ال ُمع ِّلم؛ إذ تح َّدث القرآن الكريم عن النبي ﷺ بوصفه ُمع ِّلم ًا‪ ،‬وأ َّنه ﷺ وصف‬ ‫نفسه بأ َّنه ُمع ِّلم‪ ،‬وأ َّن الصحابة كانوا يقولون‪ :‬ما رأينا ُمع ِّلم ًا ق ُّط أرفق من رسول الله ﷺ‪.‬‬ ‫((( كتب التراث التي تح َّدثت عن أدب العالِم وال ُمع ِّلم وال ُمتع ِّلم كثيرة‪ ،‬ولا سيما في مجال رواية الحديث النبوي‬ ‫وإملائه وتعليمه‪ ،‬وما ورد في أدب الراوي وال ُم ْملي وال ُمح ِّدث‪ ،‬م َّمن يكون في موقف التعليم‪ .‬فال ُمع ِّلم هنا هو‬ ‫ال ُمح ِّدث كما في كتاب الخطيب البغدادي \"الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع\"‪ ،‬وفي كتاب \"أدب الإملاء‬ ‫والاستملاء\" للسمعاني‪ ،‬وغيرهما‪.‬‬ ‫((( ملكاوي‪ ،‬التراث التربوي الإسلامي‪ :‬حالة البحث فيه‪ ،‬ولمحات من تطوره‪ ،‬وقطوف من نصوصه ومدارسه‪،‬‬ ‫مرجع سابق‪ ،‬الفصل الرابع‪ :‬مدارس التراث التربوي الإسلامي‪ ،‬ص‪.334-251‬‬ ‫((( الغزالي‪ ،‬أبو حامد محمد بن محمد (توفي‪505 :‬ﻫ)‪ .‬إحياء علوم الدين‪ ،‬اعتنى به وضبطه وراجعه‪ :‬القاضي‬ ‫محمد الدالي بلطة‪ ،‬بيروت‪ :‬المكتبة العصرية‪ ،‬ط‪2004 ،1‬م‪ ،‬المجلد الأول‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.324‬‬ ‫‪272‬‬

‫ونصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية التي ُتعلي من شأن ال ُمع ِّلم و ُتن ِّوه بمكانته الرفيعة‬ ‫نصو ٌص كثيرة‪ .‬وعلى ذلك درج اهتمام التراث فيما نجده فيه من إعلاء شأن العلم وتقدير‬ ‫العلماء‪ ،‬وتأكيد أ َّن الناس بين ُمع ِّلم و ُمتع ِّلم‪ .‬ونجد كذلك في مادة التراث ما َي ُع ُّد المكانة‬ ‫العالية للعالِم وال ُمع ِّلم حقيق ًة من حقائق الفطرة الإنسانية‪ ،‬وحقائق الواقع الاجتماعي‬ ‫للبشر من كل ِم َّلة‪ ،‬وفي كل حضارة‪ ،‬وعلى ألسنة الفلاسفة والحكماء من سائر الأمم‪.‬‬ ‫وعرف التاريخ البشري ُمع ِّلمين في كل علم أو صناعة‪ ،‬وقد أشار إلى ذلك ابن خلدون‬ ‫بقوله‪\" :‬ولهذا كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة إلى مشاهير ال ُمع ِّلمين فيها‬ ‫معتبر ًا عند كل أهل أفق وجيل‪(((\".‬‬ ‫وإذا كان ذلك هو القاعدة العامة في رؤية التراث لمكانة ال ُمع ِّلم‪ ،‬فإ َّننا نجد في التراث‬ ‫التربوي الإسلامي ما يش ُّذ عن هذه القاعدة‪ ،‬حين تتح َّدث عن حالات لم يح َظ فيها ال ُمع ِّلم‬ ‫بتلك المكانة الرفيعة‪ .‬وتلك الحالات وأسباب الوصول إليها تم ِّثل موضوع ًا مهم ًا للبحث‬ ‫والدراسة؛ فهل دخل ميدان العلم والتعليم َمن ليس أهل ًا له‪ ،‬ففقد هؤلاء الداخلون المكانة‬ ‫العالية من التقدير والتبجيل أم أ َّن المسألة تخت ُّص بقطاع مح َّدد من التعليم له ظروفه الخاصة؟‬ ‫لقد ا َّتسعت رقعة البلاد التي دخلها الإسلام‪ ،‬بما كان فيه من دعوة إلى العلم والتع ُّلم‬ ‫والتعليم في سائر الميادين‪ ،‬فكان لا ُب َّد من إنشاء مؤسسات التعليم بمختلف أنواعها‬ ‫ومستوياتها‪ ،‬وقيام ُمع ِّلمين لأداء مهمة التعليم فيها‪ .‬ويبدو أ َّن ذلك كان يتم في بعض‬ ‫الأماكن من دون خطة معتمدة‪ ،‬ومن دون توافر المكان المناسب وال ُمع ِّلم ال ُمؤ َّهل‪،‬‬ ‫فكانت المؤسسة ‪-‬وكذلك ال ُمع ِّلم‪ -‬دون المستوى المادي والعلمي والأخلاقي الذي‬ ‫يليق بكرامة العلم وال ُمع ِّلم والتعليم‪ .‬ونجد في بعض نصوص التراث حالات استدعت‬ ‫مكانة ال ُمع ِّلم العالية أ ْن ُيعفى من مسؤوليات ُأخرى‪ ،‬مثل‪ :‬مسؤولية الجهاد‪ ،‬والمرابطة‬ ‫على الثغور‪ ،‬فلجأ بعض الجبناء وساقطو المروءة إلى ذريعة التعليم؛ لذا وجدنا من‬ ‫نصوص التراث ما يصف الحالة المتردية للتعليم‪ ،‬ويتح َّدث عن ال ُمع ِّلم بوصفه مضرب‬ ‫المثل في الحمق والغباء‪ ،‬لا سيما أ َّن ال ُمع ِّلم ‪-‬في مثل هذه الحالات‪ -‬كان لا يتل ّقى من‬ ‫الأجر على التعليم إلا القليل‪ ،‬فيضطر إلى استعمال أساليب من التعامل مع ال ُمتع ِّلمين‬ ‫وأولياء أمورهم‪ ،‬تتس َّبب في إسقاط كرامته في نفسه وعند الناس‪.‬‬ ‫((( ابن خلدون‪ ،‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.925‬‬ ‫‪273‬‬

‫ومن المهم ملاحظة أ َّن هذه الحالات كانت تخت ُّص غالب ًا بالتعليم في مرحلة‬ ‫ال ُك ّتاب‪ ،‬حيث يتك َّيف فيها مثل هؤلاء ال ُمع ِّلمين مع مستوى الصبيان في هزلهم و َج ِّدهم‪.‬‬ ‫وأهمية هذه الملاحظة تأتي من أهمية هذه المرحلة في التعليم؛ فهي مرحلة الطفولة عند‬ ‫ال ُمتع ِّلمين‪ ،‬ومرحلة التعليم الأساسي في الدين واللغة‪ ،‬والتأديب في المهارات الحياتية‪،‬‬ ‫والتنشئة على أخلاق المجتمع وعاداته وقيمه‪ ...‬ويكون فيها عدد الأطفال كبير ًا‪ ،‬م ّما‬ ‫يستدعي توفير عدد كبير من ال ُمع ِّلمين‪ .‬ث َّم إ َّن التربية الجيدة في هذه المرحلة هي إعدا ٌد‬ ‫لكل ما يأتي بعدها من تربية وتعليم وممارسة للحياة الاجتماعية ومتط َّلباتها‪.‬‬ ‫ومن الخطورة بمكان أ ْن ُيت َرك التعليم في هذه المرحلة لما تي َّسر من الإمكانات لدى‬ ‫أولياء الأمور في كل بيئة‪ ،‬من دون تخطيط وإشراف من الإدارة المحلية أو المركزية‪ ،‬لا‬ ‫سيما إذا أخذنا بالحسبان مبدأ إلزامية التعليم التي لا نشك في مشروعيتها‪ ،‬وأهمية تطبيق‬ ‫هذا المبدأ على جميع أبناء الأُ َّمة؛ لتحقيق المحو الكامل لل ُأ ِّمية‪ ،‬في المراحل المبكرة من‬ ‫حياة الأبناء‪ ،‬ولتحقيق التعليم المناسب لما ُي َع ُّد من فروض العين وفروض الكفاية‪.‬‬ ‫إ َّن ما و َّثقه التراث الإسلامي عن ظاهرة تدهور مكانة ال ُمع ِّلم في نفسه وصورته في‬ ‫المجتمع ر َّبما يخت ُّص بال ُك ّتاب و ُمع ِّلم الصبيان‪ ،‬لا العلماء المتخ ِّصصين الذين نبغ ك ٌّل منهم‬ ‫في علم معين‪ ،‬وتم َّيزوا بكتاباتهم العلمية المتخ ِّصصة؛ فمثل هؤلاء كانوا يتط َّوعون لتقديم‬ ‫العلم في المساجد‪ ،‬أو في بيوتهم‪ .‬وقد وجدنا أ َّن بعض المدارس كان يبنيها العالِم بنفسه‪،‬‬ ‫أو أ َّنها ُت ْبنى له باسمه‪ ،‬مع ما َيلزمها من أوقاف دا َّرة تحفظ للعالِم ال ُمع ِّلم مكانته وكرامته‪.‬‬ ‫أ ّما في حالة ُمع ِّلمي الصبيان‪ ،‬فإ َّن ما ورد من الح ِّط من كرامتهم في بعض الأحيان‬ ‫إ َّنما يخت ُّص بما ُع ِرف عن بعضهم من ق َّلة العلم‪ ،‬والكسل‪ ،‬وضعف المروءة‪ .‬ور َّبما كان‬ ‫بعضها يخت ُّص بالتقصير في توفير المستوى الكريم لحياة ال ُمع ِّلم‪ ،‬فتضاءلت منزلته في‬ ‫نفسه‪ ،‬و ِم ْن َث َّم لم تعد نظرة المجتمع إليه أمر ًا مهم ًا؛ \"ف َمن يهن يسهل الهوان عليه‪ \".‬ور َّبما‬ ‫كان بعض هذه الأسباب يخت ُّص بالقصور في أداء المحتسب لمهمته في الرقابة على‬ ‫التعليم وال ُمع ِّلمين‪ ،‬وضعف كفاءة المؤسسات التي تن ِّظم شؤون التعليم‪.‬‬ ‫ونحن ندرك اليوم أ َّن توفير البرامج المناسبة لإعداد ال ُمع ِّلمين وال ُمر ّبين لمرحلة‬ ‫الطفولة لا يقل أهمية عن البرامج اللازمة للمراحل الأُخرى‪ ،‬بل إ َّن ما يحتاج إليه ال ُمع ِّلم‬ ‫‪274‬‬

‫في مرحلة الطفولة من تأهيل نفسي وعلمي وعملي‪ ،‬وما َيلزمه من عناية وتكريم‪ ،‬وما َيلزم‬ ‫مؤسسات التعليم في هذه المرحلة من تخطيط وإشراف وتوجيه؛ يفوق ما َيلزم من ذلك في‬ ‫المراحل الأُخرى‪.‬‬ ‫وهكذا أشرنا إلى عدد من الوظائف التي يمكن للتراث التربوي الإسلامي أ ْن يؤديها‪،‬‬ ‫وبها يكون مصدر ًا للفكر التربوي الإسلامي المعاصر‪ .‬وكان من الواضح أ َّن الفكر التربوي‬ ‫الذي ق َّدمه علماء المسلمين في كتاباتهم وممارساتهم‪ ،‬منذ عهد التدوين إلى ما قبل تأ ُّثر‬ ‫المجتمعات الإسلامية بالغرب الحديث‪ ،‬كان يستند ُج ُّله إلى نصوص القرآن الكريم وال ُّسنة‬ ‫النبوية‪ ،‬و ِم ْن َث َّم ُي َع ُّد ذلك الفكر ‪-‬الذي أصبح لنا تراث ًا تربوي ًا‪ -‬تجرب ًة تاريخي ًة في فهم تلك‬ ‫النصوص والتطبيق العملي لها‪ .‬والتجربة التاريخية لا ُب َّد أ ْن تكون مفيدة بما كان فيها من‬ ‫الصواب والخطأ‪ .‬ففي التنزيل الحكيم من الوحي الإلهي والهدي النبوي على الواقع‬ ‫الموضوعي لحياة الناس‪ ،‬وما يتر َّتب على هذا التنزيل الحكيم من تحقيق مقاصد الدين‬ ‫ومصالح الناس‪ ،‬درو ٌس خاب وخسر َمن لم يسترشد بها‪ .‬ول ّما كان هذا التنزيل هو جهد‬ ‫بشري يتفاوت ح ُّظه من الصواب‪ ،‬وقد تنتابه حالات من القصور والخطأ‪ ،‬تؤدي إلى تعطيل‬ ‫المقاصد وتفويت المصالح‪ ،‬فإ َّن من الحكمة أ ْن نتب َّين هذه الحالات‪ ،‬ونعمل على تجنُّبها‪.‬‬ ‫وحين نتب َّين المشكلات التي أشار إليها التراث التربوي الإسلامي‪ ،‬وما أ ّدى إليه‬ ‫القصور والخطأ في الاهتداء بالقرآن الكريم وال ُّسنة النبوية‪ ،‬فإ َّننا نحمد لهذا التراث أ ْن‬ ‫ن َّبهنا إلى ذلك؛ حتى لا نك ِّرر هذا القصور والخطأ‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فقد نجد أحيان ًا أ َّن مادة‬ ‫التراث لم ُت ِش ْر بوضوح إلى القصور والخطأ؛ لأ َّن وظيفة النص التراثي اقتصرت على‬ ‫وصف ما كان سائد ًا من الممارسات التربوية والتعليمية في الزمان والمكان‪ ،‬ويبقى لنا‬ ‫نحن اليوم‪ ،‬ول َمن يأتي بعدنا غد ًا ممارسة التحليل والتقويم لتلك النصوص التراثية؛‬ ‫للكشف ع ّما يكون قد رافقها من مشكلات‪ ،‬وما يكون قد نتج عنها من أثر سلبي في حالة‬ ‫المجتمع المسلم يومذاك‪.‬‬ ‫وبذلك نصل إلى القول إ َّنه ليس َث َّمة ش ٌّك في ضرورة الاستفادة من التراث التربوي‬ ‫الإسلامي؛ لنأخذ منه جوانب الحكمة في منهج تنزيل الوحي الإلهي والهدي النبوي‬ ‫على حالة المجتمع الإسلامي ومستجداته‪ ،‬وما ح َّققه هذا التنزيل من مقاصد ومصالح‪،‬‬ ‫والاعتبار بما يكون قد رافق ذلك من النقص والعجز والقصور‪.‬‬ ‫‪275‬‬

‫المبحث الرابع‬ ‫الخبرة التربوية المعاصرة مصدر ًا للفكر التربوي الإسلامي المعاصر‬ ‫عالجنا في المباحث الثلاثة السابقة من هذا الفصل‪ ،‬بقد ٍر كبي ٍر من الاختصار‪ ،‬ثلاث ًة‬ ‫من مصادر الفكر التربوي المعاصر‪ :‬القرآن الكريم‪ ،‬وال ُّسنة النبوية‪ ،‬والتراث الإسلامي‪.‬‬ ‫وحان الوق ُت لنتح َّدث بإيجا ٍز شدي ٍد كذلك عن مصد ٍر رابع‪ ،‬هو الخبرة البشرية المعاصرة‪.‬‬ ‫لقد كان التراث الإسلامي خبرة الأجيال التي أنتجت ذلك التراث؛ خبرتها في تنزيل‬ ‫أحكام الإسلام‪ ،‬والسعي إلى تحقيق مقاصده على أحوال تلك الأجيال وظروف زمانهم‬ ‫ومكانهم‪ .‬و ِم ْن َث َّم‪ ،‬فإ َّن التراث التربوي الإسلامي هو خبرة ذلك التنزيل‪.‬‬ ‫ونحن إذ نستحضر هذه الخبرة في زماننا هذا‪ ،‬فإ َّننا نواصل بناء خبرتنا المعاصرة في‬ ‫تحقيق مقاصد الإسلام وأحكامه التربوية‪ ،‬وتنزيلها على زماننا‪ .‬ولك َّن الأُ َّمة الإسلامية‬ ‫تو َّقفت عن الاستمرار في بناء هذه الخبرة في القرون الثلاثة الأخيرة‪ ،‬في حين أدت‬ ‫التط ُّورات المتلاحقة التي ح َّققتها مجتمعات ُأخرى إلى بناء خبرات تربوية تو ِّفر لها الشيوع‬ ‫والانتشار حتى في المجتمعات الإسلامية التي كانت تعاني الضعف والجمود والاستعمار‪.‬‬ ‫ومجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة تجد نفسها اليوم ‪-‬في حالتها التربوية‪ -‬وجه ًا لوجه‬ ‫مع الخبرات البشرية المعاصرة في مجال التربية‪ ،‬فهل تكون هذه الخبرة التربوية المعاصرة‬ ‫جزء ًا من التح ِّديات القائمة التي لا ُب َّد من مواجهتها‪ ،‬وفي الوقت نفسه‪ ،‬جزء ًا من ال ُفرص‬ ‫المتاحة التي لا ُب َّد أ ْن تستثمرها؟‬ ‫أولاً‪ :‬ما نعنيه بالخبرات التربوية المعاصرة‪:‬‬ ‫يأتي موضوع \"الخبرة\" في الفكر التربوي في عدد من المجالات‪ ،‬منها ما يكون‬ ‫في مجال \"التربية بالخبرة\"؛ أي أن الخبرة هنا هي أسلوب من أساليب التعليم‪(((.‬‬ ‫ولكننا بالخبرات في هذا المقام المعرفة التي يكتسب الفر ُد أو المجتمع خبرها‪ ،‬فيصبح‬ ‫موضوعها معروف ًا على الحقيقة‪ ،‬وهي ناتجة عن التعامل المباشر مع الأشياء والأحداث‬ ‫((( بني يونس‪ ،‬أسماء‪ .‬والشريفين‪ ،‬عماد‪\" .‬التربية بالخبرة وموقعها في التربية الإسلامية\"‪ ،‬دراسات (علوم الشريعة‬ ‫والقانون) تصدرها الجامعة الأردنية‪ ،‬مجلد (‪ ،)41‬ملحق (‪2014 ،)2‬م‪ ،‬ص ‪.853-836‬‬ ‫‪276‬‬

‫والأشخاص‪ ،‬وما يكون فيها من تجربة عملية‪ ،‬يتح َّدد في ضوئها سلو ُك الفرد أو المجتمع‪.‬‬ ‫فالخبر ُة فكر ٌة‪ ،‬أو معرف ٌة نظري ٌة‪ ،‬وسلو ٌك عمل ٌّي‪ .‬والمرو ُر بالخبرة َيلزمه إعمال العقل‬ ‫وتوظيف الحواس‪ ،‬ويكون أثرها في سلوك مح َّدد يستند إلى هذه الخبرة؛ فالخبرة في‬ ‫نهاية المطاف عل ٌم وعم ٌل‪.‬‬ ‫والخبرات التربوية هي مجمل عناصر العلم التي يتع َّلمها ال ُمتع ِّلم من حقائق ومفاهيم‬ ‫ومبادئ ونظريات تخت ُّص بموضوع العلم‪ ،‬والأثر الناتج عن عملية التعليم والتع ُّلم الذي‬ ‫نلاحظه في السلوك العملي لل ُمتع ِّلمين‪ ،‬وفي حالة المجتمع‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإ َّن الخبرة التربوية‬ ‫تتصف بالواقع الـ ُمش َّخص‪ ،‬والسلوك الـ ُم َح ِّس‪.‬‬ ‫والخبرة البشرية المعاصرة في مجال التربية تشمل خبرة المجتمع في بلدان العا َلم‪.‬‬ ‫وبعض هذه الخبرات أصبحت معولمة‪ ،‬بحيث نجدها في معظم مجتمعات العا َلم‪ ،‬وفي‬ ‫الوقت نفسه نجد اختلاف ًا وتن ُّوع ًا في هذه الخبرات‪ ،‬وكلها خبرات متاحة للنظر والتب ُّصر‬ ‫والتقويم‪ .‬وما هو مشترك وما هو مختلف من هذه الخبرات إ َّنما وصلت إليه المجتمعات‬ ‫من خلال مبادئ فكرية تط َّورت عن طريق التجربة والممارسة‪ .‬وبعض هذه المبادئ وصل‬ ‫إلى درجة من الاستقرار‪ ،‬وبعضها لا يزال يتط َّور ويتغ َّير‪ ،‬ور َّبما سيستمر في التط ُّور والتغ ُّير‪.‬‬ ‫فإذا كنّا نعرف بعض المبادئ التي تتصف بالاستقرار والثبات في توجيه الممارسات‬ ‫لتحقيق مقاصد مح َّددة‪ ،‬فإ َّن ال ُّسنة الماضية في الإجراءات والوسائل هي التط ُّور والتغ ُّير‪.‬‬ ‫وتتض َّمن الخبرة التربوية المعاصرة مجمل الفلسفات والنُّ ُظم والمبادئ التربوية‬ ‫التي تشيع في معظم بلدان العا َلم اليوم‪ ،‬والممارسات التي تقوم عليها‪ .‬فبالرغم من‬ ‫الاختلافات الكثيرة في الفلسفات والممارسات التربوية التي نشهدها في دول العا َلم‬ ‫اليوم‪ ،‬فإ َّن العناصر المشتركة بينها ر َّبما تكون أكثر أهمية من صور الاختلاف‪ ،‬وأعمق أثر ًا‬ ‫في التعبير عن الحالة التربوية في العا َلم؛ فقد تر َّسخت بعض المبادئ التربوية التي لا تكاد‬ ‫تجد َمن يخالفها على الصعيد الفكري‪ ،‬حتى لو ق َّصرت بعض المجتمعات في تنفيذها‬ ‫على صعيد الممارسة؛ لعجزها عن توفير متط َّلباتها العملية‪.‬‬ ‫‪277‬‬

‫وفيما يخ ُّص الحديث عن مبادئ الفكر التربوي الإسلامي اليوم‪ ،‬فإ َّننا نلجأ إلى‬ ‫التدليل عليها بنصوص من القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية‪ ،‬وصور من التطبيق العملي‬ ‫لهذه النصوص من التراث الإسلامي‪ ،‬ولكنَّنا ‪-‬في حقيقة الأمر‪ -‬نستند إلى ما عرفناه في‬ ‫خبراتنا التربوية المعاصرة؛ سواء عن وعي منّا بذلك‪ ،‬أو دون وعي‪ .‬فمبادئ الفكر التربوي‬ ‫الإسلامي التي نتح َّدث عنها كانت مقاصد يهدف الإسلام إلى تحقيقها‪ ،‬وكان يتح َّقق من‬ ‫هذه المقاصد في الأزمان المتتالية مستويات معينة‪ ،‬بقدر ما يتوافر له من إمكانات المجتمع‬ ‫الإسلامي‪ ،‬ويكتسبه من خبرة فيما يمارسه في داخله‪ ،‬أو فيما يراه من صور الممارسات في‬ ‫المجتمعات الأُخرى‪ .‬والخبرة التربوية المعاصرة تكشف لنا اليوم عن نماذج عملية لتلك‬ ‫المقاصد‪ ،‬نراها في بعض جوانبها أكثر نضج ًا وأقرب إلى دلالات نصوص الدين الأصلية‪.‬‬ ‫إ َّننا نرى أ َّنه لا حرج علينا أ ْن ُنعيد تفسير النصوص وفق ما تكشف عنه تط ُّورات الحياة‬ ‫البشرية‪ ،‬ور َّبما يكون ذلك من صور التجديد في فهم الأُ َّمة لدينها‪ .‬وكذلك فإ َّننا لا نج ُد‬ ‫حرج ًا في الاستعانة بما نجده صالح ًا مفيد ًا لدى الأمم الأُخرى من الاكتشافات في الأفكار‬ ‫والمناهج والتيسيرات المادية‪ ،‬ولكنَّنا نختار ونتخ َّير بوع ٍي وبصير ٍة‪ ،‬وليس ك َمن يحتطب بلي ٍل‪،‬‬ ‫بل نمارس في ذلك منهج ًا تحليلي ًا نقدي ًا يم ِّيز بين النافع والضا ِّر‪ ،‬والمناسب وغير المناسب‪.‬‬ ‫ونو ُّد أ ْن يكون واضح ًا في مسألة الاستفادة من الخبرة التربوية المتاحة لدى‬ ‫المجتمعات الأُخرى‪ ،‬أ َّنها ليست كالاستفادة من الخبرات الخاصة في مجالات الصناعات‬ ‫المادية‪ ،‬التي يمكن لأ ِّي مجتمع أ ْن يو ِّظفها لغاياته ومقاصده؛ فاستيراد الخبرة في العلوم‬ ‫التربوية‪ ،‬ومثلها كذلك في علوم الاجتماع‪ ،‬والنفس‪ ،‬والاقتصاد‪ ،‬وغيرها من العلوم‬ ‫الاجتماعية والإنسانية‪ ،‬يحتاج إلى حذر شديد؛ إذ لا مناص من أ ْن نكون نحن أصحاب‬ ‫القرار فيما نأخذ ون َدع‪ ،‬لا الخبير الأجنبي الذي يدير ويم ِّول نقل تجاربه إلى مجتمعاتنا‪،‬‬ ‫ويحرمنا بشروطه من التمييز بين البدائل الممكنة للإصلاح والتطوير‪ ،‬ويع ِّطل الطاقة‬ ‫الفكرية لعقولنا‪ ،‬لتقع مجتمعاتنا ‪-‬في نهاية المطاف‪ -‬في حالة من التماهي والاستلاب‪.‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬الفكر التربوي والحالة الحضارية للمجتمع‪:‬‬ ‫إ َّن سعينا لبناء الفكر التربوي الإسلامي المعاصر يستهدف إصلاح مجتمعاتنا‬ ‫والنهوض ب ُأ َّمتنا التي تعاني حالة من التخ ُّلف‪ .‬والحكم على ُأ َّمة معينة بالتخ ُّلف‪ ،‬وحاجتها‬ ‫‪278‬‬

‫إلى النهوض مسألة نسبية؛ ففي حالة الأُ َّمة الإسلامية‪ ،‬يمكننا أ ْن نحكم على حالة تخ ُّلفها‬ ‫في ضوء ثلاثة معايير؛ الأول‪ :‬مستوى الرفعة والع َّزة والريادة التي أرادها الله لها‪ ،‬والثاني‪:‬‬ ‫ما كانت ‪-‬ولا تزال‪ -‬تتوافر عليه من إمكانيات النهوض‪ ،‬والثالث‪ :‬ما وصلت إليه كثير من‬ ‫الأمم الأُخرى من صور التق ُّدم الحضاري؛ مادي ًا ومعنوي ًا‪.‬‬ ‫ونحن في هذا السعي ننطلق من افتراض أ َّن الخلل في الفكر التربوي والممارسة‬ ‫التربوية أسهم ‪-‬إلى ح ٍّد كبي ٍر‪ -‬في الوصول إلى حالة التخ ُّلف؛ فقد ساد واق َع الأُ َّمة في‬ ‫القرون الثلاثة الأخيرة حال ٌة من التراجع والانغلاق في مفاهيم التعليم والتربية‪ ،‬وانتشرت‬ ‫الأُ ِّمية‪ ،‬وغابت الحرية‪ ،‬وفقدت الأُ َّمة بذلك ما كان يمكن للنظام التربوي أ ْن ي ْبنِيه فيها‬ ‫من عناصر الق َّوة‪ ،‬وروح التجديد‪ ،‬وحوافز الإبداع‪ .‬وقد حصل هذا كله في الوقت‬ ‫الذي كانت فيه أمم كثيرة ُأخرى تنطلق في ميادين الكشف والتصنيع والإبداع‪ ،‬وتمتلك‬ ‫أشكالاً جديد ًة من أسباب الق َّوة والتف ُّوق والغلبة‪ ،‬لم يكن بمقدور المجتمعات الإسلامية‬ ‫الاستفاد َة منها ِس ْلم ًا‪ ،‬ولا مواجه َتها ح ْرب ًا‪.‬‬ ‫ولك َّن ص َّحة ذلك الافتراض يبقى موضع تساؤل؛ فإلى أ ِّي مد ًى تعكس الحالة التربوية‬ ‫للمجتمع استعدا َده للنهوض‪ ،‬أو تقوده إلى التخ ُّلف؟ إ َّن الإجابة عن هذا السؤال تستدعي‬ ‫التأ ُّمل في طبيعة المجتمع البشري المعاصر‪ ،‬حيث تتداخل فيه الفعاليات المؤ ِّثرة فيه‬ ‫بصورة يصعب فيها الفصل الحاسم بين الآثار الخاصة بك ٍّل منها؛ فالفكر التربوي ‪-‬مثل ًا‪-‬‬ ‫ليس مستقل ًا عن واقع المجتمع بمؤ ِّثراته السياسية والاقتصادية والإعلامية وغيرها‪ .‬ور َّبما‬ ‫لم تكن هذه الصورة من التداخل ظاهرة في حقب تاريخية سابقة‪ .‬ويحتاج هذا التداخل‬ ‫إلى التحليل الدقيق المبني على الحقائق والوقائع العملية في مجتمعات العا َلم؛ لفهم‬ ‫طبيعة كل مؤ ِّثر‪ ،‬وحجم تأثيره‪ ،‬واتجاهه‪.‬‬ ‫ثالثا‪ :‬الإنسان هدف التربية ووسيلتها‪:‬‬ ‫شهد الحديث عن حالة المجتمع التربوية أفكار ًا معين ًة ُتن َسب عادة إلى العلوم‬ ‫الاجتماعية والنفسية والتربوية‪ ،‬ولك َّن بعض هذه الأفكار أصبحت شعارات تتر َّدد‬ ‫على ألسنة السياسيين والإعلاميين‪ ،‬منها على سبيل المثال‪\" :‬الإنسان هو هدف التربية‬ ‫ووسيلتها‪ \".‬و\"التربية هي الداء‪ ،‬وهي الدواء\"‪.‬‬ ‫‪279‬‬

‫ولا خلاف على أ َّن التربية هي وسيلة لتحقيق إنسانية الإنسان‪ ،‬وتمكينه من التح ُّرر‬ ‫من القيود التي يفرضها الجهل والعجز‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإ َّن أ َّي نجاح للتعليم َر ْه ٌن بتمكين‬ ‫ال ُمتع ِّلمين من اكتساب الوعي بذاتهم‪ ،‬وتط ُّلعهم إلى حمل الأمانة‪ .‬وقد نطق القرآن الكريم‬ ‫بهذه الحقيقة عندما أعلن عن تنصيب آدم خليف ًة في الأرض‪ ،‬ث َّم ع َّلمه الأسماء التي ُت ِعينه‬ ‫على القيام بهذه الأمانة‪ .‬ونطق القرآن الكريم بهذه الحقيقة كذلك عندما اختار الله سبحانه‬ ‫أ ْن يكون مبدأ الوحي إلى خاتم الأنبياء آيات القراءة والعلم والقلم‪.‬‬ ‫وفي الثقافة المعاصرة شاع القول بأ َّن التعليم هو الأداة التي يو ِّظفها المجتمع من‬ ‫أجل التنمية في مجالاتها المختلفة‪ :‬السياسية‪ ،‬والاقتصادية‪ ،‬والاجتماعية‪ ،‬وغيرها‪ .‬وبلغ‬ ‫شيوع هذا القول وشهرته ح ّد ًا لا يحتاج َمن يسمعه أو يقرأه إلى البحث عن مصدره‪ ،‬أو‬ ‫مصداقيته‪ .‬ولو بح ْث َت في الشابكة الإلكترونية (الإنترنت) عن عبارة بهذا المعنى‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫\"التعليم قاطرة التنمية\"‪ ،‬و\"التعليم قاطرة التقدم\"‪ ،‬لوجد َتها تتك َّرر بكثرة على ألسنة رجال‬ ‫الحكم والسياسة والمف ِّكرين والإعلاميين‪ ،‬فضل ًا عن التربويين؛ فهل يعني ذلك أ َّن التعليم‬ ‫هو الذي َي ْبني المجتمع ويش ِّكل ملامحه‪ ،‬أو أ َّن المجتمع هو الذي يفرض ما يريده من‬ ‫تعليم؟ ومن المؤ َّكد أ َّن هذا السؤال مهم في السعي إلى فهم العلاقة بين التعليم والسياسة‪.‬‬ ‫ولك َّن التعليم القائم في معظم المجتمعات المعاصرة ذو طبيعة سياسية واضحة؛‬ ‫فتحديد ُن ُظم التعليم‪ ،‬وإدارته‪ ،‬ومراحله‪ ،‬وأنواعه‪ ،‬وتمويله‪ ،‬حتى وإ ِن اعتمد على معطيات‬ ‫علمية ونفسية‪ ،‬فإ َّنه قرار سياسي‪ .‬وإ َّن اختيار مواد التعليم‪ ،‬ومناهج كل مادة‪ ،‬وأساليب‬ ‫التعليم التي ُيو َّجه ال ُمع ِّلمون إلى استعمالها‪ ،‬وحتى المفردات التي يستعملونها‪ ،‬وهامش‬ ‫الحرية التي يتمتع بها الطلبة؛ كل ذلك يتم بقرارات إدارية سياسية‪ .‬فالعملية التربوية‪-‬‬ ‫التعليمية هي عملي ٌة سياسي ٌة‪ ،‬حتى لو لم يكن ال ُمع ِّلمون والطلبة على وعي كامل بال ُب ْعد‬ ‫السياسي من عملهم‪ .‬ومثل هذا التحليل هو الذي قاد باولو فرايري ليلاحظ أ َّن التعليم‬ ‫النظامي أداة سياسية للقهر‪ ،‬وأ َّنه أشبه بـ\"تعليم المقهورين‪ (((\"،‬بما قد يو ِّلده ذلك من‬ ‫مشاعر العجز وفقدان الأمل‪ ،‬وبذلك يخسر المجتمع أه َّم عنص ٍر من عناصر نم ِّوه وتق ُّدمه‪.‬‬ ‫((( فرايري‪ ،‬باولو‪ .‬تعليم المقهورين‪ ،‬ترجمة‪ :‬يوسف نور عوض‪ ،‬بيروت‪ :‬دار القلم‪1980 ،‬م‪ ،‬ص‪ .35‬‬ ‫‪280‬‬

‫وهذا يعني ‪-‬في رأي فرايري‪ -‬أ َّن المجتمع في صورته السياسية هو الذي يش ِّكل‬ ‫التعليم من أجل تحقيق أهدافه‪ .‬فالتعليم \"عملية سياسية‪ ،‬وحين يكتشف ال ُمع ِّلم أ َّنه ناشط‬ ‫سياسي‪ ،‬فإ َّنه سوف يدرك أ َّنه يعمل لمصلحة مح َّددة‪ ،‬وضد مصلحة ُأخرى‪ ،‬و ِم ْن َث َّم يدرك‬ ‫أ َّن عليه أ ْن يكون م َّتسق ًا في عمله‪ ،‬فلا ُي ِري تلاميذه اليوم ُح ْلم ًا تح ُّرري ًا‪ ،‬ويكون سلطوي ًا‬ ‫يمارس معهم القهر في اليوم التالي‪(((\".‬‬ ‫إ َّن التربية تحتاج إلى حرية تتيح المبادرات‪ ،‬و ُت ْط ِلق الطاقات‪ .‬وفي غياب الحرية‬ ‫يسيطر الاستبداد‪ ،‬ويتع َّطل الإبداع‪ ،‬وتسود ثقافة الح ِّد الأدنى الذي ُي ْبقي أمو َر المجتمع‬ ‫على حالها‪ ،‬في الوقت الذي يكون فيه ك ُّل ما حول المجتمع يتح َّرك ويتغ َّير ويتط َّور‪ .‬ور َّبما‬ ‫يكتفي مجتمع الاستبداد باستيراد فلسفة التربية ومناهجها‪ ،‬فيسود الغزو الفكري التعليمي‬ ‫الذي يش ِّوه هوية المجتمع‪ ،‬فيصبح التعليم وسيلة من وسائل التدمير بدل التطوير‪.‬‬ ‫ث َّم إ َّن الأثر المنشود للعملية التربوية والتعليمية يتجاوز ما ُت ْح ِدثه هذه العملية في‬ ‫حالة الإنسان الفرد إلى ما ُت ْح ِدثه من تغيير في حالة المجتمع؛ ذلك أ َّن التغيير المطلوب‬ ‫هو تغيير جماعي‪ .‬بيد أ َّن الصالح الذي مارس عملية التغيير في نفسه ر َّبما يته َّيب أ ْن يؤدي‬ ‫دوره في الإصلاح العام‪ ،‬وفي تحقيق التغيير الحقيقي في المجتمع والأُ َّمة‪.‬‬ ‫وقد جاء الحديث عن التغيير في القرآن الكريم بصيغة القوم؛ أي الجماعة من‬ ‫الناس التي تك ِّون المجتمع أو الأُ َّمة‪ .‬فحين يكون القوم في نعمة أنعمها الله عليهم‪ ،‬فإ َّن‬ ‫الله لا يغ ِّيرها ويزيلها عنهم حتى ينحرفوا عن الجا َّدة‪ ،‬ويفتقدوا ما بأنفسهم من خصائص‬ ‫يستحقون بها هذه النعمة‪ .‬وفي ذلك يقول الله سبحانه‪﴿ :‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ‬ ‫ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ﴾ [الأنفال‪ .]53:‬وحين يظهر ذلك التغيير نحو‬ ‫الأسوأ‪ ،‬تتح َّقق ُسنَّة استبدال قوم آخرين بهؤلاء القوم‪﴿ .‬ﯶ ﯷﯸﯹﯺﯻ‬ ‫ﯼﯽﯾ﴾ [محمد‪ .]38:‬وبهذا يصبح التغيير ُسنَّ ًة تجري بقدر الله سبحانه على الناس‬ ‫نتيجة أفعالهم‪﴿ .‬ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ﴾ [الرعد‪.]11:‬‬ ‫‪(1) Freire, Paulo. & Shor, Ira. A Pedagogy for Liberation: Dialogues on Transforming Education,‬‬ ‫‪Bergin& Garvey Pub, Inc. 1987, p.46.‬‬ ‫‪281‬‬

‫إ َّن تغيير ما في النفس هو عملية تربوية تقود الناس إلى ما هو خي ٌر لهم‪ ،‬وقد يكون‬ ‫العجز والخلل التربوي وسيل ًة للوصول بالناس إلى ش ٍّر يحيط بهم‪ .‬والإنسان ‪-‬في نهاية‬ ‫المطاف‪ -‬مسؤول أمام الله سبحانه عن استثمار طاقاته وإمكاناته في تحقيق مراد الله من‬ ‫صلاح وإصلاح‪ .‬وفي الحساب أمام الله‪ ،‬لن يشفع أحد‪ ،‬أو مؤسسة‪ ،‬أو نظام لأ ِّي فرد عن‬ ‫تقصيره في أداء واجب الإصلاح والتغيير‪﴿ .‬ﯿﰀﰁﰂﰃ﴾ [مريم‪ .]95:‬وكل‬ ‫عمليات التغيير الاجتماعي‪ ،‬والبناء الحضاري‪ ،‬والاكتشاف العلمي‪ ،‬تبدأ خطوتها الأُولى‬ ‫بفكرة عند الفرد‪ ،‬ث َّم تتح َّول إلى خطة عمل يجتمع عليها أفراد آخرون‪ ،‬وتصبح تيار ًا يواجه‬ ‫الحالة السائدة‪ ،‬ويغالب العقبات والمعيقات حتى يغل َبها‪.‬‬ ‫وإذا كانت َق َص ُص الأنبياء في القرآن الكريم أمثل ًة على التغيير الذي أحدثوه في‬ ‫مجتمعاتهم‪ ،‬برعاية الله وتأييده لهم‪ ،‬فإ َّن َق َصص ًا ُأخرى في القرآن الكريم هي أمثلة على‬ ‫عمليات تغيير قام بها ملوك وقادة ومصلحون‪ ،‬و َّظفوا ما ي َّسر الله لهم من خبرات في‬ ‫التغيير والإصلاح؛ وأمثلة ُأخرى على أفراد رفعوا أصواتهم في وجه الانحرافات السائدة‪،‬‬ ‫وأصبحوا نماذج لجهود إصلاحية واجه فيها فرد واحد المجتمع بأكمله‪ ،‬كما كان حال‬ ‫مؤمن آل فرعون‪( ،‬غافر‪ ،)33-28:‬ومؤمن آل يس (يس‪.)27-20:‬‬ ‫رابع ًا‪ :‬التعامل مع الخبرة البشرية المعاصرة هو نقطة انطلاق‪:‬‬ ‫حين يجرى الحديث عن الجهود الإصلاحية‪ ،‬نجد َمن يتح َّدث عن نقطة البدء في‬ ‫هذه الجهود بطرق مختلفة؛ ف َث َّمة َمن يدعو إلى البدء بما ير ِشد إليه القرآن الكريم وال ُّسنة‬ ‫النبوية في بناء الحالة التي نريدها (سياسية‪ ،‬أو اقتصادية‪ ،‬أو تربوية‪ ،)...‬ونجد َمن يدعو‬ ‫إلى البدء بحالة الواقع القائم في بلدان ُأخرى؛ لأ َّنه يرى الواقع في هذه البلدان بديل ًا أفضل‬ ‫لما يعانيه واقعنا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن الجدل في هذه المسألة هو جدل نظري لا ينبني عليه كثير‬ ‫عمل‪ .‬وفي محاولتنا حسم هذه المسألة نقول إ َّنه لن يكون بالإمكان العملي نقل الواقع َم َّر ًة‬ ‫واحد ًة من حالة إلى ُأخرى؛ فالتغيي ُر عملي ٌة لا نتيج ٌة‪ ،‬والصورة التي نريد أ ْن ينتهي التغيير‬ ‫إليها ليست صورة مكتملة الملامح والعناصر‪ ،‬وإ َّنما هي صورة تبقى دائم ًا في طور البناء‪،‬‬ ‫ويتأ َّثر كل عنصر فيها بما ُين َجز قب َله‪ ،‬وبما َيلزم إنجا ُزه بع َده‪.‬‬ ‫‪282‬‬

‫ومع ذلك‪ ،‬فإ َّننا نستدرك‪ ،‬فنقول إ َّن الأحكام والتوجيهات القرآنية والنبوية هي‬ ‫التي ُت ِعيننا على فهم الواقع‪ ،‬وتدعونا إلى الاستمرار في التغيير والتر ّقي من حالة إلى‬ ‫ُأخرى‪ ،‬مع توا ُصل الزيادة في العلم‪ ،‬والنمو في الخبرة والتجربة‪ ،‬والتط ُّور في التعامل‬ ‫مع المستجدات‪ ،‬والسعي للوصول بحالة الأُ َّمة إلى موقع الريادة والشهادة على الناس‪.‬‬ ‫أ ّما الخبرة البشرية التي نراها عند شعوب ُأخرى فلا يخلو الا ِّطلاع عليها من قيم ٍة في بيان‬ ‫ما أفاد هذه الشعوب‪ ،‬وما أض َّر بها‪.‬‬ ‫ولك َّن النقل الكامل لخبرة معينة أمر متع َّذر من الناحية العملية‪ .‬ث َّم إ َّن ما يبدو مفيد ًا منها‬ ‫في بيئة معينة‪ ،‬قد يكون ضا ّر ًا في بيئة ُأخرى‪ ،‬ولا سيما أ َّن النُّ ُظم التربوية تتفاوت من مجتمع‬ ‫إلى آخر‪ .‬ومهما رأينا من عناصر مشتركة بين النُّ ُظم التربوية المعاصرة في المجتمعات‬ ‫المخلتفة‪ ،‬فإ َّن لكل نظام مبادئه التي تختلف عن مبادئ أ ِّي نظام آخر‪ ،‬وك ُّل نظام ينطلق في‬ ‫بنائه من رؤي ٍة خاصة للمجتمع الذي يخدمه؛ سعي ًا إلى تحقيق أهداف ذلك المجتمع‪.‬‬ ‫وحين نهتم بحياتنا التربوية‪ ،‬كما هو الحال في أ ِّي جانب من جوانب حياتنا اليومية‪،‬‬ ‫فإ َّننا نبدأ من الواقع الذي نعي ُشه لنفهمه كما هو‪ ،‬ونح ِّدد صور َة هذا الواقع كما نطمح أ ْن‬ ‫يكون‪ .‬ومنه ُجنا في التعامل مع الواقع ليس منهج ًا تاريخي ًا يتعامل مع الماضي‪ ،‬وليس‬ ‫منهج ًا أصولي ًا يستنبط من النصوص‪ ،‬وإ َّنما هو منهج عملي \"إمبريقي\" يتعامل مع الواقع‬ ‫الموضوعي القائم في هذه اللحظة؛ لتحقيق التغيير الذي نريد أ ْن ُن ْح ِدثه فيه للوصول إلى‬ ‫واقع أفضل في اللحظات القادمة‪ .‬وسوف نجد أ َّننا في فهمنا للواقع‪ ،‬وسعينا لتغييره‪ ،‬نراعي‬ ‫النصوص الحاكمة بما تم ُّدنا به من المبادئ والأحكام والتوجيهات‪ ،‬ونستعين بدروس‬ ‫التجربة التاريخية التي يم ِّثلها التراث‪ ،‬ولك َّن نقطة البدء هي واقعنا‪ :‬نحن ‪-‬هنا‪ -‬الآن‪.‬‬ ‫وتاريخ البشر عبر القرون مفتوح لجميع البشر للاعتبار به‪ .‬وقد أكث َر القرآ ُن الكريم‬ ‫من الدعوة إلى السير في الأرض‪ ،‬والنظر فيما كان من شأن الأمم الأُخرى‪ ،‬ولا سيما‬ ‫ما أصاب تلك الأمم من هلاك‪ (((.‬وكذلك‪ ،‬فإ َّن حاض َر البشر مفتو ٌح للاعتبار أكثر من‬ ‫((( ُيك ِّرر القرآن الكريم من الدعوة إلى السير في الأرض‪ ،‬للنظر في مصير الأمم السابقة‪ .‬وتأتي هذه الدعوة في سياق‬ ‫التبصر في سنن الله‪ ،‬ذات الصلة بمصير المكذبين‪﴿ ،‬ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ﴾ [آل عمران‪:‬‬ ‫‪ ،]137‬و﴿ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ﴾ [الأنعام‪ ]11 :‬أو مصير الذين رفضوا الهداية‬ ‫واستحبوا الضلالة‪﴿ ،‬ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ﴾ [النحل‪ ،]36 :‬أو مصير المجرمين‪= ،‬‬ ‫‪283‬‬

‫التاريخ‪ ،‬وتاريخ البشر وحاضرهم يؤ ِّكد أ َّن اكتساب العلم والمعرفة‪ ،‬والوصول إلى‬ ‫الاكتشاف والاختراع والإبداع‪ ،‬كان متاح ًا لكل الشعوب؛ نتيجة فهم السنن‪ ،‬والأخذ‬ ‫بالأسباب‪ ،‬والسعي في الأرض لأهداف مح َّددة‪ ،‬وبمناهج مناسبة‪ .‬وكذلك يؤ ِّكد تاريخ‬ ‫البشر وحاضرهم ظاهرة التوا ُصل والتفا ُعل والتدا ُفع؛ أخذ ًا وعطا ًء‪ِ ،‬س ْلم ًا وح ْرب ًا‪ ،‬تحقيق ًا‬ ‫لمقصد أساسي من مقاصد الخلق الإلهي في التعا ُرف بين الشعوب والقبائل‪ ،‬ولتحقيق ما‬ ‫ينتج عن هذا التعا ُرف من ُفرص للتعا ُون وتبادل المصالح‪.‬‬ ‫وقد روى لنا التراث الإسلامي كثير ًا من المواقف التي أخذ فيها المجتمع الإسلامي‬ ‫خبرات مهمة من البيئة التي كانت سائدة قبل الإسلام‪ ،‬ومن الأنظمة التي كانت لا تزال‬ ‫سائدة بعد الإسلام في بلدان ُأخرى‪ .‬لقد أخذ المجتمع الإسلامي الخبرة‪ ،‬ث َّم ط َّورها‬ ‫لتكون أكثر ملاءمة‪ ،‬وألصق صلة بواقع المجتمع الإسلامي وحاجاته‪ .‬ومن ذلك ‪-‬مثل ًا‪-‬‬ ‫فكرة الدواوين التي كانت معروف ًة في البلدان المحيطة بالجزيرة العربية‪ ،‬ولم تكن معروفة‬ ‫لدى العرب‪ ،‬حتى إ َّن هذه الدواوين لم ُتك َتب في البداية بالعربية‪ ،‬وإ َّنما ُكتِبت في أنحاء‬ ‫المجتمع الإسلامي باللغة التي كانت سائدة في كل ناحية؛ الرومية في الشام‪ ،‬والفارسية‬ ‫في العراق‪ ،‬والقبطية في مصر‪ .‬وقد استعمل المجتمع الإسلامي ‪-‬منذ نشأته‪ -‬ال ُع ْمل َة التي‬ ‫كانت سائد ًة قبل الإسلام؛ الدينار الرومي‪ ،‬والدرهم الفارسي‪ ،‬بما كان في هذه ال ُع ْملة من‬ ‫رسو ٍم ورمو ٍز غير عربية وغير إسلامية‪ ،‬وبقي المجتمع الإسلامي يستعملها حتى عهد‬ ‫الخليفة عبد الملك ابن مروان‪.‬‬ ‫وإذا كان الاعتبار بقصص الماضي متاح ًا لإنسان الحاضر‪ ،‬أفلا يكون من قصص‬ ‫الحاضر ما يكون فيه شي ٌء من الاعتبار كذلك؟! فحين يبح ُث أحد الباحثين في النظام‬ ‫التربوي في بل ٍد من البلدان الأجنبية‪ ،‬فإ َّنه يكشف عن عناصر ذلك النظام في قوانينه‬ ‫المسطورة وتطبيقاته المنظورة‪ ،‬ويعرض أسس ذلك النظام ومبادئه ومهمته في خدمة‬ ‫بلده‪ ،‬ويق ِّدم نتيجة هذه الدراسة في تقري ٍر مكتو ٍب‪ ،‬ور َّبما تض َّمن التقرير بع َض الصور‬ ‫والرسوم ومقاطع الفيديو؛ لكي يرى دارس التقرير شيئ ًا عن سيرة ذلك النظام‪ ،‬وآليات‬ ‫= ﴿ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ﴾ [النمل‪ ،]69 :‬أو مصير المشركين الذين تس َّب ُبوا في ظهور‬ ‫الفساد في البر والبحر‪﴿ ،‬ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ‬ ‫ﮌ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ﴾ [سبأ‪ .]18 -17 :‬ونحن نرى أن مثل هذه الدعوة هي دعو ٌة‬ ‫إلى قراءة التاريخ والاعتبار به‪.‬‬ ‫‪284‬‬

‫عمله‪ ،‬وجوانبه الإيجابية والسلبية‪ ،‬والفائدة المتو ّخاة من هذه الدراسة؛ فما فائدة الدراسة‬ ‫إذا لم يكن لها هدف يريد الباحث أ ْن يح ِّققه لنفسه‪ ،‬وللمؤسسة التي طلبت البح َث أو‬ ‫م َّو َل ْت ُه‪ ،‬وللمجتمع الذي تقوم المؤسسة بخدمته؟ أفلا يكون أه ُّم هد ٍف هو الاعتبا َر ومعرف َة‬ ‫الإيجابيات التي يمكن أ ْن تكون مفيد ًة‪ ،‬والسلبيات التي َيلزم تجنُّبها؟‬ ‫خامس ًا‪ :‬مرجعية الخبرة المعاصرة وفريضة الوقت‪:‬‬ ‫حين َي ُق ُّص الله سبحانه علينا َق َصص الماضين من الأنبياء والأقوام والشخصيات‪،‬‬ ‫فإ َّنه يوحي إلينا بضرورة الاعتبار وأخذ ال ِعظة بهذا ال َق َصص في حياتنا المعاصرة‪ ،‬عن‬ ‫طريق التد ُّبر في سنن الله في الحياة والناس‪ .‬وحاشا أ ْن يكون من العبث أ ْن يشغل ال َق َصص‬ ‫القرآني ثلث القرآن الكريم؛ فمنهج القرآن الكريم في ال َق َصص أ َّنه يق ِّدم من التفاصيل ما‬ ‫يكفي لذلك الاعتبار‪ ،‬وليس المه ُّم تفاصيل القصة‪ ،‬وإ َّنما المه ُّم أ ْن يؤدي ال َق َصص وظيفته‬ ‫في الاعتبار والموعظة والذكرى‪ .‬قال الله تعالى‪﴿ :‬ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ‬ ‫ﯲﯳﯴ ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﯼﯽﯾﯿﰀﰁ‬ ‫ﰂ﴾ [يوسف‪ ،]111:‬وقال سبحانه‪﴿ :‬ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ‬ ‫ﭻﭼﭽﭾﭿﮀ﴾ [هود‪.]120:‬‬ ‫وفي ال ُّسنة النبوية َق َص ٌص كذلك‪ ،‬يتصل بع ُضها ب َق َصص القرآن الكريم؛ لتوجيهنا إلى‬ ‫موطن الاعتبار في القصة‪ ،‬كما في قصة \"الملك والساحر والراهب والغلام\"((( التي تعطي‬ ‫بعض التفصيل لقصة \"أصحاب الأخدود\" الوارد ذكرها في القرآن الكريم‪﴿ .‬ﭛﭜ‬ ‫ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ‬ ‫ﭲﭳﭴﭵﭶﭷ﴾ [البروج‪ .]7 -4:‬وبعضها لا يتصل ‪-‬بالضرورة‪ -‬بالنص القرآني‬ ‫بصورة مباشرة‪ ،‬كما في قصة \"الأصلع والأعمى والأبرص\"(((‪ ،‬وقصة \"إبراهيم وسارة‬ ‫((( مسلم‪ ،‬صحيح مسلم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬الزهد والرقائق‪ ،‬باب‪ :‬قصة أصحاب الأخدود‪ ،‬والساحر والراهب‬ ‫والغلام‪ ،‬حديث رقم‪ ،)3005( :‬ص‪.1201‬‬ ‫((( البخاري‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬أحاديث الأنبياء‪ ،‬باب حديث‪ :‬أبرص وأعمى وأقرع في بني‬ ‫إسرائيل‪ ،‬حديث رقم‪ ،)3464( :‬ص‪.666‬‬ ‫‪285‬‬

‫والملك الجبار\"‪ ،‬وكلاهما م ّما رواه الإمام البخاري في \"الصحيح‪ (((\".‬وكل ذلك من قبيل‬ ‫توظيف ما في هذا ال َق َصص من الاعتبار والاتعاظ في حياتنا المعاصرة‪.‬‬ ‫فالخبرة التربوية المعاصرة هي وصف لما قد نجده عندنا وعند غيرنا من المبادئ‬ ‫والنُّ ُظم التربوية التي تب ِّين للمجتمعات المعاصرة فائدتها‪ ،‬فتختار هذه المجتمعات أ ْن‬ ‫تتبنّاها‪ ،‬وتمارس عملها التربوي والتعليمي على أساسها‪ .‬وهي ‪-‬في حقيقة الأمر‪ -‬خبرة‬ ‫متج ِّددة متط ِّورة زمان ًا‪ ،‬ومتن ِّوعة مختلفة مكان ًا‪ .‬وقد يكون في هذه الخبرة عناصر مهمة‪،‬‬ ‫تتفق على فائدتها مجتمعات كثيرة‪ ،‬وتستقر مع مرور الزمن‪ ،‬وقد يظهر فيها الاختلاف‬ ‫إلى ح ِّد التناقض؛ نظر ًا لما قد يكون في منطلقاتها الفكرية من اختلاف وتناقض‪ .‬ولذلك‪،‬‬ ‫فليس في الخبرة التربوية المعاصرة ما ُيؤ َخذ على ِع ّلته من دون تب ُّصر بما له وعليه‪ .‬وكما‬ ‫رأينا حاجة التراث التربوي الإسلامي إلى ممارسة التحليل النقدي للتب ُّصر فيما ينفعنا منه‪،‬‬ ‫كذلك فإ َّن الخبرة البشرية المعاصرة في المجال التربوي تحتاج إلى تحليل نقدي‪.‬‬ ‫والتربوي المسلم المعاصر هو َمن يسعى للإحاطة بالعلوم التربوية المعاصرة‪ ،‬ويستوعب‬ ‫ما فيها من ُن ُظم ومبادئ ونظريات‪ ،‬في مصادرها الأساسية المتن ِّوعة‪ ،‬ويكشف ع ّما أحدثته‬ ‫الممارسات التربوية المعاصرة من آثار إيجابية أو سلبية في المجتمعات المختلفة‪ ،‬ويلاحظ‬ ‫موقع هذه العلوم والممارسات التي قامت على أساسها‪ ،‬من مقاصد الإسلام التربوية‪ ،‬ليح ِّدد‬ ‫بعد ذلك ما يمكن أ ْن يكون منها مصدر ًا للفكر التربوي الإسلامي المعاصر‪.‬‬ ‫ولك َّن العلوم التربوية المعاصرة أصبحت مجالاً واسع ًا يتض َّمن تخ ُّصصات كثيرة‪،‬‬ ‫منها‪ :‬فلسفة التربية‪ ،‬وتاريخ التربية‪ ،‬والإدارة التربوية‪ ،‬والمناهج التربوية‪ ،‬واقتصاديات‬ ‫التربية‪ ،‬وعلم النفس التربوي‪ ،‬وعلم الاجتماع التربوي‪ ،‬والتقويم التربوي‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬ ‫ويتع َّذر على الباحث الواحد أ ْن يحيط بها جميع ًا‪ ،‬و َح ْس ُب كل عالِم أو باحث أ ْن يحيط‬ ‫بتخ ُّصصه في حالته العلمية المعاصرة بأكبر قدر من الإحاطة‪ ،‬و ُي ِل َّم بالتخ ُّصصات‬ ‫التربوية الأُخرى‪ ،‬بما يم ِّكنه من توظيف تخ ُّصصه في مجمل العمل التربوي‪ .‬ومن الجدير‬ ‫((( البخاري‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬أحاديث الأنبياء‪ ،‬باب‪ :‬قول الله تعالى‪﴿ :‬ﮞﮟﮠ‬ ‫ﮡ﴾ [النساء‪ ،]125 :‬حديث رقم‪ ،)3358( :‬ص‪.641‬‬ ‫‪286‬‬

‫بالملاحظة ‪-‬في هذا المقام‪ -‬أ َّن العلوم المعاصرة في حالة دائمة من التغ ُّير والتط ُّور‬ ‫والتجديد؛ ما يفرض على المتخ ِّصص مواصلة الا ِّطلاع على الجديد في تخ ُّصصه‪،‬‬ ‫ومتابعة ما يحدث فيه من تط ُّورات‪.‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن هذا القدر من الإحاطة والإلمام والمتابعة لا يعفي العالِم التربوي‬ ‫المسلم المعاصر من أ ْن يكون لديه القدر الكافي من الا ِّطلاع والإلمام بمقاصد التربية‬ ‫في القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية‪ ،‬والتراث التربوي الإسلامي ‪-‬على الأقل‪ -‬فيما له صلة‬ ‫مباشرة بتخ ُّصصه الدقيق‪.‬‬ ‫والتربوي المسلم المعاصر ‪-‬فوق ذلك كله‪ -‬ليس َم ْعنِ ّي ًا فقط بتطوير الفكر التربوي‬ ‫الإسلامي لإصلاح واقع مجتمعه‪ ،‬وإ َّنما هو َم ْعنِ ٌّي كذلك بتقديم رؤية تربوية وخبرة تربوية‬ ‫ُتس ِهم في تق ُّدم الفكر التربوي الذي يصلح أ ْن يستفيد منه أ ُّي مجتمع من المجتمعات‬ ‫المعاصرة‪ ،‬ويكون بذلك عنصر ًا مهم ًا من عناصر الحضور الإسلامي في الحضارة البشرية‬ ‫المعاصرة‪ ،‬وإسهام ًا إسلامي ًا في توجيهها وترشيدها‪.‬‬ ‫وهذه الرؤية للمهمات التي تنتظر المف ِّكر التربوي المسلم المعاصر هي \"واجب‬ ‫الوقت\" وهي فريضة من فرائضه؛ فهذا المف ِّكر هو ابن وقته وزمانه‪ ،‬ولكل وقت واجبه‪.‬‬ ‫قال الإمام ابن ق ِّيم الجوزية في كتاب \"الجواب الكافي\"‪\" :‬أ ْعلى ال ِف َكر وأج ُّلها وأنف ُعها ما‬ ‫كان لله والدار الآخرة‪ ،‬فما كان لله فهو أنواع‪ ، ...،‬النوع الخامس‪ :‬الفكرة في واجب الوقت‬ ‫ووظيفته‪ ،‬وجمع اله ِّم ك ِّله عليه‪ ،‬فالعارف ابن وقته‪ ،‬فإ ْن أضاعه ضاعت عليه مصالحه‬ ‫كلها‪ ،‬فجميع المصالح إ َّنما تنشأ من الوقت‪ ،‬فمتى أضاع الوقت لم يستدركه أبد ًا‪ (((\".‬وقد‬ ‫ك َّرر ذلك في كتاب \"مدارج السالكين إلى إياك نعبد وإياك نستعين\"‪\" :‬فالأفضل في كل‬ ‫وقت وحال‪ :‬إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال‪ ،‬والاشتغال بواجب ذلك الوقت‬ ‫ووظيفته ومقتضاه‪ ...‬فهذا هو المتح ِّقق بـ ﴿ﭢﭣﭤﭥ﴾ [الفاتحة‪ ]٥ :‬حق ًا‪،‬‬ ‫القائم بهما صدق ًا‪(((\". ..،‬‬ ‫((( ابن ق ِّيم الجوزية‪ ،‬أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب (توفي‪751 :‬ﻫ)‪ .‬الداء والدواء (الجواب الكافي ل َمن‬ ‫سأل عن الدواء الشافي‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد أجمل الإصلاحي‪ ،‬جدة‪ :‬مجمع الفقه الإسلامي‪ ،‬مكة المكرمة‪ :‬دار‬ ‫عالم الفوائد‪1429 ،‬ﻫ‪ ،‬ص‪.358-356‬‬ ‫((( ابن ق ِّيم الجوزية‪ ،‬مدارج السالكين‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.111-110‬‬ ‫‪287‬‬

‫خاتمة‪:‬‬ ‫تح َّدث هذا الفصل عن مصادر أربعة‪ ،‬يمكننا الاستمداد منها في بناء الفكر التربوي‬ ‫الإسلامي‪ :‬القرآن الكريم‪ ،‬وال ُّسنة النبوية‪ ،‬والتراث التربوي الإسلامي‪ ،‬والخبرة التربوية‬ ‫المعاصرة‪ .‬وقد يكون من المناسب الآن أن نتساءل‪ :‬أين هو الفكر التربوي الإسلامي المعاصر؟‬ ‫وقد ذكرنا عدد ًا من الأمثلة على مسائل العلم والتعليم والتع ُّلم في القرآن الكريم‪،‬‬ ‫ولم يكن هدفنا في ذكر هذه الأمثلة المحدودة استقصاء ما في القرآن الكريم؛ فكل القرآن‬ ‫علم‪ ،‬وكله دعوة إلى التع ُّلم والتعليم‪ .‬ويمكننا أ ْن نواصل الحديث عن مسائل كثيرة‬ ‫ُأخرى‪ ،‬وعن موضوعات كثيرة ُأخرى؛ فلو تح َّدثنا عن مسألة أدوات العلم والتعليم‪،‬‬ ‫واخترنا لفظ \" َك َت َب\" ومشتقاته وما يخت ُّص به من صحيفة وسجل وقلم ومداد‪ ،‬لكان ذلك‬ ‫شهادة كبرى على احتفال القرآن الكريم بأدوات العلم والتعليم‪ ،‬ومثل ذلك لو اخترنا لفظ‬ ‫\" َق َر َأ\" ومشتقاته‪ ،‬أو لفظ \" َد َر َس\"‪ ،‬أو مسألة التكريم الرباني للعلماء‪ ،‬أو غير ذلك م ّما يتصل‬ ‫بموضوعات العلم وعملياته وأدواته من حضور في القرآن الكريم‪.‬‬ ‫وقد َتب َّين لنا أ َّن موضوع العلم والتع ُّلم والتعليم في ال ُّسنة النبوية موضو ٌع أثير‪ ،‬سبق أ ْن‬ ‫تو ّلى أئمة الحديث توثيقه في مصنَّفاته‪ ،‬ث َّم اهتمت كتب التراث بهذا الموضوع كثير ًا‪ ،‬فروت‬ ‫هذه الأحاديث وما ارتبط بها من آثار الصحابة والتابعين و َمن جاء بعدهم من العلماء‪ .‬و َتب َّين‬ ‫لنا أيض ًا أ َّن ُسنَّة رسول الله ﷺ ُح َّج ٌة في الأخذ بما ورد فيها من أحكام وتوجيهات في مجال‬ ‫التربية والتعليم‪ ،‬مثلما هي ُح َّجة في سائر المجالات الأُخرى‪ .‬وقد اكتفينا بالإشارة إلى ثلاثة‬ ‫مفاهيم ورد ذكرها في ال ُّسنة النبوية‪ ،‬هي‪ :‬العلم‪ ،‬والتع ُّلم‪ ،‬والتعليم؛ إذ كانت هذه المفاهيم‬ ‫الثلاثة ‪-‬ولا تزال‪ -‬أركان التربية والتعليم في أ ِّي مجتمع بشري‪.‬‬ ‫ونحن نؤمن إيمان ًا جازم ًا بأ َّننا سنجد فيما ورد في ال ُّسنة النبوية من الأحكام‬ ‫والتوجيهات ما يجعلها بيان ًا لما ورد في القرآن الكريم من جهة‪ ،‬وتنزيل ًا على الواقع‬ ‫العملي لحياة الناس في المجتمع من جهة ُأخرى‪ .‬ونحن نؤمن كذلك بأ َّن ما ورد في‬ ‫القرآن الكريم وما جاء بيانه وتنزيله العملي في ال ُّسنة النبوية ُي َع ُّد مبادئ عامة في التعامل‬ ‫في سائر قضايا التربية والتعليم‪ .‬ونؤ ِّكد أ َّن هذه المبادئ هي مبادئ عامة وكلية‪ ،‬تتناسب مع‬ ‫الفطرة البشرية‪ ،‬وتفتح المجال لتطوير الخبرات والتجارب البشرية المتنامية‪ ،‬وتوظيفها‬ ‫‪288‬‬

‫في العمل التربوي في ضوء هذه المبادئ‪ ،‬فكيف لا تكون ال ُّسنة النبوية مصدر ًا للفكر‬ ‫التربوي المعاصر؟!‬ ‫وقد أشرنا إلى عدد من الوظائف التي يمكن للتراث التربوي الإسلامي أ ْن يؤديها‪،‬‬ ‫وبها يكون مصدر ًا للفكر التربوي الإسلامي المعاصر‪ .‬وكان من الواضح أ َّن الفكر التربوي‬ ‫الذي ق َّدمه علماء المسلمين في كتاباتهم وممارساتهم‪ ،‬منذ عهد التدوين إلى ما قبل تأ ُّثر‬ ‫المجتمعات الإسلامية بالغرب الحديث‪ ،‬كان يستند ُج ُّله إلى نصوص القرآن الكريم وال ُّسنة‬ ‫النبوية‪ ،‬و ِم ْن َث َّم ُي َع ُّد ذلك الفكر ‪-‬الذي أصبح لنا تراث ًا تربوي ًا‪ -‬تجرب ًة تاريخي ًة في فهم تلك‬ ‫النصوص والتطبيق العملي لها‪ .‬والتجربة التاريخية لا ُب َّد أ ْن تكون مفيدة فيما كان فيها‬ ‫من الصواب والخطأ؛ ففي التنزيل الحكيم من الوحي الإلهي والهدي النبوي على الواقع‬ ‫الموضوعي لحياة الناس‪ ،‬وما يتر َّتب على هذا التنزيل الحكيم من تحقيق مقاصد الدين‬ ‫ومصالح الناس‪ ،‬درو ٌس خاب وخسر َمن لم يسترشد بها‪ .‬ول ّما كان هذا التنزيل هو جهد‬ ‫بشري يتفاوت ح ُّظه من الصواب‪ ،‬وقد تنتابه حالات من القصور والخطأ‪ ،‬تؤدي إلى تعطيل‬ ‫المقاصد وتفويت المصالح‪ ،‬فإ َّن من الحكمة أ ْن نتب َّين هذا الحالات‪ ،‬ونعمل على تجنُّبها‪.‬‬ ‫وحين نتب َّين المشكلات التي أشار إليها التراث التربوي الإسلامي‪ ،‬م ّما قد يكون‬ ‫سببه العجز عن الاهتداء بالقرآن الكريم وال ُّسنة النبوية‪ ،‬فإ َّننا نحمد لهذا التراث أ ْن ن َّبهنا‬ ‫إلى ذلك؛ حتى لا نك ِّرر هذا القصور والخطأ‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فقد نجد أحيان ًا أ َّن مادة التراث‬ ‫لم ُت ِش ْر بوضوح إلى القصور والخطأ؛ لأ َّن وظيفة النص التراثي اقتصرت على وصف ما‬ ‫كان سائد ًا من الممارسات التربوية والتعليمية في الزمان والمكان‪ ،‬ويبقى لنا نحن اليوم‪،‬‬ ‫ول َمن يأتي بعدنا غد ًا ممارسة التحليل والتقويم لتلك النصوص التراثية؛ للكشف ع ّما‬ ‫يكون قد رافقها من مشكلات‪ ،‬وما يكون قد نتج عنها من أثر سلبي في حالة المجتمع‬ ‫المسلم يومذاك‪.‬‬ ‫وبذلك نصل إلى القول إ َّنه ليس َث َّمة ش ٌّك في ضرورة الاستفادة من التراث التربوي‬ ‫الإسلامي؛ لنأخذ منه جوانب الحكمة في منهج تنزيل الوحي الإلهي والهدي النبوي‬ ‫على حالة المجتمع الإسلامي ومستجداته‪ ،‬وما ح َّققه هذا التنزيل من مقاصد ومصالح‪،‬‬ ‫والاعتبار بما يكون قد رافق ذلك من النقص والعجز والقصور‪.‬‬ ‫‪289‬‬

‫وفي مجال الخبرة التربوية المعاصرة نستطيع أ ْن نؤ ِّكد عجز الباحث الواحد في‬ ‫الفكر التربوي الإسلامي المعاصر أ ْن يحيط إحاطة كاملة بهذه الخبرات في جميع‬ ‫فروع العلوم التربوية‪ ،‬والأسس الفلسفية والنفسية والاجتماعية والمعرفية لهذه العلوم؛‬ ‫فقد تمايزت هذه الفروع حتى أصبحت تخ ُّصصات‪ ،‬تتسع مجالات ك ٍّل منها‪ ،‬وتتع َّدد‬ ‫موضوعاتها‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإ َّن توظيف الخبرة التربوية المعاصرة والاستفادة منها ‪-‬بوصفها‬ ‫مصدر ًا من مصادر بناء الفكر التربوي الإسلامي المعاصر‪ -‬يقتضي إسهام بعض الباحثين‬ ‫من التخ ُّصصات التربوية المختلفة في جهود بحثية مشتركة‪ ،‬تقوم بها مؤسسات تو ِّفر‬ ‫الإدارة والدعم‪ ،‬وتي ِّسر متط َّلبات التم ُّكن والاستيعاب والتجاوز‪ ،‬وتمتلك رؤية النهوض‬ ‫الحضاري الإسلامي‪.‬‬ ‫ومع أ َّننا رأينا أ َّن الخبرة البشرية المعاصرة في مجال التعليم هي نقطة البدء في‬ ‫الإصلاح التربوي المنشود‪ ،‬فإ َّن مسيرة الإصلاح تستند في كل خطوة من خطواتها إلى‬ ‫المرجعية الحاكمة التي تح ِّدد المقاصد التربوية في الإسلام‪ ،‬وهي‪ :‬القرآن الكريم‪،‬‬ ‫وال ُّسنة النبوية‪ ،‬وتستصحب ‪-‬في الوقت نفسه‪ -‬خبرة التراث التربوي الإسلامي‪ .‬بيد أ َّن‬ ‫الاحتكام إلى تلك المرجعية لا يتح َّقق على الوجه الأفضل إلا عندما نقرأ هذه النصوص‬ ‫بتد ُّبر وبصيرة تم ِّكننا من أ ْن نجد فيها ما نهتدي به في إصلاح الواقع التربوي المعاصر‪،‬‬ ‫وما ُي ِعيننا على تقويم الخبرات البشرية التي تكتنفه‪.‬‬ ‫‪290‬‬

‫الفصل الرابع‬ ‫مقاصد الفكر التربوي الإسلامي‬ ‫مقدمة‬ ‫المبحث الأول‪ :‬مفهوم \"المقاصد التربوية\" وصلتها بالأهداف التربوية‬ ‫المبحث الثاني‪ :‬مرجعية المقاصد والأهداف التربوية‬ ‫المبحث الثالث‪ :‬تصنيف المقاصد التربوية‬ ‫أولاً‪ :‬مقاصد تربوية للدنيا‪ ،‬ومقاصد تربوية للآخرة‬ ‫ثاني ًا‪ :‬مقاصد تربوية غا ِئ َّية‪ ،‬ومقاصد تربوية و َس ِل َّية‬ ‫ثالث ًا‪ :‬تصنيف المقاصد التربوية حسب موضوعات العلوم‬ ‫رابع ًا‪ :‬تصنيف الأهداف التربوية وفق مؤسسات التربية في المجتمع‬ ‫خامس ًا‪ :‬المقاصد التربوية حسب نوعية التعليم‬ ‫المبحث الرابع‪ :‬المقاصد القرآنية العليا وتجلياتها التربوية‬ ‫أولاً‪ :‬مقاصد تربوية للتوحيد‬ ‫ثاني ًا‪ :‬مقاصد تربوية للتزكية‬ ‫ثالث ًا‪ :‬مقاصد تربوية للعمران‬ ‫المبحث الخامس‪ :‬تفعيل المقاصد التربوية‬ ‫أولاً‪ :‬التفعيل والفعل والفاعل‬ ‫ثاني ًا‪ :‬تفعيل المقاصد يحتاج إلى الفقيه المقاصدي‬ ‫ثالث ًا‪ :‬الأفكار بين الفاعلية والتفعيل‬ ‫رابع ًا‪ :‬واقع المعالجة المقاصدية للعمل التربوي‬ ‫المبحث السادس‪ :‬تقويم المقاصد التربوية‬ ‫أولاً‪ :‬صحة الأفكار وفاعليتها‬ ‫ثاني ًا‪ :‬التقويم التربوي في حالته السائدة‬ ‫ثالث ًا‪ :‬نظام الجودة في التعليم‬ ‫رابع ًا‪ :‬مفاهيم إسلامية تخت ُّص بالتقويم‬ ‫خاتمة‬



‫الفصل الرابع‬ ‫مقاصد الفكر التربوي الإسلامي‬ ‫مقدمة‪:‬‬ ‫تزايد الاهتمام بمقاصد الشريعة في العقود الثلاثة الأخيرة بصورة ملحوظة‪ ،‬و ُب ِذلت‬ ‫جهو ٌد ملموس ٌة في تأصيل مفهوم \"المقاصد\" في القرآن الكريم‪ ،‬والتجديد في تحديد‬ ‫المقاصد‪ ،‬وتصنيفها‪ ،‬وتطبيقها في مجالات العلوم المختلفة‪ ،‬وقضايا الفكر الإسلامي‬ ‫المعاصرة‪ .‬لقد ُن ِشر في موضوع \"المقاصد\" كثير من الكتب والدراسات‪ ،‬و ُن ِّظم كثير من‬ ‫المؤتمرات‪ ،‬وتأ َّسس كثير من مراكز البحوث والدراسات المقاصدية؛ ما جعل الريسوني‬ ‫يصف هذه الجهود بأ َّنها تعبير عن صحوة مقاصدية‪(((.‬‬ ‫ومقاصد الفكر التربوي هي مقاصد الإسلام التي يهدف إلى تحقيقها في المجال‬ ‫التربوي؛ فالإسلام مدرس ٌة للتعليم والتربية‪ ،‬ليس في تع ُّلم العقائد والعبادات فحسب‪ ،‬بل‬ ‫في تع ُّلم أصول السياسة والاقتصاد والاجتماع‪ ،‬وسائر وجوه النشاط البشري‪ .‬فالله سبحانه‬ ‫هو ر ُّب العالمين‪ ،‬ور ُّب الناس أجمعين‪ ،‬ير ُّبهم و ُير ّبيهم و ُيز ّكيهم و ُين ِّشئهم حالاً فحالاً‬ ‫إلى ح ِّد التمام الذي يريده لهم‪ .‬وهو سبحانه الر ُّب الذي ع َّلم آد َم الأسما َء‪ ،‬وع َّلم الأنبياء‬ ‫مضامين الرسالات التي أرسلهم بها إلى الناس‪ .‬والأنبياء ُب ِع ُثوا في أقوامهم ُمع ِّلمين‪،‬‬ ‫ومحم ٌد ص ّلى الله عليه وس َّلم هو دعو ُة نب ِّي الله إبراهيم عليه السلام‪ ،‬ليتلو على ذرية إبراهيم‬ ‫آيات الله‪ ،‬و ُيع ِّلمهم الكتاب والحكمة‪ ،‬و ُيز ّكيهم‪.‬‬ ‫وهذا التعليم في جميع مجالاته وصوره وموضوعاته هو لتحقيق مراد الله سبحانه‬ ‫من وجود الإنسان وحياته؛ ليؤمن بوحدانية الله وربوبيته‪ ،‬وليتح َّقق بالعبودية له سبحانه‪،‬‬ ‫وصولاً إلى حالة التزكية‪ ،‬وحمل الأمانة‪ ،‬والاستخلاف‪ ،‬والعمران‪.‬‬ ‫هذا على وجه الإجمال‪ ،‬أ ّما التفصيل؛ فإ َّن مقاصد الفكر التربوي الإسلامي تتم َّثل‬ ‫في تطوير المعرفة اللازمة لتنشئة الإنسان وتربيته وتعليمه في مراحل حياته كلها‪ ،‬وتأهيله‬ ‫((( الريسوني‪ ،‬أحمد‪ .‬الفكر المقاصدي؛ قواعده وفوائده‪ ،‬الرباط‪ :‬منشورات جريدة الزمن‪1999 ،‬م‪ ،‬ص‪.7‬‬ ‫‪293‬‬

‫للقيام بمسؤولياته تجاه ر ِّبه‪ ،‬ونفسه‪ ،‬وأسرته‪ ،‬ومجتمعه‪ ،‬وبيئته‪ ،‬وسائر العالمين‪ ،‬و ِم ْن َث َّم‬ ‫توظيف هذه المعرفة في عمليات التنشئة والتربية والتعليم‪ .‬ومصدر الهداية في اكتساب‬ ‫هذه المعرفة‪ ،‬وفي توظيفها‪ ،‬هو القرآن الكريم‪ .‬وأصول الممارسة العملية للتعليم والتزكية‬ ‫والتربية التي جاء بها القرآن الكريم كانت هي ال ُّسنة النبوية في صورة منهج عل ٍم َتو َّفر لجيل‬ ‫الصحابة‪ ،‬وبقي ُأسو ًة حسن ًة للأجيال التالية‪ ،‬وسيبقى القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية مصد َر‬ ‫هداي ٍة ومنها َج عم ٍل إلى قيام الساعة‪.‬‬ ‫قد يكون من المناسب توضيح أ َّن الفكر التربوي الإسلامي الذي نحاول أ ْن نح ِّدد‬ ‫فيه موقع المقاصد القرآنية في العملية التربوية‪ ،‬أو التج ِّليات التربوية لهذه المقاصد‪ ،‬لا‬ ‫يستهدف ‪-‬بالضرورة‪ -‬العمل التربوي الفني الذي يتم على مستوى المدرسة‪ ،‬والكتاب‬ ‫المدرسي‪ ،‬والأساليب التدريسية‪ ،‬وإ َّنما يستهدف بناء الصلة بين مبادئ الإسلام الكلية‬ ‫والعلوم التربوية والنفسية الحديثة والمعاصرة‪ ،‬عن طريق ما س َّم ْيناه \"منهجية التكا ُمل‬ ‫المعرفي\" بوصفها إطار ًا مرجعي ًا للمنهجية الإسلامية‪ (((.‬ولذلك اخترنا أ ْن نتح َّدث عن‬ ‫المقاصد العليا التي تحكم رؤيتنا الكلية للعملية التعليمية في ُأطرها الفكرية العامة‪ ،‬و ُأسسها‬ ‫النفسية والفلسفية والاجتماعية‪ .‬فما نحن بصدده هو بناء منه ٍج للنظر الكلي‪ ،‬وليس إيجاد‬ ‫بدائل للتفاصيل والجزئيات الخاصة بالعمل التربوي اليومي‪ .‬ونحن في ذلك ننطلق من‬ ‫افتراض أ َّن ال ُمما ِرس التربوي الذي يمتلك منهج النظر الكلي يستطيع أ ْن يمارس التحليل‬ ‫النقدي للحالة التعليمية وعناصرها‪ ،‬ويجتهد في التأثير في هذه الحالة وتشكيلها بما َيلزم‬ ‫من تعدي ٍل أو تغيي ٍر‪ .‬ومن هنا‪ ،‬تأتي أهمية الرؤية المقاصدية في الإصلاح والتجديد‪.‬‬ ‫إ َّن توظيف مفهوم \"المقاصد\" في المجال التعليمي يقتضي الانتقال من الحديث‬ ‫عن حضور المقاصد في أبواب الفقه‪ ،‬لا سيما فقه العبادات وفقه المعاملات في إطارها‬ ‫التراثي‪ ،‬إلى توظيف المقاصد في العلوم الحديثة بأصنافها المختلفة؛ الاجتماعية‪،‬‬ ‫والإنسانية‪ ،‬والطبيعية‪ ،‬والتطبيقية‪ ،‬التي استج َّدت في القرون الأخيرة‪ ،‬ولا تزال تتسع‬ ‫وتتف َّرع؛ ذلك أ َّننا لا نجد حرج ًا ‪-‬في معظم الأحيان‪ -‬في دراسة هذه العلوم‪ ،‬ولكنَّنا قد‬ ‫((( ملكاوي‪ ،‬فتحي حسن‪ .‬منهجية التكامل المعرفي‪ :‬مقدمات في المنهجية الإسلامية‪ ،‬هرندن‪ :‬المعهد العالمي‬ ‫للفكر الإسلامي‪ ،‬ط‪2016 ،2‬م‪ ،‬ص‪.177‬‬ ‫‪294‬‬

‫لا نكون على وعي كا ٍف بما قد تتض َّمنه هذه العلوم من مخاطر على رؤيتنا الكلية وطرائق‬ ‫تفكيرنا‪ ،‬وقد لا نشعر بالأهمية البالغة لما َيلزم أ ْن نضيفه إلى العمران والحضارة عن طريق‬ ‫الإسهام في التق ُّدم العلمي والمعرفي في العا َلم المعاصر‪.‬‬ ‫والحقيقة أ َّننا نشعر ‪-‬بقدر من الإلحاح‪ -‬بضرورة القول إ َّن الفكر الذي نسعى إلى‬ ‫بنائه لن يكون فكر ًا إسلامي ًا حتى يكون فكر ًا مقاصدي ًا في موضوعاته ومناهجه وتطبيقاته‪،‬‬ ‫ولن يكون المف ِّكر مف ِّكر ًا إسلامي ًا في الميدان التربوي حتى يمتلك الرؤية المقاصدية‬ ‫والمنهج المقاصدي‪ ،‬ويمارس هذا المنهج في التخطيط التربوي والممارسة التربوية‪ ،‬في‬ ‫سائر مستويات التخطيط والممارسة‪.‬‬ ‫وفي هذا الفصل سنو ِجز القو َل في مفهوم \"المقاصد\"‪ ،‬وصلتها بالأهداف التي‬ ‫يجري الحديث عنها في المؤسسات التربوية‪ ،‬مستندي َن في هذا التحديد إلى المرجعية‬ ‫القرآنية‪ ،‬ومستئنسي َن بشي ٍء من مادة التراث الإسلامي حول أنواع المقاصد ورتبها‪،‬‬ ‫وطريقة تفعيلها وتقويمها‪.‬‬ ‫‪295‬‬

‫المبحث الأول‬ ‫مفهوم \"المقاصد التربوية\" وصلتها بالأهداف التربوية‬ ‫تشيع في الكتابات التربوية عبارات مفتاحية‪ ،‬مثل‪ :‬التربية ثلاثة عناصر‪ ،‬هي‪ :‬منهاج‬ ‫تعليمي‪ ،‬و ُمع ِّلم‪ ،‬و ُمتع ِّلم؛ والمنهاج التربوي أربعة عناصر‪ ،‬هي‪ :‬أهداف‪ ،‬ومحتوى‪،‬‬ ‫وأساليب‪ ،‬وتقويم‪ .‬ويلاحظ أ َّن أهداف التعليم هي العنصر المح ِّدد للعناصر الأُخرى‬ ‫في العملية التربوية‪ ،‬ونقطة البدء في التخطيط التربوي‪ .‬فالأهداف في الفكر التربوي‬ ‫موضوع محوري يدور حوله التفكير في العمل التربوي في سائر مراحله وإجراءاته‪ ،‬ولا‬ ‫تقتصر العناية به على العاملين في المؤسسات التربوية‪ ،‬بل هو موضوع َي ُه ُّم المجتم َع‬ ‫بأكمله‪ ،‬ولذلك كانت الأهداف في مستويات متعددة؛ فالمجتمع يح ِّدد ما الذي يريده من‬ ‫المؤسسات التعليمية‪.‬‬ ‫والأهداف التي يرسمها المجتمع على مستوى صنّاع القرار في الإدارة المركزية هي‬ ‫أهداف عامة‪ ،‬يريد المجتمع (الدولة) من المؤسسات التعليمية تحقيقها‪ ،‬وتخت ُّص غالب ًا‬ ‫بغايات التنمية السياسية والاجتماعية والاقتصادية‪ ...‬والمؤسسات التعليمية تضع أهداف ًا‬ ‫عام ًة في مستوى أدنى من مستوى الأهداف التربوية للمجتمع‪ ،‬وتريد من ال ُمع ِّلمين أ ْن‬ ‫يح ِّققوا هذه الغايات التربوية في المدارس والفصول الدراسية‪ .‬وال ُمع ِّلمون ‪-‬ك ٌّل في مجال‬ ‫اختصاصه العلمي‪ -‬يح ِّددون أهداف التدريس التي يريدون من طلبتهم تحقيقها‪ ،‬وهكذا‪.‬‬ ‫وللتمييز بين المستويات المختلفة للأهداف التربوية‪ ،‬يستخدم التربويون أحيان ًا‬ ‫مصطلحات مح َّددة‪ ،‬تأخذ نصيب ًا من الشيوع والانتشار‪ .‬ومع ذلك‪ُ ،‬ي ْؤثِ ُر بع ُض التربويين‬ ‫استعمال مصطلحاتهم الخاصة بهم‪ ،‬ويق ِّدمون تعريف ًا إجرائي ًا لها‪ .‬وتتو َّقف دلالات‬ ‫بعض هذه المصطلحات أحيان ًا على السياق الذي ُتستع َمل فيه؛ فقد يأتي التمييز بين‬ ‫\"الأهداف التربوية\" التي يريد المجتمع تحقيقها‪ ،‬وتتصل بنظام الاعتقاد ونظام القيم‪ ،‬أو‬ ‫تتصل بمشروعات التنمية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية وغيرها‪ ،‬و\"الأهداف التعليمية\"‬ ‫التي تسعى مؤسسات التعليم الوطنية إلى تحقيقها‪ ،‬وتتصل بنظام المعرفة وتطبيقاته في‬ ‫المراحل والبرامج والمناهج التعليمية‪ .‬وقد ُتستع َمل مصطلحات مح َّددة‪ ،‬مثل‪\" :‬الغايات\"‬ ‫التربوية‪ ،‬أو \"المقاصد\" التربوية لتعني الأهداف العليا التي يريد المجتمع أ ْن تتح َّقق في‬ ‫مواطنيه‪ ،‬ث َّم يتم التمييز بين أهداف تربوية عامة وأهداف تربوية خاصة‪ .‬وقد يلجأ بعض‬ ‫‪296‬‬

‫التربويين إلى استعمال مصطلح \"الأهداف\"‪ ،‬أو \"الغايات\"‪ ،‬أو \"الأهداف‪-‬الغايات\"‪ ،‬أو‬ ‫\"المقاصد\"‪ ،‬بمرجعية دينية إلهية‪ ،‬تو ِّسع دائرة الاهتمام بالأهداف التربوية إلى ما يريده‬ ‫الخالق من الإنسان المخلوق‪ .‬بينما ُتستخ َدم هذه المصطلحات نفسها بمرجعية تشريعية‬ ‫وضعية‪ ،‬تقصر الأهداف التربوية على ما يريده المجتمع من أفراده‪ .‬وفي هذه الحالة‬ ‫سيظهر إلى جانب مصطل ِح \"الأهداف‪-‬الغايات\"‪ ،‬أو مصطل ِح \"الأهداف المقاصدية\"‬ ‫مصطل ٌح يقابله‪ ،‬مثل‪\" :‬الأهداف‪-‬الوسائل\"‪ ،‬أو \"الأهداف الو َس ِل َّية\"‪(((.‬‬ ‫وقد يتسلسل التربويون في التعبير عن مستويات الأهداف التربوية لتصل إلى الصورة‬ ‫التي يريدون ملاحظتها في سلوك ال ُمتع ِّلمين نتيج ًة لتدريس موضوع معين في زمن معين‪،‬‬ ‫فيستخدمون مصطلح \"الأهداف السلوكية\"‪ .‬وقد يكون المطلوب أ ْن تأتي هذه الأهداف‬ ‫السلوكية في مستويات مح َّددة من الأداء‪ ،‬ف ُتس ّمى \"الكفايات التعليمية\"‪ .‬وكما هو الحال‬ ‫في مستويات الأداء المنشودة في معظم الفعاليات البشرية‪ ،‬ر َّبما يتفق المعنيون على‬ ‫مستوى مح َّدد ُي َع ُّد الأعلى‪ ،‬و ُين َسب إليه الأداء الفعلي‪ ،‬ويكون هذا الح ُّد معيار ًا للجودة‪،‬‬ ‫تكشف عنه مؤ ِّشرات مح َّددة‪.‬‬ ‫أ ّما نحن فقد اخترنا أ ْن يبدأ عنوان هذا الفصل بلفظ \"مقاصد\"‪ ،‬لا بأ ِّي لفظ آخر‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫لفظ \"أهداف\" الذي ُيستع َمل عادة في الفكر التربوي والممارسة التربوية‪ ،‬أو لفظ \"غايات\"‪،‬‬ ‫وهو لفظ ُيستع َمل عادة للأهداف النهائية‪ .‬ونلجأ إلى هذا الاختيار لأسباب ثلاثة‪:‬‬ ‫أ‪ -‬الرغبة في التعامل مع العملية التربوية بمنهجية مقاصدية‪ ،‬تو ِّسع دائرة الأهداف‬ ‫المنشودة من هذه العملية‪ ،‬بدء ًا بمستوى السلوك المباشر لل ُمتع ِّلمين‪ ،‬ومرور ًا‬ ‫بتشكيل شخصية ال ُمتع ِّلم وإنجازاته في حياته الخاصة والعامة‪ ،‬وانتها ًء بالتغيير‬ ‫المنشود في المجتمع‪ ،‬وإسهام الأُ َّمة في ترشيد الحضارة البشرية‪.‬‬ ‫ب‪ -‬الرغبة في التعامل مع موضوعات الفكر التربوي الإسلامي بمنهجية مقاصدية‪،‬‬ ‫تو ِّسع دائرة المقاصد من فقه الأحكام الشرعية التقليدي إلى فكر البناء الاجتماعي‬ ‫والحضاري‪ .‬وبهذه المنهجية يكون الفقه المقاصدي فقه ًا في العبادات‪ ،‬وفقه ًا‬ ‫في المعاملات؛ في مجالاتها السياسية والاقتصادية والتربوية‪ ،‬وسائر مجالات‬ ‫((( في النسبة إلى كلمة \" َو ِسيلة\" على وزن \" َف ِعيلة\"‪ُ ،‬تح َذف ياء \" َف ِعيلة\" وتاء التأنيث‪ ،‬ث َّم ُتق َلب كسرة العين فتحة‪،‬‬ ‫فتصبح \" َو َس ِل ٌّي\"‪ ،‬ومؤنثها \" َو َس ِل َّي ٌة\"‪.‬‬ ‫‪297‬‬

‫التعامل التي نجدها في المجتمع البشري المعاصر‪ ،‬وبذلك يكون من مقاصدنا‬ ‫وجود الفقيه التربوي‪ ،‬والفقيه السياسي‪ ،‬والفقيه الاقتصادي‪ ،‬والفقيه في غير‬ ‫ذلك من فعاليات المجتمع المعاصر‪.‬‬ ‫ت‪ -‬الرغبة في بناء وعي كا ٍف بأ َّن المقصود بالعملية التربوية هو الإنسان الذي‬ ‫استخلفه الله في الحياة الدنيا؛ ليعمرها وفق ًا لمقاصد الحق من الخلق‪ .‬وسيقف‬ ‫للحساب عند الله في الآخرة جمي ُع ال َم ْعنِ ّيين بهذه العملية‪ ،‬ومع ك ٍّل منهم ك ْش ٌف‬ ‫بما ح َّققه من هذه المقاصد في الحياة الدنيا‪ .‬فالاهتمام بموضوع \"المقاصد\"‪،‬‬ ‫والاجتهاد فيه‪ ،‬ومنهجه‪ ،‬وممارسته ليس مقتصر ًا على المتخ ِّصصين في علم‬ ‫الأصول أو تطبيقاته من العلوم الدينية‪ ،‬وإ َّنما هو منهج في التفكير والممارسة‬ ‫للمتخ ِّصصين في سائر العلوم‪ ،‬وعلى الأخ ِّص العلوم التربوية والنفسية ودعاة‬ ‫الإصلاح بصورة عامة‪.‬‬ ‫ث َّم إ َّن لفظ \"المقاصد\" يحيل إلى دلالا ِت ألفا ٍظ ُأخرى؛ فقد ب َّينّا علاقة المقاصد‬ ‫بالمبادئ والقيم في كتابنا‪\" :‬منهجية التكا ُمل المعرفي‪ :‬مقدمات في المنهجية الإسلامية\"‪،‬‬ ‫فرأينا أ َّن المقاصد هي مبادئ تحكم التفكير المنهجي‪ ،‬والبحث المنهجي‪ ،‬والسلوك‬ ‫المنهجي‪ (((.‬وب َّينّا علاقة المقاصد بالقيم في كتابنا‪\" :‬منظومة القيم العليا‪ :‬التوحيد والتزكية‬ ‫والعمران\"(((‪ ،‬حين رأينا أ َّن القيم هي منظوم ٌة من المعايير التي تتكامل فيما بينها في التأسيس‬ ‫لرؤي ٍة كلي ٍة تحكم الوجود الإنساني في أدائه لوظيفة الخلافة على الأرض‪ ،‬وهي معايير‬ ‫ُتو ِّجه السلوك البشري أفراد ًا ومجتمعا ٍت‪ ،‬وتبني الحضارة الإنسانية في جوانبها المادية‬ ‫والمعنوية‪ ،‬و ُتر ِّش ُدها بهداية الوحي الإلهي‪ ،‬والأُسوة النبوية‪ .‬فتكون القي ُم العليا الحاكمة‬ ‫هي‪ :‬توحيد الله‪ ،‬وعمران الكون‪ ،‬وتزكية الإنسان‪ .‬والقيم بهذا الاعتبار هي معايي ُر تربية‬ ‫الإنسان‪ ،‬وتوجيه سلوكه‪ ،‬وتشكيل شخصيته‪ ،‬وبناء علاقاته بالله سبحانه وبالبيئة الاجتماعية‬ ‫والبيئة الطبيعية‪ ،‬وتكون هذه المعايير حاكم ًة على مقدار ما يتح َّقق من مقاصد الر ِّب الخالق‬ ‫سبحانه من الإنسان المخلوق‪.‬‬ ‫((( ملكاوي‪ ،‬منهجية التكامل المعرفي‪ :‬مقدمات في المنهجية الإسلامية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬الفصل السابع‪ :‬المبادئ‬ ‫والقيم المنهجية‪ ،‬ص‪.290-241‬‬ ‫((( ملكاوي‪ ،‬فتحي حسن‪ .‬منظومة القيم العليا‪ :‬التوحيد والتزكية والعمران‪ ،‬هرندن‪ :‬المعهد العالمي للفكر‬ ‫الإسلامي‪ ،‬ط‪2016 ،2‬م‪ ،‬مقدمة الكتاب‪.‬‬ ‫‪298‬‬

‫والقول بأ َّن للتربية والتعليم مقاصد ليس قولاً طارئ ًا؛ إذ ورد ذلك في كثي ٍر من أقوال‬ ‫العلماء‪ .‬فابن خلدون ‪-‬مثل ًا‪ -‬م َّيز بين صنفين من العلوم‪\" :‬علوم مقصودة بالذات‪...‬‬ ‫وعلوم هي آلية‪ ،‬ووسيلة لهذه العلوم‪(((\".‬‬ ‫وقد استئنسنا في الحديث عن هذه المنطومة الثلاثية من القيم العليا بفقيه أصولي‪،‬‬ ‫هو شيخنا العلواني الذي رأى أ َّن هذه المنطومة هي منظومة مقاصدية حاكمة على كل‬ ‫ما يمكن أ ْن يندرج تحت الفقه الإسلامي والفكر الإسلامي‪ ،‬وبغير ذلك لا يكون فقهنا‬ ‫إسلامي ًا‪ ،‬ولا فكرنا إسلامي ًا؛ فهذه \"المقاصد العليا الحاكمة يمكن أ ْن تساعد ‪-‬أيض ًا‪ -‬على‬ ‫تطوير نظرية معرفية عامة في العلوم الشرعية كلها‪ ،‬وكذلك في العلوم الاجتماعية ‪(((\"...‬‬ ‫\"وأ َّنها الكليات القرآنية الكفيلة بتشغيل سائر المنظومات‪ ...‬الفقهية والقانونية‪ ،‬وإعادة‬ ‫بناء الشخصية الإسلامية الفردية والاجتماعية‪ ،‬وتحويلها إلى نموذج ومثال يم ِّهد لعالمية‬ ‫الإسلام القادمة بإذن الله‪ ،‬وظهوره على الدين كله؛ لأ َّن المقاصد العليا الحاكمة يمكن أ ْن‬ ‫تم ِّثل بجملتها أو ببعضها ‪-‬على الأقل‪ -‬مشتركات إنسانية‪(((\".‬‬ ‫واستئنسنا كذلك بواحد من الفقهاء التربويين المعاصرين‪ ،‬الذي صنَّف وجعل‬ ‫الأهداف التربوية في مستويين؛ الأول منهما يخت ُّص بالمقاصد النهائية؛ إذ يقول‪\" :‬وتنقسم‬ ‫الأهداف التربوية إلى قسمين رئيسين‪\" :‬الأهداف الأغراض\"‪ :‬أ ِي التي تشتمل على‬ ‫الأغراض والمقاصد النهائية التي ُيراد من التربية إنجازها وتحقيقها على المستويات‬ ‫الفردية والاجتماعية والعالمية‪( ،‬و) \"الأهداف الوسائل\"‪ :‬أ ِي التي تشتمل على الوسائل‬ ‫والأدوات الف ّعالة لتحقيق الأهداف الأغراض‪(((\".‬‬ ‫و ِمن فقهاء التربية المعاصرين كذلك َمن ربط \"مقاصد الشريعة\" بما س ّماه \"الدلالة‬ ‫التربوية لنظام الدولة التي أنشأها الرسول ﷺ\"‪ ،‬فجعل هيمنة هذه المقاصد على أشكال‬ ‫((( ابن خلدون‪ .‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.1114‬‬ ‫((( العلواني‪ ،‬طه جابر‪\" .‬من التعليل إلى المقاصد القرآنية العليا الحاكمة\"‪ ،‬مجلة إسلامية المعرفة‪ ،‬العدد (‪-46‬‬ ‫‪ ،)12( ،)47‬خريف وشتاء ‪2007-2006‬م‪ ،‬ص‪.19‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.22‬‬ ‫((( الكيلاني‪ ،‬ماجد عرسان‪ .‬أهداف التربية الإسلامية‪ :‬مقارنة بين أهداف التربية الإسلامية والأهداف التربوية‬ ‫المعاصرة‪ ،‬المدينة المنورة‪ :‬مكتبة دار التراث‪ .‬ط‪1408( ،2‬ﻫ‪1988 /‬م)‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫‪299‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook