﴿ -ﯼﯽﯾ﴾ [آل عمران.]132: ﴿ -ﮏﮐﮑ﴾ [الأنفال.]20: ﴿ -ﯸﯹﯺﯻ﴾ [النساء.]59: ﴿ -ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ﴾ [النساء.]80: ﴿ -ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ﴾ [النور.]54: ﴿ -ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ﴾ [النور.]56: ث َّم إ َّن القرآ َن الكريم ن َّص على أ َّن ما ينطق به النبي ﷺ إ َّنما هو وحي يوحى .ولا خلاف على أ َّن القرآن الكريم وحي أوحى به الله إلى رسوله ،ولك ْن من الوحي ما هو غي ُر القرآن؛ من بيا ٍن لما في القرآن من أحكام وتوجيهات .وقد ن َّص القرآ ُن كذلك على ضرورة ا ِّتباع النبي فيما يو ِّجه إليه ،أو يقضي به .قال سبحانه﴿ :ﭮﭯﭰﭱﭲ ﭳﭴ ﭵﭶﭷﭸﭹ﴾ [آل عمران ،]31:وقال تعالى﴿ :ﯜﯝﯞﯟ ﯠﯡﯢ ﯣﯤﯥﯦﯧ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ﴾ [النساء ،]65:وقال ع َّز وج َّل﴿ :ﮠﮡﮢﮣﮤ ﮥﮦﮧﮨ﴾ [الحشر ،]7:وقال ع َّز من قائل: ﴿ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ﴾ [النور.]63: وتعليم النبي ﷺ للمؤمنين لا يقتصر على تعليم أصحابه الذين كانوا حوله في حياته ،وإ َّنما هو تعليم مستمر متصل للمؤمنين فيما يأتي بعد ذلك من أجيال الناس على تن ُّوع الزمان والمكان .فالنص القرآني في تعليم المؤمنين جاء بصيغة الفعل المضارع. ﴿ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ﴾ [البقرة .]151:قال أبو حيان في \"تفسير البحر المحيط\" عند قوله تعالى﴿ :ﯜﯝﯞ ﯟﯠ﴾…\" :وأتى بهذه الصفات فعل ًا مضارع ًا ليدل بذلك على التج ُّدد؛ لأ َّن التلاوة والتزكية والتعليم تتج َّدد دائم ًا (((\".والتعليم الحق الذي يحصل منه أثر في نفس ال ُمتع ِّلم يحتاج إلى تكرير وتكثير ،كما جاء في مفردات الراغب\" :وأعلمته وع َّلمته ((( أبو حيان الأندلسي ،تفسير البحر المحيط ،مرجع سابق ،ج ،1ص.618 250
في الأصل واحد ،إلا أ َّن الإعلام اخت َّص بما كان بإخبار سريع ،والتعليم اخت َّص بما يكون بتكرير وتكثير حتى يحصل منه أثر في نفس ال ُمتع ِّلم(((\". وفي ال ُّسنة النبوية نفسها نصوص كثيرة تؤ ِّكد ُحجية توجيهات النبي ﷺ؛ فقد ورد في \"سنن أبي داود\" قوله ﷺ\" :ألا إ ِّني ُأوتِ ْي ُت الكتا َب وم ْث َله معه ،ألا يوشك رج ٌل شبعان على أريكته ،يقول :عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأ ِح ُّلوه ،وما وجدتم فيه من حرام فح ِّرموه ،ألا لا يح ُّل لكم لح ُم الحمار الأهلي ،ولا ك ُّل ذي نا ٍب من السبع ،ولا ُل َق َط ُة معاه ٍد إلا أ ْن يستغني عنها صاحبها(((\". وفي ال ُّسنة ما يشير إلى مسارعة الصحابة إلى الأخذ بتوجيهاته وتنفيذها ،ور َّبما الاستفسار عن بعض ما ورد فيها لمزي ٍد من الوضوح؛ ففي قصة فتح خيبر ،أصاب الصحاب َة مسغب ٌة كبيرة ،فأخذوا يذبحون ال ُح ُمر الأهلية التي وجدوها خارج حصون خيبر ،ليأكلوها، فنهاهم النبي ﷺ ،فانتهوا .وقد أورد البخاري في ذلك حديث سلمة بن الأكوع ،وفيه: \"فل ّما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم ،أوقدوا نيران ًا كثيرة ،فقال النبي ﷺ :ما هذه النيران؟ على أ ِّي شيء تو ِقدون؟ قالوا :على َل ْح ٍم ،قال :على أ ِّي لحم؟ قالواَ :ل ْحم ُح ُمر الإنسية .قال النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم :أهريقوها واكسروها .فقال رجل :يا رسول الله ،أو نه ِري ُقها ونغ ِس ُلها ،قال :أ ْو ذلك (((\".وفي رواية :قالوا :ألا نه ِري ُقها ونغ ِس ُلها؟ قال: اغ ِسلوا (((\".وكان عدول النبي عن الكسر ،وإباحة الغسل؛ إ ّما َو ْحي ًا ،وإ ّما اجتهاد ًا منه ﷺ. والنبي ﷺ يأمر وينهى بوحي من ربه ،فما ح َّرمه فهو حرام .وقد ثبت تحريمه لل ُح ُمر الأهلية بأحاديث متواترة في الصحيحين وغيرهما. وفي الحديث عند أبي داود أ َّن الصحابة كانوا يسألون رسول الله ﷺ عن مسائل في الطهارة ،فيجيبهم ،وكان م ّما قاله\" :إِ َّن َما َأ َنا َل ُك ْم بِ َمنْ ِز َل ِة ا ْل َوالِ ِد ُأ َع ِّل ُم ُك ْم(((\". ((( الراغب الأصفهاني ،المفردات في غريب القرآن ،مرجع سابق ،ص.446 ((( أبو داود ،سليمان بن الأشعث السجستاني (توفي275 :ﻫ) .سنن أبي داود ،اعتنى به :فريق بيت الأفكار الدولية، الرياض :بيت الأفكار الدولية ،ط1999 ،1م ،كتاب :السنة ،باب :في لزوم السنة ،حديث رقم ،)4604( :ص.503 ((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :المغازي ،باب :غزوة خيبر ،حديث رقم ،)4196( :ص.796 ((( المرجع السابق ،كتاب :المظالم ،باب :هل تكسر الدنان التي فيها خمر ،حديث رقم ،)2477( :ص.468 ((( أبو داود ،سنن أبي داود ،مرجع سابق ،كتاب :الطهارة ،باب :كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة ،حديث رقم ،)8( :ص.25 251
وكنّا قد أشرنا سابق ًا في هذا الفصل إلى عدد من الآيات القرآنية التي تتح َّدث عن النبي ﷺ بوصفه ُمع ِّلم ًا ،وعن بعض صفاته التعليمية .ونشير هنا إلى أ َّن الصحابة رضوان الله عليهم قد لاحظوا هذه الصفات ،وحكموا على أ َّنهم لم يروا أحسن من النبي ﷺ ُمع ِّلم ًا ،ولا أحسن من تعليمه تعليم ًا .فقد ُب ِعث محمد ﷺ برسالة الإسلام إلى قوم هو رج ٌل منهم ،يعرفون ُخ ُلقه وأمانته ،فكان رسولاً منهم ،يخاطبهم بلغتهم ل ُيب ِّين لهم﴿ .ﮖ ﮗ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ﴾ [إبراهيم .]4:فل ّما كان هذا الرسول واحد ًا من قومه يخاطبهم بلغتهم تي َّسرت مهمته في إيصال الرسالة إليهم والتأثير فيهم ،فأحبوه وا َّتخذوه ُأسو ًة وقدو ًة ُيحتذى .وكان بذلك ُمع ِّلم ًا و ُمر ِّبي ًا ،بل كان خي َر ُمع ِّل ٍم و ُم َر ٍّب يمكن للبشر أ ْن يتخ َّيلوه .وبطبيعة الحال ،فإننا لا ننسى في هذا السياق أن الله سبحانه قد أعد هذا النب ّي ليكون على هذا الخلق وهذه الصفات ،وأن رسالته هي رسالة خير وعدل ورحمة، وإخراج من ظلمات الجهل والشرك وظروف الظلم والاضطهاد. وفي هذا الشأن روى الإمام مسلم في \"صحيحه\" عن معاوية بن الحكم ال ُّس َلمي ،قال: بينا أنا ُأص ّلي مع رسول الله ص ّلى الله عليه وس َّلم إذ َع َط َس رج ٌل من القوم ،فقل ُت :يرح ُمك الله .فرماني القو ُم بأبصارهم ،فقل ُتَ :وا ُث ْك َل ُأ ِّم ّيا ْه؛ ما ش ْأ ُنكم َتنْظرو َن إ َل َّي؟! فجعلوا َي ْضربو َن بأيديهم على أفخاذهم ،فل ّما رأيتهم ُي َص ِّمتو َنني ،لكنّي َس َك ُّت ،فل ّما ص ّلى رسول الله ﷺ ،فبأبي هو و ُأ ّمي؛ ما رأي ُت ُمع ِّلم ًا قبله ولا بعده أحس َن تعليم ًا منه ،فوالله ما َك َه َرني ولا ضربني ولا شتمني ،قال\" :إ َّن هذه الصلاة لا يصل ُح فيها شي ٌء من كلام الناس ،إ َّنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن(((\". وقد اصطفى الله محمد ًا ﷺ من سائر الناس ليكون حامل رسالته الأخيرة إلى الناس جميع ًا ،وتو ّلى الله سبحانه إعداده لإبلاغ الرسالة ،وتح ُّمل أعبائها ومهامها﴿ .ﯱﯲﯳ ﯴﯵ﴾ [الأنعام .]124:ف ُح ِّب َب إليه التف ُّكر والتع ُّبد بعيد ًا عن أعين الناس ،وتجنَّ َب بفطرته الزكية معتقدات الجاهلية ،وضلالاتها ،وممارساتها ،حتى اش ُت ِهر بين الناس قبل البعثة بصفة \"الصادق الأمين\" .ث َّم جاءت مرحلة النبوة ،فكان الله سبحانه ُيع ِّلمه و ُيو ِّجهه بما يوحي ((( مسلم ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،كتاب :المساجد ومواضع الصلاة ،باب :تحريم الكلام في الصلاة ،حديث رقم ،)537( :ص.217 252
إليه ،وبما ُيع ِّلمه إ ّياه أمين الوحي جبريل عليه السلام؛ فهذا القرآن ُمن َّزل من الله سبحانه. ﴿ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ﴾ [الأنعام .]114:وقد ن َّزله روح القدس جبريل على قلب الرسول من الله .قال تعالى﴿ :ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ﴾ [النحل،]102: وقال سبحانه﴿ :ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ﴾ [البقرة .]97:فجبريل هذا هو \"شديد القوى\" ع َّلم الرسو َل القرآ َن﴿ .ﭦﭧﭨ﴾ [النجم .]5:فأرسل الله الرسول بهذا القرآن ليتلو على الصحابة آياته ،و ُيع ِّلمهم علومه وأحكامه﴿ .ﯗﯘﯙﯚ ﯛ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧ﴾ [البقرة .]151:فالله سبحانه ُيع ِّلم جبريل ،وجبريل ُيع ِّلم الرسول ،والرسول ُيع ِّلم الصحابة، والصحابة يع ِّلمون التابعين ،وهكذا؛ فدين الله سبحانه كله علم وتعليم. فإذا كانت وظيفة الرسول هي التعليم ،فإ َّن ما ورد في ُسنَّة الرسول من تعليم وبيان وبلاغ وتربية وتزكية هو مصدر أساسي للفكر التربوي في غاياته ومضامينه وأساليبه. فما العلوم التي تو ّلى الرسول ﷺ تعليمها للناس ،أو دعاهم إلى تع ُّلمها من مصادرها؟ ثالث ًا :ال ُّسنة النبوية في العلوم الواجب تع ُّلمها وتعليمها: ليس من السهل الإحاطة بالأمثلة التي يمكن أ ْن نجدها عن مواقف التعليم والتربية النبوية؛ فوظيفة النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم الأساسية هي بيان ما في كتاب الله من أحكام وتوجيهات ،وإبلاغها وتعليمها للناس .فحياته كلها كانت تعليم ًا؛ كل كلمة يقولها ،وكل حركة يفعلها ،وكل موقف أو رأي أو ُحكم ،إ َّنما كان تعليم ًا .ومع أ َّن القرآن الكريم قد تض َّمن صفحات من قصة نبي الله إبراهيم عليه السلام ،وأ َّنه ُأسوة للمؤمنين في موقف المفاصلة الكاملة مع الكفار ،والبراءة منهم و ِم ّما يعبدون (((،فإ َّن ما ورد في القرآن الكريم عن صفات محمد ص ّلى الله عليه وس َّلم ،وما حفظته ال ُّسنة النبوية عن تفاصيل سيرته وحياته، جعله ُأسو ًة حسنة للمؤمنين في كل شأن﴿ .ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯻﯼﯽﯾﯿ﴾ [الأحزاب .]21:وسوف نكتفي بالإشارة إلى عدد قليل من الأمثلة. ((( إشارة إلى قوله تعالى﴿ :ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ﴾ [الممتحنة.]4 : 253
لقد ارتبطت قراءة ال ُّسنة النبوية باهتمام القارئ وتخ ُّصصه؛ فالسياسي يقرأ ال ُّسنة بطريقته ،وكذلك الاقتصادي ،وعالِم النفس ،وغيرهم من المتخ ِّصصين؛ ك ٌّل يقرأ ال ُّسنة بحث ًا ع َّما يشعر أ َّنه يحتاج إليه في تخ ُّصصه ،ور َّبما يستنبط منها ما لا يستنبطه غيره ،ويجتهد في دلالة حديث معين على مسألة من مسائل تخ ُّصصه .ور َّبما يرى في الحديث نوع ًا من الإعجاز أو السبق في ال ُّسنة النبوية ،وقد يدخل الباحث في فهمه للحديث في مقارنات ومقاربات ُتح ِّمل الحديث فوق ما يحتمل. ومعظم العلوم لها جانب نظري وجانب عملي ،وبعض العلوم ُت َع ُّد أساس ًا نظري ًا لعلوم ُأخرى يغلب عليها الجانب التطبيقي العملي .وقد رصد العلماء المتخ ِّصصون حضور ال ُّسنة النبوية في العلوم النظرية والعملية؛ فعلم النفس -مثل ًاُ -ي َع ُّد الأساس النظري للعلوم التربوية ،ونجد أحد المتخ ِّصصين في علم النفس يؤ ِّلف كتاب ًا من عشرة فصول للحديث عن حضور ال ُّسنة النبوية في علم النفس ،وهذه الفصول هي :دوافع السلوك ،الانفعالات، الإدراك الحسي ،التفكير ،التع ُّلم ،العلم اللدني ،النمو ،الشخصية ،الصحة النفسية ،العلاج النفسي .وقد أثبت المؤ ِّلف ما رآه شاهد ًا من الحديث النبوي على بعض المسائل التي َت ِر ُد في علم النفس المعاصر تحت هذه العناوين العشرة (((.ور َّبما نجد بحوث ًا متخ ِّصصة في موضوع واحد من موضوعات علم النفس ،مثل :الرؤى ،والأحلام (((،والطب النفسي (((،وغيرها. وهذا النوع من البحوث نجد كثير ًا منه في الدوريات العلمية المتخ ِّصصة ،ونجد منه أطروحات جامعية كثيرة كذلك. ونجد المتخ ِّصصين في الاقتصاد يتح َّدثون عن الاقتصاد في الإسلام ،ومرجعيتهم القرآن وال ُّسنة .و ُن ِشرت كتب وبحوث كثيرة في هذا المجال ،وقد يقتصر العمل على ((( نجاتي ،محمد عثمان .الحديث النبوي وعلم النفس .القاهرة :دار الشروق ،ط2005 ،5م. ((( العمري ،عبد الله محمد أمين يونس .الرؤى والأحلام في السنة النبوية :دراسة وجمع وتصنيف وتخريج ،ع ّمان: الجامعة الأردنية1996 ،م .انظر كذلك: -الجمعان ،محمد بن عبد العزيز\" .الرؤى والأحلام في هدي السنة النبوية\"( ،أطروحة ماجستير ،في قسم الثقافة الإسلامية ،كلية التربية ،جامعة الملك سعود ،الرياض1430 ،ﻫ). ((( الزيان ،رمضان إسحاق\" .الطب النفسي في ضوء السنة النبوية\"( ،أطروحة ماجستير غير منشورة ،كلية أصول الدين والتربية ،جامعة أم درمان الإسلامية ،السودان1990 ،م). 254
تصنيف آيات القرآن والأحاديث النبوية على أبواب الاقتصاد المعاصر كما فعل منذر قحف (((،وقد يقتصر على حضور ال ُّسنة النبوية في الاقتصاد (((،وقد تكون المؤ َّلفات عن التربية الاقتصادية في الإسلام ،مع تضمينها نصوص ًا من القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية(((. ونحن نجد حول هذه العلوم وغيرها توجيهات نبوية تح ِّدد ما َيلزم أ ْن يتع َّلم المسلم منها ،وكيف يتعامل معها. وحضور العلوم التجريبية في ال ُّسنة النبوية لا يقل عن حضور المجالات العلمية الأُخرى ،مثل :علم النفس ،وعلم الاقتصاد ،وغيرهما .وقد اختار يوسف القرضاوي أ ْن يضرب للعلوم التجريبية مثل ًا بعلم الطب للكشف عن هذا الحضور ،وأشار إلى الأحاديث النبوية ذات الصلة بعدد من المبادئ التي تصلح أساس ًا لتشييد صر ٍح \"لطب علمي سليم\"، فذكر سبعة مبادئ مارسها المجتمع المسلم ،هي: -إقرار قيمة البدن. -ضرورة طلب العلاج. -فتح باب الأمل بالشفاء. -الاعتراف ب ُسنَّة الله في العدوى. -مقاومة طب الكهنة والسحرة. -مسؤولية أدعياء الطب عن أخطائهم. -جواز الاستعانة بالطبيب غير المسلم. ((( قحف ،منذر .النصوص الاقتصادية من القرآن والسنة ،جدة :مركز النشر العلمي ،جامعة الملك عبد العزيز، 2009م .وهو كتاب كبير جاء في ( )1026صفحة ،وقد رصد فيه المؤ ِّلف ما َع َّده نصوص ًا اقتصادي ًة من القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية على أبواب السلوك الاقتصادي ،وأسس النشاط الاقتصادي والمبادئ والقوانين الأساسية للنظام الاقتصادي ،ونظرية الاستهلاك وسلوك المستهلك ،ونظرية الإنتاج ،ونظام السوق ،ونظرية الاقتصاد الكلي ،ودور الدولة الاقتصادي ،والمالية العامة ،والأسعار .وفي كل فصل من هذه الفصول فروع كثيرة. ((( حطاب ،كمال\" .التعاليم الاقتصادية في السنة النبوية\" ،بحث مق َّدم إلى :مؤتمر السنة النبوية في الدراسات المعاصرة ،الذي ن َّظمته جامعة اليرموك في الأردن2007/4/18-17 :م .ويمكن استرجاعه على الرابط: - https: //www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=98045 ((( التركاوي ،كيندة حامد .التربية الاقتصادية في الإسلام وأهميتها للنشء الجديد( ،د .م :).دار إحياء للنشر الإلكتروني2010 ،م .وكان عدد الأحاديث النبوية التي وردت في بعض جوانب التربية الاقتصادية ()111 حديث ًا نبوي ًا ،في حين بلغ عدد الآيات القرآنية التي استشهدت بها المؤ ِّلفة ( )90آية. 255
ث َّم أشار القرضاوي إلى أ َّن النبي ﷺ كان في مقام الأُسوة الحسنة ،حيث ق َّدر الطب القائم على العلم والتجربة .وقد استشهد القرضاوي لكل مبدأ من هذه المبادئ بأحاديث نبوية صحيحة ،ورأى أ َّن هذه المبادئ كانت كافية \"لإلقاء الضوء على موقف الرسول من الطب ،وهو موقف سبق عصر النهضة في الغرب بقرون ،وقام على أساسه في عا َلم الإسلام طب نظري وعملي ،كانت كتبه مراجع لأوروبا وغيرها ِع َّدة قرون ،ويكفي في ذلك كتاب \"القانون\" لابن سينا ،و\"الحاوي\" للرازي ،و\"الكليات\" لابن رشد(((\". رابع ًا :التع َّلم في ال ُّسنة النبوية: فيما يخ ُّص علوم التربية والتعليم ،فقد كانت ال ُّسنة النبوية حاضرة في مجالات كثيرة، منها :التع ُّلم أو طلب العلم فريضة ،وحضور الن َّية في طلب العلم ،والصبر على متاعب الطلب ،وطلب الزيادة في العلم ،وبيان ما يجب تع ُّلمه ،والتعليم فريضة ،وله وسائله وأساليبه ،وبيان منزلة العلماء وتوقيرهم ،وتدوين العلم وكتابته ،والمواقف العملية الكثيرة التي كان فيها النبي ُمع ِّلم ًا ،وغير ذلك كثير. وقد اش ُت ِهر حديث\" :طلب العلم فريضة على كل مسلم (((\".وك ُثر الكلام عليه؛ سواء في سنده ،أو دلالاته .وبقطع النظر عن هذا الكلام ،فإ َّنه يمكن أ ْن ُيف َهم الحديث في ضوء مقاصد الإسلام العامة التي تجعل العلم فر َض ع ْي ٍن أو فر َض كفاي ٍة ،وتفرض على المجتمع المسلم توفير ما َيلزم تع ُّلمه في الحالتين ،م ّما يفي بحاجة الفرد والمجتمع والأُ َّمة من أمور الدين والدنيا .ومن ال ُمتو َّقع أ ْن نجد ثلاثة أنواع من هذه العلوم؛ أولها علوم استقرت فرضيتها العينية ،بأهدافها وموضوعاتها مع ما يتج َّدد في طرقها وأساليبها ،مثل قضايا العقائد والعبادات .وثانيها علوم متط ِّورة ومتج ِّددة في جانبيها :العيني والكفائي ،مثل: ((( القرضاوي ،الرسول والعلم ،مرجع سابق ،ص.60-57 ((( قال السيوطي\" :جمعت له خمسين طريق ًا ،وحكمت بصحته لغيره .ولم ُأص ِّحح حديث ًا لم أسبق لتصحيحه سواه\". وقال السخاوي\" :له شاهد عند ابن شاهين ،ورجاله ثقات عن أنس ،ورواه عنه نحو عشرين تابعي ًا \".انظر: -المناوي ،محمد عبد الرؤوف .فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير ،للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي ،ضبط وتصحيح :أحمد عبد السلام ،بيروت :دار المعرفة ،ط1972 ،2م، حديث رقم ،)5264( :ج ،4ص .267وقد ص َّححه الألباني .انظر: -الألباني ،محمد ناصر الدين .صحيح الجامع الصغير وزياداته (الفتح الكبير) ،دمشق :المكتب الإسلامي، ط1408( ،3ﻫ1988 /م) ،حديث رقم ،)3913( :ص.727 256
قضايا المعاملات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية ،والعلوم الطبيعية والطبية والهندسية وغير ذلك .وثالثها علوم جديدة قد تنشأ على غير سابقة ،ولكنَّها تحمل درجة متج ِّددة من كونها فرض عين ،أو فرض كفاية ،مثل :بعض فروع الرياضيات ،والحاسوب ،والفيزياء النظرية ،والفلك ،والفضاء ،وغير ذلك. ث َّم إ َّن فرضية التع ُّلم على كل مسلم حاضرة في عدد كبير من الأحاديث التي تح ُّث على طلب العلم ،وتر ِّغب فيه ،وتب ِّين فضل العلم والعلماء .ومن ذلك تأكي ُده ﷺ أ َّن التع ُّلم واكتساب العلم يحتاج إلى ن َّي ٍة ورغبة واجتهاد؛ فهو يقول\" :يا أيها الناس تع َّلموا ،إ َّنما العلم بالتع ُّلم ،والفقه بالتف ُّقه ،و َمن ُي ِر ِد الله به خير ًا يف ِّقه في الدين (((\".ويؤ ِّكد ﷺ أ َّن َمن توافرت له هذه الن َّية ،وسعى إلى طلب العلم ،فإ َّن الله يس ِّهل له طريق ًا إلى الجنةُ ،مب ِّين ًا فضل الاجتماع في حلقات العلم والمدارسة؛ إذ يقول\" :و َمن سلك طريق ًا يلتمس فيه ِع ْلم ًا س َّهل ال َّله له به طريق ًا إلى الجنة ،وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة ،وغشيتهم الرحمة ،وح َّف ْتهم الملائكة ،وذكرهم الله في َمن عنده(((\". وكان من ثمار ح ِّث النبي ﷺ للصحابة على التع ُّلم أ َّنهم كانوا يحرصون على ألا يفوت أح َدهم شي ٌء م ّما ُيع ِّلمه النبي لأصحابه .ومن ذلك قصة عمر بن الخطاب الذي كان يسكن في عوالي المدينة ،وينزل هو وصحابي من الأنصار بالتناوب إلى رسول الله ﷺ، ويخبر ك ٌّل منهما الآخ َر بما تع َّلم منه في يومه؛ إذ قال\" :كن ُت أنا وجا ٌر لي من الأنصار في بني ُأ َم َّية بن زيد (((،وهي من عوالي المدينة ،وكنّا نتناوب النزول على رسول الله ﷺ ،ينزل يوم ًا، وأنزل يوم ًا ،فإذا نزل ُت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره ،وإذا نزل فعل مثل ذلك(((\". ولم يقتصر هذا الحرص على الصحابة؛ فالتابعون و َمن جاء بعدهم تابعوا هذا الحرص ،وج ُّدوا في طلب ما ُأثِر عن النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم ،وتن َّقلوا في البلاد بحث ًا ((( ابن حجر ،الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي العسقلاني (توفي852 :ﻫ) .فتح الباري بشرح صحيح البخاري، تعليقات :عبد الرحيم البراك ،اعتناء :أبو قتيبة الفارياني ،الرياض :دار طيبة2005 ،م ،ج ،1ص .184ناقش ابن حجر رواية الحديث ،وقال\" :إ َّن إسناده حسن ،ويعتضد بمجيئه من وجوه ُأخرى\". ((( مسلم ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،كتاب :الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ،باب :فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر ،حديث رقم ،)2699( :ص.1082 ((( اسم المكان الذي كانا يسكنانه. ((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :العلم ،باب :التناوب في العلم ،حديث رقم ،)89( :ص.43 257
ع َّمن يعلم ولو خبر ًا واحد ًا عنه ﷺ .وقد خ َّصص الخطيب البغدادي كتاب ًا كامل ًا عن الرحلة في طلب الحديث ،وب َّين فيه اهتمام الأُ َّمة بالحديث والإسناد ،وأهداف الرحلة عند المحدثين ،وما تعود به الرحلة من فوائد في النمو العلمي للمحدثين ،بما يكون بينهم من تذاكر ،إضاف ًة إلى توثيق العلم ،وضبطه ،وحفظه ،ونشره(((. فقد روى الخطيب البغدادي في كتاب \"الرحلة في طلب الحديث\" بسنده إلى يزيد بن هارون قائل ًا لحماد بن زيد\" :يا أبا إسماعيل هل ذ َك َر الله تعالى أصحا َب الحديث في القرآن؟ فقال :نعم ،ألم تسمع إلى قوله ع َّز وج َّل﴿ :ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ﴾ [التوبة .]122:فهذا في كل َمن رحل في طلب العلم والفقه ،ورجع إلى َمن وراءه فع َّلمه إ ّياه (((\".وقد رأى ُمح ِّقق هذا الكتاب نور الدين عتر أ َّن ما أورده الخطيب البغدادي في الكتاب يدور حول نصين؛ أحدهما الآية القرآنية الكريمةَ \" :ف َل ْو َل َن َف َر ،\"...والآخر حديث الإمام مسلم المشار إليهَ \" :من سلك طريق ًا يلتمس فيه ِع ْلم ًا \"...لذا جعل الـ ُمح ِّقق هذين النصين فاتحة الكتاب. خامس ًا :التعليم في ال ُّسنة النبوية: كثير من نصوص ال ُّسنة النبوية تجمع بين أكثر من موضوع؛ فبعض الأحاديث تجمع بين الح ِّث على التع ُّلم والتعليم مع ًا لأ َّنهما -في النهاية -عملية واحدة فيها طرفان .ومن هذه الأحاديث ما رواه الطبراني عن أبي بكرة ،قال :سمعت النبي ﷺ يقول\" :اغ ُد عالِم ًا أو ُمتع ِّلم ًا ،أو ُمست ِمع ًا أو ُم ِحب ًا ،ولا تكن الخامسة فته َلك ،قال عطاء :قال لي مسعر :زدتنا خامسة لم تكن عندنا ،والخامسة أ ْن ُتب ِغ َض العل َم وأه َله (((\".ومثل ذلك ما رواه ابن ماجة عن أبي هريرة ،أ َّن النبي ﷺ قال\" :أفضل الصدقة أ ْن يتع َّلم المرء ِع ْلم ًا ث َّم ُيع ِّلمه أخاه المسلم(((\". ((( الخطيب البغدادي ،أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت (توفي463 :ﻫ) .الرحلة في طلب الحديث ،تحقيق :نور الدين عتر ،بيروت :دار الكتب العلمية ،ط1975 ،1م. ((( المرجع السابق ،ص.87 ((( الهيثمي ،نور الدين بن أبي بكر (توفي807 :ﻫ) .مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ،تحقيق :حسن سليم الداراني، دمشق :دار المأمون للتراث1991 ،م ،حديث رقم ،)501( :ج ،2ص .240قال الهيثمي\" :رواه الطبراني في الثلاثة ،والبزار ،ورجاله مو َّثقون\". ((( ابن ماجة ،أبو عبد الله محمد بن يزيد (توفي273 :ﻫ) .سنن ابن ماجة ،اعتنى به :فريق بيت الأفكار الدولية ،الرياض: بيت الأفكار الدولية ،ط1999 ،1م ،كتاب :المقدمة ،باب :ثواب معلم الناس الخير ،حديث رقم ،)243( :ص.41 258
ويدخل في الأحاديث ذات الصلة بالتعليم مكانة ال ُمع ِّلم ،وتكريمه ،والتنويه بفضله وقدره ،وهل أفضل من كون ال ُمع ِّلم يقوم في التعليم بما يقوم به الرسول؟ ففي صحيح مسلم\" :إ َّن الله لم يبعثني ُمعنِّت ًا ولا ُمتعنِّت ًا ،ولك ْن بعثني ُمع ِّلم ًا ُمي ِّسر ًا(((\". والأحاديث في التعليم كثيرة جد ًا ،منها ما يفرض على المجتمع توفير التعليم لجميع أفراده ،حتى إ َّن من واجب الجار الذي لديه شي ٌء من العلم أ ْن يق ِّدمه ل َمن ليس لديهم ذلك العلم من الجيران .وفي ذلك يروي الإمام الطبراني أ َّن النبي ﷺ قال\" :ما با ُل أقوا ٍم لا ُيف ِّقهون جيرا َنهم ،ولا ُيع ِّلمونهم ،ولا َي ِعظو َنهم ،ولا يأمرونهم ،ولا ينهونهم؟! وما با ُل أقوا ٍم لا يتع َّلمون من جيرانهم ،ولا يتف َّقهون ،ولا ي َّت ِعظون؟! واللهِ َل ُيع ِّل َم َّن قو ٌم جيرا َنهم ،و ُيف ِّقهونهم ،و َي ِعظو َنهم ،ويأمرونهم ،وينهونهم ،وليتع َّل َم َّن قو ٌم من جيرانهم، ويتف َّقهون ،وي َّت ِعظون ،أو لأُعا ِجلنَّهم العقوب َة .ث َّم نزل .فقال قو ٌمَ :من ترو َنه َعنِ َي بهؤلا ِء؟ قال :الأشعر ِّيي َن ،هم قو ٌم فقها ُء ،ولهم جيرا ٌن جفا ٌة من أهل المياه والأعراب .فبلغ ذلك الأشعر ِّيي َن ،فأتوا رسول الله فقالوا :يا رسول الله ،ذكر َت قوم ًا بخي ٍر ،وذكر َتنا بش ٍّر ،فما با ُلنا؟ فقالَ :ل ُيع ِّل َم َّن قو ٌم جيرا َنهم ول َي ِع ُظنَّهم ،وليأم ُر َّنهم ،ولينهو َّنهم ،وليتع َّل َم َّن قو ٌم من جيرانهم وي َّت ِعظون ويتف َّقهون ،أو لأُعا ِجلنَّهم العقوب َة في الدنيا .فقالوا :يا رسول اللهَ ،أ ُن َف ِّط ُن غي َرنا؟ فأعاد قو َله عليهم ،فأعادوا قو َلهمَ :أ ُن َف ِّط ُن غي َرنا؟ فقال ذلك أيض ًا .فقالواَ :أم ِه ْلنا سن ًة ،ف َأمه َلهم سن ًة ،ل ُيف ِّقهونهم ،و ُيع ِّلمونهم ،وي ِعظونهم(((\". ومنها ما يخت ُّص بالأساليب التي استعملها النبي ﷺ ،أو دعا إلى استعمالها ،من توظيف الأحداث والمناسبات والمواقف لتقديم العلم المناسب .ففي حادثة كسوف الشمس ،روى البخاري في \"صحيحه\" عن المغيرة بن شعبة ،قالَ \" :كسفت الشمس على عهد رسول الله ﷺ يو َم مات إبراهيم ،فقال الناسَ :كسفت الشمس لموت إبراهيم ،فقال رسول الله ﷺ\" :إ َّن الشمس والقمر من آيات الله ،وإ َّنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته .فإذا رأيتم ذلك فص ُّلوا وادعوا الله(((\". ((( مسلم ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،كتاب :الطلاق ،باب :بيان أ َّن تخيير امرأته لا يكون طلاق ًا إلا بالدية ،حديث رقم ،)1478( :ص.592 ((( الهيثمي ،مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ،مرجع سابق ،كتاب :العلم ،باب :في تعليم َمن لا يعلم ،ج ،1ص.164 قال\" :رواه الطبراني في الكبير ،وفيه بكير بن معروف \".وقال البخاري\" :ار ِم به \".وو َّثقه أحمد في رواية، وض َّعفه في ُأخرى .وقال ابن عدي\" :أرجو أ َّنه لا بأس به \". ((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :الكسوف ،باب :الصلاة في كسوف الشمس ،حديث رقم ،)1043( :ص.207 259
وفي ذلك تصحي ٌح لما كان سائد ًا من العلوم الفاسدة في الجاهلية؛ من أ َّن ظواهر الشمس والقمر والنجوم تؤ ِّثر في حياة الناس ،ولا سيما في حالات الولادة والموت. ومنها تهيئة ال ُمتع ِّلمين للموضوع من خلال السؤال ،ومنها التر ُّفق بهم ،والترحيب بهم ،وعدم الإملال عليهم بطول التعليم ،ومراعاة ما بينهم من فروق؛ ومنها عدم إلقاء العلم َم َّر ًة واحدة ،والتد ُّرج في عرض الموضوع. ومنها توضيح المسألة باستخدام ما يناسبها من الوسائل ال ُم ِعينة بالإشارة والرمز والرسم .ومن ذلك ما رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود ،قالَ \" :خ َّط النَّبِ ُّي ﷺ َخ ّط ًا ُم َر َّبع ًاَ ،و َخ َّط َخ ّط ًا فِي ال َو َس ِط َخا ِرج ًا ِمنْ ُهَ ،و َخ َّط ُخ َطط ًا ِص َغار ًا إِ َلى َه َذا ا َّل ِذي فِي ال َو َس ِط ِم ْن َجانِبِ ِه ا َّل ِذي فِي ال َو َس ِطَ ،و َقا َلَ \" :ه َذا ال ِإ ْن َسا ُنَ ،و َه َذا َأ َج ُل ُه ُم ِحي ٌط بِ ِه َ -أ ْوَ :ق ْد َأ َحا َط بِ ِه- َو َه َذا ا َّل ِذي ُه َو َخا ِر ٌج َأ َم ُل ُهَ ،و َه ِذ ِه ال ُخ َط ُط ال ِّص َغا ُر الأَ ْع َرا ُضَ ،فإِ ْن َأ ْخ َط َأ ُه َه َذا َن َه َش ُه َه َذاَ ،وإِ ْن َأ ْخ َط َأ ُه َه َذا َن َه َش ُه َه َذا(((\". وقد اجتهدنا في عمل هذا الرسم الذي ر َّبما يم ِّثل خريطة مفاهيمية تع ِّبر عن مضمون هذا الحديث النبوي. ويمكن القول إ َّننا نستنبط من بعض مواقف التعليم النبوي طريقة العرض العلمي في التعليم ،ولا سيما إتقان أصحاب الحرف والصنائع أعمالهم .فقد جاء في سنن ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري َأ َّن َر ُسو َل ال َّل ِه ﷺ َم َّر بِ ُغ َل ٍم َي ْس ُل ُخ َشا ًةَ ،ف َقا َل َل ُه َر ُسو ُل ال َّل ِه ﷺَ \" :تنَ َّحَ ،ح َّتى ُأ ِر َي َكَ \".ف َأ ْد َخ َل َر ُسو ُل ال َّل ِه ﷺَ َي َد ُه َب ْي َن ا ْل ِج ْل ِد َوال َّل ْح ِمَ ،ف َد َح َس بِ َهاَ ،ح َّتى َت َوا َر ْت إِ َلى ا ْ ِلبِ ِطَ و َقا َلَ \" :يا ُغ َل ُم َه َك َذا َفا ْس ُل ْخُ \".ث َّم َم َضى َو َص َّلى لِلنَّا ِسَ ،و َل ْم َي َت َو َّض ْأ(((\". ((( المرجع السابق ،كتاب :الرقاق ،باب :في الأمل وطوله ،حديث رقم ،)6417( :ص.1233 ((( ابن ماجة ،سنن ابن ماجة ،مرجع سابق ،كتاب :الذبائح ،باب :السلخ ،حديث رقم ،)3179( :ص .346انظر: -أبو داود ،سنن أبي داود ،مرجع سابق ،كتاب :الطهارة ،باب :الوضوء من مس اللحم النيئ وغلسه ،حديث رقم.)185( : 260
ولا شك في أ َّن الصحابة تع َّلموا من رسول الله ﷺ كثير ًا من الأعمال التي رأوه يأتي بها ،وأ َّنه ص ّلى الله عليه وس َّلم كان ُيو ِّجههم إلى الأخذ بها ،فضل ًا عن تم ُّثل الحالات العلمية التي رأوه فيها .ومن ذلك قوله ﷺ لهم\" :ص ُّلوا كما رأيتموني ُأص ّلي\"((( ،وقوله ص ّلى الله عليه وس َّلم\" :خذوا عنّي مناسككم (((\".وكان ﷺ يرى الواحد منهم يقوم بعمل لا ُي ْح ِسنه ف ُيو ِّجهه إلى جوانب النقص والقصور فيها .وحديث \"المسيء صلاته\"((( مثا ٌل في هذا الباب(((. ونلاحظ أ َّن الأساليب المتعددة التي مارسها النبي ﷺ في تعليمه للصحابة كانت تستهدف في الأساس بناء شخصية الإنسان المسلم على الأخلاق القويمة ،على اعتبار أ َّن إتمام مكارم الأخلاق هو من أهداف البعثة النبوية .قال ﷺ\" \"إ َّنما ُب ِع ْث ُت لأُت ِّمم مكارم الأخلاق\"((( ،وقوله ﷺ\" :ما من شي ٍء أثقل في الميزان من ُح ْس ِن الخلق (((\".وفي رواية عند الترمذي\" :إ َّن من أح ِّبكم إل َّي ،وأقربِكم منّي مجلس ًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاق ًا(((\". ((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :الأدب ،باب :رحمة الناس والبهائم ،حديث رقم ،)6008( :ص.1164 ((( مسلم ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،كتاب :الحج ،باب :استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكب ًا ،وبيان قوله ﷺ\" :لتأخذوا مناسككم\" ،حديث رقم ،)1297( :ص.512 ((( عن َأبِي ُه َر ْي َر َةَ :أ َّن َر ُسو َل الل ِه ﷺ َد َخ َل ال َم ْس ِج َد َف َد َخ َل َر ُج ٌل َف َص َّلىَ ،ف َس َّل َم َع َلى النَّبِ ِّي ﷺ َف َر َّد َو َقا َل\" :ا ْر ِج ْع َف َص ِّلَ ،فإِ َّن َك َل ْم ُت َص ِّل\"َ ،ف َر َج َع ُي َص ِّلي َك َما َص َّلىُ ،ث َّم َجا َء َف َس َّل َم َع َلى النَّبِ ِّي ﷺَ ،ف َقال\" :ا ْر ِج ْع َف َص ِّلَ ،فإِ َّن َك َل ْم ُت َص ِّل\" َث َل ًثاَ ،ف َقا َلَ \" :وا َّل ِذي َب َع َث َك بِال َح ِّق َما ُأ ْح ِس ُن َغ ْي َر ُهَ ،ف َع ِّل ْمنِي\"َ ،ف َقا َل\" :إِ َذا ُق ْم َت إِ َلى ال َّص َل ِة َف َك ِّب ْرُ ،ث َّم ا ْق َر ْأ َما َت َي َّس َر َم َع َك ِم َن ال ُق ْرآ ِنُ ،ث َّم ا ْر َك ْع َح َّتى َت ْط َم ِئ َّن َرا ِك ًعا، ُث َّم ا ْر َف ْع َح َّتى َت ْع ِد َل َقا ِئ ًماُ ،ث َّم ا ْس ُج ْد َح َّتى َت ْط َم ِئ َّن َسا ِج ًداُ ،ث َّم ا ْر َف ْع َح َّتى َت ْط َم ِئ َّن َجالِ ًساَ ،وا ْف َع ْل َذلِ َك فِي َص َلتِ َك ُك ِّل َها \".انظر: -البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :الآذان ،باب :وجوب القراءة للإمام والمأموم ،حديث رقم: ( ،)755ص.759 ((( النسائي .المجتبى من السنن «سنن النسائي» ،مرجع سابق ،كتاب :التطبيق ،باب :الرخصة في ترك الذكر في السجود ،حديث رقم ،)1136( :ص.136 ((( أخرجه أحمد في مسنده .انظر: -ابن حنبل ،الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (توفي241 :ﻫ) .مسند الإمام أحمد بن حنبل ،الرياض :بيت الأفكار الدولية1998 ،م ،حديث رقم ،)8939( :ص.655 ((( أخرجه أبو داود في سننه والترمذي في جامعه .انظر: -أبو داود ،سنن أبي داود ،مرجع سابق ،كتاب :الأدب ،باب :في حسن الخلق ،حديث رقم ،)4799( :ص.523 -الترمذي ،جامع الترمذي ،مرجع سابق ،كتاب :البر والصلة ،باب :ما جاء في حسن الخلق ،حديث رقم: ( ،)2002ص.333 ((( الترمذي ،جامع الترمذي ،مرجع سابق ،كتاب :البر والصلة ،باب :ما جاء في معاني الأخلاق ،حديث رقم: ( ،)2018ص.335 261
المبحث الثالث التراث التربوي الإسلامي مصدر ًا للفكر التربوي الإسلامي المعاصر سبق نش َر هذا الكتاب عن \"الفكر التربوي الإسلامي\" صدو ُر سلسلة من ثلاثة كتب للمؤ ِّلف عن \"التراث التربوي الإسلامي\" ،تض َّمنت قدر ًا من التفصيل عن التراث التربوي الإسلامي ،وحالة البحث المعاصرة فيه ،وبعض التحليل لنصوصه ومدارسه ،واقتراح عدد من المشروعات البحثية فيه .وجاء في الفصل الثاني من كتابنا هذا \"الفكر التربوي الإسلامي\" إشارة إلى الجدل حول القديم والجديد في التراث التربوي الإسلامي ،ورصد معالم التط ُّور فيه ،ورؤية تحليلية للأدبيات الكثيرة حوله .فما الذي بقي من الحديث عن التراث التربوي الإسلامي ليكون مادة هذا الموضع من هذا الفصل؟ للإجابة عن هذا السؤالَ ،يلزمنا أ ْن نتذ َّكر أمرين؛ أولهما أ َّن مهمة هذا الفصل هي الحديث عن مصادر الفكر التربوي الإسلامي المعاصر الذي نريد أ ْن ن ْبنِ َيه اليوم لصياغة حياتنا التربوية؛ نظر ًا وممارس ًة ،وتوجيهها إلى مستقبل منشود يكون أكثر إشراق ًا من ماضينا وحاضرنا .وثانيهما الصورة التي حضر فيها التراث التربوي الإسلامي -ولا يزال يحضر- في حياتنا التربوية المعاصرة؛ فر َّبما لا نجافي الحقيقة كثير ًا إذا قلنا إ َّن التراث التربوي الإسلامي ،في أحسن أحواله ،حضر –ويحضر -في صورة مادة دراسية لفئة قليلة من المتخ ِّصصين ،فيما يس ّمى التربية الإسلامية ،أو في تاريخ التربية ،أو برنامج دراسي في هذا التخ ُّصص .والمدخل الأساس لهذا الحضور هو المدخل التاريخي الذي يعيد نشر بعض ما جاء من الكتابات التراثية عن واقع التعليم في بعض العصور ،وبعض المناطق ،وبعض المذاهب ،مع قليل جد ًا من أحكام المقارنات والمقاربات عن صلة التراث التربوي الإسلامي بالحياة التربوية للمجتمعات الإسلامية المعاصرة. ولذلك ،فإ َّن سؤالين آخرين يأتيان أكثر ق َّوة وأشد أهمية من السؤال السابق ،هما: -ما الذي يمكن أ ْن نجده في التراث التربوي الإسلامي م ّما يش ِّكل مصدر ًا للفكر التربوي الإسلامي المعاصر؟ -كيف يمكن توظيف ما قد نجده لهذا الغرض؟ هذا ما سوف نشير إليه هنا من هذا الفصل. 262
أولاً :مصدر التراث و ُحجيته: قلنا في مكان آخر إ َّن كثير ًا م ّما ُكتِب عن الفكر التربوي الإسلامي كان حديث ًا ع ّما كان عليه هذا الفكر عند عدد من العلماء ،أو المذاهب ،أو الأزمنة ،أو الأمكنة ،م ّما ينتسب إلى التاريخ الإسلامي ،وكل ذلك يقع ضمن ما اصطلحنا على كونه تراث ًا إسلامي ًا .ومع ذلك ،فلا ُب َّد أ ْن نق َّر بأ َّن ذلك التراث \"التاريخي\" هو اليوم جزء من خريطة الفكر التربوي الإسلامي المعاصر .وبنا ًء على ذلك ،فإ َّن تقويم التراث وبيان فائدته في حياتنا المعاصرة هو قضية مهمة في التعامل مع التراث ،والأهم من ذلك هو وضع المبادئ التي يمكن توظيفها في الحكم على التراث ،وبيان قيمته في بناء الفكر التربوي الإسلامي المعاصر. إذا كان التراث التربوي الذي نقصده في السياق الحالي هو ما كتبه علماء المسلمين عن الفكر التربوي الذي كان سائد ًا في أزمانهم ،والممارسات التربوية التي اعتمدت على ذلك الفكر ،فإ َّن م ّما لا شك فيه أ َّن القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية كانا المصدرين الأساسيين لذلك التراث .وي َّتضح ذلك تمام الوضوح عندما نجد أ َّن كثير ًا من كتب التراث التربوي الإسلامي كانت تبدأ بما ورد في القرآن الكريم من نصوص ت َّتصل بالموضوع ،ث َّم ُت َثنّي بعد ذلك بنصوص ال ُّسنة النبوية ،ث َّم ُت ْتبِع ذلك بما نس ّميه التراث؛ وهو ما ورد من أقوال مأثورة للصحابة والتابعين وتابعيهم إلى عصر المؤ ِّلف ،م ّما فهمه أصحاب هذه الأقوال من تلك النصوص ،أو م ّما مارسوه .ومع أ َّننا حين نصف مرجعية التراث التربوي الإسلامي بأ َّنها القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية على هذا الوجه ،فإ َّننا نستدرك بالقول :إ َّن بعض نصوص التراث كانت ُتست َمد -إضاف ًة إلى ذلك ،وليس بديل ًا عنه -من مصادر ُأخرى؛ يونانية ،أو فارسية ،أو هندية ،م ّما كان معروف ًا في أيام المؤ ِّلف ،ولك َّن هذا الاستمداد هو الاستثناء وليس الأصل. فإذا كان المصدر المؤ ِّسس للتراث هو القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية على الوجه الذي ذكرنا ،فإ َّن علينا أ ْن نجيب عن الأسئلة الآتية: -هل يكفي ذلك لإعطاء التراث مرجعية كافية ليكون مصدر ًا لنا اليوم؟ -هل َيلزمنا اليوم أ ْن ننظر إلى القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية بعين التراث ،أم أ َّن بإمكاننا أ ْن نستمد فكرنا من ذلك المصدر المؤ ِّسس مباشرة دون أن يكون التراث وسيط ًا للاستمداد المباشر أو حائل ًا دونه؟ 263
-إذا جاز لنا أ ْن نستمد فكرنا التربوي المعاصر من القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ،فما قيمة التراث التربوي الإسلامي في هذه الحالة؟ ثاني ًا :مسألة تجاوز التراث إلى الاهتداء بالقرآن الكريم وال ُّسنة النبوية مباشرة: تؤ ِّكد نصوص القرآن الكريم أ َّن هذا القرآن جاء ليكون هد ًى وب ِّينا ٍت من الهدى .قال تعالى﴿ :ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ﴾ [البقرة .]185:وليكون كذلك تبيان ًا وهد ًى ورحم ًة وشفا ًء للمسلمين .قال ع َّز وج َّل: ﴿ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭶﭷﭸ﴾ [النحل .]89:وليكون أيض ًا بصائ َر للناس وهد ًى ورحم ًة .قال سبحانه وتعالى﴿ :ﯘﯙﯚﯛﯜ ﯝﯞ﴾ [الجاثية .]20:والآيات في ذلك كثيرة ،وكلها تشير إلى الوظائف التي ورد ذكرها في القرآن الكريم .ومع تع ُّدد أوصاف هذه الوظائف (تبيان ،بلاغ ،شفاء ،رحمة، بشرى ،)...فإ َّن الهدى صفة ملازمة لأ ٍّي منها ،والذين يهتدون بهذا القرآن يزيدهم الله هدى .قال تعالى﴿ :ﯻﯼﯽﯾﯿﰀ﴾ [مريم .]76:والرسول فيما يب ِّلغه عن ربه ،ويدعو إليه ،هو على هدى مستقيم .قال ع َّز من قائل﴿ :ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮍ﴾ [الحج .]67:والهدى يقابله الضلال .قال سبحانه﴿ :ﭬﭭﭮﭯﭰ ﭱﭲﭳﭴﭵ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ﴾ [سبأ .]24:والذين لا يهتدون بهذا الهدى سيكونون ص ّم ًا لا يسمعون ،وعمي ًا لا يبصرون .قال ع َّز وج َّل﴿ :ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜﯝﯞﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ﴾ [ ُف ِّصلت(((.]44: وقد كان القرآن الكريم هد ًى وب ِّينا ٍت وبصائ َر ل َمن َتنَ َّزل عليهم ،ففهموه حكم ًا ومعن ًى، واهتدوا به تطبيق ًا وعمل ًا؛ إذ كان﴿ :ﯣﯤﯥﯦﯧ﴾ [الزمر ،]28:وهو ﴿ﭘﭙ ﭚﭛﭜﭝﭞ﴾ [ ُف ِّصلت﴿ ،]3:ﯹﯺﯻﯼﯽ﴾ [الأحقاف .]12:فقد كانوا أهل فصاحة وبلاغة ،وكان واضح ًا ُمي َّسر ًا في نصه وأحكامه .ونحن نؤمن بأ َّن القرآن ((( \"الهدى في القرآن الكريم\" موضوع مناسب لبحث علمي ،يستقصي ألفاظ \"الهدى\" في القرآن الكريم ،وسياقات هذه الألفاظ ،وما ُيستن َبط من كثافة حضورها وسياقاتها من عوامل الرشد والهداية ل َمن يهتدي بالقرآن الكريم. ومثل هذه الجهد يصلح أ ْن يكون دراسة معرفية منهجية ،أو دراسة في التفسير الموضوعي ،أو دراسة مصطلحية. 264
سيبقى كتاب ًا مفتوح ًا للهداية الدائمة للبشرية ،يجد فيه كل جيل من الفهم المتج ِّدد ما تصلح به أحوالهم؛ فلن َتن َفد هداي ُته ،ولن ُتستن َفد أغرا ُضه ،ولن يحتاج الناس إلى نبي جديد يتن َّزل عليه كتاب جديد. ولذلك لم يثبت أ َّن النبي ﷺ احتاج إلى تفسير القرآن كله ،وإ َّنما هي حالات محدودة، قرأ فيها النبي ﷺ الآية ،ث َّم أعطى توضيح ًا لها ،أو ُس ِئل عن آية فف َّسرها بلفظ ،أو مثال ،أو بآية ُأخرى ،أو فهم بعض الصحابة شيئ ًا من القرآن على غير وجهه فص َّحح لهم النبي الفهم .ومن النادر أ ْن نجد حديث ًا يف ِّسر معنى لفظ من ألفاظ القرآن؛ فالفصاحة اللغوية لجيل الصحابة كانت كافية لفهمهم عربية القرآن الكريم ،واستلهامهم هديه بصورة مباشرة. ونحن نجد فيما يجعله بعض المف ِّسرين من الأحاديث النبوية تفسير ًا لآيات قرآنية اعتساف ًا وتأويل ًا في غير مح ِّله .ومن ذلك -مثل ًا -تفسير الإمام الرازي((( لقوله تعالى: ﴿ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ﴾ [ص ]34:بحديث في \"صحيح البخاري\" أ َّن النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم قال\" :قال سليمان بن داود :لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، تحمل كل امرأة فارس ًا يجاهد في سبيل الله ،فقال له صاحبه :إ ْن شاء الله ،فلم يقل ،ولم تحمل شيئ ًا إلا واحد ًا ساقط ًا أحد شقيه ،فقال النبي ﷺ :لو قالها لجاهدوا في سبيل الله(((\". وينفي بعض العلماء الم ْح َدثين صلة الحديث بالآية ،ويستندون في ذلك إلى أ َّن البخاري لم يضع الحديث في كتاب التفسير ،ويف ِّسرون الآية بدلاً من ذلك بتفسيرات ُأخرى(((. فمهمة الرسول هي تلاوة الآيات كما ُأن ِزلت ،وهذا هو الإبلاغ الذي ُك ِّلف به .قال تعالى﴿ :ﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮀﮁﮂ﴾ [المائدة .]67:وقد كان حرص الرسول على البلاغ يجعله يح ِّرك لسانه حتى لا ينسى ،فأنزل الله عليه﴿ :ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﰀﰁﰂ﴾ [القيامة .]17-16:قال ابن عباس عن هذه الآية\" :جمعه في صدرك ث َّم تقرؤه ((( الرازي ،فخر الدين محمد بن ضياء الدين عمر (توفي604 :ﻫ) .تفسير الفخر الرازي «التفسير الكبير ،أومفاتيح الغيب» ،دمشق :دار الفكر1981 ،م ،ج ،26ص .209-208ومن الملاحظ أ َّن الإمام الرازي ذكر أ َّن تفسير الآية بالحديث المذكور هو من أقوال أهل التحقيق ،ومع ذلك ذكر تفسيرات ُأخرى لا صلة لها بالحديث. ((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :الأنبياء ،باب :قول الله تعالى﴿ :ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮃﮄ﴾ [ص ]30 :حديث رقم ،)3424( :ص.659 ((( عباس ،فضل حسن .قصص القرآن الكريم ،ع ّمان :دار النفائس للنشر والتوزيع ،ط2010 ،3م ،ص.657-652 265
﴿ﰄﰅﰆﰇ﴾ قال :فا ْست ِم ْع له وأ ْن ِصت ،ث َّم إ َّن علينا أ ْن تقر َأه ،قال :فكان رسول الله ﷺ إذا أتاه جبريل است َم َع ،فإذا انطلق جبريل َق َر َأه النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم كما أ ْق َر َأه (((\".وقد قرأه النبي ﷺ على الناس بلفظه العربي ال ُمبِين كما وصله من أمين الوحي جبريل .فقراءة القرآن بلسان النبي ﷺ هي بيان ُمبِين واضح المعنى والدلالة .قال سبحانه: ﴿ﰉﰊﰋﰌ﴾ [القيامة\" .]19:فالبيان هنا بيان ألفاظه ،وليس بيان معانيه؛ لأ َّن بيان معانيه ملازم لورود ألفاظه(((\". وقد كانت حياة النبي ﷺ مع الصحابة ،وسيرته في إبلاغ القرآن الكريم ،وتنزيل أحكامه وتوجيهاته في مجالات الحياة المختلفة في ال ِّش َّدة والفرج ،والعسر واليسر، والفقر والغنى ،وال ِّس ْلم والحرب ،وعادات الطعام والشراب والكساء والسكن ،ومع الصغير والكبير ،والصديق والعدو ،وشؤون الحكم والسياسة والعلاقات الدولية ،وفي أخ ِّص خصائص شؤون الحياة الشخصية والأسرية والاجتماعية؛ كل ذلك كان أنموذج ًا لما يريد القرآن الكريم أ ْن يح ِّققه في حياة الناس .فكانت تصرفات النبي ﷺ في كل هذه الأحوال وغيرها م ّما يعتري حياة البشر في الظروف العادية والاستثنائية تربي ًة وتزكي ًة لجيل الصحابة ،فأنتجت هذه التربية والتزكية النبوية جيل ًا فريد ًا وأنموذج ًا صالح ًا ،للاقتداء به، وبفهمه لمقاصد القرآن ومقاصد ال ُّسنة. وقد ي َّسر الله لهذه الأُ َّمة توثيق هذا الهدي النبوي بتفاصيله ،فيما ُس ِّمي ال ُّسنة والسيرة، بصورة لم يعرفها تاريخ البشر من قب ُل ومن بع ُد ،وأصبحت ال ُّسنة بهذا التوثيق التفصيلي مصدر ًا متاح ًا للاهتداء بها في أ ِّي مجال من مجالات الحياة .فلو ر َّكزنا النظر في جانب التعليم والتربية لوجدنا حياة النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم كلها تعليم ًا وتربي ًة وتزكي ًة؛ تعليم ًا لنص القرآن الكريم ،ولما فيه من الأحكام والتوجيهات ،وما فيه من اللغة وأساليب البيان والقصص والأمثال ،وتعليم ًا لأساليب النظر والتفكير ،وطرق العرض والتعبير اللفظي والبصري؛ وتربي ًة عملي ًة في طرق التعامل والسلوك؛ وتزكي ًة خلقي ًة للمشاعر وط ِّب القلوب، فكيف لا يكون ذلك مصدر ًا للفكر التربوي الإسلامي الذي بنته أجيال الأُ َّمة عبر تاريخها، ومصدر ًا للفكر التربوي المعاصر الذي نريد أ ْن نبنيه ليومنا الحاضر وغدنا القادم؟! ((( البخاري .صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :التوحيد ،باب :قوله تعالى﴿ :ﯸﯹﯺﯻﯼﯽ﴾ [القيامة ،]16 :حديث رقم ،)7524( :ص.1860 ((( ابن عاشور ،تفسير التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،29ص.350 266
ثالث ًا :قيمة التراث التربوي الإسلامي بوصفه مصدر ًا: نحن نؤمن أ َّن القرآن الكريم هو المصدر المنشئ للتوجيهات والأحكام التربوية ،وأ َّن ال ُّسنة النبوية هي المصدر ال ُمب ِّين لهذه التوجيهات والأحكام ،وأ َّن الأخذ بهذه التوجيهات والأحكام أمر ملزم ،وأ َّن القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ليسا من التراث في اصطلاحنا المعتمد .ولذلك ،فإ َّن منهج تعاملنا مع التراث بوصفه مصدر ًا للفكر التربوي سيكون مختلف ًا عن التزامنا بالقرآن الكريم وال ُّسنة النبوية. إ َّن التراث عنصر أساسي من عناصر الوعي بالذات الثقافية والحضارية والاجتماعية، لا سيما التراث التربوي الثاوي في الفكر والممارسة ،الذي يظهر أثره في صياغة شخصية الفرد والمجتمع بصورة غير واعية في كثير من الأحيان .وإذا كان التراث التربوي الإسلامي الذي نتح َّدث عنه هو ما كتبه العلماء عن الفكر والممارسة في مجال التربية والتعليم، وليس الوحي الإلهي والهدي النبوي ،فإ َّن الوعي بالذات يوجب النظر التحليلي الناقد للتراث؛ تمييز ًا بين مك ِّوناته وطريقة فعلها وتشكيلها للذات التاريخية والذات المعاصرة. وعندئ ٍذ ،فإ َّن من ال ُمتو َّقع أ ْن تقودنا الدراسة التحليلية النقدية للتراث إلى عدد من النتائج، أهمها ملاحظة التن ُّوع الواسع في مادة التراث ،ومدارسه ،ومستوياته ،والتغ ُّير والتط ُّور الذي لازمه عبر أجيال الزمان وتع ُّدد المكان ،وحضور عدد من العناصر المنهجية التي تفيدنا في تحديد قيمة التراث في حياتنا التربوية المعاصرة. ولع َّل من أهم هذه العناصر المنهجية النظ َر إلى التراث بوصفه إنتاج ًا زمني ًا تاريخي ًا في عملية تدوينه أولاً ،وفي تعبيره عن الحوادث والوقائع التي يتم تدوينها ثاني ًا .وهذه الحوادث والوقائع إ َّنما تع ِّبر عن الاجتماع الإنساني ،وعمران العا َلم -بحسب تعبير ابن خلدون -وما يعرض لهذا العمران من الأحوال الحضارية المتق ِّلبة .فإذا كانت حقيقة التراث ملتبسة بحقيقة التاريخ ،فإ َّن ذلك سيح ِّدد الصورة التي يمكن أ ْن يكون فيها التراث مصدر ًا من مصادر الفكر التربوي المعاصر .ففي التراث ،كما في التاريخ :صعود وهبوط، وتق ُّدم وتخ ُّلف .و ِم ْن َث َّم ،فلا ُب َّد من مرجعية لتحديد ما نأخذ منه ،وما ن َدع. 267
وقد تط َّرقنا في مقام سابق -بقدر من التفصيل -إلى منهج التعامل مع التراث التربوي الإسلامي ،وم َّيزنا بين غرضين للتعامل مع هذا التراث؛ الغرض الأول هو تحقيق أهداف علمية تاريخية تخت ُّص بفهم الواقع التاريخي الذي يتح َّدث عنه التاريخ زمان ًا ومكان ًا وحالاً ،أو يكون التعامل مع التراث لأغراض علمية نظرية تخت ُّص بفهم مادة التراث وموقعها في السياقات الزمانية والمكانية ،ومظاهر التكا ُمل المعرفي بين عناصرها ،وحالة النمو والتط ُّور استجاب ًة للمستجدات ،واكتشاف بعض العوامل والمؤ ِّثرات التي حكمت إنتاج ذلك التراث وطبعته بطابعها. والغرض الثاني هو تحقيق أهداف توظيفية عملية تخت ُّص بالتوظيف والتطبيق العملي لما في التراث من أفكار ح َّية يمكن أ ْن ُتس ِهم في النهوض بحياتنا التربوية المعاصرة .وفي هذا المجال سوف يكون بإمكاننا أ ْن نو ِّظف التراث لتحقيق ما يأتي(((: .1بناء قدر من الثقة بالنفس وأداء وظيفة نفسية للاعتزاز بالهوية ،والانتماء لأمة لها تاريخ يع ِّبر التراث عن بعض تج ِّلياته ،ويبين كيف أسهمت هذه الأمة في تطور الحضارة البشرية عن طريق منجزاتها التي يكشف عنها التراث ،ويدفع أجيال ال َخ َلف لتسهم في الحضارة كما أسهمت أجيال السلف .ومع أن النُّ ُظم السياسية السائدة في المجتمعات البشرية الحديثة قد استلبت كثير ًا من خصائص هذه المجتمعات ول ّونتها بلونها ،فإن النظام السياسي في أي بلد إنما يعتمد على النظام التعليمي في غرس الانتماء للأمة والاعتزاز بهويتها ،عن طريق التنويه بالإنجازات التي يتحدث عنها تراثها. .2اكتشاف س ِّر ق َّوة المجتمع الإسلامي في بعض العصور ،وصلة هذه الق َّوة بالنظام التربوي الذي كان سائد ًا؛ من أجل بناء برنامج يتيح للتربويين المعاصرين الاستفادة منه ،وممارسة التحليل النقدي -في الوقت نفسه -لذلك التراث التربوي بوصفه تعبير ًا عن حالة المعرفة العلمية للنظام التربوي ،والحالة الحضارية التي كان المجتمع يعيشها؛ إذ إ َّن حالة المعرفة وحالة الحضارة ((( انظر تفاصيل ذلك في كتابنا: -ملكاوي ،التراث التربوي الإسلامي :حالة البحث فيه ،ولمحات من تطوره ،وقطوف من نصوصه ومدارسه، مرجع سابق ،ص.464-459 268
كانتا في تغ ُّير مستمر؛ صعود ًا وهبوط ًا .ولذلك ،فإ َّن ما يعرضه التراث التربوي عن التغ ُّير والتط ُّور سيكون مهم ًا في الكشف عن عوامل النهوض أو التراجع الحضاري ،والدروس التي يمكن للمجتمع المعاصر أ ْن يستفيدها من نتائج دراسة التراث لهذا الغرض. .3البحث في التراث عن البديل الممكن لأنماط التعليم المعاصر الذي اقتبسته المجتمعات الإسلامية من التجربة الغربية ،أو ُف ِرض عليها في المرحلة الاستعمارية ،ولم تتمكن من التخ ُّلص منه. .4أداء وظيفة لغوية تب ِّين كيف تمكنت اللغة العربية من استيعاب مستجدات المعرفة البشرية في المراحل التاريخية التي ُكتِب فيها التراث .وتمتد هذه الوظيفة لتكون مفردا ُت اللغة وتراكيبها أدوا ٍت لدراسة تاريخ الأفكار ،ونمو المصطلحات وتط ُّورها .ومن جهة ُأخرى ،فإ َّن لغة التراث هي مرجع مهم في بناء معجم معاصر لمصطلحات العلوم التربوية. .5أداء وظيفة تعليمية؛ فالعقل الإنساني في مراحل التاريخ جميعها حرص على بناء صورة للأشياء والأحداث ،وما كانت تعنيه من أفكار؛ لذا ُت ْبنى المتاحف التي تعرض بعض تج ِّليات التراث من مقتنيات المكتوب بأنواعه وأدواته ،والمنحوت بمج َّسماته ،والمرسوم بأشكاله وألوانه ،والملبوس بمواده وأنواعه .وقد أصبحت هذه المتاحف من الأماكن المهمة التي يرتادها الباحثون وال ُمتع ِّلمون. .6أداء وظيفة حضارية تجديدية؛ فالتراث التربوي الإسلامي كان ينطلق ويهتدي بمبادئ الإسلام التي تجعل الاجتهاد في تطوير الحياة والتجديد في وسائلها فريضة ماضية ،و ُسنَّة م َّت َبعة .والتراث يكشف عن المستوى الذي َتح َّقق من ذلك الاجتهاد والتجديد ،ويعطي الجيل المعاصر درس ًا في توظيف هذه الخبرة التاريخية ،في مواصلة التجديد والإبداع ،ف َت ْبني على المفيد ،وتستدرك على القصور. وم ّما يلفت النظر أ َّن كثير ًا من مادة التراث التربوي الإسلامي كانت تدور حول مفاهيم مركزية ثلاثة ،تم ِّثل أركان العملية التربوية قديم ًا وحديث ًا ،وما لك ٍّل منها من فضل ومنزلة ،وهذه المفاهيم هي :العلم ،والتع ُّلم ،والتعليم .ور َّبما يكون سبب ذلك هو كثرة 269
التنويه بهذه المفاهيم في القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية .وقد استوعبت الأجيال الأُولى من تاريخ الأُ َّمة الإسلامية قيمة هذا التنويه ،فانتقلت بالأُ َّمة من حالة الأُ ِم َّية التي ا َّتصف بها معظم العرب إلى ُأ َّمة القراءة والكتابة والإنجاز العلمي والحضاري في سائر الميادين. بيد أ َّن هذا الانتقال لم يكن َم َّر ًة واحد ًة ،وإ َّنما حصل عن طريق الفهم النامي المتط ِّور بالممارسة العملية. رابع ًا :أمثلة على طريقة توظيف مادة التراث في قضايا تربوية معاصرة: اخترنا في مقام آخر سبع َة أمثل ٍة على قضايا في التراث التربوي الإسلامي؛ لبيان أهمية دراستها ،وفهم موقعها في الخبرة التربوية الإسلامية عبر التاريخ ،وكيف يمكن أ ْن تنعكس نتائج هذه الدراسة على ممارستنا التربوية المعاصرة .وكانت هذه القضايا هي: مكانة ال ُمع ِّلم في التراث التربوي الإسلامي ،والمناهج التعليمية في التراث الإسلامي، وطرق التدريس في التراث التربوي الإسلامي ،والأدب والتأديب في التراث الإسلامي، وأماكن التعليم في التراث التربوي الإسلامي ،والأوقاف التعليمية في التراث الإسلامي، وإجازات التعليم في التراث الإسلامي. ونجد أ َّن من المفيد أ ْن يستحضر القارئ لهذا الجزء من الفصل ما أثبتناه هناك من بيان .ونكتفي في مقامنا هذا بالإشارة إلى ِمثال ْين م ّما َيلزم التدقيق في الحالة التي يكشف عنها التراث التربوي الإسلامي في هذين المثالين ،والطريقة التي َيلزم أ ْن نتعامل بها مع التراث الخاص بك ٍّل منهما ،في حياتنا التربوية المعاصرة .وهذان المثالان هما :إلزامية التعليم ،ومكانة ال ُمع ِّلم. .1إلزامية التعليم: نحن نفهم مبدأ إلزامية التعليم اليوم على أ َّنه ضرورة حضارية يفرضها الشرع والقانون بقطع النظر عن توظيف خبرات التراث التربوي الإسلامي في طريقه فهم هذا المبدأ أو ممارسته في مرحلة معينة .فمن الواضح من خبرات التراث أ َّن علماء المسلمين فهموا من نصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية مبدأ فرضية التعليم على كل مسلم ،وإلزامية الوالدين بتوفير ُفرص التعليم لأبنائهم .وقد عمل بعض الخلفاء والأمراء على تطبيق هذه الإلزامية 270
في ولاياتهم ،بما في ذلك إرسال ال ُمع ِّلمين ،وتوفير حاجاتهم المالية للتف ُّرغ لمهنة التعليم، وتوفير متط َّلبات الحياة الكريمة للطلبة المتف ِّرغين للتعليم؛ من :سكن ،وطعام ،وكساء. ولك َّن بعض هؤلاء العلماء فهموا من مبدأ فرضية التعليم وإلزاميته مسؤولية الوالدين، وليس الحاكم .ومسؤولية الوالدين إ َّنما تتح َّقق رغب ًة في ثواب الله سبحانه ،وخوف ًا من عقابه .وللحاكم أ ْن يجتهد في تنفيذ هذا المبدأ ،وتكون مسؤولية ال ُمتع ِّلمين وال ُمع ِّلمين وأولياء الأمور في التنفيذ من باب طاعة ولي الأمر ،وهي كذلك مسألة شرعية. إ َّن مبدأ إلزامية التعليم يتصل بكثير من قضايا العمل التربوي والتعليم في المجتمع. وكل هذه القضايا كانت ُتف َهم بطرق مختلفة ،وتط َّور فهم الأجيال لها بالممارسة العملية؛ فمسؤولية الدولة عن تعميم التعليم ومحو الأمية ،والحق في التعليم ،وقبول الأجر على التعليم ،وترتيب مواد التعليم ،وتحديد المشروع من أساليب التأديب وضبط السلوك، ونظام الإجازات ،وغير ذلك؛ كان يخضع لاجتهادات متفاوتة ،واحتاج الأمر إلى بعض التط ُّور حتى تستقر بعض المبادئ العامة التي تحكم الممارسات العملية في التعليم. وإذا كان مبدأ إلزامية تعليم أبناء الأُ َّمة ،والمسؤولية عن هذا التعليم قد ورد في نصوص التراث التربوي الإسلامي ،فهل كانت الدولة َم ْعنِ َّي ًة بتطبيق ذلك أم اقتصر الأمر على أولياء أمور الأبناء في تح ُّمل المسؤولية؟ والظاهر أ َّن هذا الأمر لم يكن محسوم ًا، وأ َّن صور التعامل مع الموضوع اختلفت باختلاف القيادات والظروف؛ فإ َّن روح الإسلام ومقاصده تجعل إلزامية التعليم في المجتمعات الإسلامية المعاصرة مبد ًأ أساسي ًا يتط َّلب وضع التشريعات القانونية اللازمة لتطبيقه .ونستطيع أ ْن نعتمد في فهمنا لهذا المبدأ والالتزام بتطبيقه على ثلاثة مصادر؛ الأول :الاستلهام المعاصر لنصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ،والثاني :توظيف الأفكار الح َّية لبعض الممارسات التعليمية في التراث الإسلامي ،والثالث :توظيف الخبرات التربوية والتعليمية المعاصرة الكفيلة بتحقيق مصالح الأُ َّمة ،والتعامل الحكيم مع مستجدات الزمان والمكان والأحوال(((. ((( َث َّمة بحو ٌث كثيرة تناولت مسائل مح َّددة من علوم التربية والتعليم ،جمعت بين ما قد يخت ُّص بكل مسألة من نصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية والتراث الإسلامي .ومن ذلك على سبيل المثال مسألة التعليم الإلزامي .انظر في ذلك: -العلي ،صالح\" .التعليم الإلزامي في القرآن والسنة وفقه الأئمة\" ،مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية ،مجلد ( ،)22العدد (2006 ،)2م ،ص.465-459 271
.2مكانة ال ُمع ِّلم: من المناسب أ ْن نلاحظ أ َّن مكانة ال ُمع ِّلم في التراث الإسلامي قد ارتبطت بمكانة العالِم الذي كان محور الحركة العلمية والتعليمية في المجتمع الإسلامي .ولفظ \"العالِم\" في هذا التراث كان ُيستع َمل لوصف الشخصيات التي أنجزت أعمالاً ُمق َّدر ًة في مجالات العلوم المختلفة؛ من :حديث ،وفقه ،وتفسير ،وحتى من :طب ،وفلسفة ،ورياضيات، وفلك ،أو غيرها .فكل هؤلاء علماء ،ومعظمهم جمع بين أكثر من ِع ْلم .ولك َّن معظم هؤلاء العلماء كانوا ُمع ِّلمينَ ،ير َح ُل طلبة العلم إلى أماكن وجودهم؛ لنيل شرف التتلمذ عليهم ،حتى يرتبط اسم التلميذ باسم أستاذه .ولذلك نجد في ترجمة حياة أ ِّي عالِم فقر ًة مهم ًة عن أساتذته الذين أخذ العلم عنهم ،وفقر ًة مهم ًة ُأخرى عن أسماء تلاميذه .ومثل ذلك عندما يكون العالِم مح ِّدث ًا متخ ِّصص ًا في رواية الحديث ،فيصدق أ ْن يكون الكلام عن المح ِّدث كلام ًا عن ال ُمع ِّلم(((. وبالنظر إلى ما نعرفه ع ّما يمكن تسميته المدارس التربوية؛ الفقهية ،والفلسفية، والصوفية ،... (((،فإ َّن الشيخ في المدرسة الصوفية -مث ًلا -هو ال ُمك َّلف بتأديب المريدين وتعليمهم وتربيتهم .قال الغزالي في ذلك\" :وأ ّما التأديب فإ ّنما نعني به أ ْن ُي َر ِّوض غيره، وهو حال شيخ الصوفية معهم؛ فإ َّنه لا يقدر على تهذيبهم إلا بمخالطتهم ،وحا ُله حا ُل ال ُمع ِّلم وحك ُمه(((\". لقد انطلق التراث التربوي الإسلامي من نصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية فيما يخ ُّص مكانة ال ُمع ِّلم؛ إذ تح َّدث القرآن الكريم عن النبي ﷺ بوصفه ُمع ِّلم ًا ،وأ َّنه ﷺ وصف نفسه بأ َّنه ُمع ِّلم ،وأ َّن الصحابة كانوا يقولون :ما رأينا ُمع ِّلم ًا ق ُّط أرفق من رسول الله ﷺ. ((( كتب التراث التي تح َّدثت عن أدب العالِم وال ُمع ِّلم وال ُمتع ِّلم كثيرة ،ولا سيما في مجال رواية الحديث النبوي وإملائه وتعليمه ،وما ورد في أدب الراوي وال ُم ْملي وال ُمح ِّدث ،م َّمن يكون في موقف التعليم .فال ُمع ِّلم هنا هو ال ُمح ِّدث كما في كتاب الخطيب البغدادي \"الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع\" ،وفي كتاب \"أدب الإملاء والاستملاء\" للسمعاني ،وغيرهما. ((( ملكاوي ،التراث التربوي الإسلامي :حالة البحث فيه ،ولمحات من تطوره ،وقطوف من نصوصه ومدارسه، مرجع سابق ،الفصل الرابع :مدارس التراث التربوي الإسلامي ،ص.334-251 ((( الغزالي ،أبو حامد محمد بن محمد (توفي505 :ﻫ) .إحياء علوم الدين ،اعتنى به وضبطه وراجعه :القاضي محمد الدالي بلطة ،بيروت :المكتبة العصرية ،ط2004 ،1م ،المجلد الأول ،ج ،2ص.324 272
ونصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية التي ُتعلي من شأن ال ُمع ِّلم و ُتن ِّوه بمكانته الرفيعة نصو ٌص كثيرة .وعلى ذلك درج اهتمام التراث فيما نجده فيه من إعلاء شأن العلم وتقدير العلماء ،وتأكيد أ َّن الناس بين ُمع ِّلم و ُمتع ِّلم .ونجد كذلك في مادة التراث ما َي ُع ُّد المكانة العالية للعالِم وال ُمع ِّلم حقيق ًة من حقائق الفطرة الإنسانية ،وحقائق الواقع الاجتماعي للبشر من كل ِم َّلة ،وفي كل حضارة ،وعلى ألسنة الفلاسفة والحكماء من سائر الأمم. وعرف التاريخ البشري ُمع ِّلمين في كل علم أو صناعة ،وقد أشار إلى ذلك ابن خلدون بقوله\" :ولهذا كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة إلى مشاهير ال ُمع ِّلمين فيها معتبر ًا عند كل أهل أفق وجيل(((\". وإذا كان ذلك هو القاعدة العامة في رؤية التراث لمكانة ال ُمع ِّلم ،فإ َّننا نجد في التراث التربوي الإسلامي ما يش ُّذ عن هذه القاعدة ،حين تتح َّدث عن حالات لم يح َظ فيها ال ُمع ِّلم بتلك المكانة الرفيعة .وتلك الحالات وأسباب الوصول إليها تم ِّثل موضوع ًا مهم ًا للبحث والدراسة؛ فهل دخل ميدان العلم والتعليم َمن ليس أهل ًا له ،ففقد هؤلاء الداخلون المكانة العالية من التقدير والتبجيل أم أ َّن المسألة تخت ُّص بقطاع مح َّدد من التعليم له ظروفه الخاصة؟ لقد ا َّتسعت رقعة البلاد التي دخلها الإسلام ،بما كان فيه من دعوة إلى العلم والتع ُّلم والتعليم في سائر الميادين ،فكان لا ُب َّد من إنشاء مؤسسات التعليم بمختلف أنواعها ومستوياتها ،وقيام ُمع ِّلمين لأداء مهمة التعليم فيها .ويبدو أ َّن ذلك كان يتم في بعض الأماكن من دون خطة معتمدة ،ومن دون توافر المكان المناسب وال ُمع ِّلم ال ُمؤ َّهل، فكانت المؤسسة -وكذلك ال ُمع ِّلم -دون المستوى المادي والعلمي والأخلاقي الذي يليق بكرامة العلم وال ُمع ِّلم والتعليم .ونجد في بعض نصوص التراث حالات استدعت مكانة ال ُمع ِّلم العالية أ ْن ُيعفى من مسؤوليات ُأخرى ،مثل :مسؤولية الجهاد ،والمرابطة على الثغور ،فلجأ بعض الجبناء وساقطو المروءة إلى ذريعة التعليم؛ لذا وجدنا من نصوص التراث ما يصف الحالة المتردية للتعليم ،ويتح َّدث عن ال ُمع ِّلم بوصفه مضرب المثل في الحمق والغباء ،لا سيما أ َّن ال ُمع ِّلم -في مثل هذه الحالات -كان لا يتل ّقى من الأجر على التعليم إلا القليل ،فيضطر إلى استعمال أساليب من التعامل مع ال ُمتع ِّلمين وأولياء أمورهم ،تتس َّبب في إسقاط كرامته في نفسه وعند الناس. ((( ابن خلدون ،مقدمة ابن خلدون ،مرجع سابق ،ص.925 273
ومن المهم ملاحظة أ َّن هذه الحالات كانت تخت ُّص غالب ًا بالتعليم في مرحلة ال ُك ّتاب ،حيث يتك َّيف فيها مثل هؤلاء ال ُمع ِّلمين مع مستوى الصبيان في هزلهم و َج ِّدهم. وأهمية هذه الملاحظة تأتي من أهمية هذه المرحلة في التعليم؛ فهي مرحلة الطفولة عند ال ُمتع ِّلمين ،ومرحلة التعليم الأساسي في الدين واللغة ،والتأديب في المهارات الحياتية، والتنشئة على أخلاق المجتمع وعاداته وقيمه ...ويكون فيها عدد الأطفال كبير ًا ،م ّما يستدعي توفير عدد كبير من ال ُمع ِّلمين .ث َّم إ َّن التربية الجيدة في هذه المرحلة هي إعدا ٌد لكل ما يأتي بعدها من تربية وتعليم وممارسة للحياة الاجتماعية ومتط َّلباتها. ومن الخطورة بمكان أ ْن ُيت َرك التعليم في هذه المرحلة لما تي َّسر من الإمكانات لدى أولياء الأمور في كل بيئة ،من دون تخطيط وإشراف من الإدارة المحلية أو المركزية ،لا سيما إذا أخذنا بالحسبان مبدأ إلزامية التعليم التي لا نشك في مشروعيتها ،وأهمية تطبيق هذا المبدأ على جميع أبناء الأُ َّمة؛ لتحقيق المحو الكامل لل ُأ ِّمية ،في المراحل المبكرة من حياة الأبناء ،ولتحقيق التعليم المناسب لما ُي َع ُّد من فروض العين وفروض الكفاية. إ َّن ما و َّثقه التراث الإسلامي عن ظاهرة تدهور مكانة ال ُمع ِّلم في نفسه وصورته في المجتمع ر َّبما يخت ُّص بال ُك ّتاب و ُمع ِّلم الصبيان ،لا العلماء المتخ ِّصصين الذين نبغ ك ٌّل منهم في علم معين ،وتم َّيزوا بكتاباتهم العلمية المتخ ِّصصة؛ فمثل هؤلاء كانوا يتط َّوعون لتقديم العلم في المساجد ،أو في بيوتهم .وقد وجدنا أ َّن بعض المدارس كان يبنيها العالِم بنفسه، أو أ َّنها ُت ْبنى له باسمه ،مع ما َيلزمها من أوقاف دا َّرة تحفظ للعالِم ال ُمع ِّلم مكانته وكرامته. أ ّما في حالة ُمع ِّلمي الصبيان ،فإ َّن ما ورد من الح ِّط من كرامتهم في بعض الأحيان إ َّنما يخت ُّص بما ُع ِرف عن بعضهم من ق َّلة العلم ،والكسل ،وضعف المروءة .ور َّبما كان بعضها يخت ُّص بالتقصير في توفير المستوى الكريم لحياة ال ُمع ِّلم ،فتضاءلت منزلته في نفسه ،و ِم ْن َث َّم لم تعد نظرة المجتمع إليه أمر ًا مهم ًا؛ \"ف َمن يهن يسهل الهوان عليه \".ور َّبما كان بعض هذه الأسباب يخت ُّص بالقصور في أداء المحتسب لمهمته في الرقابة على التعليم وال ُمع ِّلمين ،وضعف كفاءة المؤسسات التي تن ِّظم شؤون التعليم. ونحن ندرك اليوم أ َّن توفير البرامج المناسبة لإعداد ال ُمع ِّلمين وال ُمر ّبين لمرحلة الطفولة لا يقل أهمية عن البرامج اللازمة للمراحل الأُخرى ،بل إ َّن ما يحتاج إليه ال ُمع ِّلم 274
في مرحلة الطفولة من تأهيل نفسي وعلمي وعملي ،وما َيلزمه من عناية وتكريم ،وما َيلزم مؤسسات التعليم في هذه المرحلة من تخطيط وإشراف وتوجيه؛ يفوق ما َيلزم من ذلك في المراحل الأُخرى. وهكذا أشرنا إلى عدد من الوظائف التي يمكن للتراث التربوي الإسلامي أ ْن يؤديها، وبها يكون مصدر ًا للفكر التربوي الإسلامي المعاصر .وكان من الواضح أ َّن الفكر التربوي الذي ق َّدمه علماء المسلمين في كتاباتهم وممارساتهم ،منذ عهد التدوين إلى ما قبل تأ ُّثر المجتمعات الإسلامية بالغرب الحديث ،كان يستند ُج ُّله إلى نصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ،و ِم ْن َث َّم ُي َع ُّد ذلك الفكر -الذي أصبح لنا تراث ًا تربوي ًا -تجرب ًة تاريخي ًة في فهم تلك النصوص والتطبيق العملي لها .والتجربة التاريخية لا ُب َّد أ ْن تكون مفيدة بما كان فيها من الصواب والخطأ .ففي التنزيل الحكيم من الوحي الإلهي والهدي النبوي على الواقع الموضوعي لحياة الناس ،وما يتر َّتب على هذا التنزيل الحكيم من تحقيق مقاصد الدين ومصالح الناس ،درو ٌس خاب وخسر َمن لم يسترشد بها .ول ّما كان هذا التنزيل هو جهد بشري يتفاوت ح ُّظه من الصواب ،وقد تنتابه حالات من القصور والخطأ ،تؤدي إلى تعطيل المقاصد وتفويت المصالح ،فإ َّن من الحكمة أ ْن نتب َّين هذه الحالات ،ونعمل على تجنُّبها. وحين نتب َّين المشكلات التي أشار إليها التراث التربوي الإسلامي ،وما أ ّدى إليه القصور والخطأ في الاهتداء بالقرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ،فإ َّننا نحمد لهذا التراث أ ْن ن َّبهنا إلى ذلك؛ حتى لا نك ِّرر هذا القصور والخطأ .ومع ذلك ،فقد نجد أحيان ًا أ َّن مادة التراث لم ُت ِش ْر بوضوح إلى القصور والخطأ؛ لأ َّن وظيفة النص التراثي اقتصرت على وصف ما كان سائد ًا من الممارسات التربوية والتعليمية في الزمان والمكان ،ويبقى لنا نحن اليوم ،ول َمن يأتي بعدنا غد ًا ممارسة التحليل والتقويم لتلك النصوص التراثية؛ للكشف ع ّما يكون قد رافقها من مشكلات ،وما يكون قد نتج عنها من أثر سلبي في حالة المجتمع المسلم يومذاك. وبذلك نصل إلى القول إ َّنه ليس َث َّمة ش ٌّك في ضرورة الاستفادة من التراث التربوي الإسلامي؛ لنأخذ منه جوانب الحكمة في منهج تنزيل الوحي الإلهي والهدي النبوي على حالة المجتمع الإسلامي ومستجداته ،وما ح َّققه هذا التنزيل من مقاصد ومصالح، والاعتبار بما يكون قد رافق ذلك من النقص والعجز والقصور. 275
المبحث الرابع الخبرة التربوية المعاصرة مصدر ًا للفكر التربوي الإسلامي المعاصر عالجنا في المباحث الثلاثة السابقة من هذا الفصل ،بقد ٍر كبي ٍر من الاختصار ،ثلاث ًة من مصادر الفكر التربوي المعاصر :القرآن الكريم ،وال ُّسنة النبوية ،والتراث الإسلامي. وحان الوق ُت لنتح َّدث بإيجا ٍز شدي ٍد كذلك عن مصد ٍر رابع ،هو الخبرة البشرية المعاصرة. لقد كان التراث الإسلامي خبرة الأجيال التي أنتجت ذلك التراث؛ خبرتها في تنزيل أحكام الإسلام ،والسعي إلى تحقيق مقاصده على أحوال تلك الأجيال وظروف زمانهم ومكانهم .و ِم ْن َث َّم ،فإ َّن التراث التربوي الإسلامي هو خبرة ذلك التنزيل. ونحن إذ نستحضر هذه الخبرة في زماننا هذا ،فإ َّننا نواصل بناء خبرتنا المعاصرة في تحقيق مقاصد الإسلام وأحكامه التربوية ،وتنزيلها على زماننا .ولك َّن الأُ َّمة الإسلامية تو َّقفت عن الاستمرار في بناء هذه الخبرة في القرون الثلاثة الأخيرة ،في حين أدت التط ُّورات المتلاحقة التي ح َّققتها مجتمعات ُأخرى إلى بناء خبرات تربوية تو ِّفر لها الشيوع والانتشار حتى في المجتمعات الإسلامية التي كانت تعاني الضعف والجمود والاستعمار. ومجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة تجد نفسها اليوم -في حالتها التربوية -وجه ًا لوجه مع الخبرات البشرية المعاصرة في مجال التربية ،فهل تكون هذه الخبرة التربوية المعاصرة جزء ًا من التح ِّديات القائمة التي لا ُب َّد من مواجهتها ،وفي الوقت نفسه ،جزء ًا من ال ُفرص المتاحة التي لا ُب َّد أ ْن تستثمرها؟ أولاً :ما نعنيه بالخبرات التربوية المعاصرة: يأتي موضوع \"الخبرة\" في الفكر التربوي في عدد من المجالات ،منها ما يكون في مجال \"التربية بالخبرة\"؛ أي أن الخبرة هنا هي أسلوب من أساليب التعليم(((. ولكننا بالخبرات في هذا المقام المعرفة التي يكتسب الفر ُد أو المجتمع خبرها ،فيصبح موضوعها معروف ًا على الحقيقة ،وهي ناتجة عن التعامل المباشر مع الأشياء والأحداث ((( بني يونس ،أسماء .والشريفين ،عماد\" .التربية بالخبرة وموقعها في التربية الإسلامية\" ،دراسات (علوم الشريعة والقانون) تصدرها الجامعة الأردنية ،مجلد ( ،)41ملحق (2014 ،)2م ،ص .853-836 276
والأشخاص ،وما يكون فيها من تجربة عملية ،يتح َّدد في ضوئها سلو ُك الفرد أو المجتمع. فالخبر ُة فكر ٌة ،أو معرف ٌة نظري ٌة ،وسلو ٌك عمل ٌّي .والمرو ُر بالخبرة َيلزمه إعمال العقل وتوظيف الحواس ،ويكون أثرها في سلوك مح َّدد يستند إلى هذه الخبرة؛ فالخبرة في نهاية المطاف عل ٌم وعم ٌل. والخبرات التربوية هي مجمل عناصر العلم التي يتع َّلمها ال ُمتع ِّلم من حقائق ومفاهيم ومبادئ ونظريات تخت ُّص بموضوع العلم ،والأثر الناتج عن عملية التعليم والتع ُّلم الذي نلاحظه في السلوك العملي لل ُمتع ِّلمين ،وفي حالة المجتمع .وهكذا ،فإ َّن الخبرة التربوية تتصف بالواقع الـ ُمش َّخص ،والسلوك الـ ُم َح ِّس. والخبرة البشرية المعاصرة في مجال التربية تشمل خبرة المجتمع في بلدان العا َلم. وبعض هذه الخبرات أصبحت معولمة ،بحيث نجدها في معظم مجتمعات العا َلم ،وفي الوقت نفسه نجد اختلاف ًا وتن ُّوع ًا في هذه الخبرات ،وكلها خبرات متاحة للنظر والتب ُّصر والتقويم .وما هو مشترك وما هو مختلف من هذه الخبرات إ َّنما وصلت إليه المجتمعات من خلال مبادئ فكرية تط َّورت عن طريق التجربة والممارسة .وبعض هذه المبادئ وصل إلى درجة من الاستقرار ،وبعضها لا يزال يتط َّور ويتغ َّير ،ور َّبما سيستمر في التط ُّور والتغ ُّير. فإذا كنّا نعرف بعض المبادئ التي تتصف بالاستقرار والثبات في توجيه الممارسات لتحقيق مقاصد مح َّددة ،فإ َّن ال ُّسنة الماضية في الإجراءات والوسائل هي التط ُّور والتغ ُّير. وتتض َّمن الخبرة التربوية المعاصرة مجمل الفلسفات والنُّ ُظم والمبادئ التربوية التي تشيع في معظم بلدان العا َلم اليوم ،والممارسات التي تقوم عليها .فبالرغم من الاختلافات الكثيرة في الفلسفات والممارسات التربوية التي نشهدها في دول العا َلم اليوم ،فإ َّن العناصر المشتركة بينها ر َّبما تكون أكثر أهمية من صور الاختلاف ،وأعمق أثر ًا في التعبير عن الحالة التربوية في العا َلم؛ فقد تر َّسخت بعض المبادئ التربوية التي لا تكاد تجد َمن يخالفها على الصعيد الفكري ،حتى لو ق َّصرت بعض المجتمعات في تنفيذها على صعيد الممارسة؛ لعجزها عن توفير متط َّلباتها العملية. 277
وفيما يخ ُّص الحديث عن مبادئ الفكر التربوي الإسلامي اليوم ،فإ َّننا نلجأ إلى التدليل عليها بنصوص من القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ،وصور من التطبيق العملي لهذه النصوص من التراث الإسلامي ،ولكنَّنا -في حقيقة الأمر -نستند إلى ما عرفناه في خبراتنا التربوية المعاصرة؛ سواء عن وعي منّا بذلك ،أو دون وعي .فمبادئ الفكر التربوي الإسلامي التي نتح َّدث عنها كانت مقاصد يهدف الإسلام إلى تحقيقها ،وكان يتح َّقق من هذه المقاصد في الأزمان المتتالية مستويات معينة ،بقدر ما يتوافر له من إمكانات المجتمع الإسلامي ،ويكتسبه من خبرة فيما يمارسه في داخله ،أو فيما يراه من صور الممارسات في المجتمعات الأُخرى .والخبرة التربوية المعاصرة تكشف لنا اليوم عن نماذج عملية لتلك المقاصد ،نراها في بعض جوانبها أكثر نضج ًا وأقرب إلى دلالات نصوص الدين الأصلية. إ َّننا نرى أ َّنه لا حرج علينا أ ْن ُنعيد تفسير النصوص وفق ما تكشف عنه تط ُّورات الحياة البشرية ،ور َّبما يكون ذلك من صور التجديد في فهم الأُ َّمة لدينها .وكذلك فإ َّننا لا نج ُد حرج ًا في الاستعانة بما نجده صالح ًا مفيد ًا لدى الأمم الأُخرى من الاكتشافات في الأفكار والمناهج والتيسيرات المادية ،ولكنَّنا نختار ونتخ َّير بوع ٍي وبصير ٍة ،وليس ك َمن يحتطب بلي ٍل، بل نمارس في ذلك منهج ًا تحليلي ًا نقدي ًا يم ِّيز بين النافع والضا ِّر ،والمناسب وغير المناسب. ونو ُّد أ ْن يكون واضح ًا في مسألة الاستفادة من الخبرة التربوية المتاحة لدى المجتمعات الأُخرى ،أ َّنها ليست كالاستفادة من الخبرات الخاصة في مجالات الصناعات المادية ،التي يمكن لأ ِّي مجتمع أ ْن يو ِّظفها لغاياته ومقاصده؛ فاستيراد الخبرة في العلوم التربوية ،ومثلها كذلك في علوم الاجتماع ،والنفس ،والاقتصاد ،وغيرها من العلوم الاجتماعية والإنسانية ،يحتاج إلى حذر شديد؛ إذ لا مناص من أ ْن نكون نحن أصحاب القرار فيما نأخذ ون َدع ،لا الخبير الأجنبي الذي يدير ويم ِّول نقل تجاربه إلى مجتمعاتنا، ويحرمنا بشروطه من التمييز بين البدائل الممكنة للإصلاح والتطوير ،ويع ِّطل الطاقة الفكرية لعقولنا ،لتقع مجتمعاتنا -في نهاية المطاف -في حالة من التماهي والاستلاب. ثاني ًا :الفكر التربوي والحالة الحضارية للمجتمع: إ َّن سعينا لبناء الفكر التربوي الإسلامي المعاصر يستهدف إصلاح مجتمعاتنا والنهوض ب ُأ َّمتنا التي تعاني حالة من التخ ُّلف .والحكم على ُأ َّمة معينة بالتخ ُّلف ،وحاجتها 278
إلى النهوض مسألة نسبية؛ ففي حالة الأُ َّمة الإسلامية ،يمكننا أ ْن نحكم على حالة تخ ُّلفها في ضوء ثلاثة معايير؛ الأول :مستوى الرفعة والع َّزة والريادة التي أرادها الله لها ،والثاني: ما كانت -ولا تزال -تتوافر عليه من إمكانيات النهوض ،والثالث :ما وصلت إليه كثير من الأمم الأُخرى من صور التق ُّدم الحضاري؛ مادي ًا ومعنوي ًا. ونحن في هذا السعي ننطلق من افتراض أ َّن الخلل في الفكر التربوي والممارسة التربوية أسهم -إلى ح ٍّد كبي ٍر -في الوصول إلى حالة التخ ُّلف؛ فقد ساد واق َع الأُ َّمة في القرون الثلاثة الأخيرة حال ٌة من التراجع والانغلاق في مفاهيم التعليم والتربية ،وانتشرت الأُ ِّمية ،وغابت الحرية ،وفقدت الأُ َّمة بذلك ما كان يمكن للنظام التربوي أ ْن ي ْبنِيه فيها من عناصر الق َّوة ،وروح التجديد ،وحوافز الإبداع .وقد حصل هذا كله في الوقت الذي كانت فيه أمم كثيرة ُأخرى تنطلق في ميادين الكشف والتصنيع والإبداع ،وتمتلك أشكالاً جديد ًة من أسباب الق َّوة والتف ُّوق والغلبة ،لم يكن بمقدور المجتمعات الإسلامية الاستفاد َة منها ِس ْلم ًا ،ولا مواجه َتها ح ْرب ًا. ولك َّن ص َّحة ذلك الافتراض يبقى موضع تساؤل؛ فإلى أ ِّي مد ًى تعكس الحالة التربوية للمجتمع استعدا َده للنهوض ،أو تقوده إلى التخ ُّلف؟ إ َّن الإجابة عن هذا السؤال تستدعي التأ ُّمل في طبيعة المجتمع البشري المعاصر ،حيث تتداخل فيه الفعاليات المؤ ِّثرة فيه بصورة يصعب فيها الفصل الحاسم بين الآثار الخاصة بك ٍّل منها؛ فالفكر التربوي -مثل ًا- ليس مستقل ًا عن واقع المجتمع بمؤ ِّثراته السياسية والاقتصادية والإعلامية وغيرها .ور َّبما لم تكن هذه الصورة من التداخل ظاهرة في حقب تاريخية سابقة .ويحتاج هذا التداخل إلى التحليل الدقيق المبني على الحقائق والوقائع العملية في مجتمعات العا َلم؛ لفهم طبيعة كل مؤ ِّثر ،وحجم تأثيره ،واتجاهه. ثالثا :الإنسان هدف التربية ووسيلتها: شهد الحديث عن حالة المجتمع التربوية أفكار ًا معين ًة ُتن َسب عادة إلى العلوم الاجتماعية والنفسية والتربوية ،ولك َّن بعض هذه الأفكار أصبحت شعارات تتر َّدد على ألسنة السياسيين والإعلاميين ،منها على سبيل المثال\" :الإنسان هو هدف التربية ووسيلتها \".و\"التربية هي الداء ،وهي الدواء\". 279
ولا خلاف على أ َّن التربية هي وسيلة لتحقيق إنسانية الإنسان ،وتمكينه من التح ُّرر من القيود التي يفرضها الجهل والعجز .ولذلك ،فإ َّن أ َّي نجاح للتعليم َر ْه ٌن بتمكين ال ُمتع ِّلمين من اكتساب الوعي بذاتهم ،وتط ُّلعهم إلى حمل الأمانة .وقد نطق القرآن الكريم بهذه الحقيقة عندما أعلن عن تنصيب آدم خليف ًة في الأرض ،ث َّم ع َّلمه الأسماء التي ُت ِعينه على القيام بهذه الأمانة .ونطق القرآن الكريم بهذه الحقيقة كذلك عندما اختار الله سبحانه أ ْن يكون مبدأ الوحي إلى خاتم الأنبياء آيات القراءة والعلم والقلم. وفي الثقافة المعاصرة شاع القول بأ َّن التعليم هو الأداة التي يو ِّظفها المجتمع من أجل التنمية في مجالاتها المختلفة :السياسية ،والاقتصادية ،والاجتماعية ،وغيرها .وبلغ شيوع هذا القول وشهرته ح ّد ًا لا يحتاج َمن يسمعه أو يقرأه إلى البحث عن مصدره ،أو مصداقيته .ولو بح ْث َت في الشابكة الإلكترونية (الإنترنت) عن عبارة بهذا المعنى ،مثل: \"التعليم قاطرة التنمية\" ،و\"التعليم قاطرة التقدم\" ،لوجد َتها تتك َّرر بكثرة على ألسنة رجال الحكم والسياسة والمف ِّكرين والإعلاميين ،فضل ًا عن التربويين؛ فهل يعني ذلك أ َّن التعليم هو الذي َي ْبني المجتمع ويش ِّكل ملامحه ،أو أ َّن المجتمع هو الذي يفرض ما يريده من تعليم؟ ومن المؤ َّكد أ َّن هذا السؤال مهم في السعي إلى فهم العلاقة بين التعليم والسياسة. ولك َّن التعليم القائم في معظم المجتمعات المعاصرة ذو طبيعة سياسية واضحة؛ فتحديد ُن ُظم التعليم ،وإدارته ،ومراحله ،وأنواعه ،وتمويله ،حتى وإ ِن اعتمد على معطيات علمية ونفسية ،فإ َّنه قرار سياسي .وإ َّن اختيار مواد التعليم ،ومناهج كل مادة ،وأساليب التعليم التي ُيو َّجه ال ُمع ِّلمون إلى استعمالها ،وحتى المفردات التي يستعملونها ،وهامش الحرية التي يتمتع بها الطلبة؛ كل ذلك يتم بقرارات إدارية سياسية .فالعملية التربوية- التعليمية هي عملي ٌة سياسي ٌة ،حتى لو لم يكن ال ُمع ِّلمون والطلبة على وعي كامل بال ُب ْعد السياسي من عملهم .ومثل هذا التحليل هو الذي قاد باولو فرايري ليلاحظ أ َّن التعليم النظامي أداة سياسية للقهر ،وأ َّنه أشبه بـ\"تعليم المقهورين (((\"،بما قد يو ِّلده ذلك من مشاعر العجز وفقدان الأمل ،وبذلك يخسر المجتمع أه َّم عنص ٍر من عناصر نم ِّوه وتق ُّدمه. ((( فرايري ،باولو .تعليم المقهورين ،ترجمة :يوسف نور عوض ،بيروت :دار القلم1980 ،م ،ص .35 280
وهذا يعني -في رأي فرايري -أ َّن المجتمع في صورته السياسية هو الذي يش ِّكل التعليم من أجل تحقيق أهدافه .فالتعليم \"عملية سياسية ،وحين يكتشف ال ُمع ِّلم أ َّنه ناشط سياسي ،فإ َّنه سوف يدرك أ َّنه يعمل لمصلحة مح َّددة ،وضد مصلحة ُأخرى ،و ِم ْن َث َّم يدرك أ َّن عليه أ ْن يكون م َّتسق ًا في عمله ،فلا ُي ِري تلاميذه اليوم ُح ْلم ًا تح ُّرري ًا ،ويكون سلطوي ًا يمارس معهم القهر في اليوم التالي(((\". إ َّن التربية تحتاج إلى حرية تتيح المبادرات ،و ُت ْط ِلق الطاقات .وفي غياب الحرية يسيطر الاستبداد ،ويتع َّطل الإبداع ،وتسود ثقافة الح ِّد الأدنى الذي ُي ْبقي أمو َر المجتمع على حالها ،في الوقت الذي يكون فيه ك ُّل ما حول المجتمع يتح َّرك ويتغ َّير ويتط َّور .ور َّبما يكتفي مجتمع الاستبداد باستيراد فلسفة التربية ومناهجها ،فيسود الغزو الفكري التعليمي الذي يش ِّوه هوية المجتمع ،فيصبح التعليم وسيلة من وسائل التدمير بدل التطوير. ث َّم إ َّن الأثر المنشود للعملية التربوية والتعليمية يتجاوز ما ُت ْح ِدثه هذه العملية في حالة الإنسان الفرد إلى ما ُت ْح ِدثه من تغيير في حالة المجتمع؛ ذلك أ َّن التغيير المطلوب هو تغيير جماعي .بيد أ َّن الصالح الذي مارس عملية التغيير في نفسه ر َّبما يته َّيب أ ْن يؤدي دوره في الإصلاح العام ،وفي تحقيق التغيير الحقيقي في المجتمع والأُ َّمة. وقد جاء الحديث عن التغيير في القرآن الكريم بصيغة القوم؛ أي الجماعة من الناس التي تك ِّون المجتمع أو الأُ َّمة .فحين يكون القوم في نعمة أنعمها الله عليهم ،فإ َّن الله لا يغ ِّيرها ويزيلها عنهم حتى ينحرفوا عن الجا َّدة ،ويفتقدوا ما بأنفسهم من خصائص يستحقون بها هذه النعمة .وفي ذلك يقول الله سبحانه﴿ :ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ﴾ [الأنفال .]53:وحين يظهر ذلك التغيير نحو الأسوأ ،تتح َّقق ُسنَّة استبدال قوم آخرين بهؤلاء القوم﴿ .ﯶ ﯷﯸﯹﯺﯻ ﯼﯽﯾ﴾ [محمد .]38:وبهذا يصبح التغيير ُسنَّ ًة تجري بقدر الله سبحانه على الناس نتيجة أفعالهم﴿ .ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ﴾ [الرعد.]11: (1) Freire, Paulo. & Shor, Ira. A Pedagogy for Liberation: Dialogues on Transforming Education, Bergin& Garvey Pub, Inc. 1987, p.46. 281
إ َّن تغيير ما في النفس هو عملية تربوية تقود الناس إلى ما هو خي ٌر لهم ،وقد يكون العجز والخلل التربوي وسيل ًة للوصول بالناس إلى ش ٍّر يحيط بهم .والإنسان -في نهاية المطاف -مسؤول أمام الله سبحانه عن استثمار طاقاته وإمكاناته في تحقيق مراد الله من صلاح وإصلاح .وفي الحساب أمام الله ،لن يشفع أحد ،أو مؤسسة ،أو نظام لأ ِّي فرد عن تقصيره في أداء واجب الإصلاح والتغيير﴿ .ﯿﰀﰁﰂﰃ﴾ [مريم .]95:وكل عمليات التغيير الاجتماعي ،والبناء الحضاري ،والاكتشاف العلمي ،تبدأ خطوتها الأُولى بفكرة عند الفرد ،ث َّم تتح َّول إلى خطة عمل يجتمع عليها أفراد آخرون ،وتصبح تيار ًا يواجه الحالة السائدة ،ويغالب العقبات والمعيقات حتى يغل َبها. وإذا كانت َق َص ُص الأنبياء في القرآن الكريم أمثل ًة على التغيير الذي أحدثوه في مجتمعاتهم ،برعاية الله وتأييده لهم ،فإ َّن َق َصص ًا ُأخرى في القرآن الكريم هي أمثلة على عمليات تغيير قام بها ملوك وقادة ومصلحون ،و َّظفوا ما ي َّسر الله لهم من خبرات في التغيير والإصلاح؛ وأمثلة ُأخرى على أفراد رفعوا أصواتهم في وجه الانحرافات السائدة، وأصبحوا نماذج لجهود إصلاحية واجه فيها فرد واحد المجتمع بأكمله ،كما كان حال مؤمن آل فرعون( ،غافر ،)33-28:ومؤمن آل يس (يس.)27-20: رابع ًا :التعامل مع الخبرة البشرية المعاصرة هو نقطة انطلاق: حين يجرى الحديث عن الجهود الإصلاحية ،نجد َمن يتح َّدث عن نقطة البدء في هذه الجهود بطرق مختلفة؛ ف َث َّمة َمن يدعو إلى البدء بما ير ِشد إليه القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية في بناء الحالة التي نريدها (سياسية ،أو اقتصادية ،أو تربوية ،)...ونجد َمن يدعو إلى البدء بحالة الواقع القائم في بلدان ُأخرى؛ لأ َّنه يرى الواقع في هذه البلدان بديل ًا أفضل لما يعانيه واقعنا .ومع ذلك ،فإ َّن الجدل في هذه المسألة هو جدل نظري لا ينبني عليه كثير عمل .وفي محاولتنا حسم هذه المسألة نقول إ َّنه لن يكون بالإمكان العملي نقل الواقع َم َّر ًة واحد ًة من حالة إلى ُأخرى؛ فالتغيي ُر عملي ٌة لا نتيج ٌة ،والصورة التي نريد أ ْن ينتهي التغيير إليها ليست صورة مكتملة الملامح والعناصر ،وإ َّنما هي صورة تبقى دائم ًا في طور البناء، ويتأ َّثر كل عنصر فيها بما ُين َجز قب َله ،وبما َيلزم إنجا ُزه بع َده. 282
ومع ذلك ،فإ َّننا نستدرك ،فنقول إ َّن الأحكام والتوجيهات القرآنية والنبوية هي التي ُت ِعيننا على فهم الواقع ،وتدعونا إلى الاستمرار في التغيير والتر ّقي من حالة إلى ُأخرى ،مع توا ُصل الزيادة في العلم ،والنمو في الخبرة والتجربة ،والتط ُّور في التعامل مع المستجدات ،والسعي للوصول بحالة الأُ َّمة إلى موقع الريادة والشهادة على الناس. أ ّما الخبرة البشرية التي نراها عند شعوب ُأخرى فلا يخلو الا ِّطلاع عليها من قيم ٍة في بيان ما أفاد هذه الشعوب ،وما أض َّر بها. ولك َّن النقل الكامل لخبرة معينة أمر متع َّذر من الناحية العملية .ث َّم إ َّن ما يبدو مفيد ًا منها في بيئة معينة ،قد يكون ضا ّر ًا في بيئة ُأخرى ،ولا سيما أ َّن النُّ ُظم التربوية تتفاوت من مجتمع إلى آخر .ومهما رأينا من عناصر مشتركة بين النُّ ُظم التربوية المعاصرة في المجتمعات المخلتفة ،فإ َّن لكل نظام مبادئه التي تختلف عن مبادئ أ ِّي نظام آخر ،وك ُّل نظام ينطلق في بنائه من رؤي ٍة خاصة للمجتمع الذي يخدمه؛ سعي ًا إلى تحقيق أهداف ذلك المجتمع. وحين نهتم بحياتنا التربوية ،كما هو الحال في أ ِّي جانب من جوانب حياتنا اليومية، فإ َّننا نبدأ من الواقع الذي نعي ُشه لنفهمه كما هو ،ونح ِّدد صور َة هذا الواقع كما نطمح أ ْن يكون .ومنه ُجنا في التعامل مع الواقع ليس منهج ًا تاريخي ًا يتعامل مع الماضي ،وليس منهج ًا أصولي ًا يستنبط من النصوص ،وإ َّنما هو منهج عملي \"إمبريقي\" يتعامل مع الواقع الموضوعي القائم في هذه اللحظة؛ لتحقيق التغيير الذي نريد أ ْن ُن ْح ِدثه فيه للوصول إلى واقع أفضل في اللحظات القادمة .وسوف نجد أ َّننا في فهمنا للواقع ،وسعينا لتغييره ،نراعي النصوص الحاكمة بما تم ُّدنا به من المبادئ والأحكام والتوجيهات ،ونستعين بدروس التجربة التاريخية التي يم ِّثلها التراث ،ولك َّن نقطة البدء هي واقعنا :نحن -هنا -الآن. وتاريخ البشر عبر القرون مفتوح لجميع البشر للاعتبار به .وقد أكث َر القرآ ُن الكريم من الدعوة إلى السير في الأرض ،والنظر فيما كان من شأن الأمم الأُخرى ،ولا سيما ما أصاب تلك الأمم من هلاك (((.وكذلك ،فإ َّن حاض َر البشر مفتو ٌح للاعتبار أكثر من ((( ُيك ِّرر القرآن الكريم من الدعوة إلى السير في الأرض ،للنظر في مصير الأمم السابقة .وتأتي هذه الدعوة في سياق التبصر في سنن الله ،ذات الصلة بمصير المكذبين﴿ ،ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ﴾ [آل عمران: ،]137و﴿ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ﴾ [الأنعام ]11 :أو مصير الذين رفضوا الهداية واستحبوا الضلالة﴿ ،ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ﴾ [النحل ،]36 :أو مصير المجرمين= ، 283
التاريخ ،وتاريخ البشر وحاضرهم يؤ ِّكد أ َّن اكتساب العلم والمعرفة ،والوصول إلى الاكتشاف والاختراع والإبداع ،كان متاح ًا لكل الشعوب؛ نتيجة فهم السنن ،والأخذ بالأسباب ،والسعي في الأرض لأهداف مح َّددة ،وبمناهج مناسبة .وكذلك يؤ ِّكد تاريخ البشر وحاضرهم ظاهرة التوا ُصل والتفا ُعل والتدا ُفع؛ أخذ ًا وعطا ًءِ ،س ْلم ًا وح ْرب ًا ،تحقيق ًا لمقصد أساسي من مقاصد الخلق الإلهي في التعا ُرف بين الشعوب والقبائل ،ولتحقيق ما ينتج عن هذا التعا ُرف من ُفرص للتعا ُون وتبادل المصالح. وقد روى لنا التراث الإسلامي كثير ًا من المواقف التي أخذ فيها المجتمع الإسلامي خبرات مهمة من البيئة التي كانت سائدة قبل الإسلام ،ومن الأنظمة التي كانت لا تزال سائدة بعد الإسلام في بلدان ُأخرى .لقد أخذ المجتمع الإسلامي الخبرة ،ث َّم ط َّورها لتكون أكثر ملاءمة ،وألصق صلة بواقع المجتمع الإسلامي وحاجاته .ومن ذلك -مثل ًا- فكرة الدواوين التي كانت معروف ًة في البلدان المحيطة بالجزيرة العربية ،ولم تكن معروفة لدى العرب ،حتى إ َّن هذه الدواوين لم ُتك َتب في البداية بالعربية ،وإ َّنما ُكتِبت في أنحاء المجتمع الإسلامي باللغة التي كانت سائدة في كل ناحية؛ الرومية في الشام ،والفارسية في العراق ،والقبطية في مصر .وقد استعمل المجتمع الإسلامي -منذ نشأته -ال ُع ْمل َة التي كانت سائد ًة قبل الإسلام؛ الدينار الرومي ،والدرهم الفارسي ،بما كان في هذه ال ُع ْملة من رسو ٍم ورمو ٍز غير عربية وغير إسلامية ،وبقي المجتمع الإسلامي يستعملها حتى عهد الخليفة عبد الملك ابن مروان. وإذا كان الاعتبار بقصص الماضي متاح ًا لإنسان الحاضر ،أفلا يكون من قصص الحاضر ما يكون فيه شي ٌء من الاعتبار كذلك؟! فحين يبح ُث أحد الباحثين في النظام التربوي في بل ٍد من البلدان الأجنبية ،فإ َّنه يكشف عن عناصر ذلك النظام في قوانينه المسطورة وتطبيقاته المنظورة ،ويعرض أسس ذلك النظام ومبادئه ومهمته في خدمة بلده ،ويق ِّدم نتيجة هذه الدراسة في تقري ٍر مكتو ٍب ،ور َّبما تض َّمن التقرير بع َض الصور والرسوم ومقاطع الفيديو؛ لكي يرى دارس التقرير شيئ ًا عن سيرة ذلك النظام ،وآليات = ﴿ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ﴾ [النمل ،]69 :أو مصير المشركين الذين تس َّب ُبوا في ظهور الفساد في البر والبحر﴿ ،ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮌ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ﴾ [سبأ .]18 -17 :ونحن نرى أن مثل هذه الدعوة هي دعو ٌة إلى قراءة التاريخ والاعتبار به. 284
عمله ،وجوانبه الإيجابية والسلبية ،والفائدة المتو ّخاة من هذه الدراسة؛ فما فائدة الدراسة إذا لم يكن لها هدف يريد الباحث أ ْن يح ِّققه لنفسه ،وللمؤسسة التي طلبت البح َث أو م َّو َل ْت ُه ،وللمجتمع الذي تقوم المؤسسة بخدمته؟ أفلا يكون أه ُّم هد ٍف هو الاعتبا َر ومعرف َة الإيجابيات التي يمكن أ ْن تكون مفيد ًة ،والسلبيات التي َيلزم تجنُّبها؟ خامس ًا :مرجعية الخبرة المعاصرة وفريضة الوقت: حين َي ُق ُّص الله سبحانه علينا َق َصص الماضين من الأنبياء والأقوام والشخصيات، فإ َّنه يوحي إلينا بضرورة الاعتبار وأخذ ال ِعظة بهذا ال َق َصص في حياتنا المعاصرة ،عن طريق التد ُّبر في سنن الله في الحياة والناس .وحاشا أ ْن يكون من العبث أ ْن يشغل ال َق َصص القرآني ثلث القرآن الكريم؛ فمنهج القرآن الكريم في ال َق َصص أ َّنه يق ِّدم من التفاصيل ما يكفي لذلك الاعتبار ،وليس المه ُّم تفاصيل القصة ،وإ َّنما المه ُّم أ ْن يؤدي ال َق َصص وظيفته في الاعتبار والموعظة والذكرى .قال الله تعالى﴿ :ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯲﯳﯴ ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﰂ﴾ [يوسف ،]111:وقال سبحانه﴿ :ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀ﴾ [هود.]120: وفي ال ُّسنة النبوية َق َص ٌص كذلك ،يتصل بع ُضها ب َق َصص القرآن الكريم؛ لتوجيهنا إلى موطن الاعتبار في القصة ،كما في قصة \"الملك والساحر والراهب والغلام\"((( التي تعطي بعض التفصيل لقصة \"أصحاب الأخدود\" الوارد ذكرها في القرآن الكريم﴿ .ﭛﭜ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷ﴾ [البروج .]7 -4:وبعضها لا يتصل -بالضرورة -بالنص القرآني بصورة مباشرة ،كما في قصة \"الأصلع والأعمى والأبرص\"((( ،وقصة \"إبراهيم وسارة ((( مسلم ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،كتاب :الزهد والرقائق ،باب :قصة أصحاب الأخدود ،والساحر والراهب والغلام ،حديث رقم ،)3005( :ص.1201 ((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :أحاديث الأنبياء ،باب حديث :أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل ،حديث رقم ،)3464( :ص.666 285
والملك الجبار\" ،وكلاهما م ّما رواه الإمام البخاري في \"الصحيح (((\".وكل ذلك من قبيل توظيف ما في هذا ال َق َصص من الاعتبار والاتعاظ في حياتنا المعاصرة. فالخبرة التربوية المعاصرة هي وصف لما قد نجده عندنا وعند غيرنا من المبادئ والنُّ ُظم التربوية التي تب ِّين للمجتمعات المعاصرة فائدتها ،فتختار هذه المجتمعات أ ْن تتبنّاها ،وتمارس عملها التربوي والتعليمي على أساسها .وهي -في حقيقة الأمر -خبرة متج ِّددة متط ِّورة زمان ًا ،ومتن ِّوعة مختلفة مكان ًا .وقد يكون في هذه الخبرة عناصر مهمة، تتفق على فائدتها مجتمعات كثيرة ،وتستقر مع مرور الزمن ،وقد يظهر فيها الاختلاف إلى ح ِّد التناقض؛ نظر ًا لما قد يكون في منطلقاتها الفكرية من اختلاف وتناقض .ولذلك، فليس في الخبرة التربوية المعاصرة ما ُيؤ َخذ على ِع ّلته من دون تب ُّصر بما له وعليه .وكما رأينا حاجة التراث التربوي الإسلامي إلى ممارسة التحليل النقدي للتب ُّصر فيما ينفعنا منه، كذلك فإ َّن الخبرة البشرية المعاصرة في المجال التربوي تحتاج إلى تحليل نقدي. والتربوي المسلم المعاصر هو َمن يسعى للإحاطة بالعلوم التربوية المعاصرة ،ويستوعب ما فيها من ُن ُظم ومبادئ ونظريات ،في مصادرها الأساسية المتن ِّوعة ،ويكشف ع ّما أحدثته الممارسات التربوية المعاصرة من آثار إيجابية أو سلبية في المجتمعات المختلفة ،ويلاحظ موقع هذه العلوم والممارسات التي قامت على أساسها ،من مقاصد الإسلام التربوية ،ليح ِّدد بعد ذلك ما يمكن أ ْن يكون منها مصدر ًا للفكر التربوي الإسلامي المعاصر. ولك َّن العلوم التربوية المعاصرة أصبحت مجالاً واسع ًا يتض َّمن تخ ُّصصات كثيرة، منها :فلسفة التربية ،وتاريخ التربية ،والإدارة التربوية ،والمناهج التربوية ،واقتصاديات التربية ،وعلم النفس التربوي ،وعلم الاجتماع التربوي ،والتقويم التربوي ،وغير ذلك. ويتع َّذر على الباحث الواحد أ ْن يحيط بها جميع ًا ،و َح ْس ُب كل عالِم أو باحث أ ْن يحيط بتخ ُّصصه في حالته العلمية المعاصرة بأكبر قدر من الإحاطة ،و ُي ِل َّم بالتخ ُّصصات التربوية الأُخرى ،بما يم ِّكنه من توظيف تخ ُّصصه في مجمل العمل التربوي .ومن الجدير ((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :أحاديث الأنبياء ،باب :قول الله تعالى﴿ :ﮞﮟﮠ ﮡ﴾ [النساء ،]125 :حديث رقم ،)3358( :ص.641 286
بالملاحظة -في هذا المقام -أ َّن العلوم المعاصرة في حالة دائمة من التغ ُّير والتط ُّور والتجديد؛ ما يفرض على المتخ ِّصص مواصلة الا ِّطلاع على الجديد في تخ ُّصصه، ومتابعة ما يحدث فيه من تط ُّورات. ومع ذلك ،فإ َّن هذا القدر من الإحاطة والإلمام والمتابعة لا يعفي العالِم التربوي المسلم المعاصر من أ ْن يكون لديه القدر الكافي من الا ِّطلاع والإلمام بمقاصد التربية في القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ،والتراث التربوي الإسلامي -على الأقل -فيما له صلة مباشرة بتخ ُّصصه الدقيق. والتربوي المسلم المعاصر -فوق ذلك كله -ليس َم ْعنِ ّي ًا فقط بتطوير الفكر التربوي الإسلامي لإصلاح واقع مجتمعه ،وإ َّنما هو َم ْعنِ ٌّي كذلك بتقديم رؤية تربوية وخبرة تربوية ُتس ِهم في تق ُّدم الفكر التربوي الذي يصلح أ ْن يستفيد منه أ ُّي مجتمع من المجتمعات المعاصرة ،ويكون بذلك عنصر ًا مهم ًا من عناصر الحضور الإسلامي في الحضارة البشرية المعاصرة ،وإسهام ًا إسلامي ًا في توجيهها وترشيدها. وهذه الرؤية للمهمات التي تنتظر المف ِّكر التربوي المسلم المعاصر هي \"واجب الوقت\" وهي فريضة من فرائضه؛ فهذا المف ِّكر هو ابن وقته وزمانه ،ولكل وقت واجبه. قال الإمام ابن ق ِّيم الجوزية في كتاب \"الجواب الكافي\"\" :أ ْعلى ال ِف َكر وأج ُّلها وأنف ُعها ما كان لله والدار الآخرة ،فما كان لله فهو أنواع ، ...،النوع الخامس :الفكرة في واجب الوقت ووظيفته ،وجمع اله ِّم ك ِّله عليه ،فالعارف ابن وقته ،فإ ْن أضاعه ضاعت عليه مصالحه كلها ،فجميع المصالح إ َّنما تنشأ من الوقت ،فمتى أضاع الوقت لم يستدركه أبد ًا (((\".وقد ك َّرر ذلك في كتاب \"مدارج السالكين إلى إياك نعبد وإياك نستعين\"\" :فالأفضل في كل وقت وحال :إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال ،والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه ...فهذا هو المتح ِّقق بـ ﴿ﭢﭣﭤﭥ﴾ [الفاتحة ]٥ :حق ًا، القائم بهما صدق ًا(((\". ..، ((( ابن ق ِّيم الجوزية ،أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب (توفي751 :ﻫ) .الداء والدواء (الجواب الكافي ل َمن سأل عن الدواء الشافي ،تحقيق :محمد أجمل الإصلاحي ،جدة :مجمع الفقه الإسلامي ،مكة المكرمة :دار عالم الفوائد1429 ،ﻫ ،ص.358-356 ((( ابن ق ِّيم الجوزية ،مدارج السالكين ،مرجع سابق ،ج ،1ص.111-110 287
خاتمة: تح َّدث هذا الفصل عن مصادر أربعة ،يمكننا الاستمداد منها في بناء الفكر التربوي الإسلامي :القرآن الكريم ،وال ُّسنة النبوية ،والتراث التربوي الإسلامي ،والخبرة التربوية المعاصرة .وقد يكون من المناسب الآن أن نتساءل :أين هو الفكر التربوي الإسلامي المعاصر؟ وقد ذكرنا عدد ًا من الأمثلة على مسائل العلم والتعليم والتع ُّلم في القرآن الكريم، ولم يكن هدفنا في ذكر هذه الأمثلة المحدودة استقصاء ما في القرآن الكريم؛ فكل القرآن علم ،وكله دعوة إلى التع ُّلم والتعليم .ويمكننا أ ْن نواصل الحديث عن مسائل كثيرة ُأخرى ،وعن موضوعات كثيرة ُأخرى؛ فلو تح َّدثنا عن مسألة أدوات العلم والتعليم، واخترنا لفظ \" َك َت َب\" ومشتقاته وما يخت ُّص به من صحيفة وسجل وقلم ومداد ،لكان ذلك شهادة كبرى على احتفال القرآن الكريم بأدوات العلم والتعليم ،ومثل ذلك لو اخترنا لفظ \" َق َر َأ\" ومشتقاته ،أو لفظ \" َد َر َس\" ،أو مسألة التكريم الرباني للعلماء ،أو غير ذلك م ّما يتصل بموضوعات العلم وعملياته وأدواته من حضور في القرآن الكريم. وقد َتب َّين لنا أ َّن موضوع العلم والتع ُّلم والتعليم في ال ُّسنة النبوية موضو ٌع أثير ،سبق أ ْن تو ّلى أئمة الحديث توثيقه في مصنَّفاته ،ث َّم اهتمت كتب التراث بهذا الموضوع كثير ًا ،فروت هذه الأحاديث وما ارتبط بها من آثار الصحابة والتابعين و َمن جاء بعدهم من العلماء .و َتب َّين لنا أيض ًا أ َّن ُسنَّة رسول الله ﷺ ُح َّج ٌة في الأخذ بما ورد فيها من أحكام وتوجيهات في مجال التربية والتعليم ،مثلما هي ُح َّجة في سائر المجالات الأُخرى .وقد اكتفينا بالإشارة إلى ثلاثة مفاهيم ورد ذكرها في ال ُّسنة النبوية ،هي :العلم ،والتع ُّلم ،والتعليم؛ إذ كانت هذه المفاهيم الثلاثة -ولا تزال -أركان التربية والتعليم في أ ِّي مجتمع بشري. ونحن نؤمن إيمان ًا جازم ًا بأ َّننا سنجد فيما ورد في ال ُّسنة النبوية من الأحكام والتوجيهات ما يجعلها بيان ًا لما ورد في القرآن الكريم من جهة ،وتنزيل ًا على الواقع العملي لحياة الناس في المجتمع من جهة ُأخرى .ونحن نؤمن كذلك بأ َّن ما ورد في القرآن الكريم وما جاء بيانه وتنزيله العملي في ال ُّسنة النبوية ُي َع ُّد مبادئ عامة في التعامل في سائر قضايا التربية والتعليم .ونؤ ِّكد أ َّن هذه المبادئ هي مبادئ عامة وكلية ،تتناسب مع الفطرة البشرية ،وتفتح المجال لتطوير الخبرات والتجارب البشرية المتنامية ،وتوظيفها 288
في العمل التربوي في ضوء هذه المبادئ ،فكيف لا تكون ال ُّسنة النبوية مصدر ًا للفكر التربوي المعاصر؟! وقد أشرنا إلى عدد من الوظائف التي يمكن للتراث التربوي الإسلامي أ ْن يؤديها، وبها يكون مصدر ًا للفكر التربوي الإسلامي المعاصر .وكان من الواضح أ َّن الفكر التربوي الذي ق َّدمه علماء المسلمين في كتاباتهم وممارساتهم ،منذ عهد التدوين إلى ما قبل تأ ُّثر المجتمعات الإسلامية بالغرب الحديث ،كان يستند ُج ُّله إلى نصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ،و ِم ْن َث َّم ُي َع ُّد ذلك الفكر -الذي أصبح لنا تراث ًا تربوي ًا -تجرب ًة تاريخي ًة في فهم تلك النصوص والتطبيق العملي لها .والتجربة التاريخية لا ُب َّد أ ْن تكون مفيدة فيما كان فيها من الصواب والخطأ؛ ففي التنزيل الحكيم من الوحي الإلهي والهدي النبوي على الواقع الموضوعي لحياة الناس ،وما يتر َّتب على هذا التنزيل الحكيم من تحقيق مقاصد الدين ومصالح الناس ،درو ٌس خاب وخسر َمن لم يسترشد بها .ول ّما كان هذا التنزيل هو جهد بشري يتفاوت ح ُّظه من الصواب ،وقد تنتابه حالات من القصور والخطأ ،تؤدي إلى تعطيل المقاصد وتفويت المصالح ،فإ َّن من الحكمة أ ْن نتب َّين هذا الحالات ،ونعمل على تجنُّبها. وحين نتب َّين المشكلات التي أشار إليها التراث التربوي الإسلامي ،م ّما قد يكون سببه العجز عن الاهتداء بالقرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ،فإ َّننا نحمد لهذا التراث أ ْن ن َّبهنا إلى ذلك؛ حتى لا نك ِّرر هذا القصور والخطأ .ومع ذلك ،فقد نجد أحيان ًا أ َّن مادة التراث لم ُت ِش ْر بوضوح إلى القصور والخطأ؛ لأ َّن وظيفة النص التراثي اقتصرت على وصف ما كان سائد ًا من الممارسات التربوية والتعليمية في الزمان والمكان ،ويبقى لنا نحن اليوم، ول َمن يأتي بعدنا غد ًا ممارسة التحليل والتقويم لتلك النصوص التراثية؛ للكشف ع ّما يكون قد رافقها من مشكلات ،وما يكون قد نتج عنها من أثر سلبي في حالة المجتمع المسلم يومذاك. وبذلك نصل إلى القول إ َّنه ليس َث َّمة ش ٌّك في ضرورة الاستفادة من التراث التربوي الإسلامي؛ لنأخذ منه جوانب الحكمة في منهج تنزيل الوحي الإلهي والهدي النبوي على حالة المجتمع الإسلامي ومستجداته ،وما ح َّققه هذا التنزيل من مقاصد ومصالح، والاعتبار بما يكون قد رافق ذلك من النقص والعجز والقصور. 289
وفي مجال الخبرة التربوية المعاصرة نستطيع أ ْن نؤ ِّكد عجز الباحث الواحد في الفكر التربوي الإسلامي المعاصر أ ْن يحيط إحاطة كاملة بهذه الخبرات في جميع فروع العلوم التربوية ،والأسس الفلسفية والنفسية والاجتماعية والمعرفية لهذه العلوم؛ فقد تمايزت هذه الفروع حتى أصبحت تخ ُّصصات ،تتسع مجالات ك ٍّل منها ،وتتع َّدد موضوعاتها .ولذلك ،فإ َّن توظيف الخبرة التربوية المعاصرة والاستفادة منها -بوصفها مصدر ًا من مصادر بناء الفكر التربوي الإسلامي المعاصر -يقتضي إسهام بعض الباحثين من التخ ُّصصات التربوية المختلفة في جهود بحثية مشتركة ،تقوم بها مؤسسات تو ِّفر الإدارة والدعم ،وتي ِّسر متط َّلبات التم ُّكن والاستيعاب والتجاوز ،وتمتلك رؤية النهوض الحضاري الإسلامي. ومع أ َّننا رأينا أ َّن الخبرة البشرية المعاصرة في مجال التعليم هي نقطة البدء في الإصلاح التربوي المنشود ،فإ َّن مسيرة الإصلاح تستند في كل خطوة من خطواتها إلى المرجعية الحاكمة التي تح ِّدد المقاصد التربوية في الإسلام ،وهي :القرآن الكريم، وال ُّسنة النبوية ،وتستصحب -في الوقت نفسه -خبرة التراث التربوي الإسلامي .بيد أ َّن الاحتكام إلى تلك المرجعية لا يتح َّقق على الوجه الأفضل إلا عندما نقرأ هذه النصوص بتد ُّبر وبصيرة تم ِّكننا من أ ْن نجد فيها ما نهتدي به في إصلاح الواقع التربوي المعاصر، وما ُي ِعيننا على تقويم الخبرات البشرية التي تكتنفه. 290
الفصل الرابع مقاصد الفكر التربوي الإسلامي مقدمة المبحث الأول :مفهوم \"المقاصد التربوية\" وصلتها بالأهداف التربوية المبحث الثاني :مرجعية المقاصد والأهداف التربوية المبحث الثالث :تصنيف المقاصد التربوية أولاً :مقاصد تربوية للدنيا ،ومقاصد تربوية للآخرة ثاني ًا :مقاصد تربوية غا ِئ َّية ،ومقاصد تربوية و َس ِل َّية ثالث ًا :تصنيف المقاصد التربوية حسب موضوعات العلوم رابع ًا :تصنيف الأهداف التربوية وفق مؤسسات التربية في المجتمع خامس ًا :المقاصد التربوية حسب نوعية التعليم المبحث الرابع :المقاصد القرآنية العليا وتجلياتها التربوية أولاً :مقاصد تربوية للتوحيد ثاني ًا :مقاصد تربوية للتزكية ثالث ًا :مقاصد تربوية للعمران المبحث الخامس :تفعيل المقاصد التربوية أولاً :التفعيل والفعل والفاعل ثاني ًا :تفعيل المقاصد يحتاج إلى الفقيه المقاصدي ثالث ًا :الأفكار بين الفاعلية والتفعيل رابع ًا :واقع المعالجة المقاصدية للعمل التربوي المبحث السادس :تقويم المقاصد التربوية أولاً :صحة الأفكار وفاعليتها ثاني ًا :التقويم التربوي في حالته السائدة ثالث ًا :نظام الجودة في التعليم رابع ًا :مفاهيم إسلامية تخت ُّص بالتقويم خاتمة
الفصل الرابع مقاصد الفكر التربوي الإسلامي مقدمة: تزايد الاهتمام بمقاصد الشريعة في العقود الثلاثة الأخيرة بصورة ملحوظة ،و ُب ِذلت جهو ٌد ملموس ٌة في تأصيل مفهوم \"المقاصد\" في القرآن الكريم ،والتجديد في تحديد المقاصد ،وتصنيفها ،وتطبيقها في مجالات العلوم المختلفة ،وقضايا الفكر الإسلامي المعاصرة .لقد ُن ِشر في موضوع \"المقاصد\" كثير من الكتب والدراسات ،و ُن ِّظم كثير من المؤتمرات ،وتأ َّسس كثير من مراكز البحوث والدراسات المقاصدية؛ ما جعل الريسوني يصف هذه الجهود بأ َّنها تعبير عن صحوة مقاصدية(((. ومقاصد الفكر التربوي هي مقاصد الإسلام التي يهدف إلى تحقيقها في المجال التربوي؛ فالإسلام مدرس ٌة للتعليم والتربية ،ليس في تع ُّلم العقائد والعبادات فحسب ،بل في تع ُّلم أصول السياسة والاقتصاد والاجتماع ،وسائر وجوه النشاط البشري .فالله سبحانه هو ر ُّب العالمين ،ور ُّب الناس أجمعين ،ير ُّبهم و ُير ّبيهم و ُيز ّكيهم و ُين ِّشئهم حالاً فحالاً إلى ح ِّد التمام الذي يريده لهم .وهو سبحانه الر ُّب الذي ع َّلم آد َم الأسما َء ،وع َّلم الأنبياء مضامين الرسالات التي أرسلهم بها إلى الناس .والأنبياء ُب ِع ُثوا في أقوامهم ُمع ِّلمين، ومحم ٌد ص ّلى الله عليه وس َّلم هو دعو ُة نب ِّي الله إبراهيم عليه السلام ،ليتلو على ذرية إبراهيم آيات الله ،و ُيع ِّلمهم الكتاب والحكمة ،و ُيز ّكيهم. وهذا التعليم في جميع مجالاته وصوره وموضوعاته هو لتحقيق مراد الله سبحانه من وجود الإنسان وحياته؛ ليؤمن بوحدانية الله وربوبيته ،وليتح َّقق بالعبودية له سبحانه، وصولاً إلى حالة التزكية ،وحمل الأمانة ،والاستخلاف ،والعمران. هذا على وجه الإجمال ،أ ّما التفصيل؛ فإ َّن مقاصد الفكر التربوي الإسلامي تتم َّثل في تطوير المعرفة اللازمة لتنشئة الإنسان وتربيته وتعليمه في مراحل حياته كلها ،وتأهيله ((( الريسوني ،أحمد .الفكر المقاصدي؛ قواعده وفوائده ،الرباط :منشورات جريدة الزمن1999 ،م ،ص.7 293
للقيام بمسؤولياته تجاه ر ِّبه ،ونفسه ،وأسرته ،ومجتمعه ،وبيئته ،وسائر العالمين ،و ِم ْن َث َّم توظيف هذه المعرفة في عمليات التنشئة والتربية والتعليم .ومصدر الهداية في اكتساب هذه المعرفة ،وفي توظيفها ،هو القرآن الكريم .وأصول الممارسة العملية للتعليم والتزكية والتربية التي جاء بها القرآن الكريم كانت هي ال ُّسنة النبوية في صورة منهج عل ٍم َتو َّفر لجيل الصحابة ،وبقي ُأسو ًة حسن ًة للأجيال التالية ،وسيبقى القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية مصد َر هداي ٍة ومنها َج عم ٍل إلى قيام الساعة. قد يكون من المناسب توضيح أ َّن الفكر التربوي الإسلامي الذي نحاول أ ْن نح ِّدد فيه موقع المقاصد القرآنية في العملية التربوية ،أو التج ِّليات التربوية لهذه المقاصد ،لا يستهدف -بالضرورة -العمل التربوي الفني الذي يتم على مستوى المدرسة ،والكتاب المدرسي ،والأساليب التدريسية ،وإ َّنما يستهدف بناء الصلة بين مبادئ الإسلام الكلية والعلوم التربوية والنفسية الحديثة والمعاصرة ،عن طريق ما س َّم ْيناه \"منهجية التكا ُمل المعرفي\" بوصفها إطار ًا مرجعي ًا للمنهجية الإسلامية (((.ولذلك اخترنا أ ْن نتح َّدث عن المقاصد العليا التي تحكم رؤيتنا الكلية للعملية التعليمية في ُأطرها الفكرية العامة ،و ُأسسها النفسية والفلسفية والاجتماعية .فما نحن بصدده هو بناء منه ٍج للنظر الكلي ،وليس إيجاد بدائل للتفاصيل والجزئيات الخاصة بالعمل التربوي اليومي .ونحن في ذلك ننطلق من افتراض أ َّن ال ُمما ِرس التربوي الذي يمتلك منهج النظر الكلي يستطيع أ ْن يمارس التحليل النقدي للحالة التعليمية وعناصرها ،ويجتهد في التأثير في هذه الحالة وتشكيلها بما َيلزم من تعدي ٍل أو تغيي ٍر .ومن هنا ،تأتي أهمية الرؤية المقاصدية في الإصلاح والتجديد. إ َّن توظيف مفهوم \"المقاصد\" في المجال التعليمي يقتضي الانتقال من الحديث عن حضور المقاصد في أبواب الفقه ،لا سيما فقه العبادات وفقه المعاملات في إطارها التراثي ،إلى توظيف المقاصد في العلوم الحديثة بأصنافها المختلفة؛ الاجتماعية، والإنسانية ،والطبيعية ،والتطبيقية ،التي استج َّدت في القرون الأخيرة ،ولا تزال تتسع وتتف َّرع؛ ذلك أ َّننا لا نجد حرج ًا -في معظم الأحيان -في دراسة هذه العلوم ،ولكنَّنا قد ((( ملكاوي ،فتحي حسن .منهجية التكامل المعرفي :مقدمات في المنهجية الإسلامية ،هرندن :المعهد العالمي للفكر الإسلامي ،ط2016 ،2م ،ص.177 294
لا نكون على وعي كا ٍف بما قد تتض َّمنه هذه العلوم من مخاطر على رؤيتنا الكلية وطرائق تفكيرنا ،وقد لا نشعر بالأهمية البالغة لما َيلزم أ ْن نضيفه إلى العمران والحضارة عن طريق الإسهام في التق ُّدم العلمي والمعرفي في العا َلم المعاصر. والحقيقة أ َّننا نشعر -بقدر من الإلحاح -بضرورة القول إ َّن الفكر الذي نسعى إلى بنائه لن يكون فكر ًا إسلامي ًا حتى يكون فكر ًا مقاصدي ًا في موضوعاته ومناهجه وتطبيقاته، ولن يكون المف ِّكر مف ِّكر ًا إسلامي ًا في الميدان التربوي حتى يمتلك الرؤية المقاصدية والمنهج المقاصدي ،ويمارس هذا المنهج في التخطيط التربوي والممارسة التربوية ،في سائر مستويات التخطيط والممارسة. وفي هذا الفصل سنو ِجز القو َل في مفهوم \"المقاصد\" ،وصلتها بالأهداف التي يجري الحديث عنها في المؤسسات التربوية ،مستندي َن في هذا التحديد إلى المرجعية القرآنية ،ومستئنسي َن بشي ٍء من مادة التراث الإسلامي حول أنواع المقاصد ورتبها، وطريقة تفعيلها وتقويمها. 295
المبحث الأول مفهوم \"المقاصد التربوية\" وصلتها بالأهداف التربوية تشيع في الكتابات التربوية عبارات مفتاحية ،مثل :التربية ثلاثة عناصر ،هي :منهاج تعليمي ،و ُمع ِّلم ،و ُمتع ِّلم؛ والمنهاج التربوي أربعة عناصر ،هي :أهداف ،ومحتوى، وأساليب ،وتقويم .ويلاحظ أ َّن أهداف التعليم هي العنصر المح ِّدد للعناصر الأُخرى في العملية التربوية ،ونقطة البدء في التخطيط التربوي .فالأهداف في الفكر التربوي موضوع محوري يدور حوله التفكير في العمل التربوي في سائر مراحله وإجراءاته ،ولا تقتصر العناية به على العاملين في المؤسسات التربوية ،بل هو موضوع َي ُه ُّم المجتم َع بأكمله ،ولذلك كانت الأهداف في مستويات متعددة؛ فالمجتمع يح ِّدد ما الذي يريده من المؤسسات التعليمية. والأهداف التي يرسمها المجتمع على مستوى صنّاع القرار في الإدارة المركزية هي أهداف عامة ،يريد المجتمع (الدولة) من المؤسسات التعليمية تحقيقها ،وتخت ُّص غالب ًا بغايات التنمية السياسية والاجتماعية والاقتصادية ...والمؤسسات التعليمية تضع أهداف ًا عام ًة في مستوى أدنى من مستوى الأهداف التربوية للمجتمع ،وتريد من ال ُمع ِّلمين أ ْن يح ِّققوا هذه الغايات التربوية في المدارس والفصول الدراسية .وال ُمع ِّلمون -ك ٌّل في مجال اختصاصه العلمي -يح ِّددون أهداف التدريس التي يريدون من طلبتهم تحقيقها ،وهكذا. وللتمييز بين المستويات المختلفة للأهداف التربوية ،يستخدم التربويون أحيان ًا مصطلحات مح َّددة ،تأخذ نصيب ًا من الشيوع والانتشار .ومع ذلكُ ،ي ْؤثِ ُر بع ُض التربويين استعمال مصطلحاتهم الخاصة بهم ،ويق ِّدمون تعريف ًا إجرائي ًا لها .وتتو َّقف دلالات بعض هذه المصطلحات أحيان ًا على السياق الذي ُتستع َمل فيه؛ فقد يأتي التمييز بين \"الأهداف التربوية\" التي يريد المجتمع تحقيقها ،وتتصل بنظام الاعتقاد ونظام القيم ،أو تتصل بمشروعات التنمية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية وغيرها ،و\"الأهداف التعليمية\" التي تسعى مؤسسات التعليم الوطنية إلى تحقيقها ،وتتصل بنظام المعرفة وتطبيقاته في المراحل والبرامج والمناهج التعليمية .وقد ُتستع َمل مصطلحات مح َّددة ،مثل\" :الغايات\" التربوية ،أو \"المقاصد\" التربوية لتعني الأهداف العليا التي يريد المجتمع أ ْن تتح َّقق في مواطنيه ،ث َّم يتم التمييز بين أهداف تربوية عامة وأهداف تربوية خاصة .وقد يلجأ بعض 296
التربويين إلى استعمال مصطلح \"الأهداف\" ،أو \"الغايات\" ،أو \"الأهداف-الغايات\" ،أو \"المقاصد\" ،بمرجعية دينية إلهية ،تو ِّسع دائرة الاهتمام بالأهداف التربوية إلى ما يريده الخالق من الإنسان المخلوق .بينما ُتستخ َدم هذه المصطلحات نفسها بمرجعية تشريعية وضعية ،تقصر الأهداف التربوية على ما يريده المجتمع من أفراده .وفي هذه الحالة سيظهر إلى جانب مصطل ِح \"الأهداف-الغايات\" ،أو مصطل ِح \"الأهداف المقاصدية\" مصطل ٌح يقابله ،مثل\" :الأهداف-الوسائل\" ،أو \"الأهداف الو َس ِل َّية\"(((. وقد يتسلسل التربويون في التعبير عن مستويات الأهداف التربوية لتصل إلى الصورة التي يريدون ملاحظتها في سلوك ال ُمتع ِّلمين نتيج ًة لتدريس موضوع معين في زمن معين، فيستخدمون مصطلح \"الأهداف السلوكية\" .وقد يكون المطلوب أ ْن تأتي هذه الأهداف السلوكية في مستويات مح َّددة من الأداء ،ف ُتس ّمى \"الكفايات التعليمية\" .وكما هو الحال في مستويات الأداء المنشودة في معظم الفعاليات البشرية ،ر َّبما يتفق المعنيون على مستوى مح َّدد ُي َع ُّد الأعلى ،و ُين َسب إليه الأداء الفعلي ،ويكون هذا الح ُّد معيار ًا للجودة، تكشف عنه مؤ ِّشرات مح َّددة. أ ّما نحن فقد اخترنا أ ْن يبدأ عنوان هذا الفصل بلفظ \"مقاصد\" ،لا بأ ِّي لفظ آخر ،مثل: لفظ \"أهداف\" الذي ُيستع َمل عادة في الفكر التربوي والممارسة التربوية ،أو لفظ \"غايات\"، وهو لفظ ُيستع َمل عادة للأهداف النهائية .ونلجأ إلى هذا الاختيار لأسباب ثلاثة: أ -الرغبة في التعامل مع العملية التربوية بمنهجية مقاصدية ،تو ِّسع دائرة الأهداف المنشودة من هذه العملية ،بدء ًا بمستوى السلوك المباشر لل ُمتع ِّلمين ،ومرور ًا بتشكيل شخصية ال ُمتع ِّلم وإنجازاته في حياته الخاصة والعامة ،وانتها ًء بالتغيير المنشود في المجتمع ،وإسهام الأُ َّمة في ترشيد الحضارة البشرية. ب -الرغبة في التعامل مع موضوعات الفكر التربوي الإسلامي بمنهجية مقاصدية، تو ِّسع دائرة المقاصد من فقه الأحكام الشرعية التقليدي إلى فكر البناء الاجتماعي والحضاري .وبهذه المنهجية يكون الفقه المقاصدي فقه ًا في العبادات ،وفقه ًا في المعاملات؛ في مجالاتها السياسية والاقتصادية والتربوية ،وسائر مجالات ((( في النسبة إلى كلمة \" َو ِسيلة\" على وزن \" َف ِعيلة\"ُ ،تح َذف ياء \" َف ِعيلة\" وتاء التأنيث ،ث َّم ُتق َلب كسرة العين فتحة، فتصبح \" َو َس ِل ٌّي\" ،ومؤنثها \" َو َس ِل َّي ٌة\". 297
التعامل التي نجدها في المجتمع البشري المعاصر ،وبذلك يكون من مقاصدنا وجود الفقيه التربوي ،والفقيه السياسي ،والفقيه الاقتصادي ،والفقيه في غير ذلك من فعاليات المجتمع المعاصر. ت -الرغبة في بناء وعي كا ٍف بأ َّن المقصود بالعملية التربوية هو الإنسان الذي استخلفه الله في الحياة الدنيا؛ ليعمرها وفق ًا لمقاصد الحق من الخلق .وسيقف للحساب عند الله في الآخرة جمي ُع ال َم ْعنِ ّيين بهذه العملية ،ومع ك ٍّل منهم ك ْش ٌف بما ح َّققه من هذه المقاصد في الحياة الدنيا .فالاهتمام بموضوع \"المقاصد\"، والاجتهاد فيه ،ومنهجه ،وممارسته ليس مقتصر ًا على المتخ ِّصصين في علم الأصول أو تطبيقاته من العلوم الدينية ،وإ َّنما هو منهج في التفكير والممارسة للمتخ ِّصصين في سائر العلوم ،وعلى الأخ ِّص العلوم التربوية والنفسية ودعاة الإصلاح بصورة عامة. ث َّم إ َّن لفظ \"المقاصد\" يحيل إلى دلالا ِت ألفا ٍظ ُأخرى؛ فقد ب َّينّا علاقة المقاصد بالمبادئ والقيم في كتابنا\" :منهجية التكا ُمل المعرفي :مقدمات في المنهجية الإسلامية\"، فرأينا أ َّن المقاصد هي مبادئ تحكم التفكير المنهجي ،والبحث المنهجي ،والسلوك المنهجي (((.وب َّينّا علاقة المقاصد بالقيم في كتابنا\" :منظومة القيم العليا :التوحيد والتزكية والعمران\"((( ،حين رأينا أ َّن القيم هي منظوم ٌة من المعايير التي تتكامل فيما بينها في التأسيس لرؤي ٍة كلي ٍة تحكم الوجود الإنساني في أدائه لوظيفة الخلافة على الأرض ،وهي معايير ُتو ِّجه السلوك البشري أفراد ًا ومجتمعا ٍت ،وتبني الحضارة الإنسانية في جوانبها المادية والمعنوية ،و ُتر ِّش ُدها بهداية الوحي الإلهي ،والأُسوة النبوية .فتكون القي ُم العليا الحاكمة هي :توحيد الله ،وعمران الكون ،وتزكية الإنسان .والقيم بهذا الاعتبار هي معايي ُر تربية الإنسان ،وتوجيه سلوكه ،وتشكيل شخصيته ،وبناء علاقاته بالله سبحانه وبالبيئة الاجتماعية والبيئة الطبيعية ،وتكون هذه المعايير حاكم ًة على مقدار ما يتح َّقق من مقاصد الر ِّب الخالق سبحانه من الإنسان المخلوق. ((( ملكاوي ،منهجية التكامل المعرفي :مقدمات في المنهجية الإسلامية ،مرجع سابق ،الفصل السابع :المبادئ والقيم المنهجية ،ص.290-241 ((( ملكاوي ،فتحي حسن .منظومة القيم العليا :التوحيد والتزكية والعمران ،هرندن :المعهد العالمي للفكر الإسلامي ،ط2016 ،2م ،مقدمة الكتاب. 298
والقول بأ َّن للتربية والتعليم مقاصد ليس قولاً طارئ ًا؛ إذ ورد ذلك في كثي ٍر من أقوال العلماء .فابن خلدون -مثل ًا -م َّيز بين صنفين من العلوم\" :علوم مقصودة بالذات... وعلوم هي آلية ،ووسيلة لهذه العلوم(((\". وقد استئنسنا في الحديث عن هذه المنطومة الثلاثية من القيم العليا بفقيه أصولي، هو شيخنا العلواني الذي رأى أ َّن هذه المنطومة هي منظومة مقاصدية حاكمة على كل ما يمكن أ ْن يندرج تحت الفقه الإسلامي والفكر الإسلامي ،وبغير ذلك لا يكون فقهنا إسلامي ًا ،ولا فكرنا إسلامي ًا؛ فهذه \"المقاصد العليا الحاكمة يمكن أ ْن تساعد -أيض ًا -على تطوير نظرية معرفية عامة في العلوم الشرعية كلها ،وكذلك في العلوم الاجتماعية (((\"... \"وأ َّنها الكليات القرآنية الكفيلة بتشغيل سائر المنظومات ...الفقهية والقانونية ،وإعادة بناء الشخصية الإسلامية الفردية والاجتماعية ،وتحويلها إلى نموذج ومثال يم ِّهد لعالمية الإسلام القادمة بإذن الله ،وظهوره على الدين كله؛ لأ َّن المقاصد العليا الحاكمة يمكن أ ْن تم ِّثل بجملتها أو ببعضها -على الأقل -مشتركات إنسانية(((\". واستئنسنا كذلك بواحد من الفقهاء التربويين المعاصرين ،الذي صنَّف وجعل الأهداف التربوية في مستويين؛ الأول منهما يخت ُّص بالمقاصد النهائية؛ إذ يقول\" :وتنقسم الأهداف التربوية إلى قسمين رئيسين\" :الأهداف الأغراض\" :أ ِي التي تشتمل على الأغراض والمقاصد النهائية التي ُيراد من التربية إنجازها وتحقيقها على المستويات الفردية والاجتماعية والعالمية( ،و) \"الأهداف الوسائل\" :أ ِي التي تشتمل على الوسائل والأدوات الف ّعالة لتحقيق الأهداف الأغراض(((\". و ِمن فقهاء التربية المعاصرين كذلك َمن ربط \"مقاصد الشريعة\" بما س ّماه \"الدلالة التربوية لنظام الدولة التي أنشأها الرسول ﷺ\" ،فجعل هيمنة هذه المقاصد على أشكال ((( ابن خلدون .مقدمة ابن خلدون ،مرجع سابق ،ج ،3ص.1114 ((( العلواني ،طه جابر\" .من التعليل إلى المقاصد القرآنية العليا الحاكمة\" ،مجلة إسلامية المعرفة ،العدد (-46 ،)12( ،)47خريف وشتاء 2007-2006م ،ص.19 ((( المرجع السابق ،ص.22 ((( الكيلاني ،ماجد عرسان .أهداف التربية الإسلامية :مقارنة بين أهداف التربية الإسلامية والأهداف التربوية المعاصرة ،المدينة المنورة :مكتبة دار التراث .ط1408( ،2ﻫ1988 /م) ،ص.15 299
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210
- 211
- 212
- 213
- 214
- 215
- 216
- 217
- 218
- 219
- 220
- 221
- 222
- 223
- 224
- 225
- 226
- 227
- 228
- 229
- 230
- 231
- 232
- 233
- 234
- 235
- 236
- 237
- 238
- 239
- 240
- 241
- 242
- 243
- 244
- 245
- 246
- 247
- 248
- 249
- 250
- 251
- 252
- 253
- 254
- 255
- 256
- 257
- 258
- 259
- 260
- 261
- 262
- 263
- 264
- 265
- 266
- 267
- 268
- 269
- 270
- 271
- 272
- 273
- 274
- 275
- 276
- 277
- 278
- 279
- 280
- 281
- 282
- 283
- 284
- 285
- 286
- 287
- 288
- 289
- 290
- 291
- 292
- 293
- 294
- 295
- 296
- 297
- 298
- 299
- 300
- 301
- 302
- 303
- 304
- 305
- 306
- 307
- 308
- 309
- 310
- 311
- 312
- 313
- 314
- 315
- 316
- 317
- 318
- 319
- 320
- 321
- 322
- 323
- 324
- 325
- 326
- 327
- 328
- 329
- 330
- 331
- 332
- 333
- 334
- 335
- 336
- 337
- 338
- 339
- 340
- 341
- 342
- 343
- 344
- 345
- 346
- 347
- 348
- 349
- 350
- 351
- 352
- 353
- 354
- 355
- 356
- 357
- 358
- 359
- 360
- 361
- 362
- 363
- 364
- 365
- 366
- 367
- 368
- 369
- 370
- 371
- 372
- 373
- 374
- 375
- 376
- 377
- 378
- 379
- 380
- 381
- 382
- 383
- 384
- 385
- 386
- 387
- 388
- 389
- 390
- 391
- 392
- 393
- 394
- 395
- 396
- 397
- 398
- 399
- 400
- 401
- 402
- 403
- 404
- 405
- 406
- 407
- 408
- 409
- 410
- 411
- 412
- 413
- 414
- 415
- 416
- 417
- 418
- 419
- 420
- 421
- 422
- 423
- 424
- 425
- 426
- 427
- 428
- 429
- 430
- 431
- 432
- 433
- 434
- 435
- 436
- 437
- 438
- 439
- 440
- 441
- 442
- 443
- 444
- 445
- 446
- 447
- 448
- 449
- 450
- 451
- 452
- 453
- 454
- 455
- 456
- 457
- 458
- 459
- 460
- 461
- 462
- 463
- 464
- 465
- 466
- 467
- 468
- 469
- 470
- 471
- 472
- 473
- 474
- 475
- 476
- 477
- 478
- 479
- 480
- 481
- 482
- 483
- 484
- 485
- 486
- 487
- 488
- 489
- 490
- 491
- 492
- 493
- 494
- 495
- 496
- 497
- 498
- 499
- 500
- 501
- 502
- 503
- 504
- 505
- 506
- 507
- 508
- 509
- 510
- 511
- 512
- 513
- 514
- 515
- 516
- 517
- 518
- 519
- 520
- 521
- 522
- 523
- 524
- 525
- 526
- 527
- 528
- 529
- 530
- 531
- 532
- 533
- 534
- 535
- 536
- 537
- 538
- 539
- 540
- 541
- 542
- 543
- 544
- 545
- 546
- 547
- 548
- 549
- 550
- 551
- 552
- 553
- 554
- 555
- 556
- 557
- 558
- 559
- 560
- 561
- 562
- 563
- 564
- 565
- 566
- 567
- 568
- 569
- 570
- 571
- 572
- 573
- 574
- 575
- 576
- 577
- 578
- 579
- 580
- 581
- 582
- 583
- 584
- 585
- 586
- 587
- 588
- 589
- 590
- 591
- 592
- 593
- 594
- 595
- 596
- 597
- 598
- 599
- 600
- 601
- 602
- 603
- 604
- 605
- 606
- 607
- 608
- 609
- 610
- 611
- 612
- 613
- 614
- 615
- 616
- 617
- 618
- 619
- 620
- 621
- 622
- 623
- 624
- 625
- 626
- 627
- 628
- 629
- 630
- 631
- 632
- 633
- 634
- 635
- 636
- 637
- 638
- 639
- 640
- 641
- 642
- 643
- 644
- 645
- 646
- 647
- 648
- 649
- 650
- 651
- 652
- 653
- 654
- 655
- 656
- 657
- 658
- 659
- 660
- 661
- 662
- 663
- 664
- 665
- 666
- 1 - 50
- 51 - 100
- 101 - 150
- 151 - 200
- 201 - 250
- 251 - 300
- 301 - 350
- 351 - 400
- 401 - 450
- 451 - 500
- 501 - 550
- 551 - 600
- 601 - 650
- 651 - 666
Pages: