وحجم الش َّقة بين العامة والخاصة في المجتمع ،وانعكاسات ذلك على الفكر التربوي الذي ساد بعض عصور الإسلام(((. القسم الثاني :المؤسسات والممارسات التربوية: أشرف على تنفيذ هذا القسم المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) في الأردن ،وجاءت أعماله في أربعة مجلداتُ ،ن ِشرت عام 1989م (((.وقد احتوى الجزء الأول على تسعة فصول شملت :التربية العربية قبل الإسلام ،والتربية ومؤسسات التعليم منذ عصر السيرة والراشدين حتى القرن الرابع الهجري ،والتعليم في الأندلس وفي المغرب العربي بين القرنين الثالث والخامس الهجريين ،وعند الفاطميين ،ودور المجالس والحلقات في التربية الإسلامية حتى القرن الخامس الهجري .وتك َّون الجزء الثاني من خمسة فصول تح َّدثت عن تاريخ المدرسة ،مع التركيز على النظاميات ،ومؤسسات التعليم في العراق في القرنين الخامس والسابع الهجريين ،وعند المرابطين والموحدين ،وفي الأندلس من القرن الخامس الهجري حتى سقوط الأندلس ،وزمن الأيوبيين والمماليك في بلاد الشام .وض َّم الجزء الثالث تسعة فصول تح َّدثت عن التعليم في مصر زمن المماليك، والتعليم في المغرب زمن السعديين والعلويين ،والأوقاف والتعليم في مصر زمن الأيوبيين والمماليك ،والأوقاف في بيت المقدس ،والتعليم الطبي في الإسلام ،والتربية عند الإباضية، ومدخل إلى معرفة هجر العلم في اليمن ،وجامع القرويين ،وجامع الزيتونة. أ ّما الجزء الرابع فقد احتوى على ثمانية فصول تح َّدثت عن المحاضر الشنقيطية ودورها في نشر العلم ،ودور المسلمين الثقافي والتربوي في غربي إفريقية من القرن الخامس إلى ((( انظر مثا ًلا على تفاصيل ما َن ُع ُّده مبالغ ًة في تعبيرات بعض الباحثين عن التما ُيز بين المدرسة العقلية والمدرسة النقلية ،في: -رضا ،محمد جواد\" .التيارات الكبرى في الفكر التربوي العربي الإسلامي\" ،الباب الرابع من :الفكر التربوي العربي الإسلامي :الأصول والمبادئ ،تونس :المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم1987 ،م ،ص.716-582 وقد ناقشنا مسألة المبالغة مع الحرص كذلك على عدم تهوين الأثر السلبي لبعض الممارسات التعليمية التي لا خلاف على أ َّنها كانت انحراف ًا عن توجيهات القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ومقاصدهما في التعليم .انظر في ذلك: -ملكاوي ،التراث التربوي الإسلامي :حالة البحث فيه ،ولمحات من تطوره ،وقطوف من نصوصه ومدارسه، مرجع سابق ،الفصل السادس :بعض الرؤى التحليلية لنصوص التراث التربوي الإسلامي ،ص.442-375 ((( الدوري ،عبد العزيز .وعباس ،إحسان (مح ِّرران) .التربية العربية الإسلامية :المؤسسات والممارسات ،ع ّمان: المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت)1990-1989 ،م ،أربعة أجزاء. 200
القرن الثامن الهجري ،وتاريخ التعليم الإسلامي في غربي إفريقية قبل الاستعمار ،والتعليم في العراق من أواخر القرن التاسع عشر إلى العقود الأُولى من القرن العشرين الميلادي، ودور جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت في التعليم ،والتعليم في الحجاز في القرن الثالث عشر والنصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري ،والتعليم في السودان في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ،وأخير ًا النموذج الإسلامي للتربية. القسم الثالث :من أعلام التربية العربية الإسلامية: يضم هذا القسم أربعة مجلدات ،أشرف على إعداد مادتها ونشرها مكتب التربية العربي لدول الخليج ،و ُن ِشرت سنة 1988م (((،وهو خلاصة عدد من الدراسات المتخ ِّصصة لمجموعة من أعلام الإسلام في جميع أنماط المدارس الفكرية :الفقهية، والحديثية ،والفلسفية ،والصوفية ،والاجتماعية؛ فهي تشمل الفقهاء ،والمر ّبين ،والأدباء، والفلاسفة ،وعلماء الأخلاق ،والمؤ ِّرخين ،وسواهم .وقد بلغ عدد َمن تناولتهم هذه الدراسات اثنتين وأربعين شخصية ،كان من بينهم عدد من الصحابة. اشتمل الجزء الأول على عشر دراسات عن أعلام الإسلام في التربية منذ القرن الأول الهجري حتى قرب نهاية القرن الثالث الهجري ،وتض َّمن الجزء الثاني دراسات عن أحد عشر َع َلم ًا من أعلام القرنين الرابع والخامس الهجريين ،وتض َّمن الجزء الثالث دراسات عن عشرة أعلام من بدايات القرن السادس الهجري حتى القرن الثامن الهجري، وتناول الجزء الرابع الحقبة الزمنية اللاحقة ،بدء ًا من منتصف القرن الثامن حتى مطلع القرن العشرين ،وتض َّمن الحديث فيها عن أحد عشر َع َلم ًا من أعلام الفكر التربوي. ثاني ًا :الأطروحات والرسائل الجامعية التربوية: فيما يخ ُّص الأطروحات والرسائل الجامعية لطلبة الدراسات العليا ،فقد شهد الثلث الأخير من القرن العشرين تأسيس مئات الجامعات في الوطن العربي؛ إذ بلغ عدد الجامعات المسجلة في اتحاد الجامعات العربية 331جامعة .أ ّما عدد الجامعات المكتملة العضوية في اتحاد جامعات العا َلم الإسلامي فزاد على 322جامعة .ومن المؤ َّكد أ َّن عدد هذه الجامعات في زيادة مضطردة. ((( مكتب التربية العربي لدول الخليج .من أعلام التربية العربية الإسلامية ،الرياض :مكتب التربية العربي لدول الخليج1989-1988 ،م ،أربعة مجلدات. 201
وقد أشرف المعهد العالمي للفكر الإسلامي على إعداد بعض الك ّشافات في مجال التربية والاقتصاد في عدد من البلدان ،ونذكر -مثل ًا -على هذه الكشافات المرجعية ،ما أنجزه المعهد العالمي للفكر الإسلامي (مكتب الأردن) من إحصاء وتحليل للبحوث التي صدرت عن ميدان التربية الإسلامية في الأردن حتى عام 2010م (((.وقد َتب َّين وجود ما يزيد على مئتي رسالة جامعية نوقشت في الجامعات الأردنية وحدها في موضوع التراث التربوي ،تتو َّزع بين رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه .وكان المعهد العالمي للفكر الإسلامي قد أصدر عام 1993م مرجع ًا للأطروحات الجامعية عن التربية الإسلامية في الجامعات المصرية والسعودية (((،و َتب َّين وجود مئ ٍة وخمس وسبعين رسالة جامعية نوقشت في الجامعات المصرية ،وثلا ٍث وثمانين رسالة نوقشت في المملكة العربية السعودية حتى تاريخ نشر الكتاب عام 1993م .ولع َّل آخر ما ا َّطلعنا عليه هو دليل رسائل التربية الإسلامية في الجامعات المصرية في الم َّدة (2011-1990م) ،وقد جاء فيه توثيق لمئة وسبعين رسالة ماجستير ودكتوراه في التربية الإسلامية ،أمكن تمييز عشرين رسالة منها في موضوعات التراث التربوي الإسلامي(((. ولا ي َّتسع المقام للنظر التفصيلي في هذه الأطروحات ،وهي على أنماط ِع َّدة؛ منها ما يتح َّدث عن جهود َع َلم واحد من أعلام التراث التربوي الإسلامي ،ومنها ما يتح َّدث عن المذاهب الفقهية أو العقائدية ،ومنها ما يتح َّدث عن حقبة زمنية مح َّددة .وقد جاءت هذه الأطروحات من كليات وأقسام جامعية متن ِّوعة ،منها :الفقه ،والحديث ،والتفسير، والفلسفة ،واللغة ،والأدب. ومن هذه الأطروحات ما يمكن تصنيفه ضمن الكتابات التربوية ،مثل :كتاب الزرنوجي ،والقابسي ،والغزالي ،والعلموي ،وابن سينا ،وابن جماعة ،وغيرهم ،كما ((( الجلاد ،ماجد زكي (إعداد وتحرير) .البحث العلمي في التربية الإسلامية في الأردن :دراسة تحليلية ببليوغرافية، هرندن وع ّمان :المعهد العالمي للفكر الإسلامي ودار ورد للنشر والتوزيع2011 ،م. ((( النقيب ،عبد الرحمن (إعداد وتحرير) .دليل مستخلصات الرسائل الجامعية في التربية الإسلامية بالجامعات المصرية والسعودية ،هرندن :المعهد العالمي للفكر الإسلامي1994 ،م. ((( رجب ،مصطفى (مح ِّرر) .دليل رسائل التربية الإسلامية في الجامعات المصرية من (2011 -1990م)، القاهرة :الهيئة المصرية العامة للكتاب2016 ،م. 202
شملت علماء ُع ِرفوا بالفقه ،أو الحديث ،أو التاريخ ،أو غيره ،ولم تخ ُل كتاباتهم من تضمينات تربوية واضحة ،مثل :أبي حنيفة ،ومالك ،والجاحظ ،وابن خلدون ،وغيرهم. فاللافت أ َّن معظم العلماء في تاريخنا الإسلامي كانوا يكتبون عن فضل العلم والتع ُّلم والتعليم ،وكانوا يجلسون للتعليم؛ سواء كان هذا العلم فقه ًا ،أو حديث ًا ،أو تفسير ًا ،أو لغ ًة ،أو غير ذلك .وعلى هذا الاعتبار يمكن أ ْن َن ُع َّد معظم علماء الأُ َّمة ضمن فئة التربويين بالمعنى العام للتربية ،وأ َّن كتاباتهم ُت َع ُّد سبق ًا تاريخي ًا في مفاهيم التربية وفروعها ،التي لم تكن قد تمايزت وتح َّددت على الصورة التي نعرفها اليوم. وقد اهت َّمت بعض الرسائل الجامعية بالممارسات التعليمية الخاصة بالمذاهب الفقهية أو العقائدية ،وتح َّدث بعضها عن الجوانب التربوية في عصر من عصور التاريخ الإسلامي ،أو مصر من أمصاره. ثالث ًا التراث التربوي في المجلات الدورية: يصعب حصر ما ُن ِشر من بحوث التراث التربوي في المجلات العلمية؛ نظر ًا لعدم وجود ُن ُظم فهرسة وتكشيف تتصف بالاستقصاء والشمول .ث َّم إ َّن بعض هذه المجلات متخ ِّصصة في البحوث التربوية التي قد تتض َّمن بعض قضايا التراث ،وبعضها مجلات جامعية عامة ،تنشر موضوعات مختلفة ،قد يكون منها بعض البحوث التربوية ذات الصلة بالتراث. وقد تم َّكنّا من الا ِّطلاع على جميع أعداد بعض الدوريات منذ بدء صدورها؛ لتمييز ما يخت ُّص بالتراث التربوي الإسلامي ،وسبق أ ْن أشرنا إلى ما وجدناه (((.وقد لاحظنا أ َّن التن ُّوع الذي أشرنا إليه في الأطروحات الجامعية يتك َّرر في بحوث الدوريات؛ فمنه بحوث اخت َّصت بشخصيات علمية ذات إسهام تربوي ،مثل :ابن سحنون ،والقابسي، والغزالي ،وابن خلدون ،وغيرهم .ومنه تحليل ودراسة للمحتوى التربوي أو التعليمي في كتب الحديث والفقه والتصوف والتاريخ ،مثل :تحليل كتاب العلم في صحيح البخاري. ومنه بحوث عن الحالة التعليمية في بلد معين في عصر معين ،مثل :بلاد الشام في العهد الأموي ،ومصر في عهد الفاطميين .ومنه دراسة لموضوع تربوي معين ،مثل :تأديب الطفل بالضرب في الفكر التربوي الإسلامي. ((( ملكاوي ،التراث التربوي الإسلامي :حالة البحث فيه ،ولمحات من تطوره ،وقطوف من نصوصه ومدارسه، مرجع سابق ،ص.164-161 203
رابع ًا :التراث التربوي الإسلامي في الكتب المنشورة: شهد العا َلم العربي والإسلامي في الربع الأخير من القرن العشرين تو ُّسع ًا كبير ًا في التعليم العام والتعليم الجامعي ،وتزايدت الحاجة إلى تأسيس كليات التربية في الجامعات لإعداد المتخ ِّصصين في المهن التربوية؛ منُ :مع ِّلمين ،ومديرين ،ومشرفين ،وما َيلزمهم من برامج وكتب دراسية .ومع الانفراج النسبي في الحريات العامة الذي شهدته بلدان العا َلم العربي والإسلامي في الم َّدة المشار إليها ،وظهور ما ُس ِّمي الصحوة الإسلامية ،نشط بعض أساتذة الجامعات في نشر أعمالهم؛ سواء كانت في الأساس أطروحاتهم الجامعية ،أو البحوث التي سبق أ ْن ُن ِشرت في المجلات الدورية ،ولو لتلبية متط َّلبات مساقات دراسية جامعية مح َّددة .وكان للفكر التربوي الإسلامي نصيب ملموس في هذا المجال ،وكان لافت ًا أ َّن الفكر التربوي الإسلامي تح َّدث غالب ًا عن الفكر الذي ساد بلدان العا َلم الإسلامي في العصور المختلفة ،وهو ما يدخل تحت عنوان \"التراث\" في اصطلاحنا. و ُنن ِّوه في هذا المقام أ َّن ما ُذ ِكر عن الجهود المشتركة في دراسة التراث للمنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة ،ومكتب التربية لدول الخليج العربي ،والمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية؛ قد صدرت -في نهاية المطاف -في كتب نشرتها المؤسسات الثلاث، ولم تل َق العناية التجارية التي ُتس ِّوقها ،فبقيت دائرة الاهتمام بها والاستفادة منها محدود ًة. وقد ُع ِرف محمود قمبر في ميدان للتراث التربوي الإسلامي؛ إذ نشر مجموع ًة من البحوث ،ث َّم جمعها في سلسلة من ثلاثة مجلدات ،بعنوان \"دراسات تراثية في التربية الإسلامية\" ،وتم َّيزت دراساته بنظرات تحليلية نقدية لم نجدها بالقدر نفسه من الاستقصاء عند غيره(((. ونظر ًا لل ُب ْعد التجاري في مسألة نشر الكتب؛ فقد اهت َّمت دور النشر بالمؤ َّلفات والدراسات المتع ِّلقة بالتربية الإسلامية والتراث التربوي الإسلامي ،وق َّلما توجد دار نشر أو مكتبة ،تهتم بالنشر والتوزيع في جميع الدول ،ليس لها مصنَّف أو أكثر عن هذا الموضوع ،مع ملاحظة أ َّن هناك بعض المكتبات التي تهتم بموضوع التربية أكثر من غيرها؛ نظر ًا لصلتها الوثيقة بمؤ ِّلف متخ ِّصص في التربية ،ينشر معظم كتبه عن طريقها. ((( قمبر ،محمود .دراسات تراثية في التربية الإسلامية ،الدوحة :دار الثقافة ،ثلاثة مجلدات صدرت في الأعوام: 1985م ،و1987م ،و1992م. 204
وبعض هذه الكتب هي تحقيق ودراسة تفصيلية لكتاب واحد أو أكثر من كتب التراث التربوي الإسلامي ،وقد تكون في الأساس أطروحة جامعية ،والأمثلة على ذلك كثيرة، منها كتاب الأهواني (((.وبعض هذه الكتب مختارات من نصوص تراثية تربوية مح َّددة من دون تعليق أو شرح ،ومثالها كتاب محمد ناصر (((.ومن هذه الكتب ما هو مختارات قصيرة من بعض كتب التراث ،ولك َّن هذه المختارات مصنَّفة وفق موضوعات التراث التربوي، مثل :آداب العالِم في نفسه ،وفي علمه ،ومع ال ُمتع ِّلمين ،وآداب ال ُمتع ِّلم ،ومبادئ التربية، ومبادئ في علم النفس (((. ... وبعض هذه الكتب مشروع يتصف بالشمول والتكا ُمل في استيعاب عدد أكبر من كتب التراث؛ تحقيق ًا ،ودراس ًة ،ونشر ًا للنصوص .وم َّمن ُع ِرف في هذا المجال عبد الأمير شمس الدين ،الذي أع َّد (أو أشرف على إعداد) ثلاثة عشر كتاب ًا ،ك ٌّل منها يخت ُّص بمرجع واحد من مراجع التراث مثل السمعاني ،أو مرجعين مثل ابن سحنون والقابسي ،أو ثلاثة مراجع مثل الجاحظ وابن المقفع وعبد الحميد الكاتب ،وهكذا .وقد غ َّطت ما س ّماه شمس الدين قطاعات التربية الإسلامية :الفقهية ،والفلسفية ،والأدبية ،والكلامية ،وغيرها(((. ومن قبيل العمل الموسوعي في ميدان التراث الفكري الإسلامي ،ما أنجزه محمد العربي الخطابي ،بعنوان \"موسوعة التراث الفكري العربي الإسلامي\" ،وض َّمنه نصوص ًا تراثي ًة في التعليم ،والسياسة ،والأخلاق ،والآداب ،والفلسفة ،ومناهج البحث ،وغير ذلك(((. وقد تم َّيز سعيد إسماعيل علي في كتاباته عن التربية بالجمع بين الا ِّطلاع على ال ُب ْعد التاريخي للتعليم في الحضارات البشرية ،والإحاطة بالتراث الإسلامي في شخصياته ومصنَّفاته وتياراته ،مع الاحتفاظ بالوعي على الواقع المعاصر ،ومتط َّلبات إصلاحه. ((( الأهواني ،التربية في الإسلام ،مرجع سابق ،ص.380 ((( ناصر ،محمد .في الفكر التربوي العربي الإسلامي ،الكويت :وكالة المطبوعات للنشر1977 ،م ،وهو عشرة نصوص مختارة من التراث التربوي الإسلامي. ((( النجادي ،فاضل عباس علي .آداب العالم والمتعلم في التراث العربي الإسلامي ،دمشق :دار القلم2012 ،م ،ص.544 ((( صدرت هذه الكتب عن دور نشر متف ِّرقة ،لكنَّها صدرت جميع ًا عن دار اقرأ ،و َم َّر ًة ُأخرى عن الشركة العالمية للكتاب. ((( الخطابي ،محمد العربي .موسوعة التراث الفكري العربي الإسلامي ،بيروت :دار الغرب الإسلامي1998 ،م، وجاء في مجلدين ،من 872صفحة. 205
وقد نشر في ذلك عشرات الكتب ،منها موسوعتان :الأُولى عن التط ُّور الحضاري للتربية الإسلامية بصورة عامة (((،والثانية عن موسوعة التط ُّور الثقافي للتعليم في مصر(((. وأخير ًا ،فإ َّننا نو ُّد أ ْن نؤ ِّكد َم َّر ًة ُأخرى أ َّننا لم نكن نقصد في هذه الفقرة عن الكتابات المعاصرة عن التراث التربوي الإسلامي شيئ ًا من الإحاطة والاستيعاب؛ فذلك أمر متع َّذر حتى لو أردناه .بل كان المقصود أ ْن نشير -في سياق هذا الفصل ،وحدوده في هذا الكتاب -إلى أ َّن َث َّمة مصاد َر ومراجع مهمة في الموضوع ،تستحق التنويه بها ،ولكنَّها -في الوقت نفسه -لا تكفي لإغلاق الباب دون المزيد من الأعمال التحليلية الناقدة التي تأخذ ما سبق إنجازه بالحسبان ،وتتل َّمس كثير ًا من الثغرات والمساحات التي تستحق المزيد من جهود الباحثين. خاتمة: ل ّما كان التراث التربوي الإسلامي واحد ًا من المصادر التي نسعى إلى بناء فكرنا التربوي الإسلامي بالاعتماد عليها ،فقد حاولنا في هذا الفصل تقديم عرض موجز عن مفهوم هذا التراث ،ومسارات تط ُّوره ،وتع ُّدد أعلامه ،وتن ُّوع مناهج مصنَّفاته ،وحالة البحث المعاصر فيه .وقد وجدنا أ َّن التراث التربوي لا يقتصر على المصنَّفات التي تناولت موضوع التربية والتعليم منفرد ًا ،وإ َّنما امت َّد ليشمل كثير ًا م ّما كتبه علماء المسلمين في مؤ َّلفاتهم عن الآداب ،أو الأخلاق ،أو العلوم ،أو الشخصيات العلمية التي أسهمت في حركة العلم ،أو المؤسسات التي كانت تحتضن مجالس العلم ور ّواده .وقد أمكننا الا ِّطلاع على عدد من مصنَّفات التراث ،م ّما تناولته أيدي الباحثين بالتحقيق والنشر .ومن المؤ َّكد أ َّن ما لم تصل هذه الأيدي إليه ،م ّما هو في خزائن المخطوطات في بلدان العا َلم، هو أكثر من ذلك بكثير ،فضل ًا ع ّما ضاع من التراث ،و ُأت ِلف قصد ًا أو إهمالاً. وقد اصطلحنا على أ ْن يقتصر مفهوم \"التراث\" على ما كتبه علماء المسلمين بدء ًا من عهد التدوين ،على اعتبار أ َّن القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ليسا من التراث .ورأينا كيف أ َّن ((( علي ،سعيد إسماعيل .موسوعة التطور الحضاري للتربية الإسلامية ،القاهرة :دار السلام2010 ،م ،خمسة مجلدات. ((( علي ،سعيد إسماعيل .موسوعة التطور الثقافي للتعليم في مصر ،القاهرة :دار السلام2010 ،م ،خمسة مجلدات. 206
نشأة التراث التربوي صاحبت نشأة العلوم في المجتمع الإسلامي؛ فهذه العلوم نشأت وتط َّورت في مجالس العلم والتعليم .وكل هذه المجالس -على تع ُّدد أماكنها ،وتن ُّوع موضوعاتها -كان فيها عالِم و ُمتع ِّلم ومادة للعلم ،وكانت تن َّظم وفق آداب وأخلاقيات معينة ،وتستهدف توجيه سلوك الإنسان في مجالات التع ُّلم ،والتعليم ،والتنشئة الاجتماعية ،والتزكية النفسية ،والأخلاق الفاضلة ،إضاف ًة إلى ضبط تعاملات المجتمع في أحواله الشخصية ،والاجتماعية ،والاقتصادية ،والسياسية ،وغيرها .والعلوم التي كان العلماء يكتبونها ث َّم يع ِّلمونها هي فكرهم التربوي في زمانهم .وما إ ْن يأتي الزمان اللاحق حتى يصبح ذلك الفكر تراث ًا للأجيال اللاحقة ،ويأتي جيل جديد من العلماء ،فيتعاملون مع ما وصلهم من التراث ،ويجتهدون فيه تعديل ًا وإضاف ًة واستجاب ًة لمتط َّلبات زمانهم، فينمو الفكر ،ويتط َّور التراث. وظاهرة التن ُّوع في التراث التربوي الإسلامي تأخذ مسارات مختلفة؛ فمن التراث ما كان اجتهاد ًا في تحديد الممارسات المعيارية للتعليم والتنشئة التربية والتأديب في المجتمع المسلم ،استناد ًا إلى مرجعية الوحي الإلهي والهدي النبوي ،فكان ذلك اجتهاد ًا في تنزيل النصوص والاحتكام إليها .ومن التراث ما كان وصف ًا للممارسات التعليمية التي شهدها المؤ ِّلف في زمانه ومكانه ،فأصبح -فيما بعد -مصدر ًا تاريخي ًا مهم ًا للعلوم التي كانت ُتد َّرس ،والكتب التي كانت ُتق َرأ ،والمؤسسات التي احتضنت التعليم. والتن ُّوع الذي وجدناه في التراث التربوي الإسلامي كشف عن ظاهرة مهمة ،هي أ َّن حقل التربية والتعليم في التاريخ الإسلامي لم يقتصر على فئة من العلماء تخ َّصصوا في التعليم ،وإ َّنما كان كل َمن يحمل علم ًا يجلس لتعليمه ،و ُيؤ ِّلف كتب ًا فيه ،أو ُي ْمليه على تلاميذه فيكتبونه ،وتكون مهمته في التعليم احتساب ًا وطلب ًا لثواب الله سبحانه ،أو إصلاح ًا وتنمي ًة لواقع مجتمعه ،أو مهن ًة يكتسب منه معاشه .وضمن هذا التع ُّدد في اهتمامات العلماء وجدنا موضوعات التعليم قد شملت ما كان يحتاج إليه المجتمع المسلم من علم بالقرآن الكريم ،والحديث النبوي ،والعقيدة ،والفقه ،والأدب ،والفلسفة ،والطب، والتزكية النفسية ،والجهاد في سبيل الله ،وغيرها .وكان لكل علم من هذه العلوم ظروف 207
في نشأته وتط ُّوره ،وإسهامه التربوي في المجتمع .وعند محاولة رصد تط ُّور هذه العلوم لاحظنا أ َّنها بدأت بالمشافهة ،ث َّم تط َّورت إلى التدوين ،ومن مذاكرة العلم إلى تصنيفه، ومن إلقائه إلى إملائه ،وتط َّورت أماكن التعليم من المسجد وال ُك ّتاب إلى مجالس التأديب والمدارس وغيرها ،ومن كتابة المتون إلى وضع الشروح والمختصرات والمنظومات، وتط َّورت مكانة ال ُمع ِّلم ،وتمايزت أصناف ال ُمع ِّلمين وال ُمؤ ِّدبين .فكان التط ُّور صف ًة أساسي ًة في تاريخ كل العلوم ،و ُسنَّ ًة ماضي ًة تحكم حركة الأشياء وحياة الناس ،ومسأل ًة منهجي ًة تحتاج إلى أ ْن ُتؤ َخذ بالحسبان في فهمنا للتراث التربوي الإسلامي ،وفي فهمنا للفكر التربوي الإسلامي الذي نريد بناءه اليوم وغد ًا. وقد َتب َّين لنا أ َّن التراث التربوي الإسلامي حظي بكثير من البحوث والدراسات المعاصرة ،التي كان أكثرها أطروحات جامعية ق َّدمها طلبة الدراسات العليا ،وبحوث منشورة في الدوريات العلمية التي ينشرها أساتذة الجامعات؛ لتحسب ضمن متط َّلبات الترقية العلمية .ويأتي في الدرجة الثالثة من حجم هذه الدراسات الكت ُب التي ُتص ِدرها دور النشر ،وبعضها في الأصل أطروحات جامعية ،أو بحوث منشورة في الدوريات، حيث ُيج َمع عدد منها لتكون في كتاب .ويأتي في المرتبة الرابعة كتب كانت في الأصل مشروع ًا بحثي ًا أنجزته ثلاث مؤسسات بتعا ُون مشترك في التخطيط والتمويل والنشر. وقد ن َّوهنا بأهمية ما صدر عن المشروع؛ نظر ًا لضعف الاهتمام به وتسويقه واستكماله، بالرغم من كونه عمل ًا علمي ًا مشترك ًا في الوطن العربي ،ومن التغطية الواسعة نسبي ًا للأعلام والمؤسسات التربوية. لقد كشف هذا العرض السريع للتراث التربوي الإسلامي عن كثير من الملامح الإيجابية التي عكست حيوية العقل المسلم ،ومسؤولية المجتمع المسلم عن التعليم. كما كشف -في الوقت نفسه -عن حالة المجتمع المسلم ،والتغ ُّيرات التي كانت تم ُّر بها حالة العلم والتعليم ،ونشأة مؤسساتها ،ومستوياتها ،وأنظمتها ،ومكانة ال ُمع ِّلم ،وغير ذلك ،م ّما لا نظ ُّن أ َّن المجتمعات البشرية المعاصرة لعهود التراث التي نتح َّدث عنها قد 208
نعمت بشيء منه .ومع ذلك ،فإ َّن من المؤ َّكد أ َّن التط ُّور في الفكر التربوي لم يشهد تأصيل بعض المبادئ التي كانت نصوص الإسلام (القرآن الكريم ،وال ُّسنة النبوية) تهدي إليها، مثل :إلزامية التعليم ،وتطوير العلوم والتقنيات العملية ،وتوا ُصل الإنجازات الإبداعية التي شهدها القرن الثالث والرابع في مجال التعليم .وقد َم َّر المجتمع الإسلامي في بعض البلدان بظروف من الجمود على القديم ،وكراهية التأليف ،أو استعمال الكتب الجديدة. ويستغرب الإنسان كيف أ َّن انتشار العلم ،وتو ُّسع مؤسسات التعليم ،وتط ُّور أعمال الن ّساخين والو ّراقين ،لم يكن كافي ًا لتطوير الطباعة الآلية. ويبقى السؤال الأكثر أهمية ،وهو يخت ُّص بالغرض الذي من أجله يمكن أ ْن ننشغل بمثل هذه البحوث والدراسات في مسائل التراث .وهو ما حاولنا أ ْن نفتح باب الإجابة عنه في الفصل السابع من الكتاب ،عند حديثنا عن منهجية التعامل مع التراث التربوي الإسلامي :ما معنى التعامل؟ و َمن الذين يتعاملون؟ وما مناهج التعامل؟ حيث أبرزنا بعض أهداف البحث في التراث ووظائفه في الحياة المعاصرة ،ولفتنا الانتباه إلى عدد من القيم الثاوية في التراث التربوي ،ولذلك اقترحنا أ ْن نعتمد مبادئ معينة في تحديد قيمة التراث والجوانب الممكنة لتوظيفه. 209
الفصل الثالث مصادر الفكر التربوي الإسلامي المعاصر مقدمة المبحث الأول :القرآن الكريم مصدر ًا للفكر التربوي أولاً :مسائل تخت ُّص بالعلم والتع ُّلم والتعليم في القرآن الكريم ثاني ًا :موضوعات التعليم في القرآن الكريم المبحث الثاني :ال ُّسنة النبوية مصدر ًا للفكر التربوي أولاً :حضور ال ُّسنة النبوية في قضايا التربية في التراث والكتابات الحديثة ثاني ًاُ :حجية ال ُّسنة النبوية في التربية والتعليم ثالث ًا :ال ُّسنة النبوية في العلوم الواجب تع ُّلمها وتعليمها رابع ًا :التع ُّلم في ال ُّسنة النبوية خامس ًا :التعليم في ال ُّسنة النبوية المبحث الثالث :التراث التربوي الإسلامي مصدر ًا للفكر التربوي الإسلامي المعاصر أولاً :مصدر التراث و ُحجيته ثاني ًا :مسألة تجاوز التراث إلى الاهتداء بالقرآن الكريم وال ُّسنة النبوية مباشرة ثالث ًا :قيمة التراث التربوي الإسلامي بوصفه مصدر ًا رابع ًا :أمثلة على طريقة توظيف مادة التراث في قضايا تربوية معاصرة المبحث الرابع :الخبرة التربوية المعاصرة مصدر ًا للفكر التربوي الإسلامي المعاصر أولاً :ما نعنيه بالخبرات التربوية المعاصرة ثاني ًا :الفكر التربوي والحالة الحضارية للمجتمع ثالث ًا :الإنسان هدف التربية ووسيلتها رابع ًا :التعامل مع الخبرة البشرية المعاصرة هو نقطة انطلاق خامس ًا :مرجعية الخبرة المعاصرة وفريضة الوقت سادس ًا :النظام التربوي الإصلاحي المنشود خاتمة
الفصل الثالث مصادر الفكر التربوي الإسلامي المعاصر مقدمة: التربية بالمعنى المؤسسي الخاص هي ما تق ِّدمه مؤسسات التعليم العام والجامعي، والتربية بالمعنى الاجتماعي العام هي ما تشترك فيه جميع مؤسسات المجتمع في جهودها وبرامجها الهادفة إلى صياغة شخصية الإنسان في جميع جوانبها العقلية والنفسية والاجتماعية .وتستند التربية -بنوعيها المشار إليهما -إلى مرجعية ُعليا يحتكم إليها المجتمع ،و ُتو ِّجه جميع مؤسساته لتوفير التربية اللازمة .فإذا كان الإسلام هو المرجعية، فإ َّن جميع أنظمة المجتمع (السياسية ،والاقتصادية ،والاجتماعية ،والأخلاقية ،والقانونية، والإداريةُ )...تس ِهم في تربية الفرد ،وتعليمه ،وتشكيل شخصيته ،وضبط العلاقات القائمة بين أفراد المجتمع على ما تهدي إليه أحكام الإسلام وتوجيهاته ،في حدود فهمنا لهذه الأحكام والتوجيهات. و ِم ْن َث َّم ،فإ َّن نوعية الفكر التربوي السائد في مجتمعاتنا ر َّبما تكشف عن درجة حضور هذه المرجعية أو غيابها .ومن ال ُمتو َّقع أ ْن تح ِّدد هذه المرجعي ُة سائ َر المسائل التي تتصل بالفكر التربوي ،ولا سيما مصادر هذا الفكر ،ومقاصده ،وخصائصه ،ومجالاته. نحن نؤمن بأ َّن الله تعالى خلق الإنسان ،وم َّيزه عن سائر المخلوقات بالعقل الذي يم ِّيز به الأشياء والأفعال ،ويدرك وجودها وخصائصها وتغ ُّيراتها؛ فهو سبحانه المصدر الأول لكل ما يمكن للإنسان أ ْن يدركه .والله سبحانه قد أنزل القرآن الكريم هدى للناس وب ِّينات من الهدى والفرقان﴿ .ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ﴾ [الأعراف.]52: فأصبح هذا القرآن بآياته المتل َّوة مصد َر هداي ٍة .والله سبحانه خلق المخلوقات الأُخرى، وم َّكن الإنسان من السير على الأرض ،وإعمال أدوات الوعي والحس ووظائفها؛ من: آذا ٍن للسمع ،وأعي ٍن للرؤية ،وقلو ٍب للعقل﴿ .ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ﴾ [الحج.]46 : وحين يستجيب الإنسان للأمر الإلهي في السير ،والنظر ،والتف ُّكر ،والتد ُّبر ،والتع ُّقل في هذه المخلوقات؛ لإدراك وظائفها ،وخصائصها ،وتسخيرها لما ُخ ِلقت له ،تصبح هذه 213
المخلوقات -آيات الله المنظورة -مصد َر هداي ٍة كذلك .فالمصادر ،وإ ْن تع َّددت ،فهي -في نهاية المطاف -كلمات الله ،أو مخلوقاته التي يهتدي بها الإنسان في تفكيره وسلوكه. ومن الطبيعي أ ْن يكون القرآن الكريم هو المصدر الأساس للفكر التربوي الإسلامي وسائر مجالات الفكر الأُخرى؛ ففي القرآن الكريم توجيها ٌت تربوي ٌة واضح ٌة تتح َّدث عن التع ُّلم والتعليم والتربية والتزكية ،وعن مسؤولية الوالدين في تربية الأبناء ،ومسؤولية أولياء الأمور في المجتمع عن رعاية أبناء المجتمع في سائر شؤونهم ،ومسؤولية المجتمع في توفير الموارد البشرية اللازمة لحماية المجتمع وضمان ق َّوته وتق ُّدمه ،ومسؤولية الفرد في تع ُّلم ما َيلزمه من أعمال العبادة؛ سواء كانت عباد ًة بالشعائر ،أو عباد ًة بالمعاملات ،لتحقيق سعادته في الدنيا والآخرة .وفي القرآن الكريم من الدعوة إلى اكتساب العلم في الآفاق الطبيعية والاجتماعية والنفسية ،والتر ّقي في مستوياته ،والتب ُّحر في موضوعاته م ّما ُي ْل ِزم الأُ َّمة با ِّتخاذ الوسائل اللازمة للإسهام في تحقيق ق َّوتها ،و َمنَ َعتِها ،و َخ ْير َّيتها ،وو َس ِط َّيتِها، والتمكين لها في الأرض ،وأداء أمانة الخلافة فيها .وبذلك يكون القرآن الكريم هو المرجعية الأساسية في تحديد فلسفة التربية وأهدافها وموضوعاتها ،فيما َيلزم لتنشئة الفرد ،وبناء الجماعة والأُ َّمة ،وتحقيق مراد الله من خلق الإنسان ووجوده في هذا العا َلم. وقد مارس النبي ﷺ التحقيق العملي لهذه التوجيهات القرآنية في عصر الرسالة، ولا سيما فيما يخت ُّص بتشكيل شخصية الإنسان المسلم ،وبناء المجتمع المسلم الجديد في ذلك العصر ،والتعامل مع شؤونه وقضاياه ،فأصبحت ال ُّسنة النبوية والسيرة النبوية مصدر ًا آخر في فهم النصوص القرآنية وتنزيلها في الحالات التي تن َّز َل ْت عليها في الزمان والمكان .ولن ندخل -في هذا المقام -في الجدل حول إمكانية استقلال ال ُّسنة بالتشريع، وحسبنا أ ْن ُنشير إلى ثلاثة أمور؛ أولها أ َّن القرآن الكريم نفسه قد ح َّدد مهمة النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم في بيان المقاصد القرآنية ،وثانيها أ َّن القرآن الكريم أمر بطاعة النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم؛ لأ َّنه المعصوم الذي لا يأمر إلا بما ُيوحي إليه ر ُّبه ،وثالثها أ َّن ُسنَّة النبي وسيرته قد فتحت المجال لتوظيف الخبرات المتن ِّوعة المتوافرة في المجتمع ،فيما لا يقع ضمن تبليغ الوحي ،لكنَّه يقع ضمن الخبرة الحياتية للنبي نفسه ،أو لأحد الصحابة ،أو 214
يكون اجتهاد ًا جماعي ًا أشرف النبي على ممارسته تطبيق ًا لمبدأ الشورى ،وقد ينزل الوحي ليص ِّحح ما َيلزم تصحي ُحه من مواقف وممارسات .وبهذا المعنى ،فإ َّننا ننظر إلى ُسنَّة النبي ﷺ بوصفها مصدر ًا ُمب ِّين ًا لتوجيهات القرآن الكريم ،و ُمن ِّزلاً لأحكامه في الواقع العملي ،فكان عليه الصلاة والسلام نموذج ًا وقدو ًة و ُأسو ًة في مقام التربية؛ في: موضوعاتها ،ومناهجها ،وأساليبها ،ووسائلها. وفي عهد الصحابة والتابعين والأجيال التي تلت ذلك العهد ،أخذ الناس يجتهدون في تنظيم شؤونهم ،مهتدين بالقرآن وال ُّسنة ،وفهم مقاصدهما ،فنشأ نتيج ًة لذلك ترا ٌث ضخم من التجارب التي تن َّوعت واختلفت ،وتأ َّثرت بتراكم الخبرات من جيل إلى آخر عبر القرون ،وبالا ِّطلاع على تجارب الأمم الأُخرى .وقد أصبح هذا التراث مصدر ًا ثالث ًا يتواصل تأثيره بصورة واعية أو غير واعية ،ويكون من المفيد أ ْن ننظر نحن الآن في أهميته وقيمته في ضوء عدد من المعايير ،نذكر ثلاثة منها: -صلة هذا التراث بالقرآن الكريم وال ُّسنة النبوية في ضوء فهمنا المعاصر لنصوصهما؛ لأ َّن التراث في الأساس كان فه َم الأجيال التي أنتجته في ضوء فهمها لهما ،ولأ َّن القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية خطا ٌب لكل الأجيال. -ملاءمة هذا التراث لطبيعة مشكلاتنا المعاصرة؛ لأ َّنه في الأساس كان في أحد جوانبه استجاب ًة لحاجات الزمان الذي ُأنتِج فيه ،وتعامل ًا مع مشكلاته. -علاقة هذا التراث بالخبرات البشرية المعاصرة؛ لأ َّن قضايا التربية والتعليم قضايا أساسية لجميع الأمم ،ولا تخ ُّص المسلمين وحدهم؛ ولأ َّن الحكمة ضا َّلة المسلمين ،فما ُو ِجد نافع ًا لدى الأمم الأُخرى ،فالمسلمون َأ ْولى به. ومن ال ُمتو َّقع أ ْن يؤدي هذا النظر في التراث التربوي الإسلامي إلى تطوير منهجي ٍة للتعامل معه ،وتحديد الوظائف الفكرية ،أو النفسية ،أو العملية التي يمكن له أ ْن يؤديها. وليس من المستبعد أ ْن نجد فيه أفكار ًا تربوي ًة ح َّي ًة لا ُب َّد من تفعيل حضورها في فكرنا التربوي المعاصر ،وأفكار ًا كانت اجتهاد ًا ملائم ًا لزمانها ،وليست ملائم ًة لزماننا ،ور َّبما كانت اجتهاد ًا خاطئ ًا لم يح ِّقق مقاصد التربية في الإسلام ،أو بعضها على الأقل. 215
و َث َّمة مصد ٌر رابع للفكر التربوي الإسلامي المعاصر ،هو الخبرة البشرية المعاصرة، وما قد يكون فيها من نفع .فالله سبحانه هو ر ُّب العالمين ،ور ُّب الناس أجمعين ،وهو يتف َّضل على َمن يشاء من الناس -مسلمين ،وغير مسلمين -بعلوم ومعارف واكتشافات، تكون نتيج ًة لتوظيف ما س َّخره الله لهم من قدرات وإمكانيات للسعي في مناكب الأرض؛ نظر ًا ،وبحث ًا ،وتجريب ًا ،وتوظيف ًا .وليس من المستنكر أ ْن تكون هذه النتائج مادة لنظر المسلم ،وتحليله النقدي ،وتكييفه الفكري لما يفيده منها؛ فبعض الأفكار التي ُتط َّور و ُتو َّظف لدى ُأ َّم ٍة لأغراض معينة يتم نقلها وتوظيفها لدى ُأ َّم ٍة ُأخرى للأغراض نفسها أو لأغرا ٍض مختلفة ،وقد حدث هذا التفا ُعل الحضاري في تاريخ المسلمين ،ويحدث الآن على نطا ٍق واس ٍع لدى سائر الأمم .فالتعا ُرف بين الشعوب والقبائل كان مقصد ًا من مقاصد الخلق الإلهي ،والتعا ُون والتكا ُمل في توفير المنافع والخدمات وتبادل الخبرات والتجارب من أهم نتائج ذلك التعا ُرف المقصود. وفي هذا الفصل سنتناول هذه المصادر الأربعة بقدر ما تتسع له مساحة الفصل. 216
المبحث الأول القرآن الكريم مصدر ًا للفكر التربوي العلم في الإسلام معرفة تستند إلى ال ُح َّجة والدليل ،والإسلام يريد من الإنسان أ ْن يتع َّلم ،فيكتسب العلم وحده من مصادره الموثوقة ،وبأساليبه وأدواته المناسبة ،ولا يأخذه بالتقليد. وتتن َّوع موضوعات العلم كثير ًا؛ فمنها العلم بقضايا الغيب التي أعلم الله الإنسان عنها، مثل :التوحيد ،وقضايا اليوم الآخر؛ والعلم بالأحكام الشرعية التي تن ِّظم حياة الإنسان الفرد والجماعة ،كالعبادات ،والمعاملات؛ والعلم بأشياء الطبيعة وأحداثها وظواهرها، مثل :الكيمياء ،والفيزياء ،والأحياء ،والفلك؛ والعلم التطبيقي في مسائل الطب والزراعة؛ والعلم المنطقي في الرياضيات والهندسة ،وغير ذلك من العلوم .ونجد في القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية لفتات وتوجيهات لها صلة بكل هذه العلوم؛ ذلك أ َّن الإسلام دين واقعي تخت ُّص أحكامه وتوجيهاته بجميع جوانب حياة الإنسان ،ويستهدف تمكين الإنسان في الأرض لتحقيق أمانة الخلافة والعمران. والقرآن الكريم عند المسلم هو مصدر العلم والتعليم والتع ُّلم عن الدين في جميع ُن ُظ ِمه ،وعن الإنسان الذي ارتضى الله له هذا الدين في جميع جوانب حياته ومراحلها؛ ففيه أصول الأحكام الشرعية في ُن ُظم العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق ،وهذه الأصول هي المرجعية الحاكمة لغيرها من الفروع .والدين عند المسلم هو الحياة بجميع شؤونها ومجالاتها .وقد جاءت بعض هذه الأصول بألفاظ دالة عليها دلالة مباشرة ،وجاء بعضها الآخر بروح النص لا بلفظه؛ أ ْي بالمضامين الدالة عليها عن طريق التوجيهات، ومواقف الأمر والنهي التي تن ِّظم جميع شؤون الحياة .وجاءت بعض هذه الأصول مف َّصلة تفصيل ًا دقيق ًا ،كما في بعض المسائل الاجتماعية والمالية؛ لأ َّن المقصود فيها الثبات وعدم التغ ُّير .وجاء بعضها الآخر مجمل ًا يفتح المجال للتغ ُّير وفق مستجدات المكان والزمان والحال ،كما هو الحال في ُن ُظم السياسة والتعليم .ومع ذلك ،فإ َّن جميع التشريعات إ َّنما جاءت لمقاصد مح َّددة تستهدف في الأساس جلب المصلحة للناس ،ودرء المفسدة عنهم ،وتحقيق خيرهم في حياتهم العاجلة وآخرتهم الآجلة. 217
وإذا قلنا إ َّن القرآن الكريم مصدر للفكر البشري في سائر مجالات الحياة البشرية (السياسية ،والاقتصادية ،والاجتماعية ،والأخلاقية ،والتربوية) ،فإ َّن ذلك لا يعني أ َّننا سنجد فيه مجموعة من الكتب المتخ ِّصصة في هذه المجالات ،فنق ِّسمه إلى كتاب في السياسة ،وكتاب في الاقتصاد ،وكتاب في التربية ،وإ َّنما هو توجيهات حاكمة في هذه المجالات وغيرها ،تتكامل في عنايتها بجوانب النفس البشرية العقلية والنفسية ،كما تتكامل في رعايتها لميادين العلاقات على مستوى الأسرة ،والمجتمع ،والأُ َّمة ،والبشرية. كثير ٌة هي الكتب والبحوث التي تناولت التربية والفكر التربوي في القرآن الكريم، ومثلها في الكثرة ُكت ٌب وبحو ٌث جمعت بين القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ،وبعضها أضاف إلى ذلك ما خ َّلفه علماء الأُ َّمة من تراث يخت ُّص بقضايا التعليم والتربية .ولسنا معنيين في هذا المقام بمراجعة ما ورد في هذه الكتب بالرغم من قيمتها .وكثي ٌر م ّما سيرد في هذا الجزء من الفصل سبق أ ْن وردت موضوعاته في كتب وبحوث لنا سابقة. وسنرى أ َّن نصوص القرآن الكريم نفسها تشهد على أ َّن القرآن مصدر للتربية والتعليم. أ ّما المح ِّدثون فلم ينسوا أ ْن يبدأوا كل كتاب من كتب هذه المصنَّفات بالآيات القرآنية ذات الصلة بالتعليم؛ فالبخاري يبدأ كثير ًا من الكتب والأبواب بآي ٍة من القرآن ،وقد تكون الآية القرآنية عنوا َن الكتاب أو الباب ،وقد يكون موضوع الحديث آي ًة من القرآن .وهي ُسنَّ ٌة ا َّتخذها الفقهاء كذلك؛ فالشافعي بدأ باب الطهارة في كتاب \"الأم\" بالآية القرآنية: ﴿ﭔﭕﭖﭗﭘ ﭙﭚﭛﭜ﴾ [المائدة (((.]6:أ ّما كتب التراث التربوي الإسلامي فمعظمها يبدأ أبوابه بالآيات القرآنية ذات الصلة بموضوع الباب ،ث َّم بالأحاديث النبوية ،ث َّم بالآثار وأقوال العلماء .وهذا الآجري في كتاب \"أخلاق العلماء\" يبدأ بتقرير أ َّن الله سبحانه اخت َّص العلماء بح ِّبه وف َّضلهم ،و َيستد ُّل على ذلك بالكتاب وال ُّسنة ،فيبدأ بذكر ثماني آيا ٍت من القرآن الكريم قبل أ ْن يأتي بالسنن والآثار (((.وهذا ابن عبد البر يكتب كتابه \"جامع بيان العلم وفضله\" جواب ًا لسائ ٍل يسأله ،ويب ِّين أ َّن جوا َبه هو ((( الشافعي ،محمد بن إدريس (توفي204 :ﻫ) .الأم ،القاهرة :مكتبة الكليات الأزهرية ،ط1961 ،1م. ((( الآجري ،أبو بكر محمد بن الحسين (توفي360 :ﻫ) .أخلاق العلماء ،مراجعة وتصحيح وتعليق :إسماعيل بن محمد الأنصاري ،الرياض :رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد1398( ،ﻫ1978/م). 218
استجابة لقوله تعالى﴿ :ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭚﭛ﴾ [آل عمران ،]187:ث َّم يورد الأحادي َث النبوية في الباب. وفيما يخ ُّص المنشورات الحديثة ،فإ َّننا نجد مئات الكتب والبحوث التي تخ َّصصت في بيان مكانة العلم والتعليم والتربية في نصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية مع ًا، منها :كتا ٌب بعنوان \"أصول التربية الإسلامية\"((( ،يستخدم التصنيفات الحديثة للمفاهيم والمصطلحات التربوية والتعليمية ،لكنَّه لا يكاد يأتي بفكر ٍة من دون أ ْن يستشهد لها من القرآن الكريم .وكتا ٌب آخر بالعنوان نفسه ،يخ ِّصص فصل ًا كامل ًا بعنوان \"التأسيس القرآني للتربية\" ،وفصل ًا آخر عن ال ُحجية التربوية لل ُّسنة النبوية ،يعتمد فيه على نصوص القرآن الكريم .ونجد كتب ًا كثيرة تح َّدثت عن حضور مسائل تربوية مح َّددة في القرآن الكريم ،مثل: المبادئ النفسية في القرآن الكريم (((،والتربية الاقتصادية في القرآن الكريم (((،وأساليب التشويق والتعزيز في القرآن الكريم (((.وحتى البحوث التي تخ َّصصت في قضايا الإعجاز في القرآن الكريم ،كان للإعجاز التربوي نصيب فيها (((،والأمثلة على ذلك كثيرة. ولذلك سنحاول أ ْن يتناول إسهامنا في هذا السياق حديث ًا عن القرآن الكريم بوصفه المصدر الذي يهيمن على غيره من المصادر ،ويعطي هذه المصادر قيمتها الثاوية فيه .ومع ذلك ،فإ َّن القرآن يبقى مفتوح ًا للاستمداد منه ،والتو ُّسع في استلهام مقاصده وتوجيهاته كلما لجأنا إليه. ونستطيع أ ْن نفهم شيئ ًا من مراد الله سبحانه في موضوع العلم والتعليم والتربية عن طريق التذكير بعدد من المسائل ،وعدد من الموضوعات ،تكون أمثل ًة على غيرها من مسائل وموضوعات كثيرة يصعب استيعابها جميع ًا في سياق هذا الموضع من الفصل. ((( الحازمي ،خالد بن حامد .أصول التربية الإسلامية ،الرياض :دار عالم الكتب ،ط2000 ،1م. ((( الشهري ،عزة بن عابس\" .مبادئ التربية النفسية في القرآن الكريم وتطبيقاتها التربوية\"( ،أطروحة دكتوراه ،في الأصول الإسلامية للتربية ،جامعة أم القرى ،مكة المكرمة1436( ،ﻫ2015/م)). ((( العلياني ،سعد بن هاشم\" .التربية الاقتصادية في القرآن الكريم وتطبيقاتها في الأسرة والمدرسة\"( ،أطروحة دكتوراه ،في الأصول الإسلامية للتربية ،جامعة أم القرى ،مكة المكرمة1427( ،ﻫ2005/م)). ((( جلو ،الحسين جرنو محمود .أساليب التشويق والتعزيز في القرآن الكريم (سلسلة دراسات تربوية) ،بيروت: مؤسسة الرسالة ودار العلوم الإنسانية1414( ،ﻫ1994/م). ((( رجب ،مصطفى .الإعجاز التربوي في القرآن الكريم ،ع ّمان وإربد :جدارا للكتاب العالمي وعالم الكتب الحديث2006 ،م. 219
أولاً :العلم والتع ُّلم والتعليم في القرآن الكريم: .1عناية القرآن الكريم بالعلم وعملياته وأدواته: تظهر عناية القرآن الكريم هذه ،أول ما تظهر ،في حقيقة أ َّن الآيات الأُولى التي نزلت من القرآن كان موضوعها القراءة والقلم والتعليم ،وذلك قوله سبحانه﴿ :ﭻﭼﭽﭾ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﴾ [العلق.]5-1: والحقيقة أ َّن التد ُّبر في هذه الآيات يكشف عن قدرة عجيبة لإمكانية ترشيد فكر الإنسان وهدايته ،والبدء بنهج جديد في الاستمداد من الوحي الإلهي والتعامل معه. فالوحي هذه ال َم َّرة معصوم من إمكانية التغيير والتبديل كما حصل مع حالات الوحي السابقة .وهذا الوحي الخاتم والمعصوم يبدأ آياته الأُولى بالعلم والتعليم ،وبيان مصادره وأدواته ،بصورة تتصل بقدر كبير من الاختصار والشمول في آ ٍن مع ًا .ويجب أ ْن ُيك َتب الوحي بالقلم من أجل أ ْن ُيق َرأ ،وأ ْن ُيج َمع كتاب القرآن مع كتاب الخلق ،وأ ْن ُيق َرأا مع ًا. ف َث َّمة قراء ٌة في مصدرين ،وهما قراءتان ،وأ ْن يتع َّلم الإنسان ما لا يعلمه من مصدري العلم: الوحي والخلق ،بأدوات العلم وطرقه وأساليه ،بما في ذلك القراءة والكتابة. وقد تك َّرر وصف القرآن الكريم بأ َّنه كتاب .وقراءة المكتوب في الكتاب هي من أهم أدوات العلم والتعليم؛ والتعليم والتع ُّلم والتربية توا ُص ٌل بشري يتم عن طريق اللغة؛ والقرآن الكريم كتاب مكتوب بلغ ٍة تتأ َّلف من مادة تلك اللغة وأحرفها ،فتبدأ سورة البقرة بقوله تعالى﴿ :ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭛ﴾ [البقرة ،]2-1:وتبدأ سورة يونس بقوله ع َّز وج َّل﴿ :ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ﴾ [يونس ،]1:وتبدأ سورة الحجر بقوله سبحانه: ﴿ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ﴾ [الحجر]1:؛ فهذا الكتاب هو قرآن ُيق َرأ .قال ابن تيمية: \"والكتاب اس ٌم للقرآن بالضرورة والاتفاق ،فإ َّنهم أو بعضهم يف ِّرقون بين كتاب الله وكلامه، ولفظ \"الكتاب\" يراد به المكتوب فيه ،فيكون هو الكلام ،ويراد به ما يكتب فيه ،كقوله: ﴿ﭕﭖﭗ﴾ [الواقعة ،]78:وقوله﴿ :ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ﴾ [الإسراء(((\".]13: ((( ابن تيمية ،تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم (توفي728 :ﻫ) .دقائق التفسير :الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية ،جمع وشرح :محمد السيد الجليند ،دمشق :مؤسسة علوم القرآن ،ط1984 ،2م ،ج ،3ص.331 220
كما تظهر عناية القرآن الكريم بالعلم ،وما يخت ُّص به من كثرة ورود لفظ \"العلم\" ومشتقاته اللغوية؛ إذ بلغ في عد ٍد من المواقع التي وردت فيها هذه الألفاظ 856موقع ًا، كما في إحصاء ك ٍّل من \"المعجم المفهرس\" لمحمد فؤاد عبد الباقي (((،و\"قاموس القرآن\" للدامغاني (((.والتد ُّبر في آيات القرآن الكريم في هذه المواقع يكشف عن ثروة تربوية لا حدود لها في جميع موضوعات التربية؛ أهداف ًا ،ومباد َئ ،ومحتويا ٍت ،وأسالي َب، وغي َر ذلك .وتشمل التوجيها ُت التربوية القرآنية الإنسا َن صغير ًا وكبير ًا ،فرد ًا وأسر ًة، مجتمع ًا و ُأ َّم ًة .وتخت ُّص هذه التوجيهات بعقله وجسمه وروحه ،وتتناول أخلاقه وعلاقاته وسلوكاته .وتتر ّقى التوجيهات التربوية بالإنسان ،وتتر َّفق به بصورة تجمع بين السمو والواقعية ،والشمول والتوا ُزن ،والاختصاص والتكا ُمل. .2سعة موضوعات العلم في القرآن الكريم: إ َّن استعراض الآيات القرآنية التي َي ِر ُد فيها لفظ \"العلم\" ومشتقاته يب ِّين لنا سعة موضوعات العلم ومجالاته؛ ذلك أ َّن\" :كل علم يتع َّلق بمعلوم ،فإ َّنه معرفة له على ما هو به ،وكل معرفة بمعلوم فإ َّنها علم به (((\".فالعلم يشمل: -المشهود وال ُم َح َّس من الأشياء والظواهر والحالات في عا َلم الدنيا ،ويشمل مسائل الغيب والآخرة. -علم الله ،وعلم الملائكة ،وعلم الأنبياء ،وعلم الإنسان ،وحتى ما يمكن للحيوانات أ ْن تتع َّلمه(((. ((( عبد الباقي ،محمد فؤاد .المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ،بيروت :دار الفكر2000 ،م ،ص.611-596 ((( الدامغاني ،الحسين بن محمد (عاش في النصف الثاني من القرن السادس الهجري والأول من القرن السابع الهجري) .قاموس القرآن «إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم» ،تحقيق وترتيب وإصلاح :عبد العزيز سيد الأهل ،بيروت :دار العلم للملايين ،ط1983 ،4م ،ص.330 ((( نقل ابن تيمية هذا النص عن القاضي أبي بكر بن الطيب .انظر: -ابن تيمية ،تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم (توفي728 :ﻫ) .الرد على المنطقيين (المسمى أيض ًا: نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان) ،تحقيق :عبد الصمد شرف الدين الكتبي ،مراجعة :محمد طلحة بال منيار ،بيروت :مؤسسة الريان2005 ،م ،ص.61-60 ((( إشارة إلى قوله تعالى﴿ :ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ﴾ [المائدة: .]4فالإنسان يعلم الجوارح من العلم ما ُي ِعينه على الصيد. 221
-اليقين ،وغير اليقين. َ -من يتصف بالعمل بما يعلم ،و َمن يستيقن الأمر ويجحده(((. -طرق العلم والتع ُّلم؛ من :قراءة ،ودراسة ،وكتابة ،وتد ُّبر ،وتف ُّكر .وأدوات العلم؛ من :قلم ،وقرطاس ،وكتاب .ووسائل العلم؛ من :سمع ،وبصر ،وفؤاد. -الحث على طلب العلم ،وفضل العلم والعلماء ،والتط ُّرق إلى أهداف العلم والتع ُّلم والتعليم ،وطلب الزيادة في ك ٍّل منها. .3أركان العملية التربوية في القرآن الكريم: ُي َع ُّد ال ِع ْلم وال ُمع ِّلم وال ُمتع ِّلم أهم ثلاثة أركان في العملية التربوية؛ فالعلم في سياق هذه المنظومة الثلاثية هو فك ٌر تربو ٌّي ينتج عن عملية التفكير في مسائل التربية .وعناصر هذا الفكر هي مفاهيم ،ومبادئ ،ونظريات ،وممارسات تدور حولها مناهج التربية ،وتح ِّدد مهمة ال ُمع ِّلم ووظيفته ،وتب ِّين حالة ال ُمتع ِّلم والطرق المناسبة التي تي ِّسر له التع ُّلم. وفي الخبرة التربوية الإسلامية كان القرآن الكريم هو موضوع العلم الذي يق ِّدمه ال ُمع ِّلم لل ُمتع ِّلم؛ فالله سبحانه قد ع َّلم جبريل عليه السلام القرآن الكريم ،وجبريل ع َّلم النبي محمد ًا ص ّلى الله عليه وس َّلم هذا القرآن ،والنبي ع َّلم القرآن للصحابة ،وهذا النبي هو دعو ُة نب ِّي الله إبراهيم عليه السلام حين دعا الل َه أ ْن يبعث في ذريته رسولاً يع ِّلمهم الكتاب﴿ .ﭡﭢ ﭣ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭵﭶﭷ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﭿﮀ﴾ [البقرة.]129-128: وقد استجاب الله سبحانه ،فقال﴿ :ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯯﯰﯱﯲﯳ ﯴ﴾ [آل عمران .]164:وآياته هي آيات القرآن ،والكتاب الذي هو موضوع تعليم النبي للمؤمنين هو هذا القرآن. ث َّم يأتي هذا المعنى َم َّر ًة ثالثة ليضيف إلى التلاوة والتزكية وتعليم الكتاب والحكمة معنى آخر يؤ ِّكد استمرار التعليم وتج ُّدده ،فقال تعالى﴿ :ﯗﯘﯙﯚﯛ ((( قال الطبري في تفسير قوله تعالى﴿ :ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭚﭛﭜ﴾ [النمل﴿ ... :]14 :ﭑﭒ﴾ ،قال :الجحود :التكذيب بها .وقوله﴿ :ﭓﭔ﴾ ،يقول :وأيقنتها قلوبهم ،وعلموا يقين ًا أ َّنها من عند الله ،فعاندوا بعد تب ُّينهم الحق ،ومعرفتهم به. 222
ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ﴾ [البقرة .]151:وفي تفسير الآية\" :قال أبو حيان الأندلسي في تفسيره ...\" :وتالي ًا عليهم آيات الله ،و ُمز ِّكي ًا لهم ،و ُمع ِّلم ًا لهم الكتاب والحكمة وما لم يكونوا يعلمون ...وأتى بهذه الصفات فعل ًا مضارع ًا ليدل بذلك على التج ُّدد؛ لأ َّن التلاوة والتزكية والتعليم تتج َّدد دائم ًا (((\". ...وقال الراغب\" :وأعلمته وع َّلمته في الأصل واحد ،إلا أ َّن الإعلام اخت َّص بما كان بإخبار سريع ،والتعليم اخت َّص بما يكون بتكرير وتكثير حتى يحصل منه أثر في نفس ال ُمتع ِّلم(((\". والحكمة كما ورد ذكرها في مفردات الراغب\" :إصابة الحق بالعلم والعقل؛ فالحكمة من الله تعالى :معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام ،ومن الإنسان :معرفة الموجودات ،وفعل الخيرات (((\".وقال ابن الق ِّيم رحمه الله\" :وأحسن ما قيل في الحكمة قول مجاهد ،ومالك :إ َّنها معرفة الحق والعمل به ،والإصابة في القول والعمل ...،ث َّم قال: \"فالحكمة إذ ًا :فِ ْعل ما ينبغي ،على ال َو ْجه الذي ينبغي ،في الوقت الذي ينبغي(((\". واعتمدت الخبرة التربوية الإسلامية كثير ًا على هذه الآيات في اعتبار النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم ال ُمع ِّلم القدوة والأُسوة في ما يع ِّلمه ،وفي أسلوب تعليمه ،وفي طبيعة العلاقة بين ال ُمع ِّلم وال ُمتع ِّلمين .قال تعالى﴿ :ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ﴾ [آل عمران ،]159:وقال سبحانه﴿ :ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯘ ﯙﯚ﴾ [التوبة.]128: ((( أبو حيان الأندلسي ،محمد بن يوسف بن علي الغرناطي (توفي745 :ﻫ) .تفسير البحر المحيط ،دراسة وتحقيق وتعليق :عادل عبد الموجود وآخرون ،بيروت :دار الكتب العلمية ،ط1413 ( ،1ﻫ1993/م) ،ج ،1ص.618 ((( الراغب الأصفهاني ،مفردات ألفاظ القرآن ،مرجع سابق ،مادة (علم) ،ص.580 ((( الراغب الأصفهاني ،أبو القاسم الحسين بن محمد (توفي502 :ﻫ) .المفردات في غريب القرآن ،القاهرة :مكتبة نزار مصطفى الباز( ،د.ت ،).ج ،1ص.168-167 ((( ابن ق ِّيم الجوزية ،محمد بن أبي بكر بن أيوب (توفي751 :ﻫ) .مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، تحقيق :محمد المعتصم بالله البغدادي ،بيروت :دار الكتاب العربي ،ط2003 ،7م ،ج ،2ص.449 -448 223
وأصبحت الصورة التي نسجتها الآيات عن استجابة الصحابة لتعليم النبي وتل ّقيهم العل َم عنه نموذج ًا َيقتدي به كل ُمتع ِّلم بعد ذلك؛ إذ ينبغي للمؤمنين أ ْن يستجيبوا للرسول فيما يب ِّلغه عن ربه ،ففي ذلك حياتهم الحقيقية﴿ .ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯢﯣﯤ﴾ [الأنفال\" .]24:والإحياء تكوين الحياة في الجسد ،والحيا ُة ق َّو ٌة بها يكون الإدراك والتح ُّرك والاختيار ،ويستعار الإحياء تبع ًا لاستعارة الحياة للصفة أو الق َّوة التي بها كمال موصوفها فيما يراد منه ،مثل حياة الأرض بالإنبات ،وحياة العقل بالعلم وسداد الرأيَ ...ف َي ُع ُّم ك َّل ما به ذلك الكما ُل من إنارة العقول بالاعتقاد الصحيح والخلق الكريم، والدلالة على الأعمال الصالحة ،وإصلاح الفرد والمجتمع ،وما َيتق َّوم به ذلك من ال ِخلال الشريفة العظيمة .فالشجاعة حياة للنفس ،والاستقلال حياة ،والحرية حياة ،واستقامة أحوال العيش حياة(((\". ولا شك في أ َّن المؤمنين بالرسول ص ّلى الله عليه وس َّلم قد استجابوا لأمر الله سبحانه في القراءة ،الذي كان أول آيات القرآن الكريم ،فكان هذا الأمر حافز ًا إلى الاستجابة لتع ُّلم كل ما كان يأمر به القرآن من طلب العلم ،ولتع ُّلم عمليات العلم وأدواته ،مثل :كتابة العلم بالقلم ،وقراءة المكتوب في الصحف﴿ .ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ﴾ [العلق .]5-1:وكذلك استجاب المؤمنون للتوجيه القرآني في أ ْن ينفر بعضهم لتع ُّلم ما سوف يع ِّلمون به َمن انشغل على التع ُّلم بالجهاد. ﴿ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ﴾ [التوبة .]122:وقد أثبت القرآن الكريم فضيلة أولئك الذين يستجيبون لربهم ،ويعلمون أ َّن القرآن حق؛ إذ إ َّن لهم الحسنى ،وهم على نور من ربههم ،وغيرهم ك َمن هو أعمى ،وفي ذلك خي ُر حاف ٍز إلى الاستجابة لربهم ،وتع ُّلم هذه الحقيقة﴿ .ﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇ ﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎ ﰏﰐﰑﰒﰓ ﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚﰛﰜﰝ ﭑﭒﭓﭔﭕ ﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ﴾ [الرعد.]19 -18: ((( ابن عاشور .تفسير التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،9ص.313-312 224
.4فئات العلوم في القرآن الكريم: وفي آيات الله وكتابه علو ٌم ع َّلمها الرسول للناس بالبيان والممارسة والقدوة ،وفيها علو ٌم جاءت في صورة لفتات تدعو الأُ َّمة إلى بنائها وتطويرها في مجالات العوالم الطبيعية والاجتماعية والنفسية ،وفيها توجيهات منهجية تقود خطى الإنسان في توظيف الطرق والأساليب والأدوات اللازمة لبناء العلوم ضمن ضوابط وأخلاقيات تم ِّيز سعي المسلم في تطوير العلوم .وهذه الآيات تشير إلى أ َّن للعلم ثلاثة معا ٍن متضايفة ،يمكن إجمالها فيما يأتي: -تع ُّلم العلوم النقلية: آيات القرآن المت ُل َّوة هي في ح ِّد ذاتها ِع ْلم يحتاج إلى تع ُّلم؛ فهي إخبار من الله سبحانه عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله ،وعن الق ْدر الذي َيلزم أ ْن ي ْع َل َمه الإنسان عن قضايا الغيب من بدء الخلق ونهايته ،والآخرة وما فيها ،وتاريخ الرسل والأقوام والأمم ،وعن كثير من كائنات هذا العا َلم التي لا سبيل للإنسان إلى معرفتها .وفي هذه الآيات توجيهات وأحكام تخت ُّص بما َيلزم الإنسان أ ْن ي ْع َل َمه عن الصلة بالله بالعبادة والتقوى ،وأنظمة كلية لإدارة شؤون الناس في الحياة الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية .وما تتض َّمنه هذه الأنظمة الكلية هي ُأطر عامة تسمح للإنسان ،بل تدعوه ،إلى أ ْن يجتهد في اكتساب ما َيلزم من تفاصيل وجزئيات تنمو وتتط َّور وتتسع بالخبرة والتجرية البشرية. -تع ُّلم العلوم الكونية: ومع أ َّن القرآن الكريم كتاب هداية عامة ،فإ َّن كثير ًا من آياته المسطورة تتح َّدث عن آيات منظورة ،تلفت نظر القارئ إلى ما فيها من أسباب الهداية إلى قدرة الله سبحانه، وتحفز الإنسان إلى معرفة دلالة هذه اللفتات العلمية ،وإدراك تفاصيلها ،وما قد يكون فيها من علوم نافعة .وقد ق َّدر الدكتور زغلول النجار عدد هذه الآيات الكونية المنظورة بما يزيد على ( )1000آية ،منها ( )461آية تتح َّدث عن الكرة الأرضية .ومن هذه الآيات ( )110آيات لها مدلول جيولوجي(((. ((( النجار ،زغلول راغب .آيات الكون في القرآن الكريم ،ترجمة :نادية العوضي .انظر الرابط: - https: //www.paldf.net/forum/showthread.php?t=6248 225
ولع َّل من فضل الله على الإنسان أ َّنه أتاح له الاطمئنان إلى ما تقتضية الفطرة ،وما ينص عليه الوحي من ضرورة الإيمان بالله الخالق ،وذلك بالتف ُّكر والتأ ُّمل في العا َلم الطبيعي بأشيائه وأحداثه وظواهره ،إضاف ًة إلى دعوته إلى تسخير هذه الأشياء والأحداث والظواهر وتوظيفها فيما ينفعه في مجالات العمران البشري ،وبناء الحضارة ،وتيسير ُسبل الحياة وتطويرها. -تع ُّلم العلوم المنهجية: سواء أكانت العلوم التي يلفت القرآن النظر إليها علوم ًا نقلي ًة أم كوني ًة ،فإ َّن السبيل إليهما يكون عن طريق منهج في التفكير والبحث ،والإفادة من القدرات العقلية في تحصيل العلم ،وتوظيفه في الفهم والتسخير والعمران .فقد احتفل القرآن الكريم بهذه القدرات العقلية ،وب َّين أهميتها في استلهام مقاصد الحق من الخلق؛ إذ وردت ألفاظ التع ُّقل وما يتصل بها من فكر ،وفقه ،وفهم ،ورشد ،وتد ُّبر ،وذكر ،وفؤاد ،و ُن َهى ،و ُل ٍّب ،في نحو ( )429موقع ًا في الآيات القرآنية(((. وعلم المنهجية الذي نجده في القرآن الكريم يحتكم إلى عدد من المبادئ ،التي ُت َع ُّد منطلقات تبدأ بها المنهجية حركتها ،في مجالات التفكير والبحث والسلوك ،وتلتزم بضوابط ومعايير وقيم مح َّددة ،وتستقيم في خط التو ُّجه نحو غاياتها .وهذه المبادئ هي التي تحفظ سعي الإنسان في العلم والتع ُّلم من اختلاط الرؤية ،والغبش ،والتش ُّتت، والفوضى .وتقع هذه المبادئ في مستويين؛ الأول :كلي عام يربط المبادئ بأركان الإسلام ،وأركان الإيمان ،ومنظومة القيم العليا في دين الله .والثاني :جزئي خاص تكون فيه المبادئ معايير وضوابط وخصائص للتفكير والتع ُّقل والتد ُّبر والتذ ُّكر ،أو للبحث الذي يستهدف اكتساب المعرفة واختبارها وتوظيفها ،أو معايير لضبط السلوك وتوجيهه. فمن المبادئ المنهجية في التفكير -مثل ًا -التن ُّوع والتكا ُمل في استعمال ما َيلزم من أنوع التفكير :الكلي ،والعلمي ،والسنني ،والسببي ،والمقاصدي ،والاستراتيجي، والاستشرافي ،وغير ذلك .ولا ُب َّد في مبادئ البحث المنهجية من الإشارة إلى تع ُّلم مبدأ التوثيق التي يقتضي الأمانة والاستقامة والموضوعية ،ومبدأ البرهان الذي يقتضي الجمع ((( الجندي ،عبد الحليم .القرآن والمنهج العلمي المعاصر ،القاهرة :دار المعارف بمصر1984 ،م ،ص.53 226
بين الأدلة العملية والعقلية والنقلية .ومن المبادئ المنهجية في السلوك تع ُّلم الجمع بين ثلاثة مبادئ :مبدأ الن َّية في التو ُّجه بحركة القلب نحو الخالق ،ومبدأ الا ِّتباع لل ُّسبل المطروقة ال ُمج َّربة بالاستقامة على نهج النبوة والحركة الجماعية لتحقيق الانتماء ،ومبدأ الإبداع في ابتغاء الحكمة في النمو والتجاوز والارتقاء والإحسان والإتقان. ومن الجدير بالذكر أ َّن بعض هذه المبادئ يتصف بالاستقرار والثبات؛ ما يعطي الإنسان ثق ًة بالنفس وبالمنهج وبالعلم ،ومنها ما يتصف بالتغ ُّير والتط ُّور في طرق النظر المنهجي وأنواعه ،وفي وسائل البحث وأدواته ،وفي تكييف هذه الطرق والوسائل والأدوات لأنواع القضايا البحثية ،وما تنتسب إليه هذه القضايا من علوم متج ِّددة ،وفروع علمية مستحدثة. فمن المبادئ التي تتصف بالاستقرار والثبات ضرور ُة الإيمان بوحدانية الله .قال تعالى﴿ :ﰊﰋﰌﰍﰎﰏ﴾ [محمد .]19:وانتظام العا َلم بتوا ُزن وقدر على أحسن حال. قال سبحانه﴿ :ﮤﮥﮦﮧﮨﮩ﴾ [السجدة ،]7 :وقال ع َّز وج َّل﴿ :ﰌﰍﰎﰏﰐ﴾ [القمر .]49:وثبات السنن والقوانين التي جعلها الله في خلقه ليسهل تع ُّلمها وتسخيرها .قال تعالى﴿ :ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ﴾ [الأحزاب .]62:والإيمان بأ َّن أ َّي ِع ْلم يح ِّصله الإنسان بطرق البحث المناسبة سيكون علم ًا جزئي ًا نسبي ًا يفرض على الإنسان أ ْن يتذ َّكر دائم ًا قوله ع َّز وج َّل﴿ :ﯷﯸﯹﯺﯻﯼ﴾ [الإسراء ،]85:وأ ْن يدعو ر َّبه﴿ :ﭠﭡﭢﭣ﴾ [طه.]114: ولك َّن المنهج في القرآن الكريم هو ما ارتضاه الله للإنسان من منهج جاء في الوحي الخاتم؛ ما يعني أ َّن هذا المنهج القرآني س ُيل ّبي حاجات الناس من العناصر المنهجية في حال تع َّقلوه وتد َّبروه ،مع تط ُّور خبراتهم عبر الزمان ،وتن ُّوع بيئاتهم عبر المكان .وهذا ُيح ِّتم على المبادئ المنهجية أ ْن تفتح الباب واسع ًا للمرونة والتغ ُّير والتط ُّور؛ ما يعني أ َّن الانطلاق من المبادئ المنهجية الثابتة يتيح تطوير الأساليب والوسائل التي تتح َّقق بها دعو ُة الل ِه الإنسا َن للسير في الأرض ،والنظر ،والرؤية ،والسعي؛ فالنظر في آفاق الكون كان يتم بالعين المج َّردة ،ث َّم تط َّور النظر باستخدام ال ِم ْقراب (التلسكوب) الذي يتيح للإنسان رؤية الأشياء البعيدة جد ًا ،والمجهر ال ُمك ِّبر (الميكروسكوب) الذي يتيح للإنسان رؤية الأشياء الصغيرة جد ًا ،وتحليل الأطياف الضوئية التي تكشف عن طبيعة 227
الإشياء ومك ِّوناتها وأبعادها الزمانية والمكانية ،وغير ذلك من أساليب النظر والرؤية ،التي تط َّورت اليوم إلى ح ٍّد جعل الإنسان يرى تفاصيل الأحداث والمشاهد لحظة حدوثها، ويسمعها بصرف النظر عن ُب ْعدها عنه ،ويعيد مشاهدة تفاصيل ما حدث في لحظة معينة مهما ابتعد الزمن عن لحظة الحدث .ومثل ذلك يقال عن أساليب السير في الأرض ،على الأرجل والدواب ،ث َّم بواسطة السفينة ،والسيارة ،والقطار ،والطائرة. .5المصدر الأول للتعليم والتع ُّلم: تعليم الإنسان في القرآن الكريم يبدأ من بداية الخلق؛ فبعد أ ْن خلق الله آدم ،ف َّضله بالعلم ،وع َّلمه الأسماء التي لم ُيع ِّلمها الملائكة﴿ .ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ﴾ [البقرة .]31:وبتعليم آدم الأسماء، وإظهار فضيلته بقبوله لهذا التعليم دون الملائكة ،فإ َّن الله جعله ُح َّجة على قوله لهم: ﴿ﭪﭫﭬﭭﭮ﴾ [البقرة]30:؛ أ ْي ما لا تعلمون من جدارة هذا المخلوق بالخلافة على الأرض .وفي آيات سورة العلق امت َّن الله على الإنسان بأ َّنه م َّكنه من استعمال عمليات ال ِع ْلم والتعليم من قراءة وكتابة بالقلم؛ فبهما تع َّلم الإنسان ،ولا يزال يتع َّلم ما لا يعلم من الأمور﴿ .ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮎﮏﮐﮑﮒ﴾ [العلق.]5-1: وقد ن َّص القرآن الكريم على أ َّن وظيفة رسول الله محمد ص ّلى الله عليه وس َّلم هي تعليم الناس الكتاب والحكمة ،وأ َّن الله سبحانه لا يزال ُيع ِّلم الناس في كل جيل من أجيال البشرية شيئ ًا لم يكونوا يعلمونه﴿ .ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ﴾ [البقرة.]151: ولا يقبل القرآن الكريم من الإنسان أ ْن يؤمن بفكرة ،أو يعمل عمل ًا بالوراثة؛ لأ َّن السابقين من آبائه وآجداده آمنوا بتلك الفكرة ،أو عملوا ذلك العمل ،وإ َّنما يتع َّين عليه أ ْن يتع َّلم ذلك اعتماد ًا على مصادر العلم وأدواته؛ فقد يكون الآباء والأجداد لا يعقلون شيئ ًا، ولا يهتدون﴿ .ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭣﭤﭥﭦ ﭧ﴾ [البقرة.]170: 228
وما َيلزم أ ْن يتع َّلمه الإنسان لا يقتصر على ما ُس ِّمي علوم ًا ديني ًة من عقائد وعبادات ومعاملات وأخلاق ،وإ َّنما يل ُّح القرآن الكريم على الإنسان أ ْن يتع َّلم حكمة الله في مخلوقاته؛ ليعرف حقائق العوالم الطبيعية والاجتماعية والنفسية ،ف ُت ِعينه على بناء العمران، وإنشاء الحضارة ،وترقية الحياة؛ فكل العلوم التي يستطيع الإنسان أ ْن يتع َّلمها من أجل تحقيق هذه الأهداف هي علوم دينية. .6مسؤولية التع ُّلم والتعليم: إ َّن عدل الله سبحانه يتم َّثل في قوله تعالى﴿ :ﰅ ﰆﰇﰈﰉ﴾ [المدثر ،]38:وقوله ع َّز وج َّل﴿ :ﯿﰀﰁﰂﰃ﴾ [مريم .]95:وهذا يعني أ َّن الإنسان ُمك َّلف أ ْن يبادر بنفسه إلى التع ُّلم .وقبل أ ْن يصل إلى س ِّن التكليف ،تكون مسؤولية تعليمه على والديه .قال تعالى: ﴿ﯞﯟﯠﯡ﴾ [التحريم ،]6:وقال سبحانه﴿ :ﮰﮱﯓﯔﯕﯖ﴾ [طه.]132: ولا شك في أ َّن الأبناء والأحفاد هم من فضل الله على الوالدين ،وأ َّن الصلة الوثيقة بين الأبناء والوالدين صلة فطرية تستدعي حرص الوالدين على أ ْن يتع َّلم الأبناء كل ما فيه خيرهم؛ فالأبناء لهم ،وكل ما يكون للبنين والحفدة من خير وهدى ورشد فهو للآباء في الدنيا والآخرة﴿ .ﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﰇﰈﰉﰊﰋﰌ﴾ [النحل .]72:وكان من دعاء عباد الرحمن أ ْن يهب الله \"لهم\" ذرية تكون ق َّرة عين لهم. ﴿ﮣﮤﮥ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ﴾ [الفرقان .]74:وحين رأى نبي الله زكريا عليه السلام أ َّن قدرة الله سبحانه تتجاوز الأسباب الظاهرة ،سأل اللهَ شيئ ًا ُي َع ُّد في عا َلم الأسباب الظاهرة أمر ًا خارق ًا ،وهو أ ْن يهب \"له\" ذري ًة طيب ًة ،وقد بلغ من ال ِك َبر عتي ًا وامرأته عاقر﴿ .ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭝﭞﭟﭠﭡ﴾ [آل عمران]38:؛ وذلك ل ِع ْلمه أ َّن الذرية الطيبة لا تقتصر على كونها من زينة الحياة الدنيا. ﴿ﭑﭒﭓﭔﭕ﴾ [الكهف ،]46:وإ َّنما هي -في حالة زكريا -وسيلة لاستمرار بيت النبوة ،والقيام على خدمة دين الله تعالى. وقد تض َّمنت وصايا لقمان لابنه وهو يع ُظه و ُيع ِّلمه و ُير ّبيه ما يخت ُّص بالعقيدة، والعبادة ،وبر الوالدين ،والسلوك النفسي والاجتماعي. 229
وفي قصة إبراهيم عليه السلام الكثير من مواقف التعليم والتع ُّلم التي تتواصل مع الذرية؛ فقد كان دعاء إبراهيم وإسماعيل دعا ًء مشترك ًا ،وتض َّمن الدعاء أ ْن تكون ذريتهما ُم ْس ِلم ًة ،وأ ْن ير ِسل الله في هذه الذرية رسولاً ُيع ِّلمها .وفي القصة تقري ُر أ َّن إبراهيم و ّصى بنيه بكلمة التوحيد ،وأ َّن يعقوب و ّصى بنيه بالتوصية نفسها .وقد تك َّرر فيها ذكر يعقوب، وتوصية بنيه بسؤالهم عن عبادتهم من بعده ،فأ َّكدوا له أ َّنهم سيحفظون الوصية جيد ًا. ﴿ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭣ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭵﭶﭷ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﭿﮀﮁﮂﮃ ﮄﮅﮆﮇﮈ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮕﮖﮗ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ ﯨﯩﯪﯫﯬ ﯭﯮ ﯯﯰﯱﯲ﴾ [البقرة.]133-127: لقد أرسل الله سبحانه الأنبياء والرسل ليصلحوا حال أقوامهم ،فكان الأنبياء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ،ولك َّن الله ب َّين حرص هؤلاء الأنبياء على إصلاح حال أقوامهم من بعدهم؛ ليستمر دين الله بين هذه الأقوام في الأجيال المتلاحقة ،فجاء حرص هؤلاء الأنبياء على ذلك في صيغة الوصية .والوصية تكون غالب ًا في حال تو ُّقع الفراق ،لا سيما عند اقتراب الأجل وتو ُّقع الموت ،حيث تكشف عن حرص المو ِصي و ِش َّدة رغبته في الاستماع إليها وتنفيذها ،وتثير عند َم ْن يوصيهم حال ًة من التأ ُّثر والوفاء. .7القرآن الكريم موضوع للتعليم: القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية المنزلة ،وقد ُأن ِزل على النبي محمد ص ّلى الله عليه وس َّلم ُمن َّجم ًا في أوقات مختلفة؛ لتوجيه النبي والمؤمنين إلى التعامل مع الحوادث والوقائع بحسب ما ق َّدره الله سبحانه من حاجات الناس .وكان ﷺ يأمر كتب َة الوحي بكتابة ما يتلوه عليهم ،ث َّم يأمرهم بقراءة ما كتبوه؛ ليتح َّقق من د َّقة كتابتهم ،حتى أصبح القرآن 230
الكريم مجموع ًا في الصدور ،ومكتوب ًا في السطور .ث َّم انتقل القرآن الكريم بعد الصحابة بالتواتر جيل ًا بعد جيل ،حتى وصل إلينا بتعليم أهل الاختصاص وتلقينهم ،والإتقان بأسانيدهم المعروفة والمشهورة ،وكان في كل زمان المادة الأُولى للتعليم والتربية. لقد جعل القرآن الكريم التعليم أولوي ًة في بناء الدين كله حين بدأت الآيات الأُولى فيه بالقراءة والكتابة والتع ُّلم ،وبدأت بذلك حملة عامة استهدفت محو الأُ ِّمية في المجتمع المسلم .ث َّم إ َّن القرآن الكريم جاء كتاب هداية عامة للناس أجمعين في مجالات الحياة البشرية ،ولذلك تض َّمنت موضوعاته ما يخت ُّص بالتزكية الفردية ،والحياة الأسرية والاجتماعية ،والتدبير الاقتصادي ،والتنظيم السياسي ،والعلاقات الدولية...؛ لذا كان من الطبيعي أ ْن يكون القرآن الكريم موضوع ًا للتعليم في ألفاظه ونصوصه. والقرآن الكريم ينص على أ َّن من أهداف الرسالة الخاتمة أ ْن يتو ّلى الرسول تلاوة الآيات ،وتعليم الكتاب .والآيات هي نصوص الكتاب؛ وهو القرآن الكريم .وكان أول ما ع َّلمه النبي لأصحابه أ ْن يتلوا عليهم ما يوحيه إليه ربه ،وقد اقتضت حكمة الله سبحانه أ ْن يكون الوحي بالقرآن تنزيل ًا ُمن َّجم ًا على الظروف والأحوال والأحداث ،فيتلو النبي على كتبة الوحي ما يوحى به إليه ،فيكتبونه ،ويحفظونه ،ث َّم يتو ّلى النبي بيان ما َيلزم بيانه من أمر ،أو نهي ،أو توجيه ،فيعملون به ،و ِم ْن َث َّم يتع َّزز لفظه ومعناه قولاً وعمل ًا﴿ .ﭥ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ﴾ [النحل .]44:وبعد عهد الرسالة أصبح القرآن الكريم أول مادة تعليمية في الممارسات التعليمية في المجتمع المسلم ،وكان تعليم القرآن تلاو ًة وحفظ ًا وتفسير ًا وتطبيق ًا لما فيه من تربية وتوجيه .ث َّم أصبح للقرآن علوم كثيرة تع َّددت وتن َّوعت ،فكان منها مثل ًا :جمع القرآن وتدوينه؛ والعلم بالقراءات القرآنية ،وترتيل القرآن وتجويده ،ورسمه ،وتفسيره ،وإعجازه؛ وعلوم أصول التفسير ،والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ ،والمكي والمدني ،والإعجاز ،وأسباب النزول ،و ُم ْشكل القرآن، وغير ذلك م ّما تض َّمنته الكتب المتخ ِّصصة في علوم القرآن .فقد جاء في كتاب \"البرهان\" للسيوطي أ َّن التفصيل في علوم القرآن هو على سبيل الإدماج ،فكانت ثمانين علم ًا .قال في ذلك\" :ولو ُن ِّو َع ْت باعتبار ما أدمج ُته في ضمنها لزادت على الثلاثمئة(((\". ((( السيوطي ،جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (توفي911 :ﻫ) .الإتقان في علوم القرآن ،تحقيق :مركز الدراسات القرآنية ،الرياض :وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد1426 ،ﻫ ،ج ،1ص.17 231
ومع أ َّن القرآن الكريم (تلاو ًة ،وحفظ ًا) أصبح موضوع التعليم عند الأطفال في أول التعليم ،فإ َّن موضوع القرآن يبقى ماد ًة للتعليم في المراحل المختلفة ،حتى أصبحت علوم القرآن تخ ُّصص ًا دقيق ًا في أعلى مراحل التعليم. ومن الجدير بالذكر أ َّن القرآن الكريم أصبح مرجعية لضبط اللغة العربية وقوانينها؛ فقد اختار الله سبحانه هذه اللغة لتكون أداة التبليغ في رسالته الأخيرة إلى الإنسان، وتع َّهد بحفظ هذا القرآن بلغته ونصوصه؛ ف َمن أراد أ ْن يتع َّلم العربية ،فإ َّن تع ُّلم لسان القرآن خير ُمع ِّلم. لقد بدأ تعليم الآيات القرآنية مشافهة من فم رسول الله ﷺ ،ث َّم سار المسلمون بعد ذلك على الطريقة نفسها .فالذين تل َّقوا القرآن من النبي ﷺ بالمشافهة أخذوا ُيع ِّلمونه غيرهم بالمشافهة كذلك .قال عبد الله بن مسعود \" :والله لقد أخذت ِمن في رسو ِل الله ﷺ بضع ًا وسبعين سورة ،والله لقد َع ِلم أصحا ُب النبي ﷺ أ ِّني ِمن أ ْعلمهم بكتاب الله ،وما أنا بخيرهم (((\".وفي \"فتح الباري\" زيادة في هذا الحديث ،يقول فيها ابن مسعود: \"وأخذت بقية القرآن عن أصحابه (((\".وعند الإمام أحمد في \"المسند\"\" :وعن معد يكرب قال :أتينا عبد الله فسألناه أ ْن يقرأ طسم المائتين ،فقال :ما هي معي ،ولك ْن عليكم َمن أخذها ِمن رسول الله ﷺ خ ّباب بن الأرت ،قال :فأتينا خ ّباب بن الأرت فقرأها علينا(((\". واستمر حفظ القرآن الكريم بالمشافهة رواية بالسند المتصل عبر القرون .ونظر ًا لأ َّن تطبيق أحكام التلاوة بصورة كاملة يتع َّذر من دون مشافهة؛ فإ َّن كثير ًا من المسلمين لا يزالون يحفظونه بالمشافهة بالسند المتصل إلى يومنا هذا .ولع َّل حفظ القرآن الكريم عن طريق التع ُّلم والتلقين بالمشافهة كان إحدى الطرق التي حفظ بها الله تعالى القرآن الكريم ((( البخاري .صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب فضائل القرآن ،باب الق ّراء من أصحاب النبي ﷺ ،حديث رقم ( ،)5000ص.994 ((( ابن حجر ،الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي العسقلاني (توفي852 :ﻫ) .فتح الباري بشرح صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ،تحقيق :عبد القادر شيبة الحمد ،الرياض :المحقق2001 ،م ،ج ،8باب: الق ّراء من أصحاب النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم .نقل حديث عبد الله السابق ،وقال :زاد عاصم عن بدر عن عبد الله\" :وأخذت بقية القرآن عن أصحابه\" ،ص.677 ((( ابن حنبل ،الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (توفي241 :ﻫ) .مسند الإمام أحمد ،تحقيق :أحمد شاكر ،القاهرة: دار المعارف بمصر1985 ،م ،حديث رقم ،)3980( :ج ،6ص.34 232
من التحريف والتبديل .ولع َّل تلاوة الفاتحة وغيرها من القرآن الكريم في الصلوات الجهرية وفي صلاة الجمعة والعيدين تساعد كذلك على تعميم تعليم القرآن بالمشافهة. إ َّن تعليم القرآن الكريم هو تعليم مي ّسر في حفظه ،وفهمه ،وتطبيق توجيهاته؛ فتوجيهاته ليست تكليفات بأمور عسيرة ،وإ َّنما هي توجيهات تتناسب مع الفطرة السليمة المهيأة لعمران الأرض والخلافة فيها بالخير والحق والعدل؛ أمل ًا في نعيم الآخرة .ومن هذه الفطرة الاستمتاع بالطيبات من متاع الدنيا؛ مالاً ،وولد ًا ،وأزواج ًا ،وصحب ًة. .8ضوابط العلم وأخلاقياته في القرآن الكريم: ورد من الألفاظ القرآنية كثي ٌر م ّما هو مختص بضوابط العلم وأخلاقياته: -من العلم توثيق العقود بالكتابة والشهادة عليها .وإذا كتب الكاتب فعليه أ ْن يكتب بالعدل والأمانة والصدق .وإذا طلبت شهادة الشاهد فلا يجوز له أ ْن يأبى الشهادة أو يكتمها .قال تعالى﴿:ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭧﭨﭩ﴾ [البقرة ،]282:وقال سبحانه﴿ :ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ﴾ [البقرة.]283: -من الموضوعية أ ْن يوصف الإنسان بما قد يكون عنده من العلم؛ فعدم علم الإنسان بالآخرة وغفلته عنها لا يعني أ َّنه لا يعلم شيئ ًا من أمور الدنيا .قال تعالى﴿ :ﭞ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ﴾ [الروم.]7: -في مواقف العلم والتع ُّلم يو ِّجه القرآن الكريم المسلم إلى استعمال الألفاظ المناسبة لكل حالة؛ حتى لا يختلف معنى اللفظ عند القارئ أو المستمع عن دلالاته الحقيقية .فاللغة في نهاية المطاف هي\" :عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل لساني ...فلا ُب َّد أ ْن تصير ملك ًة متق ِّررة في العضو الفاعل لها، وهو اللسان ،وهو في كل ُأ َّمة بحسب اصطلاحاتهم (((\".لك َّن القرآن الكريم هو مرجع اللغة في ضبط الاصطلاحات ،وتصحيح ما قد يكون لا َب َسها من أخطاء، فيما تدل عليه هذه الاصطلاحات .قال تعالى﴿ :ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ﴾ [الحجرات.]14: ((( ابن خلدون .مقدمة ابن خلدون ،مرجع سابق ،ج ،3ص.1128 233
-من ضوابط العلم والتعليم استعمال الكلام في مواضعه من دون تحريف أو تبديل في الألفاظ؛ لتدل على غير ما كانت الألفاظ الأصلية ُو ِضعت من أجله .وقد لعن الله أقوام ًا فعلوا ذلك ،فقال ع َّز وج َّل﴿ :ﮥ ﮦﮧﮨﮩﮪ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰ﴾ [المائدة ،]13:وقال سبحانه﴿ :ﮥﮦ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ﴾ [المائدة.]41: -من د َّقة استعمال الألفاظ التميي ُز بين العلم والظن .قال تعالى﴿ :ﭷﭸﭹﭺ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ﴾ [الأنعام.]148: -من ضوابط العلم والتعليم الاستشها ُد بالدليل النقلي الذي يتصف بالصدق مثل ًا. قال تعالى﴿ :ﯞﯟ﴾ [الأحقاف ،]4:أو الدليل الح ِّسي .قال تعالى﴿ :ﯓﯔ ﯕﯖﯗ﴾ [الأحقاف ،]4:وقال سبحانه﴿ :ﮯﮰ ﮱﯓﯔﯕ ﯖﯗﯘﯙﯚ﴾ [الزخرف ،]19:أو الدليل العقلي .قال ع َّز وج َّل﴿ :ﭠﭡ ﭢﭣﭤﭥ﴾ [النمل ،]64:وقال تعالى﴿ :ﮫﮬﮭﮮﮯ ﮰﮱ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯧﯨ ﯩ﴾ [الأحقاف.]4: -من ضوابط العلم والتعليم الاهتما ُم بما يح ِّقق فائدة حقيقية للإنسان ،م ّما تدركه حواسه البشرية ،وي ْف َق ُهه عق ُله ،و َينْ َبني عليه عم ٌل ينف ُعه؛ فالسؤال والكلام فيما وراء ذلك هدر لجهد الإنسان ووقته بغير فائدة .وهذا ما كان القرآن الكريم يو ِّجه به النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم في إجابته عن أسئلة السائلين .ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ﴾ [الإسراء ،]85:وقوله سبحانه﴿ :ﯯﯰﯱ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒ ﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙ﴾ [الأعراف.]187: 234
.9أولويات التربية والتعليم في القرآن الكريم: إ َّن اكتساب العلم يتط َّلب وقت ًا وجهد ًا ،وعمر الإنسان قصير ،وطاقته محدودة ،وبعض العلوم والخبرات أكثر أهمية من غيرها ،وبعضها َيلزم اكتسابه قبل غيره؛ لذا يجب النظر فيما هو َأ ْولى من غيره من حيث الأهمية والوقت .وفي القرآن الكريم ما يهدي إلى تحديد هذه الأولويات. ومن أمثلة الأولويات: -اكتساب العلم النافع :هو ما يخت ُّص بالموضوعات التي ينتفع بها الإنسان في دنياه وآخرته ،وما ينفع به غيره ،ويتض َّمن ذلك أنواع ًا من الموضوعات ،منها ما هو من فرائض العين التي لا يليق بأ ِّي فرد في الأُ َّمة أ ْن يجهله من أمور دينه ودنياه ،ومنها ما هو من فرائض الكفاية التي تجعل كل فرد يق ِّدم لمجتمعه ما لا يليق بالمجتمع أ ْن يفتقده من العلوم والخبرات والكفايات. -اكتساب خشية الله :العلماء الذين تع َّلموا ما في القرآن الكريم من آيات تدعو إلى التع ُّقل والتف ُّكر والتد ُّبر والتذ ُّكر ،وآيات الترغيب والترهيب ،وآيات السير والنظر والرؤية في آفاق العا َلم الطبيعي والاجتماعي والنفسي ،وغير ذلك من الآيات؛ وهم العلماء الذين انتفعوا بهذه العلوم ونفعوا بها ،سيكونون أكثر خشية لله سبحانه﴿ .ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ﴾ [فاطر .]28:وقد جاء هذا النص بعد الدعوة إلى رؤية نماذج من تج ِّليات قدرة الله سبحانه في مشاهد كونية متن ِّوعة ،تدعو إلى الجمع بين اكتساب العلماء هذه العلوم في مجالات الجيولوجيا والأحياء النباتية والحيوانية والاجتماعيات البشرية ،وخشيتهم لله ،و ِم ْن َث َّم يكون العلم الحق النافع بهذه العلوم هو ما يؤدي إلى هذه الخشية﴿ .ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯗﯘﯙ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯥﯦ ﯧﯨ﴾ [فاطر.]28-27: ولذلك سيكون من أولويات التعليم والتربية أ ْن يتح َّقق هذا النوع من العلم والخشية الناتجة عنه .فإذا لم تتح َّقق هذه الخشية ،فإ َّن ذلك العلم الذي اكتسبوه ر َّبما كان شيئ ًا \"من ظواهر الحياة الدنيا ،وهو علم محدود بأشياء قد تكون نافعة في هذه الدنيا ،وعدم 235
العلم بأشياء ُأخرى تكون أكثر نفع ًا لهم ،وتجعلهم يدركون أ َّن الغفلة عن الآخرة تجعلهم ضمن أكثر الناس الذي لا يعلمون﴿ .ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ﴾ [الروم .]7-6:و ُع ِّبر عن جهلهم الآخرة بالغفلة كناية عن نهوض دلائل وجود الحياة الآخرة لو نظروا في الدلائل المقتضية وجود حياة آخرة ،فكان جهلهم بذلك شبيه ًا بالغفلة((( \". -التر ُّفق والتد ُّرج والتيسير في التعليم :أنبياء الله سبحانه كانوا خير ُمع ِّلمين؛ فالذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة إ َّنما ُيع ِّلمون الناس أ ْن يكونوا ربانيين ،و َين ُسبون إلى الر ِّب سبحانه ما تع َّلموه في الكتاب من علم يمنعهم عن الشرك ،وما درسوه فيه؛ أ ْي قرأوه بإعادة وتكرار حتى فهموه وأتقنوه .وقد جاء هذا التعليم بالتيسير اللازم ،وبالتد ُّرج الذي ُيد ِّبر أمر الناس ،ويصلح شؤونهم .والذي يتل ّقى هذا التعليم ،ويكتسب شيئ ًا منه ،فإ َّنه يعمل بعلمه .قال سبحانه﴿ :ﭯﭰﭱﭲﭳ ﭴﭵ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﭿﮀﮁﮂ ﮃﮄﮅﮆﮇ ﮈﮉﮊ﴾ [آل عمران .]79:وقال القرطبي في تفسير الآية\" :والر ّبانيون واح ُدهم ر ّباني منسوب إلى الر ِّب ،والر ّباني الذي ُي َر ِّبي النّاس بصغار العلم قبل كباره ،وكأ َّنه يقتدي بالر ِّب سبحانه في تيسير الأمور، وروى معناه عن ابن عباس… وقال المب ِّرد :الر ّبانيون أرباب العلم ،واحدهم ر ّبان من قولهم :ر َّبه ي ُر ُّبه ،فهو ر ّبان ،إذا د َّبره وأصلحه ،فمعناه على هذاُ :يد ِّبرون أمور الناس ويصلحونها ...فمعنى الر ّباني العالِ ُم بدين الر ِّب الذي يعمل بعلمه؛ لأ َّنه إذا لم يعمل بعلمه فليس بعالِم… والر ّباني الذي يجمع إلى العلم البصر بالسياسة... ر َّب أ ْم َر الناس ير ُّبه إذا أصلحه وقام به(((\". ثاني ًا :موضوعات التعليم في القرآن الكريم: يتجاوز تعليم القرآن الكريم كونه موضوع ًا للتع ُّلم والتعليم إلى التربية على قيمه وتوجيهاته التي تحكم حياة الإنسان طوال عمره ،وتمتد به من عمران الأرض والاستمتاع ((( ابن عاشور ،تفسير التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،21ص.50 ((( القرطبي ،أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر (توفي671 :ﻫ) .الجامع لأحكام القرآن ،تحقيق :عبد الله التركي ومحمد رضوان عرقسوسي ،بيروت :مؤسسة الرسالة2006 ،م ،ج ،5ص.185-184 236
بخيراتها إلى عمران الآخرة بالأجر والثواب على ما قام به الإنسان من عمران الدنيا بأعمال البر والخير والاستقامة .ولعل هذا الامتداد والاتساع هو ما يهدي إليه القرآن الكريم من هدف العلم والتعليم. .1تعليم الرؤية الكلية والتفاصيل الجزئية: يقودنا النظر في موضوعات التعليم التي يمكن أ ْن نستدل على حضورها في القرآن الكريم إلى ملاحظة كثير من الموضوعات التي تدخل في تفاصيل حياة الإنسان في الدنيا والآخرة .لك َّن الأهم من ذلك ر َّبما يكون في ملاحظة المسائل الكلية التي تتح َّدث عن العا َلم بأنواعه المادية والاجتماعية والنفسية ،وعن رب العالمين جميع ًا ،وعن الإنسان في أصله ومسيره ومصيره ،وعن الدنيا والآخرة ،وعن حرية الإنسان في الاختيار والتساؤل وإعمال العقل والحواس في الاجتهاد والتجديد في توظيف العلم ،ومسؤوليته عن كل ذلك مسؤولية فردية واجتماعية ،وغير ذلك من المسائل الكلية .وملاحظة هذه المسائل الكلية تدعو الإنسان إلى النظر في الجزئيات والتفاصيل في ضوء هذه الرؤية الكلية. ولكنَّنا نجد في القرآن كذلك تعليم ًا في التفاصيل والجزئيات التي نم ِّيز فيها مسائل جزئية تخت ُّص بالعقائد ،أو العبادات ،أو المعاملات ،وأحكام ًا تح ِّدد الحقوق والواجبات. ونجد في التوجيهات التربوية القرآنية أساليب أمر ونهي ،ومواعظ وإرشادات .ومن تعليم القرآن ما فيه دعوة إلى التنافس في الخير ،والتسابق في أبوابه ،وهو تربية للوجدان ،وتعزيز للمودة والرحمة ،وتزكية للعلاقات الأسرية والاجتماعية .وفي تعليم القرآن الكريم دعوة إلى الثبات في ميادين القتال والحروب ،وتربية على الصبر والتح ُّمل ،وضبط للمعاملات الاقتصادية ،وترشيد للأنظمة السياسية والعلاقات الدولية. .2تع ُّلم التفكير في حياة فضلى: الحياة ليست حياة ساكنة تم ُّر على وتيرة واحدة ،يعتاد عليها الإنسان ،ويطمئن بها، وإ َّنما هي حياة متج ِّددة تدفعه إلى التفكير في البدائل التي ُتب ِدع أنماط ًا أفضل منها؛ فلا َيقب ُل الحياة في ُذ ٍّل وظلم ،بل يهاجر ،ويجد في الأرض مراغم ًا كثير ًا وسع ًة ،ويسعى في مناكب 237
الأرض بحث ًا عن رزق الله ،ويبحث عن ُسبل الأمان؛ سواء كانت بناء س ِّد يمنع المعتدين، أو يحاصر حصون َمن يسعون إلى الفساد ،ويثيرون الفتن ،و ُيه ِّددون أمن المجتمع. .3طلب الزيادة في العلم: لا يرضى الله للمؤمن أ ْن يكتفي بما لديه من العلم حتى لو كان من الأنبياء ،وإ َّنما يطلب منه المزيد؛ فالله سبحانه طلب من نبي الله موسى عليه السلام أ ْن يتع َّلم م َّمن هو أعلم منه﴿ .ﮏﮐ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖ﴾ [الكهف .]66:وطلب من نبي الله محمد ص ّلى الله عليه وس َّلم أ ْن يدعوه ليزيده علم ًا﴿ .ﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭜﭝ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣ﴾ [طه.]114: .4تع ُّلم أساليب التعليم: في القرآن الكريم نماذج من أساليب التعليم والتربية ،منها :الوعظ والإرشاد، والترغيب والترهيب ،والحوار والجدل ،والقصة ،وضرب المثل ،وعرض المشهد العملي .وفي أسلوب التعليم لا ُب َّد من الرحمة .قال تعالى﴿ :ﭠﭡﭢﭣﭤ ﭥﭦﭧﭨ﴾ [آل عمران ،]159:وقال سبحانه﴿ :ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾ [التوبة .]128:أ ّما في مجال الجدل مع الآخرين ،فإ َّنه يكون بالتي هي أحسن ،حتى يصل الأمر إلى توحيد نقطة الانطلاق في الجدل بين الطرفين؛ لتحييد المواقف المسبقة .قال تعالى﴿ :ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ﴾ [سبأ ،]24:وقال ع َّز وج َّل﴿ :ﮀ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ﴾ [سبأ .]25:ففي حين وصف القرآن موقف الخصم الذي لن ُيس َأل عنه المؤمن بـ\"العمل\" دون إساءة ،وصف موقف المؤمن الذي لن ُيس َأل عنه الخصم بـ\"الإجرام\" .قال ابن عاشور في تفسير هذه الآية: \"هذا ضر ٌب من المشاركة والموادعة ،لِ َي ْخ ُلوا بأنفسهم ،فينظروا في أمرهم ،ولا يلهيهم جدال المؤمنين عن استعراض ومحاسبة أنفسهم .وفيه زيادة إنصاف؛ إذ َف َر َض المؤمنون الإجرام في جانب أنفسهم ،وأسندوا العمل على إطلاقه في جانب المخاطبين؛ لأ َّن النظر والتد ُّبر بعد ذلك يكشف عن ُكنْه كلا العمل ْي ِن(((\". ((( ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،22ص.194 238
وكل الأوامر والنواهي القرآنية ُتع ِّلم الإنسان الحساسية واليقظة لما يقول أو يفعل، ُمتح ِّري ًا العلم الذي يسنده ،والبرهان الذي يؤ ِّيده .فالسمع ،والبصر ،والعقل؛ ك ٌّل منها مسؤول ع ّما ُيسنَد إليه .ويوم القيامة تشهد كل أجزاء الجسم بما يقوله ويفعله صاحبها. قال سبحانه﴿ :ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭵﭶﭷﭸ﴾ [فصلت .]22:ولذلك نهى الله تعالى أ ْن ي َّتبِع الإنسان قولاً أو فعل ًا من دون علم ،فقال سبحانه﴿ :ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﯿ﴾ [الإسراء .]36:وقد ع َّقب ابن عاشور على ذلك بقوله\" :وهذا أد ٌب ُخلقي عظيم ،وهو أيض ًا إصلاح عقلي جليل ُيع ِّلم الأُ َّمة التفرقة بين مراتب الخواطر العقلية ،بحيث لا يختلط عندها المعلوم والمظنون والموهوم .ث َّم هو أيض ًا إصلاح اجتماعي جليل يجنِّب الأُ َّمة من الوقوع والإيقاع في الأضرار والمهالك من ج ّراء الاستناد إلى أدلة موهومة(((\". .5تع ُّلم آداب الحياة الاجتماعية: في القرآن الكريم من التعليم والتأديب والتربية كثي ٌر من صور الأدب النفسي والاجتماعي ،التي تأمر المؤمنين والمؤمنات بغ ِّض الأبصار ،والمشي بتؤدة دون فخر و ِك ْبر وخيلاء ،وغ ِّض الصوت ،ليكون في حدود المطلوب والمحمود ،في حق النفس؛ تزكي ًة لها ،وحق الآخرين في الستر والخصوصية﴿ .ﯯﯰ ﯱﯲﯳﯴﯵ ﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﭑﭒﭓﭔ ﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭩ﴾ [النور .]28-27:قال ابن عاشور\" :من أكبر الأغراض في هذه السورة (سورة النور) تشريع نظام المعاشرة والمخالطة العائلية ...فهذه الآيات استئناف لبيان أحكام التزاور وتعليم آداب الاستئذان ... ،فجاءت هذه الآيات لتحديد كيفيته (الاستئذان) وإدخاله في آداب الدين حتى لا يفرط الناس فيه ،أو في بعضه باختلاف مراتبهم في الاحتشام والأنفة ،واختلاف أوهامهم في عدم المؤاخذة أو في ِش َّدتها ...وفي ذلك من الآداب أ َّن المرء لا ينبغي أ ْن يكون ك ّ ًل على غيره ،ولا ينبغي له أ ْن ُيع ِّرض نفسه إلى الكراهية والاستثقال ،وأ َّنه ينبغي أ ْن يكون الزائر والمزور متوافقين متآنسين ،وذلك عون على تو ُّفر الأخوة الإسلامية(((\". ((( المرجع السابق ،ج ،15ص.101 ((( المرجع السابق ،ج ،18ص.196 239
.6تعليم القيم الأسرية في التربية القرآنية: القيم الأسرية هي فرع من القيم الاجتماعية ،لكنَّها أخذت في القرآن الكريم منزلة خاصة؛ فقد قضى الله سبحانه أ ْن يقرن عبادته بالإحسان إلى الوالدين ،وألا يتخ َّلل التعامل معهما أقل لفظة يمكن أ ْن تتناقض مع مقصد الإحسان ،وذلك قوله سبحانه﴿ :ﮗﮘ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮪ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰ﴾ [الإسراء .]23:وقد تض َّمنت وصية الله للإنسان تذكيره ببعض صور معاناه الأُ ِّم على وجه الخصوص ،ث َّم جعل شكر الله على نعمه مقرون ًا بالشكر للوالدين على ما قاما به للأبناء .قال الله تعالى﴿ :ﭶﭷﭸﭹﭺ ﭻﭼ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ﴾ [لقمان.]14: والتربية القرآنية للإنسان المؤمن تجعله يو ِّظف أعذب الألفاظ وأر َّقها وأصدقها عاطفة في التعبير عن علاقة الأبوة والبنوة؛ فهذا نبي الله نوح عليه السلام يخاطب ابنه الكافر بلفظ العلاقة بين الأبوة والبنوة الحاني ،فيقول له﴿ :ﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮭ﴾ [هود ،]42:ولك َّن الابن الكافر لا يملك عاطفة البنوة ليخاطب بها أباه ،بل يتحداه بعدم الخوف ،زاعم ًا أ َّنه يكفيه أ ْن يأوي إلى جبل يعصمه من الماء .وبعد أ ْن حال بينهما الموج ،وكان الابن الكافر من المغرقين ،ض َّجت عاطفة الأبوة عند الأب المؤمن َم َّر ًة ُأخرى ،حين خاطب نوح ربه ع َّز وج َّلُ ،متذ ِّكر ًا وعد الله بحمل أهله على السفينة .قال سبحانه﴿ :ﭷﭸﭹ ﭺﭻﭼﭽﭾ﴾ [هود ،]40:وناسي ًا الاستثناء الوارد في ذلك الطلب .قال تعالى ﴿ :ﭿﮀﮁﮂﮃ﴾ [هود ،]40:قال ع َّز وج َّل﴿ :ﰀﰁ ﰂ ﰃﰄﰅﰆﰇﰈ﴾ [هود .]45:لذلك جاء جواب الله سبحانه يتض َّمن تصحيح ًا للمفاهيم ،ومعاتب ًة ،ووعظ ًا؛ لكيلا يكون مع الجاهلين الذين يسألون ما ليس لهم به علم. انظر الآيات في سورة (هود.)45-42: وإذا كانت هذه التربية القرآنية للأب المؤمن في صدق عاطفة الأبوة ،فإ َّنها تتك َّرر في حالة البنوة مع نبي الله إبراهيم عليه السلام وأبيه الكافر؛ إذ دعاه إلى ترك عبادة ما لا يضر ولا ينفع ،وب َّين له سبيل الهدى ،وأل َّح في النصيحة ،وأشفق عليه من العذاب الذي سيدركه إذا بقي ولي ًا للشيطان ،وعصي ًا للرحمن .وقد بدأ كل عبارة من عبارات الدعوة 240
والنصح بلفظ \"يا أبت\" التي تفيض بالشفقة والعاطفة ،في حين افتقد الأب الكافر كل ذلك ،ليرد على ابنه المؤمن باسمه ،وبألفاظ القسوة والتهديد والمفارقة﴿ .ﮫﮬﮭ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔ﴾ [مريم .]46:ومع كل ذلك ،فقد أنهى إبراهيم حواره مع أبيه مستجيب ًا لطلبه بالهجران والاعتزال ،ولك ْن بمزيد من صدق العاطفة ،والرغبة في مغفرة الله للأب﴿ .ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ﴾ [مريم.]47 : .7تع ُّلم التربية الفكرية: ما أكث َر ما في القرآن الكريم من نصوص التربية الفكرية! فمنها ما يخت ُّص بتع ُّلم المحاكمات العقلية والافتراضات النظرية التي تدعو إلى تع ُّقل الظواهر وما فيها من دلائل التوحيد والخلق الإلهي﴿ .ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭯﭰ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭸﭹﭺﭻ﴾ [القصص .]72-71:قال ابن عاشور: \"انتقال من الاستدلال على انفراده تعالى بالإلهية بصفات ذاته إلى الاستدلال على ذلك ببديع مصنوعاته ..ومن أبدع الاستدلال أ ِن اختير للاستدلال على وحدانية الله هذا الصنع العجيب المتك ِّرر كل يوم َم َّرتين ،والذي يستوي في إدراكه كل مم َّيز ،والذي هو أجلى مظاهر التغ ُّير في هذا العا َلم ...وسيق إليهم هذا الاستدلال بأسلوب تلقين النبي ص َّلى الله عليه وس َّلم أ ْن يقوله لهم اهتمام ًا بهذا التذكير لهذا الاستدلال ،ولاشتماله على ضدين متعاقبين .حتى لو كانت عقولهم قاصرة عن إدراك دلالة أحد الضدين لكان في الضد الآخر تنبيه لهم ،ولو قصروا عن حكمة كل واحد منهما كان في تعاقبهما ما يكفي للاستدلال(((\". ومن التربية الفكرية ما يخت ُّص بلفت النظر إلى المشاهد الكونية للتأ ُّمل والتف ُّكر فيما توحي به من قدرة إلهية ،وحكم عملية ،ومن ذلك قوله تعالى﴿ :ﯓﯔﯕﯖﯗ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﯴ﴾ [عبس .]32-24:قال ابن عاشور في تفسير هذه الآيات\" :وهذا استدلال آخر على تقريب كيفية البعث ،انتقل إليه في معرض الإرشاد إلى ((( المرجع السابق ،ص.169-168 241
تدارك ال ِإنسان ما أهم َله ،وكان الانتقال من الاستدلال بما في َخ ْلق الإنسان من بديع الصنع من دلائل قائمة بنفسه في آية﴿ :ﮕﮖﮗﮘ﴾ إلى الاستدلال بأحوال موجودة في بعض الكائنات شديدة الملازمة لحياة الإنسان ترسيخ ًا للاستدلال ،وتفنُّن ًا فيه ،وتعريض ًا بالمنة على ال ِإنسان في هذه الدلائل ،من نعمة النبات الذي به بقاء حياة الإنسان ،وحياة ما ينفعه من الأنعام .وتعدية فعل النظر هنا بحرف \"إلى\" تدل على أ َّنه من نظر العين ،إشار ًة إلى أ َّن العبرة تحصل بمج َّرد النظر في أطواره .والمقصود التد ُّبر فيما يشاهده الإنسان من أحوال طعامه بالاستدلال بها على إيجاد الموجودات من الأرض .و ُج ِعل المنظور إليه ذا َت الطعام مع أ َّن المراد النظر إلى أسباب تك ُّونه وأحوال تط ُّوره إلى حالة انتفاع الإنسان به ،وانتفاع أنعام الناس به(((\". وقد تك َّرر طلب النظر والسير في الأرض من أجل أ ْن يكتسب العلم في العلوم الطبيعية ،وسنن الله وقوانينه ،في حالات التح ُّول والتغ ُّير والتن ُّوع في الكائنات الحية والأشياء الجامدة ،في مثل قوله تعالى﴿ :ﯓﯔﯕﯖ﴾ [عبس ،]24:وقوله سبحانه: ﴿ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾ [الطارق ،]5:وقوله ع َّز وج َّل﴿ :ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ﴾ [يونس ،]101:وقوله ع َّز من قائل﴿ :ﮣﮤﮥﮦ ﮧﮨﮩﮪﮫ﴾ [العنكبوت،]20: وغير ذلك من آيات كثيرة. ومن التربية الفكرية طلب الدليل والبرهان فيما ُي َّدعى ،وتقديم الدليل والبرهان فيما ُيق َّدم ،والسعي في طلب الحكمة .وقد سبق أ ْن أشرنا إلى معنى \"الحكمة\" عند ك ٍّل من الراغب الأصبهاني في \"الغريب\" ،وابن ق ِّيم الجوزية في \"المدارج\". .8تع ُّلم العلوم الاجتماعية والنفسية: السير في الأرض ليس فقط لرؤية المشاهد الكونية القائمة أمام الأعين ،وما تقود إليه من علوم كونية ،وإ َّنما هو للتفكير في َمن سكنوا هذه الأرض ،وما آ َل إليه حالهم، وكيف جرت ُسنَّة الله في تداول الق َّوة والضعف وسنن تغيير الأمم والشعوب وتبديلها، وقيام الحضارات واندثارها ،وغير ذلك م ّما ينشئ علوم التاريخ والاجتماع والسياسة. ومن ذلك قوله سبحانه﴿ :ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭝﭞ ﭟ﴾ [الروم.]42: ((( المرجع السابق ،ج ،30ص.129 242
وإذا كان السير في الأرض والنظر في المشاهد والأحداث والتغ ُّيرات من أجل أ ْن يرى الناظر ما فيها من الدلائل على عظمة الله سبحانه وحكمته في الخلق ،فإ َّن الله سبحانه وعد الإنسان أ ْن يريه آياته ،ليس في الآفاق الكونية فحسب ،بل في الآفاق الاجتماعية والنفسية؛ فقد كشفت آيات القرآن الكريم عن خطرات النفوس في حالات الطاعة والمعصية ،والهدى والضلال ،والإيمان والنفاق ،والتواضع وال ِك ْبر ،والشح والإنفاق، والشجاعة والجبن ،والحب والكراهية .قال تعالى﴿ :ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ ﭘﭙ﴾ [الجاثية ،]23:وقال سبحانه﴿ :ﭦﭧﭨﭩ﴾ [الماعون ،]1:وقال ع َّز وج َّل﴿ :ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘَ﴾ [العلق ،]13-11:وقال ع َّز من قائل﴿ :ﮚﮛ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ﴾ [البقرة ،]243:وقال َج َّل في علاه﴿ :ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ﴾ [النساء ،]49:وقال الله تعالى﴿ :ﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯢ﴾ [الشعراء ،]225:وقال﴿ :ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ﴾ [المجادلة ،]14:وقال﴿ :ﭪﭫ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭼ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ﴾ [الحشر ،]11:وقال﴿ :ﮈﮉ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮚﮛ﴾ [المائدة ،]80:وقال﴿ :ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭦ﴾ [المائدة ،]83:وقال﴿ :ﭮﭯﭰ ﭱﭲﭳ﴾ [الأعراف ،]198:وقال﴿ :ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮐﮑﮒ﴾ [الأعراف ،]146:وقال﴿ :ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏﮐﮑﮒﮓ﴾ [التوبة.]126: .9تع ُّلم توظيف المعرفة العلمية: في القرآن الكريم آيات تدعو الإنسان إلى الاستدلال على قدرة الله سبحانه بمشاهد كونية يتك َّرر بعضها أمامه باستمرار ،وتستدعي النظر والتد ُّبر .ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ﴾ [الفرقان.]45: \"والاستفهام تقريري ،فهو صالح لطبقات السامعين :من غاف ٍل ُيس َأل عن غفلته ليق َّر بها تحريض ًا على النظر ،ومن جاح ٍد ُين َكر عليه إهماله النظر ،ومن م َو ّف ٍق ُيح ُّث على النظر... 243
(وفي الآية) محل العبرة والمنَّة اللتين تتناولهما عقول الناس على اختلاف مداركهم(((\". وفي هذه الآية ﴿ ﭧ ﭨ ﭩ﴾ ُفرصة للتذكير بضرورة التع ُّلم من المشاهد الكونية وتوظيفها فيما ُخ ِلقت له .فالمسألة لا يكفي أ ْن يقف المتد ِّبر فيها عند ال ُّتأمل في قدرة الله سبحانه ،وإ َّنما يمكن أ ْن يتجاوز ذلك إلى مسائل كثيرة من العلم الطبيعي .وقد اجتهد ابن عاشور في بيان بعض هذا العلم ،فقال\" :وفي وجود الظل دقائق من أحوال النظام الشمسي؛ فإ َّن الظل مقدار مح َّدد من الظلمة يحصل من حيلولة جسم بين شعاع الشمس وبين المكان الذي يقع عليه الشعاع ،فينطبع على المكان مقدار من الظل مق َّدر بمقدار كيفية الجسم الحائل بين الشعاع وبين موقع الشعاع على حسب اتجاه ذلك الجسم الحائل من جهته الدقيقة أو الضخمة ،ويكون امتداد تلك الظلمة المك ّيفة بكيفية ذلك الجسم متفاوت ًا على حسب تفاوت ُب ْعد اتجاه الأشعة من موقعها ومن الجسم الحائل، ومختلف ًا باستواء المكان وتح ُّدبه ،فذلك التفاوت في مقادير ظل الشيء الواحد هو ال ُمع َّبر عنه بالم ِّد في هذه الآية؛ لأ َّنه كلما زاد مقدار الظلمة المك ّيفة لكيفية الحائل زاد امتداد الظل .فتلك كلها دلائل كثيرة من دقائق التكوين الإلهي والقدرة العظيمة ...وهذا الامتداد يكثر على حسب مقابلة الأشعة للحائل؛ فكلما اتجهت الأشعة إلى الجسم من أخفض جهة كان الظل أوسع ،وإذا اتجهت إليه مرتفعة عنه تق َّلص ظله رويد ًا رويد ًا إلى أ ْن تصير الأشعة مسامتة أعلى الجسم ساقطة عليه ،فيزول ظله تمام ًا ،أو يكاد يزول .وهذا معنى قوله تعالى﴿ :ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾؛ أ ْي غير متزايد ،لأ َّنه ل ّما كان م ُّد الظل يشبه صورة التح ُّرك ُأط ِلق على انتفاء الامتداد اسم السكون ،بأ ْن يلازم مقدار ًا واحد ًا لا ينقص ولا يزيد؛ أ ْي لو شاء الله لجعل الأرض ثابتة في َسمت واحد ُتجاه أشعة الشمس ،فلا يختلف مقدار ظل الأجسام التي على الأرض ،و َتلزم ظلا ُلها حالة واحدة ،فتنعدم فوائد عظيمة... والدليل :المرشد إلى الطريق والهادي إليه ،فجعل الظل اختلاف مقاديره كامتداد الطريق وعلامات مقادير ،مثل ُصوى الطريق ،وجعلت الشمس من حيث كانت سبب ًا في ظهور مقادير الظل كالهادي إلى مراحل ،بطريق التشبيه البليغ ،فكما أ َّن الهادي يخبر السائر أين ينزل من الطريق ،كذلك الشمس بتس ُّببها في مقادير امتداد الظل تع ِّرف المستدل بالظل ((( المرجع السابق ،ج ،19ص.43-39 244
بأوقات أعماله ليشرع فيها ...وفي م ِّد الظل وقبضه نعم ُة معرفة أوقات النهار للصلوات وأعمال الناس ،ونعم ُة التناوب في انتفاع الجماعات والأقطار بفوائد شعاع الشمس فوائد الفيء ،بحيث إ َّن الفريق الذي كان تحت الأشعة يتب َّرد بحلول الظل ،والفريق الذي كان في الظل ينتفع بانقباضه .وهذا محل العبرة والمنَّة اللتين تتناولهما عقول الناس على اختلاف مداركهم .ووراء ذلك عبرة علمية كبرى تو ِّضحها قواعد النظام الشمسي ،وحركة الأرض حول الشمس ،وظهور الظلمة والضياء ،فليس الظل إلا أثر الظلمة ،فإ َّن الظلمة هي أصل كيفيات الأكوان ،ث َّم انبثق النور بالشمس ،ونشأ عن تداول الظلمة والنور نظام الليل والنهار ،وعن ذلك نظام الفصول وخطوط الطول والعرض للكرة الأرضية ،وبها عرفت مناطق الحرارة والبرودة(((\". وتوظيف العلم والمعرفة إ َّنما يكون بما يفيد وينفع؛ فقد ذ َّم الله سبحانه أقوام ًا تع َّلموا ما يضرهم ولا ينفعهم﴿ .ﭜﭝﭞﭟﭠ ﭡﭢﭣ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭶﭷﭸﭹﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁﮂ ﮃﮄﮅ ﮆﮈﮇ ﮉ ﮊﮋﮌﮍ﴾ [البقرة .]102:والقرآن الكريم يريد من المؤمن أ ْن يكون دائم ًا على حالة ينتفع بها ،في دنياه أو ُأخراه ،ولذلك جاء النهي عن القعود في مجالس النجوى والتآمر والكيد﴿ .ﮭﮮﮯﮰ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯙ ﯚﯛﯜ﴾ [المجادلة .]9:وكذلك النهي عن المشاركة في المجالس التي يكون فيها الحديث كفر ًا واستهزا ًء﴿ .ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ﴾ [النساء.]140: ((( المرجع السابق ،ج ،19ص.43-40 245
المبحث الثاني ال ُّسنة النبوية مصدر ًا للفكر التربوي ال ُّسنة النبوية عند علماء الحديث النبوي هي أقوال النبي ﷺ وأفعاله ،وتقريراته، وأخباره ،وصفاته ال ِخ ْلقية وال ُخ ُلقية .وعلى أساس هذا التعريف ُع ِرفت بعض كتب الحديث النبوي باسم السنن ،مثل :سنن النسائي ،وسنن أبي داود ،وسنن الترمذي ،وسنن ابن ماجة ،وغيرها. وال ُّسنة عند غير المح ِّدثين ،كالفقهاء والأصوليين والدعاة ،هي ما اختاروه لأغراضهم واهتماماتهم؛ فما َي ُه ُّم الأصوليين -مثل ًا -هو مصادر التشريع .فال ُّسنة عندهم هي الأحاديث التي ُيست َدل بها على الأحكام الشرعية؛ لأ َّن هذه الأحاديث تب ِّين طريقة فهم النبي ﷺ للدين ،وطريقة توجيهه الأُ َّمة إلى العمل بهذا الفهم .وال ُّسنة عند الفقهاء هي واحد من الأحكام الشرعية الخمسة :الواجب ،وال ُّسنة ،والمباح ،والحرام ،والمكروه. وال ُّسنة في بعض السياقات هي ما يقابل البدعة؛ فال ُّسنة ما يوافق الشرع ،والبدعة ما يخالفه. ونحن نقصد بال ُّسنة -في سياق هذا الفصلُ -حجية ما َص َّح وروده عن النبي ﷺ من توجيهات تخت ُّص بالتعليم والتربية. وموضوع التربية والفكر التربوي في ال ُّسنة النبوية مطرو ٌق بكثافة في التراث الإسلامي والكتب والبحوث الحديثة ،ونجد أ َّنه غلب على عناوينها مصطلحات \"العلم\"، و\"التع ُّلم\" ،و\"التعليم\" ،وقد ُصنِّفت كثير من الأحاديث النبوية تحت عناوين كثيرة متف ِّرعة عن هذه المصطلحات الثلاثة. أولاً :حضور ال ُّسنة النبوية في قضايا التربية في التراث والكتابات الحديثة: إ َّن موضوع العلم والتعليم والتع ُّلم في ال ُّسنة النبوية موضو ٌع واسع؛ فحين تو َّل ْت مراجع الحديث النبوي تصني َف الأحاديث وفق الموضوعات في كتب وأبواب ،جاء \"كتاب العلم\" من أهم أبواب معظم كتب الأحاديث .ففي \"صحيح البخاري\" -مثل ًا -جاء موقع كتاب العلم في الترتيب الثالث بعد كتاب بدء الوحي ،وكتاب الإيمان ،وورد في أبوابه ما يزيد على مئة حديث ،وقد نجد مئات الأحاديث الأُخرى في \"صحيح البخاري\" 246
نفسه تتصل بالعلم والعلماء والتعليم ،لك َّن المصنِّف وضعها في غير كتاب العلم؛ لما ظهر فيها من صلة بموضوعات ُأخرى؛ إذ من المعروف أ َّن الحديث النبوي ر َّبما يكون له صلة بعدد من الموضوعات ،و ُيست َدل به على أكثر من حكم. ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان ،قالُ \" :كنّا مع رسول الله ﷺ ،فقال :احصوا لي َك ْم َي ْل ُف ُظ الإسلا َم \".وفي رواية البخاري\" :اكتبوا لي َمن يلفظ بالإسلام من الناس \".ولا شك في أ َّن الكتابة والإحصاء والتدوين من أهم أدوات العلم والتعليم ،لذلك يمكن تصنيف هذا الحديث في كتاب العلم .ومع ذلك ،فقد اختار الإمام البخاري والإمام مسلم أ ْن ُيصنِّفاه في أماكن ُأخرى؛ فالحديث مهم جد ًا في توفير البيانات والسجلات الإحصائية للموارد البشرية في المجتمع ،التي َتلزم لأغراض مختلفة ،منها -مثل ًا -تحدي ُد عد ِد َمن يمكنهم المشاركة في الجهاد ،ولذلك صنَّف الإمام البخاري الحدي َث في كتاب الجهاد (((،ومنها رصد التق ُّدم في عدد المؤمنين لتنمية الشعور بالثقة والأمن ،ولذلك صنَّف الإمام مسلم الحدي َث في كتاب الإيمان(((. وحتى في مصنَّفات الحديث التي لم يخ ِّصص فيها المصنِّف كتاب ًا في العلم ،مثل \"السنن الكبرى\" للبيهقي؛ فإ َّن فيه عشرات الأحاديث ذات الصلة القوية بالعلم والتعليم ،صنَّفها البيهقي تحت عناوين مختلفة .فحديث فداء أسرى بدر بتعليم أبناء الأنصار الكتابة جاء في كتاب الفيء والغنيمة (((،وحديث استعمال النبي الخطوط لتعليم فكرة معينة وتوضيحها جاء في كتاب الجنائز (((،وحديث\" :لا حسد إلا في اثنتين ...رجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها و ُيع ِّلمها\" جاء في كتاب آداب القاضي (((،وحديث\" :إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية ،أو علم ينتفع به ،أو ولد صالح يدعو له\" جاء في كتاب الوصايا (((،وهكذا. ((( البخاري .صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :الجهاد والسير ،باب :كتاب ِة الإما ِم النا َس ،حديث رقم ،)3060( :ص.586 ((( مسلم .صحيح مسلم ،مرجع سابق ،كتاب :الإيمان ،باب :الاستسرار بالإيمان للخائف ،حديث رقم ،)149( :ص.83 ((( البيهقي ،أبو بكر أحمد بن الحسين (توفي458 :ﻫ) .السنن الكبرى ،تحقيق :محمد عبد القادر عطا ،بيروت :دار الكتب العلمية1424( ،ﻫ2003/م) ،كتاب :قسم الفيء والغنيمة ،باب :ما جاء في مفاداة الرجال منهم بالمال، حديث رقم ،)12847( :ص.523 ((( المرجع السابق ،حديث رقم ،)6505( :ج ،3ص.514 ((( المرجع السابق ،حديث رقم ،)20163( :ج ،10ص.150 ((( المرجع السابق ،حديث رقم ،)12635( :ج ،6ص.456 247
وقد تخ َّصصت بعض كتب التراث في جمع الأحاديث النبوية وآثار الصحابة والتابعين م ّما له صلة مباشرة بالعلم والتعليم ،ومن ذلك ما جمعة الحافظ ابن عبد البر في كتاب \"جامع بيان العلم وفضله\" ،والخطيب البغدادي في عدد من كتبه ،مثل :كتاب \"الرحلة في طلب العلم\" ،وكتاب \"الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع\" ،والسمعاني في كتاب \"أدب الإملاء والاستملاء\" ،وابن جماعة في كتاب \"تذكرة السامع وال ُمتك ِّلم في أدب العالِم وال ُمتع ِّلم\" ،والعلموي في كتاب \"المعيد في آداب المفيد والمستفيد\" ،والمنصور بالله الزيدي في كتاب \"آداب العلماء وال ُمتع ِّلمين\" ،والشوكاني في كتاب \"أدب الطلب ومنتهى الأرب\" ،وغيرهم كثير .بينما تض َّمنت كت ٌب ُأخرى مساحة واسعة للأحاديث النبوية ذات الصلة بالعلم ،كما فعل أبو حامد الغزالي في كتاب \"إحياء علوم الدين\"(((. وكثي ٌر من الم ْح َدثين اهتموا بحضور العلم والتعليم والتربية في الحديث النبوي، وصنَّفوا في ذلك كتب ًا مفيد ًة .وبعض هذه الكتب تناولت قضي ًة واحد ًة من قضايا التعليم، مثل :القيم (((،أو الأساليب (((،أو الطرق (((.وكان لموضوع الإعجاز في ال ُّسنة النبوية حضور كذلك (((،وحتى الذين يعيشون في ظروف تسود فيها روح الجهاد ،بحثوا في التربية الجهادية في ال ُّسنة النبوية (((.وبعضها تناول أسس التربية في ال ُّسنة النبوية ،وهو كتاب في التعليم والتربية بصورة عامة (((،أو تناول قضايا العلم والتعليم في حياة النبي ﷺ(((. ((( حاول المؤ ِّلف أ ْن يستقص َي كتب التراث الإسلامي التي تخصصت في موضوع العلم والتعليم والتربية ،أو تض َّمنت أبواب ًا أو فصولاً مق َّدرة عن الموضوع ،فبلغ عدد ما استطاع أ ْن يصل إليه ،و ُيع ِّرف به ( )108كتب .انظر: -ملكاوي ،التراث التربوي الإسلامي :حالة البحث فيه ،ولمحات من تطوره ،وقطوف من نصوصه ومدارسه، مرجع سابق ،ص.602-554 ((( أحمد ،مهدي رزق الله .والشدي ،عادل بن علي .القيم الإسلامية في السيرة النبوية ،الرياض :جامعة الملك سعود ،ط2012 ،1م. ((( أبو غدة ،عبد الفتاح .الرسول المعلم وأساليبه في التعليم ،حلب :مكتبة المطبوعات الإسلامية ،ط1992 ،1م. ((( عليان ،أحمد فؤاد .طرق التعليم التربوية في السنة النبوية ،الرياض :دار المسلم للنشر والتوزيع2000 ،م. ((( رجب ،مصطفى .الإعجاز التربوي في السنة النبوية ،كفر الشيخ :دار العلم والإيمان للنشر والتوزيع2008 ،م. ((( أبو سمهدانة ،أحمد ضيف الله عمر\" .ملامح التربية الجهادية في السنة النبوية وتطبيقاتها التربوية\"( ،أطروحة ماجستير ،في قسم أصول التربية ،الجامعة الإسلامية ،غزة2010 ،م). ((( الزنتاني ،عبد الحميد الصيد .أسس التربية الإسلامية في السنة النبوية ،طرابلس ،ليبيا :الدار العربية للكتاب، ط1993 ،2م. ((( القرضاوي ،يوسف .الرسول والعلم ،القاهرة :دار الصحوة2001 ،م . 248
ثاني ًاُ :حجية ال ُّسنة النبوية في التربية والتعليم: خضع موضوع ُحجية ال ُّسنة لكثير من الجدل ،وقيلت فيه كثير آراء ومذاهب فكرية مختلفة ،تراوحت ما بين الغلو والتقصير ،ما بين الإعلاء من شأنها حتى تكون قاضية على القرآن ،والتهوين من شأنها عند َمن يرى الاكتفاء بالقرآن .وتناول الجدل كذلك مدى صحة تقسيم ال ُّسنة النبوية إلى ُسنَّة تشريعية ،و ُسنَّة غير تشريعية ،وتقسيم تصرفات النبي ﷺ إلى أنواع ،منها :تصرفات بالرسالة ،أو الفتيا ،أو القضاء ،أو الإمامة ،وغير ذلك من التقسيمات. والذي َي ُه ُّمنا في هذا المقام مسألتان؛ ُأولاهما تأكيد أ َّن القرآن الكريم قد قضى ب ُحجية ال ُّسنة بصورة صريحة .ومع ذلك ،فإ َّن صاحب ال ُّسنة عليه الصلاة والسلام نفسه م َّيز بين ما ألزم فيها الطاعة المطلقة ،وثانيتهما ما أتاح للمسلمين فيه تداول الرأي والنظر والمراجعة وتوظيف الخبرة .ففي مسائل الزراعة تكون ال ُّسنة هي ضرورة توفير الخبرة الزراعية المتخ ِّصصة وتوظيفها ،وفي مسائل الحروب تكون ال ُّسنة هي المشاورة والأخذ بالمشورة الأقرب إلى الصواب؛ ففي غزوة بدر شاور النبي الصحابة قبل المعركة في مسألة مواجهة قريش وقتالها ،وأل َّح في طلب الرأي وهو يك ِّرر\" :أشيروا عل َّي أيها الناس\" ،حتى فهم الذين كان يعنيهم الأمر أكثر من غيرهم ،ث َّم أشاروا عليه بالاستعداد للمعركة ،واختيار الموقع الأفضل ،وأخذ بمشورتهم ،ث َّم شاورهم في الفيء والأسرى ،فاختلفت الآراء ،فاختار منها رأي ًا .فال ُّسنة الواجب ُة الا ِّتباع في هذه المواقف الثلاثة هي تطبيق مبدأ الشورى ،والبحث عن الخبرة الفضلى في كل موقف(((. إ َّن القرآن الكريم هو المرجع في تأكيد ُحجية ال ُّسنة النبوية في التربية والتعليم ،وفي سائر الموضوعات والمسائل الأُخرى في حياة الإنسان المسلم .فقد قرن القرآن الكريم طاعة الله بطاعة رسوله في عدد من صور الاقتران ،ومن ذلك ما جاء في الآيات الآتية: ((( انظر نماذج من الجدل عن موضوع \" ُحجية ال ُّسنة\" في: -العوا ،محمد سليم\" .السنة التشريعية وغير التشريعية\" ،مجلة المسلم المعاصر ،العدد الافتتاحي1974 ،م، ص.49-29 -القرضاوي ،يوسف\" .الجانب التشريعي في السنة النبوية\" ،مجلة مركز بحوث السنة النبوية ،العدد(،)3 (1408ﻫ1988/م) ،ص.105-17 -عبد الخالق ،عبد الغني .حجية السنة ،هيرندن والقاهرة :المعهد العالمي للفكر الإسلامي ودار الوفاء، (1407ﻫ1987/م). 249
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210
- 211
- 212
- 213
- 214
- 215
- 216
- 217
- 218
- 219
- 220
- 221
- 222
- 223
- 224
- 225
- 226
- 227
- 228
- 229
- 230
- 231
- 232
- 233
- 234
- 235
- 236
- 237
- 238
- 239
- 240
- 241
- 242
- 243
- 244
- 245
- 246
- 247
- 248
- 249
- 250
- 251
- 252
- 253
- 254
- 255
- 256
- 257
- 258
- 259
- 260
- 261
- 262
- 263
- 264
- 265
- 266
- 267
- 268
- 269
- 270
- 271
- 272
- 273
- 274
- 275
- 276
- 277
- 278
- 279
- 280
- 281
- 282
- 283
- 284
- 285
- 286
- 287
- 288
- 289
- 290
- 291
- 292
- 293
- 294
- 295
- 296
- 297
- 298
- 299
- 300
- 301
- 302
- 303
- 304
- 305
- 306
- 307
- 308
- 309
- 310
- 311
- 312
- 313
- 314
- 315
- 316
- 317
- 318
- 319
- 320
- 321
- 322
- 323
- 324
- 325
- 326
- 327
- 328
- 329
- 330
- 331
- 332
- 333
- 334
- 335
- 336
- 337
- 338
- 339
- 340
- 341
- 342
- 343
- 344
- 345
- 346
- 347
- 348
- 349
- 350
- 351
- 352
- 353
- 354
- 355
- 356
- 357
- 358
- 359
- 360
- 361
- 362
- 363
- 364
- 365
- 366
- 367
- 368
- 369
- 370
- 371
- 372
- 373
- 374
- 375
- 376
- 377
- 378
- 379
- 380
- 381
- 382
- 383
- 384
- 385
- 386
- 387
- 388
- 389
- 390
- 391
- 392
- 393
- 394
- 395
- 396
- 397
- 398
- 399
- 400
- 401
- 402
- 403
- 404
- 405
- 406
- 407
- 408
- 409
- 410
- 411
- 412
- 413
- 414
- 415
- 416
- 417
- 418
- 419
- 420
- 421
- 422
- 423
- 424
- 425
- 426
- 427
- 428
- 429
- 430
- 431
- 432
- 433
- 434
- 435
- 436
- 437
- 438
- 439
- 440
- 441
- 442
- 443
- 444
- 445
- 446
- 447
- 448
- 449
- 450
- 451
- 452
- 453
- 454
- 455
- 456
- 457
- 458
- 459
- 460
- 461
- 462
- 463
- 464
- 465
- 466
- 467
- 468
- 469
- 470
- 471
- 472
- 473
- 474
- 475
- 476
- 477
- 478
- 479
- 480
- 481
- 482
- 483
- 484
- 485
- 486
- 487
- 488
- 489
- 490
- 491
- 492
- 493
- 494
- 495
- 496
- 497
- 498
- 499
- 500
- 501
- 502
- 503
- 504
- 505
- 506
- 507
- 508
- 509
- 510
- 511
- 512
- 513
- 514
- 515
- 516
- 517
- 518
- 519
- 520
- 521
- 522
- 523
- 524
- 525
- 526
- 527
- 528
- 529
- 530
- 531
- 532
- 533
- 534
- 535
- 536
- 537
- 538
- 539
- 540
- 541
- 542
- 543
- 544
- 545
- 546
- 547
- 548
- 549
- 550
- 551
- 552
- 553
- 554
- 555
- 556
- 557
- 558
- 559
- 560
- 561
- 562
- 563
- 564
- 565
- 566
- 567
- 568
- 569
- 570
- 571
- 572
- 573
- 574
- 575
- 576
- 577
- 578
- 579
- 580
- 581
- 582
- 583
- 584
- 585
- 586
- 587
- 588
- 589
- 590
- 591
- 592
- 593
- 594
- 595
- 596
- 597
- 598
- 599
- 600
- 601
- 602
- 603
- 604
- 605
- 606
- 607
- 608
- 609
- 610
- 611
- 612
- 613
- 614
- 615
- 616
- 617
- 618
- 619
- 620
- 621
- 622
- 623
- 624
- 625
- 626
- 627
- 628
- 629
- 630
- 631
- 632
- 633
- 634
- 635
- 636
- 637
- 638
- 639
- 640
- 641
- 642
- 643
- 644
- 645
- 646
- 647
- 648
- 649
- 650
- 651
- 652
- 653
- 654
- 655
- 656
- 657
- 658
- 659
- 660
- 661
- 662
- 663
- 664
- 665
- 666
- 1 - 50
- 51 - 100
- 101 - 150
- 151 - 200
- 201 - 250
- 251 - 300
- 301 - 350
- 351 - 400
- 401 - 450
- 451 - 500
- 501 - 550
- 551 - 600
- 601 - 650
- 651 - 666
Pages: