Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

Published by آيه الشوابكه, 2021-04-03 00:56:36

Description: الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

Search

Read the Text Version

‫وحجم الش َّقة بين العامة والخاصة في المجتمع‪ ،‬وانعكاسات ذلك على الفكر التربوي‬ ‫الذي ساد بعض عصور الإسلام‪(((.‬‬ ‫القسم الثاني‪ :‬المؤسسات والممارسات التربوية‪:‬‬ ‫أشرف على تنفيذ هذا القسم المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل‬ ‫البيت) في الأردن‪ ،‬وجاءت أعماله في أربعة مجلدات‪ُ ،‬ن ِشرت عام ‪1989‬م‪ (((.‬وقد احتوى‬ ‫الجزء الأول على تسعة فصول شملت‪ :‬التربية العربية قبل الإسلام‪ ،‬والتربية ومؤسسات‬ ‫التعليم منذ عصر السيرة والراشدين حتى القرن الرابع الهجري‪ ،‬والتعليم في الأندلس وفي‬ ‫المغرب العربي بين القرنين الثالث والخامس الهجريين‪ ،‬وعند الفاطميين‪ ،‬ودور المجالس‬ ‫والحلقات في التربية الإسلامية حتى القرن الخامس الهجري‪ .‬وتك َّون الجزء الثاني من‬ ‫خمسة فصول تح َّدثت عن تاريخ المدرسة‪ ،‬مع التركيز على النظاميات‪ ،‬ومؤسسات التعليم‬ ‫في العراق في القرنين الخامس والسابع الهجريين‪ ،‬وعند المرابطين والموحدين‪ ،‬وفي‬ ‫الأندلس من القرن الخامس الهجري حتى سقوط الأندلس‪ ،‬وزمن الأيوبيين والمماليك في‬ ‫بلاد الشام‪ .‬وض َّم الجزء الثالث تسعة فصول تح َّدثت عن التعليم في مصر زمن المماليك‪،‬‬ ‫والتعليم في المغرب زمن السعديين والعلويين‪ ،‬والأوقاف والتعليم في مصر زمن الأيوبيين‬ ‫والمماليك‪ ،‬والأوقاف في بيت المقدس‪ ،‬والتعليم الطبي في الإسلام‪ ،‬والتربية عند الإباضية‪،‬‬ ‫ومدخل إلى معرفة هجر العلم في اليمن‪ ،‬وجامع القرويين‪ ،‬وجامع الزيتونة‪.‬‬ ‫أ ّما الجزء الرابع فقد احتوى على ثمانية فصول تح َّدثت عن المحاضر الشنقيطية ودورها‬ ‫في نشر العلم‪ ،‬ودور المسلمين الثقافي والتربوي في غربي إفريقية من القرن الخامس إلى‬ ‫((( انظر مثا ًلا على تفاصيل ما َن ُع ُّده مبالغ ًة في تعبيرات بعض الباحثين عن التما ُيز بين المدرسة العقلية والمدرسة‬ ‫النقلية‪ ،‬في‪:‬‬ ‫‪ -‬رضا‪ ،‬محمد جواد‪\" .‬التيارات الكبرى في الفكر التربوي العربي الإسلامي\"‪ ،‬الباب الرابع من‪ :‬الفكر التربوي العربي‬ ‫الإسلامي‪ :‬الأصول والمبادئ‪ ،‬تونس‪ :‬المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم‪1987 ،‬م‪ ،‬ص‪.716-582‬‬ ‫وقد ناقشنا مسألة المبالغة مع الحرص كذلك على عدم تهوين الأثر السلبي لبعض الممارسات التعليمية التي‬ ‫لا خلاف على أ َّنها كانت انحراف ًا عن توجيهات القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ومقاصدهما في التعليم‪ .‬انظر في ذلك‪:‬‬ ‫‪ -‬ملكاوي‪ ،‬التراث التربوي الإسلامي‪ :‬حالة البحث فيه‪ ،‬ولمحات من تطوره‪ ،‬وقطوف من نصوصه ومدارسه‪،‬‬ ‫مرجع سابق‪ ،‬الفصل السادس‪ :‬بعض الرؤى التحليلية لنصوص التراث التربوي الإسلامي‪ ،‬ص‪.442-375‬‬ ‫((( الدوري‪ ،‬عبد العزيز‪ .‬وعباس‪ ،‬إحسان (مح ِّرران)‪ .‬التربية العربية الإسلامية‪ :‬المؤسسات والممارسات‪ ،‬ع ّمان‪:‬‬ ‫المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت)‪1990-1989 ،‬م‪ ،‬أربعة أجزاء‪.‬‬ ‫‪200‬‬

‫القرن الثامن الهجري‪ ،‬وتاريخ التعليم الإسلامي في غربي إفريقية قبل الاستعمار‪ ،‬والتعليم‬ ‫في العراق من أواخر القرن التاسع عشر إلى العقود الأُولى من القرن العشرين الميلادي‪،‬‬ ‫ودور جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت في التعليم‪ ،‬والتعليم في الحجاز في‬ ‫القرن الثالث عشر والنصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري‪ ،‬والتعليم في السودان في‬ ‫القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين‪ ،‬وأخير ًا النموذج الإسلامي للتربية‪.‬‬ ‫القسم الثالث‪ :‬من أعلام التربية العربية الإسلامية‪:‬‬ ‫يضم هذا القسم أربعة مجلدات‪ ،‬أشرف على إعداد مادتها ونشرها مكتب التربية‬ ‫العربي لدول الخليج‪ ،‬و ُن ِشرت سنة ‪1988‬م‪ (((،‬وهو خلاصة عدد من الدراسات‬ ‫المتخ ِّصصة لمجموعة من أعلام الإسلام في جميع أنماط المدارس الفكرية‪ :‬الفقهية‪،‬‬ ‫والحديثية‪ ،‬والفلسفية‪ ،‬والصوفية‪ ،‬والاجتماعية؛ فهي تشمل الفقهاء‪ ،‬والمر ّبين‪ ،‬والأدباء‪،‬‬ ‫والفلاسفة‪ ،‬وعلماء الأخلاق‪ ،‬والمؤ ِّرخين‪ ،‬وسواهم‪ .‬وقد بلغ عدد َمن تناولتهم هذه‬ ‫الدراسات اثنتين وأربعين شخصية‪ ،‬كان من بينهم عدد من الصحابة‪.‬‬ ‫اشتمل الجزء الأول على عشر دراسات عن أعلام الإسلام في التربية منذ القرن‬ ‫الأول الهجري حتى قرب نهاية القرن الثالث الهجري‪ ،‬وتض َّمن الجزء الثاني دراسات‬ ‫عن أحد عشر َع َلم ًا من أعلام القرنين الرابع والخامس الهجريين‪ ،‬وتض َّمن الجزء الثالث‬ ‫دراسات عن عشرة أعلام من بدايات القرن السادس الهجري حتى القرن الثامن الهجري‪،‬‬ ‫وتناول الجزء الرابع الحقبة الزمنية اللاحقة‪ ،‬بدء ًا من منتصف القرن الثامن حتى مطلع‬ ‫القرن العشرين‪ ،‬وتض َّمن الحديث فيها عن أحد عشر َع َلم ًا من أعلام الفكر التربوي‪.‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬الأطروحات والرسائل الجامعية التربوية‪:‬‬ ‫فيما يخ ُّص الأطروحات والرسائل الجامعية لطلبة الدراسات العليا‪ ،‬فقد شهد الثلث‬ ‫الأخير من القرن العشرين تأسيس مئات الجامعات في الوطن العربي؛ إذ بلغ عدد الجامعات‬ ‫المسجلة في اتحاد الجامعات العربية ‪ 331‬جامعة‪ .‬أ ّما عدد الجامعات المكتملة العضوية في‬ ‫اتحاد جامعات العا َلم الإسلامي فزاد على ‪ 322‬جامعة‪ .‬ومن المؤ َّكد أ َّن عدد هذه الجامعات‬ ‫في زيادة مضطردة‪.‬‬ ‫((( مكتب التربية العربي لدول الخليج‪ .‬من أعلام التربية العربية الإسلامية‪ ،‬الرياض‪ :‬مكتب التربية العربي لدول‬ ‫الخليج‪1989-1988 ،‬م‪ ،‬أربعة مجلدات‪.‬‬ ‫‪201‬‬

‫وقد أشرف المعهد العالمي للفكر الإسلامي على إعداد بعض الك ّشافات في مجال‬ ‫التربية والاقتصاد في عدد من البلدان‪ ،‬ونذكر ‪-‬مثل ًا‪ -‬على هذه الكشافات المرجعية‪ ،‬ما‬ ‫أنجزه المعهد العالمي للفكر الإسلامي (مكتب الأردن) من إحصاء وتحليل للبحوث التي‬ ‫صدرت عن ميدان التربية الإسلامية في الأردن حتى عام ‪2010‬م‪ (((.‬وقد َتب َّين وجود ما‬ ‫يزيد على مئتي رسالة جامعية نوقشت في الجامعات الأردنية وحدها في موضوع التراث‬ ‫التربوي‪ ،‬تتو َّزع بين رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه‪ .‬وكان المعهد العالمي للفكر‬ ‫الإسلامي قد أصدر عام ‪1993‬م مرجع ًا للأطروحات الجامعية عن التربية الإسلامية‬ ‫في الجامعات المصرية والسعودية‪ (((،‬و َتب َّين وجود مئ ٍة وخمس وسبعين رسالة جامعية‬ ‫نوقشت في الجامعات المصرية‪ ،‬وثلا ٍث وثمانين رسالة نوقشت في المملكة العربية‬ ‫السعودية حتى تاريخ نشر الكتاب عام ‪1993‬م‪ .‬ولع َّل آخر ما ا َّطلعنا عليه هو دليل رسائل‬ ‫التربية الإسلامية في الجامعات المصرية في الم َّدة (‪2011-1990‬م)‪ ،‬وقد جاء فيه توثيق‬ ‫لمئة وسبعين رسالة ماجستير ودكتوراه في التربية الإسلامية‪ ،‬أمكن تمييز عشرين رسالة‬ ‫منها في موضوعات التراث التربوي الإسلامي‪(((.‬‬ ‫ولا ي َّتسع المقام للنظر التفصيلي في هذه الأطروحات‪ ،‬وهي على أنماط ِع َّدة؛ منها‬ ‫ما يتح َّدث عن جهود َع َلم واحد من أعلام التراث التربوي الإسلامي‪ ،‬ومنها ما يتح َّدث‬ ‫عن المذاهب الفقهية أو العقائدية‪ ،‬ومنها ما يتح َّدث عن حقبة زمنية مح َّددة‪ .‬وقد جاءت‬ ‫هذه الأطروحات من كليات وأقسام جامعية متن ِّوعة‪ ،‬منها‪ :‬الفقه‪ ،‬والحديث‪ ،‬والتفسير‪،‬‬ ‫والفلسفة‪ ،‬واللغة‪ ،‬والأدب‪.‬‬ ‫ومن هذه الأطروحات ما يمكن تصنيفه ضمن الكتابات التربوية‪ ،‬مثل‪ :‬كتاب‬ ‫الزرنوجي‪ ،‬والقابسي‪ ،‬والغزالي‪ ،‬والعلموي‪ ،‬وابن سينا‪ ،‬وابن جماعة‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬كما‬ ‫((( الجلاد‪ ،‬ماجد زكي (إعداد وتحرير)‪ .‬البحث العلمي في التربية الإسلامية في الأردن‪ :‬دراسة تحليلية ببليوغرافية‪،‬‬ ‫هرندن وع ّمان‪ :‬المعهد العالمي للفكر الإسلامي ودار ورد للنشر والتوزيع‪2011 ،‬م‪.‬‬ ‫((( النقيب‪ ،‬عبد الرحمن (إعداد وتحرير)‪ .‬دليل مستخلصات الرسائل الجامعية في التربية الإسلامية بالجامعات‬ ‫المصرية والسعودية‪ ،‬هرندن‪ :‬المعهد العالمي للفكر الإسلامي‪1994 ،‬م‪.‬‬ ‫((( رجب‪ ،‬مصطفى (مح ِّرر)‪ .‬دليل رسائل التربية الإسلامية في الجامعات المصرية من (‪2011 -1990‬م)‪،‬‬ ‫القاهرة‪ :‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪2016 ،‬م‪.‬‬ ‫‪202‬‬

‫شملت علماء ُع ِرفوا بالفقه‪ ،‬أو الحديث‪ ،‬أو التاريخ‪ ،‬أو غيره‪ ،‬ولم تخ ُل كتاباتهم من‬ ‫تضمينات تربوية واضحة‪ ،‬مثل‪ :‬أبي حنيفة‪ ،‬ومالك‪ ،‬والجاحظ‪ ،‬وابن خلدون‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬ ‫فاللافت أ َّن معظم العلماء في تاريخنا الإسلامي كانوا يكتبون عن فضل العلم والتع ُّلم‬ ‫والتعليم‪ ،‬وكانوا يجلسون للتعليم؛ سواء كان هذا العلم فقه ًا‪ ،‬أو حديث ًا‪ ،‬أو تفسير ًا‪ ،‬أو‬ ‫لغ ًة‪ ،‬أو غير ذلك‪ .‬وعلى هذا الاعتبار يمكن أ ْن َن ُع َّد معظم علماء الأُ َّمة ضمن فئة التربويين‬ ‫بالمعنى العام للتربية‪ ،‬وأ َّن كتاباتهم ُت َع ُّد سبق ًا تاريخي ًا في مفاهيم التربية وفروعها‪ ،‬التي لم‬ ‫تكن قد تمايزت وتح َّددت على الصورة التي نعرفها اليوم‪.‬‬ ‫وقد اهت َّمت بعض الرسائل الجامعية بالممارسات التعليمية الخاصة بالمذاهب‬ ‫الفقهية أو العقائدية‪ ،‬وتح َّدث بعضها عن الجوانب التربوية في عصر من عصور التاريخ‬ ‫الإسلامي‪ ،‬أو مصر من أمصاره‪.‬‬ ‫ثالث ًا التراث التربوي في المجلات الدورية‪:‬‬ ‫يصعب حصر ما ُن ِشر من بحوث التراث التربوي في المجلات العلمية؛ نظر ًا لعدم‬ ‫وجود ُن ُظم فهرسة وتكشيف تتصف بالاستقصاء والشمول‪ .‬ث َّم إ َّن بعض هذه المجلات‬ ‫متخ ِّصصة في البحوث التربوية التي قد تتض َّمن بعض قضايا التراث‪ ،‬وبعضها مجلات جامعية‬ ‫عامة‪ ،‬تنشر موضوعات مختلفة‪ ،‬قد يكون منها بعض البحوث التربوية ذات الصلة بالتراث‪.‬‬ ‫وقد تم َّكنّا من الا ِّطلاع على جميع أعداد بعض الدوريات منذ بدء صدورها؛ لتمييز‬ ‫ما يخت ُّص بالتراث التربوي الإسلامي‪ ،‬وسبق أ ْن أشرنا إلى ما وجدناه‪ (((.‬وقد لاحظنا‬ ‫أ َّن التن ُّوع الذي أشرنا إليه في الأطروحات الجامعية يتك َّرر في بحوث الدوريات؛ فمنه‬ ‫بحوث اخت َّصت بشخصيات علمية ذات إسهام تربوي‪ ،‬مثل‪ :‬ابن سحنون‪ ،‬والقابسي‪،‬‬ ‫والغزالي‪ ،‬وابن خلدون‪ ،‬وغيرهم‪ .‬ومنه تحليل ودراسة للمحتوى التربوي أو التعليمي في‬ ‫كتب الحديث والفقه والتصوف والتاريخ‪ ،‬مثل‪ :‬تحليل كتاب العلم في صحيح البخاري‪.‬‬ ‫ومنه بحوث عن الحالة التعليمية في بلد معين في عصر معين‪ ،‬مثل‪ :‬بلاد الشام في العهد‬ ‫الأموي‪ ،‬ومصر في عهد الفاطميين‪ .‬ومنه دراسة لموضوع تربوي معين‪ ،‬مثل‪ :‬تأديب‬ ‫الطفل بالضرب في الفكر التربوي الإسلامي‪.‬‬ ‫((( ملكاوي‪ ،‬التراث التربوي الإسلامي‪ :‬حالة البحث فيه‪ ،‬ولمحات من تطوره‪ ،‬وقطوف من نصوصه ومدارسه‪،‬‬ ‫مرجع سابق‪ ،‬ص‪.164-161‬‬ ‫‪203‬‬

‫رابع ًا‪ :‬التراث التربوي الإسلامي في الكتب المنشورة‪:‬‬ ‫شهد العا َلم العربي والإسلامي في الربع الأخير من القرن العشرين تو ُّسع ًا كبير ًا في‬ ‫التعليم العام والتعليم الجامعي‪ ،‬وتزايدت الحاجة إلى تأسيس كليات التربية في الجامعات‬ ‫لإعداد المتخ ِّصصين في المهن التربوية؛ من‪ُ :‬مع ِّلمين‪ ،‬ومديرين‪ ،‬ومشرفين‪ ،‬وما َيلزمهم من‬ ‫برامج وكتب دراسية‪ .‬ومع الانفراج النسبي في الحريات العامة الذي شهدته بلدان العا َلم‬ ‫العربي والإسلامي في الم َّدة المشار إليها‪ ،‬وظهور ما ُس ِّمي الصحوة الإسلامية‪ ،‬نشط بعض‬ ‫أساتذة الجامعات في نشر أعمالهم؛ سواء كانت في الأساس أطروحاتهم الجامعية‪ ،‬أو‬ ‫البحوث التي سبق أ ْن ُن ِشرت في المجلات الدورية‪ ،‬ولو لتلبية متط َّلبات مساقات دراسية‬ ‫جامعية مح َّددة‪ .‬وكان للفكر التربوي الإسلامي نصيب ملموس في هذا المجال‪ ،‬وكان لافت ًا‬ ‫أ َّن الفكر التربوي الإسلامي تح َّدث غالب ًا عن الفكر الذي ساد بلدان العا َلم الإسلامي في‬ ‫العصور المختلفة‪ ،‬وهو ما يدخل تحت عنوان \"التراث\" في اصطلاحنا‪.‬‬ ‫و ُنن ِّوه في هذا المقام أ َّن ما ُذ ِكر عن الجهود المشتركة في دراسة التراث للمنظمة العربية‬ ‫للتربية والعلوم والثقافة‪ ،‬ومكتب التربية لدول الخليج العربي‪ ،‬والمجمع الملكي لبحوث‬ ‫الحضارة الإسلامية؛ قد صدرت ‪-‬في نهاية المطاف‪ -‬في كتب نشرتها المؤسسات الثلاث‪،‬‬ ‫ولم تل َق العناية التجارية التي ُتس ِّوقها‪ ،‬فبقيت دائرة الاهتمام بها والاستفادة منها محدود ًة‪.‬‬ ‫وقد ُع ِرف محمود قمبر في ميدان للتراث التربوي الإسلامي؛ إذ نشر مجموع ًة من‬ ‫البحوث‪ ،‬ث َّم جمعها في سلسلة من ثلاثة مجلدات‪ ،‬بعنوان \"دراسات تراثية في التربية‬ ‫الإسلامية\"‪ ،‬وتم َّيزت دراساته بنظرات تحليلية نقدية لم نجدها بالقدر نفسه من الاستقصاء‬ ‫عند غيره‪(((.‬‬ ‫ونظر ًا لل ُب ْعد التجاري في مسألة نشر الكتب؛ فقد اهت َّمت دور النشر بالمؤ َّلفات‬ ‫والدراسات المتع ِّلقة بالتربية الإسلامية والتراث التربوي الإسلامي‪ ،‬وق َّلما توجد دار‬ ‫نشر أو مكتبة‪ ،‬تهتم بالنشر والتوزيع في جميع الدول‪ ،‬ليس لها مصنَّف أو أكثر عن هذا‬ ‫الموضوع‪ ،‬مع ملاحظة أ َّن هناك بعض المكتبات التي تهتم بموضوع التربية أكثر من‬ ‫غيرها؛ نظر ًا لصلتها الوثيقة بمؤ ِّلف متخ ِّصص في التربية‪ ،‬ينشر معظم كتبه عن طريقها‪.‬‬ ‫((( قمبر‪ ،‬محمود‪ .‬دراسات تراثية في التربية الإسلامية‪ ،‬الدوحة‪ :‬دار الثقافة‪ ،‬ثلاثة مجلدات صدرت في الأعوام‪:‬‬ ‫‪1985‬م‪ ،‬و‪1987‬م‪ ،‬و‪1992‬م‪.‬‬ ‫‪204‬‬

‫وبعض هذه الكتب هي تحقيق ودراسة تفصيلية لكتاب واحد أو أكثر من كتب التراث‬ ‫التربوي الإسلامي‪ ،‬وقد تكون في الأساس أطروحة جامعية‪ ،‬والأمثلة على ذلك كثيرة‪،‬‬ ‫منها كتاب الأهواني‪ (((.‬وبعض هذه الكتب مختارات من نصوص تراثية تربوية مح َّددة من‬ ‫دون تعليق أو شرح‪ ،‬ومثالها كتاب محمد ناصر‪ (((.‬ومن هذه الكتب ما هو مختارات قصيرة‬ ‫من بعض كتب التراث‪ ،‬ولك َّن هذه المختارات مصنَّفة وفق موضوعات التراث التربوي‪،‬‬ ‫مثل‪ :‬آداب العالِم في نفسه‪ ،‬وفي علمه‪ ،‬ومع ال ُمتع ِّلمين‪ ،‬وآداب ال ُمتع ِّلم‪ ،‬ومبادئ التربية‪،‬‬ ‫ومبادئ في علم النفس ‪(((. ...‬‬ ‫وبعض هذه الكتب مشروع يتصف بالشمول والتكا ُمل في استيعاب عدد أكبر من كتب‬ ‫التراث؛ تحقيق ًا‪ ،‬ودراس ًة‪ ،‬ونشر ًا للنصوص‪ .‬وم َّمن ُع ِرف في هذا المجال عبد الأمير شمس‬ ‫الدين‪ ،‬الذي أع َّد (أو أشرف على إعداد) ثلاثة عشر كتاب ًا‪ ،‬ك ٌّل منها يخت ُّص بمرجع واحد‬ ‫من مراجع التراث مثل السمعاني‪ ،‬أو مرجعين مثل ابن سحنون والقابسي‪ ،‬أو ثلاثة مراجع‬ ‫مثل الجاحظ وابن المقفع وعبد الحميد الكاتب‪ ،‬وهكذا‪ .‬وقد غ َّطت ما س ّماه شمس الدين‬ ‫قطاعات التربية الإسلامية‪ :‬الفقهية‪ ،‬والفلسفية‪ ،‬والأدبية‪ ،‬والكلامية‪ ،‬وغيرها‪(((.‬‬ ‫ومن قبيل العمل الموسوعي في ميدان التراث الفكري الإسلامي‪ ،‬ما أنجزه محمد‬ ‫العربي الخطابي‪ ،‬بعنوان \"موسوعة التراث الفكري العربي الإسلامي\"‪ ،‬وض َّمنه نصوص ًا‬ ‫تراثي ًة في التعليم‪ ،‬والسياسة‪ ،‬والأخلاق‪ ،‬والآداب‪ ،‬والفلسفة‪ ،‬ومناهج البحث‪ ،‬وغير ذلك‪(((.‬‬ ‫وقد تم َّيز سعيد إسماعيل علي في كتاباته عن التربية بالجمع بين الا ِّطلاع على ال ُب ْعد‬ ‫التاريخي للتعليم في الحضارات البشرية‪ ،‬والإحاطة بالتراث الإسلامي في شخصياته‬ ‫ومصنَّفاته وتياراته‪ ،‬مع الاحتفاظ بالوعي على الواقع المعاصر‪ ،‬ومتط َّلبات إصلاحه‪.‬‬ ‫((( الأهواني‪ ،‬التربية في الإسلام‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.380‬‬ ‫((( ناصر‪ ،‬محمد‪ .‬في الفكر التربوي العربي الإسلامي‪ ،‬الكويت‪ :‬وكالة المطبوعات للنشر‪1977 ،‬م‪ ،‬وهو عشرة‬ ‫نصوص مختارة من التراث التربوي الإسلامي‪.‬‬ ‫((( النجادي‪ ،‬فاضل عباس علي‪ .‬آداب العالم والمتعلم في التراث العربي الإسلامي‪ ،‬دمشق‪ :‬دار القلم‪2012 ،‬م‪ ،‬ص‪.544‬‬ ‫((( صدرت هذه الكتب عن دور نشر متف ِّرقة‪ ،‬لكنَّها صدرت جميع ًا عن دار اقرأ‪ ،‬و َم َّر ًة ُأخرى عن الشركة العالمية للكتاب‪.‬‬ ‫((( الخطابي‪ ،‬محمد العربي‪ .‬موسوعة التراث الفكري العربي الإسلامي‪ ،‬بيروت‪ :‬دار الغرب الإسلامي‪1998 ،‬م‪،‬‬ ‫وجاء في مجلدين‪ ،‬من ‪ 872‬صفحة‪.‬‬ ‫‪205‬‬

‫وقد نشر في ذلك عشرات الكتب‪ ،‬منها موسوعتان‪ :‬الأُولى عن التط ُّور الحضاري للتربية‬ ‫الإسلامية بصورة عامة‪ (((،‬والثانية عن موسوعة التط ُّور الثقافي للتعليم في مصر‪(((.‬‬ ‫وأخير ًا‪ ،‬فإ َّننا نو ُّد أ ْن نؤ ِّكد َم َّر ًة ُأخرى أ َّننا لم نكن نقصد في هذه الفقرة عن الكتابات‬ ‫المعاصرة عن التراث التربوي الإسلامي شيئ ًا من الإحاطة والاستيعاب؛ فذلك أمر‬ ‫متع َّذر حتى لو أردناه‪ .‬بل كان المقصود أ ْن نشير ‪-‬في سياق هذا الفصل‪ ،‬وحدوده في هذا‬ ‫الكتاب‪ -‬إلى أ َّن َث َّمة مصاد َر ومراجع مهمة في الموضوع‪ ،‬تستحق التنويه بها‪ ،‬ولكنَّها ‪-‬في‬ ‫الوقت نفسه‪ -‬لا تكفي لإغلاق الباب دون المزيد من الأعمال التحليلية الناقدة التي تأخذ‬ ‫ما سبق إنجازه بالحسبان‪ ،‬وتتل َّمس كثير ًا من الثغرات والمساحات التي تستحق المزيد من‬ ‫جهود الباحثين‪.‬‬ ‫خاتمة‪:‬‬ ‫ل ّما كان التراث التربوي الإسلامي واحد ًا من المصادر التي نسعى إلى بناء فكرنا‬ ‫التربوي الإسلامي بالاعتماد عليها‪ ،‬فقد حاولنا في هذا الفصل تقديم عرض موجز عن‬ ‫مفهوم هذا التراث‪ ،‬ومسارات تط ُّوره‪ ،‬وتع ُّدد أعلامه‪ ،‬وتن ُّوع مناهج مصنَّفاته‪ ،‬وحالة‬ ‫البحث المعاصر فيه‪ .‬وقد وجدنا أ َّن التراث التربوي لا يقتصر على المصنَّفات التي‬ ‫تناولت موضوع التربية والتعليم منفرد ًا‪ ،‬وإ َّنما امت َّد ليشمل كثير ًا م ّما كتبه علماء المسلمين‬ ‫في مؤ َّلفاتهم عن الآداب‪ ،‬أو الأخلاق‪ ،‬أو العلوم‪ ،‬أو الشخصيات العلمية التي أسهمت‬ ‫في حركة العلم‪ ،‬أو المؤسسات التي كانت تحتضن مجالس العلم ور ّواده‪ .‬وقد أمكننا‬ ‫الا ِّطلاع على عدد من مصنَّفات التراث‪ ،‬م ّما تناولته أيدي الباحثين بالتحقيق والنشر‪ .‬ومن‬ ‫المؤ َّكد أ َّن ما لم تصل هذه الأيدي إليه‪ ،‬م ّما هو في خزائن المخطوطات في بلدان العا َلم‪،‬‬ ‫هو أكثر من ذلك بكثير‪ ،‬فضل ًا ع ّما ضاع من التراث‪ ،‬و ُأت ِلف قصد ًا أو إهمالاً‪.‬‬ ‫وقد اصطلحنا على أ ْن يقتصر مفهوم \"التراث\" على ما كتبه علماء المسلمين بدء ًا من‬ ‫عهد التدوين‪ ،‬على اعتبار أ َّن القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ليسا من التراث‪ .‬ورأينا كيف أ َّن‬ ‫((( علي‪ ،‬سعيد إسماعيل‪ .‬موسوعة التطور الحضاري للتربية الإسلامية‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار السلام‪2010 ،‬م‪ ،‬خمسة مجلدات‪.‬‬ ‫((( علي‪ ،‬سعيد إسماعيل‪ .‬موسوعة التطور الثقافي للتعليم في مصر‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار السلام‪2010 ،‬م‪ ،‬خمسة مجلدات‪.‬‬ ‫‪206‬‬

‫نشأة التراث التربوي صاحبت نشأة العلوم في المجتمع الإسلامي؛ فهذه العلوم نشأت‬ ‫وتط َّورت في مجالس العلم والتعليم‪ .‬وكل هذه المجالس ‪-‬على تع ُّدد أماكنها‪ ،‬وتن ُّوع‬ ‫موضوعاتها‪ -‬كان فيها عالِم و ُمتع ِّلم ومادة للعلم‪ ،‬وكانت تن َّظم وفق آداب وأخلاقيات‬ ‫معينة‪ ،‬وتستهدف توجيه سلوك الإنسان في مجالات التع ُّلم‪ ،‬والتعليم‪ ،‬والتنشئة‬ ‫الاجتماعية‪ ،‬والتزكية النفسية‪ ،‬والأخلاق الفاضلة‪ ،‬إضاف ًة إلى ضبط تعاملات المجتمع‬ ‫في أحواله الشخصية‪ ،‬والاجتماعية‪ ،‬والاقتصادية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬وغيرها‪ .‬والعلوم التي كان‬ ‫العلماء يكتبونها ث َّم يع ِّلمونها هي فكرهم التربوي في زمانهم‪ .‬وما إ ْن يأتي الزمان اللاحق‬ ‫حتى يصبح ذلك الفكر تراث ًا للأجيال اللاحقة‪ ،‬ويأتي جيل جديد من العلماء‪ ،‬فيتعاملون‬ ‫مع ما وصلهم من التراث‪ ،‬ويجتهدون فيه تعديل ًا وإضاف ًة واستجاب ًة لمتط َّلبات زمانهم‪،‬‬ ‫فينمو الفكر‪ ،‬ويتط َّور التراث‪.‬‬ ‫وظاهرة التن ُّوع في التراث التربوي الإسلامي تأخذ مسارات مختلفة؛ فمن التراث‬ ‫ما كان اجتهاد ًا في تحديد الممارسات المعيارية للتعليم والتنشئة التربية والتأديب في‬ ‫المجتمع المسلم‪ ،‬استناد ًا إلى مرجعية الوحي الإلهي والهدي النبوي‪ ،‬فكان ذلك اجتهاد ًا‬ ‫في تنزيل النصوص والاحتكام إليها‪ .‬ومن التراث ما كان وصف ًا للممارسات التعليمية التي‬ ‫شهدها المؤ ِّلف في زمانه ومكانه‪ ،‬فأصبح ‪-‬فيما بعد‪ -‬مصدر ًا تاريخي ًا مهم ًا للعلوم التي‬ ‫كانت ُتد َّرس‪ ،‬والكتب التي كانت ُتق َرأ‪ ،‬والمؤسسات التي احتضنت التعليم‪.‬‬ ‫والتن ُّوع الذي وجدناه في التراث التربوي الإسلامي كشف عن ظاهرة مهمة‪ ،‬هي‬ ‫أ َّن حقل التربية والتعليم في التاريخ الإسلامي لم يقتصر على فئة من العلماء تخ َّصصوا‬ ‫في التعليم‪ ،‬وإ َّنما كان كل َمن يحمل علم ًا يجلس لتعليمه‪ ،‬و ُيؤ ِّلف كتب ًا فيه‪ ،‬أو ُي ْمليه على‬ ‫تلاميذه فيكتبونه‪ ،‬وتكون مهمته في التعليم احتساب ًا وطلب ًا لثواب الله سبحانه‪ ،‬أو إصلاح ًا‬ ‫وتنمي ًة لواقع مجتمعه‪ ،‬أو مهن ًة يكتسب منه معاشه‪ .‬وضمن هذا التع ُّدد في اهتمامات‬ ‫العلماء وجدنا موضوعات التعليم قد شملت ما كان يحتاج إليه المجتمع المسلم من‬ ‫علم بالقرآن الكريم‪ ،‬والحديث النبوي‪ ،‬والعقيدة‪ ،‬والفقه‪ ،‬والأدب‪ ،‬والفلسفة‪ ،‬والطب‪،‬‬ ‫والتزكية النفسية‪ ،‬والجهاد في سبيل الله‪ ،‬وغيرها‪ .‬وكان لكل علم من هذه العلوم ظروف‬ ‫‪207‬‬

‫في نشأته وتط ُّوره‪ ،‬وإسهامه التربوي في المجتمع‪ .‬وعند محاولة رصد تط ُّور هذه العلوم‬ ‫لاحظنا أ َّنها بدأت بالمشافهة‪ ،‬ث َّم تط َّورت إلى التدوين‪ ،‬ومن مذاكرة العلم إلى تصنيفه‪،‬‬ ‫ومن إلقائه إلى إملائه‪ ،‬وتط َّورت أماكن التعليم من المسجد وال ُك ّتاب إلى مجالس التأديب‬ ‫والمدارس وغيرها‪ ،‬ومن كتابة المتون إلى وضع الشروح والمختصرات والمنظومات‪،‬‬ ‫وتط َّورت مكانة ال ُمع ِّلم‪ ،‬وتمايزت أصناف ال ُمع ِّلمين وال ُمؤ ِّدبين‪ .‬فكان التط ُّور صف ًة‬ ‫أساسي ًة في تاريخ كل العلوم‪ ،‬و ُسنَّ ًة ماضي ًة تحكم حركة الأشياء وحياة الناس‪ ،‬ومسأل ًة‬ ‫منهجي ًة تحتاج إلى أ ْن ُتؤ َخذ بالحسبان في فهمنا للتراث التربوي الإسلامي‪ ،‬وفي فهمنا‬ ‫للفكر التربوي الإسلامي الذي نريد بناءه اليوم وغد ًا‪.‬‬ ‫وقد َتب َّين لنا أ َّن التراث التربوي الإسلامي حظي بكثير من البحوث والدراسات‬ ‫المعاصرة‪ ،‬التي كان أكثرها أطروحات جامعية ق َّدمها طلبة الدراسات العليا‪ ،‬وبحوث‬ ‫منشورة في الدوريات العلمية التي ينشرها أساتذة الجامعات؛ لتحسب ضمن متط َّلبات‬ ‫الترقية العلمية‪ .‬ويأتي في الدرجة الثالثة من حجم هذه الدراسات الكت ُب التي ُتص ِدرها‬ ‫دور النشر‪ ،‬وبعضها في الأصل أطروحات جامعية‪ ،‬أو بحوث منشورة في الدوريات‪،‬‬ ‫حيث ُيج َمع عدد منها لتكون في كتاب‪ .‬ويأتي في المرتبة الرابعة كتب كانت في الأصل‬ ‫مشروع ًا بحثي ًا أنجزته ثلاث مؤسسات بتعا ُون مشترك في التخطيط والتمويل والنشر‪.‬‬ ‫وقد ن َّوهنا بأهمية ما صدر عن المشروع؛ نظر ًا لضعف الاهتمام به وتسويقه واستكماله‪،‬‬ ‫بالرغم من كونه عمل ًا علمي ًا مشترك ًا في الوطن العربي‪ ،‬ومن التغطية الواسعة نسبي ًا للأعلام‬ ‫والمؤسسات التربوية‪.‬‬ ‫لقد كشف هذا العرض السريع للتراث التربوي الإسلامي عن كثير من الملامح‬ ‫الإيجابية التي عكست حيوية العقل المسلم‪ ،‬ومسؤولية المجتمع المسلم عن التعليم‪.‬‬ ‫كما كشف ‪-‬في الوقت نفسه‪ -‬عن حالة المجتمع المسلم‪ ،‬والتغ ُّيرات التي كانت تم ُّر بها‬ ‫حالة العلم والتعليم‪ ،‬ونشأة مؤسساتها‪ ،‬ومستوياتها‪ ،‬وأنظمتها‪ ،‬ومكانة ال ُمع ِّلم‪ ،‬وغير‬ ‫ذلك‪ ،‬م ّما لا نظ ُّن أ َّن المجتمعات البشرية المعاصرة لعهود التراث التي نتح َّدث عنها قد‬ ‫‪208‬‬

‫نعمت بشيء منه‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن من المؤ َّكد أ َّن التط ُّور في الفكر التربوي لم يشهد تأصيل‬ ‫بعض المبادئ التي كانت نصوص الإسلام (القرآن الكريم‪ ،‬وال ُّسنة النبوية) تهدي إليها‪،‬‬ ‫مثل‪ :‬إلزامية التعليم‪ ،‬وتطوير العلوم والتقنيات العملية‪ ،‬وتوا ُصل الإنجازات الإبداعية‬ ‫التي شهدها القرن الثالث والرابع في مجال التعليم‪ .‬وقد َم َّر المجتمع الإسلامي في بعض‬ ‫البلدان بظروف من الجمود على القديم‪ ،‬وكراهية التأليف‪ ،‬أو استعمال الكتب الجديدة‪.‬‬ ‫ويستغرب الإنسان كيف أ َّن انتشار العلم‪ ،‬وتو ُّسع مؤسسات التعليم‪ ،‬وتط ُّور أعمال‬ ‫الن ّساخين والو ّراقين‪ ،‬لم يكن كافي ًا لتطوير الطباعة الآلية‪.‬‬ ‫ويبقى السؤال الأكثر أهمية‪ ،‬وهو يخت ُّص بالغرض الذي من أجله يمكن أ ْن ننشغل‬ ‫بمثل هذه البحوث والدراسات في مسائل التراث‪ .‬وهو ما حاولنا أ ْن نفتح باب الإجابة‬ ‫عنه في الفصل السابع من الكتاب‪ ،‬عند حديثنا عن منهجية التعامل مع التراث التربوي‬ ‫الإسلامي‪ :‬ما معنى التعامل؟ و َمن الذين يتعاملون؟ وما مناهج التعامل؟ حيث أبرزنا‬ ‫بعض أهداف البحث في التراث ووظائفه في الحياة المعاصرة‪ ،‬ولفتنا الانتباه إلى عدد‬ ‫من القيم الثاوية في التراث التربوي‪ ،‬ولذلك اقترحنا أ ْن نعتمد مبادئ معينة في تحديد قيمة‬ ‫التراث والجوانب الممكنة لتوظيفه‪.‬‬ ‫‪209‬‬



‫الفصل الثالث‬ ‫مصادر الفكر التربوي الإسلامي المعاصر‬ ‫مقدمة‬ ‫المبحث الأول‪ :‬القرآن الكريم مصدر ًا للفكر التربوي‬ ‫أولاً‪ :‬مسائل تخت ُّص بالعلم والتع ُّلم والتعليم في القرآن الكريم‬ ‫ثاني ًا‪ :‬موضوعات التعليم في القرآن الكريم‬ ‫المبحث الثاني‪ :‬ال ُّسنة النبوية مصدر ًا للفكر التربوي‬ ‫أولاً‪ :‬حضور ال ُّسنة النبوية في قضايا التربية في التراث والكتابات الحديثة‬ ‫ثاني ًا‪ُ :‬حجية ال ُّسنة النبوية في التربية والتعليم‬ ‫ثالث ًا‪ :‬ال ُّسنة النبوية في العلوم الواجب تع ُّلمها وتعليمها‬ ‫رابع ًا‪ :‬التع ُّلم في ال ُّسنة النبوية‬ ‫خامس ًا‪ :‬التعليم في ال ُّسنة النبوية‬ ‫المبحث الثالث‪ :‬التراث التربوي الإسلامي مصدر ًا للفكر التربوي الإسلامي المعاصر‬ ‫أولاً‪ :‬مصدر التراث و ُحجيته‬ ‫ثاني ًا‪ :‬مسألة تجاوز التراث إلى الاهتداء بالقرآن الكريم وال ُّسنة النبوية مباشرة‬ ‫ثالث ًا‪ :‬قيمة التراث التربوي الإسلامي بوصفه مصدر ًا‬ ‫رابع ًا‪ :‬أمثلة على طريقة توظيف مادة التراث في قضايا تربوية معاصرة‬ ‫المبحث الرابع‪ :‬الخبرة التربوية المعاصرة مصدر ًا للفكر التربوي الإسلامي المعاصر‬ ‫أولاً‪ :‬ما نعنيه بالخبرات التربوية المعاصرة‬ ‫ثاني ًا‪ :‬الفكر التربوي والحالة الحضارية للمجتمع‬ ‫ثالث ًا‪ :‬الإنسان هدف التربية ووسيلتها‬ ‫رابع ًا‪ :‬التعامل مع الخبرة البشرية المعاصرة هو نقطة انطلاق‬ ‫خامس ًا‪ :‬مرجعية الخبرة المعاصرة وفريضة الوقت‬ ‫سادس ًا‪ :‬النظام التربوي الإصلاحي المنشود‬ ‫خاتمة‬



‫الفصل الثالث‬ ‫مصادر الفكر التربوي الإسلامي المعاصر‬ ‫مقدمة‪:‬‬ ‫التربية بالمعنى المؤسسي الخاص هي ما تق ِّدمه مؤسسات التعليم العام والجامعي‪،‬‬ ‫والتربية بالمعنى الاجتماعي العام هي ما تشترك فيه جميع مؤسسات المجتمع في‬ ‫جهودها وبرامجها الهادفة إلى صياغة شخصية الإنسان في جميع جوانبها العقلية والنفسية‬ ‫والاجتماعية‪ .‬وتستند التربية ‪-‬بنوعيها المشار إليهما‪ -‬إلى مرجعية ُعليا يحتكم إليها‬ ‫المجتمع‪ ،‬و ُتو ِّجه جميع مؤسساته لتوفير التربية اللازمة‪ .‬فإذا كان الإسلام هو المرجعية‪،‬‬ ‫فإ َّن جميع أنظمة المجتمع (السياسية‪ ،‬والاقتصادية‪ ،‬والاجتماعية‪ ،‬والأخلاقية‪ ،‬والقانونية‪،‬‬ ‫والإدارية‪ُ )...‬تس ِهم في تربية الفرد‪ ،‬وتعليمه‪ ،‬وتشكيل شخصيته‪ ،‬وضبط العلاقات القائمة‬ ‫بين أفراد المجتمع على ما تهدي إليه أحكام الإسلام وتوجيهاته‪ ،‬في حدود فهمنا لهذه‬ ‫الأحكام والتوجيهات‪.‬‬ ‫و ِم ْن َث َّم‪ ،‬فإ َّن نوعية الفكر التربوي السائد في مجتمعاتنا ر َّبما تكشف عن درجة‬ ‫حضور هذه المرجعية أو غيابها‪ .‬ومن ال ُمتو َّقع أ ْن تح ِّدد هذه المرجعي ُة سائ َر المسائل التي‬ ‫تتصل بالفكر التربوي‪ ،‬ولا سيما مصادر هذا الفكر‪ ،‬ومقاصده‪ ،‬وخصائصه‪ ،‬ومجالاته‪.‬‬ ‫نحن نؤمن بأ َّن الله تعالى خلق الإنسان‪ ،‬وم َّيزه عن سائر المخلوقات بالعقل الذي يم ِّيز‬ ‫به الأشياء والأفعال‪ ،‬ويدرك وجودها وخصائصها وتغ ُّيراتها؛ فهو سبحانه المصدر الأول‬ ‫لكل ما يمكن للإنسان أ ْن يدركه‪ .‬والله سبحانه قد أنزل القرآن الكريم هدى للناس وب ِّينات‬ ‫من الهدى والفرقان‪﴿ .‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ﴾ [الأعراف‪.]52:‬‬ ‫فأصبح هذا القرآن بآياته المتل َّوة مصد َر هداي ٍة‪ .‬والله سبحانه خلق المخلوقات الأُخرى‪،‬‬ ‫وم َّكن الإنسان من السير على الأرض‪ ،‬وإعمال أدوات الوعي والحس ووظائفها؛ من‪:‬‬ ‫آذا ٍن للسمع‪ ،‬وأعي ٍن للرؤية‪ ،‬وقلو ٍب للعقل‪﴿ .‬ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ‬ ‫ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ﴾ [الحج‪.]46 :‬‬ ‫وحين يستجيب الإنسان للأمر الإلهي في السير‪ ،‬والنظر‪ ،‬والتف ُّكر‪ ،‬والتد ُّبر‪ ،‬والتع ُّقل في‬ ‫هذه المخلوقات؛ لإدراك وظائفها‪ ،‬وخصائصها‪ ،‬وتسخيرها لما ُخ ِلقت له‪ ،‬تصبح هذه‬ ‫‪213‬‬

‫المخلوقات ‪-‬آيات الله المنظورة‪ -‬مصد َر هداي ٍة كذلك‪ .‬فالمصادر‪ ،‬وإ ْن تع َّددت‪ ،‬فهي ‪-‬في‬ ‫نهاية المطاف‪ -‬كلمات الله‪ ،‬أو مخلوقاته التي يهتدي بها الإنسان في تفكيره وسلوكه‪.‬‬ ‫ومن الطبيعي أ ْن يكون القرآن الكريم هو المصدر الأساس للفكر التربوي الإسلامي‬ ‫وسائر مجالات الفكر الأُخرى؛ ففي القرآن الكريم توجيها ٌت تربوي ٌة واضح ٌة تتح َّدث عن‬ ‫التع ُّلم والتعليم والتربية والتزكية‪ ،‬وعن مسؤولية الوالدين في تربية الأبناء‪ ،‬ومسؤولية أولياء‬ ‫الأمور في المجتمع عن رعاية أبناء المجتمع في سائر شؤونهم‪ ،‬ومسؤولية المجتمع في‬ ‫توفير الموارد البشرية اللازمة لحماية المجتمع وضمان ق َّوته وتق ُّدمه‪ ،‬ومسؤولية الفرد في‬ ‫تع ُّلم ما َيلزمه من أعمال العبادة؛ سواء كانت عباد ًة بالشعائر‪ ،‬أو عباد ًة بالمعاملات‪ ،‬لتحقيق‬ ‫سعادته في الدنيا والآخرة‪ .‬وفي القرآن الكريم من الدعوة إلى اكتساب العلم في الآفاق‬ ‫الطبيعية والاجتماعية والنفسية‪ ،‬والتر ّقي في مستوياته‪ ،‬والتب ُّحر في موضوعاته م ّما ُي ْل ِزم‬ ‫الأُ َّمة با ِّتخاذ الوسائل اللازمة للإسهام في تحقيق ق َّوتها‪ ،‬و َمنَ َعتِها‪ ،‬و َخ ْير َّيتها‪ ،‬وو َس ِط َّيتِها‪،‬‬ ‫والتمكين لها في الأرض‪ ،‬وأداء أمانة الخلافة فيها‪ .‬وبذلك يكون القرآن الكريم هو‬ ‫المرجعية الأساسية في تحديد فلسفة التربية وأهدافها وموضوعاتها‪ ،‬فيما َيلزم لتنشئة‬ ‫الفرد‪ ،‬وبناء الجماعة والأُ َّمة‪ ،‬وتحقيق مراد الله من خلق الإنسان ووجوده في هذا العا َلم‪.‬‬ ‫وقد مارس النبي ﷺ التحقيق العملي لهذه التوجيهات القرآنية في عصر الرسالة‪،‬‬ ‫ولا سيما فيما يخت ُّص بتشكيل شخصية الإنسان المسلم‪ ،‬وبناء المجتمع المسلم الجديد‬ ‫في ذلك العصر‪ ،‬والتعامل مع شؤونه وقضاياه‪ ،‬فأصبحت ال ُّسنة النبوية والسيرة النبوية‬ ‫مصدر ًا آخر في فهم النصوص القرآنية وتنزيلها في الحالات التي تن َّز َل ْت عليها في الزمان‬ ‫والمكان‪ .‬ولن ندخل ‪-‬في هذا المقام‪ -‬في الجدل حول إمكانية استقلال ال ُّسنة بالتشريع‪،‬‬ ‫وحسبنا أ ْن ُنشير إلى ثلاثة أمور؛ أولها أ َّن القرآن الكريم نفسه قد ح َّدد مهمة النبي ص ّلى‬ ‫الله عليه وس َّلم في بيان المقاصد القرآنية‪ ،‬وثانيها أ َّن القرآن الكريم أمر بطاعة النبي ص ّلى‬ ‫الله عليه وس َّلم؛ لأ َّنه المعصوم الذي لا يأمر إلا بما ُيوحي إليه ر ُّبه‪ ،‬وثالثها أ َّن ُسنَّة النبي‬ ‫وسيرته قد فتحت المجال لتوظيف الخبرات المتن ِّوعة المتوافرة في المجتمع‪ ،‬فيما لا يقع‬ ‫ضمن تبليغ الوحي‪ ،‬لكنَّه يقع ضمن الخبرة الحياتية للنبي نفسه‪ ،‬أو لأحد الصحابة‪ ،‬أو‬ ‫‪214‬‬

‫يكون اجتهاد ًا جماعي ًا أشرف النبي على ممارسته تطبيق ًا لمبدأ الشورى‪ ،‬وقد ينزل‬ ‫الوحي ليص ِّحح ما َيلزم تصحي ُحه من مواقف وممارسات‪ .‬وبهذا المعنى‪ ،‬فإ َّننا ننظر‬ ‫إلى ُسنَّة النبي ﷺ بوصفها مصدر ًا ُمب ِّين ًا لتوجيهات القرآن الكريم‪ ،‬و ُمن ِّزلاً لأحكامه في‬ ‫الواقع العملي‪ ،‬فكان عليه الصلاة والسلام نموذج ًا وقدو ًة و ُأسو ًة في مقام التربية؛ في‪:‬‬ ‫موضوعاتها‪ ،‬ومناهجها‪ ،‬وأساليبها‪ ،‬ووسائلها‪.‬‬ ‫وفي عهد الصحابة والتابعين والأجيال التي تلت ذلك العهد‪ ،‬أخذ الناس يجتهدون‬ ‫في تنظيم شؤونهم‪ ،‬مهتدين بالقرآن وال ُّسنة‪ ،‬وفهم مقاصدهما‪ ،‬فنشأ نتيج ًة لذلك ترا ٌث‬ ‫ضخم من التجارب التي تن َّوعت واختلفت‪ ،‬وتأ َّثرت بتراكم الخبرات من جيل إلى آخر‬ ‫عبر القرون‪ ،‬وبالا ِّطلاع على تجارب الأمم الأُخرى‪ .‬وقد أصبح هذا التراث مصدر ًا ثالث ًا‬ ‫يتواصل تأثيره بصورة واعية أو غير واعية‪ ،‬ويكون من المفيد أ ْن ننظر نحن الآن في أهميته‬ ‫وقيمته في ضوء عدد من المعايير‪ ،‬نذكر ثلاثة منها‪:‬‬ ‫‪ -‬صلة هذا التراث بالقرآن الكريم وال ُّسنة النبوية في ضوء فهمنا المعاصر لنصوصهما؛‬ ‫لأ َّن التراث في الأساس كان فه َم الأجيال التي أنتجته في ضوء فهمها لهما‪ ،‬ولأ َّن‬ ‫القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية خطا ٌب لكل الأجيال‪.‬‬ ‫‪ -‬ملاءمة هذا التراث لطبيعة مشكلاتنا المعاصرة؛ لأ َّنه في الأساس كان في أحد‬ ‫جوانبه استجاب ًة لحاجات الزمان الذي ُأنتِج فيه‪ ،‬وتعامل ًا مع مشكلاته‪.‬‬ ‫‪ -‬علاقة هذا التراث بالخبرات البشرية المعاصرة؛ لأ َّن قضايا التربية والتعليم‬ ‫قضايا أساسية لجميع الأمم‪ ،‬ولا تخ ُّص المسلمين وحدهم؛ ولأ َّن الحكمة ضا َّلة‬ ‫المسلمين‪ ،‬فما ُو ِجد نافع ًا لدى الأمم الأُخرى‪ ،‬فالمسلمون َأ ْولى به‪.‬‬ ‫ومن ال ُمتو َّقع أ ْن يؤدي هذا النظر في التراث التربوي الإسلامي إلى تطوير منهجي ٍة‬ ‫للتعامل معه‪ ،‬وتحديد الوظائف الفكرية‪ ،‬أو النفسية‪ ،‬أو العملية التي يمكن له أ ْن يؤديها‪.‬‬ ‫وليس من المستبعد أ ْن نجد فيه أفكار ًا تربوي ًة ح َّي ًة لا ُب َّد من تفعيل حضورها في فكرنا‬ ‫التربوي المعاصر‪ ،‬وأفكار ًا كانت اجتهاد ًا ملائم ًا لزمانها‪ ،‬وليست ملائم ًة لزماننا‪ ،‬ور َّبما‬ ‫كانت اجتهاد ًا خاطئ ًا لم يح ِّقق مقاصد التربية في الإسلام‪ ،‬أو بعضها على الأقل‪.‬‬ ‫‪215‬‬

‫و َث َّمة مصد ٌر رابع للفكر التربوي الإسلامي المعاصر‪ ،‬هو الخبرة البشرية المعاصرة‪،‬‬ ‫وما قد يكون فيها من نفع‪ .‬فالله سبحانه هو ر ُّب العالمين‪ ،‬ور ُّب الناس أجمعين‪ ،‬وهو‬ ‫يتف َّضل على َمن يشاء من الناس ‪-‬مسلمين‪ ،‬وغير مسلمين‪ -‬بعلوم ومعارف واكتشافات‪،‬‬ ‫تكون نتيج ًة لتوظيف ما س َّخره الله لهم من قدرات وإمكانيات للسعي في مناكب الأرض؛‬ ‫نظر ًا‪ ،‬وبحث ًا‪ ،‬وتجريب ًا‪ ،‬وتوظيف ًا‪ .‬وليس من المستنكر أ ْن تكون هذه النتائج مادة لنظر‬ ‫المسلم‪ ،‬وتحليله النقدي‪ ،‬وتكييفه الفكري لما يفيده منها؛ فبعض الأفكار التي ُتط َّور‬ ‫و ُتو َّظف لدى ُأ َّم ٍة لأغراض معينة يتم نقلها وتوظيفها لدى ُأ َّم ٍة ُأخرى للأغراض نفسها‬ ‫أو لأغرا ٍض مختلفة‪ ،‬وقد حدث هذا التفا ُعل الحضاري في تاريخ المسلمين‪ ،‬ويحدث‬ ‫الآن على نطا ٍق واس ٍع لدى سائر الأمم‪ .‬فالتعا ُرف بين الشعوب والقبائل كان مقصد ًا من‬ ‫مقاصد الخلق الإلهي‪ ،‬والتعا ُون والتكا ُمل في توفير المنافع والخدمات وتبادل الخبرات‬ ‫والتجارب من أهم نتائج ذلك التعا ُرف المقصود‪.‬‬ ‫وفي هذا الفصل سنتناول هذه المصادر الأربعة بقدر ما تتسع له مساحة الفصل‪.‬‬ ‫‪216‬‬

‫المبحث الأول‬ ‫القرآن الكريم مصدر ًا للفكر التربوي‬ ‫العلم في الإسلام معرفة تستند إلى ال ُح َّجة والدليل‪ ،‬والإسلام يريد من الإنسان‬ ‫أ ْن يتع َّلم‪ ،‬فيكتسب العلم وحده من مصادره الموثوقة‪ ،‬وبأساليبه وأدواته المناسبة‪ ،‬ولا‬ ‫يأخذه بالتقليد‪.‬‬ ‫وتتن َّوع موضوعات العلم كثير ًا؛ فمنها العلم بقضايا الغيب التي أعلم الله الإنسان عنها‪،‬‬ ‫مثل‪ :‬التوحيد‪ ،‬وقضايا اليوم الآخر؛ والعلم بالأحكام الشرعية التي تن ِّظم حياة الإنسان‬ ‫الفرد والجماعة‪ ،‬كالعبادات‪ ،‬والمعاملات؛ والعلم بأشياء الطبيعة وأحداثها وظواهرها‪،‬‬ ‫مثل‪ :‬الكيمياء‪ ،‬والفيزياء‪ ،‬والأحياء‪ ،‬والفلك؛ والعلم التطبيقي في مسائل الطب والزراعة؛‬ ‫والعلم المنطقي في الرياضيات والهندسة‪ ،‬وغير ذلك من العلوم‪ .‬ونجد في القرآن الكريم‬ ‫وال ُّسنة النبوية لفتات وتوجيهات لها صلة بكل هذه العلوم؛ ذلك أ َّن الإسلام دين واقعي‬ ‫تخت ُّص أحكامه وتوجيهاته بجميع جوانب حياة الإنسان‪ ،‬ويستهدف تمكين الإنسان في‬ ‫الأرض لتحقيق أمانة الخلافة والعمران‪.‬‬ ‫والقرآن الكريم عند المسلم هو مصدر العلم والتعليم والتع ُّلم عن الدين في جميع‬ ‫ُن ُظ ِمه‪ ،‬وعن الإنسان الذي ارتضى الله له هذا الدين في جميع جوانب حياته ومراحلها؛‬ ‫ففيه أصول الأحكام الشرعية في ُن ُظم العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق‪ ،‬وهذه‬ ‫الأصول هي المرجعية الحاكمة لغيرها من الفروع‪ .‬والدين عند المسلم هو الحياة بجميع‬ ‫شؤونها ومجالاتها‪ .‬وقد جاءت بعض هذه الأصول بألفاظ دالة عليها دلالة مباشرة‪ ،‬وجاء‬ ‫بعضها الآخر بروح النص لا بلفظه؛ أ ْي بالمضامين الدالة عليها عن طريق التوجيهات‪،‬‬ ‫ومواقف الأمر والنهي التي تن ِّظم جميع شؤون الحياة‪ .‬وجاءت بعض هذه الأصول مف َّصلة‬ ‫تفصيل ًا دقيق ًا‪ ،‬كما في بعض المسائل الاجتماعية والمالية؛ لأ َّن المقصود فيها الثبات وعدم‬ ‫التغ ُّير‪ .‬وجاء بعضها الآخر مجمل ًا يفتح المجال للتغ ُّير وفق مستجدات المكان والزمان‬ ‫والحال‪ ،‬كما هو الحال في ُن ُظم السياسة والتعليم‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن جميع التشريعات إ َّنما‬ ‫جاءت لمقاصد مح َّددة تستهدف في الأساس جلب المصلحة للناس‪ ،‬ودرء المفسدة‬ ‫عنهم‪ ،‬وتحقيق خيرهم في حياتهم العاجلة وآخرتهم الآجلة‪.‬‬ ‫‪217‬‬

‫وإذا قلنا إ َّن القرآن الكريم مصدر للفكر البشري في سائر مجالات الحياة البشرية‬ ‫(السياسية‪ ،‬والاقتصادية‪ ،‬والاجتماعية‪ ،‬والأخلاقية‪ ،‬والتربوية)‪ ،‬فإ َّن ذلك لا يعني أ َّننا‬ ‫سنجد فيه مجموعة من الكتب المتخ ِّصصة في هذه المجالات‪ ،‬فنق ِّسمه إلى كتاب في‬ ‫السياسة‪ ،‬وكتاب في الاقتصاد‪ ،‬وكتاب في التربية‪ ،‬وإ َّنما هو توجيهات حاكمة في هذه‬ ‫المجالات وغيرها‪ ،‬تتكامل في عنايتها بجوانب النفس البشرية العقلية والنفسية‪ ،‬كما‬ ‫تتكامل في رعايتها لميادين العلاقات على مستوى الأسرة‪ ،‬والمجتمع‪ ،‬والأُ َّمة‪ ،‬والبشرية‪.‬‬ ‫كثير ٌة هي الكتب والبحوث التي تناولت التربية والفكر التربوي في القرآن الكريم‪،‬‬ ‫ومثلها في الكثرة ُكت ٌب وبحو ٌث جمعت بين القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية‪ ،‬وبعضها أضاف‬ ‫إلى ذلك ما خ َّلفه علماء الأُ َّمة من تراث يخت ُّص بقضايا التعليم والتربية‪ .‬ولسنا معنيين في‬ ‫هذا المقام بمراجعة ما ورد في هذه الكتب بالرغم من قيمتها‪ .‬وكثي ٌر م ّما سيرد في هذا‬ ‫الجزء من الفصل سبق أ ْن وردت موضوعاته في كتب وبحوث لنا سابقة‪.‬‬ ‫وسنرى أ َّن نصوص القرآن الكريم نفسها تشهد على أ َّن القرآن مصدر للتربية والتعليم‪.‬‬ ‫أ ّما المح ِّدثون فلم ينسوا أ ْن يبدأوا كل كتاب من كتب هذه المصنَّفات بالآيات القرآنية‬ ‫ذات الصلة بالتعليم؛ فالبخاري يبدأ كثير ًا من الكتب والأبواب بآي ٍة من القرآن‪ ،‬وقد تكون‬ ‫الآية القرآنية عنوا َن الكتاب أو الباب‪ ،‬وقد يكون موضوع الحديث آي ًة من القرآن‪ .‬وهي‬ ‫ُسنَّ ٌة ا َّتخذها الفقهاء كذلك؛ فالشافعي بدأ باب الطهارة في كتاب \"الأم\" بالآية القرآنية‪:‬‬ ‫﴿ﭔﭕﭖﭗﭘ ﭙﭚﭛﭜ﴾ [المائدة‪ (((.]6:‬أ ّما كتب التراث‬ ‫التربوي الإسلامي فمعظمها يبدأ أبوابه بالآيات القرآنية ذات الصلة بموضوع الباب‪ ،‬ث َّم‬ ‫بالأحاديث النبوية‪ ،‬ث َّم بالآثار وأقوال العلماء‪ .‬وهذا الآجري في كتاب \"أخلاق العلماء\"‬ ‫يبدأ بتقرير أ َّن الله سبحانه اخت َّص العلماء بح ِّبه وف َّضلهم‪ ،‬و َيستد ُّل على ذلك بالكتاب‬ ‫وال ُّسنة‪ ،‬فيبدأ بذكر ثماني آيا ٍت من القرآن الكريم قبل أ ْن يأتي بالسنن والآثار‪ (((.‬وهذا‬ ‫ابن عبد البر يكتب كتابه \"جامع بيان العلم وفضله\" جواب ًا لسائ ٍل يسأله‪ ،‬ويب ِّين أ َّن جوا َبه هو‬ ‫((( الشافعي‪ ،‬محمد بن إدريس (توفي‪204 :‬ﻫ)‪ .‬الأم‪ ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة الكليات الأزهرية‪ ،‬ط‪1961 ،1‬م‪.‬‬ ‫((( الآجري‪ ،‬أبو بكر محمد بن الحسين (توفي‪360 :‬ﻫ)‪ .‬أخلاق العلماء‪ ،‬مراجعة وتصحيح وتعليق‪ :‬إسماعيل بن‬ ‫محمد الأنصاري‪ ،‬الرياض‪ :‬رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد‪1398( ،‬ﻫ‪1978/‬م)‪.‬‬ ‫‪218‬‬

‫استجابة لقوله تعالى‪﴿ :‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭚﭛ﴾ [آل‬ ‫عمران‪ ،]187:‬ث َّم يورد الأحادي َث النبوية في الباب‪.‬‬ ‫وفيما يخ ُّص المنشورات الحديثة‪ ،‬فإ َّننا نجد مئات الكتب والبحوث التي تخ َّصصت‬ ‫في بيان مكانة العلم والتعليم والتربية في نصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية مع ًا‪،‬‬ ‫منها‪ :‬كتا ٌب بعنوان \"أصول التربية الإسلامية\"(((‪ ،‬يستخدم التصنيفات الحديثة للمفاهيم‬ ‫والمصطلحات التربوية والتعليمية‪ ،‬لكنَّه لا يكاد يأتي بفكر ٍة من دون أ ْن يستشهد لها من‬ ‫القرآن الكريم‪ .‬وكتا ٌب آخر بالعنوان نفسه‪ ،‬يخ ِّصص فصل ًا كامل ًا بعنوان \"التأسيس القرآني‬ ‫للتربية\"‪ ،‬وفصل ًا آخر عن ال ُحجية التربوية لل ُّسنة النبوية‪ ،‬يعتمد فيه على نصوص القرآن‬ ‫الكريم‪ .‬ونجد كتب ًا كثيرة تح َّدثت عن حضور مسائل تربوية مح َّددة في القرآن الكريم‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫المبادئ النفسية في القرآن الكريم‪ (((،‬والتربية الاقتصادية في القرآن الكريم‪ (((،‬وأساليب‬ ‫التشويق والتعزيز في القرآن الكريم‪ (((.‬وحتى البحوث التي تخ َّصصت في قضايا الإعجاز‬ ‫في القرآن الكريم‪ ،‬كان للإعجاز التربوي نصيب فيها‪ (((،‬والأمثلة على ذلك كثيرة‪.‬‬ ‫ولذلك سنحاول أ ْن يتناول إسهامنا في هذا السياق حديث ًا عن القرآن الكريم بوصفه‬ ‫المصدر الذي يهيمن على غيره من المصادر‪ ،‬ويعطي هذه المصادر قيمتها الثاوية فيه‪ .‬ومع‬ ‫ذلك‪ ،‬فإ َّن القرآن يبقى مفتوح ًا للاستمداد منه‪ ،‬والتو ُّسع في استلهام مقاصده وتوجيهاته‬ ‫كلما لجأنا إليه‪.‬‬ ‫ونستطيع أ ْن نفهم شيئ ًا من مراد الله سبحانه في موضوع العلم والتعليم والتربية عن‬ ‫طريق التذكير بعدد من المسائل‪ ،‬وعدد من الموضوعات‪ ،‬تكون أمثل ًة على غيرها من‬ ‫مسائل وموضوعات كثيرة يصعب استيعابها جميع ًا في سياق هذا الموضع من الفصل‪.‬‬ ‫((( الحازمي‪ ،‬خالد بن حامد‪ .‬أصول التربية الإسلامية‪ ،‬الرياض‪ :‬دار عالم الكتب‪ ،‬ط‪2000 ،1‬م‪.‬‬ ‫((( الشهري‪ ،‬عزة بن عابس‪\" .‬مبادئ التربية النفسية في القرآن الكريم وتطبيقاتها التربوية\"‪( ،‬أطروحة دكتوراه‪ ،‬في‬ ‫الأصول الإسلامية للتربية‪ ،‬جامعة أم القرى‪ ،‬مكة المكرمة‪1436( ،‬ﻫ‪2015/‬م))‪.‬‬ ‫((( العلياني‪ ،‬سعد بن هاشم‪\" .‬التربية الاقتصادية في القرآن الكريم وتطبيقاتها في الأسرة والمدرسة\"‪( ،‬أطروحة‬ ‫دكتوراه‪ ،‬في الأصول الإسلامية للتربية‪ ،‬جامعة أم القرى‪ ،‬مكة المكرمة‪1427( ،‬ﻫ‪2005/‬م))‪.‬‬ ‫((( جلو‪ ،‬الحسين جرنو محمود‪ .‬أساليب التشويق والتعزيز في القرآن الكريم (سلسلة دراسات تربوية)‪ ،‬بيروت‪:‬‬ ‫مؤسسة الرسالة ودار العلوم الإنسانية‪1414( ،‬ﻫ‪1994/‬م)‪.‬‬ ‫((( رجب‪ ،‬مصطفى‪ .‬الإعجاز التربوي في القرآن الكريم‪ ،‬ع ّمان وإربد‪ :‬جدارا للكتاب العالمي وعالم الكتب‬ ‫الحديث‪2006 ،‬م‪.‬‬ ‫‪219‬‬

‫أولاً‪ :‬العلم والتع ُّلم والتعليم في القرآن الكريم‪:‬‬ ‫‪ .1‬عناية القرآن الكريم بالعلم وعملياته وأدواته‪:‬‬ ‫تظهر عناية القرآن الكريم هذه‪ ،‬أول ما تظهر‪ ،‬في حقيقة أ َّن الآيات الأُولى التي نزلت‬ ‫من القرآن كان موضوعها القراءة والقلم والتعليم‪ ،‬وذلك قوله سبحانه‪﴿ :‬ﭻﭼﭽﭾ‬ ‫ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﴾ [العلق‪.]5-1:‬‬ ‫والحقيقة أ َّن التد ُّبر في هذه الآيات يكشف عن قدرة عجيبة لإمكانية ترشيد فكر‬ ‫الإنسان وهدايته‪ ،‬والبدء بنهج جديد في الاستمداد من الوحي الإلهي والتعامل معه‪.‬‬ ‫فالوحي هذه ال َم َّرة معصوم من إمكانية التغيير والتبديل كما حصل مع حالات الوحي‬ ‫السابقة‪ .‬وهذا الوحي الخاتم والمعصوم يبدأ آياته الأُولى بالعلم والتعليم‪ ،‬وبيان مصادره‬ ‫وأدواته‪ ،‬بصورة تتصل بقدر كبير من الاختصار والشمول في آ ٍن مع ًا‪ .‬ويجب أ ْن ُيك َتب‬ ‫الوحي بالقلم من أجل أ ْن ُيق َرأ‪ ،‬وأ ْن ُيج َمع كتاب القرآن مع كتاب الخلق‪ ،‬وأ ْن ُيق َرأا مع ًا‪.‬‬ ‫ف َث َّمة قراء ٌة في مصدرين‪ ،‬وهما قراءتان‪ ،‬وأ ْن يتع َّلم الإنسان ما لا يعلمه من مصدري العلم‪:‬‬ ‫الوحي والخلق‪ ،‬بأدوات العلم وطرقه وأساليه‪ ،‬بما في ذلك القراءة والكتابة‪.‬‬ ‫وقد تك َّرر وصف القرآن الكريم بأ َّنه كتاب‪ .‬وقراءة المكتوب في الكتاب هي من‬ ‫أهم أدوات العلم والتعليم؛ والتعليم والتع ُّلم والتربية توا ُص ٌل بشري يتم عن طريق اللغة؛‬ ‫والقرآن الكريم كتاب مكتوب بلغ ٍة تتأ َّلف من مادة تلك اللغة وأحرفها‪ ،‬فتبدأ سورة البقرة‬ ‫بقوله تعالى‪﴿ :‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭛ﴾ [البقرة‪ ،]2-1:‬وتبدأ سورة يونس‬ ‫بقوله ع َّز وج َّل‪﴿ :‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ﴾ [يونس‪ ،]1:‬وتبدأ سورة الحجر بقوله سبحانه‪:‬‬ ‫﴿ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ﴾ [الحجر‪]1:‬؛ فهذا الكتاب هو قرآن ُيق َرأ‪ .‬قال ابن تيمية‪:‬‬ ‫\"والكتاب اس ٌم للقرآن بالضرورة والاتفاق‪ ،‬فإ َّنهم أو بعضهم يف ِّرقون بين كتاب الله وكلامه‪،‬‬ ‫ولفظ \"الكتاب\" يراد به المكتوب فيه‪ ،‬فيكون هو الكلام‪ ،‬ويراد به ما يكتب فيه‪ ،‬كقوله‪:‬‬ ‫﴿ﭕﭖﭗ﴾ [الواقعة‪ ،]78:‬وقوله‪﴿ :‬ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ﴾ [الإسراء‪(((\".]13:‬‬ ‫((( ابن تيمية‪ ،‬تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم (توفي‪728 :‬ﻫ)‪ .‬دقائق التفسير‪ :‬الجامع لتفسير الإمام‬ ‫ابن تيمية‪ ،‬جمع وشرح‪ :‬محمد السيد الجليند‪ ،‬دمشق‪ :‬مؤسسة علوم القرآن‪ ،‬ط‪1984 ،2‬م‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.331‬‬ ‫‪220‬‬

‫كما تظهر عناية القرآن الكريم بالعلم‪ ،‬وما يخت ُّص به من كثرة ورود لفظ \"العلم\"‬ ‫ومشتقاته اللغوية؛ إذ بلغ في عد ٍد من المواقع التي وردت فيها هذه الألفاظ ‪ 856‬موقع ًا‪،‬‬ ‫كما في إحصاء ك ٍّل من \"المعجم المفهرس\" لمحمد فؤاد عبد الباقي‪ (((،‬و\"قاموس القرآن\"‬ ‫للدامغاني‪ (((.‬والتد ُّبر في آيات القرآن الكريم في هذه المواقع يكشف عن ثروة تربوية‬ ‫لا حدود لها في جميع موضوعات التربية؛ أهداف ًا‪ ،‬ومباد َئ‪ ،‬ومحتويا ٍت‪ ،‬وأسالي َب‪،‬‬ ‫وغي َر ذلك‪ .‬وتشمل التوجيها ُت التربوية القرآنية الإنسا َن صغير ًا وكبير ًا‪ ،‬فرد ًا وأسر ًة‪،‬‬ ‫مجتمع ًا و ُأ َّم ًة‪ .‬وتخت ُّص هذه التوجيهات بعقله وجسمه وروحه‪ ،‬وتتناول أخلاقه وعلاقاته‬ ‫وسلوكاته‪ .‬وتتر ّقى التوجيهات التربوية بالإنسان‪ ،‬وتتر َّفق به بصورة تجمع بين السمو‬ ‫والواقعية‪ ،‬والشمول والتوا ُزن‪ ،‬والاختصاص والتكا ُمل‪.‬‬ ‫‪ .2‬سعة موضوعات العلم في القرآن الكريم‪:‬‬ ‫إ َّن استعراض الآيات القرآنية التي َي ِر ُد فيها لفظ \"العلم\" ومشتقاته يب ِّين لنا سعة‬ ‫موضوعات العلم ومجالاته؛ ذلك أ َّن‪\" :‬كل علم يتع َّلق بمعلوم‪ ،‬فإ َّنه معرفة له على ما هو‬ ‫به‪ ،‬وكل معرفة بمعلوم فإ َّنها علم به‪ (((\".‬فالعلم يشمل‪:‬‬ ‫‪ -‬المشهود وال ُم َح َّس من الأشياء والظواهر والحالات في عا َلم الدنيا‪ ،‬ويشمل‬ ‫مسائل الغيب والآخرة‪.‬‬ ‫‪ -‬علم الله‪ ،‬وعلم الملائكة‪ ،‬وعلم الأنبياء‪ ،‬وعلم الإنسان‪ ،‬وحتى ما يمكن للحيوانات‬ ‫أ ْن تتع َّلمه‪(((.‬‬ ‫((( عبد الباقي‪ ،‬محمد فؤاد‪ .‬المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم‪ ،‬بيروت‪ :‬دار الفكر‪2000 ،‬م‪ ،‬ص‪.611-596‬‬ ‫((( الدامغاني‪ ،‬الحسين بن محمد (عاش في النصف الثاني من القرن السادس الهجري والأول من القرن السابع‬ ‫الهجري)‪ .‬قاموس القرآن «إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم»‪ ،‬تحقيق وترتيب وإصلاح‪ :‬عبد العزيز‬ ‫سيد الأهل‪ ،‬بيروت‪ :‬دار العلم للملايين‪ ،‬ط‪1983 ،4‬م‪ ،‬ص‪.330‬‬ ‫((( نقل ابن تيمية هذا النص عن القاضي أبي بكر بن الطيب‪ .‬انظر‪:‬‬ ‫‪ -‬ابن تيمية‪ ،‬تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم (توفي‪728 :‬ﻫ)‪ .‬الرد على المنطقيين (المسمى أيض ًا‪:‬‬ ‫نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان)‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد الصمد شرف الدين الكتبي‪ ،‬مراجعة‪ :‬محمد‬ ‫طلحة بال منيار‪ ،‬بيروت‪ :‬مؤسسة الريان‪2005 ،‬م‪ ،‬ص‪.61-60‬‬ ‫((( إشارة إلى قوله تعالى‪﴿ :‬ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ﴾ [المائدة‪:‬‬ ‫‪ .]4‬فالإنسان يعلم الجوارح من العلم ما ُي ِعينه على الصيد‪.‬‬ ‫‪221‬‬

‫‪ -‬اليقين‪ ،‬وغير اليقين‪.‬‬ ‫‪َ -‬من يتصف بالعمل بما يعلم‪ ،‬و َمن يستيقن الأمر ويجحده‪(((.‬‬ ‫‪ -‬طرق العلم والتع ُّلم؛ من‪ :‬قراءة‪ ،‬ودراسة‪ ،‬وكتابة‪ ،‬وتد ُّبر‪ ،‬وتف ُّكر‪ .‬وأدوات العلم؛‬ ‫من‪ :‬قلم‪ ،‬وقرطاس‪ ،‬وكتاب‪ .‬ووسائل العلم؛ من‪ :‬سمع‪ ،‬وبصر‪ ،‬وفؤاد‪.‬‬ ‫‪ -‬الحث على طلب العلم‪ ،‬وفضل العلم والعلماء‪ ،‬والتط ُّرق إلى أهداف العلم‬ ‫والتع ُّلم والتعليم‪ ،‬وطلب الزيادة في ك ٍّل منها‪.‬‬ ‫‪ .3‬أركان العملية التربوية في القرآن الكريم‪:‬‬ ‫ُي َع ُّد ال ِع ْلم وال ُمع ِّلم وال ُمتع ِّلم أهم ثلاثة أركان في العملية التربوية؛ فالعلم في سياق‬ ‫هذه المنظومة الثلاثية هو فك ٌر تربو ٌّي ينتج عن عملية التفكير في مسائل التربية‪ .‬وعناصر‬ ‫هذا الفكر هي مفاهيم‪ ،‬ومبادئ‪ ،‬ونظريات‪ ،‬وممارسات تدور حولها مناهج التربية‪ ،‬وتح ِّدد‬ ‫مهمة ال ُمع ِّلم ووظيفته‪ ،‬وتب ِّين حالة ال ُمتع ِّلم والطرق المناسبة التي تي ِّسر له التع ُّلم‪.‬‬ ‫وفي الخبرة التربوية الإسلامية كان القرآن الكريم هو موضوع العلم الذي يق ِّدمه ال ُمع ِّلم‬ ‫لل ُمتع ِّلم؛ فالله سبحانه قد ع َّلم جبريل عليه السلام القرآن الكريم‪ ،‬وجبريل ع َّلم النبي محمد ًا‬ ‫ص ّلى الله عليه وس َّلم هذا القرآن‪ ،‬والنبي ع َّلم القرآن للصحابة‪ ،‬وهذا النبي هو دعو ُة نب ِّي الله‬ ‫إبراهيم عليه السلام حين دعا الل َه أ ْن يبعث في ذريته رسولاً يع ِّلمهم الكتاب‪﴿ .‬ﭡﭢ‬ ‫ﭣ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴ‬ ‫ﭵﭶﭷ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﭿﮀ﴾ [البقرة‪.]129-128:‬‬ ‫وقد استجاب الله سبحانه‪ ،‬فقال‪﴿ :‬ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ‬ ‫ﯯﯰﯱﯲﯳ ﯴ﴾ [آل عمران‪ .]164:‬وآياته هي آيات‬ ‫القرآن‪ ،‬والكتاب الذي هو موضوع تعليم النبي للمؤمنين هو هذا القرآن‪.‬‬ ‫ث َّم يأتي هذا المعنى َم َّر ًة ثالثة ليضيف إلى التلاوة والتزكية وتعليم الكتاب والحكمة‬ ‫معنى آخر يؤ ِّكد استمرار التعليم وتج ُّدده‪ ،‬فقال تعالى‪﴿ :‬ﯗﯘﯙﯚﯛ‬ ‫((( قال الطبري في تفسير قوله تعالى‪﴿ :‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭚﭛﭜ﴾‬ ‫[النمل‪﴿ ... :]14 :‬ﭑﭒ﴾ ‪ ،‬قال‪ :‬الجحود‪ :‬التكذيب بها‪ .‬وقوله‪﴿ :‬ﭓﭔ﴾ ‪ ،‬يقول‪ :‬وأيقنتها‬ ‫قلوبهم‪ ،‬وعلموا يقين ًا أ َّنها من عند الله‪ ،‬فعاندوا بعد تب ُّينهم الحق‪ ،‬ومعرفتهم به‪.‬‬ ‫‪222‬‬

‫ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ﴾‬ ‫[البقرة‪ .]151:‬وفي تفسير الآية‪\" :‬قال أبو حيان الأندلسي في تفسيره‪ ...\" :‬وتالي ًا عليهم آيات‬ ‫الله‪ ،‬و ُمز ِّكي ًا لهم‪ ،‬و ُمع ِّلم ًا لهم الكتاب والحكمة وما لم يكونوا يعلمون‪ ...‬وأتى بهذه‬ ‫الصفات فعل ًا مضارع ًا ليدل بذلك على التج ُّدد؛ لأ َّن التلاوة والتزكية والتعليم تتج َّدد‬ ‫دائم ًا‪ (((\". ...‬وقال الراغب‪\" :‬وأعلمته وع َّلمته في الأصل واحد‪ ،‬إلا أ َّن الإعلام اخت َّص‬ ‫بما كان بإخبار سريع‪ ،‬والتعليم اخت َّص بما يكون بتكرير وتكثير حتى يحصل منه أثر في‬ ‫نفس ال ُمتع ِّلم‪(((\".‬‬ ‫والحكمة كما ورد ذكرها في مفردات الراغب‪\" :‬إصابة الحق بالعلم والعقل؛‬ ‫فالحكمة من الله تعالى‪ :‬معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام‪ ،‬ومن الإنسان‪ :‬معرفة‬ ‫الموجودات‪ ،‬وفعل الخيرات‪ (((\".‬وقال ابن الق ِّيم رحمه الله‪\" :‬وأحسن ما قيل في الحكمة‬ ‫قول مجاهد‪ ،‬ومالك‪ :‬إ َّنها معرفة الحق والعمل به‪ ،‬والإصابة في القول والعمل‪ ...،‬ث َّم قال‪:‬‬ ‫\"فالحكمة إذ ًا‪ :‬فِ ْعل ما ينبغي‪ ،‬على ال َو ْجه الذي ينبغي‪ ،‬في الوقت الذي ينبغي‪(((\".‬‬ ‫واعتمدت الخبرة التربوية الإسلامية كثير ًا على هذه الآيات في اعتبار النبي ص ّلى‬ ‫الله عليه وس َّلم ال ُمع ِّلم القدوة والأُسوة في ما يع ِّلمه‪ ،‬وفي أسلوب تعليمه‪ ،‬وفي طبيعة‬ ‫العلاقة بين ال ُمع ِّلم وال ُمتع ِّلمين‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ‬ ‫ﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ﴾ [آل عمران‪ ،]159:‬وقال‬ ‫سبحانه‪﴿ :‬ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ‬ ‫ﯘ ﯙﯚ﴾ [التوبة‪.]128:‬‬ ‫((( أبو حيان الأندلسي‪ ،‬محمد بن يوسف بن علي الغرناطي (توفي‪745 :‬ﻫ)‪ .‬تفسير البحر المحيط‪ ،‬دراسة وتحقيق‬ ‫وتعليق‪ :‬عادل عبد الموجود وآخرون‪ ،‬بيروت‪ :‬دار الكتب العلمية‪ ،‬ط‪1413 ( ،1‬ﻫ‪1993/‬م)‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.618‬‬ ‫((( الراغب الأصفهاني‪ ،‬مفردات ألفاظ القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬مادة (علم)‪ ،‬ص‪.580‬‬ ‫((( الراغب الأصفهاني‪ ،‬أبو القاسم الحسين بن محمد (توفي‪502 :‬ﻫ)‪ .‬المفردات في غريب القرآن‪ ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة‬ ‫نزار مصطفى الباز‪( ،‬د‪.‬ت‪ ،).‬ج‪ ،1‬ص‪.168-167‬‬ ‫((( ابن ق ِّيم الجوزية‪ ،‬محمد بن أبي بكر بن أيوب (توفي‪751 :‬ﻫ)‪ .‬مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين‪،‬‬ ‫تحقيق‪ :‬محمد المعتصم بالله البغدادي‪ ،‬بيروت‪ :‬دار الكتاب العربي‪ ،‬ط‪2003 ،7‬م‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.449 -448‬‬ ‫‪223‬‬

‫وأصبحت الصورة التي نسجتها الآيات عن استجابة الصحابة لتعليم النبي وتل ّقيهم‬ ‫العل َم عنه نموذج ًا َيقتدي به كل ُمتع ِّلم بعد ذلك؛ إذ ينبغي للمؤمنين أ ْن يستجيبوا للرسول‬ ‫فيما يب ِّلغه عن ربه‪ ،‬ففي ذلك حياتهم الحقيقية‪﴿ .‬ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ‬ ‫ﯢﯣﯤ﴾ [الأنفال‪\" .]24:‬والإحياء تكوين الحياة في الجسد‪ ،‬والحيا ُة ق َّو ٌة بها يكون‬ ‫الإدراك والتح ُّرك والاختيار‪ ،‬ويستعار الإحياء تبع ًا لاستعارة الحياة للصفة أو الق َّوة التي‬ ‫بها كمال موصوفها فيما يراد منه‪ ،‬مثل حياة الأرض بالإنبات‪ ،‬وحياة العقل بالعلم وسداد‬ ‫الرأي‪َ ...‬ف َي ُع ُّم ك َّل ما به ذلك الكما ُل من إنارة العقول بالاعتقاد الصحيح والخلق الكريم‪،‬‬ ‫والدلالة على الأعمال الصالحة‪ ،‬وإصلاح الفرد والمجتمع‪ ،‬وما َيتق َّوم به ذلك من ال ِخلال‬ ‫الشريفة العظيمة‪ .‬فالشجاعة حياة للنفس‪ ،‬والاستقلال حياة‪ ،‬والحرية حياة‪ ،‬واستقامة‬ ‫أحوال العيش حياة‪(((\".‬‬ ‫ولا شك في أ َّن المؤمنين بالرسول ص ّلى الله عليه وس َّلم قد استجابوا لأمر الله سبحانه‬ ‫في القراءة‪ ،‬الذي كان أول آيات القرآن الكريم‪ ،‬فكان هذا الأمر حافز ًا إلى الاستجابة لتع ُّلم‬ ‫كل ما كان يأمر به القرآن من طلب العلم‪ ،‬ولتع ُّلم عمليات العلم وأدواته‪ ،‬مثل‪ :‬كتابة العلم‬ ‫بالقلم‪ ،‬وقراءة المكتوب في الصحف‪﴿ .‬ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ‬ ‫ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ﴾ [العلق‪ .]5-1:‬وكذلك استجاب المؤمنون للتوجيه‬ ‫القرآني في أ ْن ينفر بعضهم لتع ُّلم ما سوف يع ِّلمون به َمن انشغل على التع ُّلم بالجهاد‪.‬‬ ‫﴿ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ‬ ‫ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ﴾ [التوبة‪ .]122:‬وقد أثبت القرآن الكريم فضيلة‬ ‫أولئك الذين يستجيبون لربهم‪ ،‬ويعلمون أ َّن القرآن حق؛ إذ إ َّن لهم الحسنى‪ ،‬وهم على نور‬ ‫من ربههم‪ ،‬وغيرهم ك َمن هو أعمى‪ ،‬وفي ذلك خي ُر حاف ٍز إلى الاستجابة لربهم‪ ،‬وتع ُّلم هذه‬ ‫الحقيقة‪﴿ .‬ﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇ ﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎ‬ ‫ﰏﰐﰑﰒﰓ ﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚﰛﰜﰝ ﭑﭒﭓﭔﭕ‬ ‫ﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ﴾ [الرعد‪.]19 -18:‬‬ ‫((( ابن عاشور‪ .‬تفسير التحرير والتنوير‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،9‬ص‪.313-312‬‬ ‫‪224‬‬

‫‪ .4‬فئات العلوم في القرآن الكريم‪:‬‬ ‫وفي آيات الله وكتابه علو ٌم ع َّلمها الرسول للناس بالبيان والممارسة والقدوة‪ ،‬وفيها‬ ‫علو ٌم جاءت في صورة لفتات تدعو الأُ َّمة إلى بنائها وتطويرها في مجالات العوالم‬ ‫الطبيعية والاجتماعية والنفسية‪ ،‬وفيها توجيهات منهجية تقود خطى الإنسان في توظيف‬ ‫الطرق والأساليب والأدوات اللازمة لبناء العلوم ضمن ضوابط وأخلاقيات تم ِّيز سعي‬ ‫المسلم في تطوير العلوم‪ .‬وهذه الآيات تشير إلى أ َّن للعلم ثلاثة معا ٍن متضايفة‪ ،‬يمكن‬ ‫إجمالها فيما يأتي‪:‬‬ ‫‪ -‬تع ُّلم العلوم النقلية‪:‬‬ ‫آيات القرآن المت ُل َّوة هي في ح ِّد ذاتها ِع ْلم يحتاج إلى تع ُّلم؛ فهي إخبار من الله سبحانه‬ ‫عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله‪ ،‬وعن الق ْدر الذي َيلزم أ ْن ي ْع َل َمه الإنسان عن قضايا الغيب‬ ‫من بدء الخلق ونهايته‪ ،‬والآخرة وما فيها‪ ،‬وتاريخ الرسل والأقوام والأمم‪ ،‬وعن كثير من‬ ‫كائنات هذا العا َلم التي لا سبيل للإنسان إلى معرفتها‪ .‬وفي هذه الآيات توجيهات وأحكام‬ ‫تخت ُّص بما َيلزم الإنسان أ ْن ي ْع َل َمه عن الصلة بالله بالعبادة والتقوى‪ ،‬وأنظمة كلية لإدارة‬ ‫شؤون الناس في الحياة الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية‪ .‬وما تتض َّمنه هذه‬ ‫الأنظمة الكلية هي ُأطر عامة تسمح للإنسان‪ ،‬بل تدعوه‪ ،‬إلى أ ْن يجتهد في اكتساب ما َيلزم‬ ‫من تفاصيل وجزئيات تنمو وتتط َّور وتتسع بالخبرة والتجرية البشرية‪.‬‬ ‫‪ -‬تع ُّلم العلوم الكونية‪:‬‬ ‫ومع أ َّن القرآن الكريم كتاب هداية عامة‪ ،‬فإ َّن كثير ًا من آياته المسطورة تتح َّدث عن‬ ‫آيات منظورة‪ ،‬تلفت نظر القارئ إلى ما فيها من أسباب الهداية إلى قدرة الله سبحانه‪،‬‬ ‫وتحفز الإنسان إلى معرفة دلالة هذه اللفتات العلمية‪ ،‬وإدراك تفاصيلها‪ ،‬وما قد يكون‬ ‫فيها من علوم نافعة‪ .‬وقد ق َّدر الدكتور زغلول النجار عدد هذه الآيات الكونية المنظورة‬ ‫بما يزيد على (‪ )1000‬آية‪ ،‬منها (‪ )461‬آية تتح َّدث عن الكرة الأرضية‪ .‬ومن هذه الآيات‬ ‫(‪ )110‬آيات لها مدلول جيولوجي‪(((.‬‬ ‫((( النجار‪ ،‬زغلول راغب‪ .‬آيات الكون في القرآن الكريم‪ ،‬ترجمة‪ :‬نادية العوضي‪ .‬انظر الرابط‪:‬‬ ‫‪- https: //www.paldf.net/forum/showthread.php?t=6248‬‬ ‫‪225‬‬

‫ولع َّل من فضل الله على الإنسان أ َّنه أتاح له الاطمئنان إلى ما تقتضية الفطرة‪ ،‬وما‬ ‫ينص عليه الوحي من ضرورة الإيمان بالله الخالق‪ ،‬وذلك بالتف ُّكر والتأ ُّمل في العا َلم‬ ‫الطبيعي بأشيائه وأحداثه وظواهره‪ ،‬إضاف ًة إلى دعوته إلى تسخير هذه الأشياء والأحداث‬ ‫والظواهر وتوظيفها فيما ينفعه في مجالات العمران البشري‪ ،‬وبناء الحضارة‪ ،‬وتيسير ُسبل‬ ‫الحياة وتطويرها‪.‬‬ ‫‪ -‬تع ُّلم العلوم المنهجية‪:‬‬ ‫سواء أكانت العلوم التي يلفت القرآن النظر إليها علوم ًا نقلي ًة أم كوني ًة‪ ،‬فإ َّن السبيل‬ ‫إليهما يكون عن طريق منهج في التفكير والبحث‪ ،‬والإفادة من القدرات العقلية في‬ ‫تحصيل العلم‪ ،‬وتوظيفه في الفهم والتسخير والعمران‪ .‬فقد احتفل القرآن الكريم بهذه‬ ‫القدرات العقلية‪ ،‬وب َّين أهميتها في استلهام مقاصد الحق من الخلق؛ إذ وردت ألفاظ‬ ‫التع ُّقل وما يتصل بها من فكر‪ ،‬وفقه‪ ،‬وفهم‪ ،‬ورشد‪ ،‬وتد ُّبر‪ ،‬وذكر‪ ،‬وفؤاد‪ ،‬و ُن َهى‪ ،‬و ُل ٍّب‪ ،‬في‬ ‫نحو (‪ )429‬موقع ًا في الآيات القرآنية‪(((.‬‬ ‫وعلم المنهجية الذي نجده في القرآن الكريم يحتكم إلى عدد من المبادئ‪ ،‬التي‬ ‫ُت َع ُّد منطلقات تبدأ بها المنهجية حركتها‪ ،‬في مجالات التفكير والبحث والسلوك‪ ،‬وتلتزم‬ ‫بضوابط ومعايير وقيم مح َّددة‪ ،‬وتستقيم في خط التو ُّجه نحو غاياتها‪ .‬وهذه المبادئ هي‬ ‫التي تحفظ سعي الإنسان في العلم والتع ُّلم من اختلاط الرؤية‪ ،‬والغبش‪ ،‬والتش ُّتت‪،‬‬ ‫والفوضى‪ .‬وتقع هذه المبادئ في مستويين؛ الأول‪ :‬كلي عام يربط المبادئ بأركان‬ ‫الإسلام‪ ،‬وأركان الإيمان‪ ،‬ومنظومة القيم العليا في دين الله‪ .‬والثاني‪ :‬جزئي خاص تكون‬ ‫فيه المبادئ معايير وضوابط وخصائص للتفكير والتع ُّقل والتد ُّبر والتذ ُّكر‪ ،‬أو للبحث الذي‬ ‫يستهدف اكتساب المعرفة واختبارها وتوظيفها‪ ،‬أو معايير لضبط السلوك وتوجيهه‪.‬‬ ‫فمن المبادئ المنهجية في التفكير ‪-‬مثل ًا‪ -‬التن ُّوع والتكا ُمل في استعمال ما َيلزم‬ ‫من أنوع التفكير‪ :‬الكلي‪ ،‬والعلمي‪ ،‬والسنني‪ ،‬والسببي‪ ،‬والمقاصدي‪ ،‬والاستراتيجي‪،‬‬ ‫والاستشرافي‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬ولا ُب َّد في مبادئ البحث المنهجية من الإشارة إلى تع ُّلم مبدأ‬ ‫التوثيق التي يقتضي الأمانة والاستقامة والموضوعية‪ ،‬ومبدأ البرهان الذي يقتضي الجمع‬ ‫((( الجندي‪ ،‬عبد الحليم‪ .‬القرآن والمنهج العلمي المعاصر‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار المعارف بمصر‪1984 ،‬م‪ ،‬ص‪.53‬‬ ‫‪226‬‬

‫بين الأدلة العملية والعقلية والنقلية‪ .‬ومن المبادئ المنهجية في السلوك تع ُّلم الجمع‬ ‫بين ثلاثة مبادئ‪ :‬مبدأ الن َّية في التو ُّجه بحركة القلب نحو الخالق‪ ،‬ومبدأ الا ِّتباع لل ُّسبل‬ ‫المطروقة ال ُمج َّربة بالاستقامة على نهج النبوة والحركة الجماعية لتحقيق الانتماء‪ ،‬ومبدأ‬ ‫الإبداع في ابتغاء الحكمة في النمو والتجاوز والارتقاء والإحسان والإتقان‪.‬‬ ‫ومن الجدير بالذكر أ َّن بعض هذه المبادئ يتصف بالاستقرار والثبات؛ ما يعطي‬ ‫الإنسان ثق ًة بالنفس وبالمنهج وبالعلم‪ ،‬ومنها ما يتصف بالتغ ُّير والتط ُّور في طرق النظر‬ ‫المنهجي وأنواعه‪ ،‬وفي وسائل البحث وأدواته‪ ،‬وفي تكييف هذه الطرق والوسائل‬ ‫والأدوات لأنواع القضايا البحثية‪ ،‬وما تنتسب إليه هذه القضايا من علوم متج ِّددة‪ ،‬وفروع‬ ‫علمية مستحدثة‪.‬‬ ‫فمن المبادئ التي تتصف بالاستقرار والثبات ضرور ُة الإيمان بوحدانية الله‪ .‬قال‬ ‫تعالى‪﴿ :‬ﰊﰋﰌﰍﰎﰏ﴾ [محمد‪ .]19:‬وانتظام العا َلم بتوا ُزن وقدر على أحسن حال‪.‬‬ ‫قال سبحانه‪﴿ :‬ﮤﮥﮦﮧﮨﮩ﴾ [السجدة‪ ،]7 :‬وقال ع َّز وج َّل‪﴿ :‬ﰌﰍﰎﰏﰐ﴾‬ ‫[القمر‪ .]49:‬وثبات السنن والقوانين التي جعلها الله في خلقه ليسهل تع ُّلمها وتسخيرها‪ .‬قال‬ ‫تعالى‪﴿ :‬ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ﴾ [الأحزاب‪ .]62:‬والإيمان‬ ‫بأ َّن أ َّي ِع ْلم يح ِّصله الإنسان بطرق البحث المناسبة سيكون علم ًا جزئي ًا نسبي ًا يفرض على‬ ‫الإنسان أ ْن يتذ َّكر دائم ًا قوله ع َّز وج َّل‪﴿ :‬ﯷﯸﯹﯺﯻﯼ﴾ [الإسراء‪ ،]85:‬وأ ْن يدعو‬ ‫ر َّبه‪﴿ :‬ﭠﭡﭢﭣ﴾ [طه‪.]114:‬‬ ‫ولك َّن المنهج في القرآن الكريم هو ما ارتضاه الله للإنسان من منهج جاء في الوحي‬ ‫الخاتم؛ ما يعني أ َّن هذا المنهج القرآني س ُيل ّبي حاجات الناس من العناصر المنهجية في‬ ‫حال تع َّقلوه وتد َّبروه‪ ،‬مع تط ُّور خبراتهم عبر الزمان‪ ،‬وتن ُّوع بيئاتهم عبر المكان‪ .‬وهذا‬ ‫ُيح ِّتم على المبادئ المنهجية أ ْن تفتح الباب واسع ًا للمرونة والتغ ُّير والتط ُّور؛ ما يعني‬ ‫أ َّن الانطلاق من المبادئ المنهجية الثابتة يتيح تطوير الأساليب والوسائل التي تتح َّقق‬ ‫بها دعو ُة الل ِه الإنسا َن للسير في الأرض‪ ،‬والنظر‪ ،‬والرؤية‪ ،‬والسعي؛ فالنظر في آفاق‬ ‫الكون كان يتم بالعين المج َّردة‪ ،‬ث َّم تط َّور النظر باستخدام ال ِم ْقراب (التلسكوب) الذي‬ ‫يتيح للإنسان رؤية الأشياء البعيدة جد ًا‪ ،‬والمجهر ال ُمك ِّبر (الميكروسكوب) الذي يتيح‬ ‫للإنسان رؤية الأشياء الصغيرة جد ًا‪ ،‬وتحليل الأطياف الضوئية التي تكشف عن طبيعة‬ ‫‪227‬‬

‫الإشياء ومك ِّوناتها وأبعادها الزمانية والمكانية‪ ،‬وغير ذلك من أساليب النظر والرؤية‪ ،‬التي‬ ‫تط َّورت اليوم إلى ح ٍّد جعل الإنسان يرى تفاصيل الأحداث والمشاهد لحظة حدوثها‪،‬‬ ‫ويسمعها بصرف النظر عن ُب ْعدها عنه‪ ،‬ويعيد مشاهدة تفاصيل ما حدث في لحظة معينة‬ ‫مهما ابتعد الزمن عن لحظة الحدث‪ .‬ومثل ذلك يقال عن أساليب السير في الأرض‪ ،‬على‬ ‫الأرجل والدواب‪ ،‬ث َّم بواسطة السفينة‪ ،‬والسيارة‪ ،‬والقطار‪ ،‬والطائرة‪.‬‬ ‫‪ .5‬المصدر الأول للتعليم والتع ُّلم‪:‬‬ ‫تعليم الإنسان في القرآن الكريم يبدأ من بداية الخلق؛ فبعد أ ْن خلق الله آدم‪ ،‬ف َّضله‬ ‫بالعلم‪ ،‬وع َّلمه الأسماء التي لم ُيع ِّلمها الملائكة‪﴿ .‬ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ‬ ‫ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ﴾ [البقرة‪ .]31:‬وبتعليم آدم الأسماء‪،‬‬ ‫وإظهار فضيلته بقبوله لهذا التعليم دون الملائكة‪ ،‬فإ َّن الله جعله ُح َّجة على قوله لهم‪:‬‬ ‫﴿ﭪﭫﭬﭭﭮ﴾ [البقرة‪]30:‬؛ أ ْي ما لا تعلمون‪ ‬من جدارة هذا المخلوق بالخلافة على‬ ‫الأرض‪ .‬وفي آيات سورة العلق امت َّن الله على الإنسان بأ َّنه م َّكنه من استعمال عمليات‬ ‫ال ِع ْلم والتعليم من قراءة وكتابة بالقلم؛ فبهما تع َّلم الإنسان‪ ،‬ولا يزال يتع َّلم ما لا يعلم‬ ‫من الأمور‪﴿ .‬ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ‬ ‫ﮎﮏﮐﮑﮒ﴾ [العلق‪.]5-1:‬‬ ‫وقد ن َّص القرآن الكريم على أ َّن وظيفة رسول الله محمد ص ّلى الله عليه وس َّلم هي‬ ‫تعليم الناس الكتاب والحكمة‪ ،‬وأ َّن الله سبحانه لا يزال ُيع ِّلم الناس في كل جيل من‬ ‫أجيال البشرية شيئ ًا لم يكونوا يعلمونه‪﴿ .‬ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ‬ ‫ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ﴾ [البقرة‪.]151:‬‬ ‫ولا يقبل القرآن الكريم من الإنسان أ ْن يؤمن بفكرة‪ ،‬أو يعمل عمل ًا بالوراثة؛ لأ َّن‬ ‫السابقين من آبائه وآجداده آمنوا بتلك الفكرة‪ ،‬أو عملوا ذلك العمل‪ ،‬وإ َّنما يتع َّين عليه أ ْن‬ ‫يتع َّلم ذلك اعتماد ًا على مصادر العلم وأدواته؛ فقد يكون الآباء والأجداد لا يعقلون شيئ ًا‪،‬‬ ‫ولا يهتدون‪﴿ .‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ‬ ‫ﭣﭤﭥﭦ ﭧ﴾ [البقرة‪.]170:‬‬ ‫‪228‬‬

‫وما َيلزم أ ْن يتع َّلمه الإنسان لا يقتصر على ما ُس ِّمي علوم ًا ديني ًة من عقائد وعبادات‬ ‫ومعاملات وأخلاق‪ ،‬وإ َّنما يل ُّح القرآن الكريم على الإنسان أ ْن يتع َّلم حكمة الله في‬ ‫مخلوقاته؛ ليعرف حقائق العوالم الطبيعية والاجتماعية والنفسية‪ ،‬ف ُت ِعينه على بناء العمران‪،‬‬ ‫وإنشاء الحضارة‪ ،‬وترقية الحياة؛ فكل العلوم التي يستطيع الإنسان أ ْن يتع َّلمها من أجل‬ ‫تحقيق هذه الأهداف هي علوم دينية‪.‬‬ ‫‪ .6‬مسؤولية التع ُّلم والتعليم‪:‬‬ ‫إ َّن عدل الله سبحانه يتم َّثل في قوله تعالى‪﴿ :‬ﰅ ﰆﰇﰈﰉ﴾ [المدثر‪ ،]38:‬وقوله ع َّز‬ ‫وج َّل‪﴿ :‬ﯿﰀﰁﰂﰃ﴾ [مريم‪ .]95:‬وهذا يعني أ َّن الإنسان ُمك َّلف أ ْن يبادر بنفسه‬ ‫إلى التع ُّلم‪ .‬وقبل أ ْن يصل إلى س ِّن التكليف‪ ،‬تكون مسؤولية تعليمه على والديه‪ .‬قال تعالى‪:‬‬ ‫﴿ﯞﯟﯠﯡ﴾ [التحريم‪ ،]6:‬وقال سبحانه‪﴿ :‬ﮰﮱﯓﯔﯕﯖ﴾ [طه‪.]132:‬‬ ‫ولا شك في أ َّن الأبناء والأحفاد هم من فضل الله على الوالدين‪ ،‬وأ َّن الصلة الوثيقة‬ ‫بين الأبناء والوالدين صلة فطرية تستدعي حرص الوالدين على أ ْن يتع َّلم الأبناء كل ما فيه‬ ‫خيرهم؛ فالأبناء لهم‪ ،‬وكل ما يكون للبنين والحفدة من خير وهدى ورشد فهو للآباء في‬ ‫الدنيا والآخرة‪﴿ .‬ﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﰇﰈﰉﰊﰋﰌ﴾‬ ‫[النحل‪ .]72:‬وكان من دعاء عباد الرحمن أ ْن يهب الله \"لهم\" ذرية تكون ق َّرة عين لهم‪.‬‬ ‫﴿ﮣﮤﮥ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ﴾ [الفرقان‪ .]74:‬وحين رأى نبي‬ ‫الله زكريا عليه السلام أ َّن قدرة الله سبحانه تتجاوز الأسباب الظاهرة‪ ،‬سأل اللهَ شيئ ًا ُي َع ُّد في‬ ‫عا َلم الأسباب الظاهرة أمر ًا خارق ًا‪ ،‬وهو أ ْن يهب \"له\" ذري ًة طيب ًة‪ ،‬وقد بلغ من ال ِك َبر عتي ًا‬ ‫وامرأته عاقر‪﴿ .‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭝﭞﭟﭠﭡ﴾‬ ‫[آل عمران‪]38:‬؛ وذلك ل ِع ْلمه أ َّن الذرية الطيبة لا تقتصر على كونها من زينة الحياة الدنيا‪.‬‬ ‫﴿ﭑﭒﭓﭔﭕ﴾ [الكهف‪ ،]46:‬وإ َّنما هي ‪-‬في حالة زكريا‪ -‬وسيلة لاستمرار‬ ‫بيت النبوة‪ ،‬والقيام على خدمة دين الله تعالى‪.‬‬ ‫وقد تض َّمنت وصايا لقمان لابنه وهو يع ُظه و ُيع ِّلمه و ُير ّبيه ما يخت ُّص بالعقيدة‪،‬‬ ‫والعبادة‪ ،‬وبر الوالدين‪ ،‬والسلوك النفسي والاجتماعي‪.‬‬ ‫‪229‬‬

‫وفي قصة إبراهيم عليه السلام الكثير من مواقف التعليم والتع ُّلم التي تتواصل مع‬ ‫الذرية؛ فقد كان دعاء إبراهيم وإسماعيل دعا ًء مشترك ًا‪ ،‬وتض َّمن الدعاء أ ْن تكون ذريتهما‬ ‫ُم ْس ِلم ًة‪ ،‬وأ ْن ير ِسل الله في هذه الذرية رسولاً ُيع ِّلمها‪ .‬وفي القصة تقري ُر أ َّن إبراهيم و ّصى‬ ‫بنيه بكلمة التوحيد‪ ،‬وأ َّن يعقوب و ّصى بنيه بالتوصية نفسها‪ .‬وقد تك َّرر فيها ذكر يعقوب‪،‬‬ ‫وتوصية بنيه بسؤالهم عن عبادتهم من بعده‪ ،‬فأ َّكدوا له أ َّنهم سيحفظون الوصية جيد ًا‪.‬‬ ‫﴿ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ‬ ‫ﭣ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴ‬ ‫ﭵﭶﭷ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﭿﮀﮁﮂﮃ‬ ‫ﮄﮅﮆﮇﮈ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮕﮖﮗ‬ ‫ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ‬ ‫ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ‬ ‫ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ ﯨﯩﯪﯫﯬ‬ ‫ﯭﯮ ﯯﯰﯱﯲ﴾ [البقرة‪.]133-127:‬‬ ‫لقد أرسل الله سبحانه الأنبياء والرسل ليصلحوا حال أقوامهم‪ ،‬فكان الأنبياء يأمرون‬ ‫بالمعروف وينهون عن المنكر‪ ،‬ولك َّن الله ب َّين حرص هؤلاء الأنبياء على إصلاح حال‬ ‫أقوامهم من بعدهم؛ ليستمر دين الله بين هذه الأقوام في الأجيال المتلاحقة‪ ،‬فجاء حرص‬ ‫هؤلاء الأنبياء على ذلك في صيغة الوصية‪ .‬والوصية تكون غالب ًا في حال تو ُّقع الفراق‪ ،‬لا‬ ‫سيما عند اقتراب الأجل وتو ُّقع الموت‪ ،‬حيث تكشف عن حرص المو ِصي و ِش َّدة رغبته‬ ‫في الاستماع إليها وتنفيذها‪ ،‬وتثير عند َم ْن يوصيهم حال ًة من التأ ُّثر والوفاء‪.‬‬ ‫‪ .7‬القرآن الكريم موضوع للتعليم‪:‬‬ ‫القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية المنزلة‪ ،‬وقد ُأن ِزل على النبي محمد ص ّلى الله‬ ‫عليه وس َّلم ُمن َّجم ًا في أوقات مختلفة؛ لتوجيه النبي والمؤمنين إلى التعامل مع الحوادث‬ ‫والوقائع بحسب ما ق َّدره الله سبحانه من حاجات الناس‪ .‬وكان ﷺ يأمر كتب َة الوحي بكتابة‬ ‫ما يتلوه عليهم‪ ،‬ث َّم يأمرهم بقراءة ما كتبوه؛ ليتح َّقق من د َّقة كتابتهم‪ ،‬حتى أصبح القرآن‬ ‫‪230‬‬

‫الكريم مجموع ًا في الصدور‪ ،‬ومكتوب ًا في السطور‪ .‬ث َّم انتقل القرآن الكريم بعد الصحابة‬ ‫بالتواتر جيل ًا بعد جيل‪ ،‬حتى وصل إلينا بتعليم أهل الاختصاص وتلقينهم‪ ،‬والإتقان‬ ‫بأسانيدهم المعروفة والمشهورة‪ ،‬وكان في كل زمان المادة الأُولى للتعليم والتربية‪.‬‬ ‫لقد جعل القرآن الكريم التعليم أولوي ًة في بناء الدين كله حين بدأت الآيات الأُولى‬ ‫فيه بالقراءة والكتابة والتع ُّلم‪ ،‬وبدأت بذلك حملة عامة استهدفت محو الأُ ِّمية في المجتمع‬ ‫المسلم‪ .‬ث َّم إ َّن القرآن الكريم جاء كتاب هداية عامة للناس أجمعين في مجالات الحياة‬ ‫البشرية‪ ،‬ولذلك تض َّمنت موضوعاته ما يخت ُّص بالتزكية الفردية‪ ،‬والحياة الأسرية‬ ‫والاجتماعية‪ ،‬والتدبير الاقتصادي‪ ،‬والتنظيم السياسي‪ ،‬والعلاقات الدولية‪...‬؛ لذا كان من‬ ‫الطبيعي أ ْن يكون القرآن الكريم موضوع ًا للتعليم في ألفاظه ونصوصه‪.‬‬ ‫والقرآن الكريم ينص على أ َّن من أهداف الرسالة الخاتمة أ ْن يتو ّلى الرسول تلاوة‬ ‫الآيات‪ ،‬وتعليم الكتاب‪ .‬والآيات هي نصوص الكتاب؛ وهو القرآن الكريم‪ .‬وكان أول‬ ‫ما ع َّلمه النبي لأصحابه أ ْن يتلوا عليهم ما يوحيه إليه ربه‪ ،‬وقد اقتضت حكمة الله سبحانه‬ ‫أ ْن يكون الوحي بالقرآن تنزيل ًا ُمن َّجم ًا على الظروف والأحوال والأحداث‪ ،‬فيتلو النبي‬ ‫على كتبة الوحي ما يوحى به إليه‪ ،‬فيكتبونه‪ ،‬ويحفظونه‪ ،‬ث َّم يتو ّلى النبي بيان ما َيلزم بيانه‬ ‫من أمر‪ ،‬أو نهي‪ ،‬أو توجيه‪ ،‬فيعملون به‪ ،‬و ِم ْن َث َّم يتع َّزز لفظه ومعناه قولاً وعمل ًا‪﴿ .‬ﭥ‬ ‫ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ﴾ [النحل‪ .]44:‬وبعد عهد الرسالة أصبح القرآن الكريم‬ ‫أول مادة تعليمية في الممارسات التعليمية في المجتمع المسلم‪ ،‬وكان تعليم القرآن تلاو ًة‬ ‫وحفظ ًا وتفسير ًا وتطبيق ًا لما فيه من تربية وتوجيه‪ .‬ث َّم أصبح للقرآن علوم كثيرة تع َّددت‬ ‫وتن َّوعت‪ ،‬فكان منها مثل ًا‪ :‬جمع القرآن وتدوينه؛ والعلم بالقراءات القرآنية‪ ،‬وترتيل القرآن‬ ‫وتجويده‪ ،‬ورسمه‪ ،‬وتفسيره‪ ،‬وإعجازه؛ وعلوم أصول التفسير‪ ،‬والمحكم والمتشابه‪،‬‬ ‫والناسخ والمنسوخ‪ ،‬والمكي والمدني‪ ،‬والإعجاز‪ ،‬وأسباب النزول‪ ،‬و ُم ْشكل القرآن‪،‬‬ ‫وغير ذلك م ّما تض َّمنته الكتب المتخ ِّصصة في علوم القرآن‪ .‬فقد جاء في كتاب \"البرهان\"‬ ‫للسيوطي أ َّن التفصيل في علوم القرآن هو على سبيل الإدماج‪ ،‬فكانت ثمانين علم ًا‪ .‬قال‬ ‫في ذلك‪\" :‬ولو ُن ِّو َع ْت باعتبار ما أدمج ُته في ضمنها لزادت على الثلاثمئة‪(((\".‬‬ ‫((( السيوطي‪ ،‬جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (توفي‪911 :‬ﻫ)‪ .‬الإتقان في علوم القرآن‪ ،‬تحقيق‪ :‬مركز‬ ‫الدراسات القرآنية‪ ،‬الرياض‪ :‬وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد‪1426 ،‬ﻫ‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.17‬‬ ‫‪231‬‬

‫ومع أ َّن القرآن الكريم (تلاو ًة‪ ،‬وحفظ ًا) أصبح موضوع التعليم عند الأطفال في أول‬ ‫التعليم‪ ،‬فإ َّن موضوع القرآن يبقى ماد ًة للتعليم في المراحل المختلفة‪ ،‬حتى أصبحت علوم‬ ‫القرآن تخ ُّصص ًا دقيق ًا في أعلى مراحل التعليم‪.‬‬ ‫ومن الجدير بالذكر أ َّن القرآن الكريم أصبح مرجعية لضبط اللغة العربية وقوانينها؛‬ ‫فقد اختار الله سبحانه هذه اللغة لتكون أداة التبليغ في رسالته الأخيرة إلى الإنسان‪،‬‬ ‫وتع َّهد بحفظ هذا القرآن بلغته ونصوصه؛ ف َمن أراد أ ْن يتع َّلم العربية‪ ،‬فإ َّن تع ُّلم لسان‬ ‫القرآن خير ُمع ِّلم‪.‬‬ ‫لقد بدأ تعليم الآيات القرآنية مشافهة من فم رسول الله ﷺ‪ ،‬ث َّم سار المسلمون بعد‬ ‫ذلك على الطريقة نفسها‪ .‬فالذين تل َّقوا القرآن من النبي ﷺ بالمشافهة أخذوا ُيع ِّلمونه‬ ‫غيرهم بالمشافهة كذلك‪ .‬قال عبد الله بن مسعود ‪\" :‬والله لقد أخذت ِمن في رسو ِل‬ ‫الله ﷺ بضع ًا وسبعين سورة‪ ،‬والله لقد َع ِلم أصحا ُب النبي ﷺ أ ِّني ِمن أ ْعلمهم بكتاب‬ ‫الله‪ ،‬وما أنا بخيرهم‪ (((\".‬وفي \"فتح الباري\" زيادة في هذا الحديث‪ ،‬يقول فيها ابن مسعود‪:‬‬ ‫\"وأخذت بقية القرآن عن أصحابه‪ (((\".‬وعند الإمام أحمد في \"المسند\"‪\" :‬وعن معد يكرب‬ ‫قال‪ :‬أتينا عبد الله فسألناه أ ْن يقرأ طسم المائتين‪ ،‬فقال‪ :‬ما هي معي‪ ،‬ولك ْن عليكم َمن‬ ‫أخذها ِمن رسول الله ﷺ خ ّباب بن الأرت‪ ،‬قال‪ :‬فأتينا خ ّباب بن الأرت فقرأها علينا‪(((\".‬‬ ‫واستمر حفظ القرآن الكريم بالمشافهة رواية بالسند المتصل عبر القرون‪ .‬ونظر ًا لأ َّن‬ ‫تطبيق أحكام التلاوة بصورة كاملة يتع َّذر من دون مشافهة؛ فإ َّن كثير ًا من المسلمين لا‬ ‫يزالون يحفظونه بالمشافهة بالسند المتصل إلى يومنا هذا‪ .‬ولع َّل حفظ القرآن الكريم عن‬ ‫طريق التع ُّلم والتلقين بالمشافهة كان إحدى الطرق التي حفظ بها الله تعالى القرآن الكريم‬ ‫((( البخاري‪ .‬صحيح البخاري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب فضائل القرآن‪ ،‬باب الق ّراء من أصحاب النبي ﷺ‪ ،‬حديث رقم‬ ‫(‪ ،)5000‬ص‪.994‬‬ ‫((( ابن حجر‪ ،‬الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي العسقلاني (توفي‪852 :‬ﻫ)‪ .‬فتح الباري بشرح صحيح الإمام أبي‬ ‫عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد القادر شيبة الحمد‪ ،‬الرياض‪ :‬المحقق‪2001 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،8‬باب‪:‬‬ ‫الق ّراء من أصحاب النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم‪ .‬نقل حديث عبد الله السابق‪ ،‬وقال‪ :‬زاد عاصم عن بدر عن عبد‬ ‫الله‪\" :‬وأخذت بقية القرآن عن أصحابه\"‪ ،‬ص‪.677‬‬ ‫((( ابن حنبل‪ ،‬الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (توفي‪241 :‬ﻫ)‪ .‬مسند الإمام أحمد‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد شاكر‪ ،‬القاهرة‪:‬‬ ‫دار المعارف بمصر‪1985 ،‬م‪ ،‬حديث رقم‪ ،)3980( :‬ج‪ ،6‬ص‪.34‬‬ ‫‪232‬‬

‫من التحريف والتبديل‪ .‬ولع َّل تلاوة الفاتحة وغيرها من القرآن الكريم في الصلوات‬ ‫الجهرية وفي صلاة الجمعة والعيدين تساعد كذلك على تعميم تعليم القرآن بالمشافهة‪.‬‬ ‫إ َّن تعليم القرآن الكريم هو تعليم مي ّسر في حفظه‪ ،‬وفهمه‪ ،‬وتطبيق توجيهاته؛‬ ‫فتوجيهاته ليست تكليفات بأمور عسيرة‪ ،‬وإ َّنما هي توجيهات تتناسب مع الفطرة السليمة‬ ‫المهيأة لعمران الأرض والخلافة فيها بالخير والحق والعدل؛ أمل ًا في نعيم الآخرة‪ .‬ومن‬ ‫هذه الفطرة الاستمتاع بالطيبات من متاع الدنيا؛ مالاً‪ ،‬وولد ًا‪ ،‬وأزواج ًا‪ ،‬وصحب ًة‪.‬‬ ‫‪ .8‬ضوابط العلم وأخلاقياته في القرآن الكريم‪:‬‬ ‫ورد من الألفاظ القرآنية كثي ٌر م ّما هو مختص بضوابط العلم وأخلاقياته‪:‬‬ ‫‪ -‬من العلم توثيق العقود بالكتابة والشهادة عليها‪ .‬وإذا كتب الكاتب فعليه أ ْن يكتب‬ ‫بالعدل والأمانة والصدق‪ .‬وإذا طلبت شهادة الشاهد فلا يجوز له أ ْن يأبى الشهادة‬ ‫أو يكتمها‪ .‬قال تعالى‪﴿:‬ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ‬ ‫ﭧﭨﭩ﴾ [البقرة‪ ،]282:‬وقال سبحانه‪﴿ :‬ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ‬ ‫ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ﴾ [البقرة‪.]283:‬‬ ‫‪ -‬من الموضوعية أ ْن يوصف الإنسان بما قد يكون عنده من العلم؛ فعدم علم الإنسان‬ ‫بالآخرة وغفلته عنها لا يعني أ َّنه لا يعلم شيئ ًا من أمور الدنيا‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬ﭞ‬ ‫ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ﴾ [الروم‪.]7:‬‬ ‫‪ -‬في مواقف العلم والتع ُّلم يو ِّجه القرآن الكريم المسلم إلى استعمال الألفاظ‬ ‫المناسبة لكل حالة؛ حتى لا يختلف معنى اللفظ عند القارئ أو المستمع عن‬ ‫دلالاته الحقيقية‪ .‬فاللغة في نهاية المطاف هي‪\" :‬عبارة المتكلم عن مقصوده‪،‬‬ ‫وتلك العبارة فعل لساني‪ ...‬فلا ُب َّد أ ْن تصير ملك ًة متق ِّررة في العضو الفاعل لها‪،‬‬ ‫وهو اللسان‪ ،‬وهو في كل ُأ َّمة بحسب اصطلاحاتهم‪ (((\".‬لك َّن القرآن الكريم هو‬ ‫مرجع اللغة في ضبط الاصطلاحات‪ ،‬وتصحيح ما قد يكون لا َب َسها من أخطاء‪،‬‬ ‫فيما تدل عليه هذه الاصطلاحات‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ‬ ‫ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ﴾ [الحجرات‪.]14:‬‬ ‫((( ابن خلدون‪ .‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.1128‬‬ ‫‪233‬‬

‫‪ -‬من ضوابط العلم والتعليم استعمال الكلام في مواضعه من دون تحريف أو تبديل في‬ ‫الألفاظ؛ لتدل على غير ما كانت الألفاظ الأصلية ُو ِضعت من أجله‪ .‬وقد لعن الله‬ ‫أقوام ًا فعلوا ذلك‪ ،‬فقال ع َّز وج َّل‪﴿ :‬ﮥ ﮦﮧﮨﮩﮪ‬ ‫ﮫﮬﮭﮮﮯﮰ﴾ [المائدة‪ ،]13:‬وقال سبحانه‪﴿ :‬ﮥﮦ‬ ‫ﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ‬ ‫ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ﴾ [المائدة‪.]41:‬‬ ‫‪ -‬من د َّقة استعمال الألفاظ التميي ُز بين العلم والظن‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬ﭷﭸﭹﭺ‬ ‫ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ﴾ [الأنعام‪.]148:‬‬ ‫‪ -‬من ضوابط العلم والتعليم الاستشها ُد بالدليل النقلي الذي يتصف بالصدق مثل ًا‪.‬‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬ﯞﯟ﴾ [الأحقاف‪ ،]4:‬أو الدليل الح ِّسي‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬ﯓﯔ‬ ‫ﯕﯖﯗ﴾ [الأحقاف‪ ،]4:‬وقال سبحانه‪﴿ :‬ﮯﮰ ﮱﯓﯔﯕ‬ ‫ﯖﯗﯘﯙﯚ﴾ [الزخرف‪ ،]19:‬أو الدليل العقلي‪ .‬قال ع َّز وج َّل‪﴿ :‬ﭠﭡ‬ ‫ﭢﭣﭤﭥ﴾ [النمل‪ ،]64:‬وقال تعالى‪﴿ :‬ﮫﮬﮭﮮﮯ ﮰﮱ‬ ‫ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ‬ ‫ﯧﯨ ﯩ﴾ [الأحقاف‪.]4:‬‬ ‫‪ -‬من ضوابط العلم والتعليم الاهتما ُم بما يح ِّقق فائدة حقيقية للإنسان‪ ،‬م ّما تدركه‬ ‫حواسه البشرية‪ ،‬وي ْف َق ُهه عق ُله‪ ،‬و َينْ َبني عليه عم ٌل ينف ُعه؛ فالسؤال والكلام فيما وراء‬ ‫ذلك هدر لجهد الإنسان ووقته بغير فائدة‪ .‬وهذا ما كان القرآن الكريم يو ِّجه به‬ ‫النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم في إجابته عن أسئلة السائلين‪ .‬ومن ذلك قوله تعالى‪:‬‬ ‫﴿ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ﴾‬ ‫[الإسراء‪ ،]85:‬وقوله سبحانه‪﴿ :‬ﯯﯰﯱ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ‬ ‫ﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒ‬ ‫ﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙ﴾ [الأعراف‪.]187:‬‬ ‫‪234‬‬

‫‪ .9‬أولويات التربية والتعليم في القرآن الكريم‪:‬‬ ‫إ َّن اكتساب العلم يتط َّلب وقت ًا وجهد ًا‪ ،‬وعمر الإنسان قصير‪ ،‬وطاقته محدودة‪ ،‬وبعض العلوم‬ ‫والخبرات أكثر أهمية من غيرها‪ ،‬وبعضها َيلزم اكتسابه قبل غيره؛ لذا يجب النظر فيما هو َأ ْولى‬ ‫من غيره من حيث الأهمية والوقت‪ .‬وفي القرآن الكريم ما يهدي إلى تحديد هذه الأولويات‪.‬‬ ‫ومن أمثلة الأولويات‪:‬‬ ‫‪ -‬اكتساب العلم النافع‪ :‬هو ما يخت ُّص بالموضوعات التي ينتفع بها الإنسان في دنياه‬ ‫وآخرته‪ ،‬وما ينفع به غيره‪ ،‬ويتض َّمن ذلك أنواع ًا من الموضوعات‪ ،‬منها ما هو من‬ ‫فرائض العين التي لا يليق بأ ِّي فرد في الأُ َّمة أ ْن يجهله من أمور دينه ودنياه‪ ،‬ومنها‬ ‫ما هو من فرائض الكفاية التي تجعل كل فرد يق ِّدم لمجتمعه ما لا يليق بالمجتمع‬ ‫أ ْن يفتقده من العلوم والخبرات والكفايات‪.‬‬ ‫‪ -‬اكتساب خشية الله‪ :‬العلماء الذين تع َّلموا ما في القرآن الكريم من آيات تدعو إلى‬ ‫التع ُّقل والتف ُّكر والتد ُّبر والتذ ُّكر‪ ،‬وآيات الترغيب والترهيب‪ ،‬وآيات السير والنظر‬ ‫والرؤية في آفاق العا َلم الطبيعي والاجتماعي والنفسي‪ ،‬وغير ذلك من الآيات؛‬ ‫وهم العلماء الذين انتفعوا بهذه العلوم ونفعوا بها‪ ،‬سيكونون أكثر خشية لله‬ ‫سبحانه‪﴿ .‬ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ﴾ [فاطر‪ .]28:‬وقد جاء هذا النص بعد الدعوة‬ ‫إلى رؤية نماذج من تج ِّليات قدرة الله سبحانه في مشاهد كونية متن ِّوعة‪ ،‬تدعو إلى‬ ‫الجمع بين اكتساب العلماء هذه العلوم في مجالات الجيولوجيا والأحياء النباتية‬ ‫والحيوانية والاجتماعيات البشرية‪ ،‬وخشيتهم لله‪ ،‬و ِم ْن َث َّم يكون العلم الحق النافع‬ ‫بهذه العلوم هو ما يؤدي إلى هذه الخشية‪﴿ .‬ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ‬ ‫ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ‬ ‫ﯗﯘﯙ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯥﯦ‬ ‫ﯧﯨ﴾ [فاطر‪.]28-27:‬‬ ‫ولذلك سيكون من أولويات التعليم والتربية أ ْن يتح َّقق هذا النوع من العلم والخشية‬ ‫الناتجة عنه‪ .‬فإذا لم تتح َّقق هذه الخشية‪ ،‬فإ َّن ذلك العلم الذي اكتسبوه ر َّبما كان شيئ ًا‬ ‫\"من ظواهر الحياة الدنيا‪ ،‬وهو علم محدود بأشياء قد تكون نافعة في هذه الدنيا‪ ،‬وعدم‬ ‫‪235‬‬

‫العلم بأشياء ُأخرى تكون أكثر نفع ًا لهم‪ ،‬وتجعلهم يدركون أ َّن الغفلة عن الآخرة تجعلهم‬ ‫ضمن أكثر الناس الذي لا يعلمون‪﴿ .‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ‬ ‫ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ﴾ [الروم‪ .]7-6:‬و ُع ِّبر عن جهلهم الآخرة بالغفلة‬ ‫كناية عن نهوض دلائل وجود الحياة الآخرة لو نظروا في الدلائل المقتضية وجود حياة‬ ‫آخرة‪ ،‬فكان جهلهم بذلك شبيه ًا بالغفلة‪((( \".‬‬ ‫‪ -‬التر ُّفق والتد ُّرج والتيسير في التعليم‪ :‬أنبياء الله سبحانه كانوا خير ُمع ِّلمين؛ فالذين‬ ‫آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة إ َّنما ُيع ِّلمون الناس أ ْن يكونوا ربانيين‪ ،‬و َين ُسبون‬ ‫إلى الر ِّب سبحانه ما تع َّلموه في الكتاب من علم يمنعهم عن الشرك‪ ،‬وما درسوه‬ ‫فيه؛ أ ْي قرأوه بإعادة وتكرار حتى فهموه وأتقنوه‪ .‬وقد جاء هذا التعليم بالتيسير‬ ‫اللازم‪ ،‬وبالتد ُّرج الذي ُيد ِّبر أمر الناس‪ ،‬ويصلح شؤونهم‪ .‬والذي يتل ّقى هذا‬ ‫التعليم‪ ،‬ويكتسب شيئ ًا منه‪ ،‬فإ َّنه يعمل بعلمه‪ .‬قال سبحانه‪﴿ :‬ﭯﭰﭱﭲﭳ‬ ‫ﭴﭵ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﭿﮀﮁﮂ‬ ‫ﮃﮄﮅﮆﮇ ﮈﮉﮊ﴾ [آل عمران‪ .]79:‬وقال القرطبي في‬ ‫تفسير الآية‪\" :‬والر ّبانيون واح ُدهم ر ّباني منسوب إلى الر ِّب‪ ،‬والر ّباني الذي ُي َر ِّبي‬ ‫النّاس بصغار العلم قبل كباره‪ ،‬وكأ َّنه يقتدي بالر ِّب سبحانه في تيسير الأمور‪،‬‬ ‫وروى معناه عن ابن عباس… وقال المب ِّرد‪ :‬الر ّبانيون أرباب العلم‪ ،‬واحدهم ر ّبان‬ ‫من قولهم‪ :‬ر َّبه ي ُر ُّبه‪ ،‬فهو ر ّبان‪ ،‬إذا د َّبره وأصلحه‪ ،‬فمعناه على هذا‪ُ :‬يد ِّبرون أمور‬ ‫الناس ويصلحونها‪ ...‬فمعنى الر ّباني العالِ ُم بدين الر ِّب الذي يعمل بعلمه؛ لأ َّنه إذا‬ ‫لم يعمل بعلمه فليس بعالِم… والر ّباني الذي يجمع إلى العلم البصر بالسياسة‪...‬‬ ‫ر َّب أ ْم َر الناس ير ُّبه إذا أصلحه وقام به‪(((\".‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬موضوعات التعليم في القرآن الكريم‪:‬‬ ‫يتجاوز تعليم القرآن الكريم كونه موضوع ًا للتع ُّلم والتعليم إلى التربية على قيمه‬ ‫وتوجيهاته التي تحكم حياة الإنسان طوال عمره‪ ،‬وتمتد به من عمران الأرض والاستمتاع‬ ‫((( ابن عاشور‪ ،‬تفسير التحرير والتنوير‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،21‬ص‪.50‬‬ ‫((( القرطبي‪ ،‬أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر (توفي‪671 :‬ﻫ)‪ .‬الجامع لأحكام القرآن‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد الله‬ ‫التركي ومحمد رضوان عرقسوسي‪ ،‬بيروت‪ :‬مؤسسة الرسالة‪2006 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،5‬ص‪.185-184‬‬ ‫‪236‬‬

‫بخيراتها إلى عمران الآخرة بالأجر والثواب على ما قام به الإنسان من عمران الدنيا بأعمال‬ ‫البر والخير والاستقامة‪ .‬ولعل هذا الامتداد والاتساع هو ما يهدي إليه القرآن الكريم من‬ ‫هدف العلم والتعليم‪.‬‬ ‫‪ .1‬تعليم الرؤية الكلية والتفاصيل الجزئية‪:‬‬ ‫يقودنا النظر في موضوعات التعليم التي يمكن أ ْن نستدل على حضورها في القرآن‬ ‫الكريم إلى ملاحظة كثير من الموضوعات التي تدخل في تفاصيل حياة الإنسان في الدنيا‬ ‫والآخرة‪ .‬لك َّن الأهم من ذلك ر َّبما يكون في ملاحظة المسائل الكلية التي تتح َّدث عن‬ ‫العا َلم بأنواعه المادية والاجتماعية والنفسية‪ ،‬وعن رب العالمين جميع ًا‪ ،‬وعن الإنسان في‬ ‫أصله ومسيره ومصيره‪ ،‬وعن الدنيا والآخرة‪ ،‬وعن حرية الإنسان في الاختيار والتساؤل‬ ‫وإعمال العقل والحواس في الاجتهاد والتجديد في توظيف العلم‪ ،‬ومسؤوليته عن كل‬ ‫ذلك مسؤولية فردية واجتماعية‪ ،‬وغير ذلك من المسائل الكلية‪ .‬وملاحظة هذه المسائل‬ ‫الكلية تدعو الإنسان إلى النظر في الجزئيات والتفاصيل في ضوء هذه الرؤية الكلية‪.‬‬ ‫ولكنَّنا نجد في القرآن كذلك تعليم ًا في التفاصيل والجزئيات التي نم ِّيز فيها مسائل‬ ‫جزئية تخت ُّص بالعقائد‪ ،‬أو العبادات‪ ،‬أو المعاملات‪ ،‬وأحكام ًا تح ِّدد الحقوق والواجبات‪.‬‬ ‫ونجد في التوجيهات التربوية القرآنية أساليب أمر ونهي‪ ،‬ومواعظ وإرشادات‪ .‬ومن تعليم‬ ‫القرآن ما فيه دعوة إلى التنافس في الخير‪ ،‬والتسابق في أبوابه‪ ،‬وهو تربية للوجدان‪ ،‬وتعزيز‬ ‫للمودة والرحمة‪ ،‬وتزكية للعلاقات الأسرية والاجتماعية‪ .‬وفي تعليم القرآن الكريم دعوة‬ ‫إلى الثبات في ميادين القتال والحروب‪ ،‬وتربية على الصبر والتح ُّمل‪ ،‬وضبط للمعاملات‬ ‫الاقتصادية‪ ،‬وترشيد للأنظمة السياسية والعلاقات الدولية‪.‬‬ ‫‪ .2‬تع ُّلم التفكير في حياة فضلى‪:‬‬ ‫الحياة ليست حياة ساكنة تم ُّر على وتيرة واحدة‪ ،‬يعتاد عليها الإنسان‪ ،‬ويطمئن بها‪،‬‬ ‫وإ َّنما هي حياة متج ِّددة تدفعه إلى التفكير في البدائل التي ُتب ِدع أنماط ًا أفضل منها؛ فلا َيقب ُل‬ ‫الحياة في ُذ ٍّل وظلم‪ ،‬بل يهاجر‪ ،‬ويجد في الأرض مراغم ًا كثير ًا وسع ًة‪ ،‬ويسعى في مناكب‬ ‫‪237‬‬

‫الأرض بحث ًا عن رزق الله‪ ،‬ويبحث عن ُسبل الأمان؛ سواء كانت بناء س ِّد يمنع المعتدين‪،‬‬ ‫أو يحاصر حصون َمن يسعون إلى الفساد‪ ،‬ويثيرون الفتن‪ ،‬و ُيه ِّددون أمن المجتمع‪.‬‬ ‫‪ .3‬طلب الزيادة في العلم‪:‬‬ ‫لا يرضى الله للمؤمن أ ْن يكتفي بما لديه من العلم حتى لو كان من الأنبياء‪ ،‬وإ َّنما‬ ‫يطلب منه المزيد؛ فالله سبحانه طلب من نبي الله موسى عليه السلام أ ْن يتع َّلم م َّمن هو‬ ‫أعلم منه‪﴿ .‬ﮏﮐ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖ﴾ [الكهف‪ .]66:‬وطلب من نبي الله محمد‬ ‫ص ّلى الله عليه وس َّلم أ ْن يدعوه ليزيده علم ًا‪﴿ .‬ﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭜﭝ‬ ‫ﭞﭟﭠﭡﭢﭣ﴾ [طه‪.]114:‬‬ ‫‪ .4‬تع ُّلم أساليب التعليم‪:‬‬ ‫في القرآن الكريم نماذج من أساليب التعليم والتربية‪ ،‬منها‪ :‬الوعظ والإرشاد‪،‬‬ ‫والترغيب والترهيب‪ ،‬والحوار والجدل‪ ،‬والقصة‪ ،‬وضرب المثل‪ ،‬وعرض المشهد‬ ‫العملي‪ .‬وفي أسلوب التعليم لا ُب َّد من الرحمة‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬ﭠﭡﭢﭣﭤ‬ ‫ﭥﭦﭧﭨ﴾ [آل عمران‪ ،]159:‬وقال سبحانه‪﴿ :‬ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ‬ ‫ﯘ ﯙ ﯚ﴾ [التوبة‪ .]128:‬أ ّما في مجال الجدل مع الآخرين‪ ،‬فإ َّنه يكون بالتي‬ ‫هي أحسن‪ ،‬حتى يصل الأمر إلى توحيد نقطة الانطلاق في الجدل بين الطرفين؛ لتحييد‬ ‫المواقف المسبقة‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ﴾ [سبأ‪ ،]24:‬وقال‬ ‫ع َّز وج َّل‪﴿ :‬ﮀ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ﴾ [سبأ‪ .]25:‬ففي حين وصف‬ ‫القرآن موقف الخصم الذي لن ُيس َأل عنه المؤمن بـ\"العمل\" دون إساءة‪ ،‬وصف موقف‬ ‫المؤمن الذي لن ُيس َأل عنه الخصم بـ\"الإجرام\"‪ .‬قال ابن عاشور في تفسير هذه الآية‪:‬‬ ‫\"هذا ضر ٌب من المشاركة والموادعة‪ ،‬لِ َي ْخ ُلوا بأنفسهم‪ ،‬فينظروا في أمرهم‪ ،‬ولا يلهيهم‬ ‫جدال المؤمنين عن استعراض ومحاسبة أنفسهم‪ .‬وفيه زيادة إنصاف؛ إذ َف َر َض المؤمنون‬ ‫الإجرام في جانب أنفسهم‪ ،‬وأسندوا العمل على إطلاقه في جانب المخاطبين؛ لأ َّن النظر‬ ‫والتد ُّبر بعد ذلك يكشف عن ُكنْه كلا العمل ْي ِن‪(((\".‬‬ ‫((( ابن عاشور‪ ،‬التحرير والتنوير‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،22‬ص‪.194‬‬ ‫‪238‬‬

‫وكل الأوامر والنواهي القرآنية ُتع ِّلم الإنسان الحساسية واليقظة لما يقول أو يفعل‪،‬‬ ‫ُمتح ِّري ًا العلم الذي يسنده‪ ،‬والبرهان الذي يؤ ِّيده‪ .‬فالسمع‪ ،‬والبصر‪ ،‬والعقل؛ ك ٌّل منها‬ ‫مسؤول ع ّما ُيسنَد إليه‪ .‬ويوم القيامة تشهد كل أجزاء الجسم بما يقوله ويفعله صاحبها‪.‬‬ ‫قال سبحانه‪﴿ :‬ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ‬ ‫ﭵﭶﭷﭸ﴾ [فصلت‪ .]22:‬ولذلك نهى الله تعالى أ ْن ي َّتبِع الإنسان قولاً أو فعل ًا من‬ ‫دون علم‪ ،‬فقال سبحانه‪﴿ :‬ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ‬ ‫ﯿ﴾ [الإسراء‪ .]36:‬وقد ع َّقب ابن عاشور على ذلك بقوله‪\" :‬وهذا أد ٌب ُخلقي عظيم‪ ،‬وهو‬ ‫أيض ًا إصلاح عقلي جليل ُيع ِّلم الأُ َّمة التفرقة بين مراتب الخواطر العقلية‪ ،‬بحيث لا يختلط‬ ‫عندها المعلوم والمظنون والموهوم‪ .‬ث َّم هو أيض ًا إصلاح اجتماعي جليل يجنِّب الأُ َّمة من‬ ‫الوقوع والإيقاع في الأضرار والمهالك من ج ّراء الاستناد إلى أدلة موهومة‪(((\".‬‬ ‫‪ .5‬تع ُّلم آداب الحياة الاجتماعية‪:‬‬ ‫في القرآن الكريم من التعليم والتأديب والتربية كثي ٌر من صور الأدب النفسي‬ ‫والاجتماعي‪ ،‬التي تأمر المؤمنين والمؤمنات بغ ِّض الأبصار‪ ،‬والمشي بتؤدة دون فخر‬ ‫و ِك ْبر وخيلاء‪ ،‬وغ ِّض الصوت‪ ،‬ليكون في حدود المطلوب والمحمود‪ ،‬في حق النفس؛‬ ‫تزكي ًة لها‪ ،‬وحق الآخرين في الستر والخصوصية‪﴿ .‬ﯯﯰ ﯱﯲﯳﯴﯵ‬ ‫ﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﭑﭒﭓﭔ‬ ‫ﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭩ﴾‬ ‫[النور‪ .]28-27:‬قال ابن عاشور‪\" :‬من أكبر الأغراض في هذه السورة (سورة النور) تشريع نظام‬ ‫المعاشرة والمخالطة العائلية‪ ...‬فهذه الآيات استئناف لبيان أحكام التزاور وتعليم آداب‬ ‫الاستئذان‪ ... ،‬فجاءت هذه الآيات لتحديد كيفيته (الاستئذان) وإدخاله في آداب الدين‬ ‫حتى لا يفرط الناس فيه‪ ،‬أو في بعضه باختلاف مراتبهم في الاحتشام والأنفة‪ ،‬واختلاف‬ ‫أوهامهم في عدم المؤاخذة أو في ِش َّدتها‪ ...‬وفي ذلك من الآداب أ َّن المرء لا ينبغي أ ْن‬ ‫يكون ك ّ ًل على غيره‪ ،‬ولا ينبغي له أ ْن ُيع ِّرض نفسه إلى الكراهية والاستثقال‪ ،‬وأ َّنه ينبغي‬ ‫أ ْن يكون الزائر والمزور متوافقين متآنسين‪ ،‬وذلك عون على تو ُّفر الأخوة الإسلامية‪(((\".‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،15‬ص‪.101‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،18‬ص‪.196‬‬ ‫‪239‬‬

‫‪ .6‬تعليم القيم الأسرية في التربية القرآنية‪:‬‬ ‫القيم الأسرية هي فرع من القيم الاجتماعية‪ ،‬لكنَّها أخذت في القرآن الكريم منزلة‬ ‫خاصة؛ فقد قضى الله سبحانه أ ْن يقرن عبادته بالإحسان إلى الوالدين‪ ،‬وألا يتخ َّلل التعامل‬ ‫معهما أقل لفظة يمكن أ ْن تتناقض مع مقصد الإحسان‪ ،‬وذلك قوله سبحانه‪﴿ :‬ﮗﮘ‬ ‫ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮪ‬ ‫ﮫﮬﮭﮮﮯﮰ﴾ [الإسراء‪ .]23:‬وقد تض َّمنت وصية الله للإنسان تذكيره‬ ‫ببعض صور معاناه الأُ ِّم على وجه الخصوص‪ ،‬ث َّم جعل شكر الله على نعمه مقرون ًا بالشكر‬ ‫للوالدين على ما قاما به للأبناء‪ .‬قال الله تعالى‪﴿ :‬ﭶﭷﭸﭹﭺ ﭻﭼ‬ ‫ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ﴾ [لقمان‪.]14:‬‬ ‫والتربية القرآنية للإنسان المؤمن تجعله يو ِّظف أعذب الألفاظ وأر َّقها وأصدقها‬ ‫عاطفة في التعبير عن علاقة الأبوة والبنوة؛ فهذا نبي الله نوح عليه السلام يخاطب ابنه‬ ‫الكافر بلفظ العلاقة بين الأبوة والبنوة الحاني‪ ،‬فيقول له‪﴿ :‬ﮧﮨﮩﮪﮫﮬ‬ ‫ﮭ﴾ [هود‪ ،]42:‬ولك َّن الابن الكافر لا يملك عاطفة البنوة ليخاطب بها أباه‪ ،‬بل يتحداه‬ ‫بعدم الخوف‪ ،‬زاعم ًا أ َّنه يكفيه أ ْن يأوي إلى جبل يعصمه من الماء‪ .‬وبعد أ ْن حال بينهما‬ ‫الموج‪ ،‬وكان الابن الكافر من المغرقين‪ ،‬ض َّجت عاطفة الأبوة عند الأب المؤمن َم َّر ًة‬ ‫ُأخرى‪ ،‬حين خاطب نوح ربه ع َّز وج َّل‪ُ ،‬متذ ِّكر ًا وعد الله بحمل أهله على السفينة‪ .‬قال‬ ‫سبحانه‪﴿ :‬ﭷﭸﭹ ﭺﭻﭼﭽﭾ﴾ [هود‪ ،]40:‬وناسي ًا الاستثناء الوارد‬ ‫في ذلك الطلب‪ .‬قال تعالى‪ ﴿ :‬ﭿﮀﮁﮂﮃ﴾ [هود‪ ،]40:‬قال ع َّز وج َّل‪﴿ :‬ﰀﰁ‬ ‫ﰂ ﰃﰄﰅﰆﰇﰈ﴾ [هود‪ .]45:‬لذلك جاء جواب الله سبحانه يتض َّمن تصحيح ًا‬ ‫للمفاهيم‪ ،‬ومعاتب ًة‪ ،‬ووعظ ًا؛ لكيلا يكون مع الجاهلين الذين يسألون ما ليس لهم به علم‪.‬‬ ‫انظر الآيات في سورة (هود‪.)45-42:‬‬ ‫وإذا كانت هذه التربية القرآنية للأب المؤمن في صدق عاطفة الأبوة‪ ،‬فإ َّنها تتك َّرر‬ ‫في حالة البنوة مع نبي الله إبراهيم عليه السلام وأبيه الكافر؛ إذ دعاه إلى ترك عبادة ما لا‬ ‫يضر ولا ينفع‪ ،‬وب َّين له سبيل الهدى‪ ،‬وأل َّح في النصيحة‪ ،‬وأشفق عليه من العذاب الذي‬ ‫سيدركه إذا بقي ولي ًا للشيطان‪ ،‬وعصي ًا للرحمن‪ .‬وقد بدأ كل عبارة من عبارات الدعوة‬ ‫‪240‬‬

‫والنصح بلفظ \"يا أبت\" التي تفيض بالشفقة والعاطفة‪ ،‬في حين افتقد الأب الكافر كل‬ ‫ذلك‪ ،‬ليرد على ابنه المؤمن باسمه‪ ،‬وبألفاظ القسوة والتهديد والمفارقة‪﴿ .‬ﮫﮬﮭ‬ ‫ﮮﮯﮰﮱﯓﯔ﴾ [مريم‪ .]46:‬ومع كل ذلك‪ ،‬فقد أنهى إبراهيم حواره مع أبيه‬ ‫مستجيب ًا لطلبه بالهجران والاعتزال‪ ،‬ولك ْن بمزيد من صدق العاطفة‪ ،‬والرغبة في مغفرة‬ ‫الله للأب‪﴿ .‬ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ﴾ [مريم‪.]47 :‬‬ ‫‪ .7‬تع ُّلم التربية الفكرية‪:‬‬ ‫ما أكث َر ما في القرآن الكريم من نصوص التربية الفكرية! فمنها ما يخت ُّص بتع ُّلم‬ ‫المحاكمات العقلية والافتراضات النظرية التي تدعو إلى تع ُّقل الظواهر وما فيها من‬ ‫دلائل التوحيد والخلق الإلهي‪﴿ .‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ‬ ‫ﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭯﭰ‬ ‫ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭸﭹﭺﭻ﴾ [القصص‪ .]72-71:‬قال ابن عاشور‪:‬‬ ‫\"انتقال من الاستدلال على انفراده تعالى بالإلهية بصفات ذاته إلى الاستدلال على ذلك‬ ‫ببديع مصنوعاته ‪ ..‬ومن أبدع الاستدلال أ ِن اختير للاستدلال على وحدانية الله هذا الصنع‬ ‫العجيب المتك ِّرر كل يوم َم َّرتين‪ ،‬والذي يستوي في إدراكه كل مم َّيز‪ ،‬والذي هو أجلى‬ ‫مظاهر التغ ُّير في هذا العا َلم‪ ...‬وسيق إليهم هذا الاستدلال بأسلوب تلقين النبي ص َّلى‬ ‫الله عليه وس َّلم أ ْن يقوله لهم اهتمام ًا بهذا التذكير لهذا الاستدلال‪ ،‬ولاشتماله على ضدين‬ ‫متعاقبين‪ .‬حتى لو كانت عقولهم قاصرة عن إدراك دلالة أحد الضدين لكان في الضد الآخر‬ ‫تنبيه لهم‪ ،‬ولو قصروا عن حكمة كل واحد منهما كان في تعاقبهما ما يكفي للاستدلال‪(((\".‬‬ ‫ومن التربية الفكرية ما يخت ُّص بلفت النظر إلى المشاهد الكونية للتأ ُّمل والتف ُّكر فيما‬ ‫توحي به من قدرة إلهية‪ ،‬وحكم عملية‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪﴿ :‬ﯓﯔﯕﯖﯗ‬ ‫ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ‬ ‫ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﯴ﴾ [عبس‪ .]32-24:‬قال ابن عاشور في تفسير هذه‬ ‫الآيات‪\" :‬وهذا استدلال آخر على تقريب كيفية البعث‪ ،‬انتقل إليه في معرض الإرشاد إلى‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.169-168‬‬ ‫‪241‬‬

‫تدارك ال ِإنسان ما أهم َله‪ ،‬وكان الانتقال من الاستدلال بما في َخ ْلق الإنسان من بديع الصنع‬ ‫من دلائل قائمة بنفسه في آية‪﴿ :‬ﮕﮖﮗﮘ﴾‪ ‬إلى الاستدلال بأحوال موجودة في بعض‬ ‫الكائنات شديدة الملازمة لحياة الإنسان ترسيخ ًا للاستدلال‪ ،‬وتفنُّن ًا فيه‪ ،‬وتعريض ًا بالمنة‬ ‫على ال ِإنسان في هذه الدلائل‪ ،‬من نعمة النبات الذي به بقاء حياة الإنسان‪ ،‬وحياة ما ينفعه‬ ‫من الأنعام ‪.‬وتعدية فعل النظر هنا بحرف \"إلى\"‪ ‬تدل على أ َّنه من نظر العين‪ ،‬إشار ًة إلى أ َّن‬ ‫العبرة تحصل بمج َّرد النظر في أطواره‪ .‬والمقصود التد ُّبر فيما يشاهده الإنسان من أحوال‬ ‫طعامه بالاستدلال بها على إيجاد الموجودات من الأرض‪ .‬و ُج ِعل المنظور إليه ذا َت الطعام‬ ‫مع أ َّن المراد النظر إلى أسباب تك ُّونه وأحوال تط ُّوره إلى حالة انتفاع الإنسان به‪ ،‬وانتفاع‬ ‫أنعام الناس به‪(((\".‬‬ ‫وقد تك َّرر طلب النظر والسير في الأرض من أجل أ ْن يكتسب العلم في العلوم‬ ‫الطبيعية‪ ،‬وسنن الله وقوانينه‪ ،‬في حالات التح ُّول والتغ ُّير والتن ُّوع في الكائنات الحية‬ ‫والأشياء الجامدة‪ ،‬في مثل قوله تعالى‪﴿ :‬ﯓﯔﯕﯖ﴾ [عبس‪ ،]24:‬وقوله سبحانه‪:‬‬ ‫﴿ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾ [الطارق‪ ،]5:‬وقوله ع َّز وج َّل‪﴿ :‬ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ﴾‬ ‫[يونس‪ ،]101:‬وقوله ع َّز من قائل‪﴿ :‬ﮣﮤﮥﮦ ﮧﮨﮩﮪﮫ﴾ [العنكبوت‪،]20:‬‬ ‫وغير ذلك من آيات كثيرة‪.‬‬ ‫ومن التربية الفكرية طلب الدليل والبرهان فيما ُي َّدعى‪ ،‬وتقديم الدليل والبرهان فيما‬ ‫ُيق َّدم‪ ،‬والسعي في طلب الحكمة‪ .‬وقد سبق أ ْن أشرنا إلى معنى \"الحكمة\" عند ك ٍّل من‬ ‫الراغب الأصبهاني في \"الغريب\"‪ ،‬وابن ق ِّيم الجوزية في \"المدارج\"‪.‬‬ ‫‪ .8‬تع ُّلم العلوم الاجتماعية والنفسية‪:‬‬ ‫السير في الأرض ليس فقط لرؤية المشاهد الكونية القائمة أمام الأعين‪ ،‬وما تقود‬ ‫إليه من علوم كونية‪ ،‬وإ َّنما هو للتفكير في َمن سكنوا هذه الأرض‪ ،‬وما آ َل إليه حالهم‪،‬‬ ‫وكيف جرت ُسنَّة الله في تداول الق َّوة والضعف وسنن تغيير الأمم والشعوب وتبديلها‪،‬‬ ‫وقيام الحضارات واندثارها‪ ،‬وغير ذلك م ّما ينشئ علوم التاريخ والاجتماع والسياسة‪.‬‬ ‫ومن ذلك قوله سبحانه‪﴿ :‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭝﭞ‬ ‫ﭟ﴾ [الروم‪.]42:‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،30‬ص‪.129‬‬ ‫‪242‬‬

‫وإذا كان السير في الأرض والنظر في المشاهد والأحداث والتغ ُّيرات من أجل أ ْن‬ ‫يرى الناظر ما فيها من الدلائل على عظمة الله سبحانه وحكمته في الخلق‪ ،‬فإ َّن الله سبحانه‬ ‫وعد الإنسان أ ْن يريه آياته‪ ،‬ليس في الآفاق الكونية فحسب‪ ،‬بل في الآفاق الاجتماعية‬ ‫والنفسية؛ فقد كشفت آيات القرآن الكريم عن خطرات النفوس في حالات الطاعة‬ ‫والمعصية‪ ،‬والهدى والضلال‪ ،‬والإيمان والنفاق‪ ،‬والتواضع وال ِك ْبر‪ ،‬والشح والإنفاق‪،‬‬ ‫والشجاعة والجبن‪ ،‬والحب والكراهية‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ‬ ‫ﭘﭙ﴾ [الجاثية‪ ،]23:‬وقال سبحانه‪﴿ :‬ﭦﭧﭨﭩ﴾ [الماعون‪ ،]1:‬وقال ع َّز‬ ‫وج َّل‪﴿ :‬ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘَ﴾ [العلق‪ ،]13-11:‬وقال ع َّز من‬ ‫قائل‪﴿ :‬ﮚﮛ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ﴾ [البقرة‪ ،]243:‬وقال َج َّل في‬ ‫علاه‪﴿ :‬ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ﴾ [النساء‪ ،]49:‬وقال الله تعالى‪﴿ :‬ﯜﯝﯞﯟﯠﯡ‬ ‫ﯢ﴾ [الشعراء‪ ،]225:‬وقال‪﴿ :‬ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ﴾ [المجادلة‪ ،]14:‬وقال‪﴿ :‬ﭪﭫ‬ ‫ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ‬ ‫ﭼ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ﴾ [الحشر‪ ،]11:‬وقال‪﴿ :‬ﮈﮉ‬ ‫ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙ‬ ‫ﮚﮛ﴾ [المائدة‪ ،]80:‬وقال‪﴿ :‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ‬ ‫ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭦ﴾ [المائدة‪ ،]83:‬وقال‪﴿ :‬ﭮﭯﭰ‬ ‫ﭱﭲﭳ﴾ [الأعراف‪ ،]198:‬وقال‪﴿ :‬ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ‬ ‫ﮐﮑﮒ﴾ [الأعراف‪ ،]146:‬وقال‪﴿ :‬ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ‬ ‫ﮍﮎ ﮏﮐﮑﮒﮓ﴾ [التوبة‪.]126:‬‬ ‫‪ .9‬تع ُّلم توظيف المعرفة العلمية‪:‬‬ ‫في القرآن الكريم آيات تدعو الإنسان إلى الاستدلال على قدرة الله سبحانه بمشاهد‬ ‫كونية يتك َّرر بعضها أمامه باستمرار‪ ،‬وتستدعي النظر والتد ُّبر‪ .‬ومن ذلك قوله تعالى‪:‬‬ ‫﴿ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ﴾ [الفرقان‪.]45:‬‬ ‫\"والاستفهام تقريري‪ ،‬فهو صالح لطبقات السامعين‪ :‬من غاف ٍل ُيس َأل عن غفلته ليق َّر بها‬ ‫تحريض ًا على النظر‪ ،‬ومن جاح ٍد ُين َكر عليه إهماله النظر‪ ،‬ومن م َو ّف ٍق ُيح ُّث على النظر‪...‬‬ ‫‪243‬‬

‫(وفي الآية) محل العبرة والمنَّة اللتين تتناولهما عقول الناس على اختلاف مداركهم‪(((\".‬‬ ‫وفي هذه الآية ﴿ ﭧ ﭨ ﭩ﴾ ُفرصة للتذكير بضرورة التع ُّلم من المشاهد الكونية‬ ‫وتوظيفها فيما ُخ ِلقت له‪ .‬فالمسألة لا يكفي أ ْن يقف المتد ِّبر فيها عند ال ُّتأمل في قدرة الله‬ ‫سبحانه‪ ،‬وإ َّنما يمكن أ ْن يتجاوز ذلك إلى مسائل كثيرة من العلم الطبيعي‪ .‬وقد اجتهد‬ ‫ابن عاشور في بيان بعض هذا العلم‪ ،‬فقال‪\" :‬وفي وجود الظل دقائق من أحوال النظام‬ ‫الشمسي؛ فإ َّن الظل مقدار مح َّدد من الظلمة يحصل من حيلولة جسم بين شعاع الشمس‬ ‫وبين المكان الذي يقع عليه الشعاع‪ ،‬فينطبع على المكان مقدار من الظل مق َّدر بمقدار‬ ‫كيفية الجسم الحائل بين الشعاع وبين موقع الشعاع على حسب اتجاه ذلك الجسم‬ ‫الحائل من جهته الدقيقة أو الضخمة‪ ،‬ويكون امتداد تلك الظلمة المك ّيفة بكيفية ذلك‬ ‫الجسم متفاوت ًا على حسب تفاوت ُب ْعد اتجاه الأشعة من موقعها ومن الجسم الحائل‪،‬‬ ‫ومختلف ًا باستواء المكان وتح ُّدبه‪ ،‬فذلك التفاوت في مقادير ظل الشيء الواحد هو ال ُمع َّبر‬ ‫عنه بالم ِّد في هذه الآية؛ لأ َّنه كلما زاد مقدار الظلمة المك ّيفة لكيفية الحائل زاد امتداد‬ ‫الظل‪ .‬فتلك كلها دلائل كثيرة من دقائق التكوين الإلهي والقدرة العظيمة‪ ...‬وهذا الامتداد‬ ‫يكثر على حسب مقابلة الأشعة للحائل؛ فكلما اتجهت الأشعة إلى الجسم من أخفض‬ ‫جهة كان الظل أوسع‪ ،‬وإذا اتجهت إليه مرتفعة عنه تق َّلص ظله رويد ًا رويد ًا إلى أ ْن تصير‬ ‫الأشعة مسامتة أعلى الجسم ساقطة عليه‪ ،‬فيزول ظله تمام ًا‪ ،‬أو يكاد يزول‪ .‬وهذا معنى‬ ‫قوله تعالى‪﴿ :‬ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾؛ أ ْي غير متزايد‪ ،‬لأ َّنه ل ّما كان م ُّد الظل يشبه صورة‬ ‫التح ُّرك ُأط ِلق على انتفاء الامتداد اسم السكون‪ ،‬بأ ْن يلازم مقدار ًا واحد ًا لا ينقص ولا‬ ‫يزيد؛ أ ْي لو شاء الله لجعل الأرض ثابتة في َسمت واحد ُتجاه أشعة الشمس‪ ،‬فلا يختلف‬ ‫مقدار ظل الأجسام التي على الأرض‪ ،‬و َتلزم ظلا ُلها حالة واحدة‪ ،‬فتنعدم فوائد عظيمة‪...‬‬ ‫والدليل‪ :‬المرشد إلى الطريق والهادي إليه‪ ،‬فجعل الظل اختلاف مقاديره كامتداد الطريق‬ ‫وعلامات مقادير‪ ،‬مثل ُصوى الطريق‪ ،‬وجعلت الشمس من حيث كانت سبب ًا في ظهور‬ ‫مقادير الظل كالهادي إلى مراحل‪ ،‬بطريق التشبيه البليغ‪ ،‬فكما أ َّن الهادي يخبر السائر أين‬ ‫ينزل من الطريق‪ ،‬كذلك الشمس بتس ُّببها في مقادير امتداد الظل تع ِّرف المستدل بالظل‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،19‬ص‪.43-39‬‬ ‫‪244‬‬

‫بأوقات أعماله ليشرع فيها‪ ...‬وفي م ِّد الظل وقبضه نعم ُة معرفة أوقات النهار للصلوات‬ ‫وأعمال الناس‪ ،‬ونعم ُة التناوب في انتفاع الجماعات والأقطار بفوائد شعاع الشمس فوائد‬ ‫الفيء‪ ،‬بحيث إ َّن الفريق الذي كان تحت الأشعة يتب َّرد بحلول الظل‪ ،‬والفريق الذي كان‬ ‫في الظل ينتفع بانقباضه‪ .‬وهذا محل العبرة والمنَّة اللتين تتناولهما عقول الناس على‬ ‫اختلاف مداركهم‪ .‬ووراء ذلك عبرة علمية كبرى تو ِّضحها قواعد النظام الشمسي‪ ،‬وحركة‬ ‫الأرض حول الشمس‪ ،‬وظهور الظلمة والضياء‪ ،‬فليس الظل إلا أثر الظلمة‪ ،‬فإ َّن الظلمة‬ ‫هي أصل كيفيات الأكوان‪ ،‬ث َّم انبثق النور بالشمس‪ ،‬ونشأ عن تداول الظلمة والنور نظام‬ ‫الليل والنهار‪ ،‬وعن ذلك نظام الفصول وخطوط الطول والعرض للكرة الأرضية‪ ،‬وبها‬ ‫عرفت مناطق الحرارة والبرودة‪(((\".‬‬ ‫وتوظيف العلم والمعرفة إ َّنما يكون بما يفيد وينفع؛ فقد ذ َّم الله سبحانه أقوام ًا‬ ‫تع َّلموا ما يضرهم ولا ينفعهم‪﴿ .‬ﭜﭝﭞﭟﭠ ﭡﭢﭣ‬ ‫ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ‬ ‫ﭶﭷﭸﭹﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁﮂ ﮃﮄﮅ ﮆﮈﮇ‬ ‫ﮉ ﮊﮋﮌﮍ﴾ [البقرة‪ .]102:‬والقرآن الكريم يريد من المؤمن أ ْن يكون‬ ‫دائم ًا على حالة ينتفع بها‪ ،‬في دنياه أو ُأخراه‪ ،‬ولذلك جاء النهي عن القعود في مجالس‬ ‫النجوى والتآمر والكيد‪﴿ .‬ﮭﮮﮯﮰ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ‬ ‫ﯙ ﯚﯛﯜ﴾ [المجادلة‪ .]9:‬وكذلك النهي عن المشاركة في المجالس التي يكون فيها‬ ‫الحديث كفر ًا واستهزا ًء‪﴿ .‬ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ‬ ‫ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ﴾ [النساء‪.]140:‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،19‬ص‪.43-40‬‬ ‫‪245‬‬

‫المبحث الثاني‬ ‫ال ُّسنة النبوية مصدر ًا للفكر التربوي‬ ‫ال ُّسنة النبوية عند علماء الحديث النبوي هي أقوال النبي‪ ‬ﷺ‪ ‬وأفعاله‪ ،‬وتقريراته‪،‬‬ ‫وأخباره‪ ،‬وصفاته ال ِخ ْلقية وال ُخ ُلقية‪ .‬وعلى أساس هذا التعريف ُع ِرفت بعض كتب‬ ‫الحديث النبوي باسم السنن‪ ،‬مثل‪ :‬سنن النسائي‪ ،‬وسنن أبي داود‪ ،‬وسنن الترمذي‪ ،‬وسنن‬ ‫ابن ماجة‪ ،‬وغيرها‪.‬‬ ‫وال ُّسنة عند غير المح ِّدثين‪ ،‬كالفقهاء والأصوليين والدعاة‪ ،‬هي ما اختاروه‬ ‫لأغراضهم واهتماماتهم؛ فما َي ُه ُّم الأصوليين ‪-‬مثل ًا‪ -‬هو مصادر التشريع‪ .‬فال ُّسنة عندهم‬ ‫هي الأحاديث التي ُيست َدل بها على الأحكام الشرعية؛ لأ َّن هذه الأحاديث تب ِّين طريقة فهم‬ ‫النبي ﷺ للدين‪ ،‬وطريقة توجيهه الأُ َّمة إلى العمل بهذا الفهم‪ .‬وال ُّسنة عند الفقهاء هي‬ ‫واحد من الأحكام الشرعية الخمسة‪ :‬الواجب‪ ،‬وال ُّسنة‪ ،‬والمباح‪ ،‬والحرام‪ ،‬والمكروه‪.‬‬ ‫وال ُّسنة في بعض السياقات هي ما يقابل البدعة؛ فال ُّسنة ما يوافق الشرع‪ ،‬والبدعة ما يخالفه‪.‬‬ ‫ونحن نقصد بال ُّسنة ‪-‬في سياق هذا الفصل‪ُ -‬حجية ما َص َّح وروده عن النبي ﷺ من‬ ‫توجيهات تخت ُّص بالتعليم والتربية‪.‬‬ ‫وموضوع التربية والفكر التربوي في ال ُّسنة النبوية مطرو ٌق بكثافة في التراث‬ ‫الإسلامي والكتب والبحوث الحديثة‪ ،‬ونجد أ َّنه غلب على عناوينها مصطلحات \"العلم\"‪،‬‬ ‫و\"التع ُّلم\"‪ ،‬و\"التعليم\"‪ ،‬وقد ُصنِّفت كثير من الأحاديث النبوية تحت عناوين كثيرة متف ِّرعة‬ ‫عن هذه المصطلحات الثلاثة‪.‬‬ ‫أولاً‪ :‬حضور ال ُّسنة النبوية في قضايا التربية في التراث والكتابات الحديثة‪:‬‬ ‫إ َّن موضوع العلم والتعليم والتع ُّلم في ال ُّسنة النبوية موضو ٌع واسع؛ فحين تو َّل ْت‬ ‫مراجع الحديث النبوي تصني َف الأحاديث وفق الموضوعات في كتب وأبواب‪ ،‬جاء‬ ‫\"كتاب العلم\" من أهم أبواب معظم كتب الأحاديث‪ .‬ففي \"صحيح البخاري\" ‪-‬مثل ًا‪ -‬جاء‬ ‫موقع كتاب العلم في الترتيب الثالث بعد كتاب بدء الوحي‪ ،‬وكتاب الإيمان‪ ،‬وورد في‬ ‫أبوابه ما يزيد على مئة حديث‪ ،‬وقد نجد مئات الأحاديث الأُخرى في \"صحيح البخاري\"‬ ‫‪246‬‬

‫نفسه تتصل بالعلم والعلماء والتعليم‪ ،‬لك َّن المصنِّف وضعها في غير كتاب العلم؛ لما ظهر‬ ‫فيها من صلة بموضوعات ُأخرى؛ إذ من المعروف أ َّن الحديث النبوي ر َّبما يكون له صلة‬ ‫بعدد من الموضوعات‪ ،‬و ُيست َدل به على أكثر من حكم‪.‬‬ ‫ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان ‪ ،‬قال‪ُ \" :‬كنّا مع رسول‬ ‫الله ﷺ‪ ،‬فقال‪ :‬احصوا لي َك ْم َي ْل ُف ُظ الإسلا َم‪ \".‬وفي رواية البخاري‪\" :‬اكتبوا لي َمن يلفظ‬ ‫بالإسلام من الناس‪ \".‬ولا شك في أ َّن الكتابة والإحصاء والتدوين من أهم أدوات العلم‬ ‫والتعليم‪ ،‬لذلك يمكن تصنيف هذا الحديث في كتاب العلم‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فقد اختار الإمام‬ ‫البخاري والإمام مسلم أ ْن ُيصنِّفاه في أماكن ُأخرى؛ فالحديث مهم جد ًا في توفير البيانات‬ ‫والسجلات الإحصائية للموارد البشرية في المجتمع‪ ،‬التي َتلزم لأغراض مختلفة‪ ،‬منها‬ ‫‪-‬مثل ًا‪ -‬تحدي ُد عد ِد َمن يمكنهم المشاركة في الجهاد‪ ،‬ولذلك صنَّف الإمام البخاري‬ ‫الحدي َث في كتاب الجهاد‪ (((،‬ومنها رصد التق ُّدم في عدد المؤمنين لتنمية الشعور بالثقة‬ ‫والأمن‪ ،‬ولذلك صنَّف الإمام مسلم الحدي َث في كتاب الإيمان‪(((.‬‬ ‫وحتى في مصنَّفات الحديث التي لم يخ ِّصص فيها المصنِّف كتاب ًا في العلم‪ ،‬مثل \"السنن‬ ‫الكبرى\" للبيهقي؛ فإ َّن فيه عشرات الأحاديث ذات الصلة القوية بالعلم والتعليم‪ ،‬صنَّفها‬ ‫البيهقي تحت عناوين مختلفة‪ .‬فحديث فداء أسرى بدر بتعليم أبناء الأنصار الكتابة جاء في‬ ‫كتاب الفيء والغنيمة‪ (((،‬وحديث استعمال النبي الخطوط لتعليم فكرة معينة وتوضيحها جاء‬ ‫في كتاب الجنائز‪ (((،‬وحديث‪\" :‬لا حسد إلا في اثنتين‪ ...‬رجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها‬ ‫و ُيع ِّلمها\" جاء في كتاب آداب القاضي‪ (((،‬وحديث‪\" :‬إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث‪:‬‬ ‫صدقة جارية‪ ،‬أو علم ينتفع به‪ ،‬أو ولد صالح يدعو له\" جاء في كتاب الوصايا‪ (((،‬وهكذا‪.‬‬ ‫((( البخاري‪ .‬صحيح البخاري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬الجهاد والسير‪ ،‬باب‪ :‬كتاب ِة الإما ِم النا َس‪ ،‬حديث رقم‪ ،)3060( :‬ص‪.586‬‬ ‫((( مسلم‪ .‬صحيح مسلم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬الإيمان‪ ،‬باب‪ :‬الاستسرار بالإيمان للخائف‪ ،‬حديث رقم‪ ،)149( :‬ص‪.83‬‬ ‫((( البيهقي‪ ،‬أبو بكر أحمد بن الحسين (توفي‪458 :‬ﻫ)‪ .‬السنن الكبرى‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد عبد القادر عطا‪ ،‬بيروت‪ :‬دار‬ ‫الكتب العلمية‪1424( ،‬ﻫ‪2003/‬م)‪ ،‬كتاب‪ :‬قسم الفيء والغنيمة‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء في مفاداة الرجال منهم بالمال‪،‬‬ ‫حديث رقم‪ ،)12847( :‬ص‪.523‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬حديث رقم‪ ،)6505( :‬ج‪ ،3‬ص‪.514‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬حديث رقم‪ ،)20163( :‬ج‪ ،10‬ص‪.150‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬حديث رقم‪ ،)12635( :‬ج‪ ،6‬ص‪.456‬‬ ‫‪247‬‬

‫وقد تخ َّصصت بعض كتب التراث في جمع الأحاديث النبوية وآثار الصحابة والتابعين‬ ‫م ّما له صلة مباشرة بالعلم والتعليم‪ ،‬ومن ذلك ما جمعة الحافظ ابن عبد البر في كتاب‬ ‫\"جامع بيان العلم وفضله\"‪ ،‬والخطيب البغدادي في عدد من كتبه‪ ،‬مثل‪ :‬كتاب \"الرحلة‬ ‫في طلب العلم\"‪ ،‬وكتاب \"الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع\"‪ ،‬والسمعاني في كتاب‬ ‫\"أدب الإملاء والاستملاء\"‪ ،‬وابن جماعة في كتاب \"تذكرة السامع وال ُمتك ِّلم في أدب العالِم‬ ‫وال ُمتع ِّلم\"‪ ،‬والعلموي في كتاب \"المعيد في آداب المفيد والمستفيد\"‪ ،‬والمنصور بالله‬ ‫الزيدي في كتاب \"آداب العلماء وال ُمتع ِّلمين\"‪ ،‬والشوكاني في كتاب \"أدب الطلب ومنتهى‬ ‫الأرب\"‪ ،‬وغيرهم كثير‪ .‬بينما تض َّمنت كت ٌب ُأخرى مساحة واسعة للأحاديث النبوية ذات‬ ‫الصلة بالعلم‪ ،‬كما فعل أبو حامد الغزالي في كتاب \"إحياء علوم الدين\"‪(((.‬‬ ‫وكثي ٌر من الم ْح َدثين اهتموا بحضور العلم والتعليم والتربية في الحديث النبوي‪،‬‬ ‫وصنَّفوا في ذلك كتب ًا مفيد ًة‪ .‬وبعض هذه الكتب تناولت قضي ًة واحد ًة من قضايا التعليم‪،‬‬ ‫مثل‪ :‬القيم‪ (((،‬أو الأساليب‪ (((،‬أو الطرق‪ (((.‬وكان لموضوع الإعجاز في ال ُّسنة النبوية‬ ‫حضور كذلك‪ (((،‬وحتى الذين يعيشون في ظروف تسود فيها روح الجهاد‪ ،‬بحثوا في التربية‬ ‫الجهادية في ال ُّسنة النبوية‪ (((.‬وبعضها تناول أسس التربية في ال ُّسنة النبوية‪ ،‬وهو كتاب في‬ ‫التعليم والتربية بصورة عامة‪ (((،‬أو تناول قضايا العلم والتعليم في حياة النبي ﷺ‪(((.‬‬ ‫((( حاول المؤ ِّلف أ ْن يستقص َي كتب التراث الإسلامي التي تخصصت في موضوع العلم والتعليم والتربية‪ ،‬أو‬ ‫تض َّمنت أبواب ًا أو فصولاً مق َّدرة عن الموضوع‪ ،‬فبلغ عدد ما استطاع أ ْن يصل إليه‪ ،‬و ُيع ِّرف به (‪ )108‬كتب‪ .‬انظر‪:‬‬ ‫‪ -‬ملكاوي‪ ،‬التراث التربوي الإسلامي‪ :‬حالة البحث فيه‪ ،‬ولمحات من تطوره‪ ،‬وقطوف من نصوصه ومدارسه‪،‬‬ ‫مرجع سابق‪ ،‬ص‪.602-554‬‬ ‫((( أحمد‪ ،‬مهدي رزق الله‪ .‬والشدي‪ ،‬عادل بن علي‪ .‬القيم الإسلامية في السيرة النبوية‪ ،‬الرياض‪ :‬جامعة الملك‬ ‫سعود‪ ،‬ط‪2012 ،1‬م‪.‬‬ ‫((( أبو غدة‪ ،‬عبد الفتاح‪ .‬الرسول المعلم وأساليبه في التعليم‪ ،‬حلب‪ :‬مكتبة المطبوعات الإسلامية‪ ،‬ط‪1992 ،1‬م‪.‬‬ ‫((( عليان‪ ،‬أحمد فؤاد‪ .‬طرق التعليم التربوية في السنة النبوية‪ ،‬الرياض‪ :‬دار المسلم للنشر والتوزيع‪2000 ،‬م‪.‬‬ ‫((( رجب‪ ،‬مصطفى‪ .‬الإعجاز التربوي في السنة النبوية‪ ،‬كفر الشيخ‪ :‬دار العلم والإيمان للنشر والتوزيع‪2008 ،‬م‪.‬‬ ‫((( أبو سمهدانة‪ ،‬أحمد ضيف الله عمر‪\" .‬ملامح التربية الجهادية في السنة النبوية وتطبيقاتها التربوية\"‪( ،‬أطروحة‬ ‫ماجستير‪ ،‬في قسم أصول التربية‪ ،‬الجامعة الإسلامية‪ ،‬غزة‪2010 ،‬م)‪.‬‬ ‫((( الزنتاني‪ ،‬عبد الحميد الصيد‪ .‬أسس التربية الإسلامية في السنة النبوية‪ ،‬طرابلس‪ ،‬ليبيا‪ :‬الدار العربية للكتاب‪،‬‬ ‫ط‪1993 ،2‬م‪.‬‬ ‫((( القرضاوي‪ ،‬يوسف‪ .‬الرسول والعلم‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار الصحوة‪2001 ،‬م‪ .‬‬ ‫‪248‬‬

‫ثاني ًا‪ُ :‬حجية ال ُّسنة النبوية في التربية والتعليم‪:‬‬ ‫خضع موضوع ُحجية ال ُّسنة لكثير من الجدل‪ ،‬وقيلت فيه كثير آراء ومذاهب فكرية‬ ‫مختلفة‪ ،‬تراوحت ما بين الغلو والتقصير‪ ،‬ما بين الإعلاء من شأنها حتى تكون قاضية على‬ ‫القرآن‪ ،‬والتهوين من شأنها عند َمن يرى الاكتفاء بالقرآن‪ .‬وتناول الجدل كذلك مدى صحة‬ ‫تقسيم ال ُّسنة النبوية إلى ُسنَّة تشريعية‪ ،‬و ُسنَّة غير تشريعية‪ ،‬وتقسيم تصرفات النبي ﷺ إلى‬ ‫أنواع‪ ،‬منها‪ :‬تصرفات بالرسالة‪ ،‬أو الفتيا‪ ،‬أو القضاء‪ ،‬أو الإمامة‪ ،‬وغير ذلك من التقسيمات‪.‬‬ ‫والذي َي ُه ُّمنا في هذا المقام مسألتان؛ ُأولاهما تأكيد أ َّن القرآن الكريم قد قضى ب ُحجية‬ ‫ال ُّسنة بصورة صريحة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن صاحب ال ُّسنة عليه الصلاة والسلام نفسه م َّيز بين ما‬ ‫ألزم فيها الطاعة المطلقة‪ ،‬وثانيتهما ما أتاح للمسلمين فيه تداول الرأي والنظر والمراجعة‬ ‫وتوظيف الخبرة‪ .‬ففي مسائل الزراعة تكون ال ُّسنة هي ضرورة توفير الخبرة الزراعية‬ ‫المتخ ِّصصة وتوظيفها‪ ،‬وفي مسائل الحروب تكون ال ُّسنة هي المشاورة والأخذ بالمشورة‬ ‫الأقرب إلى الصواب؛ ففي غزوة بدر شاور النبي الصحابة قبل المعركة في مسألة مواجهة‬ ‫قريش وقتالها‪ ،‬وأل َّح في طلب الرأي وهو يك ِّرر‪\" :‬أشيروا عل َّي أيها الناس\"‪ ،‬حتى فهم الذين‬ ‫كان يعنيهم الأمر أكثر من غيرهم‪ ،‬ث َّم أشاروا عليه بالاستعداد للمعركة‪ ،‬واختيار الموقع‬ ‫الأفضل‪ ،‬وأخذ بمشورتهم‪ ،‬ث َّم شاورهم في الفيء والأسرى‪ ،‬فاختلفت الآراء‪ ،‬فاختار منها‬ ‫رأي ًا‪ .‬فال ُّسنة الواجب ُة الا ِّتباع في هذه المواقف الثلاثة هي تطبيق مبدأ الشورى‪ ،‬والبحث عن‬ ‫الخبرة الفضلى في كل موقف‪(((.‬‬ ‫إ َّن القرآن الكريم هو المرجع في تأكيد ُحجية ال ُّسنة النبوية في التربية والتعليم‪ ،‬وفي‬ ‫سائر الموضوعات والمسائل الأُخرى في حياة الإنسان المسلم‪ .‬فقد قرن القرآن الكريم‬ ‫طاعة الله بطاعة رسوله في عدد من صور الاقتران‪ ،‬ومن ذلك ما جاء في الآيات الآتية‪:‬‬ ‫((( انظر نماذج من الجدل عن موضوع \" ُحجية ال ُّسنة\" في‪:‬‬ ‫‪ -‬العوا‪ ،‬محمد سليم‪\" .‬السنة التشريعية وغير التشريعية\"‪ ،‬مجلة المسلم المعاصر‪ ،‬العدد الافتتاحي‪1974 ،‬م‪،‬‬ ‫ص‪.49-29‬‬ ‫‪ -‬القرضاوي‪ ،‬يوسف‪\" .‬الجانب التشريعي في السنة النبوية\"‪ ،‬مجلة مركز بحوث السنة النبوية‪ ،‬العدد(‪،)3‬‬ ‫(‪1408‬ﻫ‪1988/‬م)‪ ،‬ص‪.105-17‬‬ ‫‪ -‬عبد الخالق‪ ،‬عبد الغني‪ .‬حجية السنة‪ ،‬هيرندن والقاهرة‪ :‬المعهد العالمي للفكر الإسلامي ودار الوفاء‪،‬‬ ‫(‪1407‬ﻫ‪1987/‬م)‪.‬‬ ‫‪249‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook