المبحث الثاني بعض معالم التط ُّور في التراث التربوي الإسلامي ليس من المبالغة أ ْن نقول إ َّن حالة العلم والتعليم والتع ُّلم كانت دائمة التط ُّور والنمو والتغ ُّير؛ استجاب ًة لمستجدات الزمان والمكان ،وتك ُّيف ًا مع حالة المجتمع الحضارية .وكان ذلك واضح ًا تمام ًا في الانتقال من تبليغ العلم بالمشافهة إلى تدوينه في الكتب ،وفي نشأة العلم في صورته الإجمالية وبذوره الأُولى ،ث َّم تنظيمه في مباحث وأبواب ،ث َّم تقسيمه إلى فروع ،ث َّم استقلال بعض الفروع إلى علوم متخ ِّصصة. لقد رأينا ذلك فيما يخت ُّص بتعليم القرآن الكريم ،والحديث النبوي الشريف ،ونشأة علوم الفقه والأصول ،وعلم التوحيد ،أو الإيمان ،أو العقيدة ،وعلوم اللغة ،وغيرها .وعلى طريق التط ُّور نشأت علوم جديدة ،مثل :علوم الكلام ،والتصوف ،والفلسفة ،والعلوم العملية والطبيعية ،من مثل الطب والفلك وغيرهما ،وسائر ما ط َّورته الصنائع والحرف والمهن من معارف ،و ُن ُظم ،وأساليب ،وأدوات. ولع َّل مواقف التعليم كانت تنشأ بصورة تلقائية عفوية ،حين يجلس شخص ح َّصل قدر ًا من العلم ليب ِّلغه ل َمن لم ي ْب ُل ْغه ،أو حين يأتي شخ ٌص يجهل مسأل ًة معينة ،فيسأل عنها َمن يعرفها ،ويحصل ذلك في أ ِّي مكان يتاح فيه لقاء العالِم وال ُمتع ِّلم .ث َّم تتراكم الخبرة، وتستجد مسائل وقضايا ،تستدعي أ ْن تأخذ هذه المواقف التعليمية صور ًا أكثر تنظيم ًا، فتتح َّدد المسؤوليات ،وتنشأ المؤسسات ،وتأتي مبادرات من العلماء أو الأغنياء لتمارس هذا التحديد والتنظيم ،ويدخل فيه الاهتمام الحكومي ،فيبادر إلى توفير ما َيلزم من أموال لبناء المؤسسات وتأهيليها لإقامة ال ُمع ِّلمين وال ُمتع ِّلمين ،ويشترط لها شروط ًا قد تصل إلى تعليم مذهب بع ْينِه ،أو حتى كتاب مح َّدد في المذهب. ومن الطبيعي أ ْن تتط َّور عملية التعليم على مدار التاريخ؛ فظاهرة التوا ُصل في اكتساب المعرفة وتراكم الخبرات تستدعي إدراك أهمية هذا التوا ُصل بين الأجيال، وتنظيمه في صورة مناسبة من العمل المؤسسي .ويظهر هذا التنظيم أوضح ما يظهر في 150
العملية التربوية والتعليمية؛ ذلك أ َّن التعليم هو حلقة الوصل بين أجيال الأُ َّمة ،وانتقال عناصر بنائها الفكري والنفسي والاجتماعي ،ولا سيما ما يخت ُّص بالدين واللغة والتاريخ، وهي العناصر التي تش ِّكل هوي َة الأُ َّمة ورؤي َتها للعا َلم. والمهم في دراسة تط ُّور الفكر التربوي في العصور الإسلامية هو تت ُّبع الطريقة التي تعامل بها العقل المسلم مع مسائل التربية والتعليم ،ورصد موقع المرجعية الحاكمة لهذا التعامل ،وملاحظة الطرائق التي اس ُتع ِملت في تنزيل آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم على الواقع الذي كان المجتمع يعيشه؛ فقد تباينت الاجتهادات في هذا التنزيل ،وحصل التط ُّور في جميع ما يخت ُّص بالتعليم .ف َث َّمة تط ُّو ٌر في موضوعات التعليم وأساليبه ومؤسساته؛ في مكانة ال ُمع ِّلم ،وفي مسؤولية الدولة والأسرة عن التعليم، وفي مسألة الثواب والعقاب ،وأخذ الأجرة على التعليم .وق َّل أ ْن يوجد جانب من هذه الجوانب وغيرها إلا وقد شا َب ُه شي ٌء من التغيير والتبديل .ولم يكن التط ُّور والتغيير في هذه الجوانب في اتجاه الأفضل في جميع الحالات. ويمكن أ ْن نم ِّيز بسهولة بعض ملامح التط ُّور من حالة إلى ُأخرى في عدد من المجالات؛ فالتراث الإسلامي في عصر الصحابة ومعظم عصر التابعين كان ُيتداول بالمشافهة ،ث َّم انتقل تدا ُوله عن طريق التدوين .ولع َّل ابن شهاب الزهري (توفي124:ﻫ) كان أحد الأئمة الذين أسهموا في بداية هذا التح ُّول ،ث َّم َم َّر التدوين بمراحل متعددة. وأساليب التعليم كان يغلب عليها في بادئ الأمر أسلوب المذاكرة ،ث َّم تح َّول إلى تدوين الكتب .ومن أشهر الأمثلة على هذا التح ُّول ما تم بين الإمام أبي حنيفة النعمان (توفي150 :ﻫ) وتلاميذه .وحصل تط ُّور من إلقاء الدروس على التلاميذ شفوي ًا إلى الإملاء عليهم ليكتبوه ،ث َّم بقراءة الكتاب على صاحبه .وكانت تربية الصبيان في الأساس نوع ًا من التأديب ،والتهذيب ،وبناء الشخصية ،وتكوين الهوية بتعليم اللغة وأساسيات الدين والفضائل والأخلاق .وكل ذلك كان يسبق تعليم فروع العلم المختلفة؛ فالتأديب يسبق التعليم .وفي تط ُّور علوم اللغة من إتقان الكلام بالمشافهة ،على السليقة ،إلى تعليم طرق ضبطه بتقعيد قواعد النحو والصرف .وفي موضوعات العلم شهد التراث البدء بحفظ القرآن ،ث َّم ُأضيف إليه حفظ الحديث ،ث َّم ُأضيف إليهما حفظ العلوم الأُخرى .وشهد 151
كذلك تط ُّور المؤسسات التعليمية ،بدء ًا بال ُك ّتاب والمسجد ،ث َّم مجالس التأديب في المنارل وقصور الأمراء ،ث َّم المدارس المتخ ِّصصة التي هي أشبه بجامعات اليوم ،ث َّم ُأن ِشئت بيوت الحكمة أو دور العلم التي تغ َّشتها طبقة العلماء الذين يتذاكرون ويبحثون في مسائل متخ ِّصصة م ّما هو شبيه بمراكز البحوث في أيامنا هذه .وحصل تط ُّور واضح في نمط التصنيف والتأليف ،فكانت الكتب في بداية الأمر متون ًا يكتبها المؤ ِّلف بصور ٍة تفي بغرض ال ُمتع ِّلمين ،ث َّم احتاجت هذه الكتب في مراحل لاحقة إلى شروح .ول ّما تو َّسعت الشروح إلى مجلدات كثيرة احتاج الأمر أحيان ًا إلى مختصرات .ولتيسير حفظ المختصرات ،فإ َّنها تح َّولت إلى منظومات شعرية. ولا شك في أ َّن التط ُّور لم يكن دائم ًا خط ًا صاعد ًا في اتجاه واحد .فإذا كانت المختصرات والمنظومات محاولة لاحقة لكتب الشروح المط َّولة ،فقد لزم أحيان ًا شرح هذه المختصرات والمنظومات ،في كتب مط َّولة ،ثم إ َّن التط ُّور لم يكن في جميع الحالات يعني الاستغناء عن شيء واستبدال غيره به ،وإ َّنما كان أحيان ًا إضافة شيء إلى ما كان قبله. أولاً :تط ُّور في علم التفسير: إ َّن التط ُّور في التراث التربوي والتعليمي لأ َّية ُأ َّمة يتداخل -في أحد أبعاده على الأقل -مع موضوعات التعليم والتربية ،وهي العلوم نفسها؛ إذ نشأت علو ٌم لم تكن موجودة بصورة واضحة .وكل علم نشأ ث َّم تط َّور .وفي التاريخ الإسلامي كان القرآن الكريم -في بداية الأمر -هو موضوع العلم والتعليم ،ونشأت حوله علوم ث َّم تط َّورت. فعلم التفسير -مثل ًا -بدأ من الرواية الشفوية للصحابة الذين اش ُت ِهر منهم فيه عبد الله بن عباس ،وعبد الله بن مسعود ،و ُأب ُّي بن كعب؛ نظر ًا لاستمرار حياتهم في عهد التابعين. وكانت هذه الروايات الشفوية تتض َّمن تفسير ًا لبعض الآيات؛ إ ّما نقل ًا عن النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم ،وإ ّما معرف ًة من الرواة بالسياق والظروف التي نزلت فيها هذه الآيات .ث َّم جاءت مرحل ٌة ُأخرى في التفسير عندما احتاج المجتمع الإسلامي إلى تفسير القرآن كامل ًا وفق منهج يجمع بين الدلالات اللغوية والآثار المروية ،ور َّبما د َّشن هذه المرحلة الإمام الطبري (توفي310:ﻫ) في نهايات القرن الثالث الهجري. 152
واعتبار ًا من القرن الرابع الهجري بدأت تظهر تفاسير متن ِّوعة في مناهجها وأغراضها، تض َّمنت تفاصيل لغوية وتاريخية وفقهية وكلامية ،ع َّبرت عن التن ُّوع في الاتجاهات العلمية والمنهجية للمذاهب الفقهية ،وال ِفرق الكلامية ،والنزعات الصوفية ،وغيرها .ومع أ َّن بعض هذه التفاسير كانت تراجع سائر المقولات والاجتهادات السابقة ،وتر ِّجح بينها، أو تضيف إليها ،فإ َّنها بقيت تدور حول الآثار المروية ،ومعاني الألفاظ ،وفنون اللغة، وبعض المسائل الفنية في الفقه والعقيدة التي لا تدخل في صميم المقاصد القرآنية ،التي تجعل القرآن نور ًا وهد ًى ورحم ًة للإنسان؛ ما يم ِّكنه من تحقيق المعنى الصحيح للعبادة والخلافة والعمران(((. ولع َّل هذه المعاني بدأت تتبلور بصورة أكثر وضوح ًا في القرنين الأخيرين عندما بدأ بعض رجال الفكر والإصلاح يشعرون بوطأة التخ ُّلف الذي وصلت إليه الأُ َّمة الإسلامية في المجالات المختلفة ،وحاجة الأُ َّمة إلى تفعيل القرآن في حياتها .ولع َّل جهود محمد عبده ،ورشيد رضا ،وأبو الكلام آزاد ،وعبد الحميد بن باديس ،والطاهر بن عاشور ،وسيد قطب -في هذا المجال -أمثلة على هذا التو ُّجه التجديدي-الإصلاحي في تفسير القرآن الكريم .ومن أهم ما نجده اليوم في اتجاهات التفسير المعاصر تفسير القرآن بالقرآن، والتفسير الموضوعي ،والجمع بين قراءة الوحي المسطور والعا َلم المنظور ،والوحدة البنائية للقرآن الكريم ،وغير ذلك. وقد ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين قراءات حداثية للقرآن الكريم، تو َّسلت بمناهج غربية حديثة ،تحمل اتجاهات فكرية تحاول بناء قطيعة مع التراث الإسلامي ،تحت عناوين متعددة ،منها :تحليل الخطاب ،واللسانيات ،والتأويل، والهرمنوطيقا الظاهراتية ،والهرمنوطيقا البنيوية ،وغيرها .ونذكر من أصحاب هذه القراءات الحداثية :نصر حامد أبو زيد ،ومحمد أركون ،ومحمد شحرور ،وغيرهم. ((( العرض السريع لتط ُّور التفسير لا يكفي لفهم المراحل والنماذج والمناهج التي تط َّور فيها التفسير؛ لذا َيح ُسن مراجعة أحد الكتب المتخصصة ،ومنها على سبيل المثال: -الذهبي ،محمد حسين .التفسير والمفسرون :بحث تفصيلي عن نشأة التفسير وتطوره ،وألوانه ومذاهبه ،مع عرض شامل لأشهر المفسرين ،وتحليل كامل لأهم كتب التفسير من عصر النبي ﷺ إلى عصرنا الحاضر، القاهرة :مكتبة وهبة1976 ،م ،ثلاثة مجلدات. 153
و ُق ْل مثل ذلك في علوم الحديث وعلوم الفقه وأصوله م ّما يح ُسن الا ِّطلاع عليه في المراجع المتخ ِّصصة. ثاني ًا :تط ُّور في مسؤولية التعليم: تشير نصوص التراث التربوي الإسلامي إلى أ َّن تعليم الأبناء كان في بداية التاريخ الإسلامي مهم ًة أساسية من مهمات الأسرة؛ فإ ّما أ ْن يقوم أولياء الأمور بتعليم أبنائهم بأنفسهم ،أو يستأجرون َمن يقوم بذلك .وكتاب \"آداب ال ُمع ِّلمين\" لابن سحنون (توفي256:ﻫ) الذي ر َّبما يكون أقدم كتاب متخ ِّصص في شؤون التعليم ،في عنوانه ومحتواه ،يتح َّدث عن عقود بين ال ُمع ِّلمين وأولياء الأمور ،وعن أحكام فقهية مح َّددة تتع َّلق بشروط هذه العقود ،وقد نسب ابن سحنون بعضها إلى الإمام مالك (توفي179:ﻫ) .واستمر الحديث عن هذه العقود عبر زمان سحنون (توفي240:ﻫ) ،وابنه محمد (توفي256:ﻫ)، والقابسي (توفي403:ﻫ) ،وحتى ابن حجر الهيتمي (توفي973:ﻫ) في القرن العاشر الهجري .وأ َّكد هذا الاتجاه القابسي الذي ب َّين صراح ًة \"أ َّن أئمة المسلمين في صدر هذه الأُ َّمة ...لم يبل ْغنا أ َّن أحد ًا منهم أقام ُمع ِّلمين يع ِّلمون للناس أولادهم من صغرهم في الكتاتيب ،ويجعلون لهم على ذلك نصيب ًا من مال الله\" كما صنعوا في مجالات ُأخرى(((. وبالرغم من أ َّننا نجد تعليمات صريحة من بعض الخلفاء والأمراء عن تعميم التعليم وتوفير نفقاته من بيت المال ،بدء ًا بعهد عمر بن الخطاب ،ومرور ًا بعدد من الخلفاء الأمويين والعباسيين ،فقد استمر النقاش الفقهي يؤ ِّكد مسؤولية الأبوين .فهذا بدر الدين الغ ِّز ُّي في القرن العاشر يقول\" :قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله :على الآباء والأُ َّمهات -أ ْي ونحوهم كالقيم والوصي -تعليم من تحت نظرهم من الصغار ما سيتع َّين عليهم بعد البلوغ ...وقيل هذا التعليم مستحب ...والصحيح وجوبه .والمستحب ما زاد على هذا من تعليم قرآن وفقه وأدب ونحوها ...ث َّم أجرة تعليم الواجب ،ومث ُله أجرة تعليم المستحب من قرآن وما ذكر في مالِ ِهم معه ،فإ ْن لم يكن فعلى َمن تلزمه نفقتهم من نحو أ ٍب وإ ْن علا ،ث َّم ُأ ٍّم وإ ْن علت(((\". ((( القابسي ،أبو الحسن علي بن خلف (توفي403:ﻫ) .الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين ،دراسة وتحقيق :أحمد خالد ،تونس :الشركة التونسية للتوزيع ،ط1986 ،1م ،ص.98 ((( الغزي ،أبو البركات بدر الدين محمد بن محمد (توفي984:ﻫ) .الدر النضيد في أدب المفيد والمستفيد ،تحقيق: نشأت بن كمال المصري ،القاهرة :مكتبة التوعية الإسلامية2009 ،م ،ص.112-111 154
وقد رافق انتشار الإسلام في البلاد ،إنشاء مؤسسات التعليم بأنواعها ومستوياتها، وذلك بعد انتقال التعليم من المسجد إلى ال ُك ّتاب ،أو إلى المدرسة؛ نظر ًا لتزايد الأعداد التي باتت ُت ْقبِل على طلب العلم ،ولظهور أنواع من العلوم رأوا أ َّنه لا َيح ُسن تع ُّل ُمها وتعليمها في المسجد؛ لما فيها من نقاش وجدال ،مثل :علم الكلام ،والمنطق ،والفلسفة ،وغيرها. ومع أ َّن التراث الإسلامي يشير إلى عدد من المواقف التي فهم فيها بعض الخلفاء والأمراء مسؤوليتهم ،ث َّم مسؤولية الدولة ،عن نشر التعليم وتوفير متط َّلباته؛ من :علوم، و ُمع ِّلمين ،ومؤسسات تعليمية ،فإ َّن الممارسة العملية التي يكشف عنها التراث التربوي الإسلامي تؤ ِّكد أ َّن القاعدة ظ َّلت في الغالب ُت َح ِّمل الأسرة مسؤولية التعليم. ومن المؤ َّكد أ َّن مسؤولية ولاة الأمر عن التعليم كانت أمر ًا حاضر ًا منذ البداية ،وقد و َّثقنا في موقع آخر قيام الخلفاء الراشدين بتعليم ما عندهم من العلم ،وإرسال بعض الصحابة إلى الأمصار لتعليم الناس ،وتكليف الولاة في الأمصار تيسير ُسبل التع ُّلم ودفع نفقاته ل َمن يحبسون أنفسهم للتعليم .وقد تفاوتت الآثار المنقولة في رصد اهتمام الخلفاء في العصر الأموي والعصر العباسي من خليفة إلى آخر ،ومن واحد إلى آخر من الولاة في الأمصار .ومن الأمثلة على ذلك اهتمام عمر بن عبد العزيز بضرورة اهتمام الولاة والع ّمال في أنحاء الدولة بالتع ُّلم والتعليم ،ومن ذلك أ َّنه أرسل إلى والي حمص يقول له\" :انظر إلى القوم الذين ن َّصبوا أنفسهم للفقه ،وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا ،فأع ِط كل رجل منهم مئة دينار ،يستعينوا بها على ما هم عليه من بيت مال المسلمين ،حين يأتيك كتابي هذا .وإ َّن خي َر الخير أعجله ،والسلام عليك(((\". ومنه كذلك أ َّن الوليد بن عبد الملك كان يتع َّهد الأيتام ،ويكفلهم ،وير ِّتب لهم مؤ ِّدبين ،كما كان ُيعطي الفقهاء .قال الذهبي\" :كان يختن الأيتام ،وير ِّتب لهم المؤ ِّدبين، وير ِّتب لل َّز ْمنَى َمن يخدمهم ،وللأض ّراء َمن يقودهم من رقيق المسلمين ،وع َّمر مسجد النبي ﷺ وو َّسعه ،ورزق الفقهاء والفقراء والضعفاء ،وح َّرم عليهم سؤال الناس ،وفرض لهم ما يكفيهم ،وضبط الأموال أتم ضب ٍط(((\". ((( ابن الجوزي ،الحافظ جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن (توفي 597ﻫ) .سيرة عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد ،ضبط وشرح وتعليق :نعيم زرزور ،بيروت :دار الكتب العلمية ،ط1984 ،1م ،ص.115 ((( الذهبي ،شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز (توفي 748ﻫ) .تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام ،تحقيق :عمر عبد السلام تدمري ،بيروت :دار الكتاب العربي ،ط1987 ،1م ،حوادث ووفيات (100-81ﻫ) ،ج ،6ص.500 155
ومن الملاحظ أ َّن مسؤولية الوالدين عن تعليم الأبناء ،ولا سيما في المراحل الأُولى من س ِّن الأبناء ،كانت تنطلق من المبادرات المحلية في المجتمع الإسلامي؛ تطبيق ًا للتوجيه الإسلامي في الح ِّث على طلب العلم وبذله ،وتحقيق ًا لمسؤولية الرعاية المنوطة بالوالدين؛ لذا انتشرت الكتاتيب في أحياء المدن والقرى والأرياف والبوادي ،فش َّكل ذلك بديل ًا عن قيام الدولة بتمويل هذا المستوى من التعليم الأولي في معظم الأحيان. ثالث ًا :تط ُّور في مكانة ال ُمع ِّلم ومهنة التعليم: بالرغم من سم ِّو مكانة ال ُمع ِّلم ،فإ َّن هذه المكانة شا َبها شي ٌء من التشويه والنقص. فمع هذا الانتشار والتو ُّسع في مؤسسات التعليم وأعداد ال ُم ْقبِلين عليه زادت الحاجة إلى ال ُمع ِّلمين ،ودخل إلى مهنة التعليم في بعض الأزمان َمن لم يكن أهل ًا لها ،فاخت َّلت صورة ال ُمع ِّلم في المجتمع ،وأصبح أحيان ًا مضرب المثل في الحمق والغباء. وهو ما انتبه إليه الجاحظ وغيره ،وف َّسروه بأ َّنه نتيج ٌة طبيعية لمعاشرتهم الصبيان. يقول الجاحظ\" :وهؤلاء الذين هج ْو َتهم وشك ْو َتهم وحاج ْج َتهم و َف َح ْشت عليهم ،وألز ْمت الأكاب َر ذنب الأصاغر ،وحكم َت على المجتهدين بتفريط المقصرين ،و َر َث ْيت لآباء الصبيان من إبطاء ال ُمع ِّلمين عن تحذيقهم ،ولم ت ْر ِث لل ُمع ِّلمين من إبطاء الصبيان ع ّما يراد بهم، و ُب ْع ِدهم عن صرف القلوب لما يحفظونه ويدرسونه ،وال ُمع ِّلمون أشقى بالصبيان من رعاة الضأن و ُر َّواض المهارة (((\".وقد رأى الجاحظ أ َّن م ّما\" :أعان الله تعالى به الصبيان أ ْن ق َّرب طبائ َعهم ومقادي َر عقولهم من مقادير عقول ال ُمع ِّلمين (((\".وربما كان المقصود بهذه العبارة هو تقريب عقول ال ُمع ِّلمين من عقول الصبيان؛ فقد وردت نصوص تراثية متعددة عن تح ُّول لغة البالغين وسلوكهم إلى ما يناسب حالة الأطفال واستجاباتهم المرغوبة .ومن ذلك قول الجاحظ\" :ألا ترى أ َّن أبل َغ الناس لسان ًا ،وأجو َدهم بيان ًا ،وأد َّقهم فطن ًة ،وأبع َدهم رو َّي ًة ،لو نا َط َق طفل ًا أو نا َغى صبي ًا ،لتو ّخى حكاي َة مقادير عقول الصبيان ،وال َّش َب َه لمخارج كلامهم، وكان لا ُب َّد من أ ْن ينصرف عن كل ما ف َّضله الله به بالمعرفة الشريفة والألفاظ الكريمة!\"((( ((( الجاحظ ،أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب (توفي255:ﻫ) .رسائل الجاحظ ،تحقيق :عبد السلام هارون، بيروت :دار الجيل1991 ،م ،ج ،3ص.28 ((( المرجع السابق ،ص.37 ((( المرجع السابق ،ص.28 156
وقد وجدنا نصوص ًا متعددة تشير إلى اعتبار مهنة تعليم الصبيان مؤ ِّشر ًا لنقص وضعف في شخصيات ال ُمع ِّلمين وعدم الثقة بهم ،وأصبحت مهنة التعليم تهم ًة ُتز ِري بصاحبها ،وقالوا في ذلك شعر ًا: كفـى المرء نقص ًا أ ْن يقال بأ َّنه ُمع ِّل ُم صبيا ٍن وإ ْن كان فاضل ًا((( و َينْ ُسب اب ُن حجة قولاً إلى ابن الجوزي يقول فيه\" :قال ابن الجوزي في آخر كتاب \"الحمقى والمغفلين\" :إ َّن ال ُمع ِّلمين للصبيان صناعتهم تكاد أ ْن تكون إكسير ًا لق َّلة العقل، وإبراز ًا للحماقة(((\". وهناك نصوص تو ِّثق تطا ُول الصبيان على صنف من ال ُمع ِّلمين بالهزء والضرب أحيان ًا؛ لسقوط مكانتهم في أنفسهم ،وامتهان كرامتهم(((. ومن أسباب تد ّني هذه المكانة ما ذكره ابن حوقل ،قال\" :وكان قد سبق الرسم بإعفاء ال ُمع ِّلمين قديم ًا بينهم من النوائب ،وحملت على المغارم ،ففزع إلى التعليم ُب ُل ُههم، وح َّسن ُه لديهم جه ُل ُهم مع ق َّلة الانتفاع به والجدوى منه؛ فإ َّن فيهم الكثير تم ُّر به السنة فلا يصيب من جميع صبيانه وهو كثير عشرة دنانير ،فأ ُّي منزلة أقبح ،وصورة أخ ُّس وأوتح من رجل باع ما أوجب الله تعالى عليه من الجهاد وشرفه ،والغزو وعزه بأخس منزلة ،وأوضح حرفة ،وأسقط صنيعة(((\". ((( الراغب الأصبهاني ،أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل المعروف بالراغب (توفي502:ﻫ) .محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء ،ه َّذبه واختصره :إبراهيم زيدان ،القاهرة :مطبعة الهلال بالفجالة1902 ،م ،ص.53 ((( ابن حجة الحموي ،تقي الدين أبو بكر بن علي بن محمد (توفي837:ﻫ) .ثمرات الأوراق ،تحقيق :محمد أبو الفضل إبراهيم ،بيروت :المكتبة العصرية2005 ،م ،ص.138 بيد أ َّن هذا النص الموجود في عدد من المراجع الأُخرى ليس موجود ًا في النسخ المطبوعة من كتاب \"الحمقى والمغفلين\" لابن الجوزي. ((( َث َّمة قص ٌص متعددة في ذلك ،ذكرها ابن الجوزي في \"أخبار الحمقى والمغفلين\" .انظر: -ابن الجوزي ،أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي (توفي 597ﻫ) .أخبار الحمقى والمغفلين ،بيروت: المكتب التجاري( ،د.ت ،).ص.142 ومن ذلك قوله ...\" :قال الجاحظ :ومررت ب ُمع ِّلم صبيان وهو جالس وحده وليس عنده صبيانه ،فقلت له :ما فعل صبيانك؟ قال :ذهبوا يتصافعون ،فقلت :أذهب وأنظر إليهم؟ فقال :إ ْن كان ولا ُب َّد فغ ِّط رأسك لئلا يحسبوك أنا فيصفعوك حتى تعمى\". ((( ابن حوقل ،أبو القاسم محمد بن حوقل النصيبي الموصلي (توفي367:ﻫ) .كتاب صورة الأرض ،بيروت: منشورات دار مكتبة الحياة1992 ،م ،ص.121-120 157
ور َّبما كان القصور في مسؤولية الدولة عن التعليم ،وبسط إلزاميته ،وتوفير متط َّلباته، وتنظيم إدارته ،أحد الأسباب في دخول ميدان التعليم َمن لم يكن أهل ًا له ،لا سيما إذا رافق ذلك قصور في أداء المحتسب لمهمته في الرقابة على التعليم وال ُمع ِّلمين ،والبطء في إنشاء المؤسسات المتخ ِّصصة التي تدير التعليم وتن ِّظم شؤونه ،فأسهم ذلك في تراجع مكانة ال ُمع ِّلم في المجتمع ،والح ِّط من مهنة التعليم في بعض الأوساط. وتج ّلى عدم تأهيل ال ُمع ِّلم أحيان ًا في جهله بالطرق المناسبة للتعليم؛ ما زاد في تراجع مكانة ال ُمع ِّلمين ،وأنقص تع ُّلق الطلبة بالتعليم .وفي هذا يقول ابن خلدون\" :وقد شاهدنا كثير ًا من ال ُمع ِّلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفاداته ،و ُيح ِضرون لل ُمتع ِّلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم ،ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ،و َي ْح َسبون ذلك مران ًا على التعليم وصواب ًا فيه ... ،ويخلطون عليه بما ُي ْلقون له من غايات الفنون في مبادئها، وقبل أ ْن يستعد لفهمها ... ،و َح ِسب (الطالب) ذلك ِمن صعوبة العلم في نفسه ،فتكاسل عنه، وانحرف عن قبوله ،وتمادى في ُهجرانه ،وإ َّنما أتى ذلك من سوء التعليم(((\". ولع َّل من المناسب أ ْن نشير إلى أ َّن ما قيل عن تراجع مكانة ال ُمع ِّلم ينطبق في الغالب على ُمع ِّلمي الصبيان في الكتاتيب .أ ّما المؤ ِّدبون الذين كانوا يتو َّل ْون تعليم أولاد الخاصة من الخلفاء والأمراء والأغنياء ،فإ َّن مكانتهم كانت ترتفع بارتفاع منزلتهم عند أولئك الخاصة .ور َّبما أراد الجاحظ تأكيد معنى الارتفاع في مكانة ال ُمع ِّلم مع الارتفاع في منزلة أولياء ال ُمتع ِّلمين .وحتى ُمع ِّلمو الكتاتيب ،فإ َّنهم عند الجاحظ فئات؛ فبعضهم من الحاشية ال َّس ِفلة .يقول\" :ال ُمع ِّلمون على ضربين؛ منهم رجا ٌل ارتفعوا عن تعليم أولاد العامة إلى أولاد الخاصة ،ومنهم رجا ٌل ارتفعوا عن تعليم أولاد الخاصة إلى تعليم أولاد الملوك أنفسهم المرشحين للخلافة .فكيف تستطيع أ ْن تزعم أ َّن مثل عل ِّي بن حمزة الكسائي ومحمد بن المستنير الذي يقال له ُق ْط ُرب ،وأشبا َه هؤلاء يقال لهم حمقى .ولا يجوز هذا القول على هؤلاء ولا على الطبقة التي دونهم .فإ ْن ذهبوا إلى ُمع ِّلمي كتاتيب ال ُقرى ،فإ َّن لكل قوم حاشي ًة و َس ِفل ًة ،فما ُه ْم في ذلك إلا كغيرهم ،وكيف تقول مثل ذلك في هؤلاء وفيهم الفقهاء والشعراء والخطباء(((\". ... ((( ابن خلدون ،أبو زيد عبد الرحمن بن محمد الحضرمي (توفي808:ﻫ) .مقدمة ابن خلدون ،تحقيق :علي عبد الواحد وافي ،طبعة جديدة ومنقحة ،القاهرة :نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع ،ط2004 ،4م ،ج ،3ص.1110 ((( الجاحظ ،أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب (توفي255:ﻫ) .البيان والتبيين ،تحقيق :عبد السلام هارون، بيروت :دار الجيل( ،د .ت ،).ج ،1ص.251-250 158
وقد شهد المجتمع الإسلامي تط ُّور ًا واضح ًا حين أصبح التعليم مهنة لها شروطها وطرق التأهيل لها ،لك َّن متط َّلبات الإعداد والتأهيل لهذه المهنة كانت تختلف باختلاف المستوى؛ فالمؤ ِّدب الذي سيع ِّلم أبناء الملوك والأمراء والأغنياء سيكون المطلوب منه كفاء ًة عالية ومواصفات محددة تخت ُّص بشخصيته الثقافية ،وبنيته الجسمية ،فضل ًا عن تب ُّحره في العلم ،وتزكية كبار العلماء ،وإجازتهم له .وقد عرف التراث الإسلامي َمن تخ َّصص في إعداد الأدباء وتأهيلهم ،كما يروي ياقوت الحموي .ومن هؤلاء -مثل ًا- أحمد بن محمد بن عبد الله السهلي ،قيل عنه :هو \"إمام في الأدب ...وأنفق عمره على مطالعة العلوم وتدريس مؤ ِّدبي نيسابور (((\".ومنهم \"الحسن بن مهرجان ،كان من أعرف المؤ ِّدبين بأسرار التأديب والتدريس ،وأعلمهم بطرق التدريج إلى التخريج(((\". رابع ًا :تط ُّور في علاقة العلماء بالحكام: كان بعض العلماء والأدباء يتر َّفعون حتى عن تأديب أولاد الخاصة؛ فهذا الإمام مالك بن أنس (توفي179 :ﻫ) رفض أ ْن يذهب ليع ِّلم ولدي الخليفة المهدي (توفي169:ﻫ): هارون الرشيد ،وموسى الهادي .وحتى عندما حضرا إليه مع مؤ ِّدبِهما ،رفض أ ْن يقرأ لهم حتى يقرؤوا ُه ْم عليه؛ لأ َّن\" :أهل المدينة يقرؤون على العالِم كما يقرأ الصبيان على ال ُمع ِّلم (((\".ث َّم إ َّن مالك ًا نف َسه رفض أ ْن يذهب لقراءة المؤطأ على هارون الرشيد عندما َق ِدم المدين َة حاج ًا في أثناء خلافته ،ورأى أ َّن ذلك َو ْضع ًا للعلم .وقد روى ابن عساكر هذه القصة ،قائل ًا\" :قال هارون لمالك :يا أبا عبد الله ،أريد أ ْن أسمع منك الموطأ ،قال :فقال مالك :نعم يا أمير المؤمنين ،قال :فقال لمالك :متى؟ قال مالك :غد ًا ،قال :فجلس هارون ينتظره ،وجلس مالك في َب ْيتِه ينتظره ،قال :فل ّما أبطأ عليه أرسل إليه هارون ف َد َعاه ،قال: فقال له :يا أبا عبد الله ،ما زل ُت انتظ ُر َك اليوم ،فقال مالك :وأنا أيض ًا يا أمير المؤمنين لم أ َز ْل أنتظ ُرك منذ اليوم ،إ َّن العلم ُي ْؤ َتى ولا َي ْأتِي ،وإ َّن اب َن ع ِّمك هو الذي جاء بالعلم ﷺ ،فإ ْن رفع ُت ُموه ا ْر َت َفع ،وإ ْن وضع ُت ُموه ا َّت َضع(((\". ((( الحموي ،معجم الأدباء :إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب ،مرجع سابق ،ج ،2ص.491 ((( المرجع السابق ،ج ،4ص.1869 ((( الذهبي ،شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان (توفي748:ﻫ) .سير أعلام النبلاء ،تحقيق :شعيب الأرنؤوط ومحمد نعيم العرقسوسي ،بيروت :مؤسسة الرسالة ،ط1982 ،2م ،ج ،8ص.64 ((( ابن عساكر ،أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله (توفي571:ﻫ) .كشف المغ َّطا في فضل المو َّطا ،تحقيق: محمد مطيع الحافظ ،بيروت ودمشق :دار الفكر المعاصر ودار الفكر1992 ،م ،ص.58-57 159
ومثل هذا الموقف ليس خاص ًا بالإمام مالك ،وما ُع ِرف عنه من إجلاله لما يحمله من علم ،وإجلاله للمدينة وأهلها؛ فقد وقع ذلك من غيره من العلماء ،ونذكر مثالاً عليه من علماء الأندلس؛ فهذا أبو سليمان داود بن يزيد الغرناطي (توفي573:ﻫ) طلب منه السلطان أ ْن يع ِّلم أبناءه ،فقال\" :والله لا أهنت العلم ،ولا مشيت إلى الديار(((\". ور َّبما كان إقبال بعض أهل العلم على الدنيا ،وطلبهم الجاه والمال عند الأمراء، أحد الأسباب في سقوط منزلتهم ،ليس في المجتمع فحسب ،بل عند الأمراء ،ور َّبما عند أنفسهم؛ فقد تح َّدث ابن حزم عن المخاطر النفسية التي قد تتر َّتب على هذه الصلة ،فقال: \"وإ ِن اب ُت ِلي بصحبة سلطان فقد اب ُت ِلي بعظيم البلايا ،وعرض للخطر الشنيع في ذهاب دينه، وذهاب نفسه ،وشغل باله ،وترادف همومه(((\". ... ولك ْن ،من المهم أ ْن نلاحظ أ َّن المجتمع الإسلامي ،حتى في تلك الظروف ،ومع وجود مثل هذه الحالات ،كان يمتلئ بحالات ُأخرى من العلماء الأعلام الذين حافظوا بتكريمهم لعلمهم ،وتب ُّحرهم فيه ،وباستقلالية شخصياتهم وق َّوتها ،وبتر ُّفعهم عن حظوظ الدنيا ،وجرأتهم في العلاقة بالأمراء ،فاكتسبوا بذلك المكانة العالية عند الناس ،وحتى عند الأمراء أنفسهم .ومن الإنصاف أ ْن نتذ َّكر الأمثلة الكثيرة من هذا الصنف من العلماء ال ُمع ِّلمين كلما ورد الحديث عن وجود حالات التد ّني في مكانة العلماء وال ُمع ِّلمين. وإذا كان هذا التن ُّوع في السلوك البشري يع ِّبر عن طبائع البشر ،فإ َّن َث َّمة تن ُّوع ًا آخ َر يعكس الاختلاف في اجتهادات العلماء في تح ّري الحق في المواقف والفتاوى .ومثال ذلك أ َّننا نجد نصوص ًا كثيرة تح ِّذر من القرب من الأمراء والسلاطين ،وقد أخذ بها بعض العلماء؛ تر ُّفع ًا ع ّما قد يس ِّببه ذلك من حالات ضعف ،وخضوع ،ونفاق .فقد روى ابن عباس عن النبي ﷺ قوله\" :و َمن أتى أبواب السلاطين اف ُتتِن (((\".ومع ذلك نجد علماء ((( السيوطي ،جلال الدين عبد الرحمن بن كمال الدين (توفي911:ﻫ) .بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، تحقيق :محمد أبو الفضل إبراهيم ،القاهرة :مطبعة عيسى البابي الحلبي ،ط1964 ،1م ،ص.563 ((( ابن حزم ،أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد (توفي456:ﻫ) .رسائل ابن حزم الأندلسي ،تحقيق :إحسان عباس، بيروت :المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،ط1983 ،1م ،ج ،4ص.76 ((( الترمذي ،جامع الترمذي ،مرجع سابق ،كتاب :الفتن ،با ٌب ،حديث رقم ،)2256( :ص.373 160
آخرين كانوا جبالاً في العلم والصلاح ،لم يأنفوا من تلبية دعوات الأمراء ،وقبول بعض ِصلاتهم المالية ،ولك َّن مواقفهم كانت تشهد أمثلة عظيمة في الاستقلالية والجرأة وع َّزة النفس .وعندما كانت تو َّجه إليهم انتقادات الصلة بالأمراء ،كانوا يب ِّينون ما يتح َّقق من ذلك من خير ،وما يضيع من ُفرص الخير لو لم يفعلوه. وعلى كل حال ،فإ َّن التاريخ الإسلامي لم يخ ُل من أمراء ا َّتصفوا بالظلم والكذب، ولم يخ ُل التراث الإسلامي من علماء ص َّدقوهم في كذبهم ،وز َّينوا لهم ظلمهم ،وأعانوهم عليه؛ خوف ًا ،أو طمع ًا .ور َّبما كان تراث التحذير من الاقتراب من الأمراء -وهو كثير -يقع في مثل هذه الحالات .ففي الحديث عن جابر بن عبد الله أ َّن رسول الله ﷺ قال: \"سيكون أمراءَ ،من دخل عليهم وأعانهم على ظلمهم ،وص َّدقهم بكذبهم ،فليس مني، ولست منه ،ولن ير َد عل َّي الحوض .و َمن لم يدخل عليهم ،ولم يعنهم على ظلمهم ،ولم يص ِّدقهم بكذبهم ،فهو مني ،وأنا منه ،وسير ُد عل َّي الحوض (((\". لقد تن َّوعت مواقف العلماء مع السلاطين؛ من :ملاينة ومتابعة ،أو تش ُّدد وابتعاد. والأمثلة كثيرة على نوعي الصلة ،وقد استشهد اب ُن عبد البر في \"جامع بيان العلم وفضله\" في هذا الباب بكثير من الأحاديث والآثار ،منها الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: \"يكون عليكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون ،ف َمن أنكر فقد برئ ،و َمن كره فقد َس ِلم، ولك ْن َمن رضي وتابع فأبعده الله (((\".ومنها ما يرويه عن الأعمش\" :ش ُّر الأمراء أبعدهم من العلماء ،وش ُّر العلماء أقربهم من الأمراء (((\".ث َّم ع َّقب اب ُن عبد البر على الآثار المروية ((( النسائي ،أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي (توفي303:ﻫ) .سنن النسائي ،اعتنى به :فريق بيت الأفكار الدولية ،الرياض :بيت الأفكار الدولية ،ط1999 ،1م ،كتاب :البيعة ،باب :من لم يعن أمير ًا على الظلم، حديث رقم ،)4208( :ص.442 ((( ابن عبد البر ،أبو عمر يوسف بن عبد الله النمري القرطبي (توفي463 :ﻫ) .جامع بيان العلم وفضله ،تحقيق: أبو الأشبال الزهيري ،الدمام :دار ابن الجوزي ،مجلد واحد1414( ،ﻫ1994/م) ،ج ،1ص.635-634 والحديث صحيح .انظر: -مسلم ،أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري (توفي260:ﻫ) .صحيح مسلم ،اعتنى به :أبو صهيب الكرمي، الرياض :بيت الأفكار الدولية ،ط1998 ،1م ،كتاب :الإمارة ،باب :وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع وترك قتالهم ما صلوا ،ونحو ذلك ،حديث رقم ،)1854( :ص.774 ((( ابن عبد البر ،جامع بيان العلم وفضله ،مرجع سابق ،ج ،1ص .634 161
في هذا الباب بقوله\" :معنى هذا الباب كله في السلطان الجائر الفاسق ،فأ ّما العدل منهم الفاضل ،فمدا َخ َل ُته ورؤي ُته وعو ُنه على الصلاح من أفضل أعمال البر ،ألا ترى أ َّن عمر بن عبد العزيز إ ّنما كان يصحبه ج َّلة العلماء ،مثل :عروة بين الزبير وطبقته ،وابن شهاب وطبقته .وقد كان اب ُن شهاب يدخل إلى السلطان عبد الملك وبنيه بعده .وكان م َّمن يدخل إلى السلطان :الشعبي ،وقبيصة بن ذؤيب ،والحسن ،وأبو الزناد ،ومالك ،والأوزاعي، والشافعي ،وجماعة يطول ذكرهم .وإذا حضر العالِم عند السلطان ِغ ّب ًا فيما فيه الحاجة إليه ،وقال خير ًا ،ونطق بعلم كان َح َسن ًا ،وكان في ذلك رضوان الله إلى يوم يلقاه، ولكنَّها مجالس الفتنة فيها أغلب ،والسلامة منها ترك ما فيها ،وحسبك ما تق َّدم في هذا الباب من قوله ﷺَ \" :من أنكر فقد برئ ،ولك ْن َمن رضي وتابع ،فأبعده الله ع َّز وج َّل(((\". وكما كان في العلماء أهل علم وتقى وصلاح ،كان في الأمراء أهل علم وعدل وصلاح كذلك .وقد ُع ِرف من الأمراء َمن كانوا ُي ِج ّلون العلما َء إجلالاً عظيم ًا ،ويجلسون بين أيديهم جلوس التلميذ أمام ال ُمع ِّلم .فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :قال رسول الله ص ّلى الله عليه وس َّلم\" :إ َّن الله يحب الأمراء إذا خالطوا العلماء ،ويمقت العلماء إذا خالطوا الأمراء؛ لأ َّن العلماء إذا خالطوا الأمراء رغبوا في الدنيا ،والأمراء إذا خالطوا العلماء رغبوا في الآخرة(((\". خامس ًا :التط ُّور في أخذ الأجرة على التعليم: ح َّذرت نصوص القرآن الكريم والحديث النبوي من جعل طلب العلم وسيل ًة للتك ُّسب والتر ُّفع والجاه .وبسبب هذا التحذير ،اجتهد بعض العلماء في تحريم أخذ الأجرة على التعليم .ولك ْن ،سرعان ما أصبح واضح ًا صعوبة الجمع بين ُسبل اكتساب الرزق ،والالتزام بمسؤولية عامة .فبعد أ ْن بويع أبو بكر بالخلافة ،رآه عمر وعبد الرحمن بن عوف يحمل ثياب ًا يريد بها السوق ،فاعترضا عليه ،فذكر أ َّنه يريد اكتساب الرزق لعياله، فاصطحباه إلى المسجد حيث تشاور المسلمون في فرض مخصصات مالية تكفيه مؤونة ((( المرجع السابق ،ج ،1ص.644 ((( الديلمي الهمذاني ،أبو شجاع شيرويه بن شهردار بن شيرويه (توفي509:ﻫ) .الفردوس بمأثور الخطاب ،تحقيق: السعيد بن بسيوني زغلول ،بيروت :دار الكتب العلمية ،ط1986 ،1م ،ج ،1حديث رقم ،)566( :ص.155 162
العمل ،ليتف َّرغ لشؤون المسلمين (((.فالخلافة منص ٌب عام يحتاج إلى تف ُّرغ ،و ُتغ ّطى حاج ُة َمن يقوم بهذا المنصب من بيت المال؛ أ ْي من موازنة الدولة .ومثله كثير من الأعمال، مثل :عمل القاضي ،والمحتسب ،والمؤ ِّذن ،وصاحب السوق ،وغيرهم. وعندما كان جلوس ال ُمع ِّلم للتعليم في أوقات محدودة في اليوم أو في الأسبوع ليق ِّدم للناس شيئ ًا من علمه ،يبتغي به إبلاغ العلم ،والأجر من الله ،جاءت الآثار بالنهي عن أخذ الأجرة على التعليم .وعندما ظهرت الحاجة إلى التف ُّرغ الكامل للتعليم ،وليس لل ُمع ِّلم مصدر رزق ُيغنيه عن طلب الأجرة أو قبولها ،ظهرت الحاجة إلى أخذ الأجرة. وعندما يكون ال ُمع ِّلم مخلص ًا في عمله متقن ًا له ،فلن ينقص أخ ُذه الأجر َة شيئ ًا من فضله، وكرامته في المجتمع ،وأجره عند الله. ومع أ َّن إنشاء المدارس ،والإنفاق بسخاء عليها ،وتعيين كبار العلماء فيها مقابل أجرة ،كان ُيذ َكر بالثناء والتبجيل ،فقد كان بعض العلماء يرون ذلك مناسبة لإقامة المآتم؛ لأ َّنهم يرون أ َّنه لا يجلس لبذل العلم إلا الكبار من العلماء؛ الكبار بعلمهم وكرامتهم، وليس بما يكسبونه من أجر على التعليم .وقد جاء في كتاب \"القانون\" للحسن اليوسي في هذا الشأن قوله\" :ويقال إ َّنه ل ّما بلغ علما َء ما وراء النهر بنا ُء المدارس ببغداد أقاموا مأتم ًا للعلم ،وقالوا :كان الذين يشتغلون به هم أرباب الهمم ف ُينْ َت َفع بهم ،فأ ّما إذا كانت له أجرة، فإ َّنه يتسارع إليه الأ ِخ ّساء ،فيكون ذلك سبب ًا لارتفاعه (((\".ونظر ًا لما استقر عليه المجتمع من حاجته إلى تف ُّرغ ال ُمع ِّلمين لتعليم الأبناء وتأمين متط َّلبات ذلك من أجور ال ُمع ِّلمين، ونفقات الأماكن والمرافق والمواد التعليمية وغيرها؛ فإ َّننا لا نتوقع أ ْن تكون الحالة التي تح َّدث عنها اليوسي تقع ضمن هذا المستوى من الحاجة والضرورة ،و ِم ْن َث َّم التقدير. وقد أكثر العلماء من الجدل حول حكم أخذ الأجر على التعليم ،وف َّرعوا على الموضوع مسائل متعددة ما بين منع وإجازة ،منها ما يخت ُّص بالتمييز بين حكم تعليم القرآن ((( الطبري ،أبو جعفر محمد بن جرير (توفي310:ﻫ) .تاريخ الأمم والملوك ،بيروت :دار الفكر1979 ،م ،المجلد الثاني ،ج ،4ص.54 ((( اليوسي ،أبو المواهب الحسن بن مسعود (توفي1105:ﻫ) .القانون في أحكام العلم وأحكام العالم وأحكام المتعلم ،تحقيق وشرح :حميد حماني ،الرباط :المحقق1998 ،م ،ص.306 163
والعلوم الأُخرى ،وحكم ما يخت ُّص بتعليم الصبيان لأساسيات الدين وتعليم البالغين علوم ًا متخ ِّصصة .ومنها ما يخت ُّص بالقيام بالتعليم بتكليف من الدولة ،أو بالتعليم على نفقة أولياء الأمور ،وغير ذلك .وخلاصة الأمر هو أ َّن الشافعية والحنابلة والمالكية أجازوا أخذ الأجرة ،وأ َّن متقدمي الحنفية منعوا ث َّم أفتى متأخروهم بالجواز لعموم البلوى. ويستشهد َمن يجيزون أخذ الأجرة على التعليم بنصوص كثيرة ،ويف ِّسرون النصوص التي تح ِّذر من أخذ الأجرة ،بسياقاتها الخاصة التي لا تقف أمام النصوص المجيزة .وقد ُع َّد حك ُم الجواز -فضل ًا عن نصوصه المتضافرة -من متط َّلبات تط ُّور المجتمع وتنظيم شؤونه منذ وقت مبكر ،ومن ذلك ما يروى عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود قوله: \"ثلا ٌث لا ُب َّد للناس منهم :لا بد للناس من أمير يحكم بينهم ،ولولا ذلك لأكل بعضهم بعض ًا ،ولا ُب َّد للناس من شراء المصاحف وبيعها ،ولولا ذلك لق َّل كتاب الله ،ولا ُب َّد للناس من ُمع ِّل ٍم ُيع ِّل ُم أولادهم ،ويأخذ على ذلك أجر ًا ،ولولا ذلك لكان الناس ُأميين(((\". وقد جعل سحنون في \"ال ُمد َّونة الكبرى\" التي يرويها عن مالك بن أنس باب ًا في إجارة ال ُمع ِّلم ،ذكر فيه أ َّنه لا بأس في استئجار ال ُمع ِّلم بمبلغ معلوم من الدراهم؛ سواء للحذقة، أو على الوقت ،أو على القرآن ،أو جزء منه ،أو على تعليم الكتابة ،وفيه عن\" :ابن وهب، عن يحيى بن أبوب ،عن المثنى بن الصباح ،قال :سأل ُت الحسن البصري عن ُمع ِّلم الكتاب للغلمان و َيشترط عليه ،قال :لا بأس به .وعن عبد الجبار بن عمر قال :ك ُّل َمن سألت من أهل المدينة لا يرى بتعليم الغلمان بالأجر بأس ًا .وعن ابن لهيعة ،عن صفوان بن سليم: أ َّنه كان ُيع ِّلم الكتاب بالمدينة ،ويعطونه على ذلك الأجر ،قال ابن وهب :وسمع ُت مالك ًا يقول :لا بأس بأخذ الأجر على تعليم الغلمان الكتاب والقرآن(((\". ويبدو أ َّن ما استقر عليه الأمر مع نهاية القرن الرابع هو الإفتاء بجواز أخذ الأجرة على التعليم ،من دون حاجة إلى النظر في ُح َّجة ذلك .قال القابسي (توفي403:ﻫ)\" :وقد مضى ((( ابن سحنون ،محمد بن عبد السلام التنوخي (توفي256:ﻫ) .كتاب آداب المعلمين ،تحقيق :حسن حسني عبد الوهاب ،طبعة جديدة ،مراجعة وتعليق :محمد العروسي المطوي ،تونس :دار الكتب الشرقية1972 ،م ،ص.82 ((( سحنون ،أبو سعيد عبد السلام بن سعيد التنوحي القيرواني (توفي240:ﻫ) .ال ُمد َّونة الكبرى ،رواية الإمام سحنون عن الإمام عبد الرحمن بن قاسم عن الإمام مالك بن أنس (توفي179:ﻫ) ،الرياض :دار الكتب العلمية، ط1994 ،1م ،ج ،3ص.431 164
أمر المسلمين أ َّنهم يع ِّلمون أولا َدهم القرآن ،ويأتونهم بال ُمع ِّلمين ،ويجتهدون في ذلك، وهذا م ّما لا يمتنع منه وال ٌد لولده وهو يجد إليه سبيل ًا ...ولا يدع أيض ًا هذا والد واحد تهاون ًا واستخفاف ًا لتركه إلا والد جاف لا رغبة له في الخير ...ف َمن رغب إلى ر ِّبه أ ْن يجعل له من ذريته ق َّرة عين ،لم يبخل على ولد بما ينفق عليه في تعليمه القرآن ...لقد استغنى سلف المؤمنين أ ْن يتك َّلفوا الا ْحتِجا َج في مثل هذا ،واكتفوا بما جعل الله في قلوبهم من الرغبة في ذلك فعملوا به ،وأبقوا ذلك ُسنَّة ينقلها الخلف عن السلف ،ما ا ْح ُت ِسب في ذلك على أحد من الآباء ،ولا ُت ُب ِّين على أحد من الآباء أ َّنه ترك ذلك رغب ًة عنه ،ولا تهاون ًا فيه، وليس هذا من صفة المؤمن المسلم ،ولو ظهر على أحد أ َّنه ترك أ ْن ُيع ِّلم ولده القرآن تهاون ًا بذلكَ ،ل ُج ِّهل و ُق ِّبح و َن ُقص حالهَ ،و َو ُض َع عن حال أهل القناعة والرضا(((\". ورأى القابسي أ َّن أج َر ال ُمع ِّلم أصبح مرتبط ًا بالمهنة؛ فكل صاحب مهنة يتف َّرغ لها، ويقوم بخدمتها ،فله أجره .وال ُمع ِّلم صاحب مهنة ،ولا ُب َّد من وجود َمن يدفع أجرة التعليم، فإ ْن لم يوجد َمن يدفع أجر تعليم الولد ،وقام ال ُمع ِّلم بتعليمه بلا أجر ،تضاعف أجر ال ُمع ِّلم عند الله .قال القابسي في ذلك\" :وإ ِن ا ْح َتسب فيه ال ُمع ِّلم فع َّل َمه لله ع َّز وج َّل ،وصبر على ذلك ،فأ ْجره إ ْن شاء الله ُي َض َّع ُف في ذلك؛ إذ هي صنعته التي يقوم منها معاشة (((\".ث َّم قال: \" َو َب ُع َد أ ْن يمكن أ ْن يوجد من الناس َمن يتط َّوع للمسلمين ،ف ُيع ِّل َم لهم أولادهم ،ويحبس نفسه عليهم ،ويترك التماس معا ِي ِشه ،وتص ُّر َفه في مكاسبه وفي سائر حاجياتهَ ،ص ُلح للمسلمين أ ْن يستأجروا َمن يكفيهم تعليم أولادهم(((\". وتو َّسع القابسي في بيا ِن على َمن َتلزم نفقة تعليم الطفل حتى لو عجر والده عنها؛ فإ ْن مات الأب ،فعلى الوصي\" ،فإ ْن لم يكن لليتيم وصي َن َظر في أمره حاكم المسلمين ،وسار في تعليمه سيرة أبيه أو وصيه ،وإ ْن كان ببلد لا حاكم فيه َن َظر له في مثل هذا ،لو اجتمع صالحو ذلك البلد على النظر في مصالح أهله؛ فالنظر في هذا اليتيم من تلك المصالح، وإ ْن لم يكن لليتيم مال \"فأ ُّمه أو أولياؤه الأقرب فالأقرب ... ،فإن تط َّوع غيرهم بحمل ذلك ((( القابسي ،الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين ،مرجع سابق ،ص( 94-92بتصرف) ((( المرجع السابق ،ص.94 ((( المرجع السابق ،ص.98 165
عنهم فله أجره ... ،وإ ِن ا ْح َتسب فيه ال ُمع ِّلم فع َّل َمه لله ع َّز وج َّل ،وصبر على ذلك ،فأ ْجره إ ْن شاء الله ُي َض َّع ُف في ذلك (((\".ومثل هذا التأكيد على ضرورة توفير ما َيلزم لتعليم الصبي على أ ِّي حالة كان فيها يعني -فيما نعنيه اليوم -مبدأ إلزامية التعليم. سادس ًا :التط ُّور في المؤسسات التعليمية: بالرغم من أ َّن بعض الكتاتيب كانت موجودة في الجزيرة العربية قبل الإسلام ،فإ َّن ما جاء في القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية عن فضل العلم والتع ُّلم والتعليم ،والأمر بالقراءة والكتابة ،واحتفاء القرآن الكريم بالقلم والصحف ،قد أدخل المجتمع الإسلامي في ثورة علمية وتربوية ضد الأُ ِّمية والجهل؛ ما أ ّدى إلى انتشار مواقف التعليم والتع ُّلم في كل مكان. أ ّما عملية نزول القرآن الكريم على النبي ﷺ منجم ًا وفق مراحل البناء التربوي المتد ِّرج لل ُأ َّمة في المجالات المختلفة ،فقد كان ذلك كله مواقف تربوية وتعليمية .وبالمثل ،فإ َّن سياسة النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم في إدارة شؤون الأُ َّمة على ضوء الهدي الإلهي كانت كذلك مواقف تربوية متد ِّرجة .وكان المسجد هو المؤسسة العامة التي تتم فيها معظم المواقف التعليمية .وبقي ال ُك ّتاب ظهير ًا للمسجد في تعليم صبيان المجتمع وتربيتهم، وكان في كثير من الأحيان ملحق ًا بالمسجد أو قريب ًا منه؛ فقد كان تعليم القرآن الكريم وأحكام الصلاة أهم ما يتم تع ُّلمه فيهما. لك َّن علاقة المسجد بال ُك ّتاب وغيره من أماكن التعليم لم تكن على حالة واحدة دائم ًا .فقد أفتى مالك بعدم جواز تعليم الصبيان في المسجد؛ \"لأ َّنهم لا يتح َّفظون من النجاسة ،ولم ُين َصب المسجد للتعليم (((\".ث َّم جاءت ظرو ٌف عجز فيها ُمع ِّلمو الصبيان عن إيجاد أماكن خارج المساجد ،فجعلوا كتاتيبهم داخلها ،واستمر التراجع في الاهتمام بمكان ال ُك ّتاب في بعض الأحيان ،بل إ َّن التراجع والتدهور وصل أحيان ًا إلى ح ِّد جعل المسجد مكان ًا لتعليم بعض الحرف .فقد جاء في كتاب \"طبقات علماء إفريقية\" أ َّن أحد ُمع ِّلمي مهنة الخياطة كان ي َّتخذ من المسجد مكان ًا لتعليم تلاميذه(((. ((( المرجع السابق ،ص.94 ((( المرجع السابق ،ص.114 ((( ابن تميم التميمي ،أبو العرب محمد بن أحمد المغربي الإفريقي (توفي333:ﻫ) .طبقات علماء إفريقية وكتاب طبقات علماء تونس ،بيروت :دار الكتاب اللبناني1970 ،م ،ص.68 166
وفي عهد الصحابة والتابعين عرف المسج ُد مجال َس لل ُّسنة النبوية والفقه والأدب، إضاف ًة إلى تعليم القرآن الكريم. ومع مطلع العهد الأموي انتشرت مجالس التأديب في قصور الخلفاء وبيوت الأمراء والأغنياء ،وكانت هذه المجالس تعبير ًا عن نوع جديد من مؤسسات التعليم الخاصة بأبناء ِع ْل َية القوم ،واشتمل التدريس فيها على علوم القرآن ،والحديث ،واللغة ،والشعر ،وأيام العرب ،وفضائل الأخلاق والآداب العامة ،وإدارة شؤون الدولة ،وغير ذلك من طرق التعامل مع فئات الناس والأحداث .ث َّم تط َّورت خبرات التأديب حتى أصبحت مهنة خاصة يتف َّرغ لها كبار المؤ ِّدبين. وبقيت مجالس العلم في المساجد على مدار التاريخ الإسلامي ،بحيث يجلس فيها عالِم ُيلقي على الناس موضوعات العلم؛ من :تفسير ،أو حديث ،أو فقه .وإلى جانب ذلك انتشر في بيوت العلماء من المتخ ِّصصين في رواية الحديث ،أو تفسير القرآن الكريم ،أو الفقهاء والمفتين والأدباء وشيوخ التصوف؛ مجالس لإلقاء الدروس ،أو الإملاء .وحين لا ي َّتسع بيت العالِم للعدد الكبير من ال ُم ْقبِلين على الدروس ،فإ َّن المجلس كان ُين َقل إلى بعض الطرق والساحات العامة. ومن الإدراك المتزايد لقيمة هذه المجالس ،وضرورة تطوير تعليم العلوم المتخ ِّصصة ،وإشاعة التو ُّجهات المذهبية أو الفكرية الخاصة ،نشأت فكرة المدرسة التي كانت في الأساس مكان ًا لعالِم مح َّدد ،فتس ّمى المدرسة باسمه ،أو باسم الأمير الذي يأمر ببنائها ،والإنفاق عليها .وقد ظهرت ُأولى هذه المدارس في القرن الرابع في نيسابور ،ث َّم ُبنِيت المدارس النظامية منتصف القرن الخامس تقريب ًا .وهذه المدارس في حقيقتها أقرب ما تكون إلى الكليات الجامعية المعروفة اليوم؛ فهي ُأن ِشئت لتعليم موضوع مح َّدد ،وتو ّلى أم َرها عالِ ٌم اش ُت ِهر بعلمه وفضله ،وكان أشبه بما ُيط َلق عليه اليوم اسم أستاذ كرسي .فمدرسة أبي حفص بناها الإمام أبو حفص البخاري الذي عاش في الم َّدة (217-150ﻫ) ،في بخارى ،ف ُع ِرفت باسمه ،ومثلها المدرسة البيهقية في نيسابور التي أنشأها الإمام المح ِّدث أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي الذي عاش في الم َّدة (458-384ﻫ) ،وكذلك المدرسة الصادرية في دمشق التي أنشأها الإمام صادر بن عبد الله عام 391ﻫ. 167
وقد عرف المجتمع الإسلامي -منذ القرن الرابع الهجري وما بعده -تنافس ًا شديد ًا بين المذاهب الفقهية؛ لذا اقتصر التعليم في معظم هذه المدارس على مذهب واحد، وكانت كل مدرسة تقوم على شيخ ُع ِرف بعلمه وفضله وإتقانه علم مذهبه ،إلى جانب عدد من تلاميذه الذين كانوا أشبه بالمعيدين الراغبين في وراثة علم الشيخ؛ فكانت هذه المدارس أشبه بكليات جامعية متخ ِّصصة. وفي عام (459ﻫ) أنشأ نظام الملك في بغداد المدرسة النظامية للفقه الشافعي ،وعلى نمطها ُأن ِشئت نظاميات عديدة في أماكن ُأخرى .وكانت المدارس النظامية متخ ِّصصة في تدريس الفقه الشافعي تحديد ًا؛ ذلك أ َّن من أهداف نظام الملك في بناء هذه المدارس هو تعليم الناس حقائق الإسلام على طريقة أهل ال ُّسنة والجماعة ،بعد أ ْن تو َّسعت سيطرة الفاطميين والإسماعليين على شمال إفريقيا ومصر واليمن وكثير من أنحاء بلاد الشام، وانتشر دعاتهم في العراق ،ولذلك كانت المدارس النظامية تع ِّلم المذهب الشافعي ،وهو مذهب السلاجقة في ذلك الوقت. وقد م َّثلت المدارس النظامية نمط ًا إداري ًا ا ُّتبِع -فيما بعد -في إنشاء المدارس في معظم أنحاء العا َلم الإسلامي ،من حيث تخ ُّصص المدرسة في نوع مح َّدد من التعليم، وهندسة البناء الواسع ومرافقه وخدماته ،والأوقاف الدا َّرة من الضيع الزراعية والدكاكين التجارية ،التي ُتغ ّطي نفقات ال ُمع ِّلمين والعاملين والطلبة بصورة مجزية .وفي كتاب \"الدارس في تاريخ المدارس\" للنعيمي توثيق لمئات المدارس في بلاد الشام ،مع بيان تفاصيل عن إنشاء ك ٍّل منها ،وأسماء بناتها وعلمائها ودروسها وأوقافها .وهي مصنَّفة إلى :مدارس القرآن الكريم ،ومدارس الحديث الشريف ،ومدارس المذاهب الفقهية التي تخت ُّص ك ٌّل منها بمذهب واحد .ومنها مدارس الطب ،وغيرها من أماكن التعليم الأُخرى ،مثل :الخوانق ،والربط ،والترب ،والرباطات(((. ((( النعيمي ،عبد القادر محمد الدمشقي .الدارس في تاريخ المدارس ،فهرسة :إبراهيم شمس الدين ،بيروت :دار الكتب العلمية ،ط1990 ،1م. صدر الكتاب في جزأين ،ويمكن النظر في فهرس ك ٍّل منهما لملاحظة العدد الكبير من المدارس وغيرها من المؤسسات التي كانت تقوم بنوع من التعليم. 168
ومع أ َّن معظم المدارس كانت تس ّمى باسم العالِم الذي ُيع ِّلم فيها ،أو الحاكم الذي أمر ببنائها ،فإ َّن بعض المدارس أخذت أسماءها من صفات الوقف الموقوف عليها؛ فالمدرسة القمحية التي أنشأها صلاح الدينعام 566ﻫ بجوار مسجد عمرو بن العاص، ووقفها على المذهبالمالكي ،ووقف عليها ضيع ًة بالفيوم ،كانت تد ُّر قمح ًا كثير ًا يو َّزع على طلبتها ،وعلى العاملين فيها(((. وفي المقابل ،عرف المجتمع الإسلامي مدارس متعددة المذاهب ،يتجاوز فيها تعليم المذاهب الفقهية ،وأحيان ًا تعليم العلوم الأُخرى .ومن أهم هذه المدارس مدرسة المستنصرية في بغداد التي بناها الخليفة المستنصر بالله العباسي (امت َّدت خلافته ما بين عامي 640-623ﻫ) ،وبدأ التدريس فيها عام 631ﻫ ،وكانت أشبه بالجامعة المعاصرة من حيث احتواؤها على عدد من المدارس المتخ ِّصصة ،في ك ٍّل منها عدد من ال ُمد ِّرسين والمعيدين؛ فقد كان فيها مدرسة (أو كلية) متكاملة للفقه ض َّمت علماء متخ ِّصصين في المذاهب الأربعة ،ومدرسة للحديث ،ودار للقرآن الكريم ،ومدرسة للطب فيها كبير الأطباء وعشرة من الأطباء المتد ِّربين معه ،ومشيخة (أو عمادة) للعلوم الرياضية ،و ُأخرى للأدب العربي ،وإدارة للمكتبة بلغ عدد مجلداتها أربعمئة وخمسين ألف مجلد ،وإدارة متف ِّرغة للشؤون الإدارية والمالية ،ومسائل السكن والإعاشة .وكان من الواضح أ َّن طلبتها ُي ْق َبلون على أساس ما اش ُت ِهروا به من التأليف والتدريس ،ويأتون من سائر بلدان العا َلم الإسلامي آنذاك .وكانت المدرسة تعتمد النظام الداخلي ،وتتوافر فيها جميع متط َّلبات السكن ،والإقامة ،والطعام ،والملابس ،وغيرها من المتط َّلبات (((.وكانت المدرسة تق ِّدم -إلى جانب ذلك -خدمات تربوية واجتماعية ُأخرى ،مثل المدرسة الخاصة بصغار الأيتام ،إضاف ًة إلى المسجد ومرافقه. ولم تكن المستنصرية الوحيدة في جمعها لتدريس موضوعات مختلفة ،وكأ َّنها دوائر أو كليات في الجامعة؛ فالمدرسة الصالحية أنشأها الملكالصالح نجم الدين أيوب سنة ((( المقريزي ،تقي الدين أبو العباس أحمد بن علي بن عبد القادر (توفي845:ﻫ) .المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار «الخطط المقريزية» ،القاهرة :مكتبة الثقافة الدينية ،ط1987 ،2م ،ص.364 ((( ابن كثير ،أبو الفداء الحافظ إسماعيل بن عمر الدمشقي (توفي774:ﻫ) .البداية والنهاية ،بيروت :مكتبة المعارف، ط1988 ،7م ،ج ،13ص .159وانظر تفاصيل ذلك في: -معروف ،تاريخ علماء المستنصرية ،مرجع سابق .انظر فهرس الكتاب فيما يخ ُّص أقسام المدرسة وعلماءها. 169
641ﻫ ،ووقفها على المذاهب الأربعة قال المقريزي في ذلك :وهو (أ ِي الملك الصالح) أول َمن عملبديار مصر دروس ًا أربعة في مكان واحد(((. وعندما احتل الفاطميون مصر عام 358ﻫ ح َّولوا مدارسهم السرية إلى مساجد بنوها لعقد ما كانوا يس ّمونه مجالس الحكمة .وكان منها في مصر الجامع الأزهر ،الذي استمر مؤسسة تعليمية كبيرة لإعداد الدعاة ونشرهم في البلدان م َّدة تقرب من قرنين ،إلى أ ْن جاء صلاح الدين الأيوبي ،فباشر -وهو لا يزال وزير ًا للخليفة الفاطمي العاضد -ببناء المدارس ال ُّسنية ،فبنى المدرسة الناصرية (نسب ًة إلى الناصر صلاح الدين) لفقهاء الشافعية .وفي ذلك يقول المقريزي :إ َّن بناء المدرسة كان \"من أعظم ما نزل بالدولة ،وهي أول مدرسة عملت بديار مصر (((\".ث َّم أنشأ مدارس ُأخرى؛ للتسريع في محو آثار العهد الفاطمي ،منها: المدرسة القمحية لفقهاء المالكية ،والمدرسة السيوفية لفقهاء الحنفية .وأنشأ وزير صلاح الدين القاضي الفاضل المدرسة الفاضلية ،وأنشأ الملك العادل أخو صلاح الدين المدرسة العادلية ،وهكذا .وقد و َّثق المقريزي أسماء عشرات المدارس ،والمارستانات ،والخوانق، ومؤسسيها ،وعلمائها ،وأوقافها(((. وإذا كانت المدرسة هي تط ُّور في التعليم الإسلامي أشبه بالكلية الجامعية المتخ ِّصصة في تعليم علم مح َّدد وتطويره ،أو مجموعة كليات ُتشبِه الجامعة المعاصرة ،فقد عرف المجتمع الإسلامي كذلك نوع ًا آخر من مؤسسات التعليم ر َّبما كانت مرجعية لمناقشة وتطوير بعض صور الفهم والاستعداد لاتخاد قرارات في مسائل مح َّددة؛ فجمهورها ليس علماء وطلبة ،وإ َّنما هي مصادر معرفة ،ومداولات علماء كبار مع الخلفاء والأمراء والقادة ،وقد ُعرفِت بع ُض هذه المؤسسات ،وو َّثقتها مصادر التراث الإسلامي باسم بيت الحكمة ،أو دار العلم. سابع ًا :التط ُّور في الاتجاهات والمدارس الفكرية في التراث التربوي الإسلامي: لا يقتصر التراث التربوي الإسلامي المعروف على ما ُس ِّمي علوم الشريعة (علوم القرآن الكريم ،وعلوم الحديث النبوي ،وعلوم الفقه) ،وإ َّنما كانت هذه العلوم مصاحبة لميادين العلم ((( المقريزي ،المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار «الخطط المقريزية» ،مرجع سابق ،ص.374 ((( المرجع السابق ،ج ،2ص.363 ((( المرجع السابق ،ص.414-362 170
الأُخرى التي تنامى الاهتمام بها لأسباب مختلفة ،منها :نشوء ال ِفرق والمذاهب والتنافس والجدل الذي دار بين علمائها ،وزيادة حجم المعرفة إلى الح ِّد الذي جعل بعض طلبة العلم يتخ َّصصون في علم واحد ُي َم ِّكنهم من إتقانه والتب ُّحر فيه .ومنها التط ُّور المادي الذي طرأ على المجتمع ،وأ ّدى إلى رغبة بعض العلماء في العزلة وإيثار الزهد .ومنها التفا ُعل مع تراث الحضارات الأُخرى بالترجمة ،وبالاتصال المباشر عن طريق الرحلات ،وغير ذلك من العوامل. وهذا التط ُّور أ ّدى إلى ظهور علماء ُع ِرفوا بعلوم متخ ِّصصة ،بحيث َب َر َع الواحد في علمه حتى أصبح مدرس ًة في هذا العلم ،يأتي إليه طلبته من كل مكان .وقد كان من هؤلاء: المق ِرئ ،والمح ِّدث ،والمتك ِّلم ،والأديب ،والطبيب ،والفلكي ،والصوفي ،والمؤ ِّرخ، وغير ذلك .وكان يجمع كثير ًا من هؤلاء اهتمامهم -على تن ُّوع تخ ُّصصاتهم -تأكيدهم فيما كتبوه فض َل العلم والتع ُّلم والتعليم ،وآداب العالِم وال ُمتع ِّلم ،وطرق التعليم ،وأقسام العلوم ،ومؤسسات التعليم ،وغير ذلك م ّما عرفه التراث التربوي الإسلامي .ومع هذا المشترك بين هؤلاء العلماء ،فإ َّن مناهجهم وطرقهم في تدوين ما د َّونوه قد تمايزت واختلفت ،حتى أصبح لكل فئة من العلماء اتجاه ،أو تيار ،أو طريقة ،أو مدرسة ،فيما يكتبون على التربية والتعليم ،مما س َّوغ لنا أ ْن نم ِّيز من بين هذه المدارس :مدرسة الفقهاء، ومدرسة المحدثين ،ومدرسة المؤ ِّرخين ،ومدرسة الأدباء ،ومدرسة الصوفية ،ومدرسة المتك ِّلمين ،ومدرسة الفلاسفة ،وهكذا .وفي هذا المجال نجد بعض الباحثين المعاصرين يصنِّفون كتابات التراث التربوي الإسلامي ضمن ما س َّموه تيارات (((،أو اتجاهات (((،أو قطاعات (((.ومع ذلك ،فإ َّننا نستطيع أ ْن نجعل بع َض العلماء في مدرستين أو أكثر؛ فمعظم ((( المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم .الفكر التربوي العربي الإسلامي :الأصول والمبادئ ،تونس :المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم1987 ،م ،ص.716-582 ((( علي ،سعيد إسماعيل .اتجاهات الفكر التربوي الإسلامي ،الجزء الخامس من موسوعة التطور الحضاري للتربية الإسلامية ،القاهرة :دار السلام2010 ،م. ((( كتب عبد الأمير شمس الدين مجموعة من الكتب ،صدرت في سلسلة \"موسوعة التربية والتعليم الإسلامية\"، وقد صنَّف فيها عدد ًا من كتب التراث التربوي الإسلامي ضمن ما س ّماه قطاعات :قطاع الفقهاء ،قطاع الأدباء، قطاع الفلاسفة . ... ،انظر مثل ًا: -شمس الدين ،عبد الأمير .الفكر التربوي عند ابن سحنون والقابسي :دراسة وتحليل ،موسوعة التربية والتعليم الإسلامية-قطاع الفقهاء ،بيروت :الشركة العالمية للكتاب1990 ،م. -شمس الدين ،عبد الأمير .الفكر التربوي عند ابن المقفع والجاحظ وعبد الحميد الكاتب ،موسوعة التربية والتعليم الإسلامية-قطاع الأدباء ،بيروت :الشركة العالمية للكتاب1990 ،م. 171
المح ِّدثين جمعوا بين الحديث والفقه ،وبعض الأدباء جمعوا بين الأدب والكلام ،وبعض المتصوفة كانوا فقهاء ،وبعض الفلاسفة كانوا مؤ ِّرخين. وعندما يكون الهدف بيان ما غلب على المجتمع الإسلامي في مراحل زمنية متتابعة، فر َّبما نستطيع القول إ َّن الحركة الفكرية والعلمية في عصر معين كان يغلب عليها الفقه ،أو الحديث ،أو التصوف ،أو الفلسفة .فمن المعروف عن القرن الثاني ومطلع القرن الثالث أ َّنه كان عصر فقه بامتياز ،حيث تمايزت مذاهب أهل ال ُّسنة الأربعة ،وبرز فيها اسم أبي حنيفة النعمان (توفي150:ﻫ) ،ث َّم مالك بن أنس (توفي179:ﻫ) ،ث َّم محمد بن إدريس الشافعي (توفي204:ﻫ) ،ث َّم أحمد بن حنبل (توفي241:ﻫ). ولكنَّنا لا ننسى أ َّن جزء ًا ليس قليل ًا من مناهجهم الفقهية كان يعتمد على الحديث إلى ح ٍّد كبير .وما كان متداولاً من الحديث الذي ُد ِّون في مطلع القرن الثاني ،وأصبح موضوع ًا حيوي ًا للرواية في المجتمع الإسلامي ،فقد تط َّور في القرن الثالث؛ إذ نشطت فيه حركة التصنيف والتبويب والتمحيص للحديث النبوي؛ فالكتب الستة :الصحيحان ،والسنن الأربعُ ،كتِبت في هذا القرن؛ إذ توفي الإمام البخاري عام 256ﻫ ،والإمام مسلم عام 261ﻫ ،وابن ماجة عام 273ﻫ ،وأبو داود عام 275ﻫ ،والترمذي عام 279ﻫ ،والنسائي عام 303ﻫ. أ ّما ملاحظة التط ُّور الزمني في نشأة هذه المدارس أو التيارات في التراث التربوي، فإ َّن ذلك لم يكن أمر ًا سهل ًا؛ فهذه المدارس كانت في معظم الأحيان متزامنة؛ إذ توفي ابن سحنون أبرز مم ِّثلي مدرسة الفقهاء عام 256ﻫ ،وتوفي الكندي أبرز مم ِّثلي مدرسة الفلاسفة في السنة نفسها ،وتوفي الجاحظ أبرز مم ِّثلي مدرسة الأدباء قبلهما بعام؛ أ ْي عام 255ﻫ .ونستطيع أ ْن َن ُع َّد الحارث المحاسبي من مدرسة التصوف ،وقد توفي عام 243ﻫ. وكل هؤلاء لهم في التراث التربوي إسهام مق َّدر. والتط ُّور والتغ ُّير صفة أساسية في الفكر البشري؛ ذلك أ َّن الفكر هو في الأساس إنتاج العقل البشري في ضوء الاهتمامات الخاصة بالعلماء والمف ِّكرين .فاهتمامات الفقهاء من أمثال ابن سحنون ،والأدباء من أمثال الجاحظ ،والفلاسفة من أمثال الكندي ،هي 172
اهتمامات مختلفة ،بالرغم من أ َّن الثلاثة عاشوا العصر نفسه ،فأصبح لك ٍّل منهم منهجه وقضاياه؛ ما ُيس ِّوغ القول بوجود فكر تربوي فقهي ،وآخر فلسفي ،وثالث أدبي ،ورابع صوفي ،وهكذا .ث َّم إ َّن خبرات العلماء تتغ َّير وتتط َّور بتفاعلهم مع ظروف الزمان والمكان؛ فالظروف تتغ َّير ،والخبرات تتط َّور ،و ِم ْن َث َّم فإ َّن النتيجة تتغ َّير كذلك. ومن المؤ َّكد أ َّن تط ُّور ًا قد حصل في كل مدرسة من المدارس ،مع اعتماد كل مدرسة على ما سبقها؛ فمالك بن أنس أفتى في كثير من المسائل الفقهية الخاصة بشؤون التعليم، وقد رواها عنه اب ُن القاسم ،وص َّحح مسائلها وه َّذبها ور َّتبها الإمام سحنون في \"ال ُمد َّونة الكبرى \"،فنُ ِسبت \"ال ُمد َّونة\" إلى سحنون ،ث َّم رواها عنه ابنه محمد بن سحنون في \"آداب ال ُمع ِّلمين\" ،وض َّمن القابسي معظم مسائلها في \"الرسالة المفصلة لأحوال ال ُمتع ِّلمين وأحكام ال ُمع ِّلمين وال ُمتع ِّلمين\". وكتاب القابسي مثا ٌل واض ٌح على صورة من صور التط ُّور؛ فالكتاب في الأساس إجابات عن أسئلة ق َّدمها أحد الناس إلى القابسي ،وهي أسئلة فقهية في معظمها .وفي نصوص الأسئلة عبارات تكشف عن حالة التعليم عند السائل والمجيب .ومن هنا ،يأتي التط ُّور بين كتاب ابن سحنون وكتاب القابسي؛ فمادة ك ٍّل منهما تكشف عن القضايا المثارة في زمنه ،بالرغم من أ َّن الكتابين يقعان ضمن المدرسة الفقهية في التعامل مع قضايا التعليم .وكلاهما كان يتح َّدث عن تعليم ال ُك ّتاب ،وليس عن التعليم في مراحل ُأخرى. روى ابن سحنون عن أبيه قائل ًا\" :وحضرت لسحنون قضى بالختمة على رجل ،وإ َّنما ذلك على قدر ُي ْسر الرجل و ُع ْسره ،وقيل له :أرى لل ُمع ِّلم سعة في إذنه للصبيان اليوم ونحوه؟ قال :ما زال ذلك عمل الناس \"...وعندما ُس ِئل ع ّما يهدي الصبي لل ُمع ِّلم لم يأذن إلا بإذن الآباء وع َّقب على ذلك بحالة أهل زمانه ،فقال\" :ومن هنا ،سقطت شهادة أكثر ال ُمع ِّلمين لأنهم غير مؤدين لما يجب عليهم إلا َمن عصم الله(((\". و َث َّمة إشارا ٌت إلى بعض ممارسات الناس في زمانه؛ إذ ُس ِئل\" :فما يعمل الناس من الإيلام عند الختم ،ومن الفاكهة ُيرمى بها على الناس ،هل يح ُّل؟ قال :لا يح ُّل لأ َّنه نهبة(((\". ((( ابن سحنون ،كتاب آداب المعلمين ،مرجع سابق ،ص( .95بتصرف) ((( المرجع السابق ،ص.99 173
ومثل ذلك يقال عن رسالة القابسي؛ إذ إ َّنها كذلك تعبير عن حالة العصر ،وما فيها كانت فتاوى عن أسئلة العصر وقضاياه ،وأ َّن الفتوى كانت تصاغ بالإشارة إلى ما فشا بين الناس ،وأصبح من ِق َبل عادة العامة ،فهو يقول في مسألة الختمة مثل ًا\" :ول ّما كانت الختمة في تع ُّلم القرآن كامل ًا ،إ َّنما وجبت على َمن ُأ ِّد َي منها من ِق َبل عادة العامة ،فحملت على عادتهم في ذلك على وجه الوجوب ،وإ ْن لم يشترط لها ُجعل ًا مس ّمى ،وجب ذلك في كل ما فشا في العامة والتز َم ْته((( \". ومن ذلك -مثل ًا -أ َّنه ُيفتي بكراهة أ ْن َيقبل ال ُمع ِّلم شيئ ًا من الهدايا في أعياد النصارى مثل النيروز وال ِمهرجان ،فذلك\" :لا يح ُّل ل َمن فعله ،ولا ل َمن يقبله من ال ُمع ِّلمين ،بل ذلك تعظي ٌم للشرك ،وإعظام لأيام الكفر بالله ...وكذلك المذموم أ ْن يؤخذ في أعياد الكفر يدخل فيها أيض ًا الميلاد والفصح (من أعياد النصارى) ،والا ْنبِداس (من أعياد اليهود) عندنا ،والغبطة بالأندلس ،والغطاس بمصر ...ولا يفرح الصبيان بعمل القباب في الانبِداس والقصوفات في الميلاد .كل ذلك لا يصلح من عمل المسلمين ،و ُينهون عنه ،ويأبى ال ُمع ِّلم من قبول الإكرام منهم فيه ،ل َيعلم جاهلهم أ َّنه هذا خط ٌأ فينتهي ،ويخجل مستخفهم له فيترك ذلك(((\". ومن القضايا التي أثارها القابسي ،وتح َّدث عنها بصورة واضحة لم نجدها عند ابن سحنون ولا عند غيره ،ملاحظ ُة أ َّنه بالرغم من كثرة النصوص التي تح ُّض على طلب العلم ،ومسؤولية الوالدين عن تعليم الأبناء ،وأخبار َمن اهتم بتعميم التعليم من الخلفاء والعلماء؛ فإ َّن التعليم لم يكن في المجتمع الإسلامي تعليم ًا إلزامي ًا تو َّلته إدارة الدولة، بل بقي مهمة أولياء الأمور بما جعلهم الله رعاة لأبنائهم .ومع ذلك ،فإ َّن القابسي -وهو يتح َّدث عن مسؤولية تعليم الأبناء -أشار إلى درجات المسؤولية؛ من :الأب إلى الأُ ِّم، إلى الوصي ،إلى جماعة المسلمين ،إلى الحاكم ،بحيث لا يجب أ ْن يبقى الطفل من دون تعليم ،وهو كما يبدو صياغة لمبدأ إلزامية التعليم(((. ومن التط ُّور الذي حصل في لغة التراث التربوي وممارساته ،ونتج عن تن ُّوع المدارس ((( القابسي ،الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين ،مرجع سابق ،ص.152 ((( المرجع السابق ،ص.154-153 ((( المرجع السابق ،ص .94 174
الفكرية ،أمو ٌر أدخلها التصوف في العلاقة التربوية والتعليمية بين الشيخ-ال ُمع ِّلم، والمريد-ال ُمتع ِّلم .فالالتزام الكامل للشيخ ،والطاعة العمياء لأوامره ،والثقة المطلقة بمنزلته ،لم تكن أمور ًا مألوفة في مطلع الإسلام ،ولا حتى في تو ُّجهات الزهد والعزلة عند التابعين .وكذلك ،فإ َّن مصطلحات التربية الصوفية؛ من :الحضرة ،والتخ ّلي ،والتج ّلي، والمجاهدة ،وحالات الشهود ،والفناء ،والمقامات ،والظاهر ،والباطن ،والرسوم، وشطحات التأ ُّله ،وأفكار الحلول والاتحاد ،وغير ذلك؛ كلها أمور طارئة ،لكنَّها تن َّوعت ما بين قدر من الاعتدال في حالة المحاسبي (توفي243:ﻫ) ،والجنيد (توفي297:ﻫ)، والجيلاني (توفي561:ﻫ) ،والسهروردي البغدادي (توفي632:ﻫ) ،وقدر كبير من التط ُّرف عند الحلاج (توفي309:ﻫ) ،ومحي الدين بن عربي (توفي638:ﻫ) ،وابن سبعين (توفي660:ﻫ) ،وغيرهم. نستخلص من الحالات التي تح َّدثنا عنها فيما سبق لم تقتصر على التط ُّور والتغ ُّير من حال إلى حال ،وإ َّنما كانت تتح َّدث كذلك عن تغ ُّير وتن ُّوع في الاجتهاد والمواقف؛ إذ نجد بعض المسائل استمرت موضع نظر عبر القرون .ومعظم الجدل كان ناتج ًا عن النظر في الأحاديث النبوية؛ فبعض الأحاديث كانت في اتجاه ،وبعضها الآخر في اتجاه آخر ،مع أ َّن لكل حديث سياقه ومناسبته .وكثير من آراء العلماء كانت تميل إلى التح ُّفظ والمنع َت َو ُّرع ًا ،والتو ُّرع أحيان ًا هو اختيار شخصي ،أو إفتاء لحالة بعينها .وقد كان معظم المتأخرين يختارون البقاء عند فتاوى المتقدمين ،بالرغم من أ َّن حالة المجتمع الإسلامي تتغ َّير وتتط َّور ،وتعتمد أحكام ًا معينة ،من قبيل الأخذ بمبدأ \"الأصل في الأشياء الإباحة\"، وحين تعم البلوى تأتي الفتاوى أحيان ًا من قبيل عموم البلوى .ث َّم إ َّن واقع المجتمع وطبيعة العلاقات بين أفراده وجماعاته تبدأ بسيطة ،ث َّم تزداد تعقيد ًا ،وتصبح بحاجة إلى تنظيم وتقنين وبناء مؤسسات ،لا تكتفي بأ ْن تجعل أمور الناس رهن ًا بأخلاقياتهم أو ورعهم الديني ،وإ َّنما تضبط الحقوق والواجبات ،وت ْأ ُطر عن طريقها الناس على الحق أطر ًا. ويمكن للمتأ ِّمل في الوقائع التي نجدها في التراث أ ْن يلاحظ تن ُّوع ًا واسع ًا في المواقف والحالات من حيث الاقتراب من نصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ،أو الابتعاد عنها ،لا سيما فيما يخت ُّص بمكانة ال ُمع ِّلم (في نفسه ،وبين طلبته ،وفي مجتمعه)، والمسؤولية عن التعليم (أهي مسؤولية الأسرة أم الدولة؟) ،والأجرة على التعليم (أتح ُّل 175
أم ُتح َّر ُم؟) ،وعلاقة ال ُمع ِّلم بالأمراء وذوي السلطان (أتجوز أم لا تجوز؟) ،وغير ذلك. فنصوص القرآن الكريم التي تتصل بالعلم والتعليم والتع ُّلم ،وما نجد فيها م ّما يتصل بذلك من أدوات التعليم (الصحف ،والكتب ،والأقلام) ،وما تتط َّلبه من عمليات القراءة والكتابة ،ومن أساليب التعليم ،والتنبيه ،والتذكير بالنظر في المشاهد ،وتأ ُّمل القصص، وضرب الأمثلة ،والحوار ،والتد ُّرج؛ كل ذلك ُيح ِّفز َمن يو ُّد أ ْن يهتدي بهدي القرآن؛ على أ ْن يكون في حالة دائمة من التع ُّلم والتعليم ،وطلب الزيادة من العلم ،وتأكيد أ َّن الأُ ِّمية والجهل وق َّلة العلم كلها نقيصة في ح ِّق الإنسان ،وجعل ذلك مسؤولية كل فرد في حق نفسه ،وحق َمن يقع تحت رعايته ،بل وحق َمن يعيش بجواره ،وحق المجتمع بأكمله؛ فكل فرد في المجتمع را ٍع ،وكل را ٍع مسؤو ٌل عن رعيته. وقد جاءت الأحاديث النبوية الشريفة لتو ِّضح الهدي القرآني بمواقف ،وحالات، وأمثلة ،وممارسات ،فيها من الكثرة والتن ُّوع والشمول ما جعل حياة النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم كلها ُت َع ُّد مواقف تعليم لصحابته و ُأ َّمته من بعده. وفي ضوء ما يمكن أ ْن نستحضره من نصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ،وما نفهمه من هذين الأصلين من مقاصد الإسلام ،نستطيع ملاحظة أ َّن التراث التربوي الإسلامي -بالرغم م ّما كشف عنه من صو ٍر لتح ُّقق تلك المقاصد في الحياة العلمية والتعليمية في المجتمع الإسلامي -كشف عن حالات من الضعف والتخ ُّلف والقصور وانحراف الممارسات ،وأ ّدى إلى الفرقة ،والخلافات العميقة ،والحروب الدامية في الداخل الإسلامي ،والعجز عن مواجهة التح ِّديات والقوى الخارجية الغازية. وبنا ًء على مقاصد الإسلام ،فإ َّننا نؤ ِّكد كذلك أ َّنه ليس من الإسلام في شيء أ ْن يبقى في المجتمع فرد يرضى بالجهل في حق نفسه ،أو يسكت عن جهل غيره .فالتعليم في الإسلام إلزامي ،يتع َّلم فيه كل فرد مسلم من العلم ما يكون به مسلم ًا ،ويتع َّلم في الأُ َّمة من الأفراد والفئات َمن يتقن كل فروع العلوم النظرية والعملية؛ ما يو ِّفر لل ُأ َّمة كل متط َّلبات السبق والتف ُّوق وال ُع ُل ِّو ،وما يجعلها الأُ َّمة التي أرادها الله سبحانه؛ خير ُأ َّمة ُأخ ِرجت للناس، والمثال الحي لقيم الحق والخير والعدل ،والصورة العملية لتزكية الإنسان ال ُمستخ َلف، وعمران الأرض بالعلم والحضارة. 176
المبحث الثالث أعلام التراث التربوي ومصنَّفاته ومدارسه أولاً :أعلام التراث ومص َّنفاته: ذكرنا أ َّن التراث التربوي يمكن أ ْن يتح َّدد بمعنى عام ،يشمل ما هو مكتوب عن المواقف التي تكون فيها مادة التراث موضوع ًا للتعليم؛ أو بمعنى خاص يقتصر على ما ُكتِب عن ال ُمع ِّلم ،وال ُمتع ِّلم ،وموضوع التعليم .ففي المعنى الأول َن ُع ُّد كل ما ُكتِب عن مجالس العلم في المساجد والمجالس والمنازل ،وكل ما ُكتِب في الفقه والحديث والتفسير والحساب والفلك والطب وغيرها ،و َم ْن ُيد ِّرس علم ًا من هذه العلوم وحوله تلاميذ يسمعون أو يكتبون؛ َن ُع ُّد ذلك كله من التراث التربوي .وعلى هذا الأساس ،فإ َّن كل علماء الأُ َّمة هم من علماء التراث التربوي ،وكل كتبهم ،ور َّبما ما ُكتِب عنهم ،هو من مصنَّفات التراث التربوي .وفي المعنى الثاني يكون التراث التربوي هو ما ُكتِب عن آداب ال ُمع ِّلم وال ُمتع ِّلم ،وأساليب التعليم ،والموضوعات التي ُيد ِّرسها ال ُمع ِّلمون و َيد ُرسها الطلبة ،والمؤسسات التي يتم فيها التعليم ،وأدوات التعليم من أوراق ،وأقلام ،وكتب، وأمثال ذلك .وعلى هذا الأساس ،فإ َّن أعلام التراث التربوي هم من العلماء الذي كتبوا في هذه الموضوعات المح َّددة ،حتى لو كتبوا كتب ًا ُأخرى في موضوعات غيرها. وقد تو َّسع بعض الباحثين في أعلام التراث ضمن المعنى العام ،حتى َع ُّدوا عم َر بن الخطاب ،وعل َّي بن أبي طالب ،وعب َد الله بن مسعود رضي الله عنهم ،ومال َك بن أنس ،ومحم َد بن إدريس الشافعي ،والخلي َل بن أحمد الفراهيدي ،من أعلام التراث التربوي .ولا شك في أ َّن مثل هؤلاء كانت لهم مواقف تعليمية على غاية الأهمية ،لكنَّهم لم يخ ِّلفوا تراث ًا مكتوب ًا متخ ِّصص ًا في التربية والتعليم ،بل إ َّن منهم َمن كان َع َلم ًا في الحكم والقضاء والسياسة، ومنهم َمن كان َع َلم ًا في الإفتاء الفقهي ،أو رواية الحديث ،أو التفسير ،ومنهم َمن كان َع َلم ًا في اللغة والأدب والشعر .ولا ُينْ ِقص ِم ْن َق ْدر أ ٍّي منهم أ َّنه لم يكتب كتاب ًا عن التعليم. والمعروف أ َّن بداية التدوين في العهد الإسلامي تم َّثلت في تدوين الحديث النبوي الشريف ،بنقل المحفوظ في الصدور من روايات الرواة للحديث ليصبح مكتوب ًا في كتب، ونشط بع ُض التابعين في تدوين كل ما سمعوه من الصحابة ،من دون الاهتمام بالتبويب، 177
وأحيان ًا من دون التمييز بين الأحاديث النبوية والآثار الأُخرى من أقوال الصحابة والتابعين .ث َّم كتب مالك بن أنس \"الموطأ\" ،ور َّتب أحاديثه على أبواب الفقه .ث َّم بدأت بعض كتب الحديث ُتب ِرز مجموع َة الأحاديث التي تذكر فضل العلم والعلماء ،وأهمية طلب العلم وسائر المسائل ذات الصلة بالعلم وال ُمع ِّلم وال ُمتع ِّلم ،كما فعل الإمام البخاري في صحيحه ،والإمام مسلم في صحيحه ،حتى إ َّن البخاري جعل \"كتاب العلم\" هو الكتاب الثالث بعد كتاب \"الوحي\" وكتاب \"الإيمان\" ،ث َّم جاء بعد ذلك كتاب \"الفقه\" وغيرها التي بلغت سبعة وتسعين كتاب ًا. ور َّبما كانت هذه الأحاديث وما جاء حولها من أقوال الصحابة والتابعين مرجع ًا أساسي ًا لكثير م ّما ُكتِب بع ُد ِضمن ما س ّميناه التراث التربوي. ومن الفطرة البشرية أ ْن يميل الفرد البشري إلى نوع مح َّدد من الاهتمام ،فيبرع فيه، و ُيع َرف به؛ فك ٌّل مي َّس ٌر لما ُخ ِلق له .وقد ز ّكى النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم عدد ًا من أصحابه؛ كل واحد منهم في جانب غير جانب الآخر ،فأعل ُمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقرؤهم لكتاب الله ُأب ّي ،وأعل ُمهم بالفرائض زيد ،وأمي ُن الأُ َّمة أبو عبيدة ،وأش ُّدهم حيا ًء عثمان ،وأرح ُمهم بالأُ َّمة أبو بكر ،وأش ُّدهم في أمر الله عمر. وعرف التاريخ الإسلامي بعد ذلك عدد ًا من التابعين الذين استقروا في أماكن مختلفة؛ في :مكة ،والمدينة ،والشام ،والبصرة ،ومصر ،وغيرها .وقد م َّيز المؤ ِّرخون في كل مكان من هذه الأمكنة طبقا ٍت من العلماء في مجالات الفقه ،والحديث ،والقرآن، وغير ذلك .فمن الطبقة الأُولى في المدينة -مثل ًا -سبعة من التابعين ،منهم :سعيد بن المسيب ،وفي الطبقة الثانية ابن شهاب الزهري ،وفي الطبقة الثالثة مالك بن أنس .وكل هؤلاء جلسوا في مجالس عامة أو خاصة للعلم ،وكان حولهم تلاميذ ،لكنَّنا لم نجد منهم َمن كتب كتابات متخ ِّصصة في مسائل التعليم. ث َّم بدأنا نجد من بعض هؤلاء ،من التابعين وتابعيهمَ ،من ُس ِئل عن مسائل في التعليم والتع ُّلم ،فأجاب ،فجاء بعده َمن نقل هذه الإجابات ،وض َّمنَها كتب ًا أصبحت من التراث التربوي المهم ،كما كان حال الإمام مالك (توفي179:ﻫ) الذي نقل عنه عبد الرحمن بن القاسم (توفي191:ﻫ) بعض فِ ْق ِهه ،ث َّم سمعه منه عبد السلام بن سعيد المعروف 178
بـ \"سحنون\" ،ود َّونه سحنون (توفي240:ﻫ) ،ث َّم عرضه على ابن القاسم فأجازه فيما أصبح \"ال ُمد َّونة الكبرى\" ،ث َّم نقل ابن سحنون (توفي256:ﻫ) عن أبيه معظم ما ورد في كتاب \"آداب ال ُمع ِّلمين\". ومن هؤلاء الإمام الشافعي (توفي204 :ﻫ) الذي ُي َع ُّد من الطبقة الرابعة من فقهاء مكة المكرمة ،الذي ُع ِرف من تراثه كتاب \"جماع العلم\" ،الذي لا يتح َّدث عن التعليم، وإ َّنما يتح َّدث عن العلم في مصادره ،فيما ُي َع ُّد من مسائل أصول الفقه ،لا سيما عن موقع ال ُّسنة من القرآن الكريم ،وكيفية ر ِّد الأخبار وقبولها ،والدليل القطعي والظني ،ومسائل الاجتهاد والقياس والإجماع ،وعلم العامة وعلم الخاصة. ومن أوائل ما ُكتِب بعناوين تتداخل مع المعنى الخاص للتراث التربوي ،رسالة الإمام أبي حنيفة (توفي150:ﻫ) التي عنوانها \"العالِم وال ُمتع ِّلم\" ،وهي رواية يرويها ال ُمتع ِّلم (وهو أبو مقاتل) عن العالِم (وهو أبو حنيفة) لينتفع بمجلسه ،وهي أسئلة يسألها ال ُمتع ِّلم ،ويطلب فيها من ال ُمع ِّلم فتاوى ينتفع بها\" ،فأحببت أصلحك الله تعالى أ ْن أكون عالِم ًا بأصل ما أنتحل من الحق ،وأتك َّلم به ... ،وإ ْن جاءني ُمتع ِّلم أوضحت له ،وأكون على بصيرة من أمري (((\".وموضوعات الأسئلة والأجوبة هي مسائل في فضل العلم، وأركان الاعتقاد ،ووحدة الدين ،واختلاف الشرائع ،وأسباب اختلاف العلماء .واللافت في الرسالة هو أ َّن إجابات العالِم (ال ُمع ِّلم) إجابات مح َّددة قصيرة تأتي بقدر السؤال .وهو منهج في التعليم يسمح لل ُمتع ِّلم باستيعاب الإجابة ،ث َّم تفتيق الموضوع ،وتوليد أسئلة جديدة للإحاطة بالموضوع من كل جوانبه ،قبل الانتقال إلى موضوع جديد. وهكذا شهد المجتمع الإسلامي ،اعتبار ًا من القرن الثاني ،نشاط ًا متزايد ًا في تدوين العلم ،و َتما ُيز موضوعاتِه وفروعه ،ليصبح علوم ًا مستقلة ُيع َرف علماؤها بها .ومع أ َّن معظم هؤلاء العلماء كانوا ُمع ِّلمين يكتبون مادة العلم ،ويجلسون لتعليمها أو لإملائها على ال ُمتع ِّلمين ،وكان فيما يكتبون و ُي ْملون مسائل تتع َّلق بفضل العلم وآداب التعليم وأحكامه؛ فإ َّننا لم نجد علم ًا متم ِّيز ًا يس ّمى علم التربية أو علم التعليم ،مثلما وجدنا علم الفقه ،وعلم ((( أبو حنيفة ،النعمان بن ثابت (توفي150 :ﻫ) .العالم والمتعلم ،رواية أبي مقاتل ،تحقيق :محمد زاهد الكوثري، القاهرة :مكتبة الخانجي1368 ،ﻫ ،ص( .9بتصرف) 179
الحديث ،وعلم الحساب ،وعلم التاريخ ،وغيرها .والعلماء الذي كتبوا نصوص ًا متم ِّيزة في موضوعات التعليم م ّما أصبحنا نس ّميه تراث ًا تربوي ًا هم علماء ُع ِرفوا بتخ ُّصصاتهم في الفقه، أو الحديث ،أو الأدب ،أو التاريخ ،وغير ذلك. وفيما يأتي أسماء أعلام التراث التربوي الإسلامي ومصنَّفاته بالمعنى الخاص لهذا التراث؛ أ ِي الأعلام الذين كتبوا ُكتب ًا مستقلة عن مسائل التعليم ،ونلاحظ ذلك من عناوين هذه الكتب ،وشهرة هذه الأسماء التي تناولتها الكثير من الدراسات المعاصرة بوصفها أمثل ًة مباشر ًة على التراث التربوي الإسلامي: -محمد بن سحنون (توفي256:ﻫ) ،في\" :آداب ال ُمع ِّلمين\". -ابن الجزار القيرواني (توفي369:ﻫ) ،في\" :سياسة الصبيان وتدبيرهم\". -أبو الحسن القابسي (توفي403:ﻫ) ،في\" :الرسالة المفصلة لأحوال ال ُمع ِّلمين وأحكام ال ُمع ِّلمين وال ُمتع ِّلمين\". -عبد الكريم السمعاني (توفي562:ﻫ) ،في\" :أدب الإملاء والاستملاء\". -برهان الدين الزرنوجي (توفي593:ﻫ) ،في\" :تعليم ال ُمتع ِّلم طريق التعليم\". -يحي بن شرف الدين النووي (توفي676:ﻫ) ،في\" :آداب العالِم وال ُمتع ِّلم ،و\"المفتي والمستتفتي وفضل طالب العلم\". -بدر الدين بن جماعة (توفي733:ﻫ) ،في\" :تذكرة السامع والمتك ِّلم في أدب العالِم وال ُمتع ِّلم\". -عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن غانم (توفي856:ﻫ) ،في\" :شفاء المتألم في أدب ال ُمع ِّلم وال ُمتع ِّلم\". -عبد الباسط العلموي (توفي981:ﻫ) ،في\" :المعيد في آداب المفيد والمستفيد\". -المنصور بالله الحسين بن القاسم (توفي1050:ﻫ) ،في\" :آداب العلماء وال ُمتع ِّلمين\". -أبو المواهب اليوسي (توفي1102:ﻫ) ،في\" :القانون على أحكام العلم وأحكام ال ُمتع ِّلمين\". وغير ذلك كثير. 180
ولك ْن ،يدخل ضمن أعلام التراث التربوي الإسلامي بكل جدارة علماء آخرون لم تكن كتبهم متخ ِّصصة مثل الكتب السابقة .غير أ َّنهم تح َّدثوا في كتبهم عن مسائل التعليم بقد ٍر لا يقل تفصيل ًا وأهمي ًة ،ور َّبما يزيد ،ع ّما تح َّدث به غيرهم .ونذكر من هؤلاء: -محمد بن سعد (توفي230:ﻫ) ،في\" :الطبقات الكبرى\". -الحارث المحاسبي (توفي243:ﻫ) ،في\" :رسالة المسترشدين\". -أبو الحسن العامري (توفي381:ﻫ) ،في\" :الإعلام بمناقب الإسلام\". -أبو حيان التوحيدي (توفي414:ﻫ) ،في\" :الإمتاع والمؤانسة\". -أبو الفرج ابن الجوزي (توفي597:ﻫ) ،في\" :كتاب القصاص والمذكرين\". -شهاب الدين ياقوت الحموي (توفي626:ﻫ) ،في\" :معجم البلدان\". -أبو العباس ابن أبي أصيبعة (توفي668:ﻫ) ،في\" \"عيون الأنباء في طبقات الأطباء\". -محمد بن أبي بكر ابن الق ِّيم (توفي751:ﻫ) ،في\" :تحفة المودود بأحكام المولود\". -عبد الرحمن بن خلدون (توفي808:ﻫ) ،في\" :المقدمة\". -عبد القادر النعيمي (توفي978:ﻫ) ،في\" :الدارس في تاريخ المدارس\". -حاجي خليفة (توفي1067:ﻫ) ،في\" :كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون\". إ َّن اختيارنا أسماء هولاء الأعلام ومصنَّفاتهم هو تمثيل على التع ُّدد والتن ُّوع والتو ُّزع على قرون التاريخ الإسلامي .ونحن نلاحظ أ َّن أسماء المؤ ِّلفين وعناوين الكتب قد ُع ِرفت في مجالات الأدب ،والتاريخ ،والطب ،والجغرافيا ،والتصوف ،ولك َّن كل كتاب منها يحوي نصيب ًا مق َّدر ًا من الحديث عن مسائل العلم ،والتع ُّلم ،والتعليم ،ومؤسسات التعليم ،و ِس َير العلماء (ال ُمع ِّلمين) وأخلاقهم. ثاني ًا :مدارس التراث التربوي: تط َّورت حركة العلم ،وتع َّددت موضوعاته إلى أ ْن تمايزت بعض العلوم ،ف َب َر َع في ك ٍّل منها علماء تخ َّصصوا فيه ،و ُع ِرفوا به ،فكان منهم مح ِّدثين ،وفقهاء ،ومف ِّسرين ،ومتك ِّلمين، ومؤ ِّرخين ،وأدباء ،ومتصوفة .وقد احتفظت معظم مجالس العلم بآداب وشروط وأخلاق 181
مح َّددة ،كان منها ما يخت ُّص بالعلماء ،ومنها ما يخت ُّص بال ُمتع ِّلمين ،ومنها ما يخت ُّص بموضوعات العلم من حيث أهميتها ،وترتيب دراستها ومصنَّفاتها ،وغير ذلك .ومن أجل التذكير بهذه الآداب ،والح ِّض على التق ُّيد بها؛ فقد وجدنا علماء من تخ ُّصصات مختلفة يكتبونها في كتب خاصة ،أو يجعلونها فصولاً في كتب تخ ُّصصاتهم. وبالرغم من أ َّن هؤلاء العلماء انطلقوا من مرجعية مشتركة تعتمد القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ،فإ َّن طرقهم في تناول موضوعات التعليم تع َّددت؛ فالذي يه ُّم الفقي َه هو بيان الأحكام الفقهية في مسائل التعليم ،وتوثيق روايات العلماء السابقين في هذه المسائل ،م ّما أجازوه أو منعوه .والذي يه ُّم المح ِّدث هو رصد الأحاديث ذات الصلة بمسائل التعليم ،ومحاولة الجمع بينها ،ومناقشة ما قد يبدو من تناقض في دلالاتها، وأحيان ًا بيان رتبة الحديث وإمكانية العمل به .والمؤ ِّرخ يه ُّمه إلقاء الضوء على سيرة العالِم الذي يؤ ِّرخ له ،مع الاهتمام الكبير في ذكر أسماء َمن َأخذ العل َم عنهم ،وأسماء َمن أخذوا العلم عنه ،ورحلاته في طلب العلم ،وجلوسه في مجالس العلم ،ومؤ َّلفاته التي كتبها أو أملاها .وهكذا ،فإ َّن كل مدرسة فكرية من مدارس التراث التربوي يغلب عليها مناهج وممارسات ،س َّوغت تمييزها عن غيرها. و ُي َع ُّد تع ُّدد المدارس التربوية ،وتو ُّزع عطاء العلماء فيها مؤ ِّشر ًا من مؤ ِّشرات الحيوية في أداء العقل المسلم ،م َّكنه من الاستجابة للحاجات المتن ِّوعة لقطاعات المجتمع، وتلبية اهتماماتها. وقد اجتهد الباحثون المعاصرون في تمييز هذه الكتب أو هذه الفصول ضمن مصنَّفات التراث التربوي الإسلامي ،وتصنيفها ضمن المنهج الذي غلب على عمل المصنِّف في كتابة مادته؛ فقد يكون المصنِّف فقيه ًا يكتفي ببيان الأحكام الفقهية ذات الصلة بهذه المادة ،وقد يكون مؤ ِّرخ ًا يرصد ما كان عليه واقع التعليم ومناهجه وممارساته في حقبة زمنية مح َّددة في بلد معين ،وقد يكون مح ِّدث ًا يروي متون الأحاديث النبوية الواردة في موضوعات التعليم ،ويجمع بينها ،ور َّبما يدرس سندها ،وقد يكون زاهد ًا متصوف ًا ،كل ه ِّمه تربية المريدين من تلاميذه ،وتهذيب سلوكهم ،وجمع قلوبهم على شؤون الآخرة، وهكذا .ففي مثل هذه الحالة يسهل تصنيف هذه المصنَّفات ضمن المدرسة الفقهية ،أو المدرسة التاريخية ،أو المدرسة الحديثية ،أو المدرسة الصوفية. 182
ولك َّن كتاب الفقيه الذي َن ُع ُّده ضمن التراث التربوي ر َّبما يكون منهج كتابته أو إملائه منهج ًا عقدي ًا -كلامي ًا كما هو الحال في رسالة \"العالِم وال ُمتع ِّلم\" للفقيه أبي حنيفة ،أو منهج ًا أصولي ًا كما في كتاب \"جماع العلم\" للفقيه الشافعي ،أو أدبي ًا كالذي َكت َبه الفيلسوف الأديب أبو حيان التوحيدي في \"الإمتاع والمؤانسة\" عن التعليم وال ُمع ِّلم .وهكذا َع َرف التراث التربوي الإسلامي هذا التن ُّوع في مناهج الكتابة ،فم َّيز الباحثون هذه المناهج، وصنَّفوا كتبها ومؤ ِّلفيها في مدارس ،أو تيارات ،أو قطاعات. ونحن نف ِّضل أ ْن ننظر إلى هذه المدارس أو التيارات بوصفها ظاهرة دالة على الغنى والتن ُّوع والتع ُّدد في عطاء العقل المسلم وتو ُّجهاته الفكرية .ومن الواضح أ َّن الإسلام، بوصفه المرجعية التي كان علماء المسلمين يستندون إليها ،هو الذي و َّلد لديهم هذا الغنى والتن ُّوع والتع ُّدد .فميادين المعرفة بدأت تنمو في المجتمع الإسلامي بصورة متسارعة، وتتسع لتؤ ِّسس مجالات معرفية جديدة ،وبعضها على غير سابقه. إ َّن النظر في نشأة العلوم ،والتفكير في مراحل تط ُّورها ،لا ينبغي أ ْن يصرفنا عن حقيقة أ َّن بذور جميع هذه العلوم كانت موجودة في عهد النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم؛ ذلك أ َّن الله سبحانه ق َّدر أ ْن تتن َّوع حياة النبي مع الناس حتى تشهد كثير ًا من حالات المجتمع؛ في المنشط والمكره ،في الحرب والسلم ،في الغنى والفقر ،في الضعف والق َّوة ،في الحياة الخاصة والحياة الأسرية والعلاقة مع فئات المؤمنين ،وأهل الكتاب ،والمنافقين، وممارسات الحكم والسياسة ،والبيع والشراء ،والزراعة والصناعة ،وغير ذلك .وما ورد عن هذه الحالات أصبح موضوعات للعلم والتع ُّلم والتعليم؛ فحين تستج ُّد حالا ٌت ومواقف في حياة الفرد أو المجتمع ،ويحرص المسلمون على معرفة ما يجوز وما لا يجوز ،فإ َّنهم يحتاجون إلى َمن ُيفتي لهم ،فنشأ علم الفقه. ول ّما كان فقه الفقهاء يعتمد على نصوص من الوحي الإلهي والهدي النبوي ،فلا ُب َّد من استدعاء نصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ذات الصلة بتلك الحالات والمواقف، وفهم دلالاتها ،وإحسان تنزيلها ،فلزم وضع ضوابط لذلك ،فنشأ علم أصول الفقه. لقد كانت نصوص ال ُّسنة ،وأحداث السيرة ،وآثار الصحابة ،تروى في أول الأمر مشافه ًة؛ لقربها من زمانها ،والاعتماد على الثقة التي يتم َّتع بها الرواة .ث َّم َب ُعد عهد الناس 183
بهذه الحالة ،فلزم تدوين ال ُّسنة ،ث َّم تمحيص ما دون منها ،فنشأت علوم الحديث .فما ُأثِر من حديث النبي ص ّلى الله عليه وس َّلم من أقوال ،أو أفعال ،أو تقريرات ،احتاج إلى ضبط الروايات والدلالات ،فأصبحت هذه الجهود موضوع ًا لعلوم الحديث. ومع احتكاك المجتمع الإسلامي بالشعوب والحضارات الأُخرى ،تفاعل بعض العلماء مع ثقافة هذه الشعوب ،فظهرت علوم المنطق ،والفلسفة ،والطب ،والفلك، وغيرها من العلوم الطبيعية والعملية. وبعض الأحاديث التي تذ ُّم الدنيا ،و ُتر ِّغب في الآخرة ،أصبحت مستند ًا للزهد والتق ُّشف ،لا سيما بعد تط ُّور الحياة الاجتماعية ،وتفنُّن الناس في متاع الدنيا؛ ما جعل بعض الناس يرغبون عن هذا المتاع ،و ُي ْؤثِرون الزهد والعزلة وابتغاء الآخرة ،فظهر التصوف ،وتط ُّور السلوك الصوفي ،الذي يعتمد الذكر والأوراد ،وملازمة الشيخ في المساجد والزوايا والخوانق بهدف تهذيب السلوك ،وتربية الغرائز ،والرضا والقناعة بقليل من متاع الدنيا ،والثقة التامة بأهلية الشيخ وا ِّتباع توجيهاته ،ليصبح في نهاية المطاف \"طرق ًا\" ذات أنظمة وحدود ورسوم .وبقيت بعض ممارسات التصوف ضمن دائرة المألوف عند أهل ال ُّسنة والجماعة ،فيما ُيع َرف بـ\"التصوف ال ُّسني\" .وقد ط َّور بعض شيوخ الصوفية أنماط ًا من السلوك في العبادة ،والذكر ،والتو ُّسل ،والعلاقة بين الشيخ والمريد، والثقة المطلقة به ،فيما ُس ِّمي بـ\"التصوف البدعي\" .واختلط بعض التصوف برؤى فلسفية من التراث الفارسي والهندي واليوناني ،فظهر ما ُيع َرف بـ\"التصوف الفلسفي\" .واشت َّط بعض المتصوفة في معتقداتهم وممارساتهم ،وخرجوا عن المألوف المقبول في المجتمع الإسلامي ،في تفسير النصوص ،وا ِّدعاء منازل الولاية والمقامات غير البشرية ،فأصبحوا من أهل الضلال. وقد ورد في القرآن الكريم والأحاديث النبوية كثي ٌر من قصص الأنبياء والأمم الغابرة، ث َّم ض َّمت إليها روايات أهل الكتاب والمأثور التاريخي عن أيام العرب والأمم الأُخرى، فأصبح ذلك أساس ًا للكتابة التاريخية ،وظهور المؤ ِّرخين. 184
وقد كان الأدب نثر ًا وشعر ًا ديدن اهتمام العرب قبل الإسلام ،وبقي البيان اللغوي أدا ًة للإعلام والتأثير .ول ّما ا َّتسع الإسلام في الشعوب غير العربية ،وظهر اللحن والخطأ في اللغة ،لزم وضع القواعد ،وتو َّسعت علوم اللغة؛ من :نح ٍو ،وصر ٍف ،وبيا ٍن ،وبلاغ ٍة، وغير ذلك. وقد تض َّمن الحديث النبوي كثير ًا من نصائح الطب الوقائي والعلاجي ،بما في ذلك الأدوية ،وأنواع الطعام ،والحمية ،وتخ َّصص بع ُض العلماء في رصد ممارسات هذه النصائح والإضافة إليها من خبرات الطب في تراث الأمم الأُخرى ،حتى تط َّور علم الطب في المجتمع الإسلامي كثير ًا .وتض َّمنت كتب الرعاية الصحية والطبية تنشئة الأطفال وتربيتهم ،كما تض َّمنت تعليم الأطباء واختبارهم. وقد أتاح استقصاء مادة التراث التربوي الإسلامي في مصنَّفات التراث عامة تع ُّرف عد ٍد من هذه المصنَّفات التي نقترح تصنيفها في عدد من المدارس .ومن الجدير بالذكر أ َّن هذا العدد من الكتب ( 108كتب) التي تم ِّكننا من تمييز محتوى التراث التربوي فيها ،لا يعني عدم وجود غيرها؛ فمجال البحث في مصنَّفات التراث الإسلامي مفتو ٌح للباحثين، وقد يجدون ما هو أهم م ّما وجدناه. وفي الجدول رقم ( )1بيان بعناوين هذه الكتب ،مع أسماء مؤ ِّلفيها ،وسنوات وفاتهم، إضاف ًة إلى المدرسة التي يمكن تصنيف كل كتاب فيها. وعند النظر في محتوى هذه المصنَّفات ،فإ َّننا سنجد قدر ًا مشترك ًا بين محتويات كثير منها ،وسنجد بعضها قد تط َّرق إلى مسائل لم يتط َّرق إليها غيره .ومن ال ُمتو َّقع أ ْن يكون الفقه حاضر ًا في كثير من هذه الكتب؛ فقد كان الفقه ِمظ َّل ًة لكثي ٍر م ّما أصبح بعد ذلك علوم ًا مستقل ًة ،فكان الفقه -مثل ًا -يشمل أحكام العبادات ،من صلاة وصوم وحج، وغيره ،وأحكام المعاملات الاقتصادية والتجارية والصناعية ،وغيرها ،وقضايا الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ووصية وميراث وغيرها ،وقضايا السياسة الشرعية من حكم وقضاء وعلاقات دولية ،وغيرها. 185
الجدول رقم ()1 عناوين مؤ َّلفات تراثية تتض َّمن نصوص ًا مهم ًة في التعليم (مر َّتبة حسب تسلسل سنة وفاة المؤ ِّلف) سنة الرقم الوفاة المدرسة اسم المؤ ِّلف عنوان الكتاب أبو محمد عبد الله بن المقفع 142ﻫ أدبية 1الأدب الكبير والصغير. أبو حنيفة النعمان 150ﻫ كلامية 2العا ِل وال ُمتع ِّلم. محمد بن إدريس الشافعي 204ﻫ فقهية (شافعية) 3جماع العلم. 230ﻫ التاريخ العام محمد بن سعد 4الطبقات الكبرى. حديثية أبو خيثمة زهير بن حرب 234ﻫ 5كتاب العلم. صوفية الحارث بن أسد المحاسبي 243ﻫ 6رسالة المسترشدين. عمرو بن بحر الجاحظ 255ﻫ أدبية 7رسالة ال ُمع ِّلمين. 256ﻫ فقهية (مالكية) محمد بن سحنون 8آداب ال ُمع ِّلمين فيما د َّون ابن سحنون عن أبيه. إسماعيل بن يحيى المزني 264ﻫ فقهية (شافعية) 9الترغيب في العلم. ابن قتيبة الدينوري 276ﻫ أدبية 10عيون الأخبار. -تأديب الناشئين بأدب الدنيا والدين .أدبية ابن عبد ربه الأندلسي 328ﻫ 11 -العقد الفريد .أدبية فلسفية محمد بن محمد الفارابي 339ﻫ 12إحصاء العلوم. حديثية محمد بن حبان البستي 354ﻫ 13العا ِل وال ُمتع ِّلم. فلسفية ق4ﻫ إخوان الصفا 14رسائل إخوان الصفا. 186
حديثية الحسن بن عبد الرحمن 15المحدث الفاصل بين الراوي والواعي360 .ﻫ الرامهرمزي أبو بكر الآجري 360ﻫ فقهية (شافعية) 16أخلاق العلماء. حديثية أبو بكر ابن السني 364ﻫ 17رياضة ال ُمتع ِّلمين. ابن الجزار القيرواني 369ﻫ طبية 18سياسة الصبيان وتدبيرهم. فلسفية أبو الحسن العامري 381ﻫ -الإعلام بمناقب الإسلام. 19 فلسفية -رسائل العامري وشذراته الفلسفية. فقهية ابن أبي زيد القيرواني 386ﻫ 20أحكام ال ُمع ِّلمين وال ُمتع ِّلمين. )مالكية( 403ﻫ فقهية (مالكية) أبو الحسن القابسي الرسالة المفصلة لأحوال ال ُمتع ِّلمين 406ﻫ كلامية أبو بكر بن فورك 21 وأحكام ال ُمع ِّلمين وال ُمتع ِّلمين. 22شرح العا ِل وال ُمتع ِّلم لأبي حنيفة. صوفية أبو عبد الرحمن السلمي 412ﻫ 23طبقات الصوفية. أبو حيان التوحيدي 414ﻫ أدبية 24الإمتاع والمؤانسة. فلسفية 421ﻫ ابن مسكويه 25تهذيب الأخلاق. الرئيس ابن سينا 428ﻫ فلسفية 26كتاب السياسة. تاريخ العلم 438ﻫ محمد بن النديم 27الفهرست. والعلوم فقهية (شافعية) 450ﻫ أبو الحسن الماوردي 28أدب الدنيا والدين. 456ﻫ ابن حزم الأندلسي -الأخلاق والسير (مداواة النفوس). أدبية أدبية - 29مراتب العلوم. 187
فقهية حديثية 463ﻫ الخطيب البغدادي -اقتضاء العلم العمل. 30 حديثية 463ﻫ ابن عبد البر القرطبي -تقييد العلم. 31 حديثية حديثية -الرحلة في طلب الحديث. -الكفاية في علم الرواية. حديثية فقهية فقهية (حنفية) -الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع. -الفقيه والمتفقه. حديثية حديثية فقهية -جامع بيان العلم وفضله. -أدب المجالسة. أبو الوليد سليمان الباجي 474ﻫ فقهية (مالكية) 32نصيحة الإمام الباجي لولده. فقهية (شافعية) 502ﻫ الراغب الأصفهاني 33الذريعة إلى مكارم الشريعة. 505ﻫ أبو حامد الغزالي فقهية (شافعية) 520ﻫ أبو بكر الطرطوشي -منهاج ال ُمتع ِّلم. 34 فقهية (شافعية) -أيها الولد. صوفية -إحياء علوم الدين. التاريخ العام 35سراج الملوك. حديثية فقهية القاضي عياض اليحصبي 544ﻫ الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد 36 حديثية السماع. حديثية أبو سعيد السمعاني 562ﻫ -أدب الإملاء والاستملاء. 37 -طراز الذهب في أدب الطلب. علي بن الحسن ابن عساكر 571ﻫ فقهية حديثية - 38ذم َمن لا يعمل بعلمه. حديثية -مجلسان من مجالس ابن عساكر. حديثية أبو محمد الأزدي 581ﻫ 39تلقين الوليد الصغير. أبو النجيب الشيرزي 590ﻫ مهنية حرفية 40نهاية الرتبة في طلب الحسبة. 593ﻫ فقهية (حنفية) برهان الدين الزرنوجي 41تعليم ال ُمتع ِّلم طرق التع ُّلم. أبو الفرج ابن الجوزي فقهية حديثية 597ﻫ -تلبيس إبليس. 42 أدبية -لفتة الكبد في نصيحة الولد. -كتاب القصاص والمذكرين. تاريخ العلم والعلماء -المنتظم في تاريخ الأمم والملوك. التاريخ العام 188
التاريخ العام 614ﻫ ابن جبير الأندلسي 43رحلة ابن جبير. التاريخ العام 626ﻫ ياقوت الحموي 44معجم البلدان. التاريخ العام 630ﻫ ابن الأثير الجزري 45الكامل في التاريخ. صوفية محيي الدين ابن عربي 638ﻫ 46محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار. أبو عمرو بن الصلاح 643ﻫ فقهية (شافعية) 47أدب المفتي والمستفتي. تاريخ العلم 48إنباه الرواة على أنباء النحاة. جمال الدين القفطي 646ﻫ والعلوم كمال الدين ابن العديم 660ﻫ أدبية 49الدراري في ذكر الذراري. العز بن عبد السلام 660ﻫ فقهية (شافعية) 50قواعد الأحكام في مصالح الأنام. تاريخ العلم كتاب الروضتين في أخبار الدولتين :أبو شامة عبد الرحمن بن والعلوم 665 51ﻫ إسماعيل المقدسي النورية والصلاحية. ابن أبي أصيبعة 668ﻫ طبية 52عيون الأنباء في طبقات الأطباء. 672ﻫ فقهية (جعفرية) أبو جعفر الطوسي آداب ال ُمتع ِّلمين. 53 فقهية (شافعية) يحيى بن شرف النووي -آدابالعا ِلوال ُمتع ِّلموالمفتيوالمستفتي. 54 676ﻫ فقهية (شافعية) -التبيان في آداب حملة القرآن. 681ﻫ التاريخ العام ابن خلكان 55وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان. حديثية بدر الدين ابن جماعة 733ﻫ تذكرة السامع والمتك ِّلم في أدب العا ِل 56 وال ُمتع ِّلم. شهاب الدين النويري 733ﻫ أدبية 57نهاية الأرب في فنون الأدب. 737ﻫ فقهية (مالكية) ابن الحاج العبدري المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين 748ﻫ تاريخ العلم والعلوم شمس الدين الذهبي 58 فقهية (شافعية) النيات. - 59زغل العلم. -مسائل في طلب العلم وأقسامه. 189
إسماعيل بن موسى الجيطالي 750ﻫ فقهية (إباضية) 60قناطر الخيرات. طبية ابن ق ِّيم الجوزية -تحفة المودود في أحكام المولود. 751ﻫ 61 فقهية (حنبلية) -مفتاح دار السعادة . تاج الدين السبكي 771ﻫ تاريخ العلم والعلوم 62طبقات الشافعية الكبرى. محمد ابن بطوطة 779ﻫ التاريخ العام 63رحلة ابن بطوطة. أبو الحسن الخزاعي 789ﻫ مهنية حرفية 64تخريج الدلالات السمعية. عبد الرحمن بن خلدون 808ﻫ التاريخ العام 65مقدمة ابن خلدون. 66صبح الأعشى في صناعة الإنشا .أحمد بن علي القلقشندي 821ﻫ أدبية أحمد ابن المرتضى 840ﻫ التاريخ العام 67طبقات المعتزلة. تقي الدين المقريزي 845ﻫ التاريخ العام 68تاريخ المقريزي. شهاب الدين الإبشيهي 850ﻫ أدبية 69المستطرف في كل فن مستظرف. عبد اللطيف ابن غانم 856ﻫ فقهية (مالكية) 70شفاء المتأ ِّل في أدب ال ُمع ِّلم وال ُمتع ِّلم. أبو عبد الله بن الأزرق 896ﻫ تاريخ العلم والعلوم 71بدائع السلك. جلال الدين السيوطي 911ﻫ أدبية 72المزهر في علوم اللغة وأنواعها. نور الدين السمهودي 911ﻫ فقهية (حنفية) 73جواهر العقدين في فضل الشرفين. محمد بن أبي جمعة المغراوي 920ﻫ فقهية (مالكية) 74جامع جوامع الاختصار والتبيان. 75رسالة في آداب البحث والمناظرة. عبد الباسط ابن الوزير 920ﻫ كلامية زكريا الأنصاري 926ﻫ فقهية (شافعية) 76اللؤلؤ النظيم في روم التعليم. زين الدين العاملي 965ﻫ فقهية (جعفرية) 77منية المريد في أدب المفيد والمستفيد. 78رسالة الآداب في علم أدب البحث والمناظرة .طاش كبرى زاده 968ﻫ كلامية حديثية ابن حجر الهيتمي 976ﻫ تحرير المقال في أدب وأحكام وفوائد 79 يحتاج إليها مؤ ِّدبو الأطفال. 190
تاريخ العلم 80الدارس في تاريخ المدارس. عبد القادر النعيمي 978ﻫ والعلوم فقهية (شافعية) عبد الباسط العلموي -المعيد في آداب المفيد والمستفيد. 81 981ﻫ فقهية (شافعية) -مختصر تنبيه الطالب وإرشاد الدارس. بدر الدين الغزي 984ﻫ فقهية (شافعية) 82الدر النضيد في أدب المفيد والمستفيد. المنصور بالله الزيدي 1050ﻫ فقهية (زيدية) 83آداب العلماء وال ُمتع ِّلمين. 84كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون .حاجي خليفة الجلبي 1067ﻫ تاريخ العلم والعلوم درويش المحروقي 1086ﻫ فقهية (إباضية) 85الدلائل واللوازم. أبو زيد عبد الرحمن الفاسي 1096ﻫ منظومة كلامية 86الأقنوم في مبادئ العلوم. 1102ﻫ فقهية (مالكية) اليوسي المراكشي القانون على أحكام العلم وأحكام 87 ال ُمتع ِّلمين. -غاية الإحكام في آداب الفهم والإفهام .مؤ ِّلفه عمر الطحلاوي1181 ،ﻫ كلامية 88 -شرحه (ثمر الثمار شرح غاية الإحكام) .وشارحه ال َّسنَباوي 1232ﻫ كلامية محمد بن علي الشوكاني 1250ﻫ فقهية لا مذهبية 89أدب الطلب ومنتهى الأرب. عدد المؤ َّلفات )110( :كتب. المدارس)110( : العلماء )89( :عالِ ًا ملاحظة: هذا المجموع أو العدد ( )89يم ِّثل أسماء العلماء المؤ ِّلفين ،علم ًا بأ َّن هذا العدد يشمل اسمي عالِم ْي ِن ،هما :المؤ ِّلف الطحلاوي ،والشارح ال َّسنَباوي ،و ِم ْن َث َّم يكون عدد أسماء العلماء ( )90عالِم ًا .أ ّما مجموع مصنَّفاتهم فهو ( )110مصنَّفات؛ ذلك أ َّن بعض العلماء لهم أكثر من كتاب ،ظهرت عناوينها في خانة واحدة أمام اسم المؤ ِّلف ،مثل :ابن عبد ربه ،والخطيب البغدادي ،وابن الجوزي ،وابن عساكر ،وابن حزم ،والعامري ،وابن الق ِّيم ،والذهبي ،والعلموي ،والغزالي. 191
وقد ظهر التع ُّدد في الرأي والاختلاف بين العلماء في وقت مبكر في طريقة تعاملهم مع النصوص وتنزيلها على الأحداث والأحوال ،فكان هذا الاختلاف سبب ًا في نشأة المذاهب الفقهية .وقد وجدنا تراث ًا تربوي ًا مق َّدر ًا في مصنَّفات هذه المذاهب، وحرصنا على التنويه بالمذهب الثمانية التي عرفها المجتمع المسلم في تاريخه ،وهي مذاهب الحنفية ،والشافعية ،والمالكية ،والحنبلية ،والجعفرية (الاثني عشرية) ،والزيدية، والظاهرية ،والإباضية ،إضاف ًة إلى فئة من العلماء الذين بدأوا حياتهم ضمن مذهب فقهي معين ،ث َّم أصبحوا يجتهدون بالاعتماد على الدليل الأصلي من الكتاب وال ُّسنة ،دون التق ُّيد بأ ِّي مذهب ،فاصطلحنا على وجود مثل هؤلاء في مدرسة فقهية لا مذهبية. وإذا كانت المذاهب الفقهية تم ِّثل مدارس فكرية متن ِّوعة ضمن مجال الفقه ،فإ َّن بعض المدارس الفكرية تم َّيزت بمداخل ضمن مجال آخر ،إضاف ًة إلى الفقه؛ فكثير من كتب الحديث كانت تقتصر على رواية الأحاديث النبوية ،ولكنَّها تحيل إلى أحكام فقهية، فرأينا إفراد هذه الكتب ضمن مدرسة تجمع بين الحديث والفقه .أ ّما الكتب التي تقتصر على رواية الأحاديث من دون الإشارة إلى الأحكام الفقهية فقد جعلناها ضمن مدرسة أطلقنا عليها اسم المدرسة الحديثية. وقد شهد التراث الإسلامي زخم ًا من كتب التاريخ العام التي تض َّمن بعضها بيانات وافية عن التعليم والتع ُّلم ،فصنَّفناها في مدرسة س َّميناها المدرسة التاريخية .واقتصرت بعض كتب التاريخ على تاريخ العلم والعلماء والمؤسسات التعليمية ،فأفردنا لها مدرسة تاريخ العلم والعلماء. ث َّم إ َّن بعض كتب التراث اهت َّمت بالتربية والتعليم ضمن المدرسة الصوفية ،أو المدرسة الفلسفية ،أو المدرسة الطبية ،أو المدرسة الكلامية ،فصنَّفنا هذه الكتب ضمن المدرسة التي هي أقرب انتساب ًا إليها. وفي الجدول رقم ( )2توزيع مختصر لمادة الجدول رقم ( ،)1مع الاكتفاء بذكر أسماء المؤ ِّلفين؛ لبيان عدد المؤ َّلفات ضمن كل مدرسة من المدارس التسع عشرة. 192
الجدول رقم ()2 أسماء المؤ ِّلفين (مر َّتبة حسب المدارس) 11 10 9 8 7 6 5 4 3 2 اسم المدرسة 1 السمهودي النووي ابن الصلاح العز بن الغزالي الراغب الخطيب الماوردي الآجري المزني الشافعي ()1 (911ﻫ) (676ﻫ) (643ﻫ) عبد السلام (505ﻫ) الأصفهاني البغدادي (450ﻫ) (360ﻫ) (264ﻫ) (204ﻫ) الفقهية الشافعية (660ﻫ) (502ﻫ) (463ﻫ) الزرنوجي ()2 الفقهية الحنفية (503ﻫ) 193 اليوسي ابن سحنون ()3 المراكشي (1102ﻫ) المغراوي ابن غانم العبدري الباجي القابسي الفقهية المالكية (256ﻫ) القيرواني (920ﻫ) (856ﻫ) (737ﻫ) (474ﻫ) (403ﻫ) (386ﻫ) ابن ق ِّيم ابن الجوزي ()4 الجوزية (597ﻫ) الفقهية الحنبلية (751ﻫ) المحروقي الجيطالي ()5 (1086ﻫ) (750ﻫ) الفقهية الإباضية
المنصور بالله ()6 الفقهية الزيدية (1050ﻫ) العاملي الطوسي ()7 (965ﻫ) (672ﻫ) الفقهية الجعفرية ابن حزم ()8 (456ﻫ) الفقهية الظاهرية الشوكاني ()9 194 الفقهية اللامذهبية (1250ﻫ) ابن حجر ابن جماعة ابن عساكر السمعاني ابن عبد البر الخطيب أبو خيثمة الرامهرمزي ()10 الهيتمي (733ﻫ) (571ﻫ) (562ﻫ) (463ﻫ) البغدادي (234ﻫ) (360ﻫ) الحديثية (976ﻫ) (463ﻫ) ابن الجوزي الأزدي ابن عساكر القاضي ابن عبد البر ابن حبان ابن السني ()11 (597ﻫ) (581ﻫ) (571ﻫ) عياض (463ﻫ) الخطيب (354ﻫ) (364ﻫ) الحديثية الفقهية (544ﻫ) البغدادي (463ﻫ) الفارابي إخوان الصفا العامري مسكويه ابن سينا ()12 (339ﻫ) (ق4ﻫ) (381ﻫ) (421ﻫ) (428ﻫ) الفلسفية
المحاسبي السلمي الغزالي ابن عربي ()13 (243ﻫ) (412ﻫ) (505ﻫ) (638ﻫ) الصوفية أبو حنيفة ابن الوزير كبرى زاده الفاسي الطحلاوي السنباوي ()14 (150ﻫ) (920ﻫ) (968ﻫ) (1096ﻫ) (1181ﻫ) (1232ﻫ) الكلامية ()15 السيوطي الأبشيهي ابن الجوزي ابن العديم شهاب الدين القلقشندي أبو حيان ابن عبد ربه ابن قتيبة الجاحظ ابن المقفع الأدبية (911ﻫ) (850ﻫ) (597ﻫ) (660ﻫ) النويري (821ﻫ) التوحيدي (328ﻫ) الدينوري (255ﻫ) (142ﻫ) (414ﻫ) (276ﻫ) ()16 (733ﻫ) التاريخ العام ابن الأثير ابن خلكان ابن بطوطة ابن خلدون ابن المرتضى المقريزي ياقوت ابن سعد الطرطوشي ابن الجوزي ابن جبير 195 (630ﻫ) (681ﻫ) (779ﻫ) (808ﻫ) (840ﻫ) (845ﻫ) الحموي (230ﻫ) (520ﻫ) (597ﻫ) (614ﻫ) (626ﻫ) الذهبي السبكي ابن الأزرق النعيمي حاجي خليفة ابن النديم ابن الجوزي القفطي أبو شامة ()17 (748ﻫ) (771ﻫ) (896ﻫ) (978ﻫ) (1067ﻫ) (438ﻫ) (597ﻫ) (646ﻫ) (665ﻫ) تاريخ العلم ابن ق ِّيم ابن أبي ابن الجزار والعلوم الجوزية أصيبعة (369ﻫ) ()18 (751ﻫ) (668ﻫ) الطبية الشيزري الخزاعي (590ﻫ) ()19 (789ﻫ) المهنية الحرفية
ملاحظات: -صنِّفت أسماء المؤ ِّلفين إلى هذه المدارس وفق ًا لكتب المؤ ِّلفين الوارد ذكرها في الجدول رقم ()1؛ فالمحاسبي في المدرسة الصوفية هو إشارة إلى كتابه \"رسالة المسترشدين\" ،وهكذا. ُ -بنِي هذا الجدول اجتهاد ًا منّا في ملاحظة الأعم والأغلب؛ إذ ر َّبما نجد المادة التي يتض َّمنها الكتاب الذي أشار إليه اسم المؤ ِّلف في هذا الجدول تصلح أ ْن توضع ضمن مدرستين أو أكثر من المدارس الوارد ذكرها في هذا التصنيف. -تقتصر أسماء العلماء الوارد ذكرها في الجدول على مؤ َّلفاتهم التي استطعنا الا ِّطلاع عليها كما وردت في الجدول رقم ( .)1ومن المؤ َّكد أ َّن َث َّمة مؤ َّلفا ٍت ُأخرى تتض َّمن حديث ًا عن التربية والتعليم ،لم نتم َّكن من الا ِّطلاع عليها. -قد تتشابه بعض أسماء المؤ ِّلفين في الجدول مع غيرها م ّما ليس في الجدول. والمقصود هنا هو مؤ ِّلف الكتاب الذي ورد في الجدول رقم (.)1 -أسماء المؤ ِّلفين أمام كل مدرسة في ال ُب ْعد الأفقي من الجدول مر َّتبة حسب تسلسل التاريخ الهجري لوفياتهم. -ظهرت أسماء بعض المؤ ِّلفين في مدرستين أو أكثر؛ لأ َّن هؤلاء أ َّلفوا كتب ًا مختلفة يصنَّف بعضها في مدرسة معينة ،وبعضها الآخر في مدرسة ُأخرى .فابن الجوزي -مثل ًا -أ َّلف كتب ًا تصنَّف في الفقه ،أو الحديث ،أو الأدب ،أو التاريخ .وللخطيب البغدادي وابن عبد البر ُكت ٌب أقرب إلى الفقه ،و ُأخرى أقرب إلى الحديث. -في كتب التاريخ التي تحتوي على مادة تصنَّف ضمن التربية والتعليم نوعان؛ أحدهما :كتب في التاريخ العام ،والآخر :كتب في تاريخ العلم والعلماء؛ لذا اجتهدنا في تقسيم هذه الكتب إلى مدرستين .وكذلك الحال في الكتب الحديثية؛ فبعضها يكتفي بالأحاديث ،وبعضها الآخر يضيف إليها بعض الفقه. 196
المبحث الرابع أدبيات التراث التربوي الإسلامي في الكتابات المعاصرة لقد ق َّدم كثي ٌر من الباحثين أعمالاً متن ِّوعة عن التراث الإسلامي على مدار القرن العشرين، وتضاعف هذا الاهتمام في النصف الثاني من ذلك القرن ،لا سيما بعد ظهور الجامعات، والمؤسسات البحثية على المستوى الدولي والإقليمي والمحلي ،وظهور الصحف والمجلات في مختلف بلدان العا َلم العربي والإسلامي .وكان للتراث التربوي الإسلامي ح ٌّظ وافر من هذا الاهتمام ،وكان هناك العديد من المقارنات أو المقاربات ،مع الخبرة التربوية المعاصرة المستمدة في معظمها من الفكر الغربي ،بشخصياته ،ومدارسه ،وممارساته. ومنذ ثمانينيات القرن العشرين تزايد عدد الأساتذة الجامعيين الذين يكتبون عن الفكر الإسلامي في سائر التخ ُّصصات العلمية .وكانت كتاباتهم من قبيل التك ُّيف مع متط َّلبات الساحة الأكاديمية الجديدة ،وأحيان ًا بقدر محدود من العمق في البحث ،أو التجديد في الفكر ،لا سيما في الأطروحات الجامعية التي يق ِّدمها طلبتهم ،ث َّم ينشرون بعضها في صورة بحوث في المجلات الجامعية ،التي بدأت تتكاثر لتلبية متط َّلبات النشر؛ لأغراض ترقية أعضاء هيئة التدريس في الجامعات .وكان للتخ ُّصصات التربوية والنفسية نصي ٌب مق َّدر من هذه الأطروحات الجامعية والبحوث التي تصدر -فيما بعد -في صورة كتب .وكان القدر الأكبر م ّما ُكتِب عن الفكر الإسلامي في مجال التربية وعلم النفس حديث ًا عن التراث الإسلامي في هذا المجال؛ في :شخصياته ،ومصنَّفاته ،وممارساته. ومن الإنصاف أ ْن نذكر أ َّن بعض تلك الدراسات جاءت بهدف الإفادة من التراث في مهمة إصلاح الواقع ،وما ينبثق عنه من تطوير للعملية التربوية وفق الرؤية الإسلامية. وقد ذكرنا أ َّن كثير ًا من هذه الأدبيات كان إنتاج ًا فردي ًا ،ومنها ما كان بحوث ًا علمية ق َّدمها طلبة الدراسات العليا في صورة أطروحات ماجستير أو دكتوراه ،أو مؤ َّلفات ،أو مقالات ُتن َشر في المجلات ،أو على مواقع شبكة الإنترنت .وفي حالات قليلة كان يشترك أستاذان جامعيان أو أكثر في إعداد بح ٍث علمي من بحوث الترقية .وندرة البحوث العلمية المشتركة ظاهرة مؤسفة من ظواهر البحث العلمي في البلاد العربية .وقد تح َّدثنا في كتاب سابق عن 197
حالة البحث في التراث التربوي الإسلامي كما تكشف عنها الدراسات المعاصرة ،وصنَّ ْفنا هذه الدراسات في أربعة أنواع :الجهود البحثية المشتركة للمؤسسات ،والأطروحات الجامعية ،وبحوث الدوريات العلمية ،والكتب المنهجية والمرجعية للمؤ ِّلفين(((. أولاً :الجهود البحثية المشتركة: فيما يخ ُّص النوع الأول ،ن َّوهنا بمشروع التربية العربية الإسلامية ،الذي شاركت في تنفيذه ثلاث مؤسسات ،هي :المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو) في تونس، ومكتب التربية العربي لدول الخليج في الرياض ،والمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) في الأردن .وتكمن أهمية مثل هذا العمل أ َّن دائرته تتسع لتشمل كثير ًا من المتخ ِّصصين من الباحثين من بلدان متعددة ،وأ َّن التخطيط والإشراف والدعم الذي يتوافر له يجعله أكثر إتقان ًا ووفا ًء بغرضه. وقد اتفقت هذه المؤسسات الثلاث ،اعتبار ًا من عام 1982م ،على تنفيذ هذا المشروع\" :في تكافل وتكافؤ ،بالاشتراك في العمل له :تخطيط ًا وإشراف ًا وتمويل ًا ،حتى يتم في صورة علمية؛ منهج ًا وماد ًة ...وقد تح َّقق هذا المشروع في صورة جماعية ،فكان خير مثال لتعا ُون علمي خ ّلق للعمل العربي المشترك(((\". وقد صدرت أعمال هذا المشروع المشترك في ثلاثة أقسام: القسم الأول :كتاب \"الفكر التربوي العربي الإسلامي :الأصول والمبادئ\": يتأ َّلف هذا الكتاب من مجلد واحد ،يقع في ألف واثنتين وخمسين صفحة ( 1052صفحة) .وقد صدر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ،وشارك في كتابة فصوله ثمانية عشر مف ِّكر ًا وأستاذ ًا ،وتح َّدث عن مبادئ التربية العربية الإسلامية وأصولها في خمسة أبواب: ((( ملكاوي ،فتحي حسن .التراث التربوي الإسلامي :حالة البحث فيه ،ولمحات من تطوره ،وقطوف من نصوصه ومدارسه ،هرندن :المعهد العالمي للفكر الإسلامي1439( ،ﻫ2018/م) ،الفصل الثاني ،ص.181 -109 ((( صابر ،محي الدين .الفكر التربوي العربي الإسلامي :الأصول والمبادئ ،تونس :المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم1987 ،م ،من مقدمة المدير العام للمنظمة ،ص.7 198
الباب الأول :مدخل تاريخي؛ إذ تناول حالة العرب منذ ما قبل الإسلام إلى مطلع القرن العشرين ،وجاء في ثمانية فصول. الباب الثاني :الأسس النظرية للفكر التربوي العربي الإسلامي .وقد جاء في خمسة فصول ،من خلال تم ُّثلاث هذه الأسس النظرية في مجموعات من القضايا ،صنِّفت في خمسة فصول :قضايا الكون ،والإنسان ،والمجتمع ،والمعرفة ،والقيم. الباب الثالث :الفكر التربوي العربي الإسلامي في القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية .وقد جاء في ثمانية فصول ،تت َّبع فيها النصوص الواردة عن :العلم ،والعلماء ،والتعليم والتع ُّلم، والتنمية العقلية ،والتربية الخلقية ،والتربية الاجتماعية ،والتربية الوجدانية ،والتربية الجسمية .الباب الرابع :جاء في ستة فصول تح َّدثت عن التح ُّولات الحضارية التي أفرزت الفكر التربوي العربي الإسلامي ،وأشارت إلى تصنيف هذا الفكر ،وف َّصلت القول فيه في أربعة تيارات ،هي :التيار النقلي ،والتيار العقلي ،والتيار الوظيفي ،والتيار الصوفي. الباب الخامس :تح َّدث عن موضوعات الفكر التربوي العربي الإسلامي ،وتض َّمن أحد عشر فصل ًا :الوظيفة الاجتماعية للتربية ،والدولة والتعليم ،والأهداف التربوية، ومحتوى التعليم ،وتعليم الصنائع ،والتربية والإبداع ،والتربية الجمالية ،والتربية البيئية، وتعليم المرأة ،ورعاية الطفولة ،وتربية المعوقين. ومن الواضح أ َّن هذا القسم من المشروع جمع بين حالة التربية والتعليم في التاريخ الإسلامي عموم ًا كما يكشف عنها التراث التربوي ،والفكر التربوي كما ُيف َهم من مصدريه التأسيسيين في القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ،إضاف ًة إلى شيء من الفكر التربوي في واقعه المعاصر ،وفيما ينبغي أ ْن يكون في رؤية بعض َمن شاركوا في الكتابة فيه .وقد جمع في منهجيته الوصف وشيئ ًا من التحليل والرؤى الناقدة ،وهو لا يخلو من تع ُّسف ومبالغة في الحكم على بعض التو ُّجهات والممارسات والمدارس الفكرية التي عرفها التاريخ الإسلامي ،ولا سيما المبالغة في التمييز بين المدرسة النقلية الصرفة والمدرسة العقلية الصرفة ،والتمييز بين البيان والعرفان والبرهان بوصفها ثلاثة أنظمة معرفية متمايزة، 199
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210
- 211
- 212
- 213
- 214
- 215
- 216
- 217
- 218
- 219
- 220
- 221
- 222
- 223
- 224
- 225
- 226
- 227
- 228
- 229
- 230
- 231
- 232
- 233
- 234
- 235
- 236
- 237
- 238
- 239
- 240
- 241
- 242
- 243
- 244
- 245
- 246
- 247
- 248
- 249
- 250
- 251
- 252
- 253
- 254
- 255
- 256
- 257
- 258
- 259
- 260
- 261
- 262
- 263
- 264
- 265
- 266
- 267
- 268
- 269
- 270
- 271
- 272
- 273
- 274
- 275
- 276
- 277
- 278
- 279
- 280
- 281
- 282
- 283
- 284
- 285
- 286
- 287
- 288
- 289
- 290
- 291
- 292
- 293
- 294
- 295
- 296
- 297
- 298
- 299
- 300
- 301
- 302
- 303
- 304
- 305
- 306
- 307
- 308
- 309
- 310
- 311
- 312
- 313
- 314
- 315
- 316
- 317
- 318
- 319
- 320
- 321
- 322
- 323
- 324
- 325
- 326
- 327
- 328
- 329
- 330
- 331
- 332
- 333
- 334
- 335
- 336
- 337
- 338
- 339
- 340
- 341
- 342
- 343
- 344
- 345
- 346
- 347
- 348
- 349
- 350
- 351
- 352
- 353
- 354
- 355
- 356
- 357
- 358
- 359
- 360
- 361
- 362
- 363
- 364
- 365
- 366
- 367
- 368
- 369
- 370
- 371
- 372
- 373
- 374
- 375
- 376
- 377
- 378
- 379
- 380
- 381
- 382
- 383
- 384
- 385
- 386
- 387
- 388
- 389
- 390
- 391
- 392
- 393
- 394
- 395
- 396
- 397
- 398
- 399
- 400
- 401
- 402
- 403
- 404
- 405
- 406
- 407
- 408
- 409
- 410
- 411
- 412
- 413
- 414
- 415
- 416
- 417
- 418
- 419
- 420
- 421
- 422
- 423
- 424
- 425
- 426
- 427
- 428
- 429
- 430
- 431
- 432
- 433
- 434
- 435
- 436
- 437
- 438
- 439
- 440
- 441
- 442
- 443
- 444
- 445
- 446
- 447
- 448
- 449
- 450
- 451
- 452
- 453
- 454
- 455
- 456
- 457
- 458
- 459
- 460
- 461
- 462
- 463
- 464
- 465
- 466
- 467
- 468
- 469
- 470
- 471
- 472
- 473
- 474
- 475
- 476
- 477
- 478
- 479
- 480
- 481
- 482
- 483
- 484
- 485
- 486
- 487
- 488
- 489
- 490
- 491
- 492
- 493
- 494
- 495
- 496
- 497
- 498
- 499
- 500
- 501
- 502
- 503
- 504
- 505
- 506
- 507
- 508
- 509
- 510
- 511
- 512
- 513
- 514
- 515
- 516
- 517
- 518
- 519
- 520
- 521
- 522
- 523
- 524
- 525
- 526
- 527
- 528
- 529
- 530
- 531
- 532
- 533
- 534
- 535
- 536
- 537
- 538
- 539
- 540
- 541
- 542
- 543
- 544
- 545
- 546
- 547
- 548
- 549
- 550
- 551
- 552
- 553
- 554
- 555
- 556
- 557
- 558
- 559
- 560
- 561
- 562
- 563
- 564
- 565
- 566
- 567
- 568
- 569
- 570
- 571
- 572
- 573
- 574
- 575
- 576
- 577
- 578
- 579
- 580
- 581
- 582
- 583
- 584
- 585
- 586
- 587
- 588
- 589
- 590
- 591
- 592
- 593
- 594
- 595
- 596
- 597
- 598
- 599
- 600
- 601
- 602
- 603
- 604
- 605
- 606
- 607
- 608
- 609
- 610
- 611
- 612
- 613
- 614
- 615
- 616
- 617
- 618
- 619
- 620
- 621
- 622
- 623
- 624
- 625
- 626
- 627
- 628
- 629
- 630
- 631
- 632
- 633
- 634
- 635
- 636
- 637
- 638
- 639
- 640
- 641
- 642
- 643
- 644
- 645
- 646
- 647
- 648
- 649
- 650
- 651
- 652
- 653
- 654
- 655
- 656
- 657
- 658
- 659
- 660
- 661
- 662
- 663
- 664
- 665
- 666
- 1 - 50
- 51 - 100
- 101 - 150
- 151 - 200
- 201 - 250
- 251 - 300
- 301 - 350
- 351 - 400
- 401 - 450
- 451 - 500
- 501 - 550
- 551 - 600
- 601 - 650
- 651 - 666
Pages: