Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

Published by آيه الشوابكه, 2021-04-03 00:56:36

Description: الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

Search

Read the Text Version

‫وإذا كان مفهوم \"العولمة\" في أساسه تعبير ًا عن توا ُصل م َّطرد بين دول العا َلم‬ ‫في مجال الاتصال والمال والأفكار السياسية‪ ،‬فإ َّنه يتصل بمفهوم آخر هو \"التدويل\"‬ ‫‪ ،Internationalization‬الذي يع ِّبر عن حركة الشركات التجارية والمؤسسات الخدمية‬ ‫عبر البلدان المختلفة؛ نظر ًا للأهمية المتزايدة للتجارة والعلاقات الدولية‪ ،‬وما تتض َّمنه من‬ ‫معاهدات وتحالفات ومشاركات‪ .‬وقد أصبح شعار \"دولي\" ‪ International‬أسلوب ًا لجذب‬ ‫الزبائن إلى السلع أو الخدمات‪ ،‬حتى لو لم يكن فيها أ ُّي صفة من صفات الدولية‪.‬‬ ‫و ُت َع ُّد ظاهر ُة انتشار المدارس الدولية \"الغربية\" في كثير من بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا‬ ‫الجنوبية‪ ،‬وفتح فروع للجامعات الغربية في هذه البلدان‪ (((،‬أمثل ًة على تدويل الخدمات‬ ‫التربوية الغربية في مجالات متعددة‪ ،‬منها‪ :‬التعليم النظامي‪ ،‬والتعليم غير النظامي‪ ،‬وما‬ ‫يرتبط بالتعليم من مناهج‪ ،‬وكتب دراسية‪ ،‬واختبارات‪ ،‬وتدريب‪ ،‬واستشارات‪ ،‬وتمويل‪،‬‬ ‫وغير ذلك‪ .‬و َث َّمة دراسا ٌت متعددة عن ظاهرة انتشار المدارس الدولية وآثارها‪ ،‬منها دراسة‬ ‫ُأج ِريت عن هذه الظاهرة في عشر ٍة من بلدان آسيا‪ ،‬وقد كشفت عن تغييرات عميقة في ُن ُظم‬ ‫التعليم في هذه البلدان؛ فهذه المدارس أخذت طابع المأسسة العالمية والسوق التجاري‬ ‫العالمي‪ ،‬فكانت النتيجة أ َّن العديد من الأسر الأكثر ثرا ًء أخذت تنظر إلى المدارس الدولية‬ ‫بوصفها خيار ًا مرغوب ًا فيه‪ ،‬وتبحث عن طرق لتسجيل أطفالها فيها‪ .‬وقد استجابت الدول التي‬ ‫تستضيف هذه المدارس بتطوير سياسات تتض َّمن تنازلات تسمح للأسواق التجارية العالمية‬ ‫بالوصول إلى أنظمة التعليم الوطنية‪ .‬وكان لهذه التنازلات آثارها في توسيع ظاهرة عدم تكافؤ‬ ‫ال ُفرص لأبناء المجتمع في نوعية التعليم‪ ،‬وتخلخل روح المواطنة والهوية الوطنية‪ .‬فالطلبة‬ ‫في المدارس الدولية يمارسون حياة اجتماعية مختلفة ع ّما يمارسه طلبة المدارس الوطنية؛‬ ‫ذلك أ َّن القدرة على دفع الرسوم المرتفعة للمدارس الدولية هي التي نقلت الطلبة إلى هذه‬ ‫المدارس‪ ،‬و ِم ْن َث َّم تضاف مشكلة عدم المساواة في ال ُفرص إلى مشكلة الاختلاف في نمط‬ ‫الحياة الاجتماعية‪ (((.‬وقد اختار الباحث في عنوان البحث كلمة ‪Stealth Marketization‬‬ ‫ليعطي عملي َة انتشار المدارس الدولية في مجتمعات العا َلم معنى التس ُّرب بهدوء وخفية‪(((.‬‬ ‫((( بلدان الخليج العربي مثا ٌل واض ٌح على كثرة المدارس الدولية (الغربية)‪ ،‬وفروع الجامعات الغربية‪.‬‬ ‫‪(2) Kim, Hyejin & Mobrand, Erik. Stealth Marketization: How International School Policy is‬‬ ‫‪Quietly Challenging Education Systems in Asia, Globalization, Societies and Education,‬‬ ‫‪Online Journal, Published online, 25 Jan 2019, DOI: 10.1080/14767724.2019.1571405.‬‬ ‫‪(3) Ibid.‬‬ ‫‪550‬‬

‫والمقصود بالمدارس الدولية في الدراسة المشار إليها‪ ،‬تلك المدارس التي تعود إلى‬ ‫شبكات تجارية أجنبية عابرة للمجتمعات‪ ،‬أو المدارس الخاصة الوطنية التي تق ِّدم برامج‬ ‫أجنبية‪ ،‬مثل‪ :‬البرنامج الأمريكي ‪ (((،SAT‬أو البرنامج البريطاني ‪ (((،IGCSE‬أو البكالوريا‬ ‫الدولية ‪ (((.IB‬ونظر ًا للطلب على هذه الأنواع من البرامج الأجنبية؛ فإ َّن بعض المدارس‬ ‫الخاصة لا تكتفي بتقديم برنامج واحد منها‪ ،‬بل تق ِّدمها جميع ًا‪ .‬وقد انتشرت هذه البرامج‬ ‫في العقود الثلاثة الأخيرة في معظم البلدان العربية والإسلامية على نطاق واسع‪.‬‬ ‫لقد تع َّززت ق َّوة تيار العولمة والتدويل عن طريق التط ُّور السريع في ُن ُظم المعلومات‬ ‫ووسائل الاتصال الحديثة‪ ،‬حتى أصبح تيار ًا جارف ًا لا سبيل لمقاومته‪ .‬ولم يعد أمام‬ ‫المجتمعات إلا البحث عن استراتيجيات ف ّعالة للتعامل الحكيم معه‪ ،‬بصورة تع ِّظم بعض‬ ‫مكتسباته الإيجابية‪ ،‬وتق ِّلل من أثره السلبي في مق ِّومات الهوية الفكرية للمجتمع‪ ،‬أو‬ ‫تتجاهل الخصوصيات المرجعية الوطنية‪ .‬ومؤسسات التربية تحديد ًا هي ال ُمؤ َّهلة أكثر‬ ‫من غيرها لتطوير الاستراتيجيات اللازمة لتحصين الطلبة ضد ما يه ِّدد هويتهم الحضارية‪،‬‬ ‫وتمكينهم من اكتساب التفكير التحليلي الناقد‪ ،‬والثقة بالنفس‪ ،‬والاتجاهات الإيجابية‬ ‫البنّاءة‪ ،‬والقيم الأخلاقية النبيلة‪.‬‬ ‫لقد أتاح تيار العولمة والتدويل ‪-‬وما يع ِّززه من منجزات المعلوماتية ووسائل‬ ‫الاتصال والتوا ُصل‪ -‬المجال لانفتاح الثقافات بصورة تم ِّكن الثقافة الأقوى من الهيمنة‬ ‫على غيرها‪ .‬ولك َّن الجانب السياسي والجانب الاقتصادي من العولمة والتدويل أصبحا‬ ‫يمارسان ضغوط ًا متزايدة على تحديد فلسفة التعليم‪ ،‬وسياساته‪ ،‬ومناهجه‪ ،‬وقد تؤدي هذه‬ ‫الضغوط إلى استجابات تع ِّبر عن الضعف‪ ،‬وعدم الثقة بالنفس‪ ،‬وعدم القدرة على مقاومة‬ ‫الآثار السلبية‪ .‬ولك َّن تيار العولمة ‪-‬في الوقت نفسه‪ -‬هو ُفرصة لإثبات الحضور الفكري‬ ‫والثقافي‪ ،‬وتحويل اتجاه هذا التيار وتوظيفه لتحقيق كثير من المكتسبات‪ ،‬وللإسهام في‬ ‫ترشيد حركة التق ُّدم البشري والحضارة الإنسانية‪.‬‬ ‫‪(1) Scholastic Aptitude Test.‬‬ ‫‪(2) International General Certificate for Secondary Education.‬‬ ‫‪(3) International Baccalaureate.‬‬ ‫‪551‬‬

‫‪ .3‬الحداثة وما بعد الحداثة‪:‬‬ ‫الحداثة هي رؤية جديدة للعا َلم رافقت التح ُّولات التي شهدتها أوروبا منذ بداية عصر‬ ‫النهضة والتنوير‪ ،‬على أثر حركات الإصلاح الديني‪ ،‬والتح ُّرر من سيطرة الكنيسة‪ ،‬وانطلاق‬ ‫العقل في البحث العلمي والاكتشاف‪ ،‬والإيمان بفكرة التق ُّدم‪ ،‬وانتشار مبادئ الحرية‬ ‫والديمقراطية‪ .‬فهي إذن ظاهرة تاريخية وحالة إنسانية كان لها تج ِّلياتها في الفكر والفلسفة‬ ‫العقلانية من جهة‪ ،‬وفي واقع المجتمع في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية من‬ ‫جهة ُأخرى‪ .‬وتتع َّدد رؤية المؤ ِّرخين لبداية عصر التنوير والنهضة الأوروبية ما بين اختراع‬ ‫مطبعة روتنبرغ في ألمانيا عام ‪1453‬م والثورة الفرنسية عام ‪1789‬م‪ .‬وقد تط َّورت في هذا‬ ‫العصر قيم الحرية والفردية ومركزية الإنسان بدلاً من مركزية الإله‪ ،‬وتم َّيزت بالثقة بالعقل‬ ‫والعلم واليقين‪.‬‬ ‫أ ّما ما بعد الحداثة فهو رؤية للعا َلم كذلك تط َّورت في النصف الثاني من القرن‬ ‫العشرين‪ ،‬وع َّبرت عن مرحلة جديدة في تاريخ الحضارة الغربية‪ ،‬تك َّونت نتيجة الشعور‬ ‫بفشل المستقبل الذي وعدت به الحداثة‪ ،‬فكانت َر َّد فِ ْع ٍل تجاهها‪ .‬وقد تع َّزز هذا الشعور‬ ‫بعد الدمار الذي أحدثته الحربان العالميتان الأُولى والثانية في أوروبا‪ ،‬و َف َق َد الفلاسفة‬ ‫والمف ِّكرون ثقتهم بالمشروع السياسي والاقتصادي‪ ،‬وتط َّورت أفكار الش ِّك‪ ،‬والذاتية‪،‬‬ ‫والنسبية‪ .‬وتن ِكر فلسف ُة ما بعد الحداثة وجو َد الحقيقة المطلقة‪ ،‬وتق ِّلل من أهمية السلطة‬ ‫والمؤسسات والأديان التي تتح َّدث عن حقائق موضوعية‪ ،‬وتع ِلن عن نهاية الوضعية‪.‬‬ ‫ومن الجدير بالذكر أ َّن فلسفة الحداثة ليست صورة واحدة‪ ،‬وكذلك الأمر في فلسفة ما‬ ‫بعد الحداثة؛ ففي ك ٍّل منهما تن ُّو ٌع وتع ُّد ٌد في وجهات النظر‪ ،‬وتماي ٌز بين تو ُّجهات المف ِّكرين‪.‬‬ ‫وما َي ُه ُّمنا من الحداثة وما بعد الحداثة هو الفارق في تج ِّليات ك ٍّل منهما على‬ ‫النظريات والممارسات التربوية‪ .‬فإذا كان على التربويين الحداثيين ممارسة السلطة في‬ ‫نقل المعرفة الموضوعية غير المتح ِّيزة إلى الطلبة‪ ،‬فإ َّنهم في ما بعد الحداثة يساعدون‬ ‫الطلبة على بناء المعرفة‪ .‬ويتع َّين على الطلبة في فلسفة الحداثة أ ْن يتع َّلموا الثقافة المشتركة‬ ‫للمجتمع ال ُمو َّحد‪ ،‬ولك َّن فلسفة ما بعد الحداثة َت ُع ُّد ذلك طريق ًة لبسط الثقافة السائدة‪،‬‬ ‫مع العلم بأ َّن الثقافات الفرعية لها قيمها ومصداقيتها‪ ،‬وأ َّنه يتع َّين على أصحابها مقاومة‬ ‫المركزية الثقافية الأوروبية‪.‬‬ ‫‪552‬‬

‫والطبيعة الإنسانية تتصف بقدر من الثبات الفكري‪ ،‬ويمكن معرفتها بصورة‬ ‫موضوعية؛ فالذكا ُء الإنساني ‪-‬مثل ًا‪ -‬يمكن معرفته باختبارات الذكاء‪ ،‬وتق ُّد ُم ك ٍّل من الفرد‬ ‫والمجتمع يتح َّقق نتيجة تع ُّلم تطبيق المعرفة الموضوعية‪ .‬وفلسفة ما بعد الحداثة لا تؤمن‬ ‫بذا ٍت حقيقي ٍة‪ ،‬أو بجوه ٍر فطر ٍّي للإنسان؛ فالذات هي تكوين اجتماعي‪ ،‬والتعليم وسيلة‬ ‫لبناء الذات‪ ،‬وليس لاكتشافها‪ ،‬ويتح َّقق تق ُّدم الفرد عند تمكينه من الوصول إلى الأهداف‬ ‫التي يختارها لنفسه‪ ،‬وكذلك المجتمع‪.‬‬ ‫ويرى الحداثيون التقليديون أ َّن التربويين هم سلطة مشروعة في تحديد القيم‪ ،‬وأ َّن‬ ‫عليهم أ ْن يد ِّربوا الطلبة على القيم العامة‪ .‬بيد أ َّن الحداثيين الليبراليين يرون أ َّن التربية‬ ‫يجب أ ْن تكون حيادية بخصوص القيم‪ ،‬ويكفي أ ْن يقوم ال ُمع ِّلمون بمساعدة الطلبة على‬ ‫توضيح القيم التي ينبغي لك ٍّل منهم أ ْن يتبنّاها‪ .‬ث َّم إ َّن القيم منفصلة عن الحقائق‪ ،‬وأهم‬ ‫القيم في فلسفة الحداثة هي العقلانية والتق ُّدم‪ .‬أ ّما فلسفة ما بعد الحداثة فتؤمن بأ َّن على‬ ‫التربية أ ْن تساعد الطلبة على بناء قيم شخصية متن ِّوعة مفيدة لك ٍّل منهم في سياق ثقافاتهم‬ ‫الفرعية‪ .‬وليس َث َّمة قي ٌم مفيدة بصورة مطلقة‪ ،‬وليس َث َّمة مشكل ٌة في أ ْن يع ِلن ال ُمع ِّلمون عن‬ ‫قيمهم؛ لأ َّنه لا يمكنهم تجنُّب ذلك عملي ًا‪ .‬وتشمل القي ُم المهمة في التعليم السع َي للتن ُّوع‪،‬‬ ‫والتسامح‪ ،‬والحرية‪ ،‬والإبداع‪ ،‬والحدس‪ ،‬وتقدير العواطف والحدس‪(((.‬‬ ‫ويمكن القول إ َّن الجدل الذي يدور حول الحداثة وما بعد الحداثة في المجال‬ ‫التربوي‪ ،‬في المجتمعات الإسلامية‪ ،‬قد لا يكون له معنى؛ لأ َّن ما َي ُه ُّم هذه المجتمعات‬ ‫ليس الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة؛ فالمذهبان يخت ّصان بحالة الفكر الغربي‪،‬‬ ‫وما َيلزم مجتمعاتنا هو بناء فلسفة تربوية تنبثق من رؤيتنا الإسلامية للعا َلم‪ ،‬وما َتهدي إليه‬ ‫هذه الرؤية من عناصر النظام المعرفي المستر ِشدة بنظام الاعتقاد‪ ،‬ونظام القيم‪ .‬وما نختاره‬ ‫من عناصر النظام المعرفي في المجال التربوي؛ سواء في البرامج‪ ،‬أو المناهج‪ ،‬أو ُن ُظم‬ ‫الإدارة‪ ،‬ر َّبما يكون أقرب إلى ما ُي َع ُّد من أفكار الحداثة‪ .‬أ ّما حركة ما بعد الحداثة فإ َّن كثير ًا‬ ‫من مقولاتها ليس شيئ ًا جديد ًا‪ ،‬وإ َّنما كان جزء ًا معروف ًا وتط ُّور ًا ضروري ًا في أفكار الحداثة‬ ‫‪(1) McCallum, Dennis. Comparing Modernist and Postmodern Educational Theory. See link:‬‬ ‫‪- https: //www.xenos.org/essays/comparing-modernist-and-postmodern-educational-theory.‬‬ ‫‪553‬‬

‫نفسها‪ .‬ث َّم إ َّن حركة ما بعد الحداثة لا تش ِّكل حالي ًا منظوم ًة متماسك ًة واضح َة المعالم‪،‬‬ ‫بصورة تكفي لصياغة أسس فلسفية ونفسية واجتماعية للتربية المنشودة‪ ،‬وأخطر ما فيها‬ ‫هو القصور في نظرتها إلى الطبيعة الإنسانية‪ ،‬وإهمالها الهوية والانتماء الفكري الجامع‪،‬‬ ‫وتهديدها منظومة القيم‪.‬‬ ‫ومع تط ُّور مجتمعاتنا الإسلامية‪ ،‬وتط ُّلعها إلى الخروج م ّما هي فيه من تخ ُّل ٍف نحو‬ ‫مستقبل يكون فيه لهذه المجتمعات إسهام فاعل في بناء الحضارة البشرية وترشيدها‪ ،‬فإ َّن‬ ‫حديثنا عن الحداثة لن يتناول الحداث َة الأوروبية في القرن الخامس عشر الميلادي وما‬ ‫بعده‪ ،‬وما حدث فيها‪ ،‬ولها‪ ،‬من تط ُّورات فيما بع ُد‪ ،‬وإ َّنما سيكون حديث ًا عن حداثة خاصة‬ ‫بنا نحن‪ ،‬الآن‪ ،‬وهنا‪.‬‬ ‫‪ .4‬الفلسفة الإنسانية والفلسفة المادية‪:‬‬ ‫اخترنا أ ْن نجمع بين الفلسفتين الإنسانية ‪ Humanism‬والمادية ‪Materialism‬؛ لما‬ ‫بينهما من صلات عميقة‪ .‬وهما يم ِّثلان عنصرين أساسيين من عناصر المرجعية في الفكر‬ ‫الغربي‪ .‬ونعني بمبدأ الإنسانية (الهيومانية) قيام الإنسان بنفسه دون حاجة إلى إله متجاوز‪.‬‬ ‫ولذلك كان شعار الجمعية الإنسانية الأمريكية‪\" :‬الخير دون حاجة إلى الله\"‪ (((،‬والإيمان‬ ‫بالإنسان من دون الله‪.‬‬ ‫ومن الضروري التمييز بين مصطلح \"الإنسانية\" التي تعني اهتمام الإنسان بالناس‬ ‫الآخرين‪ ،‬و\"الإنسانية\" ‪ Humanism‬بوصفها فلسفة تق ُّدمية ورؤية للعا َلم‪ ،‬لا يحتاج فيها‬ ‫الإنسان إلى الإيمان بالله‪ ،‬أو بغيره من المعتقدات الخارقة للطبيعة‪ ،‬وهي تؤ ِّكد قدرتنا‬ ‫ومسؤوليتنا عن حياة أخلاقية تتصف بالإشباع الشخصي‪ ،‬وتتط َّلع إلى الخير العام‪.‬‬ ‫وقد و َّثقت إحدى الدراسات نصوص ًا وعبارا ٍت تو ِّضح \"العقيدة الهيومانية\" من‬ ‫المصادر الرسمية للجمعية المذكورة آنف ًا؛ لبيان تم ُّثلات هذه العقيدة في السياسة والتعليم‬ ‫والإعلام والفن وغير ذلك؛ ما يو ِّثق معتقداتهم التي تتصل بالإلحاد‪ ،‬واللاأدرية‪ ،‬والتط ُّور‪،‬‬ ‫والمادية‪ ،‬وحق الإجهاض‪ ،‬والقتل الرحيم‪ ،‬والانتحار‪ ،‬والطلاق‪ ،‬والشذوذ الجنسي‪،‬‬ ‫والحرية الجنسية‪.‬‬ ‫‪(1) Good without A God.‬‬ ‫‪554‬‬

‫والذي َي ُه ُّمنا هنا هو الآثار التي تتركها هذه الفلسفة في المجال التربوي‪ .‬ومن‬ ‫المعروف أ َّن الفلسفة السائدة في التعليم العام والتعليم الجامعي هي الفلسفة الإنسانية‪.‬‬ ‫فالموقف العلماني الرسمي في المدارس الأمريكية يمنع الطقوس الدينية في النشاطات‬ ‫المدرسية‪ ،‬ولكنَّه يسمح للطلبة بتكوين أندية متن ِّوعة تستطيع أ ْن تناقش أ َّي موضوعات‪ .‬ومع‬ ‫ذلك‪ ،‬فإ َّن عليهم أ ْن يدافعوا بق َّوة عن ح ِّقهم في اجتماعات تط ُّوعية في المرافق المدرسية‬ ‫قبل الدوام المدرسي أو بعده للقيام بمناقشات دينية‪ .‬ويمكن القول إ َّن كل مبدأ رئيس من‬ ‫مبادئ الإنسانية قد تم إقراره من خلال القرارات الرسمية للجمعية الوطنية للتعليم ‪(((.NEA‬‬ ‫والمعروف أ َّن \"الغالبية العظمى من التربويين في الحقل التربوي في أمريكا والعا َلم‬ ‫الغربي يؤمنون بالفلسفة الإنسانية ‪ .Humanism‬وأعضاء هيئة التدريس في الكليات‬ ‫والجامعات هم كذلك‪ .‬ومثلهم كذلك معظم ال ُمع ِّلمين الذين يدرسون في المدارس‬ ‫الابتدائية والثانوية‪ ،‬حتى لو كان معظمهم يحتفظون بالح ِّد الأدنى من الصلة بالكنائس‬ ‫المسيحية‪ ،‬أو ال ُكنُس اليهودية لأسباب شخصية‪ ،‬أو اجتماعية‪ ،‬أو عملية‪(((\".‬‬ ‫ونكتفي في الحديث عن المذهب الإنساني بالإشارة إلى بيان \"مانيفستو\" الذي‬ ‫صدرت طبعته الثالثة عام ‪2000‬م‪ ،‬بعنوان \"بيان المذهب الإنساني لعام ‪2000‬م‪ :‬دعوة‬ ‫لمذهب إنساني كوكبي\"‪(((.‬‬ ‫وقد كتب ُمس َّودة هذا البيان باول كوتز‪ ،‬وو َّقع عليه مئة وعشرون شخصية من‬ ‫الشخصيات الفكرية والأكاديمية‪ ،‬من بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا وأوروبا‪ ،‬من بينهم‬ ‫ثلاث ٌة من بلدان إسلامية‪ ،‬هم‪ :‬تسليمة نسرين من بنغلاديش التي ُع ِرف عنها كتاباتها‬ ‫المعادية للإسلام؛ وصادق العظم من سوريا الذي أعلن عن علمانيته‪ ،‬وأ َّلف عدد ًا من‬ ‫الكتب‪ ،‬منها‪\" :‬نقد الفكر الديني\"‪ ،‬و\"دفاع ًا عن المادية والتاريخ\"؛ ومراد وهبة من مصر‪،‬‬ ‫وهو مسيحي علماني أنكر وجود الحقيقة المطلقة التي تتح َّدث عنها الأديان‪ ،‬وأعلن في‬ ‫كتابه \" ُم ّلك الحقيقة المطلقة\" عن الضياع الذي أدخلت الفلسفة الإنسان فيه‪ ،‬وفشلها في‬ ‫الوصول إلى الحقيقة المطلقة‪.‬‬ ‫‪(1) https: //www.gospelway.com/religiousgroups/humanism.php‬‬ ‫)‪(2) Storer, Morris B. (Editor). Humanist Ethics, New York: Prometheus Books (August 1, 1979‬‬ ‫‪(3) Kurtz, Paul. Humanist Manifesto 2000: a Call for A New Planetary Humanism, Amherst:‬‬ ‫‪NY: Prometheus books, 2000, pp. 1-76.‬‬ ‫‪555‬‬

‫أ ّما الفلسفة المادية ف ِصلتها وثيق ٌة بالفلسفة الإنسانية‪ .‬فعندما نجد الإنسان حريص ًا‬ ‫على أ ْن يعيش حياته من دون ألم‪ ،‬ويجد ما يحتاج إليه من المال والممتلكات والموقع‬ ‫الاجتماعي الذي يجعله سعيد ًا‪ ،‬ويشعر بالأمن الاجتماعي والأمن السياسي‪ ،‬ويقتصر‬ ‫سعيه في الحياة على هذا الوجود المريح مادي ًا واجتماعي ًا‪ ،‬دون غيره؛ فإ َّن كل ذلك يع ِّبر‬ ‫عن تص ُّور مادي للحياة‪ .‬ولك َّن المذهب المادي ‪ Materialism‬هو أم ٌر آخ ُر؛ إ َّنه تص ُّور‬ ‫للحياة‪ ،‬يرى أ َّن ما لا يكون ملموس ًا أو معقولاً لا يمكن اعتباره قابل ًا للمعرفة‪.‬‬ ‫لقد وصلت العقيدة المادية اليوم إلى منزلة متق ِّدمة إلى الح ِّد الذي ُيح ِّتم تغيير تصنيفها‬ ‫من كونها \"مذهب ًا مادي ًا\" إلى تصنيف آخر هو \"المادية العلمية\"‪ .‬وإضافة كلمة \"علمية\" هنا‬ ‫هي من قبيل الميزة الساحرة للعلم الذي يعني الدقة واليقين في إجراءاته‪.‬‬ ‫ولا شك في أ َّن َث َّمة ما يس ِعد الإنسان في الأبعاد المادية من الحياة‪ ،‬ولا شك في أ َّن‬ ‫ثقة الإنسان بنفسه وقدرته على ح ِّل مشكلاته بنفسه شي ٌء جيد‪ ،‬وسيتع َّين على التربية أ ْن‬ ‫تتيح للإنسان الشعور بالسعادة والثقة بالنفس‪ .‬بيد أ َّن في الإنسان عناصر ُأخرى لا يملك‬ ‫تجاهلها‪ ،‬ولا تملك الممارسات التربوية ‪-‬مهما كانت قاسية‪ -‬أ ْن تقمعها؛ ففي المادة‬ ‫شيء أكثر من المادة‪ ،‬وفي الإنسان شيء أكثر من كونه فرد ًا وكائن ًا اجتماعي ًا‪ .‬والمذهب‬ ‫المادي والمذهب الإنساني لا يكفيان لتلبية شعور الإنسان بالإشباع النفسي‪ ،‬والتط ُّلع إلى‬ ‫آفاق ُأخرى خارج نفسه‪ ،‬وخارج محيطه المادي‪ .‬والطبيعة الإنسانية‪ ،‬حتى عند الأطفال‪،‬‬ ‫فيها من الفضول والتساؤل أكثر م ّما قد َي ِر ُد عند ُمع ِّلميهم‪.‬‬ ‫والتعليم الذي يتأ َّثر بالمعتقدات التي يفرضها المذهب المادي‪ ،‬أو المذهب‬ ‫الإنساني‪ُ ،‬يش ِعر ال ُمتع ِّلم أ َّن عليه أ ْن يقتنع بأمور ض َّد إرادته‪ ،‬وأ ْن يتجه بالطلبة إلى حالة من‬ ‫القلق والحيرة‪ ،‬ور َّبما الضياع‪ ،‬وعدم المسؤولية‪ ،‬والعدمية‪.‬‬ ‫‪ .5‬البنيوية والتفكيك‪:‬‬ ‫من المناسب أ ْن نستهل الحديث عن هذا الموضوع بالتمييز بين البنيوية والبنائية؛ إذ‬ ‫نلاحظ أ َّننا لا نجد محاولة للتمييز بين اللفظين من ناحية اللغة‪ ،‬وأ َّن التمييز يقتصر على‬ ‫المصطلح؛ إذ ُير ِجع الباحثون مصطلح \"البنيوية\" إلى ثنائية اللفظ والمعنى‪ ،‬كما ظهرت‬ ‫‪556‬‬

‫في العربية عند عبد القاهر الجرجاني (‪471-400‬ﻫ) في نظريته عن النَّ ْظم‪ .‬وهو ما كشف‬ ‫عنه بعض الأوروبيين في مراحل مختلفة‪ ،‬أشهرها ما قام به اللغوي السويسري فردينان دي‬ ‫سوسير (‪1913-1857‬م) في مطلع القرن العشرين‪ ،‬الذي ُين َسب إليه تأسيس النظرية البنيوية‬ ‫في اللغة‪ ،‬وتابعه في ذلك كلود ليفي سترواس (‪2009-1908‬م) الذي ُتن َسب إليه البنيوية‬ ‫في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا ‪ ،‬وغيره من البنيويين في مجالات تخ ُّصص مختلفة‪.‬‬ ‫أ ّما مصطلح \"البنائية\" فقد ُخ ِّصص لوصف عملية التع ُّلم البشري؛ إذ ترى النظرية‬ ‫البنائية في التع ُّلم واكتساب اللغة أ َّن التع ُّلم لا يتم من خلال إضافة المعارف الجديدة إلى‬ ‫ال ُمتع ِّلم بطريقة التراكم‪ ،‬وإ َّنما يتم من تفا ُعل المعرفة الجديدة مع بنية ال ُمتع ِّلم الذهنية التي‬ ‫تكون موجودة من قب ُل‪ ،‬وهذا التفا ُعل يعيد بناء البنية الذهنية كلما دخلت معرفة جديدة‪.‬‬ ‫وأهم َمن ن َّظر للبنائية في التع ُّلم عالِم النفس السويسري جان بياجيه (‪1980-1896‬م)‪،‬‬ ‫ولا سيما في كتابه \"الإبستمولوجيا التكوينية\"؛ فالبنيوية هي نظرية في بنية النص‪ ،‬والبنائية‬ ‫هي نظرية في بنية الذهن الإنساني والتع ُّلم‪.‬‬ ‫والبنائية في نظرية التع ُّلم لها‪ ،‬وعليها‪ .‬وهي ليست موضع الاهتمام في السياق الذي‬ ‫نحن فيه الآن؛ فنحن بصدد الحديث عن البنيوية التي جاءت \"التفكيكية\" لتنقضها‪.‬‬ ‫والبنيوية مدرسة فكرية ترى أ َّن الظواهر الاجتماعية‪ ،‬أو الأدبية‪ ،‬أو النفسية‪ ،‬هي أساس ًا‬ ‫بنية ذات عناصر مح َّددة‪ ،‬وأ َّنه لا حاجة في فهمها إلى النظر في أ َّية عوامل خارج هذه البنية‪،‬‬ ‫مثل‪ :‬اتجاهات الدارس‪ ،‬ومرجعيته الفكرية‪ .‬و ُين َسب تأسيس البنيوية بالصورة التي انتهت‬ ‫إليها في القرن العشرين إلى اللغوي السويسري فردينان دي سوسير‪ ،‬فيما د َّونه في كتابه‬ ‫\"علم اللغة العام\"‪ .‬وقد استعمل سوسير في كتابه لفظ ‪\" System‬نظام\"‪ ،‬ولفظ ‪،Structure‬‬ ‫واختار له ال ُمتر ِجم لفظ \"تركيب\" في إحدى ترجمات كتاب سوسير \"علم اللغة العام\"‪(((،‬‬ ‫أو لفظ \"بنية\" في الترجمة الأُخرى للكتاب التي جاءت بعنوان \"الألسنية العامة\"‪(((.‬‬ ‫((( سوسير‪ ،‬فردينان‪ .‬علم اللغة العام‪ ،‬ترجمة‪ :‬يؤئيل يوسف عزيز‪ ،‬مراجعة النص العربي‪ :‬مالك يوسف المطلبي‪،‬‬ ‫بغداد‪ :‬دار آفاق عربية‪1985 ،‬م‪ .‬والكتاب في الأصل هو مجموعة محاضرات ألقاها في جامعة جنيف‪ ،‬و َن َّظم‬ ‫أمر نشرها عام ‪1985‬م اثنان من تلاميذه‪.‬‬ ‫((( سوسير‪ ،‬فردينان‪ .‬دروس في الألسنية العامة‪ ،‬تعريب‪ :‬صالح القرمادي‪ ،‬ومحمد الشاوش‪ ،‬ومحمد عجينة‪،‬‬ ‫تونس‪ :‬الدار العربية للكتاب‪1985 ،‬م‪.‬‬ ‫‪557‬‬

‫لقد نظر سوسير إلى أهمية دراسة اللغة بصورة مختلفة ع ّما عهده الدارسون من قب ُل‪،‬‬ ‫الذين ير ِّكزون على المنهج التاريخي في دراسة اللغة‪ ،‬ون َّوه بأهمية اللغة وضرورة دراستها‪،‬‬ ‫بوصفها شأن ًا لا يقتصر على اللغويين؛ ذلك أ َّنه \"م ّما لا شك فيه أ َّن المسائل اللغوية َت ُه ُّم ك َّل‬ ‫ْمن َيدرس النصوص‪،‬كالمؤ ِّرخين وعلماء فقه اللغة وغيرهم من الباحثين‪ ،‬ولا شك أ َّن لعلم‬ ‫اللغة أهمية للثقافة العامة؛ ففي حياة الأفراد والمجتمعات ُت َع ُّد اللغة أهم من أ ِّي شيء آخر‪.‬‬ ‫لذا لا يجوز أ ْن يبقى علم اللغة مقتصر ًا على نخبة صغيرة من المختصين‪ ،‬فهو َي ُه ُّم الجميع‬ ‫على أ ِّي نح ٍو‪(((\".‬‬ ‫ث َّم أصبحت البنيوية تتعامل مع التخ ُّصص الذي ُتط َّبق فيه على أ َّنه نظام معقد من‬ ‫الأجزاء المترابطة‪ ،‬وتح َّولت إلى منهج لتحليل النشاط البشري و ُمن َتجاته بصورة عامة‪،‬‬ ‫ولا سيما الثقافة‪ .‬وقد رأى ستراوس ‪-‬مثل ًا‪ -‬أ َّن الأنظمة الثقافية هي نتاج التركيب الثابت‬ ‫للعقل البشري‪ ،‬ود َّلل على وجود هذا الهيكل الثابت في تحليلاته للقرابة‪ ،‬والأساطير‪،‬‬ ‫والفن‪ ،‬والدين‪ ،‬وتقاليد الطقوس‪.‬‬ ‫وقد م َّيز غارودي بين البنيوية بوصفها منهج ًا في البحث من جهة‪ ،‬وعقيدة دوغمائية‬ ‫عامة من جهة ُأخرى‪ ،‬وأق َّر بمشروعية البنيوية بوصفها منهج ًا‪ ،‬ورفض ال ُب ْعد العقدي‬ ‫فيها‪ ،‬قائل ًا‪\" :‬إ َّن مفهوم \"البنية\"‪ ،‬في أيامنا هذه‪ ،‬يحمل فلسفة تم ِّثل في طبعتها الدوغمائية‬ ‫نقطة الوصول لفلسفة موت الإنسان؛ للفلسفة التي بلا ذات‪ (((\".‬وأضاف‪\" :‬إ َّننا إذ ُن ِق ُّر‬ ‫بمشروعية البنيوية كمنهج علمي للاستقصاء‪ ،‬ولتحليل مستوى مح َّدد من الواقع الإنساني‬ ‫والاجتماعي‪ ،‬ننبذ البنيوية عندما تزعم أ َّنها فلسفة تعطي عن الواقع الإنساني تحليل ًا‬ ‫جامع ًا‪ ،‬وتنفي من هنا بالذات آن الخلق‪ ،‬وآن الذاتية‪ .‬والبنية في هذه الحالة تو ُّسط لا غنى‬ ‫عنه ولا بديل‪ ،‬وفي الثانية استلاب ُمع ِّقم‪(((\".‬‬ ‫ورأى غارودي أ َّن جيل البنيويين الذي جاؤوا بعد ستراوس لا يتر َّددون في التمادي‬ ‫في بنيوية تتخ َّيل تاريخ ًا \"هو محض اشتغال للبنية\" لا وجود للبشر فيه‪\" ،‬فتراهم يع ِلنون‬ ‫بلسان فوكو أ َّنه بعد إعلان نيتشه عن موت الله‪ ،‬فإ َّن ما يتأ َّكد في أيامنا هذه ليس غياب الله‬ ‫((( سوسير‪ ،‬علم اللغة العام‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.25‬‬ ‫((( غارودي‪ ،‬البنيوية‪ :‬فلسفة موت الإنسان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.13‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.17‬‬ ‫‪558‬‬

‫أو موته بقدر ما أ َّنه نهاية الإنسان؛ أ َّن الإنسان سيختفي‪ (((\".‬أ ّما البنيوية التي يراها غارودي‬ ‫فإ َّن ر ّوادها كانوا ماركس‪ ،‬وفرويد‪ ،‬ودي سوسير؛ فكان ماركس‪ ،‬أ َّول َمن ط َّبق المنهج‬ ‫البنياني في تحليله لرأس المال‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإ َّنه يرى \"أ َّن الماركسية‪ ،‬في إلهامنا الأساسي‪،‬‬ ‫تسمح بطرفي السلسلة مع ًا؛ بالبنية‪ ،‬وبالنشاط الإنساني الذي يو ِّلدها؛ إذ تجعل من المنهج‬ ‫البنياني آن ًا ضروري ًا من آناء المنهج الجدلي‪(((\".‬‬ ‫وقد ظهرت البنيوية ‪-‬على تن ُّوعاتها‪ :‬التكوينية‪ ،‬والتوليدية‪ -...‬في العا َلم العربي‬ ‫في سبعينيات القرن العشرين عن طريق بعض َمن درس ِمن الطلبة العرب في أوروبا‪،‬‬ ‫وبعد أ ْن ُتر ِجمت بعض الأعمال التي صدرت بالفرنسية إلى العربية‪ ،‬وأصبحت \"صرعة\"‬ ‫في الدراسات اللغوية والأدبية واللسانيات‪ .‬و ِمن أبرز َمن ُع ِرفوا بالبنيوية‪ ،‬فكتبوا فيها‪،‬‬ ‫وترجموا بعض إنتاجها في العا َلم العربي‪ :‬جابر عصفور‪ ،‬وكمال أبو ديب‪ ،‬وزكريا إبراهيم‪،‬‬ ‫وصلاح فضل‪ ،‬ويمنى العيد‪ ،‬ومحمد بنيس‪ ،‬ومحمد مفتاح‪ ،‬ومحمد برادة‪ ،‬وغيرهم؛ إذ‬ ‫وجد هؤلاء ِمن بعض المؤسسات الثقافية والإعلامية والنُّ ُظم العربية َمن يوليهم العناية‬ ‫الخاصة‪ ،‬و ُير ِّوج لأعمالهم‪.‬‬ ‫وفيما يخ ُّص التفكيكية‪ ،‬فإ َّن \"الموسوعة البريطانية\" ُتع ِّرفها بأ َّنها \"شك ٌل من أشكال‬ ‫التحليل الفلسفي والنقد الأدبي‪ ،‬تط َّور من أعمال دريدا‪ ،‬اعتبار ًا من ستينيات القرن‬ ‫العشرين‪ ،‬التي تض َّمنت مساءلة للتمايز والتعا ُرض الفكري الأساسي في الفلسفة الغربية‪،‬‬ ‫عن طريق فحص اللغة والمنطق في النصوص الفلسفية والأدبية‪ .‬وفي الثمانينيات أصبحت‬ ‫التفكيكية ُتط َلق بشكل فضفاض على جهود نظرية ُتب َذل في مجالات متن ِّوعة من الإنسانيات‬ ‫والعلوم الاجتماعية‪ ،‬بما في ذلك‪ :‬الفلسفة‪ ،‬والأدب‪ ،‬والتحليل النفسي‪ ،‬والثيولوجيا‪،‬‬ ‫والدراسات النسائية‪ ،‬وقضايا الشذوذ الجنسي‪ ،‬والنظرية السياسية‪ ،‬والتاريخ‪ .‬ومع أواخر‬ ‫القرن العشرين أصبحت التفكيكية ُتستع َمل أحيان ًا في المناقشات الجدلية حول الاتجاهات‬ ‫الفكرية‪ ،‬بصورة تتض َّمن معنى الازدراء‪ ،‬والعدمية‪ ،‬والشك التافه‪ ،‬في الاستخدام الشعبي‪،‬‬ ‫وأصبح هذا المصطلح يعني نقد ًا تفكيكي ًا للأعراف وأساليب التفكير التقليدية‪(((\".‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.30-29‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.127‬‬ ‫‪(3) https: //www.britannica.com/topic/deconstruction.‬‬ ‫‪559‬‬

‫ورأى سيمون ستريك أ َّن التفكيك هو مدخل نظري ومنهجي إلى الهدف المراد‬ ‫الوصول إليه‪ ،‬وأ َّنه يتض َّمن قراء ًة دقيق ًة‪ ،‬أو وصف ًا ُمك َّثف ًا لاكتشاف المعنى المح ِّدد للنص‪.‬‬ ‫ولك َّن التفكيك أصبح ‪-‬في نهاية المطاف‪ -‬مدخل ًا لجعل الأشياء غريبة عنّا‪ ،‬وتفكيكها إلى‬ ‫ما يجعلها شيئ ًا مختلف ًا‪ .‬وقد خ ُلص ستريك إلى القول \"إ َّن التفكيكية في سياق الحديث‬ ‫عن الدراسات الأمريكية هي العمل الذي تقوم به هذه الدراسات لتجعل من نفسها ومن‬ ‫موضوعاتها أمور ًا غريب ًة وصعب ًة‪ ،‬ولتنقض البنية التي نمارس من خلالها بناء المعنى‪ .‬وهو‬ ‫العمل اللازم لتجنُّب قبول أ ِّي معنى مح َّدد للثقافة‪ ،‬والعمل اللازم للمحافظة على رؤية‬ ‫للثقافة والسياسية تتصف بالسيولة‪ ،‬والتغ ُّير‪ ،‬والتعقيد‪ ،‬والتاريخية‪ ،‬والتن ُّوع‪ ،‬والحاجة إلى‬ ‫صياغتها َم َّر ًة بعد الأُخرى‪(((\".‬‬ ‫إ َّن عرض أفكار التفكيك‪ ،‬ولا سيما في النسخة التي يق ِّدمها دريدا‪ ،‬قد تع َّرضت‬ ‫في الكتابات الغربية لكثير من النقد‪ ،‬ونقد النقد‪ .‬وقد ل َّخص أحد محاوري دريدا ما قيل‬ ‫عنه في الآتي‪\" :‬إ َّنه شيطان‪ ،‬وفوضوي في زاوية الشارع‪ ،‬يقول بالنسبية‪ ،‬والذاتية‪ ،‬وهو‬ ‫عدمي‪ ،‬ومح ِّطم للأعراف والمؤسسات‪ ،‬وللمعتقدات والقيم‪ ،‬مهمته السخرية من الفلسفة‬ ‫والحقيقة‪ ،‬وتفكيك كل ما جاءت به الأنوار‪ ،‬ليستبدل بكل ذلك رواية وحشية دون معنى‪،‬‬ ‫ودون مسؤولية‪(((\".‬‬ ‫وقد درس حمودة في كتابه \"المرايا ال ُمح َّدبة\" دراسة مستفيضة ك ّ ًل من البنيوية‬ ‫والتفكيكية في مرجعيتها الغربية ونسختها العربية‪ ،‬وتو َّصل إلى أ َّن الهدف من البنيوية‬ ‫كان في البداية \"إنارة النص‪ ،‬ولك َّن ذلك ما لم يتحقق‪ \".‬وبدلاً من \"مقاربة\" النص أو‬ ‫\"إنارته\" استعملت البنيوية لغة نقدية مراوغة حجبت النص‪ ،‬وفشلت في تحقيق الدلالة‬ ‫أو المعنى‪\" .‬لقد انشغلوا في حقيقة الأمر بآلية الدلالة‪ ،‬ونسوا ماهية الدلالة‪ ،‬انهمكوا في‬ ‫تحديد الأنساق والأنظمة وكيف تعمل‪ ،‬وتجاهلوا أل \"ماذا يعني النص\" (ث َّم اكتشفوا) بعد‬ ‫‪(1) Strick, Simon. \"Structuralism/Deconstruction\" in Antje Dallmann Eva Boesenbery and‬‬ ‫;‪Martin Klepper (Editors), Approaches to American Cultural Studies. London: Routledge‬‬ ‫‪1 edition, 2016, P.154.‬‬ ‫‪(2) Caputo, J. D. (Editor) Deconstructing in a Nutshell. A Conversation with Jacques Derrida,‬‬ ‫‪New York: Fordham University Press, 1997, p. 36.‬‬ ‫‪560‬‬

‫فوات الأوان أ َّن النموذج اللغوي لا ينطبق بالضرورة على الأنساق أو الأنظمة غير اللغوية‪،‬‬ ‫وتح َّول البنيويون في نهاية الأمر إلى سجناء للغة‪(((\".‬‬ ‫\"أ ّما استراتيجية التفكيك فقد تأ َّسست على رفض علمية النقد‪ ،‬والشك في كل الأنظمة‬ ‫والقوانين والتقاليد‪ ،‬والتح ُّول إلى لا نهائية المعنى‪ ...‬واستبدل التفكيكيون بالنموذج ذاتية‬ ‫القراءة‪ ،‬والتم ُّرد على نهائية النص أو إغلاقه‪ ،‬ث َّم إنهم أيض ًا استبدلوا بـ\"علمية النقد\" \"أدبية‬ ‫اللغة النقدية\"‪ .‬وهكذا أضافوا إلى فوضى الدلالة ‪-‬بسبب اللعب ال ُح ِّر للعلامة‪ ،‬والبين‪-‬‬ ‫نصية‪ ،‬والانتشار‪ ،‬وغياب المركز المرجعي‪ ،‬بل اختفاء التفسيرات الموثوقة والأثيرة‪ -‬لغة‬ ‫نقدية تتع َّمد لفت النظر إلى نفسها بعيد ًا عن النص‪ .‬وفي نهاية المطاف وصل التفكيكيون‬ ‫إلى نفس ما انتهى إليه البنيويون‪ ،‬وهو حجب النص‪(((\".‬‬ ‫وقد ربط بعض الباحثين بين البنيوية ونظرية النَّ ْظم عند عبد القاهر الجرجاني في‬ ‫\"دلائل الإعجاز\"‪ ،‬ولك َّن هذه النظرية شيء مختلف عن البنيوية؛ ذلك أ َّن النَّ ْظم عنده \"أ ْن‬ ‫تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه \"علم النحو\"‪ ،‬وتعمل على قوانينه وأصوله‪ ،‬وتعرف‬ ‫مناهجه التي ُن ِهجت فلا تزيغ عنها‪ ،‬وتحفظ الرسوم التي ُر ِسمت لك فلا ُت ِخ ُّل بشيء منها‪\".‬‬ ‫و\"لا نعلم شيئ ًا يبتغيه الناظم بنَ ْظمه غير أ ْن ينظر في وجوه كل باب وفروقه‪ ،‬فيعرف لك من‬ ‫ذلك موضعه‪ ،‬ويجيء به حيث ينبغي له‪ ... .‬وهذا هو السبيل‪ ،‬فلست بواجد شيئ ًا يرجع‬ ‫صوابه إ ْن كان صواب ًا‪ ،‬وخطؤه إ ْن كان خط ًأ إلى النَّ ْظم‪(((\".‬‬ ‫أ ّما البنيوية فهي تقوم على عزل النص عن المؤ ِّلف‪ ،‬وك ِّل ما يخت ُّص بالمؤ ِّلف من‬ ‫تاريخ وفكر‪ ،‬وما يرمي إليه المؤ ِّلف من َغ َرض‪ ،‬وما يصاحب التأليف والمؤ ِّلف من‬ ‫ظروف ومؤ ِّثرات‪ .‬وتكون معاني النص متعددة مختلفة باختلاف القارئ له‪ ،‬ولا مانع من‬ ‫أ ْن تتناقض أشد التناقض‪ ،‬وبذلك لا يكون لدلالة النص أ َّية مرجعية‪.‬‬ ‫((( حمودة‪ ،‬عبد العزيز‪ .‬المرايا المحدبة‪ :‬من البنيوية إلى التفكيك‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة رقم (‪ ،)232‬الكويت‪:‬‬ ‫المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب‪ ،‬أبريل ‪1998‬م‪ ،‬ص‪.7‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.8‬‬ ‫((( الجرجاني‪ ،‬عبد القاهر بن عبد الرحمن (توفي‪474 :‬ﻫ)‪ .‬دلائل الإعجاز‪ ،‬قرأه وع َّلق عليه‪ :‬محمود محمد شاكر‪،‬‬ ‫القاهرة‪ :‬مكتبة الخانجي‪1404( ،‬ﻫ‪1984/‬م)‪.‬‬ ‫‪561‬‬

‫وقد رأينا أ َّن \"البنائية\" كانت مصطلح ًا خاص ًا بعملية التع ُّلم البشري‪ ،‬ط َّوره جان بياجيه‬ ‫في محاولة لوصف ما يحصل عند الفرد من عملية تع ُّلم‪ ،‬وما قد يكون لذلك من تطبيقات‬ ‫في أساليب التعليم‪ .‬ولك َّن هذه التطبيقات لم تأخذ بالحسبان أ َّن ال ُمتع ِّلم في المدرسة لا‬ ‫يكون وحيد ًا‪ ،‬وإ َّنما هو جزء من بنية اجتماعية لها قدر كبير من الاعتبار‪ .‬وهناك أنواع من‬ ‫المعلومات المهمة التي يحتاج الطالب أ ْن يتع َّلمها بصورة مباشرة‪ ،‬من قبيل المعطيات‬ ‫التقريرية‪ .‬والطلبة لا يتع َّلمون بطريقة واحدة؛ فالنظرية البنائية إ ْن كانت تف ِّسر بعض جوانب‬ ‫التع ُّلم‪ ،‬فإ َّنها تعجز عن تفسير جوانب ُأخرى‪.‬‬ ‫ول ّما جاءت البنيوية أساس ًا بصورة منهج في تحليل اللغة‪ ،‬فإ َّنه من ال ُمتو َّقع أ ْن تكون‬ ‫التطبيقات الأساسية لهذا المنهج‪ ،‬في المجال التربوي‪ ،‬في تع ُّلم اللغة وتعليمها‪ .‬بيد‬ ‫أ َّن اللسانيات البنيوية‪ ،‬اعتبار ًا من الخمسينيات‪ ،‬أصبحت موضوع ًا مزعج ًا‪ ،‬واع ُتبِرت‬ ‫مفاهيمها ض ِّيقة‪ ،‬ولا سيما بعد تط ُّور اللسانيات التوليدية‪ ،‬وما ق َّدمه نعوم تشومسكي فيها‪.‬‬ ‫ولأ َّن البنيوية سرعان ما تح َّولت إلى التفكيكية؛ فإ َّن التطبيقات التربوية سرعان ما تو َّجهت‬ ‫إلى التفكيكية؛ لما كان ُيتو َّقع أ ْن يكون لها صلة بالتربية؛ سواء فيما تبنيه من مرجعية فكرية‬ ‫عن أبنية العلوم المختلفة‪ ،‬أو عن المنطلقات الفكرية للتربويين وصلتها بأخلاقيات التربية‪،‬‬ ‫أو بالحالة النفسية والفكرية لل ُمتع ِّلمين‪.‬‬ ‫وفي مقدمة كتابهما عن دريدا والتعليم‪ ،‬لاحظ مح ِّررا الكتاب أ َّن أفكار دريدا‪ ،‬وهو‬ ‫الاسم الأكثر تمثيل ًا للتفكيكية‪ ،‬ولا سيما أفكاره ذات الصلة بالتعليم‪ ،‬قد وجدت مقاومة‪،‬‬ ‫وأ َّن كثير ًا من المتخ ِّصصين في فلسفة التربية والنظرية التربوية‪ ،‬ومتخ ِّصصي المناهج‬ ‫التربوية‪ ،‬قد كتبوا في دحض أفكاره‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن تلك الأفكار وجدت اهتمام ًا ليس‬ ‫قليل ًا؛ فقد اع ُت ِمدت أفكار التفكيك في أقسام اللغة الإنجليزية تحت عنوان \"نظرية في‬ ‫القراءة والكتابة\"‪ ،‬وفي الممارسات التعليمية لموضوعات الأدب‪(((.‬‬ ‫وبصورة عامة‪ ،‬فإ َّن دريدا َي ُع ُّد مشروعه في التفكيك مشروع ًا تربوي ًا في الأساس‪.‬‬ ‫فمثل ًا‪ ،‬عندما يطالِب بالنظر في حقل دراسي معين مثل الفلسفة‪ ،‬فإ َّنه يطالِب بخروج هذا‬ ‫‪(1) Egea-Kuehne , Denise. and Biesta, Get J. J. Derrida and Education, Op.Cit., p.2.‬‬ ‫‪562‬‬

‫الحقل من الجدران التي تضعها الدراسة التقليدية في الجامعات حوله‪ .‬فالفلسفة مثل ًا‬ ‫\"يجب أ ْن ُيس َمح لها أ ْن تقوم بمهمة أفضل في التفكير بنفسها‪ ،‬وعرض نفسها‪ ،‬وتعليم‬ ‫نفسها‪ ،‬وتطوير نفسها‪ .‬ور َّبما هو بالضبط ما يبني مشروعية الربط بين التربية والتفكيك؛‬ ‫لأ َّن هذه المشروعية تتأ َّسس على أ َّن سؤال التفكيك هو في الحقيقة سؤال التربية إذا فهمنا‬ ‫الصفة الإيجابية لطبيعة التفكيك‪ .‬فالمسألة ليست مسألة قواعد في الجملة اللغوية‪ ،‬التي‬ ‫تكون موضوع التعليم‪ ،‬وإ َّنما هي علاقة بالآخر الذي يتع َّلم‪ ،‬وكيف يتع َّلم‪ ،‬وهي مسألة‬ ‫تنقل عدد ًا كبير ًا من الأسئلة من مستوى التقنيات والإجراءات إلى الصلة العميقة بالمسائل‬ ‫الأخلاقية والسياسية ومصير الحياة والتاريخ والإنسانية؛ فالمعرفة الفلسفية تتخ َّلل جميع‬ ‫مجالات المعرفة‪(((.‬‬ ‫ومن الجدير بالذكر في نهاية الحديث عن مرجعيات الفكر التربوي الغربي أننا لم‬ ‫نحاول هنا أ ْن نستقصي جميع تج ِّليات المرجعية الغربية في الفكر التربوي‪ ،‬و ِم ْن َث َّم آثارها‬ ‫في الفكر التربوي بالمجتمعات الإسلامية؛ ف َث َّمة فلسفا ٌت ُأخرى تلتقي مع الفلسفات‬ ‫المشار إليها في بعض الخصائص‪ ،‬وتختلف عنها في غيرها‪ .‬ولك ْن‪ ،‬من المهم أ ْن نلاحظ‬ ‫أ َّن النُّ ُظم التربوية في الغرب الأوروبي والأمريكي يصعب تصنيفها في مدرسة واحدة من‬ ‫هذه المدارس‪ ،‬فنقول ‪-‬مثل ًا‪ -‬إ َّن النظام التربوي في أمريكا هو نظام حداثي‪ ،‬أو ما بعد‬ ‫حداثي‪ ،‬أو علماني‪ ،‬أو هيوماني؛ فك ُّل هذه الأوصاف موجودة مع ًا إلى ح ٍّد كبير‪ .‬ومع‬ ‫ذلك‪ ،‬فإ َّن من المهم كذلك أ ْن نحاول تمييز صفة جامعة لمرجعية الفكر التربوي الغربي‪.‬‬ ‫وما َي ُه ُّمنا في سياق الحديث عن الفكر التربوي الإسلامي هو صلة هذه المرجعية بالدين‬ ‫من خلال الصفة العلمانية‪ ،‬وصلة هذه المرجعية بنمط الحياة من خلال الصفة المادية‪.‬‬ ‫إ َّن محاولتنا تمييز عناصر المرجعية في الفكر الغربي بصورة عامة‪ ،‬والفكر التربوي‬ ‫الغربي بصورة خاصة‪ ،‬ليست محاولة لإيجاد قطيعة مع هذا الفكر‪ ،‬وإ َّنما هي محاولة لفهم‬ ‫تم ُّثلات هذه المرجعية في تفاصيل الفكر التربوي؛ في‪ :‬فلسفته‪ ،‬وسياساته‪ ،‬ومناهجه‪،‬‬ ‫‪(1) Cahen, Didier. \"Derrida and the question of education: a new space for philosophy\" in‬‬ ‫;‪Biesta, Gert J.H. & Egea-Kuehne, denise (Editors), Derrida & Education, London, UK‬‬ ‫‪Routledge International Studies in the Philosophy of Education, 2001. pp. 12-30.‬‬ ‫‪563‬‬

‫و ُن ُظم إدارته‪ ،‬وما يضعه من معايير الجودة ومؤ ِّشراتها‪ .‬فمثل هذا الفهم يساعدنا على‬ ‫تطوير مناهج التعامل مع هذا الفكر‪ ،‬والتفا ُعل مع أنظمته وخصوصياته‪ ،‬والآثار المتر ِّتبة‬ ‫على الاقتراض منه في سياساتنا وخططنا التربوية والتعليمية‪ ،‬وتعميق فهمنا للإشكالات‬ ‫التي يقيمها هذا الاقتراض أمام جهود الإصلاح التربوي في مجتمعاتنا‪ .‬فنحن نعيش في‬ ‫واقع عالمي شديد الوطأة‪ ،‬لا يسمح بتجاهل معطياته وعناصره‪ ،‬ولا تنفع فيه محاولات‬ ‫العزلة والانكفاء التي ينادي بها الضعفاء العاجزون‪.‬‬ ‫نأ ُمل أ ْن ُي ِعين وعينا بمرجعية الفكر التربوي المعاصر على تحديد ما يمكن فهمه‬ ‫من واقع الفكر التربوي الإسلامي المعاصر‪ ،‬ومن الطموح الذي نأ ُمل أ ْن ينتقل هذا‬ ‫الواقع إليه في انبثاقه من مرجعيته العليا‪ ،‬وإسهامه في إعادة بناء الشخصية الإسلامية‬ ‫والمجتمع الإسلامي والأُ َّمة الإسلامية؛ لتحقيق مراد الله سبحانه في إقامة العمران‬ ‫البشري على نور الوحي الإلهي والهدي النبوي‪ ،‬والحضور الفاعل في ساحة العا َلم‪،‬‬ ‫وترشيد الحضارة البشرية‪.‬‬ ‫والوضع الطبيعي أ ْن يكون لكل مجتمع مرجعي ُته التربوية التي تح ِّدد عناصر فكره‬ ‫التربوي الخاص به‪ ،‬وتبدأ المشكلة عندما يفتقد المجتمع هذه العناصر المم ِّيزة له‪،‬‬ ‫ويتخذ من الفكر التربوي الخاص بمجتمع آخر ماد ًة لتربية أبنائه‪ .‬فحين تتبنّى المجتمعا ُت‬ ‫الإسلامية الفك َر التربوي الغربي‪ ،‬فإ َّن من الطبيعي أ ْن ينشأ أبناؤها على قيم الفكر الغربي‬ ‫وأعرافه وتقاليده‪ ،‬وإذا بقي لدى أبنائها بق َّية من قيم الإسلام وأعرافه ‪-‬نتيجة عوامل تنشئة‬ ‫ُأخرى‪ -‬فإ َّنها تكون في حالة صراع وتنافس مع القيم الغربية‪ ،‬بحيث تتم َّزق معها شخصية‬ ‫الإنسان المسلم‪ ،‬وتضعف لديه مق ِّومات الهوية الإسلامية‪ ،‬أو تتلاشىى ملامحها‪.‬‬ ‫وتتع َّمق المشكلة عندما تجد صنّاع القرار السياسي في المجتمعات الإسلامية‪،‬‬ ‫وقيادات الفكر التربوي فيه‪ ،‬يتجاهلون مرجعية الفكر التربوي الغربي‪ ،‬أو ين ِكرونها‪،‬‬ ‫ويغ ّضون الطرف عن مظاهر تح ُّيز هذا الفكر‪ (((،‬ب ُحجج واهية‪ ،‬من مثل القول بأ َّن العلم لا‬ ‫((( ملكاوي‪\" ،‬التحيز في الفكر التربوي الغربي\"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.202-181‬‬ ‫‪564‬‬

‫دين له‪ ،‬ولا وطن‪ ،‬أو بأهمية التط ُّور واللحاق بالمتق ِّدمين‪ ،‬أو بضرورة التحديث والتنوير‬ ‫والخروج من حالة التخ ُّلف‪ ،‬أو بغير ذلك من ال ُمب ِّررات‪ ،‬التي كانت ُح َّج ًة لأنظمة الحكم‬ ‫بالعا َلم الإسلامي في ممارساتها طوال قرن من الزمن‪ ،‬ولم تكن نتيجتها إلا مزيد ًا من‬ ‫التخ ُّلف‪ ،‬والتبعية‪ ،‬وضياع الهوية‪ ،‬والعجز عن الحضور الفاعل في ساحة العا َلم‪.‬‬ ‫فمرجعيتنا في الإصلاح المنشود ليست التاريخ؛ لا تاريخنا‪ ،‬ولا تاريخ غيرنا‪،‬‬ ‫وإ ْن كان في التاريخ ِع َب ٌر‪ ،‬ولا ُب َّد أ ْن تكون هذه ال ِع َبر عنصر ًا من عناصر المرجعية‪...‬‬ ‫ومرجعيتنا ليست الواقع المعاصر لغيرنا‪ ،‬وإ ْن كان هذا الواقع المعاصر عامل ًا من عوامل‬ ‫الضغط والإلحاح‪َ ،‬يلزم أ ْن نتعامل معه بالطريقة المناسبة‪ ...‬إ َّن مرجعيتنا هي مجموعة‬ ‫المبادئ والقيم الحاكمة التي تش ِّكل هويتنا؛ فمن هذه المبادئ والقيم ننطلق‪ ،‬وإليها‬ ‫نأرز في كل عنصر من عناصر التخطيط لتغيير واقعنا ورسم مستقبلنا‪ ،‬وفي كل خطوة‬ ‫من خطوات السير في تنفيذ ذلك التخطيط‪.‬‬ ‫إ َّن مرجعيتنا هي الرؤية الكلية للعا َلم الطبيعي والاجتماعي والنفسي‪ ،‬والهوية المم ِّيزة‬ ‫لنا التي تش ِّكلها هذه المرجعية؛ فهي التي تح ِّدد‪َ :‬من نحن؟ وماذا نريد؟‬ ‫‪565‬‬

‫المبحث الثالث‬ ‫الوعي بقضية الإصلاح التربوي ومسؤوليات الأوساط التربوية‬ ‫أولاً‪ :‬حضور الرؤية الإسلامية في الإصلاح التربوي‪:‬‬ ‫شهد الثلث الأخير من القرن العشرين وعي ًا متزايد ًا بالحاجة إلى رؤية إسلامية في‬ ‫إصلاح التعليم العام والتعليم الجامعي‪ ،‬ولا سيما بعد هزيمة العرب عام ‪1967‬م‪ ،‬حيث‬ ‫تراجع ال َم ُّد القومي في معظم الأقطار الإسلامية‪ ،‬وظهرت حالة جديدة ُس ِّميت بالصحوة‬ ‫الإسلامية‪ ،‬و ُأن ِشئت بعض المؤسسات التربوية التي أخذت صبغة إسلامية ظاهرة‪ ،‬و ُع ِقد‬ ‫المؤتمر الأول للتعليم الإسلامي في مكة المكرمة عام ‪1977‬م‪ ،‬تلته مجموعة من‬ ‫المؤتمرات المتخ ِّصصة في إصلاح التعليم في عدد من الأقطار الإسلامية‪ .‬وكذلك ُأن ِشئ‬ ‫عدد من الجامعات الإسلامية‪ ،‬وظهرت حركة إسلامية المعرفة‪ ،‬التي أثارت الاهتمام‬ ‫بموضوع ازدواجية التعليم الديني والتعليم العلماني‪ ،‬ونقدت النظامين‪ ،‬ودعت إلى‬ ‫توحيدهما في العا َلم الإسلامي بنظام تكاملي‪ ،‬يجمع بين ما في النظامين من إيجابيات‪،‬‬ ‫ويتجنَّب ما فيهما من سلبيات‪ .‬وقد سادت حالة من التفاؤل بأ َّن الأُ َّمة َخ َط ْت خطواتها‬ ‫الأُولى في التو ُّجه الإسلامي‪.‬‬ ‫ولك ْن‪ ،‬لم تدم هذه الحالة طويل ًا؛ إذ تع َّرضت جهود الإصلاح في الرؤية الإسلامية‬ ‫لمضايقات‪ ،‬وتو َّقفت مساحة الحرية النسبية في النشاطات التربوية ذات الصبغة‬ ‫الإسلامية‪ ،‬ولجأت معظم الدول إلى الاستعانة بخبراء أجانب‪ ،‬وفتحت المجال على‬ ‫مصراعيه للتعليم الأجنبي المدرسي والجامعي‪ ،‬وتط َّورت مؤسسات الاعتماد العالمي‪،‬‬ ‫وضبط الجودة؛ ما جعل ميدان التعليم سوق ًا مفتوح ًا‪ ،‬ليس للنظريات والخبرات الأجنبية‬ ‫فحسب‪ ،‬بل للمرجعيات الفكرية المدعومة بالضغوط السياسية والمصالح التجارية‪.‬‬ ‫ولذلك‪ ،‬فإ َّننا نحتاج اليوم أكثر من أ ِّي يوم مضى إلى إرادة صادقة في النظر المست ِق ِّل‬ ‫لمصلحة مجتمعاتنا وأجيالنا‪ ،‬موقنين بأ َّن اعتماد مرجعيتنا الإسلامية سوف يص ِّوب المسيرة‬ ‫التربوية دون أ ْن تحرمنا الاستفاد َة من الخبرات والتجارب التربوية في عا َلم اليوم‪ .‬فالأخذ‬ ‫الأعمى بالمشورة الأجنبية في تطوير النُّ ُظم التربوية‪ ،‬واعتماد معاييرها‪ ،‬أفقد مجتمعاتنا‬ ‫‪566‬‬

‫ُفرص الإبداع في تطوير هذه النُّ ُظم بصورة تخدم المصالح الحقيقية لهذه المجتمعات‪،‬‬ ‫وتحفظ هويتها وتم ُّيزها‪ .‬وفي الوقت نفسه تكون نماذج هادية للمجتمعات الأُخرى‪،‬‬ ‫وبذلك تستعيد مجتمعاتنا كرامتها المهدورة بالتبعية والاستلاب الفكري والتربوي‪.‬‬ ‫إ َّن ميدان التربية والتعليم يع ُّج بالفلسفات والنظريات التي تتح َّدث عن مواصفات‬ ‫الإنسان‪ ،‬التي تسعى ك ُّل فلسفة أو نظرية إلى بنائه‪ ،‬وأصبحت المشكلة تتم َّثل في وضوح‬ ‫ما نريده لأنفسنا في ضوء واقعنا‪ ،‬وثقافتنا‪ ،‬ومجتمعاتنا‪ ،‬ومسؤوليتنا الحضارية‪ .‬ولع َّل‬ ‫من ُأولى الأولويات التي نقترح توجيه النظر إليها الوع َي بالأمانة التي ينبغي لل ُمر ّبين‬ ‫في المجتمعات الإسلامية‪ ،‬في مستويات التعليم المختلفة‪ ،‬أ ْن يحملوها‪ ،‬بعد أ ْن غابوا‬ ‫طويل ًا‪ ،‬أو ُغ ِّيبوا عن ميادين الاجتهاد والإبداع‪ .‬فغياب الإرادة السياسية‪ ،‬وإحجام‬ ‫الإدارات العليا عن إتاحة المجال للرؤى المستقلة‪ ،‬وغياب البيئة الحافزة إلى الاجتهاد‬ ‫والإبداع في تطوير الرؤى النظرية والتطبيقات العملية‪ ،‬ضمن الرؤية الإسلامية‪ ،‬وغير‬ ‫ذلك من ال ُمب ِّررات؛ لم يعد يرفع المسؤولية عن أحد‪.‬‬ ‫وقد أشرنا ‪-‬في أكثر من موضع في فصول هذا الكتاب‪ -‬إلى مسؤولية مف ِّكري الأُ َّمة‬ ‫تجاه الفكر التربوي السائد اليوم‪ ،‬والحضارة الإنسانية بصورة عامة‪ ،‬ونعود في هذا المقام‬ ‫لنؤ ِّكد أ َّن الفكر التربوي البشري يحتاج إلينا أكثر بكثير م ّما نحتاج إليه‪ ،‬لسببين؛ أولهما أ َّن‬ ‫مادة هذا الفكر في سياقاتها النظرية وممارساتها العملية حاضرة في حياتنا‪ ،‬وثانيهما أ َّن ما‬ ‫لدينا من الطاقات الفكرية الكامنة ليس معروف ًا عند غيرنا‪ ،‬وليس حاضر ًا في ممارساتنا‪.‬‬ ‫و ِع ْبرة التاريخ شاهدة على فقه التفا ُعل الحضاري؛ إذ يسير اتجاه التفا ُعل من مجال ال ِغنى‬ ‫إلى مجال الفقر‪ .‬فعندما كانت ُأ َّمتنا غنية فكري ًا وحضاري ًا‪ ،‬حتى في حالات ضعفها سياسي ًا‪،‬‬ ‫كانت الأمم تقف منها موقف ال ُمتع ِّلم‪.‬‬ ‫وتظهر الأمانة التي يتع َّين على قادة الفكر التربوي الإسلامي أ ْن يحملوها في النظر‬ ‫إلى موقع الرؤية الكلية التي تضع الموضوعات والعناصر التفصيلية في إطار كلي‪ُ ،‬ي ِعين‬ ‫على تحديد التأثيرات المتبادلة فيما بين هذه العناصر‪ ،‬وعلاقاتها ببعضها‪ ،‬وبالمجموع‬ ‫الكلي‪ .‬وإعمال هذه الرؤية الكلية هو الذي يتيح المجال للنظر في الموضوعات والقضايا‬ ‫التفصيلية‪ ،‬ووضع ك ٍّل منها في الموضوع المناسب‪ ،‬من حيث‪ :‬درجة الاهتمام‪ ،‬وطريقة‬ ‫التعامل‪ ،‬والتوظيف؛ فالقضايا والموضوعات التربوية ليست على درجة واحدة في ذلك‪.‬‬ ‫‪567‬‬

‫فمن القضايا الكبيرة على سبيل المثال طبيع ُة الإنسان الذي هو محور العملية التربوية‪،‬‬ ‫وذلك في ُب ْعده الإنساني والدولي والمحلي‪ ،‬وفي جوانبه النفسية والعقلية‪ ،‬والمادية‬ ‫والروحية‪ ،‬والفردية والاجتماعية‪ .‬ومن عناصر الأمانة التي يتع َّين على النخبة التربوية‬ ‫الإصلاحية مراعاتها الوع ُي بطبيعة المعرفة التربوية؛ فكثير من المادة المعرفية هي في‬ ‫مستوى مح َّدد من التط ُّور‪ ،‬وما يرد في المناهج التربوية من معرفة ر َّبما لا يكون في سقفه‬ ‫المعرفي المعاصر‪ ،‬وقد يكون ُمح َّمل ًا بالخطأ والوهم وفقدان الاتجاه‪ .‬ولذلك يجب أ ْن‬ ‫نـمتلك من المعايير ما يصلح لفحص المعرفة‪ ،‬وتصفيتها‪ ،‬وإعادة توجيه ما َيلزم منها‬ ‫لأغراضنا الفكرية والثقافية والاجتماعية‪.‬‬ ‫ويتض َّمن محتوى البرامج والمناهج التربوية موضوعات علمية معينة تستند إلى‬ ‫مرجعية فلسفية؛ ظاهرة‪ ،‬أو كامنة‪ .‬لذلك يحتاج قادة الفكر التربوي إلى الوعي بالمرجعية‬ ‫النظرية التي تستند إليها المناهج التربوية وموضوعاتها المختلفة‪ ،‬ث َّم تحديد الطريقة‬ ‫المناسبة للتعامل معها؛ فقد لا نجد مشكلة في الاستفادة من بعض نظريات علم النفس‬ ‫أو نظريات تصميم المناهج التربوية عند توافر الوعي المشار إليه‪ ،‬وهكذا الحال في سائر‬ ‫قضايا التربية والتعليم‪.‬‬ ‫إ َّن قضية الهوية في جهود الإصلاح التربوي والاجتماعي‪ ،‬في العا َلم الإسلامي‪،‬‬ ‫تختلط أحيان ًا بنظرة منغلقة على الذات‪ ،‬تحصر نفسية الإنسان المسلم‪ ،‬وتح ُّد من قدرته‬ ‫على التفا ُعل في بيئة العا َلم المعاصر‪ ،‬بالرغم من أ َّن هذه البيئة منفتِحة على الاختلاف‬ ‫والتباين والتع ُّدد‪ ،‬وتتيح للإنسان المسلم ُفرص ًا مهم ًة لأداء واجبه في توظيف هذه البيئة‬ ‫للتوا ُصل والتعا ُرف الذي يش ِّكل مقصد ًا من مقاصد التن ُّوع والاختلاف‪ .‬وخي ُر وسيل ٍة‬ ‫للتوفيق بين الهوية والانتماء من جهة‪ ،‬وتحقيق مقص ِد \"لتعارفوا\" على المستوى المحلي‬ ‫والعالمي من جهة ُأخرى‪ ،‬هي التربية بأوساطها ومراحلها المختلفة؛ فمسؤولية التربية هي‬ ‫إعداد الإنسان‪ :‬فرد ًا‪ ،‬ومجتمع ًا‪ ،‬ونوع ًا بشري ًا‪.‬‬ ‫ومع أ َّن هذا ال ُب ْعد العالمي في رسالة الإسلام كان واضح ًا منذ الأيام الأُولى لبدء نزول‬ ‫القرآن الكريم‪ ،‬وكان واضح ًا في الممارسة التربوية النبوية طوال فترة الرسالة؛ فقد غاب‬ ‫هذا ال ُب ْعد عن ممارسة المجتمع الإسلامي في بعض الظروف؛ لغلبة مبدأ التمايز‪ ،‬والحرص‬ ‫على نقاء الهوية‪ ،‬لا سيما في الأزمان التي يغلب عليها الصراع العسكري‪ .‬ونظر ًا لما شهده‬ ‫‪568‬‬

‫عا َلمنا المعاصر؛ من‪ :‬وسائل التوا ُصل والاتصال‪ ،‬والاعتماد المتبادل بين الشعوب والأمم؛‬ ‫فإ َّننا نرى أ َّن من واجب القادة التربويين توجيه مناهج التربية وممارساتها لتعميق الوعي‬ ‫بأهمية ال ُب ْعد العالمي للتربية‪ ،‬وما يتط َّلبه ذلك من التوا ُصل مع الآخر المصحوب بالثقة‬ ‫بالنفس‪ ،‬والاستعداد للعطاء‪ ،‬والتفا ُعل الإيجابي مع الآخر‪ ،‬من خلال الإيمان بأ َّن أصل‬ ‫العلاقة بالآخر هو السلام‪ ،‬والتعا ُون في تبادل المصالح والمنافع‪ ،‬والحرب هي الاستثناء‬ ‫في العلاقة بين الشعوب والأمم؛ ففي ظروف السلام وتبادل المصالح تتواف ُر ال ُفرص‬ ‫المناسبة لتمكين الآخر من فهم ما لدينا من الخير‪ ،‬وتصحيح التص ُّورات والمفاهيم الخطأ‬ ‫التي و َّلدتها ظروف الصراعات والحروب‪ .‬وهذه مسؤولية المسلم في الدنيا‪ ،‬أ ّما نتيجة‬ ‫ذلك في إيمان المؤمنين وكفر الكافرين فأمره إلى الله‪ ،‬وحسابه في الآخرة‪.‬‬ ‫إ َّن الرؤية الإسلامية الكلية للعا َلم تتصل اتصالاً وثيق ًا بالعلوم التربوية؛ فهي رؤية‬ ‫للإنسان الذي هو موضوع التربية في وجوده‪ ،‬وحياته‪ ،‬وبيئته التي يعيش فيها‪ .‬وتتصل هذه‬ ‫الرؤية بما تقتضيه من مبادئ اعتقادية‪ ،‬وأحكام جزئية‪ ،‬وقيم مقاصدية‪ .‬ويتم َّثل الجانب‬ ‫التطبيقي من العلوم التربوية في تدبير الحياة‪ ،‬ونظامها العام للمجتمع وفئاته وأفراده؛ فنظام‬ ‫الحياة في الدنيا هو الذي يح ِّقق أسباب السعادة في الدنيا والآخرة‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإ َّن من أهداف‬ ‫التربية ومقاصدها عند التربويين المسلمين الاهتمام بمقاصد الشرع التي تتح َّقق عن طريق‬ ‫العمل التربوي للأسرة والمؤسسات الأُخرى ذات الصلة المباشرة بالتربية والتعليم‪.‬‬ ‫ونحن نرى أ َّن هدف العلوم التربوية في الرؤية الإسلامية ‪-‬في نهاية المطاف‪ -‬هو‬ ‫تطوير الفكر التربوي الإسلامي الذي يم ِّثل فهم المجتمع المسلم لما َيلزم أ ْن يق ِّدمه لأبنائه‬ ‫في سائر المجالات التربوية؛ سواء أكان ذلك في تكوين الشخصية الإسلامية المتوازنة ذات‬ ‫الهوية المتم ِّيزة ضمن دوائر الانتماء الحضاري المتضامنة‪ ،‬أم في ميادين العلوم والمعارف‬ ‫الطبيعية والاجتماعية والتطبيقية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن في بناء الفكر التربوي الإسلامي أمر ًا لا‬ ‫يخت ُّص بالعلوم والمعارف نفسها وحسب‪ ،‬وإ َّنما يخت ُّص بالإضافة إلى ذلك بالطريقة التي‬ ‫يكتسب فيها الإنسان المسلم هذه المعارف‪ ،‬وأساليب اختبارها‪ ،‬وميادين توظيفها في تطوير‬ ‫حياته وحياة مجتمعه‪ .‬إ َّنها التربية الفكرية التي ُت َع ُّد أهم مجالات التربية التي لا ُب َّد أ ْن تتو ّلها‬ ‫المؤسسات التربوية في المجتمع؛ إ َّنها تنمي ُة فِ ْع ِل التفكير‪ ،‬بحث ًا عن الحقيقة‪ ،‬بالأساليب‬ ‫المناسبة المؤدية إليها‪.‬‬ ‫‪569‬‬

‫وتأتي أهمية الاهتمام بالتربية الفكرية في الرؤية الإسلامية‪ ،‬في هذا الوقت؛ لأ َّن بعض‬ ‫الفئات الإسلامية المعاصرة وقعت فيما وقعت فيه فئات إسلامية قديم ًا من انحرافات فكرية‪،‬‬ ‫تخت ُّص بفهم نصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية‪ ،‬وفهم بعض محطات التجربة التاريخية‬ ‫للمجتمع الإسلامي‪ ،‬والخلط بين الفكر العلمي والفكر الخرافي‪ ،‬وبين الفكر المقاصدي‬ ‫السنني والفكر المزاجي العبثي‪ ،‬والعجز عن التوظيف المشروع للاجتهاد والتجديد في‬ ‫الفهم الإسلامي للواقع المعاصر‪ ،‬بما يموج به من أفكار وأحداث‪ ،‬داخل المجتمعات‬ ‫الإسلامية‪ ،‬وفي المجتمعات الأُخرى‪ .‬وقد أ ّدى هذا الخلل إلى ضع ٍف َب ِّي ٍن في الانطلاق‬ ‫والممارسة الحضارية‪ ،‬وفي دور الفكر الإسلامي في المشاركة الفاعلة على مختلف ال ُّص ُعد‪.‬‬ ‫والحديث عن التربية الفكرية لا يعني عدم الحاجة إلى الاهتمام بأنواع التربية‬ ‫الأُخرى‪ .‬ولا يعني كذلك أ َّنها تربية مستقلة ومنفصلة على أنواع التربية الأُخرى؛ فالإنسان‬ ‫هو الإنسان بجسمه‪ ،‬وعقله‪ ،‬وروحه‪ ،‬وعلاقاته ب َر ِّبه ومجتمعه وبيئته‪ .‬ولك َّن التنويه بهذه‬ ‫التربية هو وسيل ٌة لتيسير دراسة الموضوع‪ ،‬والكشف عن أهميته‪ ،‬وتناول عناصره بقدر من‬ ‫العمق والتفصيل‪.‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬صورة الواقع والتغ ُّير المنشود‪:‬‬ ‫إذا رسمنا أ َّية صورة لواقع الفكر التربوي القائم في المجتمعات الإسلامية‪ ،‬فإ َّنها‬ ‫لن تكون صور ًة ثابت ًة‪ ،‬وإ َّنما ستتغ َّير على الدوام‪ ،‬تحت تأثير ظروف ذاتية‪ ،‬وموضوعية‪،‬‬ ‫ومحلية‪ ،‬وخارجية‪ .‬بيد أ َّن كثير ًا من التغيير الذي يتم بين الحين والآخر لا يغ ِّير كثير ًا‬ ‫من الملامح العامة للواقع التربوي‪ ،‬وإ َّنما يكون التغيير في جزئيات وتفاصيل وفروع‪،‬‬ ‫ويكون الدافع إلى ذلك هو التأ ُّثر بما يطرأ في الخارج‪ ،‬أو الاستجابة لضغوطه‪ ،‬وتبقى‬ ‫الحالة الفكرية من دون تغيير حقيقي‪ .‬أ ّما الوضع المنشود فإ َّنه يحتاج إلى جهود في‬ ‫التغيير والتجديد والإصلاح من نوع يختلف عن عوامل التغيير المشار إليها‪ .‬فوظيفة‬ ‫الفكر التربوي في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة ‪-‬في واقع الأمر‪ ،‬للأسف الشديد‪ -‬هي‬ ‫تكريس واقع هذه المجتمعات‪ ،‬لا تغييرها‪ ،‬وهذه هي المشكلة الأساسية في هذا الفكر!‬ ‫إ َّن التغيير المنشود ليس تعديلات تفصيلية في جزئيات النظام التربوي‪ ،‬بل تغييرات‬ ‫جوهرية في النظام التربوي بجميع عناصره ومك ِّوناته؛ تغييرات يتبنّاها المجتمع‪ ،‬ليكون‬ ‫فيها الإصلاح التربوي وسيل ًة لبناء مجتمع جديد‪.‬‬ ‫‪570‬‬

‫والصور البائسة لحالة تخ ُّلف الواقع التربوي‪ ،‬والغياب المذهل لمرجعية الفكر‬ ‫التربوي الإسلامي‪ ،‬والتماهي مع متط َّلبات العولمة‪ ،‬وأثر ذلك كله في وسائط التربية في‬ ‫حياتنا المعاصرة (الأسرة‪ ،‬والمدرسة‪ ،‬والإعلام)؛ كلها مؤ ِّشرات لحجم الجهد اللازم‬ ‫بذله في الإصلاح التربوي المنشود‪ .‬وهذا الإصلاح هو منظومة متكاملة‪ ،‬تعتمد منهجية‬ ‫التكا ُمل المعرفي بوصفها إطار ًا مرجعي ًا إسلامي ًا لمنهجية الإصلاح التربوي‪ ،‬وسبيل ًا‬ ‫لإصلاح واقع المجتمعات الإسلامية‪.‬‬ ‫ويتل َّخص التغيير الذي يجري الحديث عنه ‪-‬في كثير من الأحيان‪ -‬في الإشارة‬ ‫إلى نوعين من السعي الإصلاحي؛ الأول‪ :‬العودة إلى توجيهات الوحي وخبرة التراث‬ ‫الإسلامي؛ فمنهما‪ ،‬وفيهما‪ ،‬كان التم ُّيز الذي ح َّققته المجتمعات الإسلامية في سابق‬ ‫إسهاماتها الحضارية‪ .‬والثاني‪ :‬اللحاق بالمجتمعات التي تق َّدمت‪ ،‬وأحرزت من الإنجازات‬ ‫الحضارية المعاصرة ما لا نملك إلا المضي لتحقيقه في مجتمعاتنا المعاصرة‪.‬‬ ‫ونحن نفهم منهجية التكا ُمل المعرفي من طريقة بحثنا عن المعرفة المنشودة لتحقيق‬ ‫الإصلاح؛ فهي في هذه المنهجية تعتمد المصادر الأربعة التي نؤ ِّكدها دائم ًا‪ :‬القرآن الكريم‬ ‫بوصفه المصدر الأصلي الـ ُمن ِشئ للفكر في الرؤية الإسلامية؛ وال ُّسنة النبوية بوصفها‬ ‫المصدر الـ ُمب ِّين للقرآن الكريم‪ ،‬والتنزيل العملي لأحكامه وتوجيهاته في الزمان والمكان‬ ‫والحال؛ والتراث الإسلامي الذي يم ِّثل عطاء العلماء المسلمين في فهم توجيهات القرآن‬ ‫الكريم وال ُّسنة النبوية‪ ،‬والخبرة البشرية للمجتمع الإسلامي في تنزيل هذا الفهم الواقع في‬ ‫مح ِّدداته الزمانية والمكانية؛ وأخير ًا الخبرة البشرية التي يحياها العا َلم المعاصر‪ ،‬ونحياها‬ ‫مع هذا العا َلم في مجتمعاتنا الإسلامية‪ .‬ونحن نستمد فكرنا من هذه المصادر بوسيلتين؛‬ ‫الأُولى‪ :‬العقل البشري الذي ُيع ِمل الفكر في هذه المصادر المشار إليها‪ ،‬والثانية‪ :‬رصد‬ ‫المشاهدات والتجارب العملية المحسوسة التي عرفها العا َلم المعاصر‪ ،‬واستلهام‬ ‫نجاحاتها المادية والمعنوية للإفادة منها‪.‬‬ ‫ومن ال ُمؤ َّكد أ َّننا لا نستطيع استعادة حالة تاريخية مهما كانت عظمتها؛ فنحن لا نعيش‬ ‫في العا َلم وحدنا‪ ،‬ولا نملك أ ْن نتجاهل طبيعة المجتمع المعاصر‪ ،‬ومتط َّلباته‪ ،‬واختلافه‬ ‫الكبير عن طبيعة المجتمعات في حقب زمنية سابقة‪ ،‬ولا الإكراهات والضغوط التي‬ ‫‪571‬‬

‫يمارسها النظام العا َلمي المعاصر‪ .‬ويعجب ابن عاشور ِمن أ َّن َمن يشعر بالخلل في أحوال‬ ‫التعليم‪ ،‬ويق ِّدم النصح بضرورة الإصلاح والتجديد بما يناسب طبيعة العصر ومتط َّلباته‪،‬‬ ‫يجد طوائف من الناس َتنسب إليه سوء المقصد؛ أي للناصح‪ ،‬وتناظره بأ َّن المنهج الذي‬ ‫سار عليه أسلافنا كفيل بالإصلاح؛ فذلك المنهج \"قد أوصل أسلافنا إلى أعلى مرتقى‬ ‫من النجاح‪ ،‬وأ َّنه قد أنجب أساطين للعلم‪ ،‬طبقت شهر ُتهم الآفاق‪ .‬ور َّبما ر َّوجوا بهذه‬ ‫المقدمات الخطابية أو السفسطائية قناع ًة في أنفسهم‪ ،‬وإقناع ًا للدهماء‪ ،‬وك ُّلهم غافلون أو‬ ‫متغافلون عن اختلاف العصور والأجيال‪ ،‬ذلك الاختلاف الذي تغ َّيرت به الأساليب‪(((\".‬‬ ‫أجل‪ ،‬إ َّن بناء المستقبل انطلاق ًا من إصلاح الحاضر‪ ،‬هو حركة إلى الأمام‪ ،‬ولا يكون‬ ‫ذلك بالحركة إلى الماضي‪ ،‬والرجوع إلى الخلف‪.‬‬ ‫ومن ال ُمؤ َّكد كذلك أ َّننا لا نستطيع اللحاق بمجتمعات أحرزت نجاحات ُمق َّدرة إذا‬ ‫أردنا أ ْن نسير خلفها‪ ،‬ونقتفي آثارها؛ فالمسافة بيننا وبين تلك المجتمعات كبيرة‪ ،‬والتغ ُّير‬ ‫الذي يحدث في مجتمعاتنا يسير ببطء شديد‪ ،‬ويتع َّثر في كل خطوة‪ ،‬والتغ ُّير الذي يتم في‬ ‫المجتمعات المتق ِّدمة سريع جد ًا؛ فالمسافة بين مجتمعاتنا وتلك المجتمعات تزداد كل‬ ‫يوم‪ .‬فأ َّنى يكون اللحاق؟! وقد تم َّثل ابن عاشور‪ ،‬في فكرة اللحاق‪ ،‬بقول الزمخشري‪(((:‬‬ ‫يا َم ْن ُيحا ِو ُل بِالأَ َماني ُر ْت َبتي َك ْم َب ْي َن ُمنْ َخ ِفـ ٍض َوآ َخ َر َرا ِقي‬ ‫َأ َأبِي ُت َل ْي ِلي َسا ِهـر ًا َو ُتضي ُعه َن ْوم ًا‪َ ،‬و َت ْأ ُم ُل َب ْع َد ذا َك لـِ َحا ِقي‬ ‫ولذلك لا يفيدنا كثير ًا أ ْن نقول إ َّن الإصلاح يمكن أ ْن يتم بـ\"العودة\" إلى ما كنّا عليه‬ ‫في العصر الذهبي لحضارة الإسلام‪ ،‬أو بالسير خلف َمن سبقنا‪ ،‬واقتفاء أثره‪ .‬فالسعي في‬ ‫طريق الإصلاح هو سعينا نحن‪ ،‬في مكاننا وزماننا‪ ،‬لنح َّل مشكلاتنا نحن‪ ،‬لا مشكلات‬ ‫القرن الهجري الرابع أو الخامس‪ ،‬ولا مشكلات المجتمعات الأُخرى التي سبقتنا‪ .‬ومع‬ ‫ذلك‪ ،‬فإ َّن من الضروري استيعاب خبرة التراث والخبرة المعاصرة‪ ،‬ث َّم تجاوز كل ذلك‬ ‫((( ابن عاشور‪ ،‬أليس الصبح بقريب؟ التعليم العربي الإسلامي‪ :‬دراسة تاريخية وآراء إصلاحية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.104‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫‪572‬‬

‫إلى \"إبداع\" مسارات إصلاحية جديدة ومتج ِّددة خاصة بنا‪ ،‬ولكنَّها ‪-‬في نهاية المطاف‪-‬‬ ‫ستكون خبرة متم ِّيزة تح ِّقق لنا أهدافنا‪ ،‬وستكون خبرة متم ِّيزة ترى فيها المجتمعات‬ ‫الأُخرى من الفرادة والفاعلية ما َيلفت انتباه هذه المجتمعات للاستفادة منها‪.‬‬ ‫إ َّن الإصلاح التربوي مشروع عام لا يقتصر الرأ ُي والعلم في متط َّلباته على‬ ‫المتخ ِّصصين في التربية؛ فالمسألة هي تغيير في النفوس‪ ،‬وفي واقع المجتمع‪ .‬وعلماء‬ ‫النفس وعلماء الاجتماع لهم دور كبير في هذا المجال‪ ،‬والمسألة ‪-‬في نهاية المطاف‪ -‬هي‬ ‫تدبير سياسي؛ سواء كان الأمر قرار ًا سياسي ًا‪ ،‬أو مواجه ًة لقرار سياسي‪.‬‬ ‫ولا نستطيع أ ْن نن ِكر أ َّن جهود ًا مختلف ًة ُتب َذل بين الحين والآخر في البلدان العربية‬ ‫والإسلامية بهدف الإصلاح التربوي‪ ،‬استناد ًا إلى مرجعيات فكرية أحيان ًا‪ ،‬وإلى ضغوط‬ ‫سياسية‪ ،‬أو اقتصادية محلية‪ ،‬أو أجنبية في معظم الأحيان‪ .‬والمشكلة أ َّن الفكر التربوي‬ ‫المراد تطويره من أجل تحقيق الإصلاح ق َّلما ينطلق من رؤية العا َلم الإسلامية‪ ،‬حتى‬ ‫نستطيع أ ْن َن َّدعي أ َّننا نتح َّدث عن فكر تربوي إسلامي‪ ،‬أو أ ْن نسعى إلى الإصلاح التربوي‬ ‫برؤية إسلامية‪ ،‬أو بمرجعية إسلامية‪ .‬ومن ال ُمؤ َّكد أ َّن المرجعية الدينية الإسلامية‪،‬‬ ‫الحاضرة اليوم في مناهج التعليم المدرسي باسم \"التربية الإسلامية\"‪ ،‬وفي برامج كليات‬ ‫الشريعة ومناهجها في الجامعات؛ لا أثر لها في دراسة العلوم الأُخرى التي تنطلق غالب ًا‬ ‫من مرجعية غير إسلامية‪ ،‬مع العلم بأ َّن تعليم العلوم الدينية في المدارس والجامعات هو‬ ‫موضوع نقد شديد من جهات مختلفة‪ ،‬ولأغراض مختلفة‪.‬‬ ‫إذن‪ ،‬لن يتح َّقق أ ُّي إصلاح حقيقي في التربية والتعليم‪ ،‬يتناسب مع الواقع المعاصر‬ ‫في العا َلم العربي والإسلامي‪ ،‬ما دامت ِقبلة التغيير والتطوير هي الغرب؛ بفلسفاته‪،‬‬ ‫ونظرياته‪ ،‬وممارساته‪ ،‬وما دامت جهود التغيير تتم تحت ضغوط سياسية واقتصادية تتغ َّير‬ ‫اتجاهاتها‪ ،‬وتتب َّدل مقاصدها‪.‬‬ ‫ولك ْن‪ ،‬كيف سيكون الاستئناف الحضاري لل ُأ َّمة الإسلامية من غير التربية والتعليم؟‬ ‫وإذا كانت الأُ َّمة في حالة من التيه والضلال‪ ،‬فهل يمكن لها أ ْن تخرج من هذه الحالة بغير‬ ‫‪573‬‬

‫التربية والتعليم؟ لقد ب َّين القرآن الكريم كيف كان منهج النبي ﷺ في نقل الأُ َّمة من الضلال‬ ‫إلى العلم والتزكية والحكمة‪ ،‬بأربع آيات َتك َّرر معناها‪ ،‬لتضيف كل آي ٍة جديد ًا إلى المعنى‪.‬‬ ‫فالأُ َّمة كانت ُأ ِّمية‪ ،‬بكل معاني الأُ ِّمية العلمية والحضارية‪َ ،‬ف َص َد َق وص ُفها بالضلال‬ ‫المبين‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ‬ ‫ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ﴾ [الجمعة‪.]2:‬‬ ‫والرسول الذي قام بالإصلاح هو واح ٌد من أبناء الأُ َّمة‪ ،‬وليس من غيرها‪ .‬قال تعالى‪:‬‬ ‫﴿ﭣ ﭤ﴾ [الجمعة‪ ،]2:‬وقال سبحانه‪﴿ :‬ﯚ ﯛ﴾ [البقرة‪ ،]151:‬وقال ع َّز وج َّل‪:‬‬ ‫﴿ َر ُسولاً ِم ْن أ ْن ُف ِس ِه ْم﴾ [آل عمران‪.]164:‬‬ ‫وهو مر َس ٌل \"فيهم\"‪ ،‬وليس \"لهم\"؛ لأ َّن رسالته عامة‪ ،‬وليست خاصة بقومه كما كان‬ ‫الرسل السابقون‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾ [البقرة‪ ،]129:‬وقال سبحانه‪:‬‬ ‫﴿ﯗﯘﯙﯚﯛ﴾ [البقرة‪ ،]151:‬وقال ع َّز وج َّل‪﴿ :‬ﯨﯩﯪﯫﯬ‬ ‫ﯭ﴾ [آل عمران‪ ،]164:‬وقال ع َّز من قائل‪﴿ :‬ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ﴾ [الجمعة‪.]2:‬‬ ‫والرسول مر َس ٌل من الله سبحانه؛ رحم ًة بهذه الأُ َّمة التي تستدعي شعورها بمنَّة الله‬ ‫عليها‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ﴾ [آل عمران‪.]164:‬‬ ‫ومنهج الإصلاح كان منهج ًا تربوي ًا يتض َّمن خمسة عناصر‪ ،‬لم يكونوا يعلمون شيئ ًا‬ ‫منها‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬ﯗﯘﯙﯚﯛ ﯜﯝﯞﯟﯠ‬ ‫ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ﴾ [البقرة‪ .]151:‬فقوله سبحانه‪﴿ :‬ﯜﯝﯞ﴾‬ ‫يعني‪ :‬يقرأ عليكم القرآن‪ ،‬وقد س ّماه أولاً آيا ٍت باعتبار أ َّن كل كلام منه معجزة‪ ،‬وس ّماه ثاني ًا‬ ‫كتاب ًا باعتبار كونه كتاب شريعة‪.‬‬ ‫﴿ﯟ﴾؛ التزكية‪ :‬تطهير النفس‪ ،‬وهي مشتقة من الزكاة؛ أ ِي النماء؛ لأ َّن في‬ ‫أصل خلقة النفوس كمالا ٍت وطهارا ٍت تعترضها أرجاس ناشئة عن ضلال أو تضليل‪.‬‬ ‫فتهذيب النفوس وتقويمها يزيدها من ذلك الخير المودع فيها‪.‬‬ ‫﴿ﯠﯡ ﯢ﴾؛ أ ْي يع ِّلمكم الشريعة؛ فالكتاب هنا هو القرآن‬ ‫الكريم باعتبار أ َّنه كتاب تشريع‪ ... ،‬ويع ِّلمكم أصول الفضائل؛ فالحكمة هي التعاليم‬ ‫المانعة من الوقوع في الخطأ والفساد‪.‬‬ ‫‪574‬‬

‫﴿ﯣﯤﯥﯦﯧ﴾‪ :‬تعميم لكل ما كان غير شريعة‪ ،‬ولا حكمة؛ من‪ :‬معرفة‬ ‫أحوال الأمم‪ ،‬وأحوال سياسة الدول‪ ،‬وأحوال الآخرة‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬وإ َّنما أعاد قوله‪:‬‬ ‫﴿ﯣ﴾ مع صحة الاستغناء عنه بالعطف تنصيص ًا على المغايرة؛ لئلا ُيظن أ َّن ﴿ﯤﯥ‬ ‫ﯦﯧ﴾ هو الكتاب والحكمة‪(((.‬‬ ‫ثالث ًا‪ :‬بناء الوعي بواقع الفكر التربوي المعاصر ومنطلقات إصلاحه‪:‬‬ ‫‪ .1‬الوعي بالواقع التربوي؛ مفهومه‪ ،‬وأهميته‪:‬‬ ‫الوعي بالواقع حال ٌة تصف الإنسان الذي يتصف بهذا الوعي بأ َّنه يحيط بالواقع‪ ،‬ويم ِّيز‬ ‫عناصره‪ ،‬ومك ِّوناته‪ ،‬والعلاقات القائمة بينها‪ ،‬والمؤ ِّثرات التي تؤ ِّثر فيها‪ ،‬ويدرك حاجة هذا‬ ‫الواقع إلى التغيير والإصلاح‪ .‬ونحن نحتاج إلى الوعي بالواقع في ميادينه المختلفة؛ ف َث َّمة‬ ‫واق ٌع سياسي‪ ،‬وواقع اقتصادي‪ ،‬وواقع تربوي‪ ،‬وهكذا‪ .‬إذن‪ ،‬فالوعي وص ٌف لحالة الإنسان‬ ‫الواعي بذاته‪ ،‬وبما يحيط به‪.‬‬ ‫والوعي في اللغة هو‪ :‬الجمع‪ ،‬والفهم‪ ،‬والحفظ؛ فالأُ ْذن الواعية التي ورد ذكرها في‬ ‫القرآن الكريم ليست الأُ ْذن التي أح َّست بالأصوات إحساس ًا مادي ًا‪ ،‬وإ َّنما هي الأُ ْذن التي‬ ‫فهمت وعقلت ما سمعت‪ ،‬ث َّم انفعلت به‪ ،‬وانتفعت به‪ (((.‬فصيوان ا ُلأ ْذن َيـجمع الأمواج‬ ‫الصوتية الواردة إليه من مصدرها‪ ،‬ويو ِّجهها إلى مركز الفهم والإدراك لدلالة الصوت‬ ‫ومعناه‪ ،‬ويتفاعل مع هذا المعنى تأ ُّثر ًا وتأثير ًا‪ ،‬ث َّم يحتفظ الإنسان في ذاكرته بهذا الحدث‪،‬‬ ‫وما كان له من تأ ُّثر وتأثير؛ ليستدعيه كلما اتصل موضوعه بما له صلة به‪ .‬والرسول ص ّلى‬ ‫الله عليه وس َّلم دعا بالخير ل َمن يسمع مقالته‪ ،‬ف َي ِع َيها‪ ،‬ث َّم يب ِّلغها عنه‪(((.‬‬ ‫((( ابن عاشور‪ ،‬تفسير التحرير والتنوير‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.50-48‬‬ ‫((( قال تعالى‪﴿ :‬ﭧﭨﭩﭪﭫﭬ﴾ [الحاقة‪.]١٢ :‬‬ ‫((( الترمذي‪ ،‬الجامع الصحيح‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬العلم‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء في الحث على تبليغ السماع‪ ،‬حديث رقم‬ ‫(‪ ،)2657‬ص‪.430‬‬ ‫ونص الحديث‪ :‬عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود يح ِّدث عن أبيه‪ ،‬قال‪ :‬قال‪ :‬سمعت النب َّي ﷺ‬ ‫يقول‪\" :‬ن َّضر الله امر ًأ سمع منّا شيئ ًا فب َّلغه كما سمع‪ ،‬ف ُر َّب ُمب ِّلغ َأ ْوعى من سامع‪ \".‬وفي رواية ُأخرى للرواي‬ ‫نفسه‪\" :‬ن َّضر الله امر ًأ سمع مقالتي‪ ،‬فوعاها‪ ،‬وحفظها‪ ،‬وب َّلغها‪ ،‬ف ُر َّب حامل ف ْق ٍه إلى َمن هو َأ ْف َق ُه منه‪ \"...‬حديث‬ ‫رقم (‪ ،)2658‬من الكتاب نفسه‪ ،‬والباب نفسه‪ ،‬ص‪.430‬‬ ‫‪575‬‬

‫والوعي بالواقع يتض َّمن هذه العناصر الثلاثة (الجمع‪ ،‬والفهم‪ ،‬والحفظ)‪ ،‬ويتض َّمن‬ ‫كذلك الوعي بعلاقة هذه العناصر بثلاثة عناصر ُأخرى‪ ،‬هي‪ :‬الواقع كما هو‪ ،‬وحاجة هذا‬ ‫الواقع إلى التغيير‪ ،‬والصورة التي يراد أ ْن تنتقل حالة الواقع إليها‪ .‬وبهذا الوعي بالأمرين مع ًا‪،‬‬ ‫يمكننا أ ْن نتح َّدث ع ّما ُنس ّميه الوعي المنهجي الذي تتوافر به متط َّلبات التخطيط لتغيير حالة‬ ‫الواقع القائم نحو الواقع المنشود‪ ،‬وتحديد المنهج المناسب لذلك‪ .‬وبهذا النوع من التخطيط‬ ‫نأمل أ ْن يتصف سعينا في الإصلاح التربوي بالمنهجية السننية الهادفة‪ ،‬بعيد ًا عن ردود الفعل‪،‬‬ ‫وضغوط الحاجة العاجلة إلى القرار‪ ،‬فيكون البدء من حيث َيلزم البدء أ ْن يكون‪ ،‬و ُتو َّظف‬ ‫الوسائل والأساليب والإمكانات المتاحة بما َيلزم من كفاءة وفاعلية‪ .‬ويتصف السعي في‬ ‫الإصلاح باستقامة وثباث وصبر على المعاناة حتى تتح َّقق الأهداف المنشودة‪(((.‬‬ ‫ومن الإنصاف أ ْن نؤ ِّكد حضور بعض صور هذا الوعي وبعض تم ُّثلاته عند أفراد من‬ ‫التربويين في العا َلم العربي والإسلامي‪ ،‬ولكنَّه ‪-‬في كثير من الأحيان‪ -‬وع ٌي جزئي لجانب‬ ‫من جوانب الواقع‪ ،‬يستند إلى الانفعال بالتخ ُّصص العلمي أو العملي‪ ،‬ويقف عند حدود‬ ‫وصف الظاهرة‪ ،‬وتقدير أبعادها‪ ،‬ويتصف بالعفوية والتلقائية‪ ،‬ولك َّن المنشود هو الوصول‬ ‫بالوعي المنهجي إلى حالة من الوعي الكلي الذي يستند إلى التد ُّبر الهادف‪ ،‬ويحتكم إلى‬ ‫رؤية كلية للعا َلم‪ ،‬و ُيع ِمل المعيار القيمي والمسؤولية الأخلاقية‪ ،‬ث َّم يتم َّدد هذا الوعي‬ ‫في مساحاته‪ ،‬ويتع َّمق في درجته‪ ،‬حتى يصبح الوعي المنهجي \"ثقاف ًة منهجي ًة ح َّي ًة\" لسائر‬ ‫ال َم ْعنِ ّيين بإصلاح واقع الأُ َّمة‪.‬‬ ‫وحتى يصبح الوعي المنهجي بضرورة الإصلاح التربوي ومتط َّلباته \"ثقاف ًة منهجي ًة‬ ‫ح َّي ًة\"‪ ،‬لا تخ ُّص التربويين دون غيرهم من فئات المجتمع؛ فلا ُب َّد من الوعي بطبيعة‬ ‫العلاقة بين التربية والمجتمع‪ ،‬وتحويل الإجماع على ِش َّدة الترابط بينهما إلى أ ْن يكون‬ ‫عنصر ًا أساسي ًا في خطط الإصلاح التربوي والاجتماعي‪ .‬فتطوير النُّ ُظم التعليمية يتم عن‬ ‫طريق نظريات اجتماعية متن ِّوعة‪ ،‬تتناول الحراك الاجتماعي‪ ،‬والتو ُّزع الطبقي‪ ،‬والتغيير‬ ‫الاجتماعي‪ ،‬وبرامج التنمية‪ .‬ث َّم إ َّن الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية تؤ ِّثر‬ ‫((( ملكاوي‪ ،‬منهجية التكامل المعرفي‪ :‬مقدمات في المنهجية الإسلامية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬الفصل الثاني بعنوان‪ :‬الوعي‬ ‫المنهجي والخلل المنهجي‪ ،‬ص‪.128-113‬‬ ‫‪576‬‬

‫تأثير ًا كبير ًا في صياغة أهداف المؤسسات التعليمية‪ ،‬وهياكلها‪ ،‬ومناهجها‪ ،‬وممارساتها‪.‬‬ ‫وكثير من الدراسات التربوية تتناول النتائج التعليمية وأشكال ارتباطها بعوامل اجتماعية‬ ‫مختلفة‪ ،‬مثل‪ :‬الجنس‪ ،‬وال ِعرق‪ ،‬والحالة الاجتماعية‪ ،‬والحالة الاقتصادية‪ ،‬وغير ذلك‪(((.‬‬ ‫وحتى لا نذهب بعيد ًا في أحلام وردية‪ ،‬ونتخ َّيل صورة مثالية طوباية يصعب أ ْن‬ ‫تتح َّقق؛ فإ َّن علينا أ ْن نستدرك بالقول إ َّن التربية عملية في غاية التعقيد‪ ،‬تشتمل على العلم‬ ‫والتع ُّلم والتعليم‪ ،‬وأعق ُد ما فيها أ َّنها تحتاج إلى نمو دائم‪ ،‬وتط ُّور مستمر؛ فليس َث َّمة سق ٌف‬ ‫للتحسين والتطوير في محتوى العلم‪ ،‬أو خبرات التع ُّلم‪ ،‬أو أساليب التعليم‪ .‬ث َّم إ َّن التربية‬ ‫ليست نتيج َة ما تق ِّدمه مؤسسة واحدة من مؤسسات المجتمع‪ ،‬بل إ َّن ميدان التربية هو‬ ‫المجتمع بمؤسساته كلها‪ ،‬ولا سيما الأسرة‪ ،‬والمدرسة‪ ،‬والإعلام؛ فالنجاح في تحقيق‬ ‫حالة تربوية سليمة يتط َّلب تكا ُمل جهود هذه المؤسسات‪ .‬و ِم ْن َث َّم‪ ،‬فليس من ال ُمتو َّقع‬ ‫أ ْن يتح َّقق الإصلاح التربوي المنشود في المجتمع حين تقتصر جهود الإصلاح على‬ ‫التعليم المدرسي مثل ًا‪ ،‬في الوقت الذي َتهدم فيه مؤسسات المجتمع الأُخرى ما يمكن أ ْن‬ ‫تبنيه المدرسة؛ فالإصلاح عملية شاملة تتناغم عناصرها‪ ،‬وتتساند خطواتها‪ ،‬والإصلاح‬ ‫التربوي جزء من هذه العملية‪ ،‬لكنَّه الجزء الأكثر أهمي ًة وعمق ًا‪.‬‬ ‫ونحن نرى أ َّن البحث عن درجة وعي الأُ َّمة الإسلامية بحقيقة واقعها العلمي‬ ‫والفكري والمادي‪ ،‬وواقع العا َلم من حولها في هذه المجالات وغيرها‪ ،‬أم ٌر مهم جد ًا؛ إذ‬ ‫من ال ُمتو َّقع أ ْن يؤ ِّثر هذا الوعي في الطريقة التي تصوغ فيها الأُ َّمة ُن ُظمها التربوية والتعليمية‪،‬‬ ‫وتط ِّور فكرها التربوي الذي ُي ِع ُّد أجيالها لمواجهة مشكلاتها الداخلية‪ ،‬والمخاطر والقوى‬ ‫المعادية لها‪ ،‬و ِم ْن َث َّم نفهم درجة الكفاءة التي كانت الأُ َّمة تقابل بها هذه المشكلات‬ ‫والقوى في الحقب التاريخية المتعاقبة‪ .‬ويمكن أ ْن يؤدي البحث في درجة الوعي هذه إلى‬ ‫فهم أسباب عجز ُن ُظم التعليم والتربية ‪-‬التي سادت حياة الأُ َّمة في القرون الثلاثة الأخيرة‪-‬‬ ‫عن حماية الأُ َّمة من الوصول إلى حالة الضعف والجهل والتجزئة‪ ،‬التي أغرت الدول‬ ‫الأوروبية الصاعدة باستعمار معظم بلاد المسلمين‪ ،‬وتقسيم ال ُمق َّسم منها‪ ،‬والاستيلاء‬ ‫على ثرواتها‪ ،‬والإعلاء من الثقافة والنُّ ُظم والقيم الغربية فيها‪ ،‬على حساب الثقافة والنُّ ُظم‬ ‫والقيم الإسلامية‪.‬‬ ‫‪(1) Francois, Emmanuel Jean. \"Education and Society\", In: Building Global Education with a‬‬ ‫‪Local Perspective, New York: Palgrave Macmillan 2015, 1-15.‬‬ ‫‪577‬‬

‫‪ .2‬الوعي بضرورة إصلاح الواقع التربوي‪:‬‬ ‫إ َّن الوع َي الكامل بالظروف التي تحيط بجهود الإصلاح التربوي شر ٌط مهم في‬ ‫التخطيط لهذه الجهود‪ ،‬وتقدير مستويات النجاح المنشودة في تحقيق أهدافها‪ ،‬لا سيما‬ ‫أ َّن هذه الظروف لا تقتصر على عدد محدود من القضايا التربوية‪ ،‬أو العوامل الاجتماعية‬ ‫المحلية؛ فالعا َل ُم المعاصر عا َل ٌم شدي ُد التعقيد‪ ،‬سري ُع التغ ُّير‪ ،‬تتجاذبه اتجاها ٌت فكرية‬ ‫وقيمية متق ِّلبة‪ .‬ومجتمعات هذا العا َلم متشابكة‪ ،‬وهي تتبادل التأثير والتأ ُّثر بصورة مستمرة‪.‬‬ ‫ومع أ َّننا نجد في هذا العا َلم نظريا ٍت و ُن ُظم ًا سياسي ًة واقتصادي ًة وإداري ًة مختلف ًة‪ ،‬فإ َّن َث َّمة‬ ‫جهود ًا للأخذ ببعض الملامح العامة المشتركة التي تتض َّمنها اتجاهات العولمة‪ ،‬أو تفرضها‬ ‫القوى التي تقود هذه الاتجاهات؛ َر َغب ًا‪ ،‬أو َر َهب ًا‪ .‬ولذلك‪ ،‬فليس من السهل أ ْن تتح َّدد‬ ‫ملامح مجتمعاتنا القائمة اليوم واتجاهات التغ ُّير فيها‪ ،‬من دون وعي كا ٍف بالقوى المؤ ِّثرة‬ ‫في هذه المجتمعات‪ .‬و ِم ْن َث َّم‪ ،‬فليس من السهل الحكم على الفكر التربوي السائد في‬ ‫مجتمعات المسلمين من نظرة سطحية عاجلة‪.‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن بإمكاننا أ ْن نتح َّدث عن حضور المعاني العامة للتربية في حياة الأفراد‬ ‫بهذه المجتمعات؛ ف َث َّمة رو ٌح كامنة تتل َّبس النفس الإسلامية الل ّوامة‪ ،‬تجعلها ت ِح ُّن وتتمنّى‬ ‫أ ْن تصطبغ بتربية الإسلام؛ قولاً‪ ،‬وعمل ًا‪ .‬و َث َّمة نواز ُع بشرية تتل َّبس النفس الأ ّمارة بالسوء‪،‬‬ ‫وتدفعها إلى التخ ُّفف من أحكام الإسلام التربوية؛ تماهي ًا مع الواقع التربوي لغير المسلمين‬ ‫الذي يبدو زاهي ًا ج ّذاب ًا‪ ،‬ولا نعدم وجود النفس المطمئنة التي تشعر بالرضا في جهودها‬ ‫الحثيثة لتطبيق التوجيهات التربوية الإسلامية‪ .‬ور َّبما يفيد إجراء دراسات ميدانية تح ِّدد ال ُث َّلة‪،‬‬ ‫والقليل‪ ،‬والكثير‪ ،‬من أ ٍّي من هذه الفئات الثلاث في كل مجتمع من مجتمعات المسلمين‪.‬‬ ‫هذا عن ضرورة الوعي بواقع الفكر التربوي الإسلامي المعاصر‪ ،‬وهو وعي يشترط‬ ‫بالضرورة نوع ًا آخ َر من الوعي‪ ،‬هو الوعي بالحاجة إلى إصلاح هذا الواقع‪ .‬وسنلاحظ أ َّن‬ ‫الناس قد يختلفون في مناقشاتهم حول واقع مجتمعهم وقضايا سوء الأحوال الاقتصادية‪،‬‬ ‫وظروف العمل والبطالة‪ ،‬والجدل السياسي حول قضايا سياسية محلية‪ ،‬أو إقليمية‪ ،‬أو‬ ‫دولية‪ ،‬لكنَّهم لا يختلفون حول أهمية التربية؛ سواء في الطريقة التي تتأ َّثر بها نتيجة أحوال‬ ‫المجتمع‪ ،‬أو التغ ُّير الذي يمكن للتربية أ ْن ُتح ِدثه في المجتمع‪.‬‬ ‫‪578‬‬

‫ومن هنا‪ ،‬تأتي أهمية الحديث عن ضرورة الإصلاح في الفكر التربوي‪ ،‬والوعي‬ ‫بالعمق والتش ُّعب الذي لا ُب َّد أ ْن يرافق هذا الحديث‪ ،‬ولا سيما في حاجة هذا الفكر إلى‬ ‫استمرار التحديث والتطوير؛ ليواصل الاستجابة لمتط َّلبات النمو والتط ُّور والتغ ُّير في واقع‬ ‫المجتمعات الإسلامية‪ ،‬ولتمكين هذا الفكر من تناول الموضوعات الأساسية التي تش ِّكل‬ ‫الملامح العامة المتم ِّثلة في النُّ ُظم التربوية العامة‪ ،‬وما تقوم عليه من فلسفات‪ ،‬وسياسات‪،‬‬ ‫ونظريات‪ ،‬واستراتيجيات‪ ،‬واستيعاب تفاصيل النظام التربوي‪ ،‬ومك ِّوناته‪ ،‬ومستوياته‬ ‫الإدارية والتعليمية‪ ،‬وما فيها من مرافق‪ ،‬ووسائط‪ ،‬وبرامج‪ ،‬ومناهج‪ ،‬وأساليب للتعليم‬ ‫والتقويم‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬ ‫وانطلاق ًا من منهجية التكا ُمل المعرفي التي نعتمدها في كتاباتنا‪ ،‬فإ َّننا نق ِّرر ‪-‬منذ البداية‪-‬‬ ‫أ َّن الفكر التربوي الإسلامي المعاصر الذي نطمح إليه لا ُب َّد أ ْن يستمد أهدافه وبرامجه من أربعة‬ ‫مصادر‪ :‬القرآن الكريم‪ ،‬وال ُّسنة النبوية‪ ،‬والتراث الإسلامي‪ ،‬والخبرة البشرية المعاصرة‪ .‬فهو‬ ‫يهتدي بنصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية لأحكام الإسلام وتوجيهاته في العمل التربوي‬ ‫بفه ٍم مقاصد ٍّي معاص ٍر‪ ،‬ويستوعب ‪-‬في الوقت نفسه‪ -‬خبرة التراث التربوي الإسلامي‪،‬‬ ‫والخبرة البشرية المعاصرة‪ (((.‬أ ّما الهدف الذي نسعى إليه في هذا الطموح فهو هدف مزدوج‪:‬‬ ‫تعزي ُز الخصائص الفكرية والحضارية لل ُأ َّمة الإسلامية ومجتمعاتها‪ ،‬وبنا ُء وعيها بمسؤوليتها‬ ‫عن الإسهام التربوي والعلمي والحضاري في المجتمع البشري المعاصر‪ .‬وشر ُط تحقيق‬ ‫ذلك أ ْن يقوم الفكر الذي نطمح إلى إنتاجه‪ ،‬ونب ِدع في تصميم مشروعاته وبرامجه‪ ،‬على‬ ‫\"استيعاب\" الفهم المقاصدي لنصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية‪ ،‬و\"تجاوز\" الخبرة‬ ‫التاريخية للتراث الإسلامي والخبرة البشرية المعاصرة‪.‬‬ ‫((( ر َّبما يجد القارئ لهذا الكتاب وغيره من كتب المؤ ِّلف أ َّن تحديد مصادر العلم والمعرفة يأتي من مصدرين‪،‬‬ ‫هما‪ :‬الوحي الذي يتض َّمن القرآن الكريم‪ ،‬وال ُّسنة النبوية‪ .‬والعا َلم الذي يتض َّمن العا َلم الطبيعي‪ ،‬والعا َلم‬ ‫الاجتماعي‪ ،‬والعا َلم النفسي‪ .‬وفي أحايين ُأخرى يأتي الحديث عن أربعة مصادر‪ ،‬هي‪ :‬القرآن الكريم‪ ،‬وال ُّسنة‬ ‫النبوية‪ ،‬والتراث الإسلامي‪ ،‬والتراث الإنساني المعاصر‪ .‬وفي هذه الحالة‪ ،‬فإ َّن التراث الإسلامي هو جزء من‬ ‫الخبرة البشرية الخاصة بالمسلمين‪ ،‬والتراث الإنساني هو الخبرة البشرية العامة التي َن ِص ُفها عادة بالخبرة‬ ‫الغربية (الأوروبية‪ ،‬والأمريكية)‪ .‬والتراث الإسلامي والخبرة الغربية المعاصرة هما من العا َلم الاجتماعي في‬ ‫الطريقة التي نتحدث فيها عن مصدرين‪.‬‬ ‫‪579‬‬

‫‪ .3‬الوعي بمنطلقات الإصلاح التربوي‪:‬‬ ‫في سياق البحث عن واقع الفكر التربوي السائد في مجتمعاتنا الإسلامية‪ ،‬وطموحاتنا‬ ‫لبناء فكر تربوي إسلامي‪ ،‬نجد من المناسب أ ْن نذ ِّكر ببعض المنطلقات التي لا ُب َّد أ ْن تكون‬ ‫واضحة في تناولنا للواقع والطموح‪.‬‬ ‫والمنطلق الأول في هذا الشأن هو أ َّن إصلاح حال التربية والتعليم في مجتمعاتنا‬ ‫هو جزء من هدف الإصلاح العام لهذه المجتمعات‪ ،‬بل هو طريقة هذا الإصلاح كذلك‪.‬‬ ‫فنحن على وعي بالجدل المتواصل حول أثر المجتمع في تحديد موقع التربية فيه‪ ،‬وأثر‬ ‫التربية في تحديد واقع المجتمع‪ .‬وعلماء الاجتماع والسياسة والتربية وغيرهم من دعاة‬ ‫الإصلاح العام يتو َّزعون على طرفي القضية؛ فعندما يرى بعضهم أ َّن المجتمع لا يقوم من‬ ‫دون تربية‪ ،‬فإ َّن ذلك يعني أ َّن التربية تأتي في الأهمية قبل المجتمع‪ ،‬وعندما يرى بعضهم‬ ‫الآخر أ َّن التربية هي الصورة التي يعكسها المجتم ُع‪ ،‬ويح ِّدد ملام َحها‪ ،‬فإ َّن ذلك يعني أ َّن‬ ‫المجتمع يأتي في الأهمية قبل التربية‪ .‬ولكنَّنا لا نجد خلاف ًا جوهري ًا حول وجود صلة قوية‬ ‫بين المجتمع والتربية‪ ،‬وأ َّن طرفي الجدل في القضية يملكان قدر ًا من الح ِّق فيما َي َريانِه‪.‬‬ ‫وقد تكون إحدى الـ ُحجتين أقوى من الأُخرى في سياقات مح َّددة‪.‬‬ ‫لقد استق َّرت ُن ُظم التعليم العام في العا َلم المعاصر على اعتماد عدد من المبادئ‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫إلزامية التعليم العام؛ والتكا ُمل بين مناهج التعليم اللازمة لبناء شخصية الإنسان الصالح‬ ‫ال ُمص ِلح؛ في‪ :‬جسمه‪ ،‬وروحه‪ ،‬وعقله؛ وإعداد الكفاءات العملية اللازمة لتحقيق النمو والتق ُّدم‬ ‫في المجتمع؛ والإسهام في الحضارة الإنسانية وترشيدها؛ وغير ذلك من المبادئ التي يمكنها‬ ‫أ ْن تجعل حالة التعليم العام في المجتمع تعبير ًا عن مدى تق ُّدمه وصلاحه‪ ،‬أو تخ ُّلفه وفساده‪.‬‬ ‫وثاني هذه المنطلقات اعتقا ُدنا أ َّن من ح ِّق أبناء كل مجتمع من مجتمعاتنا المسلمة‬ ‫أ ْن يعت ّزوا بمجتمعهم‪ ،‬ولك َّن ذلك لا يعني غ َّض ال َّط ْرف عن صورة التخ ُّلف التي تتصف‬ ‫بها مجتمعاتنا المعاصرة‪ .‬وهذا التخ ُّل ُف هو غالب ًا صف ٌة عامة يتصف بها المجتمع بكامله‪،‬‬ ‫وتتصف به قطاعات المجتمع‪ ،‬بما في ذلك قطاع التربية‪ .‬والحكم بصفة التخ ُّلف هو‬ ‫حكم عام مهما اختلف المعيار المستخدم في هذا الحكم؛ فقد يكون معيا ُر القياس مقارن َة‬ ‫‪580‬‬

‫واقع المجتمع كما هو حالي ًا بما كان ينبغي أ ْن يكون عليه وفق التوجيهات الإسلامية‪،‬‬ ‫وقد يكون المعيا ُر مقارن َة هذا الواقع بالإمكانيات المتاحة للإصلاح والتطوير والعجز عن‬ ‫توظيف هذه الإمكانيات‪ ،‬وقد يكون المعيا ُر مقارن َة واقع المجتمع الإسلامي بالمجتمعات‬ ‫الأُخرى من حيث التق ُّد ُم الحضاري بجانب ْيه‪ :‬المعنوي‪ ،‬والمادي‪.‬‬ ‫وثالث هذ المنطلقات أ َّن أ َّي جهد للإصلاح والتجديد والتغيير في واقع المجتمع‬ ‫يقوم على فهم هذا الواقع فهم ًا عميق ًا‪ ،‬يشمل المشكلات وأسبابها‪ ،‬والحاجات وأولوياتها‪،‬‬ ‫وسنن التغيير واتجاهاتها‪ .‬ومن دون هذا الفهم العميق‪ ،‬فإ َّن التغيير سوف يتم لا محالة؛ إذ‬ ‫التغيير ُسنَّ ٌة قائمة دائمة‪ .‬وإذا لم يكن التغيير وفق منهج يقود إلى النمو والتق ُّدم‪ ،‬فر َّبما يجري‬ ‫التغيير في اتجاهات تك ِّرس التخ ُّلف‪ .‬ولع َّل من أهم ما ينبغي فهمه عن واقع أ ِّي مجتمع هو‬ ‫الصلة الوثيقة بين حالة المجتمع القائمة والمنشودة من جهة‪ ،‬والمك ِّونات الفكرية والنفسية‬ ‫التي تع ِّبر عن شخصية المجتمع وما يم ِّيزه عن غيره من المجتمعات من جهة ُأخرى‪.‬‬ ‫ورابع هذه المنطلقات أ َّنه لا يكفي لفهم واقع المجتمع وجو ُد ملاحظات انطباعية‬ ‫وأحكام وصفية عامة‪ ،‬بل لا ُب َّد من دراسات تحليلية نقدية‪ ،‬تتصف بالعمق والجرأة في‬ ‫سعيها لفهم حالة المجتمع‪ ،‬في جوانبه وقطاعاته المختلفة‪ ،‬بما في ذلك الدرجة التي‬ ‫يتمتع فيها الإنسان بحريته وكرامته وحقوقه‪ ،‬وطبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة بين‬ ‫الأفراد والجماعات‪ ،‬ومنظومة القيم التي تحكم سلوك الناس ومرجعيات هذه المنظومة‪،‬‬ ‫ومدى امتلاك المجتمع لحريته واستقلاله في القرار والاختيار‪ ،‬فضل ًا عن حالة المجتمع‬ ‫فيما يخت ُّص بمستوى البحث العلمي في ميادين الزراعة‪ ،‬والصناعة‪ ،‬والتيسيرات المادية‪،‬‬ ‫والتق ُّدم الحضاري‪ .‬فحالة المجتمع في كل ذلك تؤ ِّثر في الحالة التربوية للشخصية‬ ‫الإنسانية في المجتمع‪ ،‬ولا مناص لأ ِّي إصلاح تربوي منشود من التعامل مع حالة‬ ‫المجتمع القائمة بهدف نقله إلى الحالة المنشودة‪.‬‬ ‫وخامس هذه المنطلقات ضرور ُة تحديد العلاقة بين واقع الفكر التربوي الإسلامي‬ ‫والعصر‪ ،‬أو السياق الزمني الذي تط َّور فيه هذا الفكر؛ فما أنتجه التربويون المسلمون في‬ ‫عصر زمني مضى أصبح تراث ًا فكري ًا تربوي ًا إسلامي ًا‪ .‬أ ّما الإسلام فهو رسالة عالمية عابرة‬ ‫‪581‬‬

‫للزمان والمكان‪ .‬فمبادئ الإسلام في أصولها‪ ،‬في الوحي الإلهي والهدي النبوي‪ ،‬مبادئ‬ ‫معاصرة‪ ،‬وكذلك أحكامه وتوجيهاته‪ ،‬لك َّن التراث التربوي الإسلامي الذي ق َّدمه علماء‬ ‫الأُ َّمة اقترب من مبادئ الإسلام وأحكامه كثير ًا أو قليل ًا‪ .‬وحين لا يكون الفكر التربوي‬ ‫منبثق ًا من مبادئ الإسلام وأحكامه‪ ،‬وغير ُم ْه َت ٍد بهدي هذه المبادئ والأحكام‪ ،‬بل منبثق‬ ‫من مبادئ ُأخرى تخالِف ما يهدي إليه الإسلام؛ فلا يمكن أ ْن ُي َع َّد فكر ًا تربوي ًا إسلامي ًا‪.‬‬ ‫وسادس هذه المنطلقات أ َّن الفكر التربوي الإسلامي الذي نعنيه ليس هو \"التربية‬ ‫الدينية\"‪ ،‬أو \"التربية الإسلامية\" التي تكون عنوان ًا لمادة دراسية‪ ،‬تقتصر على بعض الجوانب‬ ‫الروحية والأخلاقية والتزكية الوجدانية الفردية‪ ،‬أو تق ِّدم معلومات عن الإسلام‪ .‬وليست‬ ‫هي مادة دراسية تعالج الفكر التربوي الإسلامي عند أحد علماء الإسلام في التاريخ‪ ،‬أو‬ ‫ما ساد هذا الفك َر في حقبة زمنية ماضية‪ ،‬أو منطقة جغرافية مح َّددة‪ ،‬أو مذهب فقهي أو‬ ‫فكري‪ ...‬فقد اصطلحنا أ ْن يكون ذلك تراث ًا تربوي ًا إسلامي ًا ‪...‬؛ فالفكر التربوي الإسلامي‬ ‫الذي نتح َّدث عنه هو بناء فكري يعيد صياغة الشخصية الفردية والاجتماعية الحاضرة‪،‬‬ ‫الآن‪ ،‬وهنا‪ ،‬في الجوانب النفسية والعقلية‪ ،‬و ِم ْن َث َّم بناء مجتمع يتمتع بالحيوية والفاعلية‬ ‫والإنجاز الحضاري المتم ِّيز‪ ،‬الآن‪ ،‬وهنا‪ .‬والتربية بهذا المعنى هي تغيير في النفوس يكون‬ ‫الأسا َس لتغيير جذري في الجوانب المعنوية والمادية من حياة الفرد والمجتمع والأُ َّمة‪.‬‬ ‫وسابع هذه المنطلقات أ َّن أ َّي فكر تربوي ينتِجه مف ِّكرو أ َّية ُأ َّمة إ َّنما ينبثق من مرجعية‬ ‫فكرية كلية‪ ،‬أو رؤية كلية للعا َلم؛ فالفكر التربوي الإسلامي ينبثق من مرجعية فكرية كلية‬ ‫تع ِّبر عن رؤية العا َلم الإسلامية‪ ،‬وهي التص ُّور الكلي الذي يتبنّاه المجتمع الإسلامي عن‬ ‫الوجود والحياة والإنسان‪ ،‬وما يتأ َّسس عليه هذا المجتمع من معتقدات وقيم و ُن ُظم‪.‬‬ ‫وحين يستورد المجتمع الإسلامي فكر ًا تربوي ًا من رؤية ُأخرى للعا َلم‪ ،‬فإ َّن المشكلة أساس ًا‬ ‫لا تكون في تفاصيل الفكر التربوي وجزئياته‪ ،‬وإ َّنما تكون في الرؤية الفلسفية التي ينبثق‬ ‫عنها‪ ،‬والمرجعية الفكرية التي يحتكم إليها‪.‬‬ ‫ونأ ُمل أ ْن ُيس ِهم ك ٌّل من الوعي بحالة الواقع التربوي المعاصر في المجتمعات‬ ‫المسلمة‪ ،‬والوعي بضرورة إصلاح هذا الواقع‪ ،‬والوعي بالمنطلقات اللازمة للإصلاح‪،‬‬ ‫في ترشيد التخطيط لهذا الإصلاح‪ ،‬وفي سعينا الحكيم لتنفيذ خططه‪.‬‬ ‫‪582‬‬

‫رابع ًا‪ :‬أوساط التربية وأهميتها في جهود الإصلاح التربوي‪:‬‬ ‫أوساط التربية‪ ،‬أو وسائطها‪ ،‬أو وكالاتها ‪ ،Agencies‬هي مؤسسات‪ ،‬أو منظمات‪،‬‬ ‫أو بيئات متخ ِّصصة‪ ،‬تؤ ِّثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة في الفرد الإنساني‪ ،‬وبطريقة‬ ‫نظامية أو غير نظامية‪ ،‬وعلى نح ٍو ُمبر َمج أو غير ُمبر َمج‪ .‬وهي تبدأ بالأسرة‪ ،‬ث َّم المدرسة‬ ‫بمراحلها؛ من‪ :‬روضة الأطفال‪ ،‬إلى المرحلة الابتدائية‪ ،‬فالإعدادية‪ ،‬فالثانوية‪ ،‬فالجامعة‪.‬‬ ‫غير أ َّن الفرد الإنسان ‪-‬في جميع حالته‪ ،‬وجميع مراحل ُع ُمره‪ -‬يعيش في مجتمع يع ُّج‬ ‫بالمؤسسات الأُخرى‪ ،‬مثل‪ :‬المؤسسات الدينية‪ ،‬والاجتماعية‪ ،‬والرياضية‪ ،‬والإعلامية‪،‬‬ ‫والترفيهية‪ .‬ويبدأ الإنسان مسيرة التربية في واحدة أو أكثر من هذه المؤسسات من أول‬ ‫لحظات حياته‪ ،‬ويستمر فيها طوال ُع ُمره‪ .‬ور َّبما ينتقل في أثناء حياته من وسط تربوي إلى‬ ‫وسط آخر‪ ،‬ور َّبما يتأ َّثر بعدد من الوسائط في الوقت نفسه‪.‬‬ ‫وقد ن َّوه الأدب التربوي غالب ًا بأربعة أوساط‪ ،‬هي‪ :‬الأسرة والمدرسة‪ ،‬والجامعة‪،‬‬ ‫والإعلام‪ ،‬والبيئة الاجتماعية العامة‪ .‬وسنشير هنا ‪-‬بإيجاز شديد‪ -‬إلى الأوساط الثلاثة‬ ‫الأُولى‪ ،‬تاركين الحديث عن البيئة الاجتماعية العامة إلى حصافة القارئ وخبرته‪ .‬ونكتفي‬ ‫بالإشارة إلى أ َّن البيئة الاجتماعية العامة تتض َّمن كثير ًا من المؤسسات وأوجه النشاط‪ ،‬التي‬ ‫أهمها‪ :‬صحبة الأقران‪ ،‬والمسجد‪ ،‬والمتحف‪ ،‬والرياضة‪ ،‬والجمعية التطوعية‪ ،‬والنادي‬ ‫الثقافي‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬ويتفاوت تأثير هذه المؤسسات في الأفراد بحسب تو ُّجهات الأفراد‬ ‫أنفسهم‪ ،‬وميولهم‪ ،‬واهتماماتهم‪ ،‬وطبيعة الوسط الأسري‪ .‬وقد يكون أثر أ ٍّي من هذه البيئات‬ ‫في الفرد ‪-‬سلب ًا‪ ،‬أو إيجاب ًا‪ -‬أكبر من أثر أ ٍّي من الوسائط الرئيسة‪ ،‬مثل الأسرة والمدرسة‪.‬‬ ‫‪ .1‬مهمة الأسرة في إصلاح التعليم‪:‬‬ ‫يؤ ِّكد علماء التربية وعلم النفس أ َّن التكوين النفسي والوجداني للفرد الإنساني إ َّنما‬ ‫يتش َّكل بالحياة الأسرية في مرحلة الطفولة؛ فما يراه الأطفال في الأسرة‪ ،‬وما يسمعونه‪،‬‬ ‫والطريقة التي يتفاعلون فيها مع ما يرونه وما يسمعونه؛ كل ذلك يم ِّثل الدور الأكبر‪ ،‬ليس‬ ‫في اكتساب اللغة وروح الانتماء فحسب‪ ،‬بل في سائر جوانب البناء النفسي والعاطفي؛‬ ‫‪583‬‬

‫من‪ :‬ثقة بالنفس‪ ،‬وجرأة في المواقف‪ ،‬وميل إلى التعا ُون و ُح ِّب الخير للآخرين‪ ،‬وغير ذلك‬ ‫من الخصائص النفسية‪ .‬ويستطيع ال ُمع ِّلمون بعد ذلك البناء على هذا الأساس‪ ،‬وتعزيز‬ ‫هذه الخصائص وتطويرها‪.‬‬ ‫ولك َّن الحياة المعاصرة قد َت ُح ُّد أحيان ًا من أثر التربية الأسرية في الأطفال لأسباب‬ ‫مختلفة‪ ،‬منها‪ :‬ضعف التربية الوالدية عند الآباء والأُ َّمهات‪ ،‬وانشغالهم عن أطفالهم‪ .‬فلا‬ ‫تتوافر في بيئة التنشئة الأسرية ما يبني تلك الخصائص الإيجابية‪ ،‬فتختل درجة تح ُّققها‪،‬‬ ‫وقد يتح َّقق ما ينا ِقضها‪ .‬وحتى لو توافرت التنشئة الجيدة‪ ،‬فإ َّن البيئة المدرسية بعد ذلك قد‬ ‫لا تكون مناسبة لتعزيز تلك البنية النفسية الإيجابية‪ ،‬لا سيما إذا كان عمل ال ُمع ِّلمين يفتقد‬ ‫رو َح الرسالة‪ ،‬ولم يح َظ ال ُمع ِّلم بمنزل ٍة في المجتمع تو ِّفر له من المكانة المادية والكرامة‬ ‫المعنوية ما يع ِّزز مكانته في نفسه ونفوس طلبته‪ ،‬وثقته بنفسه وثقة طلبته به‪.‬‬ ‫والحقيقة أ َّن وعي أولياء الأمور بما تق ِّدمه المدارس لأطفالهم من تربية وتعليم‪،‬‬ ‫وممارسة التربية والتوعية لأطفالهم‪ ،‬والتوا ُصل والتعا ُون مع إدارات المدارس؛ ر َّبما لا‬ ‫يغني عن مسؤوليتهم في التخطيط والتنفيذ لكثير من جوانب الإصلاح التربوي‪ ،‬عن طريق‬ ‫برامج مح َّددة للتنشئة والتربية لأبنائهم في المراحل المختلفة من أعمارهم‪.‬‬ ‫إ َّن التنشئة الأسرية في المجتمع الإسلامي تقتضي إدرا َك الأ ِب والأُ ِّم للمستوى‬ ‫المعياري الذي و َّجه إليه الوحي الإلهي والهدي النبوي‪ ،‬والسع َي ليكون هذا الإدراك‬ ‫قائد ًا لهما في ممارستهما هذه التنشئة‪ .‬فعندئ ٍذ‪ ،‬تكون هذه التنشئة الأسا َس في تشكيل‬ ‫عقل الفرد‪ ،‬ونفسيته‪ ،‬وصقل شخصيته؛ إذ يتش َّرب فيها الفر ُد الرؤى والمشاعر والأفكار‪،‬‬ ‫وينشأ على منظومة متكاملة من القيم الإنسانية النبيلة‪ ،‬ويخضع لمدى واسع من العلاقات‬ ‫الاجتماعية‪ .‬إذن‪ ،‬فالأسرة في توجيهات الوحي الإلهي والهدي النبوي‪ ،‬هي مستودع‬ ‫القيم التي تحكم مواقع أفراد الأسرة الممتدة؛ من‪ :‬ال َج ِّد وال َج َّدة‪ ،‬إلى الأ ِب والأُ ِّم‪ ،‬والأخ‬ ‫والأخت‪ ،‬والع ِّم والخال‪ ،‬والع َّمة والخالة‪ ،‬فضل ًا عن البنين والحفدة‪ .‬فالأمومة‪ ،‬والأُب َّوة‪،‬‬ ‫وال ُبن َّوة‪ ،‬والعمومة‪ ،‬والخؤولة‪...‬؛ كلها قي ٌم ُتس ِهم في تشكيل نفسية الفرد‪ ،‬وبناء علاقاته‪،‬‬ ‫وتوسيع دائرتها‪ .‬ولكل فرد في العائلة الممتدة مكان ٌة لا يغني عنها فرد آخر؛ فلك ٍّل من‬ ‫ال َج ِّد‪ ،‬وال َج َّدة‪ ،‬والع ِّم‪ ،‬والع َّمة‪ ،‬والخال‪ ،‬والخالة‪ ،‬مكا ٌن في التربية يع ِّزز مكانة الأ ِب والأُ ِّم‬ ‫‪584‬‬

‫والأخ والأخت‪ ،‬ويتكامل معها‪ .‬وقد لا تكون المهمات التي يؤديها ك ٌّل من هؤلاء مهمات‬ ‫صريحة معلنة‪ ،‬وإ َّنما مهمات فطرية كامنة‪ ،‬يتم أداؤها بصورة تلقائية‪ ،‬وعندما تؤدى بصورة‬ ‫واعية فإ َّن أثرها الإيجابي سيكون أكبر قيم ًة‪ ،‬وأعظم شأن ًا‪.‬‬ ‫إ َّن التأ ُّمل في النصوص القرآنية التي تن ِّوه بالعلاقات الأسرية الممتدة بين النسب‬ ‫والصهر‪ (((،‬والبنين والحفدة‪ (((،‬وما تتض َّمنه من صلات القربى والرحم؛ ر َّبما يجعلنا نستنبط‬ ‫أ َّن شخصية الفرد الإنساني لا تتكامل إلا عندما يـم ُّر بمراحل يؤدي فيها جميع المهمات‬ ‫الأسرية؛ مهمة ال َج ِّد‪ ،‬والأ ِب‪ ،‬والزوج‪ ،‬والأخ‪ ،‬والابن‪ ،‬والحفيد‪ ،‬والع ِّم‪ ،‬والخال‪ ... ،‬فإ ْن‬ ‫لم ُي َت ْح للفرد أ ْن يؤدي واحد ًة من هذه المهمات‪ ،‬فر َّبما يفتقد جزء ًا من الخبرة الفطرية التي‬ ‫َتلزم لاستكمال شخصيته الإنسانية‪َ ،‬و َي ْص ُد ُق ذلك في ح ِّق الذكر والأنثى‪.‬‬ ‫والعلاقة بين الجدود والأحفاد كانت موضوع ًا لكثير من الدراسات التي ب َّينت‬ ‫أهمية هذه العلاقة لكلا الطرفين‪ ،‬ومن ذلك ‪-‬على سبيل المثال‪ -‬ما نشرته جريدة بوستن‬ ‫غلوب ‪ Boston Globe‬الأمريكية في عددها الصادر بتاريخ ‪ 14‬ديسمبر ‪2015‬م‪ ،‬عن‬ ‫دراسة قام بها باحثون بقيادة الباحثة الرئيسة سارة مورمان ‪Sara Moorman‬؛ الأستاذ‬ ‫المشارك في تخ ُّصص علم الاجتماع بكلية بوستن‪ .‬وقد ُن ِشرت الدراسة في مجلة علمية‬ ‫هي مجلة ‪ ،Gerontologist‬وكان موضوعها الآثا َر النفسية والاجتماعية الإيجابية المتر ِّتبة‬ ‫على العلاقة الوثيقة بين الجدود والأحفاد‪ .‬وقد تو َّصلت الدراسة إلى أ َّن عناية الجدود‬ ‫(وال َج ّدات) بالأحفاد تؤدي إلى تقليل المشكلات النفسية والسلوكية للأحفاد‪ ،‬وتز ِّودهم‬ ‫بخبرات غنية تساعدهم على التك ُّيف والتأقلم في مراحل حياتهم‪ .‬بيد أ َّن الجدود أنفسهم‬ ‫يستفيدون كثير ًا من هذه العلاقة؛ إذ ُتش ِعرهم بقيمتهم في حياة الأسرة وتماسكها‪،‬‬ ‫و ُتع ِّرضهم لأفكار جديدة‪ ،‬و ُتس ِهم في المحافظة على قدراتهم العقلية‪(((.‬‬ ‫((( وذلك قوله تعالى‪﴿ :‬ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ﴾ [الفرقان‪.]54 :‬‬ ‫((( وذلك قوله سبحانه‪﴿ :‬ﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ﴾ [النحل‪.]72 :‬‬ ‫((( انظر التقرير عن الدراسة في‪:‬‬ ‫‪- Albernaz, Ami. \"Study: Close grandparent-grandchild relationships have healthy benefits\",‬‬ ‫‪Globe Correspondent, Dec. 14, 2015.‬‬ ‫ويمكن قراءة التقرير من الرابط‪:‬‬ ‫‪- http: //educatedcompanion.com/study-close-grandparent-grandchild-relationships-have-‬‬ ‫‪healthy-benefits-2‬‬ ‫‪585‬‬

‫إ َّن التغ ُّيرات العميقة في المجتمع البشري الحديث‪ ،‬بتأثير قوى العولمة وغيرها من‬ ‫العوامل‪ ،‬لم تقتصر نتائجها على التعليم المدرسي والتعليم الجامعي في المجتمعات‬ ‫الإسلامية‪ ،‬وإ َّنما امت َّدت إلى سائر أوساط التربية ومؤسساتها‪ .‬ففي مجال الأسرة ‪-‬مثل ًا‪-‬‬ ‫نجد أ َّن قيم الأسرة كما أرادها الله سبحانه‪ ،‬وكما مارسها البشر بفطرتهم عبر التاريخ‪ ،‬تكاد‬ ‫تنقرض في المجتمعات المعاصرة‪ .‬وبالرغم من أ َّن بعض مجتمعات المسلمين لا تزال‬ ‫تحتفظ بشيء من هذه القيم‪ ،‬فإ َّنها آخذة بالتلاشي بسرعة ملحوظة؛ نتيج ًة لتف ُّكك الأسرة‬ ‫الممتدة‪ ،‬وضعف روابط القربى‪ ،‬وتخ ّلي الوالدين عن مهمة التنشئة الأسرية‪ ،‬باعتماد دور‬ ‫الحضانة‪ ،‬وهي مؤسسات اقتصادية أكثر منها مؤسسات تربوية‪ ،‬أو باعتماد الخادمات‬ ‫الأجنبيات في بعض البلدان‪ ،‬اللاتي لم يأتي َن إلا لأسباب اقتصادية‪ ،‬حتى صدق في واقع‬ ‫التربية الأسرية معنى \"ال ُي ْتم\" كما فهمه أحمد شوقي‪:‬‬ ‫َل ْي َس ال َيتي ُم َم ِن ا ْن َتهى َأ َبوا ُه ِم ْن َهـــ ِّم ال َحيـا ِة َو َخـ َّلفـا ُه َذلِيـ َل‬ ‫إِ َّن اليتي َم هـ َو الـذي َت ْل َقـى َلـ ُه ُأ ّمـــ ًا َت َخ َّلـ ْت َأ ْو َأبـ ًا َم ْش ُغـو َل‬ ‫ومسألة ضعف التنشئة الأسرية لم تقف عند صغار الأطفال الذين يتش َّربون التربية‬ ‫بطريقة غير واعية‪ ،‬وإ َّنما امت َّد هذا الضعف إلى المراحل اللاحقة للطفولة؛ إذ َأوكلت‬ ‫الأسرة مهم َة التربية إلى المدرسة‪ ،‬وانشغل جميع أفراد الأسرة كبار ًا وصغار ًا؛ ك ٌّل‬ ‫باهتماماته الخاصة؛ من‪ :‬مسؤوليات العمل‪ ،‬أو العلاقات الاجتماعية‪ ،‬أو أنماط الحياة‬ ‫المشغولة بما ُين َشر في وسائل الإعلام‪ ،‬أو وسائل التوا ُصل الاجتماعي‪.‬‬ ‫َث َّمة أهدا ٌف تربوية يصعب أ ْن تتح َّقق خارج الأسرة‪ ،‬ولا سيما الأهداف التي تتصل‬ ‫بالمفاهيم الأساسية للعقيدة‪ ،‬والممارسات الأخلاقية‪ ،‬والصفات الشخصية العامة‬ ‫للفرد الإنسان‪ .‬فمثل هذه الأهداف تحتاج إلى بيئة مستقرة‪ ،‬تسمح بأنواع من التفا ُعل‬ ‫الاجتماعي والثقافي‪ ،‬والتنشئة على تح ُّمل المسؤولية‪ ،‬والأداء المتم ِّيز‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن‬ ‫الأسرة تستطيع أ ْن تتابع ما تق ِّدمه المدرسة لأبنائها‪ ،‬فتقوم بما َيلزم من دعم‪ ،‬أو توجيه‪،‬‬ ‫أو تصحيح ومعالجة لما قد يكتسبه الأبناء في المدرسة من سلوكات غير مناسبة‪ .‬وهذا‬ ‫لا يعفي المدرسة من مهمات التربية‪ ،‬عن طريق أنواع ُأخرى من التفا ُعل الاجتماعي بين‬ ‫‪586‬‬

‫الطلبة وال ُمد ِّرسين؛ فالحياة المدرسية لا تقتصر ‪-‬بطبيعة الحال‪ -‬على تقديم المعلومات‪،‬‬ ‫والتدريب على المهارات‪ ،‬وإ َّنما تمتد لتشمل تعزيز صور التفا ُعل البشري‪ ،‬الذي لا يتم‬ ‫بطريقة آلية \"ميكانيكية\" جافة‪ ،‬بل بطريقة حيوية ملؤها الحب والعطف والرحمة‪ .‬وبذلك‬ ‫ندرك أهمية التكا ُمل بين مه َّمة الأسرة ومه َّمة المدرسة‪.‬‬ ‫وحتى حين تهتم الأسرة بتربية أبنائها ومتابعة تعليمهم المدرسي‪ ،‬فإ َّن اله َّم الأكبر ر َّبما‬ ‫ينصرف إلى التحصيل الدراسي‪ ،‬الذي يو ِّفر ُفرص ًة للتنافس على مقاعد الدراسة الجامعية‬ ‫بصورة عامة‪ ،‬أو التنافس في تخ ُّصصات معينة‪ .‬وتكاد تختفي عند الأسرة‪ ،‬أو في المجتمع‬ ‫بكامله‪ ،‬أ َّية استراتيجيات تربوية لتشكيل شخصية الفرد المتكاملة‪ ،‬أو تلبية متط َّلبات‬ ‫الاكتفاء الذاتي من الكفاءات والخبرات العلمية والعملية في المجتمع‪ .‬ولا يقتصر فشل‬ ‫النظام التربوي في المجتمعات الإسلامية على ضعف الهوية الإسلامية والوطنية‪ ،‬وتزايد‬ ‫الرغبة في الهجرة إلى بلدان ُأخرى‪ ،‬وإ َّنما يمتد هذا الفشل إلى صور ُأخرى‪ ،‬منها‪ :‬افتقار‬ ‫الخريجين إلى الكفاءة اللازمة لتلبية متط َّلبات النمو والتط ُّور‪ ،‬وارتفاع نِسب البطالة بين‬ ‫هؤلاء الخريجين‪ ،‬و ِم ْن َث َّم استيراد الخبرات الفنية العالية من الخارج‪ ،‬واعتماد العمالة‬ ‫الأجنبية حتى في المهن البسيطة‪.‬‬ ‫إ َّن إصلاح التعليم ‪-‬انطلاق ًا من جهود الأسرة‪ -‬يبدأ بتأهيل الوالدين لأداء المهمة‬ ‫الجليلة تأهيل ًا يفيدهما في أدائها‪ .‬ومن صور هذا التأهيل توفير التربية الوالدية ‪Parenting‬‬ ‫التي ُت ِعين الوالدين على اكتساب الوعي والمعرفة اللازمة للتعامل مع الظروف المؤ ِّثرة في‬ ‫تنشئة أبنائهم‪ ،‬وتح ُّمل مسؤولية هذه التنشئة‪ ،‬ليس من أجل إعدادهم لمسؤوليات الحياة‬ ‫فحسب‪ ،‬بل للنجاة من المصير المهين لهم ولأبنائهم في الآخرة؛ ذلك المصير الذي ينتظر‬ ‫َمن يف ِّرط في اعتماد مرجعية الوحي الإلهي والهدي النبوي في أداء هذه المسؤولية‪(((.‬‬ ‫إ َّن الإصلاح المؤمل في التعليم الذي يمكن للأسرة أن تقوم به هو إصلاح اجتماعي‬ ‫شامل يعيد للوالدين وظيفتهما التربوية‪ ،‬ولا سيما ما يختص بمهمة الأم في فترة الحمل‬ ‫((( نتذ َّكر في هذا المقام قوله ع َّز وج َّل‪﴿ :‬ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ‬ ‫ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ﴾ [التحريم‪.]٦ :‬‬ ‫‪587‬‬

‫والولادة والرضاعة والسنوات الأولى من عمر الطفل‪ ،‬إذ لا يتوقع أن يتولى غير الأم هذه‬ ‫المهمة بالصورة المنشودة‪ ،‬وثمة أفكار إصلاحية في هذا الشأن توفق بين هذه المهمة‬ ‫من جهة‪ ،‬وحق المرأة أو رغبتها في العمل من جهة أخرى‪ ،‬ومن هذه الأفكار أن تعد‬ ‫الأم موظفة بأجر مناسب طيلة زمن الحمل والولادة والتنشئة حتى يدخل آخر أطفالها‬ ‫المدرسة‪ ،‬وبعدها يمكن للأم أن تذهب للعمل‪.‬‬ ‫ونشير في هذا الشأن أن الساحة الفكرية والثقافية في معظم البلاد الإسلامية تمتلئ‬ ‫بالحديث عن حقوق المرأة والمساواة الكاملة مع الرجل‪ ،‬ويتم ذلك في معظم الأحيان‬ ‫تحت عناوين التحول الديمقراطي والمدني والليبرالي‪ ،‬ويجد توجيه ًا وتدريب ًا وتمويل ًا من‬ ‫مؤسسات أجنبية؛ مما يستدعي التدقيق في دوافعها وبرامجها في العالم الإسلامي‪.‬‬ ‫‪ .1‬مهمة التعليم العام في الإصلاح التربوي‪:‬‬ ‫ظهرت مؤسسات التعليم في المجتمع البشري في وقت مب ِّكر‪ ،‬منذ بدأ التنظيم‬ ‫والتخ ُّصص في تحقيق متط َّلبات الاجتماع البشري‪ ،‬ث َّم تط َّور هذا التنظيم في صور‬ ‫مختلفة‪ ،‬كان منها ُمع ِّلم الحرفة‪ ،‬و ُمع ِّلم الدين‪ ،‬و ُمع ِّلم الواجبات المنزلية‪ ،‬و ُمع ِّلم القتال‪،‬‬ ‫وغير ذلك‪ .‬وكان منها كذلك ُمع ِّلم ال ُك ّتاب‪ ،‬و ُمؤ ِّدب أبناء الملوك والأمراء والأغنياء‪.‬‬ ‫وكما وجدنا ال ُمع ِّلم المنفرد بال ُمتع ِّلم لتعلي ٍم مح َّدد‪ ،‬وجدنا المدرسة التي تجتمع فيها‬ ‫مجموعات الطلبة لتعلي ٍم خاص أو تثقي ٍف عام‪ ،‬والتي يقوم عليها ُمع ِّلمون‪ ،‬لك ٍّل منهم‬ ‫مهمة تعليمية مح َّددة‪ .‬وقد شهد التاريخ البشري وجو َد المدرسة العالية التي يقتصر فيها‬ ‫التعليم على موضوعات مح َّددة‪ ،‬ويتع َّلم فيها طلبة من مراحل عمرية متق ِّدمة‪.‬‬ ‫لقد أصبحت المدرسة هي المؤسسة الاجتماعية التي َأوكل إليها المجتم ُع توفي َر البيئة‬ ‫اللازمة للعناية بالنمو المتكامل لأبنائه‪ ،‬ومسؤولي َة نقل ثقافة المجتمع من جيل اليوم إلى‬ ‫الجيل الذي يليه‪ .‬ول ّما كانت الأسرة تتح َّدد بما تم ِّثله بيئ ُتها وخبراتها‪ ،‬وكان الطلبة يأتون‬ ‫إلى المدرسة من بيئات وخبرات مختلفة‪ ،‬فإ َّن الحاجة تشتد إلى نمط مختلف من التفا ُعل‬ ‫الاجتماعي بين طلبة هذه البيئات‪ ،‬وبين الطلبة وال ُمع ِّلمين وأنظمة الحياة المدرسية‪.‬‬ ‫‪588‬‬

‫ولذلك يتض َّمن التعليم المدرسي تع ُّلم الحقوق والواجبات‪ ،‬وتنظيم العلاقات مع الأفراد‬ ‫والفئات‪ ،‬والتوا ُفق والتعا ُون في الالتزام بالحقوق والواجبات‪ ،‬إضاف ًة إلى اكتساب المعرفة‬ ‫في الموضوعات التعليمية المختلفة‪.‬‬ ‫هذا هو حال المدرسة في كل المجتمعات‪ .‬أ ّما الفارق من مجتمع إلى آخر فيكمن في‬ ‫طبيعة الحقوق والواجبات‪ ،‬وعناصر الثقافة‪ ،‬وأخلاقيات التوا ُفق والتعا ُون ال ُمعت َمدة في‬ ‫كل مجتمع‪ .‬ونحن نفترض أ َّن الإصلاح التربوي المنشود في الرؤية الإسلامية سيراعي‬ ‫واقع مجتمعنا‪ ،‬وطبيعة البيئة الأسرية فيه‪ ،‬لتؤدي المدرسة مهمة تعزيز العناصر الإيجابية‬ ‫القادمة إليها من هذه البيئة‪ ،‬والتعامل مع ما قد يكون فيها من مشكلات‪ .‬ويقتضي التعامل‬ ‫مع المشكلات قدر ًا كبير ًا من الحكمة والرفق؛ فالتوجيه التربوي الإسلامي في المدرسة‬ ‫لا ينبغي أ ْن يو ِجد مشكلات جديدة في التعامل‪ .‬والتوا ُصل الحكيم بين المدرسة والأسرة‬ ‫ر َّبما لا يكون فقط وسيل ًة للتعامل مع الطالب‪ ،‬فقد يكون وسيل ًة لح ِّل مشكلات الأسرة‬ ‫نفسها‪ .‬إذن‪ ،‬فالإصلاح التربوي الإسلامي المنشود لا ُب َّد أ ْن يتصف بالتكا ُمل في أوساطه‬ ‫وبيئاته وأدواته‪.‬‬ ‫ولك َّن المسؤولية عن التعليم ستبقى ‪-‬في جميع الأحوال‪ -‬مسؤولي ًة مشترك ًة؛‬ ‫فالمجتمع ُمم َّثل ًا في هياكل الدولة يتح َّمل مسؤولية التخطيط الشامل لجميع برامج التربية‬ ‫ومناهج التعليم‪ ،‬والمجتمع المحلي في المدن والقرى والأحياء مسؤول عن توفير ما قد‬ ‫يجد من قصور في جوانب التربية والتعليم‪ ،‬والأسرة تتكامل مع برامج التربية والتعليم‬ ‫بأنواعه ومستوياته‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن المسؤولية لا ترتفع عن الفرد نفسه وفق ًا لمرحلته‬ ‫النمائية‪ ،‬ودرجة نضجه ووعيه‪.‬‬ ‫وبالرغم من الجدل الذي يثور أحيان ًا حول درجة نجاح (أو فشل) ُن ُظم التربية‬ ‫والتعليم في قيادة المجتمعات العربية والإسلامية نحو أهداف تنموية أو حضارية مح َّددة‪،‬‬ ‫والأثر المتزايد لبعض المؤ ِّثرات الأُخرى‪ ،‬مثل السياسة والإعلام‪ ،‬في الح ِّد من أثر النظام‬ ‫التربوي‪ ،‬فإ َّن التربية تبقى مدخل ًا‪ ،‬إ ْن لم تكن المدخل الأساس‪ ،‬إلى التغيير الاجتماعي‬ ‫والثقافي والحضاري؛ سواء أكان التغيير في الاتجاه السلبي‪ ،‬أم في الاتجاه الإيجابي‪.‬‬ ‫‪589‬‬

‫وقد أصبح من الشائع أ ْن نسمع ونقرأ أ َّن التربية (أو التعليم) هي قاطرة الإصلاح والتنمية‬ ‫والتغيير في أ ِّي مجتمع‪ ،‬ولكنَّنا أخذنا ندرك أ َّن نظام التربية والتعليم نفسه يحتاج إلى إصلاح‬ ‫وتغيير حتى يكون أساس ًا للإصلاح والتغيير في الأنظمة الأُخرى؛ ما يس ِّوغ القول بأ َّن التربية‬ ‫هي الداء والدواء‪ .‬ومن ال ُمتو َّقع أ ْن تكون جوانب الإصلاح التي ينبغي أ ْن تتو َّجه إلى النظام‬ ‫التربوي في مجتمعاتنا جوانب متعددة‪ ،‬كل جانب منها يستحق النظر والتحليل والبحث‪.‬‬ ‫وتبرز أهمية المدرسة في الإصلاح والتغيير الإيجابي عند الحديث عن الواقع‬ ‫الحالي للمجتمعات العربية والإسلامية فيما يخ ُّص الرؤية الإصلاحية الإسلامية؛ فهذه‬ ‫المجتمعات‪ ،‬وفق هذه الرؤية‪ ،‬متخ ِّلفة قياس ًا إلى ما يريده الإسلام لها‪ ،‬وإلى ما لديها من‬ ‫إمكانات‪ ،‬وبالمقارنة مع المجتمعات الأُخرى‪ .‬بيد أ َّن العلاقة بين الواقع القائم والمثال‬ ‫المأمول تتأ َّثر‪ ،‬بلا ش ٍّك‪ ،‬بعوامل متعددة‪ ،‬منها ما يخت ُّص بجوانب الشخصية البشرية‪،‬‬ ‫والسمات الروحية والجسمية والعقلية والنفسية التي يتح ّلى بها أفراد المجتمع‪ ،‬بحيث‬ ‫يكون السعي نحو تربية تتصف بالتوا ُزن والتكا ُمل في جوانب الشخصية‪ .‬ومنها ما يخت ُّص‬ ‫بالموضوعات التي تتمحور حولها العملية التعليمية‪ ،‬مثل‪ :‬موضوعات الدين‪ ،‬واللغة‪،‬‬ ‫والعلوم‪ ،‬والرياضيات‪ ،‬والتقنيات‪ ،‬وغيرها‪ .‬ومنها ما يخت ُّص بتن ُّوع الأغراض العملية‬ ‫للتربية؛ فهناك التعليم العام‪ ،‬والتعليم المهني‪ ،‬وغيرهما من أنواع التعليم ال ُمو َّجه إلى‬ ‫أغراض مح َّددة‪.‬‬ ‫ومن العوامل التي يجب مراعاتها في تخطيط الإصلاح التربوي الشامل تع ُّد ُد صور‬ ‫التربية التي يتأ َّثر بها الفرد‪ ،‬مثل‪ :‬التربية النظامية (التربية المدرسية ال ُمبر َمجة) ‪،Formal‬‬ ‫والتربية غير النظامية (ال ُمبر َمجة خارج المدرسة) ‪ ،Nonformal‬والتربية اللانظامية‬ ‫(التلقائية أو ال َع َر ِضية غير ال ُمبر َمجة) ‪.Informal‬‬ ‫إ ّن كثير ًا من المبادئ والممارسات التي أصبحت سائدة اليوم في الفكر التربوي ُت َع ُّد‬ ‫تجارب مفيدة‪ ،‬يمكن البناء عليها وتكييفها لأهداف الإصلاح التربوي الإسلامي المنشود؛‬ ‫فمن المبادئ التربوية المستقرة اليوم في معظم أنحاء العا َلم مبد ُأ إلزامية التعليم‪ ،‬ومجانية‬ ‫التعليم؛ فهو ح ٌّق يجب أ ْن يناله ك ُّل أبناء المجتمع‪ ،‬وواج ٌب ينبغي للمجتمع أ ْن يو ِّفره لجميع‬ ‫أبنائه‪ .‬ومن هذه المبادئ تنويع التعليم في مجال توفير الثقافة العامة والمعرفة المتخ ِّصصة‪،‬‬ ‫‪590‬‬

‫والتأهيل المهني والحرفي؛ لتلبية حاجات المجتمع في إدارة شؤونه‪ ،‬وتنمية موارده‪،‬‬ ‫وتحقيق مصالحه‪ ،‬وتمكينه من الإسهام الفاعل في بناء الحضارة‪ .‬ومن التنويع كذلك ما‬ ‫يخت ُّص بالتعليم النظامي الذي تق ِّدمه المؤسسات التعليمية بصورة مقصودة‪ ،‬والتعليم غير‬ ‫النظامي‪ ،‬بحيث تتكامل عناصر التعليم‪ ،‬و ُيؤ َخذ بالحسبان ما سوف يتأ َّثر به ال ُمتع ِّلم من‬ ‫التفا ُعل مع الواقع الاجتماعي؛ سواء كانت نتائجه إيجابية أو سلبية‪ .‬ومن ذلك توظيف‬ ‫وسائل التوا ُصل الحديثة في إغناء الممارسات التعليمية‪ ،‬وتيسيرها‪ ،‬ورفع كفاءتها‪.‬‬ ‫ومن جوانب التن ُّوع والتكا ُمل التي تقتضيها الحياة المعاصرة تضمي ُن لغات ُأخرى‬ ‫غير اللغة المحلية الرسمية في برامج التعليم‪ ،‬بصورة تم ِّكن المجتمع بصورة عامة من‬ ‫التفا ُعل مع مصادر التع ُّلم والثقافة الأُخرى‪ ،‬وتبنّي أواصر التعا ُون مع المجتمعات‬ ‫الأُخرى‪ ،‬أخذ ًا وعطا ًء؛ شريطة أ ْن لا يكون ذلك على حساب اللغة الرسمية‪ .‬واللغة العربية‬ ‫هي الأَ ْولى بالاهتمام في المجتمعات والتج ُّمعات الإسلامية خارج العا َلم العربي لتكون‬ ‫اللغة الثانية إلى جانب اللغة المحلية‪ ،‬ولغات الشعوب الإسلامية هي الأَ ْولى بالاهتمام في‬ ‫البلدان العربية لتكون اللغة الثانية إلى جانب العربية‪ ،‬مثل‪ :‬التركية‪ ،‬والفارسية‪ ،‬والأوردية‪،‬‬ ‫والمالوية‪ ،‬والإندونيسية‪ ،‬والسواحلية‪ ،...‬إضافة إلى القدر المناسب من اللغات الأجنبية‬ ‫السائدة في كثير من أنحاء العا َلم‪ .‬ولا نقصد بذلك ‪-‬بطبيعة الحال‪ -‬أ ْن يتع َّلم الطالب‬ ‫الواحد ك َّل هذه اللغات‪ ،‬وإ َّنما نقصد أ ْن يتيح النظام التربوي ُفرص ًا مناسب ًة ليتع َّلم ك ُّل‬ ‫طالب لغ ًة أو لغتين‪ ،‬إضاف ًة إلى لغته الرسمية‪.‬‬ ‫وقد شهد الفكر التربوي الحديث انتقالاً في مركز الاهتمام من التعليم إلى التع ُّلم‪،‬‬ ‫ومن ال ُمع ِّلم إلى ال ُمتع ِّلم‪ ،‬ومن المناهج المق َّررة إلى حرية الاختيار‪ ،‬ومن الموضوعات‬ ‫المنفصلة إلى الموضوعات المترابطة والمتكاملة‪ ،‬ومن الإدارة المركزية إلى الإدارة‬ ‫المحلية‪ ،‬ومن الإدارة التعليمية إلى القيادة التعليمية‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬ورافق هذا الانتقا َل‬ ‫‪-‬في بعض الأحيان‪ -‬قد ٌر من سوء الفهم بين ما ُي َع ُّد أفكار ًا قديم ًة وأفكار ًا حديث ًة‪ .‬والح ُّق‬ ‫‪-‬فيما نراه‪ -‬ليس في الفرق بين القديم والحديث؛ فليس َث َّمة مشكل ٌة في هذا الانتقال إذا‬ ‫اقتصر الأمر على توجيه الاهتمام اللازم إلى جوانب مهمة لم تنل الاهتمام الذي تستح ُّقه‪.‬‬ ‫فالتوا ُزن هو المطلوب في غالب الأحيان‪ ،‬وليس الانتقال إلى طر ٍف‪ ،‬والتخ ّلي عن الطرف‬ ‫‪591‬‬

‫الذي يقابله‪ ،‬فما أكث َر الحكم َة في بعض القديم! وما أق َّل النف َع في بعض الحديث! وما‬ ‫أحو َج الإنسا َن إلى التجديد على ك ِّل حال! وكم كشفت الخبرات المتراكمة عن مشكلات‬ ‫فيما ألفناه من ممارسات‪ ،‬وعن الحاجة إلى فهم جديد‪ ،‬ينشأ ع ّما نقوم به من التفكر‬ ‫والتد ُّبر‪ ،‬أو يكون اقتباس ًا من تجارب الآخرين‪.‬‬ ‫ونظر ًا لاتساع ميدان التربية والتعليم وحجم الطاقات التي يتط َّلبها الإصلاح التربوي‬ ‫في أ ِّي مجتمع؛ فإ َّننا نلفت الانتباه إلى قدر من الحكمة والتدبير في توظيف الأُطر البشرية‬ ‫المتاحة‪ ،‬وذلك بالنظر إلى المؤسسة التعليمية بوصفها وحدة الإصلاح التربوي‪ .‬ولنو ِّضح‬ ‫ذلك بمثال‪ :‬المدرسة هي مؤسسة تعليمية قد يكون فيها مئات الطلبة وعشرات ال ُمع ِّلمين‪،‬‬ ‫ومدير المدرسة يرأس هؤلاء جميع ًا‪ .‬ومن ال ُمؤ َّكد أ َّن كل طالب من الطلبة هو موضوع‬ ‫اهتمام في تمكينه من التع ُّلم‪ ،‬والاستفادة من التعليم؛ فليس من المقبول إهمال أ ٍّي منهم‪،‬‬ ‫وكذلك الأمر فيما يخ ُّص ال ُمع ِّلمين؛ فليس من المقبول أ ْن يكون ِمن بينهم َمن لا ُي ْح ِسن‬ ‫القيام بعمله‪ .‬فما الذي يستطيع مدير المدرسة أ ْن يقوم به من إصلاح تربوي يم ِّكنه من‬ ‫تحويل مدرسته إلى نموذج ناجح في هذا الإصلاح‪ ،‬يتك َّرر في مدارس ُأخرى‪ ،‬ليتح َّقق‬ ‫الإصلاح التربوي العام في المجتمع؟!‬ ‫إ َّن مفتاح ذلك ‪-‬فيما نراه‪ -‬هو ُح ْسن اختيار مدير المدرسة‪ ،‬وتأهيله‪ ،‬والعناية به؛‬ ‫ليقود مدرسته في مسيرة الإصلاح‪ ،‬وليبني في مدرسته \"ثقافة الإصلاح التربوي\" ‪Culture‬‬ ‫‪ .of Educational Reform‬ويشترك في ممارسة هذه الثقافة جميع َمن في المدرسة‪ ،‬و َمن‬ ‫حولها ِمن أولياء الأمور والبيئة المحلية‪ .‬والأمل أ ْن يكون إصلاح حال مديري المدارس‬ ‫عون ًا لإصلاح حال ال ُمع ِّلمين‪ ،‬ث َّم غيرهم م َّمن يتصل بالمدرسة بسب ٍب‪.‬‬ ‫ومما يجدر الانتباه إليه أن النقد الموجه إلى التعليم المدرسي سوا ًء في المناهج‬ ‫الدراسية أو البيئة الثقافية الإسلامية السائدة أصبح في الثلث الأخير من القرن العشرين وما‬ ‫بعد ذلك‪ ،‬يتوجه بصورة رئيسية إلى التعليم الديني الإسلامي والثقافة التربوية الإسلامية‬ ‫تحت ذريعة البحث عن جذور التخلف في أنماط التفكير‪ ،‬والانغلاق والتعصب‪ ،‬وكراهية‬ ‫الآخر‪ ،‬والتطرف‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬وقد نجح هذا النقد أحيان ًا في تقليل الوقت المخصص‬ ‫لمناهج التربية الإسلامية في المدارس‪ ،‬والتلاعب في هذه المناهج‪ ،‬وتسليط الإضواء‬ ‫‪592‬‬

‫الإعلامية عليها لتشويه صورتها‪ .‬ونحن في حديثنا على إصلاح الفكر التربوي الإسلامي‪،‬‬ ‫نؤكد حاجة مناهج التربية الإسلامية وجميع المناهج الدراسية الأخرى إلى التطوير‬ ‫المستمر لبناء منظومة القيم القادرة على تمكين أجيال الأمة من الإسهام في النهوض‬ ‫الحضاري المنشود‪ ،‬أما استهداف مناهج التربية الإسلامية بالنقد والتشويه‪ ،‬على الرغم‬ ‫من أنها الحاضنة الأساسية لمنظومة قيم الأمة‪ ،‬فنخشي أن يكون ذلك انسلاخ ًا من الهوية‪،‬‬ ‫وتكريس ًا للتبعية‪ ،‬وتعطيل ًا للنهوض الحقيقي‪.‬‬ ‫‪ .2‬الإصلاح التربوي والتعليم الجامعي‪:‬‬ ‫يستند حديثنا عن إصلاح الفكر التربوي‪ ،‬على مستوى التعليم الجامعي‪ ،‬إلى عدد‬ ‫من الافتراضات الضمنية‪ ،‬أهمها أ َّن الإصلاح الفكري في واقع الأُ َّمة المسلمة هو أولوية‬ ‫في الاهتمام بوصفه قاطرة الإصلاح في المجالات الأُخرى؛ ذلك أ َّن الحديث يتو َّجه‬ ‫أساس ًا إلى النخب العلمية والفكرية والمثقفة في إدارات الجامعات وأساتذتها‪ .‬فالجامعة‬ ‫هي مؤسسة الإعداد والتأهيل لقيادات الفكر والعلم والعمل في سائر ميادين النشاط في‬ ‫المجتمع الحديث؛ إذ إ َّنها تتح َّمل مسؤولية تشكيل عقليات الطلبة‪ ،‬وتوفير ال ُفرص اللازمة‬ ‫لامتلاك المهارات المتق ِّدمة في التفكير والبحث وح ِّل المشكلات في المهن المختلفة‪،‬‬ ‫عن طريق برامج الدراسات الجامعية العليا (الماجستير‪ ،‬والدكتوراه) تحديد ًا‪ .‬ث َّم إ َّن‬ ‫أكثر َمن يتو ّلون العمل في مراحل التعليم العام في المدرسة وما قبلها في مرحلة الطفولة‬ ‫المب ِّكرة‪ ،‬إ َّنما هم خريجو الجامعات‪ .‬وكثي ٌر من الشباب لا يصبحون آباء و ُأ َّمهات قبل أ ْن‬ ‫يتخ َّرجوا في الجامعة‪ ،‬ويصلون فيها إلى قدر من النضج النفسي والاجتماعي‪ ،‬والوعي‬ ‫بمتط َّلبات التربية الوالدية والأسرية‪.‬‬ ‫ولك َّن الحديث عن الإصلاح في التعليم الجامعي بالعا َلم الإسلامي هو حدي ٌث‬ ‫متش ِّعب؛ فواقع هذا التعليم يعاني كثير ًا من المشكلات‪ ،‬منها ما هو حديث العامة والخاصة‪،‬‬ ‫مثل الغياب المذهل لأسماء جامعات العا َلم الإسلامي عن قوائم أسماء أفضل الجامعات‬ ‫في العا َلم‪ ،‬وفق مختلف المعايير التي تضعها مؤسسات تقويم الجامعات؛ سواء كان ذلك‬ ‫من حيث حجم الإنفاق على البحث العلمي‪ ،‬أو نسبة عدد الأساتذة إلى عدد الطلبة‪ ،‬أو عدد‬ ‫برامج الدراسات العليا‪ ،‬أو الإنجاز العلمي للأساتذة‪ ،‬أو غير ذلك من المعايير‪ .‬والأخطر من‬ ‫‪593‬‬

‫ذلك كله هو مسألة المضمون العلمي والفكري الذي يجري تعليمه أو تطويره في جامعات‬ ‫العا َلم الإسلامي؛ فهو في الغالب مضمون مستورد من الغرب الأوروبي والأمريكي‪ ،‬وإ َّن‬ ‫التعامل معه ‪-‬في أحسن الأحول‪ -‬يكون تدريس ًا وتطوير ًا وإنتاج ًا‪ ،‬وفق المنهجية السائدة‬ ‫في البلاد التي وصلنا منها‪ ،‬مع غياب التحليل النقدي الذي يكشف عن المنطلقات الفلسفية‬ ‫لذلك المضمون‪ ،‬وغياب روح التجديد والإبداع‪ ،‬وحوافز الابتكار والاكتشاف‪ .‬ويتم‬ ‫بذلك استلاب الأستاذ الجامعي والطالب الجامعي لصالح العلوم والأفكار‪ ،‬في صياغاتها‬ ‫الغربية؛ سواء تم ذلك بوع ٍي لهذا الاستلاب‪ ،‬أو بغير وع ٍي له‪ .‬ومع هذا الاستلاب تضيع‬ ‫الذا ُت؛ أ ُّي ذا ٍت قومي ًة كانت‪ ،‬أو ديني ًة‪ ،‬أو وطني ًة‪ ،‬وتفقد هويتها وتم ُّيزها‪.‬‬ ‫ويتسع الحديث عن إصلاح التعليم الجامعي للمشكلات الكثيرة التي يعانيها؛ سواء‬ ‫اخت َّصت هذه المشكلات بالإدارة والتنظيم والقيادة الجامعية‪ ،‬أو بالبرامج والتخ ُّصصات‬ ‫العلمية والمهنية‪ ،‬أو بمصادر التمويل والإنفاق‪ ،‬أو بشروط قبول الطلبة‪ ،‬وشروط‬ ‫تخ ُّرجهم‪ ،‬أو بأساليب التدريس ووسائله ونشاطاته‪ ،‬أو ببيئة البحث العلمي وبرامجه‬ ‫وموضوعاته وتمويله‪ ،‬أو غير ذلك‪ .‬ولك َّن المشكلة الكبرى التي نقترح أ ْن تتو َّجه إليها‬ ‫الأنظار‪ ،‬ويتط َّور الاهتمام بها‪ ،‬هي طبيعة الأزمة التي يم ُّر بها التعليم الجامعي الحديث في‬ ‫العا َلم الإسلامي منذ بداية تأسيسه في أقطار هذا العا َلم في مرحلة الاستعمار‪ ،‬والتي تتم َّثل‬ ‫في صورة \"أزمة حضارية\" تج َّلت في غياب الهوية والانتماء إلى الأُ َّمة؛ ذلك أ َّن فلسفة‬ ‫التعليم الجامعي وقعت في إشكالية الاهتمام بالمادي على حساب القيمي‪ ،‬وسوق العمل‬ ‫على حساب إنتاج العلم والمعرفة‪ ،‬والتنمية الاقتصادية على حساب العمران الحضاري‪،‬‬ ‫والمدني على حساب الديني‪ ،‬والخبرة الأجنبية على حساب الخبرة الوطنية‪ ،‬وغير ذلك‬ ‫من الثنائيات المتقابلة‪ ،‬مع العلم بأ َّن الأص َل هو التكا ُم ُل والتوزان فيها جميع ًا‪.‬‬ ‫ومن المؤسف أ َّن البحث في قضايا التعليم الجامعي يه ِمل الاهتمام بهذه \"الأزمة‬ ‫الحضارية\"؛ فال ُب ْعد التجاري الاقتصادي لإدارة التعليم الجامعي وتمويله وتطوير برامجه‬ ‫من جهة‪ ،‬وسوق العمل من جهة ُأخرى يش ِّكلان أهم جوانب الاهتمام‪.‬‬ ‫ونحن نرى أ َّن جهود الإصلاح لا ُب َّد أ ْن تبا ِشر التركيز على القضايا التي يتي َّسر فيها‬ ‫الإصلاح‪ ،‬وتكون ضمن دائرة اهتمام ال ُمص ِلح‪ ،‬أو تخ ُّصصه‪ ،‬أو مسؤوليته‪ .‬فعدم قدرة الأستاذ‬ ‫‪594‬‬

‫الجامعي على الإصلاح في مجال معين ‪-‬مثل ًا‪ -‬لا يعفيه من مسؤولية الإصلاح في المجال‬ ‫الذي يمكنه فيه القيام بذلك‪ ،‬أو ُتط َلب منه المسؤولية عنه‪ .‬ف َث َّمة درج ٌة كبيرة من الحرية عند‬ ‫الأستاذ الجامعي في مجالات متعددة‪ ،‬للاختيار والاجتهاد والتوا ُصل مع الطلبة؛ حوار ًا‬ ‫وتفا ُعل ًا‪ ،‬وتوجيه ًا وتأثير ًا‪ ،‬ث َّم إصلاح ًا‪ .‬ولع َّل ذلك هو بيت القصيد في حديثنا الحالي عن‬ ‫الإصلاح الجامعي‪.‬‬ ‫أ َّما الهيكل العام لجهود الإصلاح في التعليم الجامعي‪ ،‬التي يمكن أ ْن تتو َّجه إلى‬ ‫ال َم ْعنِ ّيين بإصلاح هذا التعليم في الرؤية الإسلامية‪ ،‬فإ َّننا نقترح أ ْن يتك َّون م ّما يأتي‪:‬‬ ‫‪ .1‬الوعي بالتح ِّديات التي توا ِجه التعليم الجامعي في العا َلم الإسلامي‪ ،‬وهي كثيرة‪،‬‬ ‫وأهمها على الإطلاق هو التبعية العلمية والفكرية التي تتم َّثل في الاعتماد على‬ ‫استيراد المناهج والكتب المرجعية والمنهجية من الخارج‪ ،‬ونحن نستوردها‬ ‫ُمح َّمل ًة بموضوعاتها ولغتها‪ ،‬وبمرجعياتها الفلسفية ورؤاها للعا َلم‪ ،‬وبصياغاتها‬ ‫النظرية وتطبيقاتها العملية من الخارج‪ .‬فالوعي بهذا التح ّدي‪ ،‬والتخطيط لمواجهته‬ ‫وفق خطط مرحلية مناسبة‪ ،‬يقع على رأس أولويات الإصلاح في التعليم الجامعي‪.‬‬ ‫‪ .2‬مهما كانت الوظائف التي تقوم بها الجامعات اليوم‪ ،‬فلا ُب َّد من جامعات متخ ِّصصة‪،‬‬ ‫أو كليات متخ ِّصصة في هذه الجامعات‪ ،‬تتو ّلى المهمة الأساسية للتعليم الجامعي؛‬ ‫وهي إنتاج المعرفة ونشرها‪ ،‬وإعداد الباحثين القادرين على إنتاجها وتوظيفها‪،‬‬ ‫ويم ِّثل ذلك في تقديرنا أحد أساليب مواجهة تح ّدي التبعية المشار إليه آنف ًا‪.‬‬ ‫‪َ .3‬ث َّمة حالا ٌت يأتي فيها الطالب إلى الجامعة‪ ،‬وهو ُمفت ِق ٌد للأساس المتين لفهم‬ ‫الإسلام في مبادئه‪ ،‬وأحكامه‪ ،‬وفكره‪ ،‬وثقافته‪ .‬ولا يتسع التعليم الجامعي لإعادة‬ ‫تكوين هذا الفهم من جديد‪ .‬والذي نقترحه في هذا المجال يأتي في صورتين؛‬ ‫الأُولى‪ :‬تفعيل حضور الفكر الإسلامي والممارسة الإسلامية في الحياة الجامعية‬ ‫بصورة يعيشها الطلبة واقع ًا ح ّي ًا‪ ،‬والثانية‪ :‬تقديم برامج جديدة في الدراسات‬ ‫الجامعية في مجالات العلوم الإسلامية وقضايا الفكر الإسلامي‪ ،‬يكون فيها‬ ‫التركيز على تنزيل الأحكام والمقاصد على الواقع المعاصر‪ ،‬والتخفيف من‬ ‫الاستغراق في تاريخ العلوم‪.‬‬ ‫‪595‬‬

‫‪ .4‬من الضروري الاهتمام ببرامج الدراسات العليا؛ لما تتيحه هذه البرامج من توا ُصل‬ ‫بين الطلبة والأساتذة‪ ،‬وما تقتضيه من تف ُّرغ للبحث في مسألة متخ ِّصصة‪ ،‬تتيح‬ ‫مجا َل التع ُّمق في فهمها‪ ،‬وإنتا َج المعرفة فيها‪ ،‬وح َّل المشكلات المتصلة بها‪ .‬إ َّن‬ ‫اختيار موضوع التدريس والبحث في الدراسات الجامعية العليا‪ ،‬للتحاور حول‬ ‫ُفرص الإصلاح فيه‪ ،‬يأتي من باب الحرية المتاحة للأستاذ الجامعي‪ ،‬للتوا ُصل‬ ‫مع طلب ٍة على درجة متق ِّدمة من النضج والاستعداد للتفا ُعل‪ ،‬ور َّبما يكون هذا‬ ‫التوا ُصل مث ِمر ًا؛ نظر ًا لعدد الطلبة القليل في هذه البرامج‪ ،‬مقارن ًة بعدد الطلبة في‬ ‫برامج الدرجة الجامعية الأُولى‪.‬‬ ‫‪ .5‬خضوع ممارسة التعليم الجامعي لأعراف وعادات يغيب فيها التطوي ُر والإبداع‬ ‫اللازمان للإصلاح التربوي والبناء الحضاري‪ .‬ولذلك نقترح تصميم برامج‬ ‫تدريب‪ ،‬ورفع كفاءة‪ ،‬ونقل خبرات أو تبادل لها‪ ،‬ولا سيما للأساتذة الذين‬ ‫يمارسون التدريس في برامج الدراسة العليا‪ ،‬والإشراف على الأطروحات‬ ‫الجامعية في هذه البرامج؛ إذ إ َّن مجال الإصلاح في الدراسة الجامعية العليا‬ ‫يتسع لتقدير مدى الحاجة إليها‪ ،‬وتحديد أهدافها وأولوياتها‪ ،‬وتوفير متط َّلباتها‪،‬‬ ‫وتصميم برامجها‪ ،‬والطريقة المناسبة لإدارتها واختيار طلبتها وأساتذتها‪ .‬وكثير‬ ‫من هذه المسائل لا تقع ضمن مسؤولية الأستاذ الجامعي بصورة مباشرة‪ .‬ومع‬ ‫ذلك‪ ،‬فإ َّن لبعض الأساتذة دور ًا محوري ًا فيها‪ ،‬بحكم مسؤولياتهم الإدارية‬ ‫في العمل الجامعي؛ من مستوى رئيس القسم‪ ،‬أو عمادة الكلية‪ ،‬أو رئاسة‬ ‫الجامعة‪ ،‬إلى عضوية اللجان التي توكل إليها مثل هذه المسائل في المستويات‬ ‫المختلفة من المسؤولية الإدارية؛ سواء أكان ذلك لتقديم المشورة والمقترحات‬ ‫والملاحظات‪ ،‬أم لاتخاذ القرارات‪ .‬لك َّن الذي لا شك فيه أ َّن الأستاذ الجامعي‬ ‫في برامج الدراسات العليا سيكون ‪-‬في نهاية المطاف‪ -‬أمام عدد محدود من‬ ‫الطلبة الذين يمتلكون قدر ًا من التم ُّيز‪ ،‬والنضج‪ ،‬والاستعداد‪ ،‬وتو ُّفر الحوافز؛ ما‬ ‫يجعلهم ُفرص ًة ثمين ًة لكي يباشر معهم الأستاذ الجامعي جهود الإصلاح الفكري‬ ‫والعلمي‪ ،‬ويفتح لهم ولنفسه معهم ُفرص ًا واسع ًة للنمو والتق ُّدم والإنجاز‪.‬‬ ‫‪596‬‬

‫‪ .6‬الوعي بأهمية الأنموذج العملي في الإصلاح التربوي والتعليمي كان منذ وقت‬ ‫مب ِّكر‪ ،‬وقد جاء هذا الوعي ضمن اقتراح تأسيس جامعة كاملة‪ ،‬لتصبح أنموذج ًا‬ ‫للإصلاح المنشود في مجال التعليم العالي‪ ،‬وذلك بإدخال خبرات وتجارب‬ ‫تخت ُّص بالتكا ُمل المعرفي‪ ،‬الذي يجمع في برامج الجامعة معارف الوحي‪ ،‬والعلوم‬ ‫الإنسانية والاجتماعية‪ ،‬والتخ ُّصص المزدوج‪ ،‬والتخ ُّصص الرئيسي والفرعي‪،‬‬ ‫والبيئة الجامعية الحافزة إلى الإبداع والابتكار والإسهام في خدمة المجتمع‪.‬‬ ‫وبالرغم من أ َّن بعض الجامعات والكليات قد تأ َّسست على هذا الوعي‪ ،‬ومع‬ ‫تقديرنا للخبرة التي تراكمت في هذا المجال‪ ،‬فإ َّننا لا نزال ‪-‬وسنبقى‪ -‬بحاجة‬ ‫ما َّسة إلى تطوير البرامج والممارسات فيها لتصبح مراكز تم ُّيز على مستوى الفكر‬ ‫التربوي والتعليمي العالمي ‪ .Centers for excellence‬وفي هذا المجال‪ ،‬فإ َّننا‬ ‫نتو َّجه إلى بعض المؤسسات المتخ ِّصصة للاهتمام بهذه المراكز‪ ،‬ونخ ُّص بالذكر‬ ‫هنا المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسسكو)‪ ،‬واتحاد جامعات‬ ‫العا َلم الإسلامي‪ ،‬ورابطة الجامعات الإسلامية‪ ،‬وغيرها‪.‬‬ ‫‪ .7‬إغناء الوسط الجامعي بنشاطات علمية ُمك َّثفة في صورة ندوات ومؤتمرات‬ ‫ودورات تكوينية‪ ،‬عن قضايا فكرية عامة؛ لتوليد زخم من الاهتمام‪ ،‬والبناء على‬ ‫ما يتك َّون في كل نشاط‪ ،‬والتوسيع المتد ِّرج لدوائر الاهتمام‪ ،‬حتى تسود \"ثقافة‬ ‫الإصلاح التربوي\" ‪.Culture of educational reform‬‬ ‫إ َّن هذه المقترحات هي دعوة مفتوحة لل َم ْعنِ ّيين بصورة مباشرة بالجامعات في العا َلم‬ ‫العربي والإسلامي‪ ،‬ولك ِّل المف ِّكرين والباحثين وحملة مشاريع الإصلاح في الأُ َّمة؛ أ ْن‬ ‫يولوا ملف الإصلاح في التعليم الجامعي الأهمية التي يستحقها‪ ،‬حتى لا ُتستن َزف كل‬ ‫الطاقات المتاحة في الاهتمامات ال ُم ِل َّحة بالشؤون السياسية والاقتصادية‪ ،‬فلا يبقى‬ ‫للإصلاح الفكري والتربوي والتعليمي ما َيلزمه من جهود‪ ،‬بالرغم من أ َّنه الإصلاح‬ ‫العميق الأثر‪ ،‬والبعيد المدى‪ ،‬والضمان الأهم لمستقبل الأُ َّمة في أجيالها القادمة‪.‬‬ ‫‪597‬‬

‫‪ .4‬أهمية وسائل الإعلام في الإصلاح التربوي‪:‬‬ ‫أصبحت وسائل الإعلام والاتصال والتوا ُصل في الحياة المعاصرة شديدة التأثير‬ ‫(سلب ًا‪ ،‬وإيجاب ًا) في الاعتقاد الديني‪ ،‬والتنشئة الاجتماعية‪ ،‬والتطبيع الثقافي‪ ،‬والتو ُّجه‬ ‫النفسي والأخلاقي‪ ،‬والبناء الفكري‪ ،‬والانتماء السياسي‪ ،‬والسلوك الاقتصادي‪ ،‬وغير‬ ‫ذلك من جوانب الاعتقاد والسلوك‪ ،‬وبناء المواقف‪ ،‬وال ُح ْكم على الأشياء والأحداث‬ ‫والأشخاص والأفكار‪ ...‬ولا ننسى أ َّن كثير ًا م ّما تب ُّثه وسائل الإعلام‪ ،‬وتنشره وسائل‬ ‫الاتصال‪ ،‬مشحون بالأفكار والاتجاهات والقيم‪ ،‬حتى لو جاء أداؤها الإعلامي في صورة‬ ‫خبر‪ ،‬أو في كلمات أغنية‪ ،‬أو لحن موسيقي‪ ،‬أو برنامج ترفيهي‪ ،‬أو تحقيق وثائقي‪ ،‬أو خطاب‬ ‫سياسي؛ فالرسالة الإعلامية ال ُمو َّجهة تستطيع أ ْن ُتغ ِّير من حالة اجتماعية عامة تتح َّكم فيها‬ ‫قيم ٌة راسخ ٌة‪ ،‬و ُتس ِقط مفهوم ًا فكري ًا أو سياسي ًا ل ُت ِقي َم َب َد َله مفهوم ًا آخ َر‪ ،‬أو ُته ِّيئ الناس لرفض‬ ‫(أو قبول) ما ُيخ َّطط له من مشروعات تنموية‪ ،‬أو تربوية‪ ،‬أو سياسية‪ ،‬أو غيرها‪.‬‬ ‫ولذلك‪ ،‬فإ َّننا نج ُد أ َّن كل المؤسسات والمنظمات والاتجاهات السياسية والفكرية‬ ‫والتعليمية والفنية تستخدم وسائل الإعلام والاتصال والتوا ُصل لش ّتى الأغراض النبيلة‬ ‫والخبيثة‪ ،‬حتى إ َّن الفرد الواحد يستطيع أ ْن يستعمل بعض وسائل الاتصال الحديثة لتكوين رأي‬ ‫عام عن قضية معينة‪ ،‬تنتهي بقرار سياسي‪ ،‬أو إداري‪ ،‬أو اقتصادي على درجة كبيرة من الأهمية‪.‬‬ ‫ونظر ًا لأ َّن وسائل الإعلام والاتصال والتوا ُصل تعتمد على وضع المعلومة أو نشرها؛‬ ‫فإ َّنها تستخدم أحيان ًا أدا ًة بالغ َة التأثير في التلاعب بالمعلومة؛ إيجاد ًا‪ ،‬وإثبات ًا‪ ،‬ونفي ًا‪،‬‬ ‫وتغيير ًا‪ ،‬من أجل اتخاذ قرار إداري‪ ،‬أو تربوي؛ أو لافتعال موقف سياسي‪ ،‬أو اقتصادي‪ ،‬أو‬ ‫اجتماعي؛ أو لتبرير المعارك وش ِّن الحروب‪.‬‬ ‫ومن ال ُملا َحظ على المستوى المحلي والعالمي أ َّن التو ُّسع في توظيف وسائل الإعلام‬ ‫والاتصال والتوا ُصل كان على حساب انحسا ٍر واض ٍح في موقع الأسرة والمدرسة‪ ،‬وهما‬ ‫المؤسستان التقليديتان اللتان كانتا ُتؤ ِّديان مهمة التنشئة‪ ،‬والتوجيه‪ ،‬والتغيير‪ ،‬والتعليم‪،‬‬ ‫والإعداد لمسؤوليات الحياة‪ .‬فالأسرة التي كانت تضطلع بمهمات تربوية أساسية‪ ،‬ينشأ‬ ‫فيها الصغار على أنماط من التفا ُعل والتوا ُصل والسلوك النفسي والاجتماعي‪ ،‬لم تعد فيها‬ ‫‪-‬في كثير من الحالات‪ُ -‬فر ٌص لهذا التفا ُعل؛ فليس الصغا ُر فقط هم المشغولين بوسائل‬ ‫التوا ُصل ومتابعة أجهزة الإعلام‪ ،‬وإ َّنما الكبار أيض ًا‪ ،‬ولم تعد وسائل الإعلام التي يتم‬ ‫‪598‬‬

‫التقاط ب ِّثها محدود ًة في عدد قليل من هذه الوسائل‪ ،‬وعدد محدود من ساعات الب ِّث‪ ،‬بل‬ ‫أصبحت هذه الوسائل على درجة كبيرة من الكثرة‪ ،‬والتن ُّوع‪ ،‬والتناقض‪ ،‬وسعة التغطية‬ ‫على مدار الساعة؛ ما أعاد تشكيل أنماط الحياة الاجتماعية‪ ،‬وغ َّير قيمها ومعايير السلوك‬ ‫فيها‪ ،‬وأوجد بيئ ًة ثقافي ًة واجتماعي ًة وتربوي ًة بديل ًة عن أ َّية بيئة ُأخرى‪.‬‬ ‫وأصبحت وسائل الإعلام موضوع ًا لدراسات وبحوث كثيرة‪ ،‬منها ‪-‬على سبيل المثال‪-‬‬ ‫دراسات حاولت معرفة عدد الساعات الذي يقضيها الأطفال في استعمال وسائل الإعلام‬ ‫والاتصال والتوا ُصل‪ ،‬وعلاقة ذلك بالتحصيل التربوي‪ ،‬وبالصحة البدنية والنفسية والعقلية‪.‬‬ ‫وكذلك ُع ِقدت مؤتمرا ٌت كثيرة عن الأثر السلبي والأثر الإيجابي لوسائل الإعلام‬ ‫والاتصال في العمل التربوي‪ ،‬ولا سيما وسائل التوا ُصل الاجتماعي الحديثة التي فاقت‬ ‫في أثرها الوسائل السابقة‪ .‬وكثي ٌر من هذه الدراسات ُت ِق ُّر بصعوبة منع استعمال هذه‬ ‫الوسائل‪ ،‬بالرغم من المخاطر الكبيرة التي أدخلت مجتمعاتنا فيها‪ ،‬وتكتفي بتوجيهات‬ ‫معينة للح ِّد من هذه المخاطر‪ ،‬وتوجيه استعمال هذه الوسائل بصورة مفيدة‪(((.‬‬ ‫ويجدر التنويه بأ َّن وسائل التوا ُصل الاجتماعي الحديثة قد م َّكنت من توسيع دائرة‬ ‫التوا ُصل بين الطلبة وال ُمع ِّلمين من جهة‪ ،‬وبين الإدارة المدرسية وأولياء الأمور من جهة‬ ‫ثانية‪ ،‬وبين الطلبة أنفسهم من جهة ثالثة‪ .‬وللقضايا التربوية والتعليمية نصيب كبير في دائرة‬ ‫التوا ُصل‪ ،‬من حيث تباد ُل مصادر التعليم والتع ُّلم‪ ،‬ومتابع ُة تع ُّلم الطلبة‪ ،‬وح ُّل المشكلات‪.‬‬ ‫ومع استعمال هذه الوسائل‪ ،‬لم تعد دائرة التوا ُصل محكومة بساعات الدوام المدرسي‪ ،‬أو‬ ‫الاجتماعات الرسمية ال ُمبر َمجة‪.‬‬ ‫لقد كثرت الشكوى من سوء الآثار الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والتربوية‬ ‫لوسائل التوا ُصل الاجتماعي الحديثة‪ .‬وكثر الكلام في مجتمعاتنا عن صعوبة ضبط طرق‬ ‫استعمالها والتعامل معها‪ ،‬كأ َّنها َق َد ٌر لا را َّد له‪ .‬وحقيقة الأمر أ َّن هذه الوسائل هي من قبيل‬ ‫الأدوات التقانية التي ما َفتِئ الإنسان يخترعها على مدار التاريخ‪ ،‬وسوف ترى الأجيال‬ ‫((( ا َّطلعنا على عدد من البحوث والدراسات والمؤتمرات التي تخصصت في الآثار النفسية والتربوية لوسائل‬ ‫الإعلام الحديثة‪ ،‬ونكتفي بالتنويه بالجهود التي ُب ِذلت في هذا المجال‪ ،‬من دون استقصائها وتحليلها؛ فذلك‬ ‫عم ٌل آخ ُر نوصي به من جهة‪ ،‬ونوصي ‪-‬على وجه الخصوص‪ -‬بدراسة مستقلة لتحليل الدراسات والبحوث‬ ‫ال ُمق َّدمة للمؤتمرات العلمية في البلاد العربية‪ ،‬من حيث‪ :‬أهدا ُف هذه الدراسات‪ ،‬ومناه ُج البحث المستخدمة‬ ‫فيها‪ ،‬وأه ُّم نتائجها‪.‬‬ ‫‪599‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook