وإذا كان مفهوم \"العولمة\" في أساسه تعبير ًا عن توا ُصل م َّطرد بين دول العا َلم في مجال الاتصال والمال والأفكار السياسية ،فإ َّنه يتصل بمفهوم آخر هو \"التدويل\" ،Internationalizationالذي يع ِّبر عن حركة الشركات التجارية والمؤسسات الخدمية عبر البلدان المختلفة؛ نظر ًا للأهمية المتزايدة للتجارة والعلاقات الدولية ،وما تتض َّمنه من معاهدات وتحالفات ومشاركات .وقد أصبح شعار \"دولي\" Internationalأسلوب ًا لجذب الزبائن إلى السلع أو الخدمات ،حتى لو لم يكن فيها أ ُّي صفة من صفات الدولية. و ُت َع ُّد ظاهر ُة انتشار المدارس الدولية \"الغربية\" في كثير من بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية ،وفتح فروع للجامعات الغربية في هذه البلدان (((،أمثل ًة على تدويل الخدمات التربوية الغربية في مجالات متعددة ،منها :التعليم النظامي ،والتعليم غير النظامي ،وما يرتبط بالتعليم من مناهج ،وكتب دراسية ،واختبارات ،وتدريب ،واستشارات ،وتمويل، وغير ذلك .و َث َّمة دراسا ٌت متعددة عن ظاهرة انتشار المدارس الدولية وآثارها ،منها دراسة ُأج ِريت عن هذه الظاهرة في عشر ٍة من بلدان آسيا ،وقد كشفت عن تغييرات عميقة في ُن ُظم التعليم في هذه البلدان؛ فهذه المدارس أخذت طابع المأسسة العالمية والسوق التجاري العالمي ،فكانت النتيجة أ َّن العديد من الأسر الأكثر ثرا ًء أخذت تنظر إلى المدارس الدولية بوصفها خيار ًا مرغوب ًا فيه ،وتبحث عن طرق لتسجيل أطفالها فيها .وقد استجابت الدول التي تستضيف هذه المدارس بتطوير سياسات تتض َّمن تنازلات تسمح للأسواق التجارية العالمية بالوصول إلى أنظمة التعليم الوطنية .وكان لهذه التنازلات آثارها في توسيع ظاهرة عدم تكافؤ ال ُفرص لأبناء المجتمع في نوعية التعليم ،وتخلخل روح المواطنة والهوية الوطنية .فالطلبة في المدارس الدولية يمارسون حياة اجتماعية مختلفة ع ّما يمارسه طلبة المدارس الوطنية؛ ذلك أ َّن القدرة على دفع الرسوم المرتفعة للمدارس الدولية هي التي نقلت الطلبة إلى هذه المدارس ،و ِم ْن َث َّم تضاف مشكلة عدم المساواة في ال ُفرص إلى مشكلة الاختلاف في نمط الحياة الاجتماعية (((.وقد اختار الباحث في عنوان البحث كلمة Stealth Marketization ليعطي عملي َة انتشار المدارس الدولية في مجتمعات العا َلم معنى التس ُّرب بهدوء وخفية(((. ((( بلدان الخليج العربي مثا ٌل واض ٌح على كثرة المدارس الدولية (الغربية) ،وفروع الجامعات الغربية. (2) Kim, Hyejin & Mobrand, Erik. Stealth Marketization: How International School Policy is Quietly Challenging Education Systems in Asia, Globalization, Societies and Education, Online Journal, Published online, 25 Jan 2019, DOI: 10.1080/14767724.2019.1571405. (3) Ibid. 550
والمقصود بالمدارس الدولية في الدراسة المشار إليها ،تلك المدارس التي تعود إلى شبكات تجارية أجنبية عابرة للمجتمعات ،أو المدارس الخاصة الوطنية التي تق ِّدم برامج أجنبية ،مثل :البرنامج الأمريكي (((،SATأو البرنامج البريطاني (((،IGCSEأو البكالوريا الدولية (((.IBونظر ًا للطلب على هذه الأنواع من البرامج الأجنبية؛ فإ َّن بعض المدارس الخاصة لا تكتفي بتقديم برنامج واحد منها ،بل تق ِّدمها جميع ًا .وقد انتشرت هذه البرامج في العقود الثلاثة الأخيرة في معظم البلدان العربية والإسلامية على نطاق واسع. لقد تع َّززت ق َّوة تيار العولمة والتدويل عن طريق التط ُّور السريع في ُن ُظم المعلومات ووسائل الاتصال الحديثة ،حتى أصبح تيار ًا جارف ًا لا سبيل لمقاومته .ولم يعد أمام المجتمعات إلا البحث عن استراتيجيات ف ّعالة للتعامل الحكيم معه ،بصورة تع ِّظم بعض مكتسباته الإيجابية ،وتق ِّلل من أثره السلبي في مق ِّومات الهوية الفكرية للمجتمع ،أو تتجاهل الخصوصيات المرجعية الوطنية .ومؤسسات التربية تحديد ًا هي ال ُمؤ َّهلة أكثر من غيرها لتطوير الاستراتيجيات اللازمة لتحصين الطلبة ضد ما يه ِّدد هويتهم الحضارية، وتمكينهم من اكتساب التفكير التحليلي الناقد ،والثقة بالنفس ،والاتجاهات الإيجابية البنّاءة ،والقيم الأخلاقية النبيلة. لقد أتاح تيار العولمة والتدويل -وما يع ِّززه من منجزات المعلوماتية ووسائل الاتصال والتوا ُصل -المجال لانفتاح الثقافات بصورة تم ِّكن الثقافة الأقوى من الهيمنة على غيرها .ولك َّن الجانب السياسي والجانب الاقتصادي من العولمة والتدويل أصبحا يمارسان ضغوط ًا متزايدة على تحديد فلسفة التعليم ،وسياساته ،ومناهجه ،وقد تؤدي هذه الضغوط إلى استجابات تع ِّبر عن الضعف ،وعدم الثقة بالنفس ،وعدم القدرة على مقاومة الآثار السلبية .ولك َّن تيار العولمة -في الوقت نفسه -هو ُفرصة لإثبات الحضور الفكري والثقافي ،وتحويل اتجاه هذا التيار وتوظيفه لتحقيق كثير من المكتسبات ،وللإسهام في ترشيد حركة التق ُّدم البشري والحضارة الإنسانية. (1) Scholastic Aptitude Test. (2) International General Certificate for Secondary Education. (3) International Baccalaureate. 551
.3الحداثة وما بعد الحداثة: الحداثة هي رؤية جديدة للعا َلم رافقت التح ُّولات التي شهدتها أوروبا منذ بداية عصر النهضة والتنوير ،على أثر حركات الإصلاح الديني ،والتح ُّرر من سيطرة الكنيسة ،وانطلاق العقل في البحث العلمي والاكتشاف ،والإيمان بفكرة التق ُّدم ،وانتشار مبادئ الحرية والديمقراطية .فهي إذن ظاهرة تاريخية وحالة إنسانية كان لها تج ِّلياتها في الفكر والفلسفة العقلانية من جهة ،وفي واقع المجتمع في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية من جهة ُأخرى .وتتع َّدد رؤية المؤ ِّرخين لبداية عصر التنوير والنهضة الأوروبية ما بين اختراع مطبعة روتنبرغ في ألمانيا عام 1453م والثورة الفرنسية عام 1789م .وقد تط َّورت في هذا العصر قيم الحرية والفردية ومركزية الإنسان بدلاً من مركزية الإله ،وتم َّيزت بالثقة بالعقل والعلم واليقين. أ ّما ما بعد الحداثة فهو رؤية للعا َلم كذلك تط َّورت في النصف الثاني من القرن العشرين ،وع َّبرت عن مرحلة جديدة في تاريخ الحضارة الغربية ،تك َّونت نتيجة الشعور بفشل المستقبل الذي وعدت به الحداثة ،فكانت َر َّد فِ ْع ٍل تجاهها .وقد تع َّزز هذا الشعور بعد الدمار الذي أحدثته الحربان العالميتان الأُولى والثانية في أوروبا ،و َف َق َد الفلاسفة والمف ِّكرون ثقتهم بالمشروع السياسي والاقتصادي ،وتط َّورت أفكار الش ِّك ،والذاتية، والنسبية .وتن ِكر فلسف ُة ما بعد الحداثة وجو َد الحقيقة المطلقة ،وتق ِّلل من أهمية السلطة والمؤسسات والأديان التي تتح َّدث عن حقائق موضوعية ،وتع ِلن عن نهاية الوضعية. ومن الجدير بالذكر أ َّن فلسفة الحداثة ليست صورة واحدة ،وكذلك الأمر في فلسفة ما بعد الحداثة؛ ففي ك ٍّل منهما تن ُّو ٌع وتع ُّد ٌد في وجهات النظر ،وتماي ٌز بين تو ُّجهات المف ِّكرين. وما َي ُه ُّمنا من الحداثة وما بعد الحداثة هو الفارق في تج ِّليات ك ٍّل منهما على النظريات والممارسات التربوية .فإذا كان على التربويين الحداثيين ممارسة السلطة في نقل المعرفة الموضوعية غير المتح ِّيزة إلى الطلبة ،فإ َّنهم في ما بعد الحداثة يساعدون الطلبة على بناء المعرفة .ويتع َّين على الطلبة في فلسفة الحداثة أ ْن يتع َّلموا الثقافة المشتركة للمجتمع ال ُمو َّحد ،ولك َّن فلسفة ما بعد الحداثة َت ُع ُّد ذلك طريق ًة لبسط الثقافة السائدة، مع العلم بأ َّن الثقافات الفرعية لها قيمها ومصداقيتها ،وأ َّنه يتع َّين على أصحابها مقاومة المركزية الثقافية الأوروبية. 552
والطبيعة الإنسانية تتصف بقدر من الثبات الفكري ،ويمكن معرفتها بصورة موضوعية؛ فالذكا ُء الإنساني -مثل ًا -يمكن معرفته باختبارات الذكاء ،وتق ُّد ُم ك ٍّل من الفرد والمجتمع يتح َّقق نتيجة تع ُّلم تطبيق المعرفة الموضوعية .وفلسفة ما بعد الحداثة لا تؤمن بذا ٍت حقيقي ٍة ،أو بجوه ٍر فطر ٍّي للإنسان؛ فالذات هي تكوين اجتماعي ،والتعليم وسيلة لبناء الذات ،وليس لاكتشافها ،ويتح َّقق تق ُّدم الفرد عند تمكينه من الوصول إلى الأهداف التي يختارها لنفسه ،وكذلك المجتمع. ويرى الحداثيون التقليديون أ َّن التربويين هم سلطة مشروعة في تحديد القيم ،وأ َّن عليهم أ ْن يد ِّربوا الطلبة على القيم العامة .بيد أ َّن الحداثيين الليبراليين يرون أ َّن التربية يجب أ ْن تكون حيادية بخصوص القيم ،ويكفي أ ْن يقوم ال ُمع ِّلمون بمساعدة الطلبة على توضيح القيم التي ينبغي لك ٍّل منهم أ ْن يتبنّاها .ث َّم إ َّن القيم منفصلة عن الحقائق ،وأهم القيم في فلسفة الحداثة هي العقلانية والتق ُّدم .أ ّما فلسفة ما بعد الحداثة فتؤمن بأ َّن على التربية أ ْن تساعد الطلبة على بناء قيم شخصية متن ِّوعة مفيدة لك ٍّل منهم في سياق ثقافاتهم الفرعية .وليس َث َّمة قي ٌم مفيدة بصورة مطلقة ،وليس َث َّمة مشكل ٌة في أ ْن يع ِلن ال ُمع ِّلمون عن قيمهم؛ لأ َّنه لا يمكنهم تجنُّب ذلك عملي ًا .وتشمل القي ُم المهمة في التعليم السع َي للتن ُّوع، والتسامح ،والحرية ،والإبداع ،والحدس ،وتقدير العواطف والحدس(((. ويمكن القول إ َّن الجدل الذي يدور حول الحداثة وما بعد الحداثة في المجال التربوي ،في المجتمعات الإسلامية ،قد لا يكون له معنى؛ لأ َّن ما َي ُه ُّم هذه المجتمعات ليس الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة؛ فالمذهبان يخت ّصان بحالة الفكر الغربي، وما َيلزم مجتمعاتنا هو بناء فلسفة تربوية تنبثق من رؤيتنا الإسلامية للعا َلم ،وما َتهدي إليه هذه الرؤية من عناصر النظام المعرفي المستر ِشدة بنظام الاعتقاد ،ونظام القيم .وما نختاره من عناصر النظام المعرفي في المجال التربوي؛ سواء في البرامج ،أو المناهج ،أو ُن ُظم الإدارة ،ر َّبما يكون أقرب إلى ما ُي َع ُّد من أفكار الحداثة .أ ّما حركة ما بعد الحداثة فإ َّن كثير ًا من مقولاتها ليس شيئ ًا جديد ًا ،وإ َّنما كان جزء ًا معروف ًا وتط ُّور ًا ضروري ًا في أفكار الحداثة (1) McCallum, Dennis. Comparing Modernist and Postmodern Educational Theory. See link: - https: //www.xenos.org/essays/comparing-modernist-and-postmodern-educational-theory. 553
نفسها .ث َّم إ َّن حركة ما بعد الحداثة لا تش ِّكل حالي ًا منظوم ًة متماسك ًة واضح َة المعالم، بصورة تكفي لصياغة أسس فلسفية ونفسية واجتماعية للتربية المنشودة ،وأخطر ما فيها هو القصور في نظرتها إلى الطبيعة الإنسانية ،وإهمالها الهوية والانتماء الفكري الجامع، وتهديدها منظومة القيم. ومع تط ُّور مجتمعاتنا الإسلامية ،وتط ُّلعها إلى الخروج م ّما هي فيه من تخ ُّل ٍف نحو مستقبل يكون فيه لهذه المجتمعات إسهام فاعل في بناء الحضارة البشرية وترشيدها ،فإ َّن حديثنا عن الحداثة لن يتناول الحداث َة الأوروبية في القرن الخامس عشر الميلادي وما بعده ،وما حدث فيها ،ولها ،من تط ُّورات فيما بع ُد ،وإ َّنما سيكون حديث ًا عن حداثة خاصة بنا نحن ،الآن ،وهنا. .4الفلسفة الإنسانية والفلسفة المادية: اخترنا أ ْن نجمع بين الفلسفتين الإنسانية Humanismوالمادية Materialism؛ لما بينهما من صلات عميقة .وهما يم ِّثلان عنصرين أساسيين من عناصر المرجعية في الفكر الغربي .ونعني بمبدأ الإنسانية (الهيومانية) قيام الإنسان بنفسه دون حاجة إلى إله متجاوز. ولذلك كان شعار الجمعية الإنسانية الأمريكية\" :الخير دون حاجة إلى الله\" (((،والإيمان بالإنسان من دون الله. ومن الضروري التمييز بين مصطلح \"الإنسانية\" التي تعني اهتمام الإنسان بالناس الآخرين ،و\"الإنسانية\" Humanismبوصفها فلسفة تق ُّدمية ورؤية للعا َلم ،لا يحتاج فيها الإنسان إلى الإيمان بالله ،أو بغيره من المعتقدات الخارقة للطبيعة ،وهي تؤ ِّكد قدرتنا ومسؤوليتنا عن حياة أخلاقية تتصف بالإشباع الشخصي ،وتتط َّلع إلى الخير العام. وقد و َّثقت إحدى الدراسات نصوص ًا وعبارا ٍت تو ِّضح \"العقيدة الهيومانية\" من المصادر الرسمية للجمعية المذكورة آنف ًا؛ لبيان تم ُّثلات هذه العقيدة في السياسة والتعليم والإعلام والفن وغير ذلك؛ ما يو ِّثق معتقداتهم التي تتصل بالإلحاد ،واللاأدرية ،والتط ُّور، والمادية ،وحق الإجهاض ،والقتل الرحيم ،والانتحار ،والطلاق ،والشذوذ الجنسي، والحرية الجنسية. (1) Good without A God. 554
والذي َي ُه ُّمنا هنا هو الآثار التي تتركها هذه الفلسفة في المجال التربوي .ومن المعروف أ َّن الفلسفة السائدة في التعليم العام والتعليم الجامعي هي الفلسفة الإنسانية. فالموقف العلماني الرسمي في المدارس الأمريكية يمنع الطقوس الدينية في النشاطات المدرسية ،ولكنَّه يسمح للطلبة بتكوين أندية متن ِّوعة تستطيع أ ْن تناقش أ َّي موضوعات .ومع ذلك ،فإ َّن عليهم أ ْن يدافعوا بق َّوة عن ح ِّقهم في اجتماعات تط ُّوعية في المرافق المدرسية قبل الدوام المدرسي أو بعده للقيام بمناقشات دينية .ويمكن القول إ َّن كل مبدأ رئيس من مبادئ الإنسانية قد تم إقراره من خلال القرارات الرسمية للجمعية الوطنية للتعليم (((.NEA والمعروف أ َّن \"الغالبية العظمى من التربويين في الحقل التربوي في أمريكا والعا َلم الغربي يؤمنون بالفلسفة الإنسانية .Humanismوأعضاء هيئة التدريس في الكليات والجامعات هم كذلك .ومثلهم كذلك معظم ال ُمع ِّلمين الذين يدرسون في المدارس الابتدائية والثانوية ،حتى لو كان معظمهم يحتفظون بالح ِّد الأدنى من الصلة بالكنائس المسيحية ،أو ال ُكنُس اليهودية لأسباب شخصية ،أو اجتماعية ،أو عملية(((\". ونكتفي في الحديث عن المذهب الإنساني بالإشارة إلى بيان \"مانيفستو\" الذي صدرت طبعته الثالثة عام 2000م ،بعنوان \"بيان المذهب الإنساني لعام 2000م :دعوة لمذهب إنساني كوكبي\"(((. وقد كتب ُمس َّودة هذا البيان باول كوتز ،وو َّقع عليه مئة وعشرون شخصية من الشخصيات الفكرية والأكاديمية ،من بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا وأوروبا ،من بينهم ثلاث ٌة من بلدان إسلامية ،هم :تسليمة نسرين من بنغلاديش التي ُع ِرف عنها كتاباتها المعادية للإسلام؛ وصادق العظم من سوريا الذي أعلن عن علمانيته ،وأ َّلف عدد ًا من الكتب ،منها\" :نقد الفكر الديني\" ،و\"دفاع ًا عن المادية والتاريخ\"؛ ومراد وهبة من مصر، وهو مسيحي علماني أنكر وجود الحقيقة المطلقة التي تتح َّدث عنها الأديان ،وأعلن في كتابه \" ُم ّلك الحقيقة المطلقة\" عن الضياع الذي أدخلت الفلسفة الإنسان فيه ،وفشلها في الوصول إلى الحقيقة المطلقة. (1) https: //www.gospelway.com/religiousgroups/humanism.php )(2) Storer, Morris B. (Editor). Humanist Ethics, New York: Prometheus Books (August 1, 1979 (3) Kurtz, Paul. Humanist Manifesto 2000: a Call for A New Planetary Humanism, Amherst: NY: Prometheus books, 2000, pp. 1-76. 555
أ ّما الفلسفة المادية ف ِصلتها وثيق ٌة بالفلسفة الإنسانية .فعندما نجد الإنسان حريص ًا على أ ْن يعيش حياته من دون ألم ،ويجد ما يحتاج إليه من المال والممتلكات والموقع الاجتماعي الذي يجعله سعيد ًا ،ويشعر بالأمن الاجتماعي والأمن السياسي ،ويقتصر سعيه في الحياة على هذا الوجود المريح مادي ًا واجتماعي ًا ،دون غيره؛ فإ َّن كل ذلك يع ِّبر عن تص ُّور مادي للحياة .ولك َّن المذهب المادي Materialismهو أم ٌر آخ ُر؛ إ َّنه تص ُّور للحياة ،يرى أ َّن ما لا يكون ملموس ًا أو معقولاً لا يمكن اعتباره قابل ًا للمعرفة. لقد وصلت العقيدة المادية اليوم إلى منزلة متق ِّدمة إلى الح ِّد الذي ُيح ِّتم تغيير تصنيفها من كونها \"مذهب ًا مادي ًا\" إلى تصنيف آخر هو \"المادية العلمية\" .وإضافة كلمة \"علمية\" هنا هي من قبيل الميزة الساحرة للعلم الذي يعني الدقة واليقين في إجراءاته. ولا شك في أ َّن َث َّمة ما يس ِعد الإنسان في الأبعاد المادية من الحياة ،ولا شك في أ َّن ثقة الإنسان بنفسه وقدرته على ح ِّل مشكلاته بنفسه شي ٌء جيد ،وسيتع َّين على التربية أ ْن تتيح للإنسان الشعور بالسعادة والثقة بالنفس .بيد أ َّن في الإنسان عناصر ُأخرى لا يملك تجاهلها ،ولا تملك الممارسات التربوية -مهما كانت قاسية -أ ْن تقمعها؛ ففي المادة شيء أكثر من المادة ،وفي الإنسان شيء أكثر من كونه فرد ًا وكائن ًا اجتماعي ًا .والمذهب المادي والمذهب الإنساني لا يكفيان لتلبية شعور الإنسان بالإشباع النفسي ،والتط ُّلع إلى آفاق ُأخرى خارج نفسه ،وخارج محيطه المادي .والطبيعة الإنسانية ،حتى عند الأطفال، فيها من الفضول والتساؤل أكثر م ّما قد َي ِر ُد عند ُمع ِّلميهم. والتعليم الذي يتأ َّثر بالمعتقدات التي يفرضها المذهب المادي ،أو المذهب الإنسانيُ ،يش ِعر ال ُمتع ِّلم أ َّن عليه أ ْن يقتنع بأمور ض َّد إرادته ،وأ ْن يتجه بالطلبة إلى حالة من القلق والحيرة ،ور َّبما الضياع ،وعدم المسؤولية ،والعدمية. .5البنيوية والتفكيك: من المناسب أ ْن نستهل الحديث عن هذا الموضوع بالتمييز بين البنيوية والبنائية؛ إذ نلاحظ أ َّننا لا نجد محاولة للتمييز بين اللفظين من ناحية اللغة ،وأ َّن التمييز يقتصر على المصطلح؛ إذ ُير ِجع الباحثون مصطلح \"البنيوية\" إلى ثنائية اللفظ والمعنى ،كما ظهرت 556
في العربية عند عبد القاهر الجرجاني (471-400ﻫ) في نظريته عن النَّ ْظم .وهو ما كشف عنه بعض الأوروبيين في مراحل مختلفة ،أشهرها ما قام به اللغوي السويسري فردينان دي سوسير (1913-1857م) في مطلع القرن العشرين ،الذي ُين َسب إليه تأسيس النظرية البنيوية في اللغة ،وتابعه في ذلك كلود ليفي سترواس (2009-1908م) الذي ُتن َسب إليه البنيوية في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا ،وغيره من البنيويين في مجالات تخ ُّصص مختلفة. أ ّما مصطلح \"البنائية\" فقد ُخ ِّصص لوصف عملية التع ُّلم البشري؛ إذ ترى النظرية البنائية في التع ُّلم واكتساب اللغة أ َّن التع ُّلم لا يتم من خلال إضافة المعارف الجديدة إلى ال ُمتع ِّلم بطريقة التراكم ،وإ َّنما يتم من تفا ُعل المعرفة الجديدة مع بنية ال ُمتع ِّلم الذهنية التي تكون موجودة من قب ُل ،وهذا التفا ُعل يعيد بناء البنية الذهنية كلما دخلت معرفة جديدة. وأهم َمن ن َّظر للبنائية في التع ُّلم عالِم النفس السويسري جان بياجيه (1980-1896م)، ولا سيما في كتابه \"الإبستمولوجيا التكوينية\"؛ فالبنيوية هي نظرية في بنية النص ،والبنائية هي نظرية في بنية الذهن الإنساني والتع ُّلم. والبنائية في نظرية التع ُّلم لها ،وعليها .وهي ليست موضع الاهتمام في السياق الذي نحن فيه الآن؛ فنحن بصدد الحديث عن البنيوية التي جاءت \"التفكيكية\" لتنقضها. والبنيوية مدرسة فكرية ترى أ َّن الظواهر الاجتماعية ،أو الأدبية ،أو النفسية ،هي أساس ًا بنية ذات عناصر مح َّددة ،وأ َّنه لا حاجة في فهمها إلى النظر في أ َّية عوامل خارج هذه البنية، مثل :اتجاهات الدارس ،ومرجعيته الفكرية .و ُين َسب تأسيس البنيوية بالصورة التي انتهت إليها في القرن العشرين إلى اللغوي السويسري فردينان دي سوسير ،فيما د َّونه في كتابه \"علم اللغة العام\" .وقد استعمل سوسير في كتابه لفظ \" Systemنظام\" ،ولفظ ،Structure واختار له ال ُمتر ِجم لفظ \"تركيب\" في إحدى ترجمات كتاب سوسير \"علم اللغة العام\"(((، أو لفظ \"بنية\" في الترجمة الأُخرى للكتاب التي جاءت بعنوان \"الألسنية العامة\"(((. ((( سوسير ،فردينان .علم اللغة العام ،ترجمة :يؤئيل يوسف عزيز ،مراجعة النص العربي :مالك يوسف المطلبي، بغداد :دار آفاق عربية1985 ،م .والكتاب في الأصل هو مجموعة محاضرات ألقاها في جامعة جنيف ،و َن َّظم أمر نشرها عام 1985م اثنان من تلاميذه. ((( سوسير ،فردينان .دروس في الألسنية العامة ،تعريب :صالح القرمادي ،ومحمد الشاوش ،ومحمد عجينة، تونس :الدار العربية للكتاب1985 ،م. 557
لقد نظر سوسير إلى أهمية دراسة اللغة بصورة مختلفة ع ّما عهده الدارسون من قب ُل، الذين ير ِّكزون على المنهج التاريخي في دراسة اللغة ،ون َّوه بأهمية اللغة وضرورة دراستها، بوصفها شأن ًا لا يقتصر على اللغويين؛ ذلك أ َّنه \"م ّما لا شك فيه أ َّن المسائل اللغوية َت ُه ُّم ك َّل ْمن َيدرس النصوص،كالمؤ ِّرخين وعلماء فقه اللغة وغيرهم من الباحثين ،ولا شك أ َّن لعلم اللغة أهمية للثقافة العامة؛ ففي حياة الأفراد والمجتمعات ُت َع ُّد اللغة أهم من أ ِّي شيء آخر. لذا لا يجوز أ ْن يبقى علم اللغة مقتصر ًا على نخبة صغيرة من المختصين ،فهو َي ُه ُّم الجميع على أ ِّي نح ٍو(((\". ث َّم أصبحت البنيوية تتعامل مع التخ ُّصص الذي ُتط َّبق فيه على أ َّنه نظام معقد من الأجزاء المترابطة ،وتح َّولت إلى منهج لتحليل النشاط البشري و ُمن َتجاته بصورة عامة، ولا سيما الثقافة .وقد رأى ستراوس -مثل ًا -أ َّن الأنظمة الثقافية هي نتاج التركيب الثابت للعقل البشري ،ود َّلل على وجود هذا الهيكل الثابت في تحليلاته للقرابة ،والأساطير، والفن ،والدين ،وتقاليد الطقوس. وقد م َّيز غارودي بين البنيوية بوصفها منهج ًا في البحث من جهة ،وعقيدة دوغمائية عامة من جهة ُأخرى ،وأق َّر بمشروعية البنيوية بوصفها منهج ًا ،ورفض ال ُب ْعد العقدي فيها ،قائل ًا\" :إ َّن مفهوم \"البنية\" ،في أيامنا هذه ،يحمل فلسفة تم ِّثل في طبعتها الدوغمائية نقطة الوصول لفلسفة موت الإنسان؛ للفلسفة التي بلا ذات (((\".وأضاف\" :إ َّننا إذ ُن ِق ُّر بمشروعية البنيوية كمنهج علمي للاستقصاء ،ولتحليل مستوى مح َّدد من الواقع الإنساني والاجتماعي ،ننبذ البنيوية عندما تزعم أ َّنها فلسفة تعطي عن الواقع الإنساني تحليل ًا جامع ًا ،وتنفي من هنا بالذات آن الخلق ،وآن الذاتية .والبنية في هذه الحالة تو ُّسط لا غنى عنه ولا بديل ،وفي الثانية استلاب ُمع ِّقم(((\". ورأى غارودي أ َّن جيل البنيويين الذي جاؤوا بعد ستراوس لا يتر َّددون في التمادي في بنيوية تتخ َّيل تاريخ ًا \"هو محض اشتغال للبنية\" لا وجود للبشر فيه\" ،فتراهم يع ِلنون بلسان فوكو أ َّنه بعد إعلان نيتشه عن موت الله ،فإ َّن ما يتأ َّكد في أيامنا هذه ليس غياب الله ((( سوسير ،علم اللغة العام ،مرجع سابق ،ص.25 ((( غارودي ،البنيوية :فلسفة موت الإنسان ،مرجع سابق ،ص.13 ((( المرجع السابق ،ص.17 558
أو موته بقدر ما أ َّنه نهاية الإنسان؛ أ َّن الإنسان سيختفي (((\".أ ّما البنيوية التي يراها غارودي فإ َّن ر ّوادها كانوا ماركس ،وفرويد ،ودي سوسير؛ فكان ماركس ،أ َّول َمن ط َّبق المنهج البنياني في تحليله لرأس المال .ولذلك ،فإ َّنه يرى \"أ َّن الماركسية ،في إلهامنا الأساسي، تسمح بطرفي السلسلة مع ًا؛ بالبنية ،وبالنشاط الإنساني الذي يو ِّلدها؛ إذ تجعل من المنهج البنياني آن ًا ضروري ًا من آناء المنهج الجدلي(((\". وقد ظهرت البنيوية -على تن ُّوعاتها :التكوينية ،والتوليدية -...في العا َلم العربي في سبعينيات القرن العشرين عن طريق بعض َمن درس ِمن الطلبة العرب في أوروبا، وبعد أ ْن ُتر ِجمت بعض الأعمال التي صدرت بالفرنسية إلى العربية ،وأصبحت \"صرعة\" في الدراسات اللغوية والأدبية واللسانيات .و ِمن أبرز َمن ُع ِرفوا بالبنيوية ،فكتبوا فيها، وترجموا بعض إنتاجها في العا َلم العربي :جابر عصفور ،وكمال أبو ديب ،وزكريا إبراهيم، وصلاح فضل ،ويمنى العيد ،ومحمد بنيس ،ومحمد مفتاح ،ومحمد برادة ،وغيرهم؛ إذ وجد هؤلاء ِمن بعض المؤسسات الثقافية والإعلامية والنُّ ُظم العربية َمن يوليهم العناية الخاصة ،و ُير ِّوج لأعمالهم. وفيما يخ ُّص التفكيكية ،فإ َّن \"الموسوعة البريطانية\" ُتع ِّرفها بأ َّنها \"شك ٌل من أشكال التحليل الفلسفي والنقد الأدبي ،تط َّور من أعمال دريدا ،اعتبار ًا من ستينيات القرن العشرين ،التي تض َّمنت مساءلة للتمايز والتعا ُرض الفكري الأساسي في الفلسفة الغربية، عن طريق فحص اللغة والمنطق في النصوص الفلسفية والأدبية .وفي الثمانينيات أصبحت التفكيكية ُتط َلق بشكل فضفاض على جهود نظرية ُتب َذل في مجالات متن ِّوعة من الإنسانيات والعلوم الاجتماعية ،بما في ذلك :الفلسفة ،والأدب ،والتحليل النفسي ،والثيولوجيا، والدراسات النسائية ،وقضايا الشذوذ الجنسي ،والنظرية السياسية ،والتاريخ .ومع أواخر القرن العشرين أصبحت التفكيكية ُتستع َمل أحيان ًا في المناقشات الجدلية حول الاتجاهات الفكرية ،بصورة تتض َّمن معنى الازدراء ،والعدمية ،والشك التافه ،في الاستخدام الشعبي، وأصبح هذا المصطلح يعني نقد ًا تفكيكي ًا للأعراف وأساليب التفكير التقليدية(((\". ((( المرجع السابق ،ص.30-29 ((( المرجع السابق ،ص.127 (3) https: //www.britannica.com/topic/deconstruction. 559
ورأى سيمون ستريك أ َّن التفكيك هو مدخل نظري ومنهجي إلى الهدف المراد الوصول إليه ،وأ َّنه يتض َّمن قراء ًة دقيق ًة ،أو وصف ًا ُمك َّثف ًا لاكتشاف المعنى المح ِّدد للنص. ولك َّن التفكيك أصبح -في نهاية المطاف -مدخل ًا لجعل الأشياء غريبة عنّا ،وتفكيكها إلى ما يجعلها شيئ ًا مختلف ًا .وقد خ ُلص ستريك إلى القول \"إ َّن التفكيكية في سياق الحديث عن الدراسات الأمريكية هي العمل الذي تقوم به هذه الدراسات لتجعل من نفسها ومن موضوعاتها أمور ًا غريب ًة وصعب ًة ،ولتنقض البنية التي نمارس من خلالها بناء المعنى .وهو العمل اللازم لتجنُّب قبول أ ِّي معنى مح َّدد للثقافة ،والعمل اللازم للمحافظة على رؤية للثقافة والسياسية تتصف بالسيولة ،والتغ ُّير ،والتعقيد ،والتاريخية ،والتن ُّوع ،والحاجة إلى صياغتها َم َّر ًة بعد الأُخرى(((\". إ َّن عرض أفكار التفكيك ،ولا سيما في النسخة التي يق ِّدمها دريدا ،قد تع َّرضت في الكتابات الغربية لكثير من النقد ،ونقد النقد .وقد ل َّخص أحد محاوري دريدا ما قيل عنه في الآتي\" :إ َّنه شيطان ،وفوضوي في زاوية الشارع ،يقول بالنسبية ،والذاتية ،وهو عدمي ،ومح ِّطم للأعراف والمؤسسات ،وللمعتقدات والقيم ،مهمته السخرية من الفلسفة والحقيقة ،وتفكيك كل ما جاءت به الأنوار ،ليستبدل بكل ذلك رواية وحشية دون معنى، ودون مسؤولية(((\". وقد درس حمودة في كتابه \"المرايا ال ُمح َّدبة\" دراسة مستفيضة ك ّ ًل من البنيوية والتفكيكية في مرجعيتها الغربية ونسختها العربية ،وتو َّصل إلى أ َّن الهدف من البنيوية كان في البداية \"إنارة النص ،ولك َّن ذلك ما لم يتحقق \".وبدلاً من \"مقاربة\" النص أو \"إنارته\" استعملت البنيوية لغة نقدية مراوغة حجبت النص ،وفشلت في تحقيق الدلالة أو المعنى\" .لقد انشغلوا في حقيقة الأمر بآلية الدلالة ،ونسوا ماهية الدلالة ،انهمكوا في تحديد الأنساق والأنظمة وكيف تعمل ،وتجاهلوا أل \"ماذا يعني النص\" (ث َّم اكتشفوا) بعد (1) Strick, Simon. \"Structuralism/Deconstruction\" in Antje Dallmann Eva Boesenbery and ;Martin Klepper (Editors), Approaches to American Cultural Studies. London: Routledge 1 edition, 2016, P.154. (2) Caputo, J. D. (Editor) Deconstructing in a Nutshell. A Conversation with Jacques Derrida, New York: Fordham University Press, 1997, p. 36. 560
فوات الأوان أ َّن النموذج اللغوي لا ينطبق بالضرورة على الأنساق أو الأنظمة غير اللغوية، وتح َّول البنيويون في نهاية الأمر إلى سجناء للغة(((\". \"أ ّما استراتيجية التفكيك فقد تأ َّسست على رفض علمية النقد ،والشك في كل الأنظمة والقوانين والتقاليد ،والتح ُّول إلى لا نهائية المعنى ...واستبدل التفكيكيون بالنموذج ذاتية القراءة ،والتم ُّرد على نهائية النص أو إغلاقه ،ث َّم إنهم أيض ًا استبدلوا بـ\"علمية النقد\" \"أدبية اللغة النقدية\" .وهكذا أضافوا إلى فوضى الدلالة -بسبب اللعب ال ُح ِّر للعلامة ،والبين- نصية ،والانتشار ،وغياب المركز المرجعي ،بل اختفاء التفسيرات الموثوقة والأثيرة -لغة نقدية تتع َّمد لفت النظر إلى نفسها بعيد ًا عن النص .وفي نهاية المطاف وصل التفكيكيون إلى نفس ما انتهى إليه البنيويون ،وهو حجب النص(((\". وقد ربط بعض الباحثين بين البنيوية ونظرية النَّ ْظم عند عبد القاهر الجرجاني في \"دلائل الإعجاز\" ،ولك َّن هذه النظرية شيء مختلف عن البنيوية؛ ذلك أ َّن النَّ ْظم عنده \"أ ْن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه \"علم النحو\" ،وتعمل على قوانينه وأصوله ،وتعرف مناهجه التي ُن ِهجت فلا تزيغ عنها ،وتحفظ الرسوم التي ُر ِسمت لك فلا ُت ِخ ُّل بشيء منها\". و\"لا نعلم شيئ ًا يبتغيه الناظم بنَ ْظمه غير أ ْن ينظر في وجوه كل باب وفروقه ،فيعرف لك من ذلك موضعه ،ويجيء به حيث ينبغي له ... .وهذا هو السبيل ،فلست بواجد شيئ ًا يرجع صوابه إ ْن كان صواب ًا ،وخطؤه إ ْن كان خط ًأ إلى النَّ ْظم(((\". أ ّما البنيوية فهي تقوم على عزل النص عن المؤ ِّلف ،وك ِّل ما يخت ُّص بالمؤ ِّلف من تاريخ وفكر ،وما يرمي إليه المؤ ِّلف من َغ َرض ،وما يصاحب التأليف والمؤ ِّلف من ظروف ومؤ ِّثرات .وتكون معاني النص متعددة مختلفة باختلاف القارئ له ،ولا مانع من أ ْن تتناقض أشد التناقض ،وبذلك لا يكون لدلالة النص أ َّية مرجعية. ((( حمودة ،عبد العزيز .المرايا المحدبة :من البنيوية إلى التفكيك ،سلسلة عالم المعرفة رقم ( ،)232الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ،أبريل 1998م ،ص.7 ((( المرجع السابق ،ص.8 ((( الجرجاني ،عبد القاهر بن عبد الرحمن (توفي474 :ﻫ) .دلائل الإعجاز ،قرأه وع َّلق عليه :محمود محمد شاكر، القاهرة :مكتبة الخانجي1404( ،ﻫ1984/م). 561
وقد رأينا أ َّن \"البنائية\" كانت مصطلح ًا خاص ًا بعملية التع ُّلم البشري ،ط َّوره جان بياجيه في محاولة لوصف ما يحصل عند الفرد من عملية تع ُّلم ،وما قد يكون لذلك من تطبيقات في أساليب التعليم .ولك َّن هذه التطبيقات لم تأخذ بالحسبان أ َّن ال ُمتع ِّلم في المدرسة لا يكون وحيد ًا ،وإ َّنما هو جزء من بنية اجتماعية لها قدر كبير من الاعتبار .وهناك أنواع من المعلومات المهمة التي يحتاج الطالب أ ْن يتع َّلمها بصورة مباشرة ،من قبيل المعطيات التقريرية .والطلبة لا يتع َّلمون بطريقة واحدة؛ فالنظرية البنائية إ ْن كانت تف ِّسر بعض جوانب التع ُّلم ،فإ َّنها تعجز عن تفسير جوانب ُأخرى. ول ّما جاءت البنيوية أساس ًا بصورة منهج في تحليل اللغة ،فإ َّنه من ال ُمتو َّقع أ ْن تكون التطبيقات الأساسية لهذا المنهج ،في المجال التربوي ،في تع ُّلم اللغة وتعليمها .بيد أ َّن اللسانيات البنيوية ،اعتبار ًا من الخمسينيات ،أصبحت موضوع ًا مزعج ًا ،واع ُتبِرت مفاهيمها ض ِّيقة ،ولا سيما بعد تط ُّور اللسانيات التوليدية ،وما ق َّدمه نعوم تشومسكي فيها. ولأ َّن البنيوية سرعان ما تح َّولت إلى التفكيكية؛ فإ َّن التطبيقات التربوية سرعان ما تو َّجهت إلى التفكيكية؛ لما كان ُيتو َّقع أ ْن يكون لها صلة بالتربية؛ سواء فيما تبنيه من مرجعية فكرية عن أبنية العلوم المختلفة ،أو عن المنطلقات الفكرية للتربويين وصلتها بأخلاقيات التربية، أو بالحالة النفسية والفكرية لل ُمتع ِّلمين. وفي مقدمة كتابهما عن دريدا والتعليم ،لاحظ مح ِّررا الكتاب أ َّن أفكار دريدا ،وهو الاسم الأكثر تمثيل ًا للتفكيكية ،ولا سيما أفكاره ذات الصلة بالتعليم ،قد وجدت مقاومة، وأ َّن كثير ًا من المتخ ِّصصين في فلسفة التربية والنظرية التربوية ،ومتخ ِّصصي المناهج التربوية ،قد كتبوا في دحض أفكاره .ومع ذلك ،فإ َّن تلك الأفكار وجدت اهتمام ًا ليس قليل ًا؛ فقد اع ُت ِمدت أفكار التفكيك في أقسام اللغة الإنجليزية تحت عنوان \"نظرية في القراءة والكتابة\" ،وفي الممارسات التعليمية لموضوعات الأدب(((. وبصورة عامة ،فإ َّن دريدا َي ُع ُّد مشروعه في التفكيك مشروع ًا تربوي ًا في الأساس. فمثل ًا ،عندما يطالِب بالنظر في حقل دراسي معين مثل الفلسفة ،فإ َّنه يطالِب بخروج هذا (1) Egea-Kuehne , Denise. and Biesta, Get J. J. Derrida and Education, Op.Cit., p.2. 562
الحقل من الجدران التي تضعها الدراسة التقليدية في الجامعات حوله .فالفلسفة مثل ًا \"يجب أ ْن ُيس َمح لها أ ْن تقوم بمهمة أفضل في التفكير بنفسها ،وعرض نفسها ،وتعليم نفسها ،وتطوير نفسها .ور َّبما هو بالضبط ما يبني مشروعية الربط بين التربية والتفكيك؛ لأ َّن هذه المشروعية تتأ َّسس على أ َّن سؤال التفكيك هو في الحقيقة سؤال التربية إذا فهمنا الصفة الإيجابية لطبيعة التفكيك .فالمسألة ليست مسألة قواعد في الجملة اللغوية ،التي تكون موضوع التعليم ،وإ َّنما هي علاقة بالآخر الذي يتع َّلم ،وكيف يتع َّلم ،وهي مسألة تنقل عدد ًا كبير ًا من الأسئلة من مستوى التقنيات والإجراءات إلى الصلة العميقة بالمسائل الأخلاقية والسياسية ومصير الحياة والتاريخ والإنسانية؛ فالمعرفة الفلسفية تتخ َّلل جميع مجالات المعرفة(((. ومن الجدير بالذكر في نهاية الحديث عن مرجعيات الفكر التربوي الغربي أننا لم نحاول هنا أ ْن نستقصي جميع تج ِّليات المرجعية الغربية في الفكر التربوي ،و ِم ْن َث َّم آثارها في الفكر التربوي بالمجتمعات الإسلامية؛ ف َث َّمة فلسفا ٌت ُأخرى تلتقي مع الفلسفات المشار إليها في بعض الخصائص ،وتختلف عنها في غيرها .ولك ْن ،من المهم أ ْن نلاحظ أ َّن النُّ ُظم التربوية في الغرب الأوروبي والأمريكي يصعب تصنيفها في مدرسة واحدة من هذه المدارس ،فنقول -مثل ًا -إ َّن النظام التربوي في أمريكا هو نظام حداثي ،أو ما بعد حداثي ،أو علماني ،أو هيوماني؛ فك ُّل هذه الأوصاف موجودة مع ًا إلى ح ٍّد كبير .ومع ذلك ،فإ َّن من المهم كذلك أ ْن نحاول تمييز صفة جامعة لمرجعية الفكر التربوي الغربي. وما َي ُه ُّمنا في سياق الحديث عن الفكر التربوي الإسلامي هو صلة هذه المرجعية بالدين من خلال الصفة العلمانية ،وصلة هذه المرجعية بنمط الحياة من خلال الصفة المادية. إ َّن محاولتنا تمييز عناصر المرجعية في الفكر الغربي بصورة عامة ،والفكر التربوي الغربي بصورة خاصة ،ليست محاولة لإيجاد قطيعة مع هذا الفكر ،وإ َّنما هي محاولة لفهم تم ُّثلات هذه المرجعية في تفاصيل الفكر التربوي؛ في :فلسفته ،وسياساته ،ومناهجه، (1) Cahen, Didier. \"Derrida and the question of education: a new space for philosophy\" in ;Biesta, Gert J.H. & Egea-Kuehne, denise (Editors), Derrida & Education, London, UK Routledge International Studies in the Philosophy of Education, 2001. pp. 12-30. 563
و ُن ُظم إدارته ،وما يضعه من معايير الجودة ومؤ ِّشراتها .فمثل هذا الفهم يساعدنا على تطوير مناهج التعامل مع هذا الفكر ،والتفا ُعل مع أنظمته وخصوصياته ،والآثار المتر ِّتبة على الاقتراض منه في سياساتنا وخططنا التربوية والتعليمية ،وتعميق فهمنا للإشكالات التي يقيمها هذا الاقتراض أمام جهود الإصلاح التربوي في مجتمعاتنا .فنحن نعيش في واقع عالمي شديد الوطأة ،لا يسمح بتجاهل معطياته وعناصره ،ولا تنفع فيه محاولات العزلة والانكفاء التي ينادي بها الضعفاء العاجزون. نأ ُمل أ ْن ُي ِعين وعينا بمرجعية الفكر التربوي المعاصر على تحديد ما يمكن فهمه من واقع الفكر التربوي الإسلامي المعاصر ،ومن الطموح الذي نأ ُمل أ ْن ينتقل هذا الواقع إليه في انبثاقه من مرجعيته العليا ،وإسهامه في إعادة بناء الشخصية الإسلامية والمجتمع الإسلامي والأُ َّمة الإسلامية؛ لتحقيق مراد الله سبحانه في إقامة العمران البشري على نور الوحي الإلهي والهدي النبوي ،والحضور الفاعل في ساحة العا َلم، وترشيد الحضارة البشرية. والوضع الطبيعي أ ْن يكون لكل مجتمع مرجعي ُته التربوية التي تح ِّدد عناصر فكره التربوي الخاص به ،وتبدأ المشكلة عندما يفتقد المجتمع هذه العناصر المم ِّيزة له، ويتخذ من الفكر التربوي الخاص بمجتمع آخر ماد ًة لتربية أبنائه .فحين تتبنّى المجتمعا ُت الإسلامية الفك َر التربوي الغربي ،فإ َّن من الطبيعي أ ْن ينشأ أبناؤها على قيم الفكر الغربي وأعرافه وتقاليده ،وإذا بقي لدى أبنائها بق َّية من قيم الإسلام وأعرافه -نتيجة عوامل تنشئة ُأخرى -فإ َّنها تكون في حالة صراع وتنافس مع القيم الغربية ،بحيث تتم َّزق معها شخصية الإنسان المسلم ،وتضعف لديه مق ِّومات الهوية الإسلامية ،أو تتلاشىى ملامحها. وتتع َّمق المشكلة عندما تجد صنّاع القرار السياسي في المجتمعات الإسلامية، وقيادات الفكر التربوي فيه ،يتجاهلون مرجعية الفكر التربوي الغربي ،أو ين ِكرونها، ويغ ّضون الطرف عن مظاهر تح ُّيز هذا الفكر (((،ب ُحجج واهية ،من مثل القول بأ َّن العلم لا ((( ملكاوي\" ،التحيز في الفكر التربوي الغربي\" ،مرجع سابق ،ص.202-181 564
دين له ،ولا وطن ،أو بأهمية التط ُّور واللحاق بالمتق ِّدمين ،أو بضرورة التحديث والتنوير والخروج من حالة التخ ُّلف ،أو بغير ذلك من ال ُمب ِّررات ،التي كانت ُح َّج ًة لأنظمة الحكم بالعا َلم الإسلامي في ممارساتها طوال قرن من الزمن ،ولم تكن نتيجتها إلا مزيد ًا من التخ ُّلف ،والتبعية ،وضياع الهوية ،والعجز عن الحضور الفاعل في ساحة العا َلم. فمرجعيتنا في الإصلاح المنشود ليست التاريخ؛ لا تاريخنا ،ولا تاريخ غيرنا، وإ ْن كان في التاريخ ِع َب ٌر ،ولا ُب َّد أ ْن تكون هذه ال ِع َبر عنصر ًا من عناصر المرجعية... ومرجعيتنا ليست الواقع المعاصر لغيرنا ،وإ ْن كان هذا الواقع المعاصر عامل ًا من عوامل الضغط والإلحاحَ ،يلزم أ ْن نتعامل معه بالطريقة المناسبة ...إ َّن مرجعيتنا هي مجموعة المبادئ والقيم الحاكمة التي تش ِّكل هويتنا؛ فمن هذه المبادئ والقيم ننطلق ،وإليها نأرز في كل عنصر من عناصر التخطيط لتغيير واقعنا ورسم مستقبلنا ،وفي كل خطوة من خطوات السير في تنفيذ ذلك التخطيط. إ َّن مرجعيتنا هي الرؤية الكلية للعا َلم الطبيعي والاجتماعي والنفسي ،والهوية المم ِّيزة لنا التي تش ِّكلها هذه المرجعية؛ فهي التي تح ِّددَ :من نحن؟ وماذا نريد؟ 565
المبحث الثالث الوعي بقضية الإصلاح التربوي ومسؤوليات الأوساط التربوية أولاً :حضور الرؤية الإسلامية في الإصلاح التربوي: شهد الثلث الأخير من القرن العشرين وعي ًا متزايد ًا بالحاجة إلى رؤية إسلامية في إصلاح التعليم العام والتعليم الجامعي ،ولا سيما بعد هزيمة العرب عام 1967م ،حيث تراجع ال َم ُّد القومي في معظم الأقطار الإسلامية ،وظهرت حالة جديدة ُس ِّميت بالصحوة الإسلامية ،و ُأن ِشئت بعض المؤسسات التربوية التي أخذت صبغة إسلامية ظاهرة ،و ُع ِقد المؤتمر الأول للتعليم الإسلامي في مكة المكرمة عام 1977م ،تلته مجموعة من المؤتمرات المتخ ِّصصة في إصلاح التعليم في عدد من الأقطار الإسلامية .وكذلك ُأن ِشئ عدد من الجامعات الإسلامية ،وظهرت حركة إسلامية المعرفة ،التي أثارت الاهتمام بموضوع ازدواجية التعليم الديني والتعليم العلماني ،ونقدت النظامين ،ودعت إلى توحيدهما في العا َلم الإسلامي بنظام تكاملي ،يجمع بين ما في النظامين من إيجابيات، ويتجنَّب ما فيهما من سلبيات .وقد سادت حالة من التفاؤل بأ َّن الأُ َّمة َخ َط ْت خطواتها الأُولى في التو ُّجه الإسلامي. ولك ْن ،لم تدم هذه الحالة طويل ًا؛ إذ تع َّرضت جهود الإصلاح في الرؤية الإسلامية لمضايقات ،وتو َّقفت مساحة الحرية النسبية في النشاطات التربوية ذات الصبغة الإسلامية ،ولجأت معظم الدول إلى الاستعانة بخبراء أجانب ،وفتحت المجال على مصراعيه للتعليم الأجنبي المدرسي والجامعي ،وتط َّورت مؤسسات الاعتماد العالمي، وضبط الجودة؛ ما جعل ميدان التعليم سوق ًا مفتوح ًا ،ليس للنظريات والخبرات الأجنبية فحسب ،بل للمرجعيات الفكرية المدعومة بالضغوط السياسية والمصالح التجارية. ولذلك ،فإ َّننا نحتاج اليوم أكثر من أ ِّي يوم مضى إلى إرادة صادقة في النظر المست ِق ِّل لمصلحة مجتمعاتنا وأجيالنا ،موقنين بأ َّن اعتماد مرجعيتنا الإسلامية سوف يص ِّوب المسيرة التربوية دون أ ْن تحرمنا الاستفاد َة من الخبرات والتجارب التربوية في عا َلم اليوم .فالأخذ الأعمى بالمشورة الأجنبية في تطوير النُّ ُظم التربوية ،واعتماد معاييرها ،أفقد مجتمعاتنا 566
ُفرص الإبداع في تطوير هذه النُّ ُظم بصورة تخدم المصالح الحقيقية لهذه المجتمعات، وتحفظ هويتها وتم ُّيزها .وفي الوقت نفسه تكون نماذج هادية للمجتمعات الأُخرى، وبذلك تستعيد مجتمعاتنا كرامتها المهدورة بالتبعية والاستلاب الفكري والتربوي. إ َّن ميدان التربية والتعليم يع ُّج بالفلسفات والنظريات التي تتح َّدث عن مواصفات الإنسان ،التي تسعى ك ُّل فلسفة أو نظرية إلى بنائه ،وأصبحت المشكلة تتم َّثل في وضوح ما نريده لأنفسنا في ضوء واقعنا ،وثقافتنا ،ومجتمعاتنا ،ومسؤوليتنا الحضارية .ولع َّل من ُأولى الأولويات التي نقترح توجيه النظر إليها الوع َي بالأمانة التي ينبغي لل ُمر ّبين في المجتمعات الإسلامية ،في مستويات التعليم المختلفة ،أ ْن يحملوها ،بعد أ ْن غابوا طويل ًا ،أو ُغ ِّيبوا عن ميادين الاجتهاد والإبداع .فغياب الإرادة السياسية ،وإحجام الإدارات العليا عن إتاحة المجال للرؤى المستقلة ،وغياب البيئة الحافزة إلى الاجتهاد والإبداع في تطوير الرؤى النظرية والتطبيقات العملية ،ضمن الرؤية الإسلامية ،وغير ذلك من ال ُمب ِّررات؛ لم يعد يرفع المسؤولية عن أحد. وقد أشرنا -في أكثر من موضع في فصول هذا الكتاب -إلى مسؤولية مف ِّكري الأُ َّمة تجاه الفكر التربوي السائد اليوم ،والحضارة الإنسانية بصورة عامة ،ونعود في هذا المقام لنؤ ِّكد أ َّن الفكر التربوي البشري يحتاج إلينا أكثر بكثير م ّما نحتاج إليه ،لسببين؛ أولهما أ َّن مادة هذا الفكر في سياقاتها النظرية وممارساتها العملية حاضرة في حياتنا ،وثانيهما أ َّن ما لدينا من الطاقات الفكرية الكامنة ليس معروف ًا عند غيرنا ،وليس حاضر ًا في ممارساتنا. و ِع ْبرة التاريخ شاهدة على فقه التفا ُعل الحضاري؛ إذ يسير اتجاه التفا ُعل من مجال ال ِغنى إلى مجال الفقر .فعندما كانت ُأ َّمتنا غنية فكري ًا وحضاري ًا ،حتى في حالات ضعفها سياسي ًا، كانت الأمم تقف منها موقف ال ُمتع ِّلم. وتظهر الأمانة التي يتع َّين على قادة الفكر التربوي الإسلامي أ ْن يحملوها في النظر إلى موقع الرؤية الكلية التي تضع الموضوعات والعناصر التفصيلية في إطار كليُ ،ي ِعين على تحديد التأثيرات المتبادلة فيما بين هذه العناصر ،وعلاقاتها ببعضها ،وبالمجموع الكلي .وإعمال هذه الرؤية الكلية هو الذي يتيح المجال للنظر في الموضوعات والقضايا التفصيلية ،ووضع ك ٍّل منها في الموضوع المناسب ،من حيث :درجة الاهتمام ،وطريقة التعامل ،والتوظيف؛ فالقضايا والموضوعات التربوية ليست على درجة واحدة في ذلك. 567
فمن القضايا الكبيرة على سبيل المثال طبيع ُة الإنسان الذي هو محور العملية التربوية، وذلك في ُب ْعده الإنساني والدولي والمحلي ،وفي جوانبه النفسية والعقلية ،والمادية والروحية ،والفردية والاجتماعية .ومن عناصر الأمانة التي يتع َّين على النخبة التربوية الإصلاحية مراعاتها الوع ُي بطبيعة المعرفة التربوية؛ فكثير من المادة المعرفية هي في مستوى مح َّدد من التط ُّور ،وما يرد في المناهج التربوية من معرفة ر َّبما لا يكون في سقفه المعرفي المعاصر ،وقد يكون ُمح َّمل ًا بالخطأ والوهم وفقدان الاتجاه .ولذلك يجب أ ْن نـمتلك من المعايير ما يصلح لفحص المعرفة ،وتصفيتها ،وإعادة توجيه ما َيلزم منها لأغراضنا الفكرية والثقافية والاجتماعية. ويتض َّمن محتوى البرامج والمناهج التربوية موضوعات علمية معينة تستند إلى مرجعية فلسفية؛ ظاهرة ،أو كامنة .لذلك يحتاج قادة الفكر التربوي إلى الوعي بالمرجعية النظرية التي تستند إليها المناهج التربوية وموضوعاتها المختلفة ،ث َّم تحديد الطريقة المناسبة للتعامل معها؛ فقد لا نجد مشكلة في الاستفادة من بعض نظريات علم النفس أو نظريات تصميم المناهج التربوية عند توافر الوعي المشار إليه ،وهكذا الحال في سائر قضايا التربية والتعليم. إ َّن قضية الهوية في جهود الإصلاح التربوي والاجتماعي ،في العا َلم الإسلامي، تختلط أحيان ًا بنظرة منغلقة على الذات ،تحصر نفسية الإنسان المسلم ،وتح ُّد من قدرته على التفا ُعل في بيئة العا َلم المعاصر ،بالرغم من أ َّن هذه البيئة منفتِحة على الاختلاف والتباين والتع ُّدد ،وتتيح للإنسان المسلم ُفرص ًا مهم ًة لأداء واجبه في توظيف هذه البيئة للتوا ُصل والتعا ُرف الذي يش ِّكل مقصد ًا من مقاصد التن ُّوع والاختلاف .وخي ُر وسيل ٍة للتوفيق بين الهوية والانتماء من جهة ،وتحقيق مقص ِد \"لتعارفوا\" على المستوى المحلي والعالمي من جهة ُأخرى ،هي التربية بأوساطها ومراحلها المختلفة؛ فمسؤولية التربية هي إعداد الإنسان :فرد ًا ،ومجتمع ًا ،ونوع ًا بشري ًا. ومع أ َّن هذا ال ُب ْعد العالمي في رسالة الإسلام كان واضح ًا منذ الأيام الأُولى لبدء نزول القرآن الكريم ،وكان واضح ًا في الممارسة التربوية النبوية طوال فترة الرسالة؛ فقد غاب هذا ال ُب ْعد عن ممارسة المجتمع الإسلامي في بعض الظروف؛ لغلبة مبدأ التمايز ،والحرص على نقاء الهوية ،لا سيما في الأزمان التي يغلب عليها الصراع العسكري .ونظر ًا لما شهده 568
عا َلمنا المعاصر؛ من :وسائل التوا ُصل والاتصال ،والاعتماد المتبادل بين الشعوب والأمم؛ فإ َّننا نرى أ َّن من واجب القادة التربويين توجيه مناهج التربية وممارساتها لتعميق الوعي بأهمية ال ُب ْعد العالمي للتربية ،وما يتط َّلبه ذلك من التوا ُصل مع الآخر المصحوب بالثقة بالنفس ،والاستعداد للعطاء ،والتفا ُعل الإيجابي مع الآخر ،من خلال الإيمان بأ َّن أصل العلاقة بالآخر هو السلام ،والتعا ُون في تبادل المصالح والمنافع ،والحرب هي الاستثناء في العلاقة بين الشعوب والأمم؛ ففي ظروف السلام وتبادل المصالح تتواف ُر ال ُفرص المناسبة لتمكين الآخر من فهم ما لدينا من الخير ،وتصحيح التص ُّورات والمفاهيم الخطأ التي و َّلدتها ظروف الصراعات والحروب .وهذه مسؤولية المسلم في الدنيا ،أ ّما نتيجة ذلك في إيمان المؤمنين وكفر الكافرين فأمره إلى الله ،وحسابه في الآخرة. إ َّن الرؤية الإسلامية الكلية للعا َلم تتصل اتصالاً وثيق ًا بالعلوم التربوية؛ فهي رؤية للإنسان الذي هو موضوع التربية في وجوده ،وحياته ،وبيئته التي يعيش فيها .وتتصل هذه الرؤية بما تقتضيه من مبادئ اعتقادية ،وأحكام جزئية ،وقيم مقاصدية .ويتم َّثل الجانب التطبيقي من العلوم التربوية في تدبير الحياة ،ونظامها العام للمجتمع وفئاته وأفراده؛ فنظام الحياة في الدنيا هو الذي يح ِّقق أسباب السعادة في الدنيا والآخرة .ولذلك ،فإ َّن من أهداف التربية ومقاصدها عند التربويين المسلمين الاهتمام بمقاصد الشرع التي تتح َّقق عن طريق العمل التربوي للأسرة والمؤسسات الأُخرى ذات الصلة المباشرة بالتربية والتعليم. ونحن نرى أ َّن هدف العلوم التربوية في الرؤية الإسلامية -في نهاية المطاف -هو تطوير الفكر التربوي الإسلامي الذي يم ِّثل فهم المجتمع المسلم لما َيلزم أ ْن يق ِّدمه لأبنائه في سائر المجالات التربوية؛ سواء أكان ذلك في تكوين الشخصية الإسلامية المتوازنة ذات الهوية المتم ِّيزة ضمن دوائر الانتماء الحضاري المتضامنة ،أم في ميادين العلوم والمعارف الطبيعية والاجتماعية والتطبيقية .ومع ذلك ،فإ َّن في بناء الفكر التربوي الإسلامي أمر ًا لا يخت ُّص بالعلوم والمعارف نفسها وحسب ،وإ َّنما يخت ُّص بالإضافة إلى ذلك بالطريقة التي يكتسب فيها الإنسان المسلم هذه المعارف ،وأساليب اختبارها ،وميادين توظيفها في تطوير حياته وحياة مجتمعه .إ َّنها التربية الفكرية التي ُت َع ُّد أهم مجالات التربية التي لا ُب َّد أ ْن تتو ّلها المؤسسات التربوية في المجتمع؛ إ َّنها تنمي ُة فِ ْع ِل التفكير ،بحث ًا عن الحقيقة ،بالأساليب المناسبة المؤدية إليها. 569
وتأتي أهمية الاهتمام بالتربية الفكرية في الرؤية الإسلامية ،في هذا الوقت؛ لأ َّن بعض الفئات الإسلامية المعاصرة وقعت فيما وقعت فيه فئات إسلامية قديم ًا من انحرافات فكرية، تخت ُّص بفهم نصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ،وفهم بعض محطات التجربة التاريخية للمجتمع الإسلامي ،والخلط بين الفكر العلمي والفكر الخرافي ،وبين الفكر المقاصدي السنني والفكر المزاجي العبثي ،والعجز عن التوظيف المشروع للاجتهاد والتجديد في الفهم الإسلامي للواقع المعاصر ،بما يموج به من أفكار وأحداث ،داخل المجتمعات الإسلامية ،وفي المجتمعات الأُخرى .وقد أ ّدى هذا الخلل إلى ضع ٍف َب ِّي ٍن في الانطلاق والممارسة الحضارية ،وفي دور الفكر الإسلامي في المشاركة الفاعلة على مختلف ال ُّص ُعد. والحديث عن التربية الفكرية لا يعني عدم الحاجة إلى الاهتمام بأنواع التربية الأُخرى .ولا يعني كذلك أ َّنها تربية مستقلة ومنفصلة على أنواع التربية الأُخرى؛ فالإنسان هو الإنسان بجسمه ،وعقله ،وروحه ،وعلاقاته ب َر ِّبه ومجتمعه وبيئته .ولك َّن التنويه بهذه التربية هو وسيل ٌة لتيسير دراسة الموضوع ،والكشف عن أهميته ،وتناول عناصره بقدر من العمق والتفصيل. ثاني ًا :صورة الواقع والتغ ُّير المنشود: إذا رسمنا أ َّية صورة لواقع الفكر التربوي القائم في المجتمعات الإسلامية ،فإ َّنها لن تكون صور ًة ثابت ًة ،وإ َّنما ستتغ َّير على الدوام ،تحت تأثير ظروف ذاتية ،وموضوعية، ومحلية ،وخارجية .بيد أ َّن كثير ًا من التغيير الذي يتم بين الحين والآخر لا يغ ِّير كثير ًا من الملامح العامة للواقع التربوي ،وإ َّنما يكون التغيير في جزئيات وتفاصيل وفروع، ويكون الدافع إلى ذلك هو التأ ُّثر بما يطرأ في الخارج ،أو الاستجابة لضغوطه ،وتبقى الحالة الفكرية من دون تغيير حقيقي .أ ّما الوضع المنشود فإ َّنه يحتاج إلى جهود في التغيير والتجديد والإصلاح من نوع يختلف عن عوامل التغيير المشار إليها .فوظيفة الفكر التربوي في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة -في واقع الأمر ،للأسف الشديد -هي تكريس واقع هذه المجتمعات ،لا تغييرها ،وهذه هي المشكلة الأساسية في هذا الفكر! إ َّن التغيير المنشود ليس تعديلات تفصيلية في جزئيات النظام التربوي ،بل تغييرات جوهرية في النظام التربوي بجميع عناصره ومك ِّوناته؛ تغييرات يتبنّاها المجتمع ،ليكون فيها الإصلاح التربوي وسيل ًة لبناء مجتمع جديد. 570
والصور البائسة لحالة تخ ُّلف الواقع التربوي ،والغياب المذهل لمرجعية الفكر التربوي الإسلامي ،والتماهي مع متط َّلبات العولمة ،وأثر ذلك كله في وسائط التربية في حياتنا المعاصرة (الأسرة ،والمدرسة ،والإعلام)؛ كلها مؤ ِّشرات لحجم الجهد اللازم بذله في الإصلاح التربوي المنشود .وهذا الإصلاح هو منظومة متكاملة ،تعتمد منهجية التكا ُمل المعرفي بوصفها إطار ًا مرجعي ًا إسلامي ًا لمنهجية الإصلاح التربوي ،وسبيل ًا لإصلاح واقع المجتمعات الإسلامية. ويتل َّخص التغيير الذي يجري الحديث عنه -في كثير من الأحيان -في الإشارة إلى نوعين من السعي الإصلاحي؛ الأول :العودة إلى توجيهات الوحي وخبرة التراث الإسلامي؛ فمنهما ،وفيهما ،كان التم ُّيز الذي ح َّققته المجتمعات الإسلامية في سابق إسهاماتها الحضارية .والثاني :اللحاق بالمجتمعات التي تق َّدمت ،وأحرزت من الإنجازات الحضارية المعاصرة ما لا نملك إلا المضي لتحقيقه في مجتمعاتنا المعاصرة. ونحن نفهم منهجية التكا ُمل المعرفي من طريقة بحثنا عن المعرفة المنشودة لتحقيق الإصلاح؛ فهي في هذه المنهجية تعتمد المصادر الأربعة التي نؤ ِّكدها دائم ًا :القرآن الكريم بوصفه المصدر الأصلي الـ ُمن ِشئ للفكر في الرؤية الإسلامية؛ وال ُّسنة النبوية بوصفها المصدر الـ ُمب ِّين للقرآن الكريم ،والتنزيل العملي لأحكامه وتوجيهاته في الزمان والمكان والحال؛ والتراث الإسلامي الذي يم ِّثل عطاء العلماء المسلمين في فهم توجيهات القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ،والخبرة البشرية للمجتمع الإسلامي في تنزيل هذا الفهم الواقع في مح ِّدداته الزمانية والمكانية؛ وأخير ًا الخبرة البشرية التي يحياها العا َلم المعاصر ،ونحياها مع هذا العا َلم في مجتمعاتنا الإسلامية .ونحن نستمد فكرنا من هذه المصادر بوسيلتين؛ الأُولى :العقل البشري الذي ُيع ِمل الفكر في هذه المصادر المشار إليها ،والثانية :رصد المشاهدات والتجارب العملية المحسوسة التي عرفها العا َلم المعاصر ،واستلهام نجاحاتها المادية والمعنوية للإفادة منها. ومن ال ُمؤ َّكد أ َّننا لا نستطيع استعادة حالة تاريخية مهما كانت عظمتها؛ فنحن لا نعيش في العا َلم وحدنا ،ولا نملك أ ْن نتجاهل طبيعة المجتمع المعاصر ،ومتط َّلباته ،واختلافه الكبير عن طبيعة المجتمعات في حقب زمنية سابقة ،ولا الإكراهات والضغوط التي 571
يمارسها النظام العا َلمي المعاصر .ويعجب ابن عاشور ِمن أ َّن َمن يشعر بالخلل في أحوال التعليم ،ويق ِّدم النصح بضرورة الإصلاح والتجديد بما يناسب طبيعة العصر ومتط َّلباته، يجد طوائف من الناس َتنسب إليه سوء المقصد؛ أي للناصح ،وتناظره بأ َّن المنهج الذي سار عليه أسلافنا كفيل بالإصلاح؛ فذلك المنهج \"قد أوصل أسلافنا إلى أعلى مرتقى من النجاح ،وأ َّنه قد أنجب أساطين للعلم ،طبقت شهر ُتهم الآفاق .ور َّبما ر َّوجوا بهذه المقدمات الخطابية أو السفسطائية قناع ًة في أنفسهم ،وإقناع ًا للدهماء ،وك ُّلهم غافلون أو متغافلون عن اختلاف العصور والأجيال ،ذلك الاختلاف الذي تغ َّيرت به الأساليب(((\". أجل ،إ َّن بناء المستقبل انطلاق ًا من إصلاح الحاضر ،هو حركة إلى الأمام ،ولا يكون ذلك بالحركة إلى الماضي ،والرجوع إلى الخلف. ومن ال ُمؤ َّكد كذلك أ َّننا لا نستطيع اللحاق بمجتمعات أحرزت نجاحات ُمق َّدرة إذا أردنا أ ْن نسير خلفها ،ونقتفي آثارها؛ فالمسافة بيننا وبين تلك المجتمعات كبيرة ،والتغ ُّير الذي يحدث في مجتمعاتنا يسير ببطء شديد ،ويتع َّثر في كل خطوة ،والتغ ُّير الذي يتم في المجتمعات المتق ِّدمة سريع جد ًا؛ فالمسافة بين مجتمعاتنا وتلك المجتمعات تزداد كل يوم .فأ َّنى يكون اللحاق؟! وقد تم َّثل ابن عاشور ،في فكرة اللحاق ،بقول الزمخشري(((: يا َم ْن ُيحا ِو ُل بِالأَ َماني ُر ْت َبتي َك ْم َب ْي َن ُمنْ َخ ِفـ ٍض َوآ َخ َر َرا ِقي َأ َأبِي ُت َل ْي ِلي َسا ِهـر ًا َو ُتضي ُعه َن ْوم ًاَ ،و َت ْأ ُم ُل َب ْع َد ذا َك لـِ َحا ِقي ولذلك لا يفيدنا كثير ًا أ ْن نقول إ َّن الإصلاح يمكن أ ْن يتم بـ\"العودة\" إلى ما كنّا عليه في العصر الذهبي لحضارة الإسلام ،أو بالسير خلف َمن سبقنا ،واقتفاء أثره .فالسعي في طريق الإصلاح هو سعينا نحن ،في مكاننا وزماننا ،لنح َّل مشكلاتنا نحن ،لا مشكلات القرن الهجري الرابع أو الخامس ،ولا مشكلات المجتمعات الأُخرى التي سبقتنا .ومع ذلك ،فإ َّن من الضروري استيعاب خبرة التراث والخبرة المعاصرة ،ث َّم تجاوز كل ذلك ((( ابن عاشور ،أليس الصبح بقريب؟ التعليم العربي الإسلامي :دراسة تاريخية وآراء إصلاحية ،مرجع سابق ،ص.104 ((( المرجع السابق ،ص.15 572
إلى \"إبداع\" مسارات إصلاحية جديدة ومتج ِّددة خاصة بنا ،ولكنَّها -في نهاية المطاف- ستكون خبرة متم ِّيزة تح ِّقق لنا أهدافنا ،وستكون خبرة متم ِّيزة ترى فيها المجتمعات الأُخرى من الفرادة والفاعلية ما َيلفت انتباه هذه المجتمعات للاستفادة منها. إ َّن الإصلاح التربوي مشروع عام لا يقتصر الرأ ُي والعلم في متط َّلباته على المتخ ِّصصين في التربية؛ فالمسألة هي تغيير في النفوس ،وفي واقع المجتمع .وعلماء النفس وعلماء الاجتماع لهم دور كبير في هذا المجال ،والمسألة -في نهاية المطاف -هي تدبير سياسي؛ سواء كان الأمر قرار ًا سياسي ًا ،أو مواجه ًة لقرار سياسي. ولا نستطيع أ ْن نن ِكر أ َّن جهود ًا مختلف ًة ُتب َذل بين الحين والآخر في البلدان العربية والإسلامية بهدف الإصلاح التربوي ،استناد ًا إلى مرجعيات فكرية أحيان ًا ،وإلى ضغوط سياسية ،أو اقتصادية محلية ،أو أجنبية في معظم الأحيان .والمشكلة أ َّن الفكر التربوي المراد تطويره من أجل تحقيق الإصلاح ق َّلما ينطلق من رؤية العا َلم الإسلامية ،حتى نستطيع أ ْن َن َّدعي أ َّننا نتح َّدث عن فكر تربوي إسلامي ،أو أ ْن نسعى إلى الإصلاح التربوي برؤية إسلامية ،أو بمرجعية إسلامية .ومن ال ُمؤ َّكد أ َّن المرجعية الدينية الإسلامية، الحاضرة اليوم في مناهج التعليم المدرسي باسم \"التربية الإسلامية\" ،وفي برامج كليات الشريعة ومناهجها في الجامعات؛ لا أثر لها في دراسة العلوم الأُخرى التي تنطلق غالب ًا من مرجعية غير إسلامية ،مع العلم بأ َّن تعليم العلوم الدينية في المدارس والجامعات هو موضوع نقد شديد من جهات مختلفة ،ولأغراض مختلفة. إذن ،لن يتح َّقق أ ُّي إصلاح حقيقي في التربية والتعليم ،يتناسب مع الواقع المعاصر في العا َلم العربي والإسلامي ،ما دامت ِقبلة التغيير والتطوير هي الغرب؛ بفلسفاته، ونظرياته ،وممارساته ،وما دامت جهود التغيير تتم تحت ضغوط سياسية واقتصادية تتغ َّير اتجاهاتها ،وتتب َّدل مقاصدها. ولك ْن ،كيف سيكون الاستئناف الحضاري لل ُأ َّمة الإسلامية من غير التربية والتعليم؟ وإذا كانت الأُ َّمة في حالة من التيه والضلال ،فهل يمكن لها أ ْن تخرج من هذه الحالة بغير 573
التربية والتعليم؟ لقد ب َّين القرآن الكريم كيف كان منهج النبي ﷺ في نقل الأُ َّمة من الضلال إلى العلم والتزكية والحكمة ،بأربع آيات َتك َّرر معناها ،لتضيف كل آي ٍة جديد ًا إلى المعنى. فالأُ َّمة كانت ُأ ِّمية ،بكل معاني الأُ ِّمية العلمية والحضاريةَ ،ف َص َد َق وص ُفها بالضلال المبين .قال تعالى﴿ :ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ﴾ [الجمعة.]2: والرسول الذي قام بالإصلاح هو واح ٌد من أبناء الأُ َّمة ،وليس من غيرها .قال تعالى: ﴿ﭣ ﭤ﴾ [الجمعة ،]2:وقال سبحانه﴿ :ﯚ ﯛ﴾ [البقرة ،]151:وقال ع َّز وج َّل: ﴿ َر ُسولاً ِم ْن أ ْن ُف ِس ِه ْم﴾ [آل عمران.]164: وهو مر َس ٌل \"فيهم\" ،وليس \"لهم\"؛ لأ َّن رسالته عامة ،وليست خاصة بقومه كما كان الرسل السابقون .قال تعالى﴿ :ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾ [البقرة ،]129:وقال سبحانه: ﴿ﯗﯘﯙﯚﯛ﴾ [البقرة ،]151:وقال ع َّز وج َّل﴿ :ﯨﯩﯪﯫﯬ ﯭ﴾ [آل عمران ،]164:وقال ع َّز من قائل﴿ :ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ﴾ [الجمعة.]2: والرسول مر َس ٌل من الله سبحانه؛ رحم ًة بهذه الأُ َّمة التي تستدعي شعورها بمنَّة الله عليها .قال تعالى﴿ :ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ﴾ [آل عمران.]164: ومنهج الإصلاح كان منهج ًا تربوي ًا يتض َّمن خمسة عناصر ،لم يكونوا يعلمون شيئ ًا منها .قال تعالى﴿ :ﯗﯘﯙﯚﯛ ﯜﯝﯞﯟﯠ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ﴾ [البقرة .]151:فقوله سبحانه﴿ :ﯜﯝﯞ﴾ يعني :يقرأ عليكم القرآن ،وقد س ّماه أولاً آيا ٍت باعتبار أ َّن كل كلام منه معجزة ،وس ّماه ثاني ًا كتاب ًا باعتبار كونه كتاب شريعة. ﴿ﯟ﴾؛ التزكية :تطهير النفس ،وهي مشتقة من الزكاة؛ أ ِي النماء؛ لأ َّن في أصل خلقة النفوس كمالا ٍت وطهارا ٍت تعترضها أرجاس ناشئة عن ضلال أو تضليل. فتهذيب النفوس وتقويمها يزيدها من ذلك الخير المودع فيها. ﴿ﯠﯡ ﯢ﴾؛ أ ْي يع ِّلمكم الشريعة؛ فالكتاب هنا هو القرآن الكريم باعتبار أ َّنه كتاب تشريع ... ،ويع ِّلمكم أصول الفضائل؛ فالحكمة هي التعاليم المانعة من الوقوع في الخطأ والفساد. 574
﴿ﯣﯤﯥﯦﯧ﴾ :تعميم لكل ما كان غير شريعة ،ولا حكمة؛ من :معرفة أحوال الأمم ،وأحوال سياسة الدول ،وأحوال الآخرة ،وغير ذلك .وإ َّنما أعاد قوله: ﴿ﯣ﴾ مع صحة الاستغناء عنه بالعطف تنصيص ًا على المغايرة؛ لئلا ُيظن أ َّن ﴿ﯤﯥ ﯦﯧ﴾ هو الكتاب والحكمة(((. ثالث ًا :بناء الوعي بواقع الفكر التربوي المعاصر ومنطلقات إصلاحه: .1الوعي بالواقع التربوي؛ مفهومه ،وأهميته: الوعي بالواقع حال ٌة تصف الإنسان الذي يتصف بهذا الوعي بأ َّنه يحيط بالواقع ،ويم ِّيز عناصره ،ومك ِّوناته ،والعلاقات القائمة بينها ،والمؤ ِّثرات التي تؤ ِّثر فيها ،ويدرك حاجة هذا الواقع إلى التغيير والإصلاح .ونحن نحتاج إلى الوعي بالواقع في ميادينه المختلفة؛ ف َث َّمة واق ٌع سياسي ،وواقع اقتصادي ،وواقع تربوي ،وهكذا .إذن ،فالوعي وص ٌف لحالة الإنسان الواعي بذاته ،وبما يحيط به. والوعي في اللغة هو :الجمع ،والفهم ،والحفظ؛ فالأُ ْذن الواعية التي ورد ذكرها في القرآن الكريم ليست الأُ ْذن التي أح َّست بالأصوات إحساس ًا مادي ًا ،وإ َّنما هي الأُ ْذن التي فهمت وعقلت ما سمعت ،ث َّم انفعلت به ،وانتفعت به (((.فصيوان ا ُلأ ْذن َيـجمع الأمواج الصوتية الواردة إليه من مصدرها ،ويو ِّجهها إلى مركز الفهم والإدراك لدلالة الصوت ومعناه ،ويتفاعل مع هذا المعنى تأ ُّثر ًا وتأثير ًا ،ث َّم يحتفظ الإنسان في ذاكرته بهذا الحدث، وما كان له من تأ ُّثر وتأثير؛ ليستدعيه كلما اتصل موضوعه بما له صلة به .والرسول ص ّلى الله عليه وس َّلم دعا بالخير ل َمن يسمع مقالته ،ف َي ِع َيها ،ث َّم يب ِّلغها عنه(((. ((( ابن عاشور ،تفسير التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،2ص.50-48 ((( قال تعالى﴿ :ﭧﭨﭩﭪﭫﭬ﴾ [الحاقة.]١٢ : ((( الترمذي ،الجامع الصحيح ،مرجع سابق ،كتاب :العلم ،باب :ما جاء في الحث على تبليغ السماع ،حديث رقم ( ،)2657ص.430 ونص الحديث :عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود يح ِّدث عن أبيه ،قال :قال :سمعت النب َّي ﷺ يقول\" :ن َّضر الله امر ًأ سمع منّا شيئ ًا فب َّلغه كما سمع ،ف ُر َّب ُمب ِّلغ َأ ْوعى من سامع \".وفي رواية ُأخرى للرواي نفسه\" :ن َّضر الله امر ًأ سمع مقالتي ،فوعاها ،وحفظها ،وب َّلغها ،ف ُر َّب حامل ف ْق ٍه إلى َمن هو َأ ْف َق ُه منه \"...حديث رقم ( ،)2658من الكتاب نفسه ،والباب نفسه ،ص.430 575
والوعي بالواقع يتض َّمن هذه العناصر الثلاثة (الجمع ،والفهم ،والحفظ) ،ويتض َّمن كذلك الوعي بعلاقة هذه العناصر بثلاثة عناصر ُأخرى ،هي :الواقع كما هو ،وحاجة هذا الواقع إلى التغيير ،والصورة التي يراد أ ْن تنتقل حالة الواقع إليها .وبهذا الوعي بالأمرين مع ًا، يمكننا أ ْن نتح َّدث ع ّما ُنس ّميه الوعي المنهجي الذي تتوافر به متط َّلبات التخطيط لتغيير حالة الواقع القائم نحو الواقع المنشود ،وتحديد المنهج المناسب لذلك .وبهذا النوع من التخطيط نأمل أ ْن يتصف سعينا في الإصلاح التربوي بالمنهجية السننية الهادفة ،بعيد ًا عن ردود الفعل، وضغوط الحاجة العاجلة إلى القرار ،فيكون البدء من حيث َيلزم البدء أ ْن يكون ،و ُتو َّظف الوسائل والأساليب والإمكانات المتاحة بما َيلزم من كفاءة وفاعلية .ويتصف السعي في الإصلاح باستقامة وثباث وصبر على المعاناة حتى تتح َّقق الأهداف المنشودة(((. ومن الإنصاف أ ْن نؤ ِّكد حضور بعض صور هذا الوعي وبعض تم ُّثلاته عند أفراد من التربويين في العا َلم العربي والإسلامي ،ولكنَّه -في كثير من الأحيان -وع ٌي جزئي لجانب من جوانب الواقع ،يستند إلى الانفعال بالتخ ُّصص العلمي أو العملي ،ويقف عند حدود وصف الظاهرة ،وتقدير أبعادها ،ويتصف بالعفوية والتلقائية ،ولك َّن المنشود هو الوصول بالوعي المنهجي إلى حالة من الوعي الكلي الذي يستند إلى التد ُّبر الهادف ،ويحتكم إلى رؤية كلية للعا َلم ،و ُيع ِمل المعيار القيمي والمسؤولية الأخلاقية ،ث َّم يتم َّدد هذا الوعي في مساحاته ،ويتع َّمق في درجته ،حتى يصبح الوعي المنهجي \"ثقاف ًة منهجي ًة ح َّي ًة\" لسائر ال َم ْعنِ ّيين بإصلاح واقع الأُ َّمة. وحتى يصبح الوعي المنهجي بضرورة الإصلاح التربوي ومتط َّلباته \"ثقاف ًة منهجي ًة ح َّي ًة\" ،لا تخ ُّص التربويين دون غيرهم من فئات المجتمع؛ فلا ُب َّد من الوعي بطبيعة العلاقة بين التربية والمجتمع ،وتحويل الإجماع على ِش َّدة الترابط بينهما إلى أ ْن يكون عنصر ًا أساسي ًا في خطط الإصلاح التربوي والاجتماعي .فتطوير النُّ ُظم التعليمية يتم عن طريق نظريات اجتماعية متن ِّوعة ،تتناول الحراك الاجتماعي ،والتو ُّزع الطبقي ،والتغيير الاجتماعي ،وبرامج التنمية .ث َّم إ َّن الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية تؤ ِّثر ((( ملكاوي ،منهجية التكامل المعرفي :مقدمات في المنهجية الإسلامية ،مرجع سابق ،الفصل الثاني بعنوان :الوعي المنهجي والخلل المنهجي ،ص.128-113 576
تأثير ًا كبير ًا في صياغة أهداف المؤسسات التعليمية ،وهياكلها ،ومناهجها ،وممارساتها. وكثير من الدراسات التربوية تتناول النتائج التعليمية وأشكال ارتباطها بعوامل اجتماعية مختلفة ،مثل :الجنس ،وال ِعرق ،والحالة الاجتماعية ،والحالة الاقتصادية ،وغير ذلك(((. وحتى لا نذهب بعيد ًا في أحلام وردية ،ونتخ َّيل صورة مثالية طوباية يصعب أ ْن تتح َّقق؛ فإ َّن علينا أ ْن نستدرك بالقول إ َّن التربية عملية في غاية التعقيد ،تشتمل على العلم والتع ُّلم والتعليم ،وأعق ُد ما فيها أ َّنها تحتاج إلى نمو دائم ،وتط ُّور مستمر؛ فليس َث َّمة سق ٌف للتحسين والتطوير في محتوى العلم ،أو خبرات التع ُّلم ،أو أساليب التعليم .ث َّم إ َّن التربية ليست نتيج َة ما تق ِّدمه مؤسسة واحدة من مؤسسات المجتمع ،بل إ َّن ميدان التربية هو المجتمع بمؤسساته كلها ،ولا سيما الأسرة ،والمدرسة ،والإعلام؛ فالنجاح في تحقيق حالة تربوية سليمة يتط َّلب تكا ُمل جهود هذه المؤسسات .و ِم ْن َث َّم ،فليس من ال ُمتو َّقع أ ْن يتح َّقق الإصلاح التربوي المنشود في المجتمع حين تقتصر جهود الإصلاح على التعليم المدرسي مثل ًا ،في الوقت الذي َتهدم فيه مؤسسات المجتمع الأُخرى ما يمكن أ ْن تبنيه المدرسة؛ فالإصلاح عملية شاملة تتناغم عناصرها ،وتتساند خطواتها ،والإصلاح التربوي جزء من هذه العملية ،لكنَّه الجزء الأكثر أهمي ًة وعمق ًا. ونحن نرى أ َّن البحث عن درجة وعي الأُ َّمة الإسلامية بحقيقة واقعها العلمي والفكري والمادي ،وواقع العا َلم من حولها في هذه المجالات وغيرها ،أم ٌر مهم جد ًا؛ إذ من ال ُمتو َّقع أ ْن يؤ ِّثر هذا الوعي في الطريقة التي تصوغ فيها الأُ َّمة ُن ُظمها التربوية والتعليمية، وتط ِّور فكرها التربوي الذي ُي ِع ُّد أجيالها لمواجهة مشكلاتها الداخلية ،والمخاطر والقوى المعادية لها ،و ِم ْن َث َّم نفهم درجة الكفاءة التي كانت الأُ َّمة تقابل بها هذه المشكلات والقوى في الحقب التاريخية المتعاقبة .ويمكن أ ْن يؤدي البحث في درجة الوعي هذه إلى فهم أسباب عجز ُن ُظم التعليم والتربية -التي سادت حياة الأُ َّمة في القرون الثلاثة الأخيرة- عن حماية الأُ َّمة من الوصول إلى حالة الضعف والجهل والتجزئة ،التي أغرت الدول الأوروبية الصاعدة باستعمار معظم بلاد المسلمين ،وتقسيم ال ُمق َّسم منها ،والاستيلاء على ثرواتها ،والإعلاء من الثقافة والنُّ ُظم والقيم الغربية فيها ،على حساب الثقافة والنُّ ُظم والقيم الإسلامية. (1) Francois, Emmanuel Jean. \"Education and Society\", In: Building Global Education with a Local Perspective, New York: Palgrave Macmillan 2015, 1-15. 577
.2الوعي بضرورة إصلاح الواقع التربوي: إ َّن الوع َي الكامل بالظروف التي تحيط بجهود الإصلاح التربوي شر ٌط مهم في التخطيط لهذه الجهود ،وتقدير مستويات النجاح المنشودة في تحقيق أهدافها ،لا سيما أ َّن هذه الظروف لا تقتصر على عدد محدود من القضايا التربوية ،أو العوامل الاجتماعية المحلية؛ فالعا َل ُم المعاصر عا َل ٌم شدي ُد التعقيد ،سري ُع التغ ُّير ،تتجاذبه اتجاها ٌت فكرية وقيمية متق ِّلبة .ومجتمعات هذا العا َلم متشابكة ،وهي تتبادل التأثير والتأ ُّثر بصورة مستمرة. ومع أ َّننا نجد في هذا العا َلم نظريا ٍت و ُن ُظم ًا سياسي ًة واقتصادي ًة وإداري ًة مختلف ًة ،فإ َّن َث َّمة جهود ًا للأخذ ببعض الملامح العامة المشتركة التي تتض َّمنها اتجاهات العولمة ،أو تفرضها القوى التي تقود هذه الاتجاهات؛ َر َغب ًا ،أو َر َهب ًا .ولذلك ،فليس من السهل أ ْن تتح َّدد ملامح مجتمعاتنا القائمة اليوم واتجاهات التغ ُّير فيها ،من دون وعي كا ٍف بالقوى المؤ ِّثرة في هذه المجتمعات .و ِم ْن َث َّم ،فليس من السهل الحكم على الفكر التربوي السائد في مجتمعات المسلمين من نظرة سطحية عاجلة. ومع ذلك ،فإ َّن بإمكاننا أ ْن نتح َّدث عن حضور المعاني العامة للتربية في حياة الأفراد بهذه المجتمعات؛ ف َث َّمة رو ٌح كامنة تتل َّبس النفس الإسلامية الل ّوامة ،تجعلها ت ِح ُّن وتتمنّى أ ْن تصطبغ بتربية الإسلام؛ قولاً ،وعمل ًا .و َث َّمة نواز ُع بشرية تتل َّبس النفس الأ ّمارة بالسوء، وتدفعها إلى التخ ُّفف من أحكام الإسلام التربوية؛ تماهي ًا مع الواقع التربوي لغير المسلمين الذي يبدو زاهي ًا ج ّذاب ًا ،ولا نعدم وجود النفس المطمئنة التي تشعر بالرضا في جهودها الحثيثة لتطبيق التوجيهات التربوية الإسلامية .ور َّبما يفيد إجراء دراسات ميدانية تح ِّدد ال ُث َّلة، والقليل ،والكثير ،من أ ٍّي من هذه الفئات الثلاث في كل مجتمع من مجتمعات المسلمين. هذا عن ضرورة الوعي بواقع الفكر التربوي الإسلامي المعاصر ،وهو وعي يشترط بالضرورة نوع ًا آخ َر من الوعي ،هو الوعي بالحاجة إلى إصلاح هذا الواقع .وسنلاحظ أ َّن الناس قد يختلفون في مناقشاتهم حول واقع مجتمعهم وقضايا سوء الأحوال الاقتصادية، وظروف العمل والبطالة ،والجدل السياسي حول قضايا سياسية محلية ،أو إقليمية ،أو دولية ،لكنَّهم لا يختلفون حول أهمية التربية؛ سواء في الطريقة التي تتأ َّثر بها نتيجة أحوال المجتمع ،أو التغ ُّير الذي يمكن للتربية أ ْن ُتح ِدثه في المجتمع. 578
ومن هنا ،تأتي أهمية الحديث عن ضرورة الإصلاح في الفكر التربوي ،والوعي بالعمق والتش ُّعب الذي لا ُب َّد أ ْن يرافق هذا الحديث ،ولا سيما في حاجة هذا الفكر إلى استمرار التحديث والتطوير؛ ليواصل الاستجابة لمتط َّلبات النمو والتط ُّور والتغ ُّير في واقع المجتمعات الإسلامية ،ولتمكين هذا الفكر من تناول الموضوعات الأساسية التي تش ِّكل الملامح العامة المتم ِّثلة في النُّ ُظم التربوية العامة ،وما تقوم عليه من فلسفات ،وسياسات، ونظريات ،واستراتيجيات ،واستيعاب تفاصيل النظام التربوي ،ومك ِّوناته ،ومستوياته الإدارية والتعليمية ،وما فيها من مرافق ،ووسائط ،وبرامج ،ومناهج ،وأساليب للتعليم والتقويم ،وغير ذلك. وانطلاق ًا من منهجية التكا ُمل المعرفي التي نعتمدها في كتاباتنا ،فإ َّننا نق ِّرر -منذ البداية- أ َّن الفكر التربوي الإسلامي المعاصر الذي نطمح إليه لا ُب َّد أ ْن يستمد أهدافه وبرامجه من أربعة مصادر :القرآن الكريم ،وال ُّسنة النبوية ،والتراث الإسلامي ،والخبرة البشرية المعاصرة .فهو يهتدي بنصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية لأحكام الإسلام وتوجيهاته في العمل التربوي بفه ٍم مقاصد ٍّي معاص ٍر ،ويستوعب -في الوقت نفسه -خبرة التراث التربوي الإسلامي، والخبرة البشرية المعاصرة (((.أ ّما الهدف الذي نسعى إليه في هذا الطموح فهو هدف مزدوج: تعزي ُز الخصائص الفكرية والحضارية لل ُأ َّمة الإسلامية ومجتمعاتها ،وبنا ُء وعيها بمسؤوليتها عن الإسهام التربوي والعلمي والحضاري في المجتمع البشري المعاصر .وشر ُط تحقيق ذلك أ ْن يقوم الفكر الذي نطمح إلى إنتاجه ،ونب ِدع في تصميم مشروعاته وبرامجه ،على \"استيعاب\" الفهم المقاصدي لنصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ،و\"تجاوز\" الخبرة التاريخية للتراث الإسلامي والخبرة البشرية المعاصرة. ((( ر َّبما يجد القارئ لهذا الكتاب وغيره من كتب المؤ ِّلف أ َّن تحديد مصادر العلم والمعرفة يأتي من مصدرين، هما :الوحي الذي يتض َّمن القرآن الكريم ،وال ُّسنة النبوية .والعا َلم الذي يتض َّمن العا َلم الطبيعي ،والعا َلم الاجتماعي ،والعا َلم النفسي .وفي أحايين ُأخرى يأتي الحديث عن أربعة مصادر ،هي :القرآن الكريم ،وال ُّسنة النبوية ،والتراث الإسلامي ،والتراث الإنساني المعاصر .وفي هذه الحالة ،فإ َّن التراث الإسلامي هو جزء من الخبرة البشرية الخاصة بالمسلمين ،والتراث الإنساني هو الخبرة البشرية العامة التي َن ِص ُفها عادة بالخبرة الغربية (الأوروبية ،والأمريكية) .والتراث الإسلامي والخبرة الغربية المعاصرة هما من العا َلم الاجتماعي في الطريقة التي نتحدث فيها عن مصدرين. 579
.3الوعي بمنطلقات الإصلاح التربوي: في سياق البحث عن واقع الفكر التربوي السائد في مجتمعاتنا الإسلامية ،وطموحاتنا لبناء فكر تربوي إسلامي ،نجد من المناسب أ ْن نذ ِّكر ببعض المنطلقات التي لا ُب َّد أ ْن تكون واضحة في تناولنا للواقع والطموح. والمنطلق الأول في هذا الشأن هو أ َّن إصلاح حال التربية والتعليم في مجتمعاتنا هو جزء من هدف الإصلاح العام لهذه المجتمعات ،بل هو طريقة هذا الإصلاح كذلك. فنحن على وعي بالجدل المتواصل حول أثر المجتمع في تحديد موقع التربية فيه ،وأثر التربية في تحديد واقع المجتمع .وعلماء الاجتماع والسياسة والتربية وغيرهم من دعاة الإصلاح العام يتو َّزعون على طرفي القضية؛ فعندما يرى بعضهم أ َّن المجتمع لا يقوم من دون تربية ،فإ َّن ذلك يعني أ َّن التربية تأتي في الأهمية قبل المجتمع ،وعندما يرى بعضهم الآخر أ َّن التربية هي الصورة التي يعكسها المجتم ُع ،ويح ِّدد ملام َحها ،فإ َّن ذلك يعني أ َّن المجتمع يأتي في الأهمية قبل التربية .ولكنَّنا لا نجد خلاف ًا جوهري ًا حول وجود صلة قوية بين المجتمع والتربية ،وأ َّن طرفي الجدل في القضية يملكان قدر ًا من الح ِّق فيما َي َريانِه. وقد تكون إحدى الـ ُحجتين أقوى من الأُخرى في سياقات مح َّددة. لقد استق َّرت ُن ُظم التعليم العام في العا َلم المعاصر على اعتماد عدد من المبادئ ،منها: إلزامية التعليم العام؛ والتكا ُمل بين مناهج التعليم اللازمة لبناء شخصية الإنسان الصالح ال ُمص ِلح؛ في :جسمه ،وروحه ،وعقله؛ وإعداد الكفاءات العملية اللازمة لتحقيق النمو والتق ُّدم في المجتمع؛ والإسهام في الحضارة الإنسانية وترشيدها؛ وغير ذلك من المبادئ التي يمكنها أ ْن تجعل حالة التعليم العام في المجتمع تعبير ًا عن مدى تق ُّدمه وصلاحه ،أو تخ ُّلفه وفساده. وثاني هذه المنطلقات اعتقا ُدنا أ َّن من ح ِّق أبناء كل مجتمع من مجتمعاتنا المسلمة أ ْن يعت ّزوا بمجتمعهم ،ولك َّن ذلك لا يعني غ َّض ال َّط ْرف عن صورة التخ ُّلف التي تتصف بها مجتمعاتنا المعاصرة .وهذا التخ ُّل ُف هو غالب ًا صف ٌة عامة يتصف بها المجتمع بكامله، وتتصف به قطاعات المجتمع ،بما في ذلك قطاع التربية .والحكم بصفة التخ ُّلف هو حكم عام مهما اختلف المعيار المستخدم في هذا الحكم؛ فقد يكون معيا ُر القياس مقارن َة 580
واقع المجتمع كما هو حالي ًا بما كان ينبغي أ ْن يكون عليه وفق التوجيهات الإسلامية، وقد يكون المعيا ُر مقارن َة هذا الواقع بالإمكانيات المتاحة للإصلاح والتطوير والعجز عن توظيف هذه الإمكانيات ،وقد يكون المعيا ُر مقارن َة واقع المجتمع الإسلامي بالمجتمعات الأُخرى من حيث التق ُّد ُم الحضاري بجانب ْيه :المعنوي ،والمادي. وثالث هذ المنطلقات أ َّن أ َّي جهد للإصلاح والتجديد والتغيير في واقع المجتمع يقوم على فهم هذا الواقع فهم ًا عميق ًا ،يشمل المشكلات وأسبابها ،والحاجات وأولوياتها، وسنن التغيير واتجاهاتها .ومن دون هذا الفهم العميق ،فإ َّن التغيير سوف يتم لا محالة؛ إذ التغيير ُسنَّ ٌة قائمة دائمة .وإذا لم يكن التغيير وفق منهج يقود إلى النمو والتق ُّدم ،فر َّبما يجري التغيير في اتجاهات تك ِّرس التخ ُّلف .ولع َّل من أهم ما ينبغي فهمه عن واقع أ ِّي مجتمع هو الصلة الوثيقة بين حالة المجتمع القائمة والمنشودة من جهة ،والمك ِّونات الفكرية والنفسية التي تع ِّبر عن شخصية المجتمع وما يم ِّيزه عن غيره من المجتمعات من جهة ُأخرى. ورابع هذه المنطلقات أ َّنه لا يكفي لفهم واقع المجتمع وجو ُد ملاحظات انطباعية وأحكام وصفية عامة ،بل لا ُب َّد من دراسات تحليلية نقدية ،تتصف بالعمق والجرأة في سعيها لفهم حالة المجتمع ،في جوانبه وقطاعاته المختلفة ،بما في ذلك الدرجة التي يتمتع فيها الإنسان بحريته وكرامته وحقوقه ،وطبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة بين الأفراد والجماعات ،ومنظومة القيم التي تحكم سلوك الناس ومرجعيات هذه المنظومة، ومدى امتلاك المجتمع لحريته واستقلاله في القرار والاختيار ،فضل ًا عن حالة المجتمع فيما يخت ُّص بمستوى البحث العلمي في ميادين الزراعة ،والصناعة ،والتيسيرات المادية، والتق ُّدم الحضاري .فحالة المجتمع في كل ذلك تؤ ِّثر في الحالة التربوية للشخصية الإنسانية في المجتمع ،ولا مناص لأ ِّي إصلاح تربوي منشود من التعامل مع حالة المجتمع القائمة بهدف نقله إلى الحالة المنشودة. وخامس هذه المنطلقات ضرور ُة تحديد العلاقة بين واقع الفكر التربوي الإسلامي والعصر ،أو السياق الزمني الذي تط َّور فيه هذا الفكر؛ فما أنتجه التربويون المسلمون في عصر زمني مضى أصبح تراث ًا فكري ًا تربوي ًا إسلامي ًا .أ ّما الإسلام فهو رسالة عالمية عابرة 581
للزمان والمكان .فمبادئ الإسلام في أصولها ،في الوحي الإلهي والهدي النبوي ،مبادئ معاصرة ،وكذلك أحكامه وتوجيهاته ،لك َّن التراث التربوي الإسلامي الذي ق َّدمه علماء الأُ َّمة اقترب من مبادئ الإسلام وأحكامه كثير ًا أو قليل ًا .وحين لا يكون الفكر التربوي منبثق ًا من مبادئ الإسلام وأحكامه ،وغير ُم ْه َت ٍد بهدي هذه المبادئ والأحكام ،بل منبثق من مبادئ ُأخرى تخالِف ما يهدي إليه الإسلام؛ فلا يمكن أ ْن ُي َع َّد فكر ًا تربوي ًا إسلامي ًا. وسادس هذه المنطلقات أ َّن الفكر التربوي الإسلامي الذي نعنيه ليس هو \"التربية الدينية\" ،أو \"التربية الإسلامية\" التي تكون عنوان ًا لمادة دراسية ،تقتصر على بعض الجوانب الروحية والأخلاقية والتزكية الوجدانية الفردية ،أو تق ِّدم معلومات عن الإسلام .وليست هي مادة دراسية تعالج الفكر التربوي الإسلامي عند أحد علماء الإسلام في التاريخ ،أو ما ساد هذا الفك َر في حقبة زمنية ماضية ،أو منطقة جغرافية مح َّددة ،أو مذهب فقهي أو فكري ...فقد اصطلحنا أ ْن يكون ذلك تراث ًا تربوي ًا إسلامي ًا ...؛ فالفكر التربوي الإسلامي الذي نتح َّدث عنه هو بناء فكري يعيد صياغة الشخصية الفردية والاجتماعية الحاضرة، الآن ،وهنا ،في الجوانب النفسية والعقلية ،و ِم ْن َث َّم بناء مجتمع يتمتع بالحيوية والفاعلية والإنجاز الحضاري المتم ِّيز ،الآن ،وهنا .والتربية بهذا المعنى هي تغيير في النفوس يكون الأسا َس لتغيير جذري في الجوانب المعنوية والمادية من حياة الفرد والمجتمع والأُ َّمة. وسابع هذه المنطلقات أ َّن أ َّي فكر تربوي ينتِجه مف ِّكرو أ َّية ُأ َّمة إ َّنما ينبثق من مرجعية فكرية كلية ،أو رؤية كلية للعا َلم؛ فالفكر التربوي الإسلامي ينبثق من مرجعية فكرية كلية تع ِّبر عن رؤية العا َلم الإسلامية ،وهي التص ُّور الكلي الذي يتبنّاه المجتمع الإسلامي عن الوجود والحياة والإنسان ،وما يتأ َّسس عليه هذا المجتمع من معتقدات وقيم و ُن ُظم. وحين يستورد المجتمع الإسلامي فكر ًا تربوي ًا من رؤية ُأخرى للعا َلم ،فإ َّن المشكلة أساس ًا لا تكون في تفاصيل الفكر التربوي وجزئياته ،وإ َّنما تكون في الرؤية الفلسفية التي ينبثق عنها ،والمرجعية الفكرية التي يحتكم إليها. ونأ ُمل أ ْن ُيس ِهم ك ٌّل من الوعي بحالة الواقع التربوي المعاصر في المجتمعات المسلمة ،والوعي بضرورة إصلاح هذا الواقع ،والوعي بالمنطلقات اللازمة للإصلاح، في ترشيد التخطيط لهذا الإصلاح ،وفي سعينا الحكيم لتنفيذ خططه. 582
رابع ًا :أوساط التربية وأهميتها في جهود الإصلاح التربوي: أوساط التربية ،أو وسائطها ،أو وكالاتها ،Agenciesهي مؤسسات ،أو منظمات، أو بيئات متخ ِّصصة ،تؤ ِّثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة في الفرد الإنساني ،وبطريقة نظامية أو غير نظامية ،وعلى نح ٍو ُمبر َمج أو غير ُمبر َمج .وهي تبدأ بالأسرة ،ث َّم المدرسة بمراحلها؛ من :روضة الأطفال ،إلى المرحلة الابتدائية ،فالإعدادية ،فالثانوية ،فالجامعة. غير أ َّن الفرد الإنسان -في جميع حالته ،وجميع مراحل ُع ُمره -يعيش في مجتمع يع ُّج بالمؤسسات الأُخرى ،مثل :المؤسسات الدينية ،والاجتماعية ،والرياضية ،والإعلامية، والترفيهية .ويبدأ الإنسان مسيرة التربية في واحدة أو أكثر من هذه المؤسسات من أول لحظات حياته ،ويستمر فيها طوال ُع ُمره .ور َّبما ينتقل في أثناء حياته من وسط تربوي إلى وسط آخر ،ور َّبما يتأ َّثر بعدد من الوسائط في الوقت نفسه. وقد ن َّوه الأدب التربوي غالب ًا بأربعة أوساط ،هي :الأسرة والمدرسة ،والجامعة، والإعلام ،والبيئة الاجتماعية العامة .وسنشير هنا -بإيجاز شديد -إلى الأوساط الثلاثة الأُولى ،تاركين الحديث عن البيئة الاجتماعية العامة إلى حصافة القارئ وخبرته .ونكتفي بالإشارة إلى أ َّن البيئة الاجتماعية العامة تتض َّمن كثير ًا من المؤسسات وأوجه النشاط ،التي أهمها :صحبة الأقران ،والمسجد ،والمتحف ،والرياضة ،والجمعية التطوعية ،والنادي الثقافي ،وغير ذلك .ويتفاوت تأثير هذه المؤسسات في الأفراد بحسب تو ُّجهات الأفراد أنفسهم ،وميولهم ،واهتماماتهم ،وطبيعة الوسط الأسري .وقد يكون أثر أ ٍّي من هذه البيئات في الفرد -سلب ًا ،أو إيجاب ًا -أكبر من أثر أ ٍّي من الوسائط الرئيسة ،مثل الأسرة والمدرسة. .1مهمة الأسرة في إصلاح التعليم: يؤ ِّكد علماء التربية وعلم النفس أ َّن التكوين النفسي والوجداني للفرد الإنساني إ َّنما يتش َّكل بالحياة الأسرية في مرحلة الطفولة؛ فما يراه الأطفال في الأسرة ،وما يسمعونه، والطريقة التي يتفاعلون فيها مع ما يرونه وما يسمعونه؛ كل ذلك يم ِّثل الدور الأكبر ،ليس في اكتساب اللغة وروح الانتماء فحسب ،بل في سائر جوانب البناء النفسي والعاطفي؛ 583
من :ثقة بالنفس ،وجرأة في المواقف ،وميل إلى التعا ُون و ُح ِّب الخير للآخرين ،وغير ذلك من الخصائص النفسية .ويستطيع ال ُمع ِّلمون بعد ذلك البناء على هذا الأساس ،وتعزيز هذه الخصائص وتطويرها. ولك َّن الحياة المعاصرة قد َت ُح ُّد أحيان ًا من أثر التربية الأسرية في الأطفال لأسباب مختلفة ،منها :ضعف التربية الوالدية عند الآباء والأُ َّمهات ،وانشغالهم عن أطفالهم .فلا تتوافر في بيئة التنشئة الأسرية ما يبني تلك الخصائص الإيجابية ،فتختل درجة تح ُّققها، وقد يتح َّقق ما ينا ِقضها .وحتى لو توافرت التنشئة الجيدة ،فإ َّن البيئة المدرسية بعد ذلك قد لا تكون مناسبة لتعزيز تلك البنية النفسية الإيجابية ،لا سيما إذا كان عمل ال ُمع ِّلمين يفتقد رو َح الرسالة ،ولم يح َظ ال ُمع ِّلم بمنزل ٍة في المجتمع تو ِّفر له من المكانة المادية والكرامة المعنوية ما يع ِّزز مكانته في نفسه ونفوس طلبته ،وثقته بنفسه وثقة طلبته به. والحقيقة أ َّن وعي أولياء الأمور بما تق ِّدمه المدارس لأطفالهم من تربية وتعليم، وممارسة التربية والتوعية لأطفالهم ،والتوا ُصل والتعا ُون مع إدارات المدارس؛ ر َّبما لا يغني عن مسؤوليتهم في التخطيط والتنفيذ لكثير من جوانب الإصلاح التربوي ،عن طريق برامج مح َّددة للتنشئة والتربية لأبنائهم في المراحل المختلفة من أعمارهم. إ َّن التنشئة الأسرية في المجتمع الإسلامي تقتضي إدرا َك الأ ِب والأُ ِّم للمستوى المعياري الذي و َّجه إليه الوحي الإلهي والهدي النبوي ،والسع َي ليكون هذا الإدراك قائد ًا لهما في ممارستهما هذه التنشئة .فعندئ ٍذ ،تكون هذه التنشئة الأسا َس في تشكيل عقل الفرد ،ونفسيته ،وصقل شخصيته؛ إذ يتش َّرب فيها الفر ُد الرؤى والمشاعر والأفكار، وينشأ على منظومة متكاملة من القيم الإنسانية النبيلة ،ويخضع لمدى واسع من العلاقات الاجتماعية .إذن ،فالأسرة في توجيهات الوحي الإلهي والهدي النبوي ،هي مستودع القيم التي تحكم مواقع أفراد الأسرة الممتدة؛ من :ال َج ِّد وال َج َّدة ،إلى الأ ِب والأُ ِّم ،والأخ والأخت ،والع ِّم والخال ،والع َّمة والخالة ،فضل ًا عن البنين والحفدة .فالأمومة ،والأُب َّوة، وال ُبن َّوة ،والعمومة ،والخؤولة...؛ كلها قي ٌم ُتس ِهم في تشكيل نفسية الفرد ،وبناء علاقاته، وتوسيع دائرتها .ولكل فرد في العائلة الممتدة مكان ٌة لا يغني عنها فرد آخر؛ فلك ٍّل من ال َج ِّد ،وال َج َّدة ،والع ِّم ،والع َّمة ،والخال ،والخالة ،مكا ٌن في التربية يع ِّزز مكانة الأ ِب والأُ ِّم 584
والأخ والأخت ،ويتكامل معها .وقد لا تكون المهمات التي يؤديها ك ٌّل من هؤلاء مهمات صريحة معلنة ،وإ َّنما مهمات فطرية كامنة ،يتم أداؤها بصورة تلقائية ،وعندما تؤدى بصورة واعية فإ َّن أثرها الإيجابي سيكون أكبر قيم ًة ،وأعظم شأن ًا. إ َّن التأ ُّمل في النصوص القرآنية التي تن ِّوه بالعلاقات الأسرية الممتدة بين النسب والصهر (((،والبنين والحفدة (((،وما تتض َّمنه من صلات القربى والرحم؛ ر َّبما يجعلنا نستنبط أ َّن شخصية الفرد الإنساني لا تتكامل إلا عندما يـم ُّر بمراحل يؤدي فيها جميع المهمات الأسرية؛ مهمة ال َج ِّد ،والأ ِب ،والزوج ،والأخ ،والابن ،والحفيد ،والع ِّم ،والخال ... ،فإ ْن لم ُي َت ْح للفرد أ ْن يؤدي واحد ًة من هذه المهمات ،فر َّبما يفتقد جزء ًا من الخبرة الفطرية التي َتلزم لاستكمال شخصيته الإنسانيةَ ،و َي ْص ُد ُق ذلك في ح ِّق الذكر والأنثى. والعلاقة بين الجدود والأحفاد كانت موضوع ًا لكثير من الدراسات التي ب َّينت أهمية هذه العلاقة لكلا الطرفين ،ومن ذلك -على سبيل المثال -ما نشرته جريدة بوستن غلوب Boston Globeالأمريكية في عددها الصادر بتاريخ 14ديسمبر 2015م ،عن دراسة قام بها باحثون بقيادة الباحثة الرئيسة سارة مورمان Sara Moorman؛ الأستاذ المشارك في تخ ُّصص علم الاجتماع بكلية بوستن .وقد ُن ِشرت الدراسة في مجلة علمية هي مجلة ،Gerontologistوكان موضوعها الآثا َر النفسية والاجتماعية الإيجابية المتر ِّتبة على العلاقة الوثيقة بين الجدود والأحفاد .وقد تو َّصلت الدراسة إلى أ َّن عناية الجدود (وال َج ّدات) بالأحفاد تؤدي إلى تقليل المشكلات النفسية والسلوكية للأحفاد ،وتز ِّودهم بخبرات غنية تساعدهم على التك ُّيف والتأقلم في مراحل حياتهم .بيد أ َّن الجدود أنفسهم يستفيدون كثير ًا من هذه العلاقة؛ إذ ُتش ِعرهم بقيمتهم في حياة الأسرة وتماسكها، و ُتع ِّرضهم لأفكار جديدة ،و ُتس ِهم في المحافظة على قدراتهم العقلية(((. ((( وذلك قوله تعالى﴿ :ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ﴾ [الفرقان.]54 : ((( وذلك قوله سبحانه﴿ :ﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ﴾ [النحل.]72 : ((( انظر التقرير عن الدراسة في: - Albernaz, Ami. \"Study: Close grandparent-grandchild relationships have healthy benefits\", Globe Correspondent, Dec. 14, 2015. ويمكن قراءة التقرير من الرابط: - http: //educatedcompanion.com/study-close-grandparent-grandchild-relationships-have- healthy-benefits-2 585
إ َّن التغ ُّيرات العميقة في المجتمع البشري الحديث ،بتأثير قوى العولمة وغيرها من العوامل ،لم تقتصر نتائجها على التعليم المدرسي والتعليم الجامعي في المجتمعات الإسلامية ،وإ َّنما امت َّدت إلى سائر أوساط التربية ومؤسساتها .ففي مجال الأسرة -مثل ًا- نجد أ َّن قيم الأسرة كما أرادها الله سبحانه ،وكما مارسها البشر بفطرتهم عبر التاريخ ،تكاد تنقرض في المجتمعات المعاصرة .وبالرغم من أ َّن بعض مجتمعات المسلمين لا تزال تحتفظ بشيء من هذه القيم ،فإ َّنها آخذة بالتلاشي بسرعة ملحوظة؛ نتيج ًة لتف ُّكك الأسرة الممتدة ،وضعف روابط القربى ،وتخ ّلي الوالدين عن مهمة التنشئة الأسرية ،باعتماد دور الحضانة ،وهي مؤسسات اقتصادية أكثر منها مؤسسات تربوية ،أو باعتماد الخادمات الأجنبيات في بعض البلدان ،اللاتي لم يأتي َن إلا لأسباب اقتصادية ،حتى صدق في واقع التربية الأسرية معنى \"ال ُي ْتم\" كما فهمه أحمد شوقي: َل ْي َس ال َيتي ُم َم ِن ا ْن َتهى َأ َبوا ُه ِم ْن َهـــ ِّم ال َحيـا ِة َو َخـ َّلفـا ُه َذلِيـ َل إِ َّن اليتي َم هـ َو الـذي َت ْل َقـى َلـ ُه ُأ ّمـــ ًا َت َخ َّلـ ْت َأ ْو َأبـ ًا َم ْش ُغـو َل ومسألة ضعف التنشئة الأسرية لم تقف عند صغار الأطفال الذين يتش َّربون التربية بطريقة غير واعية ،وإ َّنما امت َّد هذا الضعف إلى المراحل اللاحقة للطفولة؛ إذ َأوكلت الأسرة مهم َة التربية إلى المدرسة ،وانشغل جميع أفراد الأسرة كبار ًا وصغار ًا؛ ك ٌّل باهتماماته الخاصة؛ من :مسؤوليات العمل ،أو العلاقات الاجتماعية ،أو أنماط الحياة المشغولة بما ُين َشر في وسائل الإعلام ،أو وسائل التوا ُصل الاجتماعي. َث َّمة أهدا ٌف تربوية يصعب أ ْن تتح َّقق خارج الأسرة ،ولا سيما الأهداف التي تتصل بالمفاهيم الأساسية للعقيدة ،والممارسات الأخلاقية ،والصفات الشخصية العامة للفرد الإنسان .فمثل هذه الأهداف تحتاج إلى بيئة مستقرة ،تسمح بأنواع من التفا ُعل الاجتماعي والثقافي ،والتنشئة على تح ُّمل المسؤولية ،والأداء المتم ِّيز .ومع ذلك ،فإ َّن الأسرة تستطيع أ ْن تتابع ما تق ِّدمه المدرسة لأبنائها ،فتقوم بما َيلزم من دعم ،أو توجيه، أو تصحيح ومعالجة لما قد يكتسبه الأبناء في المدرسة من سلوكات غير مناسبة .وهذا لا يعفي المدرسة من مهمات التربية ،عن طريق أنواع ُأخرى من التفا ُعل الاجتماعي بين 586
الطلبة وال ُمد ِّرسين؛ فالحياة المدرسية لا تقتصر -بطبيعة الحال -على تقديم المعلومات، والتدريب على المهارات ،وإ َّنما تمتد لتشمل تعزيز صور التفا ُعل البشري ،الذي لا يتم بطريقة آلية \"ميكانيكية\" جافة ،بل بطريقة حيوية ملؤها الحب والعطف والرحمة .وبذلك ندرك أهمية التكا ُمل بين مه َّمة الأسرة ومه َّمة المدرسة. وحتى حين تهتم الأسرة بتربية أبنائها ومتابعة تعليمهم المدرسي ،فإ َّن اله َّم الأكبر ر َّبما ينصرف إلى التحصيل الدراسي ،الذي يو ِّفر ُفرص ًة للتنافس على مقاعد الدراسة الجامعية بصورة عامة ،أو التنافس في تخ ُّصصات معينة .وتكاد تختفي عند الأسرة ،أو في المجتمع بكامله ،أ َّية استراتيجيات تربوية لتشكيل شخصية الفرد المتكاملة ،أو تلبية متط َّلبات الاكتفاء الذاتي من الكفاءات والخبرات العلمية والعملية في المجتمع .ولا يقتصر فشل النظام التربوي في المجتمعات الإسلامية على ضعف الهوية الإسلامية والوطنية ،وتزايد الرغبة في الهجرة إلى بلدان ُأخرى ،وإ َّنما يمتد هذا الفشل إلى صور ُأخرى ،منها :افتقار الخريجين إلى الكفاءة اللازمة لتلبية متط َّلبات النمو والتط ُّور ،وارتفاع نِسب البطالة بين هؤلاء الخريجين ،و ِم ْن َث َّم استيراد الخبرات الفنية العالية من الخارج ،واعتماد العمالة الأجنبية حتى في المهن البسيطة. إ َّن إصلاح التعليم -انطلاق ًا من جهود الأسرة -يبدأ بتأهيل الوالدين لأداء المهمة الجليلة تأهيل ًا يفيدهما في أدائها .ومن صور هذا التأهيل توفير التربية الوالدية Parenting التي ُت ِعين الوالدين على اكتساب الوعي والمعرفة اللازمة للتعامل مع الظروف المؤ ِّثرة في تنشئة أبنائهم ،وتح ُّمل مسؤولية هذه التنشئة ،ليس من أجل إعدادهم لمسؤوليات الحياة فحسب ،بل للنجاة من المصير المهين لهم ولأبنائهم في الآخرة؛ ذلك المصير الذي ينتظر َمن يف ِّرط في اعتماد مرجعية الوحي الإلهي والهدي النبوي في أداء هذه المسؤولية(((. إ َّن الإصلاح المؤمل في التعليم الذي يمكن للأسرة أن تقوم به هو إصلاح اجتماعي شامل يعيد للوالدين وظيفتهما التربوية ،ولا سيما ما يختص بمهمة الأم في فترة الحمل ((( نتذ َّكر في هذا المقام قوله ع َّز وج َّل﴿ :ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ﴾ [التحريم.]٦ : 587
والولادة والرضاعة والسنوات الأولى من عمر الطفل ،إذ لا يتوقع أن يتولى غير الأم هذه المهمة بالصورة المنشودة ،وثمة أفكار إصلاحية في هذا الشأن توفق بين هذه المهمة من جهة ،وحق المرأة أو رغبتها في العمل من جهة أخرى ،ومن هذه الأفكار أن تعد الأم موظفة بأجر مناسب طيلة زمن الحمل والولادة والتنشئة حتى يدخل آخر أطفالها المدرسة ،وبعدها يمكن للأم أن تذهب للعمل. ونشير في هذا الشأن أن الساحة الفكرية والثقافية في معظم البلاد الإسلامية تمتلئ بالحديث عن حقوق المرأة والمساواة الكاملة مع الرجل ،ويتم ذلك في معظم الأحيان تحت عناوين التحول الديمقراطي والمدني والليبرالي ،ويجد توجيه ًا وتدريب ًا وتمويل ًا من مؤسسات أجنبية؛ مما يستدعي التدقيق في دوافعها وبرامجها في العالم الإسلامي. .1مهمة التعليم العام في الإصلاح التربوي: ظهرت مؤسسات التعليم في المجتمع البشري في وقت مب ِّكر ،منذ بدأ التنظيم والتخ ُّصص في تحقيق متط َّلبات الاجتماع البشري ،ث َّم تط َّور هذا التنظيم في صور مختلفة ،كان منها ُمع ِّلم الحرفة ،و ُمع ِّلم الدين ،و ُمع ِّلم الواجبات المنزلية ،و ُمع ِّلم القتال، وغير ذلك .وكان منها كذلك ُمع ِّلم ال ُك ّتاب ،و ُمؤ ِّدب أبناء الملوك والأمراء والأغنياء. وكما وجدنا ال ُمع ِّلم المنفرد بال ُمتع ِّلم لتعلي ٍم مح َّدد ،وجدنا المدرسة التي تجتمع فيها مجموعات الطلبة لتعلي ٍم خاص أو تثقي ٍف عام ،والتي يقوم عليها ُمع ِّلمون ،لك ٍّل منهم مهمة تعليمية مح َّددة .وقد شهد التاريخ البشري وجو َد المدرسة العالية التي يقتصر فيها التعليم على موضوعات مح َّددة ،ويتع َّلم فيها طلبة من مراحل عمرية متق ِّدمة. لقد أصبحت المدرسة هي المؤسسة الاجتماعية التي َأوكل إليها المجتم ُع توفي َر البيئة اللازمة للعناية بالنمو المتكامل لأبنائه ،ومسؤولي َة نقل ثقافة المجتمع من جيل اليوم إلى الجيل الذي يليه .ول ّما كانت الأسرة تتح َّدد بما تم ِّثله بيئ ُتها وخبراتها ،وكان الطلبة يأتون إلى المدرسة من بيئات وخبرات مختلفة ،فإ َّن الحاجة تشتد إلى نمط مختلف من التفا ُعل الاجتماعي بين طلبة هذه البيئات ،وبين الطلبة وال ُمع ِّلمين وأنظمة الحياة المدرسية. 588
ولذلك يتض َّمن التعليم المدرسي تع ُّلم الحقوق والواجبات ،وتنظيم العلاقات مع الأفراد والفئات ،والتوا ُفق والتعا ُون في الالتزام بالحقوق والواجبات ،إضاف ًة إلى اكتساب المعرفة في الموضوعات التعليمية المختلفة. هذا هو حال المدرسة في كل المجتمعات .أ ّما الفارق من مجتمع إلى آخر فيكمن في طبيعة الحقوق والواجبات ،وعناصر الثقافة ،وأخلاقيات التوا ُفق والتعا ُون ال ُمعت َمدة في كل مجتمع .ونحن نفترض أ َّن الإصلاح التربوي المنشود في الرؤية الإسلامية سيراعي واقع مجتمعنا ،وطبيعة البيئة الأسرية فيه ،لتؤدي المدرسة مهمة تعزيز العناصر الإيجابية القادمة إليها من هذه البيئة ،والتعامل مع ما قد يكون فيها من مشكلات .ويقتضي التعامل مع المشكلات قدر ًا كبير ًا من الحكمة والرفق؛ فالتوجيه التربوي الإسلامي في المدرسة لا ينبغي أ ْن يو ِجد مشكلات جديدة في التعامل .والتوا ُصل الحكيم بين المدرسة والأسرة ر َّبما لا يكون فقط وسيل ًة للتعامل مع الطالب ،فقد يكون وسيل ًة لح ِّل مشكلات الأسرة نفسها .إذن ،فالإصلاح التربوي الإسلامي المنشود لا ُب َّد أ ْن يتصف بالتكا ُمل في أوساطه وبيئاته وأدواته. ولك َّن المسؤولية عن التعليم ستبقى -في جميع الأحوال -مسؤولي ًة مشترك ًة؛ فالمجتمع ُمم َّثل ًا في هياكل الدولة يتح َّمل مسؤولية التخطيط الشامل لجميع برامج التربية ومناهج التعليم ،والمجتمع المحلي في المدن والقرى والأحياء مسؤول عن توفير ما قد يجد من قصور في جوانب التربية والتعليم ،والأسرة تتكامل مع برامج التربية والتعليم بأنواعه ومستوياته .ومع ذلك ،فإ َّن المسؤولية لا ترتفع عن الفرد نفسه وفق ًا لمرحلته النمائية ،ودرجة نضجه ووعيه. وبالرغم من الجدل الذي يثور أحيان ًا حول درجة نجاح (أو فشل) ُن ُظم التربية والتعليم في قيادة المجتمعات العربية والإسلامية نحو أهداف تنموية أو حضارية مح َّددة، والأثر المتزايد لبعض المؤ ِّثرات الأُخرى ،مثل السياسة والإعلام ،في الح ِّد من أثر النظام التربوي ،فإ َّن التربية تبقى مدخل ًا ،إ ْن لم تكن المدخل الأساس ،إلى التغيير الاجتماعي والثقافي والحضاري؛ سواء أكان التغيير في الاتجاه السلبي ،أم في الاتجاه الإيجابي. 589
وقد أصبح من الشائع أ ْن نسمع ونقرأ أ َّن التربية (أو التعليم) هي قاطرة الإصلاح والتنمية والتغيير في أ ِّي مجتمع ،ولكنَّنا أخذنا ندرك أ َّن نظام التربية والتعليم نفسه يحتاج إلى إصلاح وتغيير حتى يكون أساس ًا للإصلاح والتغيير في الأنظمة الأُخرى؛ ما يس ِّوغ القول بأ َّن التربية هي الداء والدواء .ومن ال ُمتو َّقع أ ْن تكون جوانب الإصلاح التي ينبغي أ ْن تتو َّجه إلى النظام التربوي في مجتمعاتنا جوانب متعددة ،كل جانب منها يستحق النظر والتحليل والبحث. وتبرز أهمية المدرسة في الإصلاح والتغيير الإيجابي عند الحديث عن الواقع الحالي للمجتمعات العربية والإسلامية فيما يخ ُّص الرؤية الإصلاحية الإسلامية؛ فهذه المجتمعات ،وفق هذه الرؤية ،متخ ِّلفة قياس ًا إلى ما يريده الإسلام لها ،وإلى ما لديها من إمكانات ،وبالمقارنة مع المجتمعات الأُخرى .بيد أ َّن العلاقة بين الواقع القائم والمثال المأمول تتأ َّثر ،بلا ش ٍّك ،بعوامل متعددة ،منها ما يخت ُّص بجوانب الشخصية البشرية، والسمات الروحية والجسمية والعقلية والنفسية التي يتح ّلى بها أفراد المجتمع ،بحيث يكون السعي نحو تربية تتصف بالتوا ُزن والتكا ُمل في جوانب الشخصية .ومنها ما يخت ُّص بالموضوعات التي تتمحور حولها العملية التعليمية ،مثل :موضوعات الدين ،واللغة، والعلوم ،والرياضيات ،والتقنيات ،وغيرها .ومنها ما يخت ُّص بتن ُّوع الأغراض العملية للتربية؛ فهناك التعليم العام ،والتعليم المهني ،وغيرهما من أنواع التعليم ال ُمو َّجه إلى أغراض مح َّددة. ومن العوامل التي يجب مراعاتها في تخطيط الإصلاح التربوي الشامل تع ُّد ُد صور التربية التي يتأ َّثر بها الفرد ،مثل :التربية النظامية (التربية المدرسية ال ُمبر َمجة) ،Formal والتربية غير النظامية (ال ُمبر َمجة خارج المدرسة) ،Nonformalوالتربية اللانظامية (التلقائية أو ال َع َر ِضية غير ال ُمبر َمجة) .Informal إ ّن كثير ًا من المبادئ والممارسات التي أصبحت سائدة اليوم في الفكر التربوي ُت َع ُّد تجارب مفيدة ،يمكن البناء عليها وتكييفها لأهداف الإصلاح التربوي الإسلامي المنشود؛ فمن المبادئ التربوية المستقرة اليوم في معظم أنحاء العا َلم مبد ُأ إلزامية التعليم ،ومجانية التعليم؛ فهو ح ٌّق يجب أ ْن يناله ك ُّل أبناء المجتمع ،وواج ٌب ينبغي للمجتمع أ ْن يو ِّفره لجميع أبنائه .ومن هذه المبادئ تنويع التعليم في مجال توفير الثقافة العامة والمعرفة المتخ ِّصصة، 590
والتأهيل المهني والحرفي؛ لتلبية حاجات المجتمع في إدارة شؤونه ،وتنمية موارده، وتحقيق مصالحه ،وتمكينه من الإسهام الفاعل في بناء الحضارة .ومن التنويع كذلك ما يخت ُّص بالتعليم النظامي الذي تق ِّدمه المؤسسات التعليمية بصورة مقصودة ،والتعليم غير النظامي ،بحيث تتكامل عناصر التعليم ،و ُيؤ َخذ بالحسبان ما سوف يتأ َّثر به ال ُمتع ِّلم من التفا ُعل مع الواقع الاجتماعي؛ سواء كانت نتائجه إيجابية أو سلبية .ومن ذلك توظيف وسائل التوا ُصل الحديثة في إغناء الممارسات التعليمية ،وتيسيرها ،ورفع كفاءتها. ومن جوانب التن ُّوع والتكا ُمل التي تقتضيها الحياة المعاصرة تضمي ُن لغات ُأخرى غير اللغة المحلية الرسمية في برامج التعليم ،بصورة تم ِّكن المجتمع بصورة عامة من التفا ُعل مع مصادر التع ُّلم والثقافة الأُخرى ،وتبنّي أواصر التعا ُون مع المجتمعات الأُخرى ،أخذ ًا وعطا ًء؛ شريطة أ ْن لا يكون ذلك على حساب اللغة الرسمية .واللغة العربية هي الأَ ْولى بالاهتمام في المجتمعات والتج ُّمعات الإسلامية خارج العا َلم العربي لتكون اللغة الثانية إلى جانب اللغة المحلية ،ولغات الشعوب الإسلامية هي الأَ ْولى بالاهتمام في البلدان العربية لتكون اللغة الثانية إلى جانب العربية ،مثل :التركية ،والفارسية ،والأوردية، والمالوية ،والإندونيسية ،والسواحلية ،...إضافة إلى القدر المناسب من اللغات الأجنبية السائدة في كثير من أنحاء العا َلم .ولا نقصد بذلك -بطبيعة الحال -أ ْن يتع َّلم الطالب الواحد ك َّل هذه اللغات ،وإ َّنما نقصد أ ْن يتيح النظام التربوي ُفرص ًا مناسب ًة ليتع َّلم ك ُّل طالب لغ ًة أو لغتين ،إضاف ًة إلى لغته الرسمية. وقد شهد الفكر التربوي الحديث انتقالاً في مركز الاهتمام من التعليم إلى التع ُّلم، ومن ال ُمع ِّلم إلى ال ُمتع ِّلم ،ومن المناهج المق َّررة إلى حرية الاختيار ،ومن الموضوعات المنفصلة إلى الموضوعات المترابطة والمتكاملة ،ومن الإدارة المركزية إلى الإدارة المحلية ،ومن الإدارة التعليمية إلى القيادة التعليمية ،وغير ذلك .ورافق هذا الانتقا َل -في بعض الأحيان -قد ٌر من سوء الفهم بين ما ُي َع ُّد أفكار ًا قديم ًة وأفكار ًا حديث ًة .والح ُّق -فيما نراه -ليس في الفرق بين القديم والحديث؛ فليس َث َّمة مشكل ٌة في هذا الانتقال إذا اقتصر الأمر على توجيه الاهتمام اللازم إلى جوانب مهمة لم تنل الاهتمام الذي تستح ُّقه. فالتوا ُزن هو المطلوب في غالب الأحيان ،وليس الانتقال إلى طر ٍف ،والتخ ّلي عن الطرف 591
الذي يقابله ،فما أكث َر الحكم َة في بعض القديم! وما أق َّل النف َع في بعض الحديث! وما أحو َج الإنسا َن إلى التجديد على ك ِّل حال! وكم كشفت الخبرات المتراكمة عن مشكلات فيما ألفناه من ممارسات ،وعن الحاجة إلى فهم جديد ،ينشأ ع ّما نقوم به من التفكر والتد ُّبر ،أو يكون اقتباس ًا من تجارب الآخرين. ونظر ًا لاتساع ميدان التربية والتعليم وحجم الطاقات التي يتط َّلبها الإصلاح التربوي في أ ِّي مجتمع؛ فإ َّننا نلفت الانتباه إلى قدر من الحكمة والتدبير في توظيف الأُطر البشرية المتاحة ،وذلك بالنظر إلى المؤسسة التعليمية بوصفها وحدة الإصلاح التربوي .ولنو ِّضح ذلك بمثال :المدرسة هي مؤسسة تعليمية قد يكون فيها مئات الطلبة وعشرات ال ُمع ِّلمين، ومدير المدرسة يرأس هؤلاء جميع ًا .ومن ال ُمؤ َّكد أ َّن كل طالب من الطلبة هو موضوع اهتمام في تمكينه من التع ُّلم ،والاستفادة من التعليم؛ فليس من المقبول إهمال أ ٍّي منهم، وكذلك الأمر فيما يخ ُّص ال ُمع ِّلمين؛ فليس من المقبول أ ْن يكون ِمن بينهم َمن لا ُي ْح ِسن القيام بعمله .فما الذي يستطيع مدير المدرسة أ ْن يقوم به من إصلاح تربوي يم ِّكنه من تحويل مدرسته إلى نموذج ناجح في هذا الإصلاح ،يتك َّرر في مدارس ُأخرى ،ليتح َّقق الإصلاح التربوي العام في المجتمع؟! إ َّن مفتاح ذلك -فيما نراه -هو ُح ْسن اختيار مدير المدرسة ،وتأهيله ،والعناية به؛ ليقود مدرسته في مسيرة الإصلاح ،وليبني في مدرسته \"ثقافة الإصلاح التربوي\" Culture .of Educational Reformويشترك في ممارسة هذه الثقافة جميع َمن في المدرسة ،و َمن حولها ِمن أولياء الأمور والبيئة المحلية .والأمل أ ْن يكون إصلاح حال مديري المدارس عون ًا لإصلاح حال ال ُمع ِّلمين ،ث َّم غيرهم م َّمن يتصل بالمدرسة بسب ٍب. ومما يجدر الانتباه إليه أن النقد الموجه إلى التعليم المدرسي سوا ًء في المناهج الدراسية أو البيئة الثقافية الإسلامية السائدة أصبح في الثلث الأخير من القرن العشرين وما بعد ذلك ،يتوجه بصورة رئيسية إلى التعليم الديني الإسلامي والثقافة التربوية الإسلامية تحت ذريعة البحث عن جذور التخلف في أنماط التفكير ،والانغلاق والتعصب ،وكراهية الآخر ،والتطرف ،وغير ذلك .وقد نجح هذا النقد أحيان ًا في تقليل الوقت المخصص لمناهج التربية الإسلامية في المدارس ،والتلاعب في هذه المناهج ،وتسليط الإضواء 592
الإعلامية عليها لتشويه صورتها .ونحن في حديثنا على إصلاح الفكر التربوي الإسلامي، نؤكد حاجة مناهج التربية الإسلامية وجميع المناهج الدراسية الأخرى إلى التطوير المستمر لبناء منظومة القيم القادرة على تمكين أجيال الأمة من الإسهام في النهوض الحضاري المنشود ،أما استهداف مناهج التربية الإسلامية بالنقد والتشويه ،على الرغم من أنها الحاضنة الأساسية لمنظومة قيم الأمة ،فنخشي أن يكون ذلك انسلاخ ًا من الهوية، وتكريس ًا للتبعية ،وتعطيل ًا للنهوض الحقيقي. .2الإصلاح التربوي والتعليم الجامعي: يستند حديثنا عن إصلاح الفكر التربوي ،على مستوى التعليم الجامعي ،إلى عدد من الافتراضات الضمنية ،أهمها أ َّن الإصلاح الفكري في واقع الأُ َّمة المسلمة هو أولوية في الاهتمام بوصفه قاطرة الإصلاح في المجالات الأُخرى؛ ذلك أ َّن الحديث يتو َّجه أساس ًا إلى النخب العلمية والفكرية والمثقفة في إدارات الجامعات وأساتذتها .فالجامعة هي مؤسسة الإعداد والتأهيل لقيادات الفكر والعلم والعمل في سائر ميادين النشاط في المجتمع الحديث؛ إذ إ َّنها تتح َّمل مسؤولية تشكيل عقليات الطلبة ،وتوفير ال ُفرص اللازمة لامتلاك المهارات المتق ِّدمة في التفكير والبحث وح ِّل المشكلات في المهن المختلفة، عن طريق برامج الدراسات الجامعية العليا (الماجستير ،والدكتوراه) تحديد ًا .ث َّم إ َّن أكثر َمن يتو ّلون العمل في مراحل التعليم العام في المدرسة وما قبلها في مرحلة الطفولة المب ِّكرة ،إ َّنما هم خريجو الجامعات .وكثي ٌر من الشباب لا يصبحون آباء و ُأ َّمهات قبل أ ْن يتخ َّرجوا في الجامعة ،ويصلون فيها إلى قدر من النضج النفسي والاجتماعي ،والوعي بمتط َّلبات التربية الوالدية والأسرية. ولك َّن الحديث عن الإصلاح في التعليم الجامعي بالعا َلم الإسلامي هو حدي ٌث متش ِّعب؛ فواقع هذا التعليم يعاني كثير ًا من المشكلات ،منها ما هو حديث العامة والخاصة، مثل الغياب المذهل لأسماء جامعات العا َلم الإسلامي عن قوائم أسماء أفضل الجامعات في العا َلم ،وفق مختلف المعايير التي تضعها مؤسسات تقويم الجامعات؛ سواء كان ذلك من حيث حجم الإنفاق على البحث العلمي ،أو نسبة عدد الأساتذة إلى عدد الطلبة ،أو عدد برامج الدراسات العليا ،أو الإنجاز العلمي للأساتذة ،أو غير ذلك من المعايير .والأخطر من 593
ذلك كله هو مسألة المضمون العلمي والفكري الذي يجري تعليمه أو تطويره في جامعات العا َلم الإسلامي؛ فهو في الغالب مضمون مستورد من الغرب الأوروبي والأمريكي ،وإ َّن التعامل معه -في أحسن الأحول -يكون تدريس ًا وتطوير ًا وإنتاج ًا ،وفق المنهجية السائدة في البلاد التي وصلنا منها ،مع غياب التحليل النقدي الذي يكشف عن المنطلقات الفلسفية لذلك المضمون ،وغياب روح التجديد والإبداع ،وحوافز الابتكار والاكتشاف .ويتم بذلك استلاب الأستاذ الجامعي والطالب الجامعي لصالح العلوم والأفكار ،في صياغاتها الغربية؛ سواء تم ذلك بوع ٍي لهذا الاستلاب ،أو بغير وع ٍي له .ومع هذا الاستلاب تضيع الذا ُت؛ أ ُّي ذا ٍت قومي ًة كانت ،أو ديني ًة ،أو وطني ًة ،وتفقد هويتها وتم ُّيزها. ويتسع الحديث عن إصلاح التعليم الجامعي للمشكلات الكثيرة التي يعانيها؛ سواء اخت َّصت هذه المشكلات بالإدارة والتنظيم والقيادة الجامعية ،أو بالبرامج والتخ ُّصصات العلمية والمهنية ،أو بمصادر التمويل والإنفاق ،أو بشروط قبول الطلبة ،وشروط تخ ُّرجهم ،أو بأساليب التدريس ووسائله ونشاطاته ،أو ببيئة البحث العلمي وبرامجه وموضوعاته وتمويله ،أو غير ذلك .ولك َّن المشكلة الكبرى التي نقترح أ ْن تتو َّجه إليها الأنظار ،ويتط َّور الاهتمام بها ،هي طبيعة الأزمة التي يم ُّر بها التعليم الجامعي الحديث في العا َلم الإسلامي منذ بداية تأسيسه في أقطار هذا العا َلم في مرحلة الاستعمار ،والتي تتم َّثل في صورة \"أزمة حضارية\" تج َّلت في غياب الهوية والانتماء إلى الأُ َّمة؛ ذلك أ َّن فلسفة التعليم الجامعي وقعت في إشكالية الاهتمام بالمادي على حساب القيمي ،وسوق العمل على حساب إنتاج العلم والمعرفة ،والتنمية الاقتصادية على حساب العمران الحضاري، والمدني على حساب الديني ،والخبرة الأجنبية على حساب الخبرة الوطنية ،وغير ذلك من الثنائيات المتقابلة ،مع العلم بأ َّن الأص َل هو التكا ُم ُل والتوزان فيها جميع ًا. ومن المؤسف أ َّن البحث في قضايا التعليم الجامعي يه ِمل الاهتمام بهذه \"الأزمة الحضارية\"؛ فال ُب ْعد التجاري الاقتصادي لإدارة التعليم الجامعي وتمويله وتطوير برامجه من جهة ،وسوق العمل من جهة ُأخرى يش ِّكلان أهم جوانب الاهتمام. ونحن نرى أ َّن جهود الإصلاح لا ُب َّد أ ْن تبا ِشر التركيز على القضايا التي يتي َّسر فيها الإصلاح ،وتكون ضمن دائرة اهتمام ال ُمص ِلح ،أو تخ ُّصصه ،أو مسؤوليته .فعدم قدرة الأستاذ 594
الجامعي على الإصلاح في مجال معين -مثل ًا -لا يعفيه من مسؤولية الإصلاح في المجال الذي يمكنه فيه القيام بذلك ،أو ُتط َلب منه المسؤولية عنه .ف َث َّمة درج ٌة كبيرة من الحرية عند الأستاذ الجامعي في مجالات متعددة ،للاختيار والاجتهاد والتوا ُصل مع الطلبة؛ حوار ًا وتفا ُعل ًا ،وتوجيه ًا وتأثير ًا ،ث َّم إصلاح ًا .ولع َّل ذلك هو بيت القصيد في حديثنا الحالي عن الإصلاح الجامعي. أ َّما الهيكل العام لجهود الإصلاح في التعليم الجامعي ،التي يمكن أ ْن تتو َّجه إلى ال َم ْعنِ ّيين بإصلاح هذا التعليم في الرؤية الإسلامية ،فإ َّننا نقترح أ ْن يتك َّون م ّما يأتي: .1الوعي بالتح ِّديات التي توا ِجه التعليم الجامعي في العا َلم الإسلامي ،وهي كثيرة، وأهمها على الإطلاق هو التبعية العلمية والفكرية التي تتم َّثل في الاعتماد على استيراد المناهج والكتب المرجعية والمنهجية من الخارج ،ونحن نستوردها ُمح َّمل ًة بموضوعاتها ولغتها ،وبمرجعياتها الفلسفية ورؤاها للعا َلم ،وبصياغاتها النظرية وتطبيقاتها العملية من الخارج .فالوعي بهذا التح ّدي ،والتخطيط لمواجهته وفق خطط مرحلية مناسبة ،يقع على رأس أولويات الإصلاح في التعليم الجامعي. .2مهما كانت الوظائف التي تقوم بها الجامعات اليوم ،فلا ُب َّد من جامعات متخ ِّصصة، أو كليات متخ ِّصصة في هذه الجامعات ،تتو ّلى المهمة الأساسية للتعليم الجامعي؛ وهي إنتاج المعرفة ونشرها ،وإعداد الباحثين القادرين على إنتاجها وتوظيفها، ويم ِّثل ذلك في تقديرنا أحد أساليب مواجهة تح ّدي التبعية المشار إليه آنف ًا. َ .3ث َّمة حالا ٌت يأتي فيها الطالب إلى الجامعة ،وهو ُمفت ِق ٌد للأساس المتين لفهم الإسلام في مبادئه ،وأحكامه ،وفكره ،وثقافته .ولا يتسع التعليم الجامعي لإعادة تكوين هذا الفهم من جديد .والذي نقترحه في هذا المجال يأتي في صورتين؛ الأُولى :تفعيل حضور الفكر الإسلامي والممارسة الإسلامية في الحياة الجامعية بصورة يعيشها الطلبة واقع ًا ح ّي ًا ،والثانية :تقديم برامج جديدة في الدراسات الجامعية في مجالات العلوم الإسلامية وقضايا الفكر الإسلامي ،يكون فيها التركيز على تنزيل الأحكام والمقاصد على الواقع المعاصر ،والتخفيف من الاستغراق في تاريخ العلوم. 595
.4من الضروري الاهتمام ببرامج الدراسات العليا؛ لما تتيحه هذه البرامج من توا ُصل بين الطلبة والأساتذة ،وما تقتضيه من تف ُّرغ للبحث في مسألة متخ ِّصصة ،تتيح مجا َل التع ُّمق في فهمها ،وإنتا َج المعرفة فيها ،وح َّل المشكلات المتصلة بها .إ َّن اختيار موضوع التدريس والبحث في الدراسات الجامعية العليا ،للتحاور حول ُفرص الإصلاح فيه ،يأتي من باب الحرية المتاحة للأستاذ الجامعي ،للتوا ُصل مع طلب ٍة على درجة متق ِّدمة من النضج والاستعداد للتفا ُعل ،ور َّبما يكون هذا التوا ُصل مث ِمر ًا؛ نظر ًا لعدد الطلبة القليل في هذه البرامج ،مقارن ًة بعدد الطلبة في برامج الدرجة الجامعية الأُولى. .5خضوع ممارسة التعليم الجامعي لأعراف وعادات يغيب فيها التطوي ُر والإبداع اللازمان للإصلاح التربوي والبناء الحضاري .ولذلك نقترح تصميم برامج تدريب ،ورفع كفاءة ،ونقل خبرات أو تبادل لها ،ولا سيما للأساتذة الذين يمارسون التدريس في برامج الدراسة العليا ،والإشراف على الأطروحات الجامعية في هذه البرامج؛ إذ إ َّن مجال الإصلاح في الدراسة الجامعية العليا يتسع لتقدير مدى الحاجة إليها ،وتحديد أهدافها وأولوياتها ،وتوفير متط َّلباتها، وتصميم برامجها ،والطريقة المناسبة لإدارتها واختيار طلبتها وأساتذتها .وكثير من هذه المسائل لا تقع ضمن مسؤولية الأستاذ الجامعي بصورة مباشرة .ومع ذلك ،فإ َّن لبعض الأساتذة دور ًا محوري ًا فيها ،بحكم مسؤولياتهم الإدارية في العمل الجامعي؛ من مستوى رئيس القسم ،أو عمادة الكلية ،أو رئاسة الجامعة ،إلى عضوية اللجان التي توكل إليها مثل هذه المسائل في المستويات المختلفة من المسؤولية الإدارية؛ سواء أكان ذلك لتقديم المشورة والمقترحات والملاحظات ،أم لاتخاذ القرارات .لك َّن الذي لا شك فيه أ َّن الأستاذ الجامعي في برامج الدراسات العليا سيكون -في نهاية المطاف -أمام عدد محدود من الطلبة الذين يمتلكون قدر ًا من التم ُّيز ،والنضج ،والاستعداد ،وتو ُّفر الحوافز؛ ما يجعلهم ُفرص ًة ثمين ًة لكي يباشر معهم الأستاذ الجامعي جهود الإصلاح الفكري والعلمي ،ويفتح لهم ولنفسه معهم ُفرص ًا واسع ًة للنمو والتق ُّدم والإنجاز. 596
.6الوعي بأهمية الأنموذج العملي في الإصلاح التربوي والتعليمي كان منذ وقت مب ِّكر ،وقد جاء هذا الوعي ضمن اقتراح تأسيس جامعة كاملة ،لتصبح أنموذج ًا للإصلاح المنشود في مجال التعليم العالي ،وذلك بإدخال خبرات وتجارب تخت ُّص بالتكا ُمل المعرفي ،الذي يجمع في برامج الجامعة معارف الوحي ،والعلوم الإنسانية والاجتماعية ،والتخ ُّصص المزدوج ،والتخ ُّصص الرئيسي والفرعي، والبيئة الجامعية الحافزة إلى الإبداع والابتكار والإسهام في خدمة المجتمع. وبالرغم من أ َّن بعض الجامعات والكليات قد تأ َّسست على هذا الوعي ،ومع تقديرنا للخبرة التي تراكمت في هذا المجال ،فإ َّننا لا نزال -وسنبقى -بحاجة ما َّسة إلى تطوير البرامج والممارسات فيها لتصبح مراكز تم ُّيز على مستوى الفكر التربوي والتعليمي العالمي .Centers for excellenceوفي هذا المجال ،فإ َّننا نتو َّجه إلى بعض المؤسسات المتخ ِّصصة للاهتمام بهذه المراكز ،ونخ ُّص بالذكر هنا المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسسكو) ،واتحاد جامعات العا َلم الإسلامي ،ورابطة الجامعات الإسلامية ،وغيرها. .7إغناء الوسط الجامعي بنشاطات علمية ُمك َّثفة في صورة ندوات ومؤتمرات ودورات تكوينية ،عن قضايا فكرية عامة؛ لتوليد زخم من الاهتمام ،والبناء على ما يتك َّون في كل نشاط ،والتوسيع المتد ِّرج لدوائر الاهتمام ،حتى تسود \"ثقافة الإصلاح التربوي\" .Culture of educational reform إ َّن هذه المقترحات هي دعوة مفتوحة لل َم ْعنِ ّيين بصورة مباشرة بالجامعات في العا َلم العربي والإسلامي ،ولك ِّل المف ِّكرين والباحثين وحملة مشاريع الإصلاح في الأُ َّمة؛ أ ْن يولوا ملف الإصلاح في التعليم الجامعي الأهمية التي يستحقها ،حتى لا ُتستن َزف كل الطاقات المتاحة في الاهتمامات ال ُم ِل َّحة بالشؤون السياسية والاقتصادية ،فلا يبقى للإصلاح الفكري والتربوي والتعليمي ما َيلزمه من جهود ،بالرغم من أ َّنه الإصلاح العميق الأثر ،والبعيد المدى ،والضمان الأهم لمستقبل الأُ َّمة في أجيالها القادمة. 597
.4أهمية وسائل الإعلام في الإصلاح التربوي: أصبحت وسائل الإعلام والاتصال والتوا ُصل في الحياة المعاصرة شديدة التأثير (سلب ًا ،وإيجاب ًا) في الاعتقاد الديني ،والتنشئة الاجتماعية ،والتطبيع الثقافي ،والتو ُّجه النفسي والأخلاقي ،والبناء الفكري ،والانتماء السياسي ،والسلوك الاقتصادي ،وغير ذلك من جوانب الاعتقاد والسلوك ،وبناء المواقف ،وال ُح ْكم على الأشياء والأحداث والأشخاص والأفكار ...ولا ننسى أ َّن كثير ًا م ّما تب ُّثه وسائل الإعلام ،وتنشره وسائل الاتصال ،مشحون بالأفكار والاتجاهات والقيم ،حتى لو جاء أداؤها الإعلامي في صورة خبر ،أو في كلمات أغنية ،أو لحن موسيقي ،أو برنامج ترفيهي ،أو تحقيق وثائقي ،أو خطاب سياسي؛ فالرسالة الإعلامية ال ُمو َّجهة تستطيع أ ْن ُتغ ِّير من حالة اجتماعية عامة تتح َّكم فيها قيم ٌة راسخ ٌة ،و ُتس ِقط مفهوم ًا فكري ًا أو سياسي ًا ل ُت ِقي َم َب َد َله مفهوم ًا آخ َر ،أو ُته ِّيئ الناس لرفض (أو قبول) ما ُيخ َّطط له من مشروعات تنموية ،أو تربوية ،أو سياسية ،أو غيرها. ولذلك ،فإ َّننا نج ُد أ َّن كل المؤسسات والمنظمات والاتجاهات السياسية والفكرية والتعليمية والفنية تستخدم وسائل الإعلام والاتصال والتوا ُصل لش ّتى الأغراض النبيلة والخبيثة ،حتى إ َّن الفرد الواحد يستطيع أ ْن يستعمل بعض وسائل الاتصال الحديثة لتكوين رأي عام عن قضية معينة ،تنتهي بقرار سياسي ،أو إداري ،أو اقتصادي على درجة كبيرة من الأهمية. ونظر ًا لأ َّن وسائل الإعلام والاتصال والتوا ُصل تعتمد على وضع المعلومة أو نشرها؛ فإ َّنها تستخدم أحيان ًا أدا ًة بالغ َة التأثير في التلاعب بالمعلومة؛ إيجاد ًا ،وإثبات ًا ،ونفي ًا، وتغيير ًا ،من أجل اتخاذ قرار إداري ،أو تربوي؛ أو لافتعال موقف سياسي ،أو اقتصادي ،أو اجتماعي؛ أو لتبرير المعارك وش ِّن الحروب. ومن ال ُملا َحظ على المستوى المحلي والعالمي أ َّن التو ُّسع في توظيف وسائل الإعلام والاتصال والتوا ُصل كان على حساب انحسا ٍر واض ٍح في موقع الأسرة والمدرسة ،وهما المؤسستان التقليديتان اللتان كانتا ُتؤ ِّديان مهمة التنشئة ،والتوجيه ،والتغيير ،والتعليم، والإعداد لمسؤوليات الحياة .فالأسرة التي كانت تضطلع بمهمات تربوية أساسية ،ينشأ فيها الصغار على أنماط من التفا ُعل والتوا ُصل والسلوك النفسي والاجتماعي ،لم تعد فيها -في كثير من الحالاتُ -فر ٌص لهذا التفا ُعل؛ فليس الصغا ُر فقط هم المشغولين بوسائل التوا ُصل ومتابعة أجهزة الإعلام ،وإ َّنما الكبار أيض ًا ،ولم تعد وسائل الإعلام التي يتم 598
التقاط ب ِّثها محدود ًة في عدد قليل من هذه الوسائل ،وعدد محدود من ساعات الب ِّث ،بل أصبحت هذه الوسائل على درجة كبيرة من الكثرة ،والتن ُّوع ،والتناقض ،وسعة التغطية على مدار الساعة؛ ما أعاد تشكيل أنماط الحياة الاجتماعية ،وغ َّير قيمها ومعايير السلوك فيها ،وأوجد بيئ ًة ثقافي ًة واجتماعي ًة وتربوي ًة بديل ًة عن أ َّية بيئة ُأخرى. وأصبحت وسائل الإعلام موضوع ًا لدراسات وبحوث كثيرة ،منها -على سبيل المثال- دراسات حاولت معرفة عدد الساعات الذي يقضيها الأطفال في استعمال وسائل الإعلام والاتصال والتوا ُصل ،وعلاقة ذلك بالتحصيل التربوي ،وبالصحة البدنية والنفسية والعقلية. وكذلك ُع ِقدت مؤتمرا ٌت كثيرة عن الأثر السلبي والأثر الإيجابي لوسائل الإعلام والاتصال في العمل التربوي ،ولا سيما وسائل التوا ُصل الاجتماعي الحديثة التي فاقت في أثرها الوسائل السابقة .وكثي ٌر من هذه الدراسات ُت ِق ُّر بصعوبة منع استعمال هذه الوسائل ،بالرغم من المخاطر الكبيرة التي أدخلت مجتمعاتنا فيها ،وتكتفي بتوجيهات معينة للح ِّد من هذه المخاطر ،وتوجيه استعمال هذه الوسائل بصورة مفيدة(((. ويجدر التنويه بأ َّن وسائل التوا ُصل الاجتماعي الحديثة قد م َّكنت من توسيع دائرة التوا ُصل بين الطلبة وال ُمع ِّلمين من جهة ،وبين الإدارة المدرسية وأولياء الأمور من جهة ثانية ،وبين الطلبة أنفسهم من جهة ثالثة .وللقضايا التربوية والتعليمية نصيب كبير في دائرة التوا ُصل ،من حيث تباد ُل مصادر التعليم والتع ُّلم ،ومتابع ُة تع ُّلم الطلبة ،وح ُّل المشكلات. ومع استعمال هذه الوسائل ،لم تعد دائرة التوا ُصل محكومة بساعات الدوام المدرسي ،أو الاجتماعات الرسمية ال ُمبر َمجة. لقد كثرت الشكوى من سوء الآثار الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والتربوية لوسائل التوا ُصل الاجتماعي الحديثة .وكثر الكلام في مجتمعاتنا عن صعوبة ضبط طرق استعمالها والتعامل معها ،كأ َّنها َق َد ٌر لا را َّد له .وحقيقة الأمر أ َّن هذه الوسائل هي من قبيل الأدوات التقانية التي ما َفتِئ الإنسان يخترعها على مدار التاريخ ،وسوف ترى الأجيال ((( ا َّطلعنا على عدد من البحوث والدراسات والمؤتمرات التي تخصصت في الآثار النفسية والتربوية لوسائل الإعلام الحديثة ،ونكتفي بالتنويه بالجهود التي ُب ِذلت في هذا المجال ،من دون استقصائها وتحليلها؛ فذلك عم ٌل آخ ُر نوصي به من جهة ،ونوصي -على وجه الخصوص -بدراسة مستقلة لتحليل الدراسات والبحوث ال ُمق َّدمة للمؤتمرات العلمية في البلاد العربية ،من حيث :أهدا ُف هذه الدراسات ،ومناه ُج البحث المستخدمة فيها ،وأه ُّم نتائجها. 599
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210
- 211
- 212
- 213
- 214
- 215
- 216
- 217
- 218
- 219
- 220
- 221
- 222
- 223
- 224
- 225
- 226
- 227
- 228
- 229
- 230
- 231
- 232
- 233
- 234
- 235
- 236
- 237
- 238
- 239
- 240
- 241
- 242
- 243
- 244
- 245
- 246
- 247
- 248
- 249
- 250
- 251
- 252
- 253
- 254
- 255
- 256
- 257
- 258
- 259
- 260
- 261
- 262
- 263
- 264
- 265
- 266
- 267
- 268
- 269
- 270
- 271
- 272
- 273
- 274
- 275
- 276
- 277
- 278
- 279
- 280
- 281
- 282
- 283
- 284
- 285
- 286
- 287
- 288
- 289
- 290
- 291
- 292
- 293
- 294
- 295
- 296
- 297
- 298
- 299
- 300
- 301
- 302
- 303
- 304
- 305
- 306
- 307
- 308
- 309
- 310
- 311
- 312
- 313
- 314
- 315
- 316
- 317
- 318
- 319
- 320
- 321
- 322
- 323
- 324
- 325
- 326
- 327
- 328
- 329
- 330
- 331
- 332
- 333
- 334
- 335
- 336
- 337
- 338
- 339
- 340
- 341
- 342
- 343
- 344
- 345
- 346
- 347
- 348
- 349
- 350
- 351
- 352
- 353
- 354
- 355
- 356
- 357
- 358
- 359
- 360
- 361
- 362
- 363
- 364
- 365
- 366
- 367
- 368
- 369
- 370
- 371
- 372
- 373
- 374
- 375
- 376
- 377
- 378
- 379
- 380
- 381
- 382
- 383
- 384
- 385
- 386
- 387
- 388
- 389
- 390
- 391
- 392
- 393
- 394
- 395
- 396
- 397
- 398
- 399
- 400
- 401
- 402
- 403
- 404
- 405
- 406
- 407
- 408
- 409
- 410
- 411
- 412
- 413
- 414
- 415
- 416
- 417
- 418
- 419
- 420
- 421
- 422
- 423
- 424
- 425
- 426
- 427
- 428
- 429
- 430
- 431
- 432
- 433
- 434
- 435
- 436
- 437
- 438
- 439
- 440
- 441
- 442
- 443
- 444
- 445
- 446
- 447
- 448
- 449
- 450
- 451
- 452
- 453
- 454
- 455
- 456
- 457
- 458
- 459
- 460
- 461
- 462
- 463
- 464
- 465
- 466
- 467
- 468
- 469
- 470
- 471
- 472
- 473
- 474
- 475
- 476
- 477
- 478
- 479
- 480
- 481
- 482
- 483
- 484
- 485
- 486
- 487
- 488
- 489
- 490
- 491
- 492
- 493
- 494
- 495
- 496
- 497
- 498
- 499
- 500
- 501
- 502
- 503
- 504
- 505
- 506
- 507
- 508
- 509
- 510
- 511
- 512
- 513
- 514
- 515
- 516
- 517
- 518
- 519
- 520
- 521
- 522
- 523
- 524
- 525
- 526
- 527
- 528
- 529
- 530
- 531
- 532
- 533
- 534
- 535
- 536
- 537
- 538
- 539
- 540
- 541
- 542
- 543
- 544
- 545
- 546
- 547
- 548
- 549
- 550
- 551
- 552
- 553
- 554
- 555
- 556
- 557
- 558
- 559
- 560
- 561
- 562
- 563
- 564
- 565
- 566
- 567
- 568
- 569
- 570
- 571
- 572
- 573
- 574
- 575
- 576
- 577
- 578
- 579
- 580
- 581
- 582
- 583
- 584
- 585
- 586
- 587
- 588
- 589
- 590
- 591
- 592
- 593
- 594
- 595
- 596
- 597
- 598
- 599
- 600
- 601
- 602
- 603
- 604
- 605
- 606
- 607
- 608
- 609
- 610
- 611
- 612
- 613
- 614
- 615
- 616
- 617
- 618
- 619
- 620
- 621
- 622
- 623
- 624
- 625
- 626
- 627
- 628
- 629
- 630
- 631
- 632
- 633
- 634
- 635
- 636
- 637
- 638
- 639
- 640
- 641
- 642
- 643
- 644
- 645
- 646
- 647
- 648
- 649
- 650
- 651
- 652
- 653
- 654
- 655
- 656
- 657
- 658
- 659
- 660
- 661
- 662
- 663
- 664
- 665
- 666
- 1 - 50
- 51 - 100
- 101 - 150
- 151 - 200
- 201 - 250
- 251 - 300
- 301 - 350
- 351 - 400
- 401 - 450
- 451 - 500
- 501 - 550
- 551 - 600
- 601 - 650
- 651 - 666
Pages: