التعامل في داخل المجتمع سبب ًا \"من أسباب الاستقرار الذي يقتضيه العمل التربوي\"(((، وأهم ما في هذه الدلالة هو تكريم الفرد الإنساني وتحريره ،وبناء نموذج لشخصية الإنسان، وتكليف الدولة والمجتمع بحسن صناعتها ،لتكون لبن ًة في بناء المجتمع والأُ َّمة .ذلك أ َّن \"هذه المقاصد تؤدي إلى أ ْن يرقب المتعاملون فيما بينهم أعلى ُمثل العدل والإحسان والتضامن في بلوغ المصلحة الشرعية المقصودة من التعامل\" ...ولاح َظ أ َّن صف َة الشمول والعموم في هذه المقاصد ُتو ِّجه التعاملات في المجتمع إلى \"نماذج مستقرة مفهومة من الأحكام المتفقة مع نظام الشرع ومقاصده\" ،وأ َّن صف َة الثبات في هذه المقاصد تحمي تعاملات المجتمع من التغ ُّير المفاجئ يما يضمن انطلاق حركة المجتمع في أ ْم ٍن وثقة(((. والألفاظ العربية ذات الصلة بالمقاصد والأهداف التربوية لها ما يقابلها في اللغات الأُخرى .ويلاحظ كذلك أ َّن ألفاظ اللغات الأُخرى تتداخل وتتمايز في مستوى التحديد لما هو مطلوب ضمن زمن مح َّدد ،والجهد المطلوب بذله .ففي اللغة الإنجليزية -مثل ًا- ُتستخ َدم في التعليم ،وفي غيره من برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية ،ألفا ٌظ ،مثل: ( ).Purpose, Aim, Goal, Objective, Desired result, etcحيث يدل لفظ ،aimولفظ purposeعلى النتيجة المرغوب فيها ،desired resultبينما يدل لفظ ،goalولفظ objective على سلسلة العمليات التي يؤدي ك ٌّل منها إلى التق ُّدم في الوصول إلى الغرض النهائي. ويكون لفظ aimأكثر الألفاظ عمومية عندما يريد الطالب أ ْن يصبح طبيب ًا ،بينما يكون لفظ objectiveأكثرها تحديد ًا عندما يريد الأستاذ -بعد انتهاء المحاضرة الصباحية هذا اليوم -أ ْن يح ِّدد الطالب وظائف أعضاء الجهاز الهضمي(((. ((( علي ،سعيد إسماعيل .نشأة التربية الإسلامية (موسوعة التطور الحضاري للتربية الإسلامية ،)2-القاهرة :دار السلام2010 ،م ،ص .31 ((( المرجع السابق ،ص .32-31 ((( يقترح التربويون أ ْن يتصف الهدف التربوي بخمس صفات ،يجمعها لفظ مختصر acronymهو .SMARTوهذه الصفات هي :مح َّدد ،S – Specificيمكن قياسه ،M – Measurableيمكن تحقيقه ،A – Attainableواقعي ،R – Realisticله وقت .T- Timed 300
المبحث الثاني مرجعية المقاصد والأهداف التربوية تتم َّثل المرجعية القرآنية للمقاصد التربوية في القرآن كله؛ فهو كتاب هداية إلى صراط الله المستقيم ،يهدي َمن سلك هذا الصراط؛ من :فرد ،أو جماعة ،أو ُأ َّمة ،في الحياة الدنيا ،إلى الاستقامة لتحقيق مقاصد هذه الحياة من خير وسعادة ،وأمن وسلام ،لينتهي به المطاف إلى ما يريده الله في الحياة الآخرة من السعادة الأبدية والسلام الدائم. ومع أ َّننا نرى الإسلا َم مدرس ًة للإنسان ،والقرآ َن الكريم كله المنها َج التربوي لهذه المدرسة ،فإ َّننا نج ُد في القرآن الكريم إشارا ٍت مباشر ًة إلى المقاصد التربوية؛ فأول آيات القرآن نزولاً كانت آيات علم وتربية﴿ .ﭻﭼﭽﭾﭿ﴾ [العلق .]1:ونحن نفهم أ َّن الأمر بالقراءة في أول لفظ قرآني يعني أ َّن القراءة هي أساس العلم والتع ُّلم في هذا الدين الخاتم. وقد جاء الأمر بقراءتين وردتا نص ًا في هذه الآيات الخمس: القراءة الأُولى﴿ :ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ﴾ [العلق .]2-1فالقراءة هنا تعني التف ُّكر والتأ ُّمل في مخلوقات الله لنقرأ فيها حكمته سبحانه من الخلق ،ونتع َّلم بها أساليب التم ُّكن ،واكتساب المعايش ،وبناء العمران. والقراءة الثانية﴿ :ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ﴾ [العلق.]5-3: فالقراءة هنا تعني قراءة ما ُكتِب بالقلم ،فتكون الكتابة أساس ًا لما سوف ُيق َرأ بعد ذلك. وهذه القراءة متلازمة مع الكتابة ،والقراءة والكتابة ستكونان أساس ًا للعلم والتع ُّلم والتعليم في الحضارة البشرية. لقد جاء الأمر بالقراءتين مع ًا؛ ما يعني أ َّن كل قراءة ُت ِعين الأُخرى ،وتتكامل معها. ث َّم إ َّن القراءة المأمور بها هي قراءة باسم الر ِّب ،والر ُّب سبحانه هو المر ّبي الذي وضع للإنسان نظام ًا للتربية؛ وضعه على علم وبصيرة بما يصلح لهذا الإنسان؛ فهو سبحانه الذي خلق الإنسان ،ويعلم ما يصلح له .ونظام التربية هذا نظام عام شامل يصلح للناس جميع ًا عبر الزمان والمكان .ولذلك ،فإ َّن من المؤ َّكد أ َّنه يصلح أساس ًا للأنظمة الخاصة بأ َّية ُأ َّمة، وفي أ ِّي وقت. 301
ودستور التربية في صورته الكاملة التامة هو هذا القرآن كله؛ فهو ﴿ﮔﮕﮖﮗ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ﴾ [هود\" .]1:والإحكام :إتقان الصنع ،مشتق من الحكمة... وهي إتقان الأشياء بحيث تكون سالمة من الأخلال التي َت ْع ِرض لنوعها؛ أ ْي جعلت آياته كاملة في نوع الكلام ،بحيث سلمت من مخالفة الواقع ،ومن إخلال المعنى واللفظ... والتفصيل :التوضيح والبيان ،وهو مشتق من الفصل بمعنى التفريق بين الشيء وغيره بما يم ِّيزه ...ومن ﴿ َل ُد ْن َح ِكي ٍم َخبِي ٍر﴾؛ أ ْي من عند الموصوف بإبداع الصنع لحكمته، وإيضاح التبيين لق َّوة علمه ،والخبير العالِم بخفايا الأشياء ...فالحكيم مقابل أحكمت، والخبير مقابل ف ّصلت ،وهما ...متع ّلق العلم ومتع ّلق القدرة؛ إذ القدر ُة لا تجري إلا على وفق العلم (((\".وهو ﴿ﭘﭙ ﭚﭛﭜﭝﭞ﴾ [ ُف ِّصلت\" .]3:فهذه الآيات كاملة البيان ،خالصة من الالتباس ،واضحة الأغراض ...في دلالة كل آية على المقصود بها ...والقرآن :الكلام المقروء المتلو ،وكونه قرآن ًا من صفات كماله ...وهو ُمو َّجه ﴿ﭝﭞ﴾ ...يعلمون \"فوائد تنزيله وتفصيله ...فكأ َّنه لم ينزل إلا لهم؛ أ ْي فلا بدع إذا أعرض عن فهمه المعاندون ،فإ َّنهم قوم لا يعلمون﴿ (((\".ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮖﮗﮘﮙﮚ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠ﴾ [ ُف ِّصلت\" .]42-41:والعزيز النفيس ،وأص ُله ِم َن ال ِع َّزة وهي المنَعة؛ لأ َّن الشيء النفيس ُيدا َفع عنه ،و ُيحمى عن النبذ ،فإ َّنه بين الإتقان وعلو المعاني ووضوح ال ُح َّجة ،ومثل ذلك يكون عزيز ًا ،والعزيز أيض ًا الذي َيغ ِلب ولا ُيغ َلب... وأ َّنه لا يتط َّرقه الباطل ،ولا يخالطه صري ُحه ولا ضمن ُّيه؛ أ ْي لا يشتمل على الباطل بحال... والمقصود استيعاب الجهات تمثيل ًا لحال انتفاء الباطل عنه ،في ظاهره ،وفي تأويله(((\". فمنهاج التربية هو هذا القرآن الكريم ،والمقصد من تنزيله هو الهداية إلى ما يص ِلح الناس في جميع أزمانهم ،وفي جميع شؤون حياتهم الدنيا ،ويهديهم إلى نعيم حياتهم الأُخرى: -فهو هداية تامة كاملة تتض َّمن من العناصر ما لا يحتاجون معها إلى شيء آخر ،غير التطبيق ،والتجريب ،واكتساب الخبرة ،والتم ُّتع بنتائج التطبيق﴿ .ﭯﭰ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ﴾ [النحل .]89:وهو ِم ْن َث َّم بيا ٌن ((( ابن عاشور ،تفسير التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،11ص.315-314 ((( المرجع السابق ،ج ،24ص.231-230 ((( المرجع السابق ،ج ،24ص.309-308 302
تفصيل ٌّي وص َل ح َّد التمام ،يجعل ال ُمتل ّقين له في زمن التنزيل وفيما بعده من أزمان يتف َّكرون فيما وراء المعرفة المباشرة لمعاني الآيات ،وفيما وراء تطبيقها المباشر بحضور الرسول المبين﴿ .ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ﴾ [النحل .]44:وبذلك يكون القرآن هداي ًة للناس في كل زمان. -وهو رحمة بالناس؛ لكيلا يشقوا في الضلال ،وهم يتن َّكبون هذه الهداية﴿ .ﰀﰁ ﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎ﴾ [النحل.]64: -وهو نو ٌر ،يخرجون به من ظلمات الجهل والشرك والضلال؛ ليكونوا على ب ِّينة لا يلابسها ش ٌّك ،ووضوح لا يغ ِّشيه غب ٌش فيه ،واستقامة لا يرافقها انحرا ٌف .قال تعالى﴿ :ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭰﭱﭲ﴾ [إبراهيم ،]1:وقال سبحانه﴿ :ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯳ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ﴾ [النساء.]175-174: -وهو برنامج عمل ،وخطة تربوية متد ِّرجة ،تتر َّفق بالناس ،وتنتقل بهم خطوة بعد خطوة ،وتستجيب لما يكون من أحداث ،ويستج ُّد من قضايا .ولذلك لم ينزل القرآن جمل ًة واحد ًة ،ث َّم قيل للناس :هذا نظام حياتكم ،فاقرأوه وط ِّبقوه ،وإ َّنما ُأن ِزل على نب ٍّي منهم ،يخاطبهم بما يفهمونه .وكان هذا القرآن-الخطة التربوية ينزل بالآية أو الآيات القلائل ،في موضوعات مح َّددة ،فيتلوها النب ُّي عليهم، ويأمر بكتابتها ،وحفظها ،وتطبيق ما فيها من توجيهات﴿ .ﭜﭝﭞﭟﭠ ﭡﭢﭣﭤ﴾ [الإسراء]106:؛ \"أي أنزلناه ُمنَ َّجم ًا ُمف َّرق ًا ،غير ُمجت ِم ٍع ُص ْبر ًة واحد ًة .يقال :ف َّرق الأشياء إذا باعد بينها ،وف َّرق ال ُّص ْبرة إذا ج َّزأها .و ُيط َلق ال َف ْرق على البيان؛ لأ َّن البيان ُيشبِه تفريق الأشياء المختلطة ،فيكون \" َف َر ْقنَا ُه\" محتمل ًا معنى ب َّينّاه وف َّصلناه ...وقد ُع ِّلل بقوله﴿ :ﭞﭟﭠﭡﭢ﴾؛ فهما ِع َّلتان: أ ْن ُيق َرأ على الناس ،وتلك ِع َّل ٌة لجعله قرآن ًا ،وأ ْن ُيق َرأ على ُم ْكث؛ أي َم ْهل وب ْطء، وهي ِع َّل ٌة لتفريقه .والحكمة في ذلك أ ْن تكون ألفاظه ومعانيه أثبت في نفوس السامعين ...ويجوز أ ْن يراد :فرقنا إنزاله رعي ًا للأسباب والحوادث(((\". ((( المرجع السابق ،ج ،15ص.231 303
فالهداية هي المقصد العام للقرآن الكريم ،وكان من الواضح أ َّن هذا المقصد العام يتض َّمن جمل ًة من المقاصد التفصيلية ،والمقاصد الفرعية .وكانت الدلالة اللغوية للمقصد واضح ًة تمام الوضوح في لغة القرآن وأساليب البيان اللغوي الذي يستعمله .ولك ْن ،ما نريد أ ْن نؤ ِّكده هنا هو أ َّن مفهوم \"المقاصد\" ليس مفهوم ًا طارئ ًا اكتشفه العلماء السابقون، أو اللاحقون ،وإ َّنما هو نصو ٌص ثابت ٌة في القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ،ومعا ٍن ب ِّين ٌة ،كان الصحابة يعرفونها. يقول ابن الق ِّيم\" :فإذا تأ َّملت شرائع دينه التي وضعها بين عباده وج ْدتها لا تخرج عن تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان ،وإ ْن تزاحمت ُق ِّدم أه ُّمها وأج ُّلها ،وإ ْن فاتت أدناها ،وتعطيل المفاسد الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان ،وإ ْن تزاحمت ُع ِّطل أعظ ُمها فساد ًا باحتمال أدناها .وعلى هذا وضع أحكم الحاكمين شرائع دينه دا َّل ًة عليه ،شاهد ًة له بكمال علمه ،وحكمته ،ولطفه بعباده ،وإحسانه إليهم((( \". ... \"كيف والقرآ ُن و ُسنَّ ُة رسو ِل الله ﷺ مملوآن من تعليل الأحكام بال ِح َكم والمصالح، وتعليل الخ ْلق بهما ،والتنبيه على وجوه ال ِح َكم التي لأجلها ش َر َع تلك الأحكام ،ولأجلها خ َل َق تلك الأعيان ،ولو كان هذا في القرآن وال ُّسنَّة في نحو مائة موض ٍع أو مائتين ل ُس ْقناها، ولكنَّه يزي ُد على ألف موض ٍع بطر ٍق متن ِّوعةَ .فتار ًة َيذك ُر لا َم التعليل الصريحة ،وتار ًة َيذك ُر المفعول لأجله ،الذي هو المقصود بالفعل ،وتار ًة َيذك ُر \" ِم ْن أ ْجل\" الصريحة في التعليل، وتار ًة َيذك ُر أدا َة \" َكي\" ،وتار ًة َيذك ُر \"الفاء\" و\"إن\" ،وتار ًة َيذك ُر أداة \"لع َّل\" المتض ِّمنة للتعليل المج َّردة عن معنى الرجاء المضاف إلى المخلوق ،وتار ًة ُين ِّبه على السبب ب ِذ ْك ِره صريح ًا، وتار ًة َيذك ُر الأوصاف المشتقة المناسبة لتلك الأحكام ،ث َّم ُير ِّت ُبها عليها ترتي َب المس َّببات على أسبابها ...وتار ًة يستدعي من عباده التف ُّكر والتأ ُّمل والتد ُّبر والتع ُّقل ل ُح ْسن ما َب َع َث به رسو َله ،وش َر َعه لعباده ،كما يستدعي منهم التف ُّكر والنظر في مخلوقاته و ِح َك ِمها وما فيها من المنافع والمصالح ...والقرآن مملوء من أوله إلى آخره بذكر ِح َكم ال َخ ْلق والأمر ومصالحهما ومنافعهما ،وما تض َّمناه من الآيات الشاهدة الدا َّلة عليه(((\". ... ، ((( ابن ق ِّيم الجوزية ،أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب (توفي751 :ﻫ) .مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة ،تحقيق :عبد الرحمن بن حسن بن قائد ،الرياض :دار عالم الفوائد1432 ،ﻫ ،ص.915-912 ((( المرجع السابق. 304
وفي \"إعلام الموقعين\" يقول ابن الق ِّيم ُمع ِّبر ًا عن وعي الصحابة بمسألة المقاصد، ومرجعيتها في ال ُّسنة النبوية\" :وقد كان الصحاب ُة أفه َم الأُ َّمة لمراد نب ِّيها ،وأتب َع له ،وإ َّنما كانوا ي َد ْن ِد ُنون حول معرفة مراده ومقصوده ،ولم يكن أح ٌد منهم يظهر له ُمرا ُد رسول الله ﷺ ث َّم َي ْع ِد ُل عنه إلى غيره ألب َّتة .والعلم بمراد المتكلم ُيع َرف تار ًة من عموم لفظه ،وتار ًة من عموم ِع َّلته ،والحوالة على الأول أوض ُح لأرباب المعاني والفهم والتد ُّبر(((\". والعلوم التي نشأت بعد ذلك في ديار الإسلام إ َّنما بدأت من ذلك الفهم المباشر للقرآن الكريم ،والبيان المباشر للنبي ،ث َّم َن َم ْت وتط َّورت وأصبحت علوم ًا وصناعات متخ ِّصصة؛ فالقرآن الكريم\" :نزل بلغة العرب ،وعلى أساليب بلاغتهم ،فكانوا ك ُّلهم يفهمونه ،ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه ،وكان ينز ُل ُجمل ًا ُجمل ًا ،وآيات آيات؛ لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع ...وكان النبي ﷺ يب ِّين المجمل، ويم ِّيز الناسخ من المنسوخ ،ويع ِّرفه أصحا َبه فعرفوه ،وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال ...وتداول ذلك التابعون من بعدهم ،و ُن ِقل ذلك عنهم ،ولم يزل كذلك متناقل ًا بين الصدر الأول والسلف ،حتى صارت المعارف علوم ًا ،و ُد ِّونت الكتب(((\". وهكذا ،فإ َّن مفهوم \"المقاصد\" في الإسلام مفهو ٌم قدي ٌم ،ارتبط بالقواعد الأصولية لاستنباط الأحكام الشرعية من أد َّلتها ،حيث كانت هذه القواعد واضح ًة في أذهان الصحابة والتابعين ،كما فهموها من القرآن الكريم ،وكما عايشوها في ال ُّسنة والسيرة. ولك َّن الإمام الشافعي أرسى هذه القواعد ،وجعلها ِع ْلم ًا ُع ِرف باسم أصول الفقه. وقد تت َّبع أح ُد الباحثين المحدثين حضور المعاني والدلالات المتعددة للمقاصد فيما كتبه الشافعي ،واستشهد بعبارات نقلها عد ٌد من الأئمة ،لا سيما إمام الحرمين الجويني، تفيد بأ َّن الشافعي هو أو ُل َمن استعمل مصطلح \"مقاصد الشريعة\" .وقد ف َّسر ابن مختار عدم وجود ما نقله الجويني عن الشافعي في كتاب \"الرسالة\" الذي بين أيدينا اليوم ،بأ َّن الجويني ر َّبما نقل عن ن ِّص الرسالة الكامل الذي لم يصل إلينا ،ود َّلل على ذلك بن ٍّص للشافعي نجده في \"الرسالة\" التي بين أيدينا ،يقول فيه الشافعي\" :وغاب عني بعض كتبي، ((( ابن ق ِّيم الجوزية ،أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب (توفي751 :ﻫ) .إعلام الموقعين عن ر ِّب العالمين، تقديم وتعليق وتخريج :مشهور بن حسن آل سلمان ،الدمام :دار ابن الجوزي1423 ،ﻫ ،ج ،2ص.387-386 ((( المرجع السابق. 305
وتح َّققت بما يعرفه أهل العلم م ّما حفظت ،فاختصرت خوف طول كتابي ،فأتي ُت ببعض ما فيه الكفاية ،دون تق ّصي العلم في كل أمره (((\".ومع ذلك ،فإ َّن ابن مختار نقل عن الحجوي المالكي أ َّن مالك بن أنس \"أشار في الموطأ إلى بعض القواعد الأصولية\" ،وأ َّن السرخسي الحنفي ق َّرر أ َّن أول َمن صنَّف في علم الأصول هو أبو حنيفة ،وتلاه صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن ،ث َّم الشافعي(((. ويبدو أ َّن أتباع كل مذه ٍب يحاولون نسبة بدء التصنيف في علم الأصول إلى أئمتهم في المذهب .ولك َّن ابن خلدون المالكي ر َّبما ع َّبر عن رأي الجمهور حين ق َّرر أ َّن الإمام الشافعي هو أول َمن وضع علم أصول الفقه\" :وأ ْملى فيه رسالته المشهورة ... ،ث َّم َك َت َب فقها ُء الحنفية فيه ،وح َّققوا تلك القواعد ،وأوسعوا القول فيها(((\". وإذا كان الشاطبي هو الذي أبرز مبحث المقاصد من مباحث أصول الفقه ،في كتاب \"الموافقات\" ،و ُع َّد ما كتبه فيه تأسيس ًا لعلم المقاصد (((،فإ َّنه يؤ ِّكد ما ق َّرره ابن الق ِّيم من حضور مفهوم \"المقاصد\" عند الصحابة رضوان الله عليهم؛ إذ يصف الشاطبي الصحابة بأ َّنهم\" :عرفوا مقاصد الشريعة فح َّصلوها ،وأ َّسسوا قواعدها وأ َّصلوها ،وجالت أفكارهم في آياتها ،وأ ْع َملوا الج َّد في تحقيق مباديها وغاياتها(((\". ((( الشافعي ،محمد بن إدريس (توفي204 :ﻫ) .الرسالة ،تحقيق :أحمد محمد شاكر ،القاهرة :مطبعة مصطفى البابي الحلبي1938 ،م ،ص.431 ((( ابن مختار ،أحمد وفاق .مقاصد الشريعة عند الإمام الشافعي ،القاهرة :دار السلام2014 ،م ،ص.55 ((( ابن خلدون ،مقدمة ابن خلدون ،مرجع سابق ،ص.962 ((( جعل الشاطبي كتاب \"الموافقات\" في خمسة أقسام ،وس ّمى كل قسم كتاب ًا ،فتناول في كتاب المقاصد اثنتين وستين مسألة من مقاصد الشارع ومقاصد ال ُمك َّلفين ،شغلت مئتين وستين صفحة من مجموع صفحات الكتاب البالغة ( )936صفحة .انظر في ذلك: -الشاطبي .الموافقات في أصول الشريعة ،مرجع سابق ،ص.479-219 ((( الشاطبي ،الموافقات في أصول الشريعة ،مرجع سابق ،ص.14 306
المبحث الثالث تصنيف المقاصد التربوية الإسلام هو دين الله الذي جاء به جميع الأنبياء والرسل إلى الناس ،فكان يأتي مع كل نب ٍّي هداية للناس ،ورحمة بهم؛ ليو ِّفر عليهم عناء البحث في المسائل الوجودية التي لا يس ِعفهم فيها البحث ،وهي التي تخت ُّص بالمعرفة عن الله والكون والإنسان .فالله سبحانه هو الخالق الرازق المد ِّبر ،والكون بأشيائه وأحداثه وظواهره مخلو ٌق محكو ٌم بسنن الله ،والإنسا ُن ُمستخ َل ٌف في هذا الكون ليعمره ويس ِّخره وفق المنهج الذي و َّفره الله له .وقد اختلفت شرائع هذا الدين التي كانت تنزل للرسل باختلاف الأوضاع التي كانت تم ُّر بها أجيال البشرية؛ لتتر َّفق بالناس ،وتي ِّسر لهم ُسبل الهداية .وحين أراد الله لهذه البشرية شريع ًة واحد ًة للناس كاف ًة كانت رسالة محمد ﷺ؛ خاتم النب ِّيين ،وكانت شريعة الإسلام الخاتمة ،في كتاب كريم، مجيد ،حكيم ،تض َّمن مجموعة من مبادئ الهداية وبرامجها ومضامينها ،بصورة وافية من البيان ،وخصائص كافية من الشمول والتكا ُمل ،ونزل بكيفية حكيمة من التد ُّرج والتر ُّفق في التربية والتطبيق العملي ،فكان القرآن الكريم هو كتاب هذه الهداية الكاملة. فالمقصد العام للتربية في القرآن الكريم هو هداية الإنسان إلى طريقة مح َّددة في الحياة الدنيا؛ استعداد ًا للحياة الأُخرى ،علم ًا بأ َّن: -الإنسان هنا هو الجنس البشري كله؛ فالشريعة الإسلامية لا تقتصر على قضايا التعامل بين المسلمين ،وإ َّنما تتسع لتشمل التعامل مع جميع فئات غير المسلمين كذلك. -الهداية لا تقتصر على عبادة الإنسان لله سبحانه في مجالات الشعائر ،وإ َّنما تشمل العبادة في سائر مجالات التعامل :السياسية ،والاقتصادية ،والاجتماعية ،وغيرها. -طريقة الحياة التي يهدي القرآن إليها ليست إصر ًا وأغلالاً تق ِّيد حركة الإنسان، وتع ِّطل طاقاته ،وإ َّنما هي مبادئ عامة شرعها الله تيسير ًا ورحم ًة و ُبشرى؛ لتحقيق مصالح الإنسان ومنافعه ،حتى لا يضل ويشقى ،وفتح المجال للنمو والتط ُّور والاجتهاد في اكتساب الخبرة البشرية اللازمة لإدارة شؤون الحياة وفق تلك المبادئ ،وإدراك المقاصد التي ُش ِرعت هذه المبادئ من أجلها. 307
-الحياة الدنيا هي القريبة الحاضرة الآن ،وهي تقابل الحياة الآخرة النهائية الموعودة مستقبل ًا .ومنزلة الإنسان في الحياة الآخرة تتو َّقف على سعيه وكسبه في الحياة الدنيا .ولأهمية هذه الحياة الدنيا؛ أنزل الله لها الشرائع الهادية للسعي البشري فيها ،من أجل تحقيق مراد الله منها في تزكية الإنسان ،وتشييد العمران .وما قد ينال الحياة الدنيا من َذ ٍّم إ َّنما يتو َّجه إليها؛ لأ َّنها قصير ٌة مؤ َّقت ٌة لا تصلح لاعتبارها غاية في ح ِّد ذاتها ،قياس ًا إلى النتائج المتر ِّتبة عليها في دار الخلود في الآخرة. -الحياة الأُخرى يتح َّقق فيها عدل الله تعالى المطلق ،في الجزاء المناسب لكل َمن أحسن في الحياة الدنيا ،أو أساء فيها .من أجل ذلكُ ،تؤخ ُذ الحياة الدنيا بج ٍّد ومسؤولي ٍة؛ لأ َّن لها ما بعدها .وإذا لم يستهدف سعي الإنسان عمران الحياة الدنيا من أجل ثواب الآخرة ،فإ َّن ﴿ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭴﭵ﴾ [الحديد ]20:ث َّم تكون حطام ًا ،ث َّم يكون الحساب في الآخرة من جنس العمل في الدنيا. هذا هو المقصد العام الكلي من الرسالة الإسلامية ،وأ ُّي حديث عن مقاصد التربية بعد ذلك سيكون تفصيل ًا لهذا المقصد ،واجتهاد ًا في التعبير عن هذا التفصيل ،وتنزيله في النظام التربوي العام الذي تتو َّزع مهامه على مؤسسات المجتمع الإنساني :الأسرة، والمدرسة ،والجامعة ،والفضاء الاجتماعي العام بفعالياته ،ونشاطاته ،ومؤسساته الإعلامية ،والسياسية ،والقانونية ،وغيرها. أولاً :مقاصد تربوية للدنيا ،ومقاصد تربوية للآخرة: كان الحديث في الفقرة السابقة عن حضور مفهوم \"المقاصد\" بصورة عامة .أ ّما ما يخت ُّص بمقاصد التربية ،فإ َّننا نراها حاضر ًة في ك ِّل ما ب َّينه القرآن الكريم عن الغاية من خلق الإنسان واستعماره في الأرض؛ فالقصد الأسمى هو العبادة والعمران .قال سبحانه﴿ :ﭳ ﭴﭵﭶﭷﭸ﴾ [الذاريات ،]56:وقال ع َّز وج َّل﴿ :ﯻﯼﯽﯾﯿ ﰀ﴾ [هود .]61:وقد ب َّين سبحانه المقصود بالعبادة والعمران؛ فليس المقصود بالعبادة فقط ال ُب ْعد الشعائري؛ من :صلاة ،وصيام ،وزكاة ،وحج ،وصورها الظاهرة؛ إذ إ َّن لكل عبادة من هذه الشعائر مقاصد ،فمن مقاصد الصلاة أ َّنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ،ومن مقاصد 308
الصيام الصب ُر على الطاعة والتح ُّقق بالتقوى ،ومن مقاصد الزكاة تطهي ُر النفس من ال ُّش ِّح، ونما ُء المال ،وتكاف ُل المجتمع ،ومن مقاصد الحج أ ْن يشهد المسلمون منافع لهم. ... ونلاحظ أ َّن مقاصد هذه العبادات تتجاوز ال ُب ْعد الفردي ل َمن يؤديها ،وتتسع لتحقيق كثير من المصالح لأبناء المجتمع ،وتستمر في تو ُّسعها لتشمل الناس جميع ًا ،بوصفها خطاب ًا للإنسان ،والله الخالق سبحانه هو ر ُّب الناس جميع ًا .فغاية هذه العبادات هي تربية الإنسان ،وتشكيل شخصيته ،وتنظيم علاقاته بر ِّبه ،ومجتمعه ،وبيئته .ونستطيع أ ْن نق ِّرر أ َّن ما قد يكتشفه الإنسان م ّما يقع تحت المس َّميات الحديثة للعلوم السلوكية والنفسية والتربوية والاجتماعية إ َّنما هو محاولات لتحقيق الفهم المتج ِّدد لنصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية. وفيما يخ ُّص مقصد العمران ،فمن الواضح أ َّن دلالاته مفتوحة للسعي البشري في ترقية الحياة بما قد تصل إليه خبراتهم وتجاربهم ،من تسخير ما خلق الله لهم في هذا العا َلم ،وم َّكنهم فيه من معايش﴿ .ﮯﮰ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯛ﴾ [الأعراف ،]10:فجميع ما في السماوات والأرض من أشياء وظواهر وطاقات هي مجالات للتف ُّكر في طرق توظيفها في الاكتشاف والاختراع لبناء التيسيرات المادية ،وفي فهم حقائق الإنسان والعمران البشري لبناء الأنظمة والقوانين وتنظيم العلاقات﴿ .ﰄ ﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔ﴾ [الجاثية .]13:وفي مجال العمران هذا نستطيع كذلك أ ْن نق ِّرر أ َّن ما قد يكتشفه الإنسان م ّما يقع ضمن مس َّميات العلوم الطبيعية والتطبيقية إ َّنما هو محاولات لفهم متج ِّدد لنصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية .ولكنَّنا نفهم مقاصد العمران اليوم بأ َّنها لا تقتصر على الجانب المادي ،وما يح ِّققه من تيسيرات في حياة الناس ،وإ َّنما يتض َّمن كذلك ما َيلزم بناؤه من تشريعات وقوانين تح ِّقق الحرية والعدالة والتنمية في الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ،وغيرها من جوانب الاجتماع والعمران البشري. ومن حكمة الله سبحانه أ ْن خل َق الإنسان في أحسن تقويم؛ جسمي ونفسي ،ومن ذلك أ َّن سعي الإنسان في الدنيا في مجال العبادة والعمران نوعان :سع ٌي إلى تع ُّلم مطالب العبادة والعمران لما يح ِّقق نعيم الحياة الآخرة ،وهو من المقاصد التربوية ،وسع ٌي في تع ُّلم ما تتط َّلبه العبادة والعمران في شؤون الحياة الدنيا ،وهي مقاص ُد تربوية كذلك. 309
وقد و َّضح الراغب الأصبهاني أهمية الجمع -في مفهوم عبادة الإنسان لله سبحانه -بين المعنى الخاص بالشعائر ،والمعنى العام الذي يتصل بالاستخلاف في الأرض وعمرانها، فقال\" :في الغرض الذي لأجله أوجد الإنسان ومنازلهم :الغرض منه أ ْن ُيع َبد الله ،ويخلفه، وينصره ،ويعمر أرضه .كما ن َّبه الله تعالى بآيات في مواضع مختلفة حسب ما اقتضت الحكم ُة ذك َره ،وذلك قوله تعالى﴿ :ﭳﭴﭵﭶﭷﭸ﴾ [الذاريات(((\". ...]56: ونظر ًا لأ َّن الإنسان بطبعه ُي ْؤثِر القريب العاجل؛ فقد وعد الله سبحانه َمن يعمل صالح ًا من الناس؛ ذكور ًا أو إناث ًا ،بالحياة الطيبة في هذه الدنيا ،إضاف ًة إلى الجزاء في الآخرة. ﴿ﮉﮊﮋﮌﮍ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮗﮘ ﮙﮚﮛ﴾ [النحل\" .]97:وهذا وع ٌد بخيرات الدنيا .وأعظمها الرضى بما قسم لهم، وحسن أملهم بالعاقبة ،والصحة والعافية و ِع َّزة الإسلام في نفوسهم .وهذا مقام دقيق تتفاوت فيه الأحوال على تفاوت سرائر النفوس ،و ُيعطي الله فيه عبا َد ُه المؤمنين على مراتب هممهم وآمالهم .و َمن راقب نفسه رأى شواهد هذا (((\".وفي تفسير الحياة الطيبة عند ابن كثير ،قال: \"والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أ ِّي جه ٍة كانت \".ث َّم ذكر معاني مختلفة جاءت في بعض الآثار ،مثل :القناعة ،والسعادة ،والرزق الحلال ،والعبادة في الدنيا ،والعمل بالطاعة والانشراح بها .وختم بقوله\" :والصحيح أ َّن الحياة الطيبة تشمل هذا كله (((\".وقال أبو زهرة في تفسير هذه الآية الكريمة إ َّن الله سبحانه \"لم يذكر في الحياة الطيبة أ َّنها أجر ،بل ذكرها على أ َّنها ملازمة للعمل الصالح الصادر من قلب سليم؛ فهي ثمر ٌة للصالح كثمرة الشجرة، وكإنتاج الزرع ،وحيثما ُو ِجد العم ُل الصال ُح كانت الحياة الطيبة(((\". هذا في الدنيا ،أ ّما في الآخرة ،فإن الله يجزي بفضله ورحمته هولاء المؤمنين الذين عملوا الصالحات ،وصبروا على بلواء الحياة الدنيا ،فيختار أحس َن عم ٍل عملوه في ((( الراغب الأصفهاني ،أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل (توفي502 :ﻫ) .تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين ،بيروت :دار مكتبة الحياة1983 ،م ،ص.48 ((( ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،تفسير الآية 97من سورة النحل ،ج ،14ص.273 ((( ابن كثير ،أبو الفداء إسماعيل بن عمر الدمشقي (توفي774 :ﻫ) .تفسير القرآن العظيم ،تحقيق :سامي بن محمد سلامة ،الرياض :دار طيبة للنشر والتوزيع ،ط1420( ،2ﻫ1999 /م) ،تفسير الآية ( )97من سورة النحل، ج ،4ص.601 ((( أبو زهرة ،محمد .زهرة التفاسير ،بيروت :دار الفكر العربي ،ط1987 ،1م ،مجلد واحد ،ص.4265 310
الدنيا ،ويجزيهم على أساسه ،وهذا من فضل الله وكرمه ،ومن فضله وكرمه أ َّنه يعفو عن السيئات ،و ُيضا ِعف الحسنات. والمؤمن الذي يعمل صالح ًا لا ينبغي أ ْن يؤدي به الطمع في الحياة الطيبة إلى إيثار الحياة الدنيا ،والاطمئنان لها ،والتكاثر بمتاعها؛ لأ َّنها قصيرة الأمد ،وعاجلة ،و ُمؤ َّقتة، وسرعان ما َين َفد متاعها .ولذلك ،ف َمن يكتفي بالاستمتاع بها ُم ْع ِرض ًا عن ذكر الله﴿ ،ﯷﯸ ﯹﯺ﴾ [طه ،]124:وليس حياة طيبة .أ ّما َمن ي َّتبِع هدى الله سبحانه طمع ًا فيما هو خير وأبقى ،فإ َّنه ُيجزى بأحسن م ّما عمل. إ َّن تفريط الإنسان في ابتغاء الآخرة؛ إيثار ًا لما يطمع فيه من منافع الدنيا القريبة ،يفقده حظه من تلك الآخرة .أ ّما َمن أراد الآخرة ،وسعى لها سعيها في الدنيا ،فلا بأس أ ْن يستمتع بالحياة الطيبة ،ويصدق عليه قو ُل ابن عاشور\" :فأ ّما الاستكثار من منافع الدنيا مع عدم إهمال أسباب النجاة في الآخرة فذلك َميدا ٌن للهمم ،وليس ذلك بمح ِّل َذ ٍّم(((\". ولع َّل حضور المقاصد التربوية التي تجمع بين مصالح الإنسان في الحياة الدنيا ومصالحه في الحياة الآخرة ،هي ميز ٌة أساسية للتربية الإسلامية ،تصلح أ ْن تكون إضاف ًة مهم ًة فيما يخ ُّص الإسهام التربوي الإسلامي المعاصر. ثاني ًا :مقاصد تربوية غائِ َّية ،ومقاصد تربوية و َسلِ َّية: يتصل معيار تصنيف المقاصد التربوية إلى غا ِئ َّية وو َس ِل َّية ،بمعيار تصنيفها إلى أهداف دنيوية و ُأخروية .ومن الملاحظ أ َّن معظم أدبيات التربية المعاصرة تتفق في اهتمامها بالأهداف التي تخت ُّص بالفرد والمجتمع في مستوى الوسائل ،وليس الغايات والمقاصد العليا .والسبب في ذلك أ َّن الغايات والمقاصد العليا تكون عاد ًة بعيدة المدى ،و ُتع ِّبر عن حالات نفسية ووجدانية واجتماعية يصعب قياسها .لذلك تميل الثقافة التربوية السائدة إلى النظر فيما يمكن التح ُّقق من وجوده من هذه الأهداف على صعيد السلوك الفردي الواضح ،أو على صعيد تق ُّدم المجتمع ضمن حدوده الوطنية السياسية .وفي الحالة الدينية عموم ًا ،والحالة الدينية الإسلامية خصوص ًا ،تتصل الأهداف عند مستوى الغايات والمقاصد -إضافة إلى ذلك ،وليس بديل ًا عنه -بمسائل غيبية ،ومصير الإنسان بعد الموت ،والوعي باليوم الآخر. ((( ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،تفسير الآية ( )18من سورة الأعلى ،ج ،30ص.290 311
ويتفاوت اجتهاد الباحثين في بيان ما يرونه غاية الغايات في التربية؛ فنجد عبد الحليم فتح الباب يق ِّرر أ َّن غايات الشريعة تقوم على ثلاثة أسس؛ أولها الوظيفة العامة التي رسمها القرآن لخلافة الإنسان في الأرض ،وثانيها استعداد الإنسان للعمل في إعمار الأرض، وثالثها ما يقتضيه وجود الإنسان على الأرض من حفظ حياته ،ولكنَّه لا يتمكن من القيام بذلك إلا إذا تح َّققت غاية الغايات ،وهي \"الحرية بمعنى الخلاص من القيود التي ُتع ِّوق أو تح ُّد من تفكير الإنسان؛ حركته ،وفعله ،واتخاذه قراره عن رض ًا ذاتي ...هذه الغاية تتم َّيز بسمتين :أ َّنها عامة أو كلية ،تصلح غاية للناس جميع ًا ...وأ َّنها تكون غاية لكل ما قبلها، وليست وسيلة لغاية بعدها((( \". وعلى هذا يتم تحديد خصائص هذه الحرية ،ومجالات فعلها؛ فهي مسؤولية فردية، ومسؤولية اجتماعية ،وغاية عالمية .وكل الغايات الأُخرى التي يتح َّدث عنها العلماء تحت عنوان \"مقاصد الشريعة\" ُت َع ُّد غايات و َس ِل َّية .وعليه تكون الغايات الو َس ِل َّية هي غايات التربية التي تؤدي إلى تحقيق غاية الحرية؛ فهي وسيلة إليها .وغاية الحرية هي غاية إنسانية عالمية للتربية تصلح للناس جميع ًا ،فهي تح ِّرر الإنسان من القيود التي تعيق تفكيره وحركته .فإذا تح َّققت أمكن بعد ذلك أ ْن تتح َّقق الغايات الأُخرى ،مثل :غاية تع ُّلم الكتاب والحكمة ،وغاية التزكية والتقويم الذاتي ،وغاية الكسب والاحتراف ،وغاية تحقيق ميزان الأعمال ،وغاية التع ُّلم أو البحث عن العلم. وقد سبق أ ْن أشرنا إلى تمييز الكيلاني في أهداف التربية بين الأهداف المقاصد أو الأغراض ،والأهداف الوسائل\" ،ولا ِغنى لأ ٍّي من القسمين عن الآخر؛ فالأهداف الأغراض دون وسائل نوع من الأمنيات البعيدة المنال ،والتط ُّلعات ال ُمع ِّوقة للإنجاز. والأهداف الوسائل دون أغراض تنقصها الدوافع ال ُمح ِّركة والغايات ال ُمو ِّجهة (((\".وقد اعتمد الكيلاني في تمييزه بين المستويين من الأهداف على فهمه للنصوص القرآنية. ((( سيد ،فتح الباب عبد الحليم\" .الغايات والأهداف التربوية في القرآن والسنة\" ،في :بحوث المؤتمر التربوي، تحرير :فتحي حسن ملكاوي ،ج1991 ،2م ،ص.175-129 ((( الكيلاني ،أهداف التربية الإسلامية :مقارنة بين أهداف التربية الإسلامية والأهداف التربوية المعاصرة ،مرجع سابق ،ص.15 312
فعندما تتح َّدث الآيات القرآنية -مثل ًا -عن مقاصد الخلق ،فإ َّنها تجعل هذه المقاصد في مستويات متتالية ،يقود بعضها إلى بعض آخر ،ومتد ِّرجة من أهداف وسائل إلى أهداف غايات .ونرى ذلك واضح ًا في كثير من الآيات القرآنية ،لا سيما تلك التي تتح َّدث عن مشاهد المخلوقات المس َّخرة للإنسان. يقول الله سبحانه في مطالع سورة النحل﴿ :ﯙ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯠﯡ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﭑﭒﭓﭔ ﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭶﭷ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮋﮌﮍﮎﮏ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ﴾ [النحل.]14-5: فنحن نؤمن بأ َّن القرآن يهدي للتي هي أقوم من صور العلم والفهم والاعتبار .وهذه الآيات تو ِّضح لنا بصورة متك ِّررة أهداف المخلوقات التي خلقها الله لتكون مس َّخرة للإنسان ال ُمستخ َلف فيها ﴿ :ﯚﯛﯜ﴾﴿ ،ﮙﮚ﴾﴿ ،ﮇﮈ﴾﴿ ،ﮫ ﮬﮭ﴾ .ث َّم تب ِّين ِع َّلة التسخير بلام التعليل التي تشير إلى أهداف وسائلية مباشرة يظهر تح ُّققها﴿ :ﭤﭥ﴾﴿ ،ﯟﯠ﴾﴿ ،ﯣ﴾﴿ ،ﯫ﴾ .ث َّم تقود إلى أهداف من مستوى أعلى ،فتكون هذه المس َّخرات آيا ٍت دا َّل ًة على فضل الله على الإنسانُ ،ت ِعينه على التف ُّكر ،والتع ُّقل ،والتذ ُّكر﴿ :ﮖﮗ﴾﴿ ،ﮨﮩ﴾، ﴿ﯘﯙ﴾ .وفي النهاية كان عطف ال ِع َّلة الذي يكشف عن الهدف-الغاية: ﴿ﯮﯯ﴾ الله سبحانه ،على ما ُذ ِكر من ِعل ٍل في الآيات السابقة ،فيكون الهدف الغاية والمقصد النهائي من كل ما س َّخر الله للناس من نِ َع ٍم؛ ل ُت ِعينهم على الاعتراف بفضل الله ،وشكره على نِ َع ِمه؛ وبذلك تتح َّقق العبودية التي من أجلها ُخ ِلقوا ،لقوله سبحانه: 313
﴿ﭳﭴﭵﭶﭷﭸ﴾ [الذاريات .]56:قال ابن عاشور\" :واللام في ﴿ﭸ﴾ لام ال ِع َّلة؛ أ ْي ما خلقتهم ل ِع َّل ٍة إلا ِع َّلة عبادتهم إ ّياي .والتقدير :لإرادتي أ ْن يعبدون ،ويدل على هذا التقدير قوله في جملة البيان﴿ :ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ﴾ [الذاريات .]57:وهذا التقدير يلاحظ في كل لا ٍم َت ِر ُد في القرآن تعليل ًا لفعل الله تعالى؛ أ ْي ما أرضى لوجودهم إلا أ ْن يعترفوا لي بالتف ُّرد بالإلهية ....وأ َّن تكاليف الله للعباد على ألسنة الرسل ما أراد بها إلا صلا َحهم العاجل والآجل ،وحصو َل الكمال النفساني بذلك الصلاح ،فلا َجرم أ َّن الله أراد من الشرائع كما َل الإنسان ،وضب َط نظامه الاجتماعي في مختلف عصوره ،وتلك حكمة إنشائه ،فاستتبع قو ُله﴿ :ﭷﭸ﴾ أ َّنه ما خلقهم إلا لينتظم أمرهم بوقوفهم عند حدود التكاليف التشريعية من الأوامر والنواهي ،فعبادة ال ِإنسان ر َّبه لا تخرج عن كونها مح ِّقق ًة للمقصد من َخلقه ،و ِع َّل ًة لحصوله عاد ًة(((\". ولا شك في أ َّن الإيمان بالغيب هو الصفة الأُولى للمؤمنين المتقين الذين ُيك َتب لهم الفلاح﴿ .ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭛﭜﭝﭞﭟ ﴾...إلى قوله تعالى﴿ :ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ﴾ [البقرة .]5-1:والحياة الآخرة من الغيب، وفي الآخرة حياة باقية خالدة ،لا يقاس أ ُّي شيء من متاع الحياة الدنيا بها ،لذلك فهي الغاية والمنتهى .ولك َّن الإنسان لا يملك أ ْن ينتهي إليها إلا عن طريق الحياة الدنيا؛ فالدنيا وسيل ٌة ،والآخرة غاي ٌة .وفي طريق الدنيا إلى غاية الآخرة سع ٌي وعم ٌل لا يملك الإنسا ُن إلا أ ْن يؤديه بصور ٍة أو ُأخرى .وتتو َّقف النيتج ُة في الآخرة على السعي في الدنيا. لقد امتلأ التراث الإسلامي بالكلام عن َذ ِّم الدنيا ،والزهد في متاعها ،وانطلق كثي ٌر من هذا التراث من فه ٍم قاص ٍر لنصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية ،وكانت النتيجة أ َّن طوائف من أبناء المجتمع الإسلامي تط َّلعت قلو ُبهم إلى ما في الآخرة من نعي ٍم ،فظنوا أ َّن الانقطاع إلى العبادة الشعائرية والأذكار هو الوسيلة إلى ذلك النعيم ،وقادهم هذا الفه ُم القاصر والظ ُن الس ِّيئ إلى ترك العمل ال ُمنتِج ،الذي يفيدهم ويفيد غيرهم في هذه الدنيا من العلم والبحث ،والكسب المادي ،والزراعة والصناعة ،والإسهام بنصيبهم المفروض من الإعداد لق َّوة المجتمع والأُ َّمة ...وكأ َّن الذين يؤدون واجبهم في ميادين العمل الدنيوي؛ تحقيق ًا لغاية الحق من الخلق ،ليس لهم طمع في الآخرة ،علم ًا بأ َّن ما ورد في القرآن ((( ابن عاشور ،تفسير التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،تفسير سورة الذاريات ،ج ،27ص.27-25 314
الكريم وال ُّسنة النبوية عن الزهد في الدنيا كان الهدف منه أ ْن تكون واجبات العمل الدنيوي من عمرا ٍن ،واستخلا ٍف ،وتمكي ٍن ،وسي ٍر في الأرض بحث ًا واكتشاف ًا ،وسع ٍي في إقامة العدل ورفع الظلم؛ كلها طريق إلى ما يتط َّلعون إليه من نعيم الآخرة .وما متاع الحياة الدنيا إلا م ّما س ّماه الله ﴿ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ﴾ [الأعراف .]32:فليس َث َّمة حر ٌج على الذين آمنوا أ ْن يستمتعوا في الدنيا بما س ّماه الله ﴿ﭦﭧ ﭨﭩﭪ﴾ ،وبهذه ﴿ﭫﭬﭭﭮ﴾ ،كما يستمتع غيرهم من الناس .أ ّما في الآخرة فهي خالصة للمؤمنين دون غيرهم .يقول الله سبحانه﴿ :ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ﴾ [الأعراف.]32: إ َّن هذا العمل الدنيوي هو مسؤولي ُة الغريب وعابر السبيل الذي يوصله إلى غايته(((. ف َمن ينجح في أداء هذه الواجبات ،فإ َّنه سرعان ما يتركها وراءه عند موته ،فيستمتع بها الآخرون في دنياهم ،ويأخذ هو الجزاء الذي كان يتط َّلع إليه في آخرته ،ليس فيما عمله هو فحسب ،بل جزاء َمن عمل بعمله ،واستفاد منه َمن بعده كذلك .فحياة عابر السبيل تعبي ٌر عن قصر السفر في الحياة الدينا ،وهو دعو ٌة إلى الاجتهاد في استثمار هذا الوقت القصير أحسن استثمار .وحين نتذ َّكر تعبي َر النب ِّي ص ّلى الله عليه وس َّلم عن حياة الإنسان في الدنيا بالمسافر الذي يرتاح قليل ًا تحت ظ ِّل شجرة ،ث َّم يتركها ويمضي إلى غايته(((، نتذ َّكر كذلك كيف أ َّنه هو النب ُّي نف ُسه ﷺ الذي مارس ما كان يمارسه سائر الناس في أيامه من الأعمال الدنيوية المتاحة ،ث َّم بذل أقصى ما يمكن بذله؛ من :دعو ٍة ،وتبلي ٍغ ،وتعلي ٍم، وتنظي ٍم ،وإدار ٍة ،وجها ٍد ،وقتا ٍل. ويتسع التمييز بين المقاصد الغا ِئ َّية والمقاصد الو َس ِل َّية إلى التمييز بين موقع العلوم بالنسبة إلى بعضها بعض ًا؛ ف َث َّمة علو ٌم لا يسهل تع ُّلمها إلا بعلوم ُأخرى .وقد ف َّصل ابن ((( قال النبي ﷺ لابن عمر رضي الله عنهما\" :كن في الدنيا كأ َّنك غريب أو عابر سبيل \".انظر: -البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :الرقاق ،باب :قول النبي ﷺ :كن في الدنيا كأ َّنك غريب أو عابر سبيل ،حديث رقم ،)6416( :ص.1232 ((( روى الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه ،عن النبي ﷺ ،قال\" :ما لي وللدنيا ،إ َّنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال -أ ْي نام -في ظل شجرة ،في يوم صائف ،ث َّم راح وتركها \".انظر: -ابن حنبل ،أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (توفي241 :ﻫ) .مسند الإمام أحمد ،تحقيق :شعيب الأرنؤوط وآخرون ،إشراف :عبد الله بن عبد المحسن التركي ،بيروت :مؤسسة الرسالة ،ط1421( ،1ﻫ2001/م) ،ج ،7حديث رقم ،)4208( :ص.253 315
خلدون بين النوعين من العلوم ،فقال\" :علو ٌم مقصود ٌة بالذات ،كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام ،وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة ،وعلوم هي آلِ َّية، وسيل ٌة لهذه العلوم ،العربية والحساب وغيرهما للشرعيات ،وكالمنطق للفلسفة ،ور َّبما كان آل ًة لعلم الكلام ولأصول الفقه على طريقة المتأخرين .فأ ّما العلوم التي هي مقاصد، فلا حرج في توسعة الكلام فيها ،وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار ،فإ َّن ذلك يزي ُد طال َبها تم ُّكن ًا في ملكته ،وإيضاح ًا لمعانيها المقصودة .وأ ّما العلوم التي هي آل ٌة لغيرها، مثل :العربية ،والمنطق ،وأمثالها ،فلا ينبغي أ ْن ُين َظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط \".ومع ذلك ،فإ َّن ابن خلدون لا يمنع من أ ْن تكون العلوم الآلية اختصاص ًا يتر ّقى فيه َمن تنزع به ه َّم ُته إليه ،ما شاء له التر ّقي؛ فهو يقول\" :فلهذا يجب على ال ُمع ِّلمين لهذه العلوم الآلية أ ْن لا يستبحروا في شأنها ،وين ِّبهوا ال ُمتع ِّلم على الغرض منها ،ويبقوا به عنده ،ف َمن نزعت به ه َّم ُته بعد ذلك إلى شيء من التو ُّغل ،ف ْل َي ْر َق له ما شاء من المراقي صعب ًا أو سهل ًا، وك ٌّل مي َّس ٌر لما ُخ ِلق له(((\". ونحن نقول اليوم إ َّن التخ ُّصص في علم الطب لا يعني أ ْن يبدأ الطالب مباشرة في تع ُّلم كيفية تشخيص الداء ووصف الدواء ،وإ َّنما يعني أ ْن يبدأ بكثير من العلوم الأساسية من كيمياء وبيولوجيا؛ ففيما يخ ُّص بيولوجيا الإنسان يدرس الطالب علوم ًا تفصيلي ًة، مثل :علوم الخلية ،والأنسجة ،والتشريح ،ووظائف الأعضاء ،وغير ذلك .ودارس علوم الفيزياء يحتاج إلى كثير من علوم الرياضيات ،ودارس الهندسة يحتاج إلى كثير من الفيزياء والرياضيات ،وعلوم المواد .ومع أ َّن أصناف العلوم الرئيسة والفرعية تتمايز فيما بينها حتى تبدو فروع ًا علمي ًة مستقل ًة ،فإ َّن بعض هذه الفروع أساس لفروع ُأخرى. ث َّم إ َّن الموضوعات المختلفة في كل علم ُتصنَّف في عدد من المستويات المتراتبة، ويكون المستوى الأدنى أساس ًا للمستوى الذي يليه؛ أ ْي وسيل ًة له .فإذا كانت دراسة الطب تبدأ بدراسة بعض العلوم الطبيعية ،فإ َّن الطالب يستم ُّر في دراسته حتى يصبح طبيب ًا عام ًا، ث َّم يدخل في مزيد من الدراسة حتى يصبح طبيب ًا متخ ِّصص ًا في أحد فروع الطب المتعددة ((( ابن خلدون ،مقدمة ابن خلدون ،مرجع سابق ،ص.1115-1114 316
(العيون ،العظام ،المسالك البولية ،القلب .)... ،ومثل ذلك في الهندسة ،والزراعة، وغيرهما .فالمستوى العام من أ ِّي علم هو وسيلة للمستوى المتخ ِّصص في العلم نفسه. وقد عرفت النُّ ُظم التعليمية اليوم ترتيب ًا للإجازة التعليمية (أو الشهادة ،أو الدرجة) في كل علم .فمعظم الأنظمة الجامعية في العا َلم تح ِّدد درجة البكالوريوس في التخ ُّصص، التي تكون أساس ًا لدرجة الماجستير ،ث َّم لدرجة الدكتوراه .وحتى يستطيع الطالب الالتحاق بالدراسة الجامعية؛ فإ َّنه يتع َّين عليه أ ْن يمضي اثني عشر عام ًا في التعليم العام ،وأ ْن يدرس في كل عام منها مستو ًى معين ًا من بعض العلوم ،ث َّم ينتقل في العام الذي يليه إلى مستوى أعلى ،حتى ُينهي الدراسة الثانوية ،علم ًا بأ َّن حصيلة الطالب الـ َم ْحدودة من بعض العلوم لا تجعله بالضرورة أهل ًا للدراسة الجامعية في فرع علمي معين. ثالث ًا :تصنيف المقاصد التربوية حسب موضوعات العلوم: إذا أخذنا تصنيف العلوم في برامج التربية المعاصرة بالحسبان ،فإ َّننا نجد أ َّن مقاصد التربية في هذه البرامج تتو َّزع على الفئات الرئيسة للعلوم :الدينية ،والاجتماعية، والطبيعية ،وعلى فروع ك ٍّل منها .ونجد كذلك أ َّن مقاصد كل فئة وكل فرع تتو َّزع على عدد من المستويات التي تقع ضمن التصنيفات المألوفة للأهداف العامة ،التي يق ِّررها المجتمع لشخصية الفرد ال ُمتع ِّلم؛ عقلي ًا ،وروحي ًا ،واجتماعي ًا ،ومهني ًا .وهذه الأهداف هي التي تح ِّدد مناهج التعليم العام ،وتو ِّزع موضوعات هذه المناهج على مواد دراسية؛ فمنها ما يقع ضمن مس ّمى العلوم الدينية ،مثل :مواد القرآن ،وال ُّسنة ،والفقه ،وغيرها؛ أو العلوم الاجتماعية والإنسانيات ،مثل :التاريخ ،والاقتصاد ،والفلسفة ،وغيرها؛ أو العلوم الطبيعية والرياضية ،مثل :الكيمياء ،والفيزياء ،والجبر ،والهندسة ،وغيرها. وتتض َّمن مناهج التعليم في كل مرحلة من مراحل التعليم العام مستويات معينة من هذه العلوم ،من باب المعرفة والثقافة العامة ،وقد يبدأ شيء من التخ ُّصص في المرحلة العليا من التعليم العام ،وتضيق دوائر التخ ُّصص في التعليم الجامعي ،حتى ينتهي التعليم الجامعي بأ ْن يتخ َّرج الطالب فيه بتخ ُّصص دقيق واحد في أحد العلوم النظرية أو العملية ،فيكون 317
مف ِّسر ًا للقرآن ،أو فقيه ًا في مذهب من المذاهب ،أو عالِم ًا متخ ِّصص ًا في فرع من فروع اللغة، أو الأدب ،أو التربية ،أو الاقتصاد ،أو الكيمياء ،أو الطب ،أو الهندسة ،أو غيرها. ومن المهم هنا أ ْن نتذ َّكر ما سبق قوله عن المصادر الأربعة للفكر التربوي الإسلامي المعاصر ،الذي نريد بناءه ،وهي :القرآن الكريم ،وال ُّسنة النبوية ،والتراث الإسلامي، والخبرة المعاصرة .فالقرآن الكريم وبيانه في ال ُّسنة النبوية هما المرجعية الحاكمة، والتراث الإسلامي هو خبرة أجيال الأُ َّمة في فهمها المقاصد التربوية للقرآن وال ُّسنة، وممارستها إ ّياها؛ فهي تجربة تاريخية مفيدة ،في جوانبها الإيجابية والسلبية .أ ّما الخبرة التربوية المعاصرة فهي نقطة البدء التي ننطلق منها في تحديد حالة واقعنا في مجتمعنا الذي نعيش فيه ،وحاجته إلى الإصلاح والتطوير ،وخططنا لهذا الإصلاح والتطوير، حيث يكون دور التعليم في مراحله المختلفة تشكيل شخصيات الصالحين والمصلحين، وإعداد الخبراء والمتخ ِّصصين. ونحن نجد في الحالة التربوية للمجتمع الذي نعيش فيه حياتنا المعاصرة فلسف ًة تربوية ،ونظام ًا تربوي ًا ،ومناهج تربوي ًة ،ومؤسسا ٍت تربوي ًة ،ونجد كذلك ِع ْلم ًا تربوي ًا معاصر ًا يتضمن نظريات مختلفة وممارسات متن ِّوعة ،ونجد الحالة التربوية لمجتمعنا تتأثر بعوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية ،وتمارس ضغوط ًا داخلية تفرضها الأولويات والإمكانات المحلية ،وضغوط ًا خارجية تتصل بتو ّجهات العولمة ،ومعاييرها الدولية، وكل ذلك أمو ٌر لا تملك جهود التخطيط للتطوير التربوي والتعليم ،إلا أ َّن تأخذها بالحسبان ،فتح ّدد الأهداف التربوية في مستوياتها المختلفة ،وتح ّدد في ضوئها المواد التعليمية اللازمة لتحقيق هذه الأهداف ،وطرق تعليمها وتقويمها. رابع ًا :تصنيف الأهداف التربوية وفق مؤسسات التربية في المجتمع: التربية في الرؤية الإسلامية لا تقتصر مسؤوليتها على مؤسسات التعليم النظامية من مدارس وجامعات ،وإ َّنما تتع ّدى ذلك إلى كل مؤسسات المجتمع؛ فلك ٍّل منها مهمته ومسؤوليته في التربية بمعناها العام .فالأسرة مؤسسة تربوية بكل معنى الكلمة ،ومهمتها تبدأ قبل مؤسسة المدرسة وأثناءها وبعدها .والأصل في المدرسة أ َّنها تشترك مع الأسرة 318
في التربية ،أ ّما التعليم فهو جزء من هذه التربية .ومهمة الجامعة هي في الأساس مهمة تعليم وتدريب ،إلا أ َّن دورها التربوي يأخذ منح ًى آخ َر في صياغة الشخصية الإنسانية وصقلها .ولع َّل الإعلام بأنواعه ومؤسساته يزداد أث ُره في المجتمع المعاصر ،حتى يكاد يؤ ِّثر في فعالية المؤسسات الأُخرى .ويبقى الفضاء الاجتماعي العام وأنظمته السياسية والقانونية والاقتصادية بيئ ًة خصب ًة لتسريب الأفكار والاتجاهات وأنماط السلوك ،وتش ُّبع الفرد بها بصورة واعية أو غير واعية. إ َّن الوعي بوجود هذه المؤسسات التربوية وتأثيرها في أشكال النمو عند الفرد وصياغة شخصيته ،يقتضي التمييز بين المقاصد التي يمكن أ ْن تح ِّققها كل مؤسسة منها. فالأسرة -مثل ًا -هي ال ِم ْح َضن الذي ينمو فيه جسد الإنسان وعقله ومشاعره في السنوات الأُولى من عمره .والتنشئة التي يحصل عليها الفرد في الأسرة ،في مجال اللغة والعادات والتقاليد والاتجاهات النفسية ،هي على قدر كبير من الأهمية ،بحيث لا يسمح أ ْن تتم هذه التنشئة بطريقة عفوية أو تقليدية ،وإ َّنما يجب الوعي بالمقاصد التي يمكن أ ْن تتح َّقق في هذه المجالات .ولنأخذ -مثل ًا -التربية اللغوية ،صحي ٌح أ َّن الطفل يتش َّرب اللغة بطريقة لا يتوافر فيها الوعي الكافي في غالب الأحيان ،لا عند الطفل ،ولا عند أبويه ،أو عند أعضاء الأسرة الآخرين .ولك ْن ،في الأحيان القليلة التي يتوافر فيها الوعي ،فإ َّن النمو اللغوي ال ُمو َّجه في المراحل المبكرة الذي ُيخ َّطط له بالأساليب المناسبة ،ر َّبما يؤ ِّثر في حياة الفرد طوال حياته اللاحقة .ومثل ذلك يقال عن تنشئة الطفل على العادات الاجتماعية المناسبة ،والمشاعر النفسية الإيجابية ،وأنماط السلوك الخلقي الفاضل؛ فذلك كله مقاصد تربوية تتح َّقق في السنوات الأُولى من حياة الإنسان في أسرته ،وتبقى آثارها في مراحل حياته اللاحقة .وخير وسيلة لتنشئة الأطفال بصورة تتح َّقق فيها هذه المقاصد هي المثال والقدوة الحسنة ،اللذان يق ِّدمهما الأبوان وأعضاء الأسرة الآخرون .والمهم أ ْن تتح َّقق بصورة تم ِّكنها من الاستقرار والصمود في مواجهة ما قد يتح َّقق في المؤسسات الأُخرى بصور ٍة مناقض ٍة. إ َّن المقاصد التربوية التي يمكن أ ْن تتح َّقق في الأسرة تقتضي تهيئة الأسرة وإعدادها لتؤدي هذه المهمة .ومن الخطورة أ ْن يلجأ الإنسان إلى أنماط من السلوك ،تتم َّثل فيها أنواع التنشئة التي تش َّربها في حياته ،ومارسها بصورة غير واعية مع أطفاله؛ ف َم َث ُل هؤلاء َم َث ُل أولئك الذين ﴿ﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ﴾ [الزخرف.]22: 319
وبعض المجتمعات المعاصرة تو ِّفر ُفرص ًا مختلفة لإعداد الزوجين لما َيلزمهما في الحياة الزوجية ،وتنشئة الأطفال قبل الزواج ،وتدريبهما على ما قد َيلزم لحل المشكلات الزوجية والأسرية ،أو منع حدوثها .وبعض الجامعات تق ِّدم دورات تدريبية ومساقات تعليمية في التربية الوالدية parentingته ِّيئ الوالدين لتوفير البيئة التربوية المناسبة لتنشئة الأطفال. والمجال لا يتسع للتفصيل في مهام المؤسسات الأُخرى ،والمقاصد التربوية المنوط تحقيقها لك ٍّل منها .ويكفي أ ْن نقول إ َّن المقاصد التربوية في المدرسة ،في الرؤية الإسلامية ،ينبغي أ ْن تتد َّرج وتتن َّوع وتتكامل مع تتا ُبع السنوات ،وتتو َّزع على سائر المواد الدراسية ،وتتكامل مع المقاصد التربوية المنوطة بالمؤسسات الأُخرى ،مثل :الأسرة، والمسجد ،والنادي ،وغيرها. أ ّما المسجد ،فالمقصد التربوي الذي ُيع َّول عليه في تحقيقه لا يخت ُّص بأداء الصلاة كيفما اتفق ،وإ َّنما بإقامة الصلاة جماعة على وجهها؛ خشوع ًا ،واطمئنان ًا ،وترتيب ًا ،والتزام ًا بالوقت .وفي صلاة الجماعة ُفر ٌص للتعا ُرف والتعا ُون في كثير من وجوه العمل المشترك، وبناء صلات الصحبة والصداقة ،وتبادل الخبرات .والمسجد بيئ ٌة تربوي ٌة في المجال الروحي والأخلاقي والاجتماعي .وفي المسجد ُفر ٌص للعلم والتع ُّلم لإتقان تلاوة القرآن وأركان الصلاة وآدابها .وكل ذلك مقاصد تربوية مهمة. والفضاء الاجتماعي العام هو البيئة التي تتفاعل فيها المؤسسات المتعددة ،بما في ذلك طبيعة النظام العام في المجتمع ،وأنماط الفكر الذي يتبنّاه المجتمع ،وتم ُّثلاته في الحياة السياسية ،والاقتصادية ،والاجتماعية ،والدينية ،والقانونية ،والإعلامية ،وغيرها، وموقع المجتمع وموقفه من المؤ ِّثرات الإقليمية والدولية؛ فكل ذلك له تأثيراته السلبية أو الإيجابية في أنماط التنشئة الأسرية ،والنظام التعليمي ،ويكون أثرها في تربية الفرد هو المح ِّصلة الكلية لتفا ُعل هذه القوى والمؤ ِّثرات المتعاضدة ،أو المتنافسة ،أو المشاكسة. ولا نريد أ ْن يستقر في الأذهان أ َّن الأثر التربوي في شخصية الفرد؛ نتيجة خطط هذه المؤسسات والقوى والعوامل ،هو قد ٌر لا را َّد له .و ِم ْن َث َّم ،فالفرد لا يتح َّمل مسؤولي َة ما ينتهي به المطاف نتيجة هذه المؤ ِّثرات .ولا نريد كذلك أ ْن يستقر في الأذهان أ َّن التربية المدرسية هي المسؤولة عن إبطال مفعول التربية الأسرية ،لذلك فلا قيمة للأسرة ،أو 320
أ َّن البيئة الاجتماعية العامة ،وما قد يكون فيها من فوضى التوجيه السياسي والتوظيف الإعلامي ،تحبِط ما قد تق ِّدمه الأسرة أو المدرسة .ومن الخطورة الوصول إلى مثل هذه النتيجة من القلق والإحباط. فالفكر التربوي الإسلامي الذي نسعى إلى تطويره ينطلق من ثلاثة أمور متلازمة: -قيمة الأثر الإيجابي لأ َّية مؤسسة ،مثل :الأسرة ،أو المدرسة ،أو غيرهما ،قد تكون قوية فاعلة بما يكفي للتخفيف من الآثار السلبية للقوى الأُخرى. -المسؤولون عن كل مؤسسة يتح َّملون في الدينا والآخرة -سلب ًا ،أو إيجاب ًا -الحالة التربوية الناتجة عن فعلهم في مؤسستهم. -الفرد الإنساني -في نهاية المطاف -هو المسؤول عن حالته التربوية في حياته، وهو حين يخضع لأثر المؤسسات المختلفة ،ويتر ّقى في الوعي ،ويتق َّدم في النضج ،سوف يصل إلى شي ٍء من الإدراك والمسؤولية؛ ما يم ِّكنه من ش ِّق طريقه في الحياة بقدر من الاستقلال .فإذا كانت الآخرة ،فإ َّنه يأتي ر َّبه فرد ًا ،ولا يكون له يومها إلا ما سعى. خامس ًا :المقاصد التربوية حسب نوعية التعليم: قلنا في فصل سابق أ َّن الحديث عن التربية يكون بمعن َي ْين؛ الأول يخت ُّص بما يكتسبه الفرد في مراحل نشأته ونموه وحياته ،عن طريق ما تق ِّدمه المؤسسات المختلفة ،وما يكتسبه الفرد بجهده الذاتي .والمعنى الثاني هو المعنى الخاص الذي تق ِّدمه مؤسسات التعليم بدرجات متفاوتة من التخطيط والضبط المنهجي .وكلا ال َم ْعنَ َي ْي ِن يشتركان في صياغة شخصية الفرد من جهة ،وفي إعداده وتهيئته ليكون عضو ًا فاعل ًا في المجتمع من جهة ُأخرى. وقد م َّيز التربويون بين ثلاثة أنواع من التعليم من حيث درجة صلتها بالنظام التعليمي، وكلها تشترك في بناء الشخصية ،وفي إعداد الفرد للإسهام في خدمة المجتمع .ولكل نوع من أنواع التعليم الثلاثة مقاصد تعليمية-تربوية .وهذه الأنواع هي: -التعليم النظامي :Formal educationهو ما تق ِّدمه المدرسة من تعليم ،عن طريق برامج ومناهج مح َّددة ،وبإشراف كامل .ومقصده الأساس هو اكتساب الخبرات 321
التعليمية من معلومات ومهارات واتجاهات ،عن طريق تعليم موضوعات العلوم المختلفة ضمن مراحل يجتازها ال ُمتع ِّلم ،لينتقل إلى المرحلة اللاحقة .وتكون فئات ال ُمتع ِّلمين متجانسة في العمر والخبرة إلى ح ٍّد كبير. -التعليم غير النظامي :Nonformal Educationهو تعليم يتصف بقدر من التحديد والبرمجة ،لكنَّه يتم خارج المدرسة ،ومعظم أشكاله تعليم المهن والحرف والصنائع .والأساس فيه خبرة ال ُمع ِّلم /ال ُمد ِّرب التي يريد أ ْن ينقلها إلى ال ُمتع ِّلم/ ال ُمتد ِّرب من خلال التدريب العملي؛ ليكتسب بعض المهارت (التناولية) .Manipulative Skillsوفيه مستويات من الأداء المطلوب من ال ُمتد ِّرب ،وفيه مرونة وهامش من حرية الاختيار ،والاستمرار ،وقد يكون فيه شهادات ،وترقيات، وقد لا يكون .ولا يشترط فيه تجانس فئات ال ُمتع ِّلمين؛ فقد يكون بعض الأطفال، أو الشباب ،أو البالغين بحاجة إلى الاستفادة من هذا التعليم .والمقصد الأساس في هذا التعليم هو امتلاك المهارات العملية اللازمة للحصول على عمل ،أو رفع مستوى الأداء في ذلك العمل. -التعليم اللانظامي :Informal Educationالأصل فيه أ َّنه تعليم لا يخضع لأ ِّي برمجة مقصودة ،ويأتي تأثيره من الحياة في الفضاء الاجتماعي العام ،حيث الإعلام المقروء والمسموع والمرئي ،وبرامج الترفيه والتوجيه الثقافي العام، والعمل الخيري ،وأماكن العبادة ،وجماعات الرفاق ...فالتعليم الذي يكتسبه الفرد لا يهدف إليه هو في أغلب الأحيان؛ إذ إ َّنه غي ُر مقصو ٍد من هذه الناحية، ولذلك ُيس ّمى التعليم ال َع َر ِضي .ولك َّن النظام السياسي الذي يسمح بهامش من المعارضة ،وحرية الرأي والتعبير ،والبرامج الإعلامية المؤ ِّيدة لسياسات الحكومة والمعارضة لها ،يعمل بصورة واعية مقصو دة للتأثير في الأفراد ،وفي تشكيل آرائهم ومواقفهم وتو ُّجهاتهم الفكرية والنفسية ،وحتى في بعض ممارساتهم العملية .وقد يكون الفرد واعي ًا بالتأثير الفكري والنفسي والسلوكي ،وباتجاهات هذا التأثير ،وقد لا يكون على قدر كا ٍف من الوعي بذلك .والذي نقترحه مقصد ًا أساس ًا لهذا النوع من التعليم هو وعي القيادات الفكرية والاجتماعية والتربوية في 322
المجتمع بما يصلح أ ْن يكتسبه الفرد من هذا النوع من التعليم ،وتوجيه الفرد إليه، وتدريبه على إدراك مصدر المعلومات ،والتث ُّبت من صحتها ،والتفسير الأفضل لها ،والوعي بما قد يتس َّرب إليه من تأثيرات تربوية غير مرغوب فيها .والمهم أ َّن الفرد -بعد درجة من النضج في شخصيته ،والتر ّقي في خبراته -سوف يكون مسؤولاً عن موقفه المستقل في تبنّي الآراء واتخاذ المواقف ،ومن غير المقبول أ ْن يكون ق َّش ًة في مهب الريح. والذي َي ُه ُّمنا في سياق الحديث عن المقاصد التربوية في أنواع التعليم الثلاثة، هو أ ْن تكون الجهات المسؤولة عن كل نوع ،وكذلك الأفراد الذين يخضعون له ،على درج ٍة من الوعي بمقاصد هذا التعليم ،وآثاره المنشودة في شخصية الفرد ،وتمكينه من النمو السليم المتوازن ،والتر ّقي في هذا النمو إلى القدر الذي تم ِّكنه منه قدراته .والوعي كذلك بالآثار غير المرغوبة في شخصية الفرد التي ر َّبما تنتج عن قصور في طرق تحقيق المقاصد المنشودة ،أو القصور في تك ُّيف بعض الأفراد مع البيئات التعليمية المتوافرة ،أو غير ذلك من الأسباب .ومع أ َّن التعليم المدرسي يهتم بالأفراد في مرحل ٍة ُعمري ٍة معين ٍة من نمو الأفراد ،ويكون على درجة عالية من التخطيط والبرمجة والمساءلة ،فإ َّن التعليم غير النظامي والتعليم اللانظامي يمارسان أثرهما في الأفراد في جميع المراحل العمرية بما فيها المرحلة المدرسية ،وتق ُّل فيهما درجة التخطيط والبرمجة أو تختفي. 323
المبحث الرابع المقاصد القرآنية العليا وتج ِّلياتها التربوية إذا كان القرآن الكريم هو المنهاج التربوي في مدرسة الإسلام ،فإ َّنه سيكون من المناسب الاجتهاد في تحديد ما يمكن أ ْن يهدي إليه القرآن الكريم من المقاصد العليا للوجود الإنساني في هذه الحياة .وقد اجتهد كثي ٌر من الباحثين في هذا التحديد عن طريق تصنيف الآيات القرآنية في عدد من الفئات وفق الموضوعات التي تتح َّدث عنها. فقد صنَّف فضل الرحمن -مثل ًا -موضوعات القرآن في سبع فئات ،هي :الله (سبحانه) ،والإنسان ،والطبيعة ،والوحي والنبوة ،والمعاد ،والخير والشر ،والحياة الاجتماعية (((.ونظر ًا لأ َّن كتاب فضل الرحمن كان خطاب ًا للأكاديمية الغربية؛ فقد جاء تصنيفه لموضوعات القرآن متقارب ًا مع الأسئلة السبعة التي يطرحها الباحثون الغربيون عن رؤية العا َلم (((.worlviewوقد صنَّفها الشي ُخ محمد الغزالي في خمسة موضوعات؛ أولها: الله سبحانه وقضية التوحيد ،وثانيها :الكون الدال على خالقه ،وثالثهاَ :ق َصص القرآن بوصفه وسيلة تربوية ،ورابعها :قضية البعث والجزاء ،وخامسها :ميدان التربية والتشريع(((. أ ّما القرضاوي فصنَّفها في سبع فئات ،هي :تصحيح العقيدة ،وتكريم الإنسان، وعبادة الله وتقواه ،وتزكية النفس ،وتكوين الأسرة ،وبناء الأُ َّمة الشاهدة ،وبناء عا َلم إنساني متعا ُون (((.و َث َّمة تصنيفا ٌت متعددة ،يعتمد ك ٌّل منها على اجتهاد المؤ ِّلف في فهم مقاصد القرآن الكريم ،ور َّبما يكون المؤ ِّلف متأ ِّثر ًا بما يحمله من َه ٍّم ،أو قلق علمي ،أو إصلاحي، يج ُد له سند ًا من فهمه لتلك المقاصد. ويبدو لنا أ َّن معظم هذه التصنيفات لمقاصد القرآن هي أقرب إلى أ ْن تكون طرائق في تصنيف الآيات القرآنية حسب موضوعاتها ،وطرائق في تنظيم عمليات تعليم هذه (1) Rahman, Fadhlu. Major Themes of the Quran, With a new Forword by Ebrahim Musa, Chicago: University of Chicago Press, 2009, see the table of content and the forword of Ebrahim Musa, pp. xii-xiii. (2) Sire, James W. The Universe Next Door, Downers Grove, Illinois: IVP Academic, 5th. Edition, 2009, pp. 22-23. ((( الغزالي ،محمد .المحاور الخمسة للقرآن الكريم ،القاهرة :دار الشروق2005 ،م ،فهرس الكتاب. ((( القرضاوي ،يوسف .كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟ ،القاهرة :دار الشروق2000 ،م ،ط ،3ص.71 324
الموضوعات؛ لتحقيق المقاصد التي جاءت الآيات من أجلها .ومن المؤ َّكد أ َّن مقاص َد القرآن ،و ِم ْن َث َّم أهداف عرض الموضوعات ،و ِعللها وأسبابها والحكمة المرادة منها ،هي ب ِّينة واضحة في نصوصه صراح ًة ،بالأساليب القرآنية المتعددة .ففي الأحكام َيذكر القرآ ُن ال ُح ْك َم ،و ُيب ِّين ِع َّل َته وحكمته ،و َيذكر القص َة ،و ُيب ِّين جان َب الاعتبار فيها ،ويتح َّدث عن المشاهد الكونية ،و ُيب ِّين ضرورة التد ُّبر والتف ُّكر .وحين لا تكون ال ِع َّلة أو الحكمة واضحة، فإ َّن من السهل استنباطها بالمرجعية القرآنية نفسها .وقد أشرنا إلى ما ذكره ابن الق ِّيم في عدد من كتبه عن طريقة القرآن في بيان مقاصد الآيات القرآنية(((. وقد سبق أ ِن اجتهدنا في تحديد منظومة القيم العليا في القرآن الكريم ،التي تتك َّون من ثلاث قيم ،هي :التوحيد ،والتزكية ،والعمران .وب َّينّا كيف أ َّن هذه القيم هي مقاصد عليا للقرآن الكريم ،وهي مبادئ حاكمة ،تقود سعي الراغبين في الاهتداء بالقرآن الكريم في حياتهم .ووجدنا أ َّن هذه القيم الثلاث هي القيم العليا الرئيسة ،وأ َّنه يتف َّرع عن ك ٍّل منها فئات متعددة ،نجدها في القرآن الكريم ،وتشمل :الإرشاد والتوجيه في جميع شؤون حياة الفرد والمجتمع(((. ونجد للاجتهاد في اعتماد هذه المنظومة المقاصدية بعناصرها الثلاثة عدد ًا من المس ِّوغات ،نشير إلى اثنين منها: -هذه المنظومة ُت َع ُّد أهم تج ِّليات وحدة الدين الإلهي ،الذي ُأر ِسل به جميع الأنبياء والرسل؛ فهذه المقاصد هي مقاصد الدين الإلهي الواحد ،بالرغم من بعض جوانب الاختلاف في شرائع هذه الأديان. -تحديد هذه المنظومة وحصرها على هذا الوجه جاء نتيجة للاستقراء التام لآيات القرآن الكريم (((.وأ ُّي اجتهاد آخر في تسمية مقصد غيرها سيكون متض َّمن ًا في واحد من هذه المقاصد الثلاثة .وقد ص َّرح الشاطبي في تحديده ل ُص ْلب العلم بما يأتي\" :هو الأصل والمعتمد ...وذلك ما كان قطعي ًا أو راجع ًا إلى أصل قطعي، ((( انظر :مرجعية المقاصد من هذا الفصل ،ص.٣٠٦-٣٠١ ((( ملكاوي .منظومة القيم العليا :التوحيد والتزكية والعمران ،مرجع سابق. ((( العلواني ،طه جابر .مقاصد الشريعة ،سلسلة قضايا إسلامية معاصرة ،بيروت :دار الهادي2001 ،م ،ص.147 325
والشريعة المباركة ُمن َّزلة على هذا الوجه .ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها ...لأ َّنها ترجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين ،وهي: الضروريات ،والحاجيات ،والتحسينات ،وما هو ُمك ِّمل لها ،و ُمت ِّمم لأطرافها. وهي أصول الشريعة ،وقد قام البرها ُن القطع ُّي على اعتبارها ...هذا إ ْن كانت وضعية لا عقلية .فالوضعيات قد تجاري العقليات في إفادة العلم القطعي، وعلم الشريعة من جملتها؛ إذ العلم مستفاد من الاستقراء العام الناظم لأشتات أفرادها ،حتى تصير في العقل مجموعة في كليات مطردة ،عامة ثابتة ،غير زائلة ولا متب ِّدلة ،وحاكمة غير محكوم عليها ،وهذه خواص الكليات العقليات .وأيض ًا، فإ َّن الكليات العقلية مقتبسة من الوجود؛ وهو أم ٌر وضع ٌّي ،لا عقل ٌّي ،فاستوت مع الكليات الشرعية بهذا الاعتبار ،وارتفع الفرق بينهما(((\". ونجتهد فيما يأتي في تل ُّمس تج ِّليات التربية المنبثقة من هذه المقاصد العليا. أولاً :مقاصد تربوية للتوحيد: عندما درس العلماء مبحث التوحيد في علوم العقيدة الإسلامية انصرف كثي ٌر من جهدهم واهتمامهم إلى مسائل كلامية مج َّردة ،تف َّرعت فيها آراء المتكلمين فِرق ًا ومذاهب ش ّتى ،حتى فقدت قيمتها العملية في حياة المؤمن .في حين أ َّن منه َج عرض التوحيد في القرآن الكريم كان يتصل اتصالاً مباشر ًا بحياة الإنسان المؤمن ،في صلته بالله سبحانه، وفي خوالج نفسه وأشواقه ونوازعه ،وفي بيئته الاجتماعية والطبيعية ،حتى إ َّن المؤمن يجد أ َّن التوحيد هو \"جوهر الخبرة الدينية (((\"،ويشعر بالقيمة التربوية والنفسية للتوحيد، وهو يجده حاضر ًا في كل فكرة تراوده ،وفي كل كلمة ينطقها ،وفي كل حركة يأتي بها. فالله سبحانه الذي يعبده المؤمن هو إل ٌه واح ٌد لا شريك له .وحين يقرأ المؤمن قوله تعالى: ﴿ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ﴾ [الأنعام ،]163-162:فإ َّنه لن يتو َّجه إلى غيره سبحانه بأ ِّي أم ٍر من الأمور. ((( الشاطبي ،الموافقات في أصول الشريعة ،مرجع سابق ،المقدمة التاسعة ،ص.45 ((( الفاروقي ،إسماعيل راجي .والفاروقي ،لويس لمياء .أطلس الحضارة الإسلامية ،ترجمة :عبد الواحد لؤلؤة، مراجعة :رياض نور الله ،الرياض :مكتبة العبيكان ،ط1419( ،1ﻫ1998/م) ،ص.98 326
وحين نتف َّكر في دلالات الآيات القرآنية الكريمة التي تجعل التوحيد موضوع ًا لها نجدها من الكثرة في العدد والتن ُّوع في الأساليب ما يؤ ِّكد لنا أ َّن التوحي َد هو المقص ُد الأعلى للقرآن الكريم ،بل إ َّن القرآن الكريم يؤ ِّكد أ َّن التوحيد كان جوه َر الدين الإلهي الذي أراده الله للبشر ،منذ بدء خلق الإنسان ،وأ َّن الله سبحانه كان ُير ِسل الرس َل والأنبياء إلى الناس كلما نسوا هذا الجوهر ،وانحرفوا عن التوحيد﴿ .ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ﴾ [الأنبياء .]25:قال ابن عاشور في هذه الآية\" :وفيها إظها ٌر لعناية الله تعالى بإزالة الشرك من نفوس البشر ،وقطع دابره؛ إصلاح ًا لعقولهم ،بأ ْن ُيزال منها أفظع خطل ،وأسخف رأي(((\". وقد يكون مفهوم \"التوحيد\" حاضر ًا في بعض الديانات الباقية اليوم ،ولك َّن مفهومه في الإسلام متم ِّي ٌز تمام ًا؛ متم ِّي ٌز في تص ُّوره للإله الواحد ،وفي آثار هذا التص ُّور على علاقة الإله الواحد بموجودات العا َلم الذي خلقه ،وهو متم ِّي ٌز في تص ُّور موقع الإنسان الذي جعله الله خليف ًة في هذا العا َلم ،وفي تنظيم علاقة الإنسان بالخالق ،وعلاقات الناس في داخل المجتمع ،وعلاقات المجتمعات بعضها ببعض. ومسأل ُة التوحيد في الإسلام ليست مسأل َة عقيد ٍة عقلية ساكنة تقع في هامش معتقدات الإنسان ،بل إ َّنها عقيد ٌة متح ِّرك ٌة دافع ٌة رافع ٌة ،لها من التج ِّليات العملية ما يضع للإنسان مبادئ تتصل بكل مجالات الحياة الاجتماعية ،والسياسية ،والاقتصادية ،والفنية، وغيرها ،في حياة الإنسان المسلم ،وفي ُن ُظم المجتمع المسلم ،وعلاقة المجتمع المسلم بالمجتمعات الأُخرى. ونكتفي في هذا المقام أ ْن نشي َر إشارا ٍت موجزة إلى بعض التج ِّليات التربوية العامة، مع التنويه بأ َّن التج ِّليات التربوية التي نقصدها هنا تتصل بالحالة العقلية والنفسية والسلوكية للإنسان المؤمن بالتوحيد؛ فالحالة العقلية تتصل بمنهجية التع ُّقل والتف ُّكر والتد ُّبر ،لتحقيق الفهم وبناء الوعي والإدراك .والحالة النفسية تتصل بالمشاعر والأحاسيس ،بما فيها من مؤ ِّشرات الإخلاص ،وال ُحب ،والرضا ،وصلاح البال .والحالة السلوكية تتصل بأشكال التعامل ،والحياة العملية الشخصية والمهنية والاجتماعية: ((( ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،تفسير الآية ( )25من سورة الأنبياء ،ج ،17ص.49 327
.1وحدة المرجعية؛ فقد ضرب الله مثل ًا في القيمة العظيمة التي تم ِّثلها وحدة المرجعية بالمقارنة مع تع ُّددها ،فقال سبحانه﴿ :ﯫﯬﯭﯮﯯ ﯰ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ﴾ [الزمر.]29: فعندما يعمل الإنسان تحت إمرة جهتين مختلفتين ،فإ َّنهما تتشاكسان وتتناقضان فيما تق ِّدمانه من توجيهات؛ فإحداهما تأمره بعمل ،والأُخرى تأمره بعدم العمل. ولا يقف الأمر عند عدم الإنجاز ،وإ َّنما يمتد أث ُر هذا التع ُّدد في المرجعية إلى التم ُّزق النفسي والحيرة والقلق .ومن أوضح الآثار التربوية للتوحيد ما يصل إليه الإنسان من نفس مطمئن ٍة تتو َّحد طاقا ُتها ومشاعرها في جهة واحدة ،تشعر بالرضا والسعادة ،وتتصف بالنشاط واله َّمة والإيجابية ،وتطمئن إلى الحكمة فيما يتف َّضل به الله عليه من نصيب الدنيا ،وما ي َّدخره له في الآخرة. .2بناء رؤية توحيدية للعا َلم؛ وهي الرؤية الوحيدة التي ُتن ِقذ المؤم َن بالتوحيد من حالة الحيرة والقلق التي تنتاب غير المؤمن نتيجة غيابها .ورؤية الإنسان للعا َلم هي أهم مح ِّدد للحالة العقلية والنفسية والسلوكية للإنسان ،و ِم ْن َث َّم أهم ُمع ِّبر عن حالته التربوية .فحين تتك َّرر عبارة \"ر ُّب العالمين\" في القرآن الكريم ،وفي سياقات الإشارة إلى العوالم الطبيعية والاجتماعية والنفسية ،وتتك َّرر عبارة \"عا َلم الغيب والشهادة\" ،ويتك َّرر لفظ \"الرؤية\" باشتقاقاتها ودلالاتها المتعددة؛ سواء الرؤية بالباصرة وما تتط َّلبه من ضبط المشاهدات والقياسات والتجارب ،أو الرؤية العالمة التي تستدعي وتتذ َّكر ما هو معلوم ليكون جزء ًا من البناء المعرفي، أو الرؤية بالبصيرة المتد ِّبرة لما وراء الظواهر المنظورة ،والمعتبرة بتق ُّلبات الأيام ومصائر الأقوام؛ كل ذلك يبني رؤية للعا َلم ،تجيب عن الأسئلة ال ُم ِل َّحة عن الخلق والخالق ،والإنسان والطبيعة ،والحياة والموت ،والخير والشر ،والعلم والمعرفة ...فالإجابات التي تق ِّدمها الرؤية التوحيدية تريح الإنسان من فوضى المعتقدات ،لتنطلق طاقاته في الاتجاه الإيجابي البنّاء. .3صياغة نظرية المعرفة؛ فإذا كان توحيد الله سبحانه هو ُأ ُّس العقيدة ،ورأس الإيمان بالغيب ،فإ َّن ذلك ليس بديل ًا عن التعامل مع عا َلم الشهادة بأشيائه وأحداثه وظواهره؛ فالله الواحد سبحانه هو \"عا َلم الغيب والشهادة\" ،وهو مصدر العلم 328
والمعرفة .و ِم ْن َث َّم ،فنظرية المعرفة عند المؤمن تتكامل في مصدرين لا ثالث لهما :الوحي الذي ُير ِسل به الل ُه أنبيا َءه من عا َلم الغيب ،وعا َلم الشهادة الذي يتض َّمن العوالم الطبيعية والاجتماعية والنفسية ،فتتف َّرع معرفة الإنسان إلى فرعين كبيرين :علوم النقل ومرجعيتها آيات الله المسطورة ،وعلوم العقل ومرجعيتها آيات الله المنظورة في الطبيعة المادية والاجتماع البشري والعا َلم النفسي ،ونجد فيها عشرات من فروع العلوم الأساسية ،والاجتماعية ،والإنسانية ،والتطبيقية. فتوحيد الله سبحانه يقتضي تكا ُمل ما يتف َّضل به الله على الإنسان ،فلا تصا ُدم، ولا تعا ُرض بين مصادر العلم .ويقتضي كذلك تكا ُمل وسائل العلم؛ فهو يدخل مختبر البحث العلمي ،بما فيه من قياسات وحسابات وتجارب ،و ُيع ِمل فيه ك َّل قدراته على التع ُّقل والفهم والإدراك؛ وصف ًا ،وتفسير ًا ،وتن ُّبؤ ًا ،وتح ُّكم ًا ،وهو في هذا َي ُع ُّد نفسه في محراب العبادة العمليةُ ،متط ِّلع ًا إلى عون الله في البحث، وشاكر ًا فضله فيما يصل إليه من نتائج .ومع هذا النوع من التكا ُمل في مصادر المعرفة ،والتكا ُمل في وسائلها ،تتح َّقق للإنسان درجة عالية من التكا ُمل التربوي في شخصيته ،في عنصريها :العقلي ،والوحي. .4إطلاق طاقات الإنسان الفكرية والعملية؛ فشهادة التوحيد \"لا إله إلا الله ،محمد رسول الله\" هي باب الدخول في الإسلام ،وأول ركن فيه ،وعلى أساسه تقوم أركان الإسلام الأربعة الأُخرى .وبهذه الأركان الخمسة يتح َّقق الإسلام في واقع الفرد والمجتمع؛ عقيد ًة ،وعباد ًة ،ونظا َم حيا ٍة .وبمقتضى شهادة التوحيد تتح َّدد أركان الإيمان الستة، ويسمو بها الإنسان في آفاق التوا ُزن بين المادة والروح ،وتنطلق بها طاقاته الفكرية والوجدانية والعملية في فضاءات الدنيا والآخرة ،وتتخلص من أوهام الخرافة إلى يقين العلم .وبتح ُّقق أركان الإسلام وأركان الإيمان تنعقد ُأخ َّوة المؤمنين في بناء ُأ َّمة واحدةُ ،تس ِهم في ترشيد سعي الإنسان لتحقيق الخلافة والعمران. .5إخلاص العبادة لله؛ إذ تتواصل دلالات التوحيد من الإسلام إلى الإيمان ،ث َّم إلى الإحسان ،حيث تتر ّقى قوى الإنسان في مراتب التزكية ،والسمو النفسي، والعدل الاجتماعي ،والبناء الحضاري .وبذلك تتج َّمع تج ِّليات التوحيد في التربية العقلية والنفسية وآثارها السلوكية والعملية في سائر مجالاتها (الاجتماع 329
البشري ،والعمران الحضاري) .وعندها كذلك تتو َّجه جميع صور النشاط البشري بالعبادة الخالصة إلى الله سبحانه؛ إذ يستشعر المؤمن حضور الله تعالى في قلبه ،في كل خاطرة تم ُّر به ،وفي كل عمل يعمله. .6الشعور بالحرية والكرامة؛ فالتو ُّجه الخالص لله بالعبادة ُيش ِعر المؤمن أ َّنه ليس مسؤولاً أمام أحد غير الله سبحانه .ولا يطمع في فضل أحد سواه ،وبذلك يتح َّرر من أ ِّي تو ُّجه إلى غيره؛ فلا يكون ُمو َّزع ًا بين مرجعيات متعددة ،وولاءات متشاكسة ،والأهم من ذلك أ َّنها تح ِّرر الإنسان من أهواء نفسه وشهواتها ،التي قد تح ُّد من حريته وقدرته على توظيف طاقاته وإمكاناته فيما هو خي ٌر له في دنياه و ُأخراه .وهذه الحرية تمنحه ثق ًة بالنفس ،وشعور ًا بالع َّزة والكرامة؛ لأ َّنه لا يحتاج إلى الخضوع لأ ِّي قه ٍر ،أو إذلا ٍل ،أو مهان ٍة .وهذه تربي ٌة على الحرية تتف َّوق -في أثرها في الفرد -على أ ِّي معنى آخر من معاني الحرية؛ سواء انتسبت هذه المعاني الأُخرى للحرية إلى القانون الطبيعي ،أو القانون الاجتماعي. .7الإحسان والإتقان في العمل؛ فإذا كان مبدأ التوحيد يصل الإنسان بالله الواحد، فإ َّنه يح ِّدد طبيعة هذه الصلة .فحضور الله سبحانه في قلب المؤمن والشعور الدائم بمراقبته يملأ قلبه بالحب والإخلاص له .و ِم ْن َث َّم ،فإ َّنه يتو َّجه إليه سبحانه بأفضل ما يستطيع من قول أو عمل ،ويحاول الوصول إلى درجة الإحسان ،فتكون درج ُة الإحسان عنده مقياس ًا لإتقان العمل وإجادته ،وهو مقيا ٌس أكث ُر فاعلية من المقاييس التي تح ِّددها دوائ ُر ضمان الجودة ،التي تتصل غالب ًا بالنواحي ال َك ِّمية المحكومة بمح ّكات دنيوية نسبية .ويتح ّلى ال ُب ْعد التربوي للتوحيد في مسألة الإحسان والإتقان بحفز الفرد إلى إنجاز العمل بدرجة عالية من النجاح، وتمكين المجتمع -استناد ًا إلى دوافع الإحسان عند الأفراد ،والإدارة بالإحسان في المؤسسات -من تنفيذ برامج الإصلاح وخطط النمو والتق ُّدم. .8حوافز لمواصلة البحث والزيادة في العلم؛ إذ يتصل مبدأ توحيد الله سبحانه بالإيمان بالمعتقدات الغيبية .فالإنسان المؤمن مهما بلغ من العلم م ّما هو من ظواهر الحياة الدنيا المحسوسة ،فإ َّنه يؤمن بعوالم الغيب المستورة عن حوا ِّسه، 330
و ِم ْن َث َّم تكون العوالم التي يعيش فيها الإنسان في الدنيا (العوالم الطبيعية، والاجتماعية ،والنفسية) عوالم تمتد وتتسع حتى تكون أكبر بكثير من بيئته المحدودة ،فيتواضع في علمه ،ويواصل طلبه للمزيد؛ لأ َّن الله سبحانه ،وهو يعلم الغيب المطلق ،يمكن أ ْن ُي ْط ِلع َمن يسعى في العلم ،ويسلك أسبابه ،على بعض ما ُي َع ُّد من الغيب النسبي الذي يصبح -بعد الا ِّطلاع عليه -من الزيادة في العلم بظاهر الحياة الدنيا .وكل ذلك ُين ّمي عند الإنسان الرغبة في النظر العميق، والا ِّطلاع الواسع على ما يتي َّسر ،مع معرفة وعلم عن آفاق الكون والحياة والإنسان ،وانفتاح هذا العلم على المجهول الذي ينتظر الاكتشاف ،وعلى ما وراء ذلك من آفاق علم الله. .9غياب الفكر المقاصدي عن ميدان التعليم الديني؛ ما جعل قضايا الإيمان والعقيدة مادة للجدل الكلامي بنزعاته وفِرقه ومذاهبه .ول ّما كانت قضايا العقيدة والإيمان هي الأساس لغيرها من علوم الدين ،مثل الفقه والأصول والتفسير ،فقد انعكس الجمود والخمول على كثير من الممارسات التعليمية في هذه العلوم ،وفقدت شيئ ًا من حيويتها .ولذلك ،فإ َّن من اللازم أ ْن تصل الصحوة المقاصدية إلى الدرس العقدي؛ ليصبح فيه موضوع التوحيد وسيل ًة لبناء الصلة بالله سبحانه ،ومعرفته بما ع َّرف به نفسه ،وحضوره في قلب المؤمن؛ ليطمئن القلب بحضوره وذكره. فالمقصد هنا هو توجيه الدرس العقدي إلى غايته ،بالتركيز على أثره النفسي والعقلي ،والتخلص م ّما يقع فيه هذا الدرس من البحث فيما لا ينبني عليه عمل. ثاني ًا :مقاصد تربوية للتزكية: إذا كان التوحيد مقصد ًا قرآني ًا ،يتصل في الأساس بعقيدة الإيمان بوحدانية الله سبحانه، وتتج ّلى آثاره في ترشيد الصلة بالله الواحد عن طريق العبادات الشعائرية والتعاملية ،فإ َّن التزكية مقصد قرآني يتصل في الأساس بالإنسان الذي استخلفه الله على الأرض؛ الإنسان في ضميره ،وعلاقاته ،وأنماط سلوكه .و ِم ْن َث َّم ،فإ َّن موضوع التزكية هو إصلاح واقع الإنسان؛ فرد ًا ،وجماع ًة ،و ُأ َّم ًة ،ونوع ًا بشري ًا ،وإصلاح الإنسان؛ ماد ًة ،وروح ًا .والمقصد المباشر هو 331
ترقية هذا الإنسان في مراتب التزكية والتنقية والتطهير في المشاعر والخلجات والخواطر النفسية ،على مستوى الفرد الإنساني ،وفي التطهير والبركة والنمو في ماله وممتلكاته، وفي الترقية والإحسان في علاقاته الأسرية والاجتماعية؛ ليكون الإنسان أقدر على تحقيق الإصلاح في البناء الاجتماعي والعمران البشرى .وقد استوعبت آيا ُت القرآن الكريم في التزكية هذه المقاصد كلها .وفيما يأتي بعض الأمثلة على المقاصد التربوية للتزكية: .1أساس التج ِّليات التربوية لمقصد التزكية هو حالة الفرد النفسية التي تنعكس على حالته العقلية والسلوكية .وعلى هذا الأساس نحاول أ ْن نفهم ال َق َسم الأ ْط َول في القرآن الكريم؛ فقد أقسم الله سبحانه بمخلوقاته المتعددة على أ َّن طريق الفلاح في الوصول إلى المراد هو تزكية النفس الإنسانية ،وأ َّن َمن لا يتح َّقق بتزكية النفس فإ َّن مصيره الخسران .والنفس الإنسانية هنا هي ذات الإنسان؛ جسم ًا ،وعقل ًا، وروح ًا؛ وهي الفرد والجماعة ،وما يتاح لهذه الذات من ُع ُم ٍر في حياتها ،وما ٍل في ممتلكاتها ،وبيئ ٍة هو ُمستخ َل ٌف فيها ،ولك َّن محور التزكية في كل ذلك هو الوجدان الإنساني الذي يكون موضوع ًا للتربية والتنمية﴿ .ﭨﭩﭪﭫ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ﴾ [الشمس.]10-7: .2إذا كانت التزكية مقصد ًا ،فهي كذلك وسيلة إلى مقصد الفلاح؛ إذ ُيع ِّبر عن ذلك قوله تعالى﴿ :ﯿﰀﰁﰂ﴾ [الأعلى .]14:وفِ ْعل \"التز ّكي\" من ال َّت َف ُّعل؛ وهو بذل الجهد الزائد على المعتاد من فعل التزكية .والفلاح هو النجاح فيما يبتغيه الإنسان ،والفوز فيما يرجوه من فضل الله عليه في مصالح الدنيا ومنافعها، والنجاة من النار ودخول الجنة في الآخرة ،عندئ ٍذ ،يتح َّقق الفوز الأكبر﴿ .ﮩ ﮪ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ﴾ [آل عمران .]185:فالمفلحون الذين بدأت سورة \"المؤمنون\" بذكرهم وتعداد بعض صفاتهم ،جعلتهم الوارثين الذين يرثون الفردوس والخلود فيه﴿ .ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭫﭬ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭶﭷﭸﭹﭺ ﭻﭼﭽﭾﭿ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﴾ [المؤمنون.]11-1: 332
وكما بدأت السورة بذكر الفلاح للمؤمنين ،انتهت ب َحجب الفلاح عن الكافرين الذين يدعون مع الله إله ًا آخ َر لا برهان لهم به﴿ .ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯴﯵﯶﯷ﴾ [المؤمنون .]117:فالمقصد التربوي من التزكية هو م ُّد التط ُّلع والاستشراف إلى النتيجة التي تؤدي إليها التزكية من صور الفلاح في الحياة الدنيا والحياة الآخرة. ﴿ .3ﭹ ﭺﭻ﴾؛ أ ِي الذين أدركوا ما طلبوا .والفلاح :الفوز وصلاح الحال ،فيكون في أحوال الدنيا وأحوال الآخرة .والمراد به في اصطلاح الدين الفوز بالنجاة من العذاب في الآخرة. .4تزكية النفس طلب ًا للفلاح تتج ّلى كذلك في تزكية المال؛ فالمال فتنة واختبار. والنجاح والفلاح في هذا الاختبار يكون بإنفاق المال في وجوهه ،وتزكيته بمقاديره ،وبذلك يتو ّقى الإنسا ُن ُش َّح النفس ،ويكون من المفلحين ،وينتظر وعد الله بأ َّن عائد الإنفاق هو مضاعفة ما يبقى منه؛ برك ًة ،ونفع ًا ،وزياد ًة ،ونم ّو ًا﴿ .ﮝ ﮞﮟ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ ﮫﮬ ﮭﮮﮯﮰﮱ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ﴾ [التغابن .]17-15:وعندما يتأ َّصل ُش ُّح النفس في الإنسان ،ولا يتو ّقى نتائج هذا ال ُّش ِّح ،فيكون تعامله المالي على أساس الربا ،فإ َّن المال لا يربو ،ولا يزكو ،ولا يتضاعف﴿ .ﮬﮭﮮ ﮯ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯞﯟﯠﯡﯢ ﯣ﴾ [الروم ]39 :وإنما يكون مصيره الـ َم ْح َق والتلف في الدنيا والعقاب في الآخرة﴿ .ﮄﮅﮆﮇﮈﮉ﴾ [البقرة.]276: .5بنا ًء على الارتباط الذي رأيناه بين التزكية فعل ًا ،والفلاح نتيج ًة ،يمكننا أ ْن نتت َّبع وسائل الوصول إلى التزكية للحصول على الفلاح ،فنجد أ َّن من هذه الوسائل ما يتجاوز مشاعر النفس الإنسانية وتعاملها المالي ،لتصل إلى خصائص المجتمع. فالمجتمع المفلح هو المجتمع الذي تتع َّزز فيه الدعوة إلى الإصلاح ،ويزكو 333
بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر﴿ .ﮖﮗﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ﴾ [آل عمران.]١٠٤: وإذا كان الفلاح نتيجة للأمر بالمعروف والصلاح والنهي عن المنكر والفساد، فإ َّن النجاة من الهلاك والخسران في الدنيا قبل الآخرة إ َّنما تكون بالتر ّقي من الصلاح إلى الإصلاح﴿ .ﯣ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯮ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ﴾ [هود.]117-116: .6من أروع تج ِّليات التربية النفسية والاجتماعية أ ْن َي ِر َد لفظ \"التزكية\" في القرآن الكريم في حالة الخلاف الأسري الشديد .فالنفس البشرية تت َل َّبس أحيان ًا بحالات من الاستياء والغضب ،تؤدي إلى اختلافات بين الزوجين ،تصل إلى قطع أواصر المودة والرحمة ،ور َّبما تنتقل البغضاء والشحناء إلى عائلتي الزوجين، وتنتهي باستبعاد ُفرص الخير والإصلاح .ومن هنا ،تأتي الموعظة بتقديم ُفرص الإصلاح ،ومنع الأسباب التي تحول دون استثمار ما ُبنِ َي من مودة ورحمة بين الزوجين؛ فمنع أسباب القطيعة والفرقة وإعادة المودة والرحمة هو الأزكى والأطهر من العلاقات .والتزكية هنا لا تقتصر على توجيه المشاعر والخواطر النفسية إلى الفرد ،وإ َّنما تتجاوز ذلك إلى تزكية علاقات المجتمع وأنظمته، وتقديم المعالجة الحكيمة لما يقع فيه من مشكلات﴿ .ﮄﮅﮆﮇ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮘ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮤﮥﮦﮧ﴾ [البقرة .]232:ويرى ابن عاشور أ َّن عبارة \" َأ ْز َكى َل ُك ْم\" تعني\" :أوفر لل ِعرض ،وأقرب للخير .فأزكى دا ٌّل على النماء والوفر ،وذلك أ َّنهم كانوا يعضلوهن َح ِم َّية وحفاظ ًا على المروءة من لحاق ما فيه شائبة الحطيطة ،فأعلمهم الله أ َّن عدم العضل أوفر لل ِعرض؛ لأ َّن فيه سعي ًا إلى استبقاء الود بين العائلات التي تقاربت بالصهر والنسب ،فإذا كان العضل إباية للضيم ،فالإذن لهن بالمراجعة حلم وعفو ورفاء للحال(((\". ((( المرجع السـابق ،تفسـر الآية ( )232من سورة البقرة ،ج ،2ص.428 334
.7في سورة \"النور\" تتك َّرر التربية النفسية والاجتماعية ،مع الربط الحكيم بين تزكية نفوس المؤمنين وفلاحهم ،فيأتي التذكير بالتزكية في سياق تنظيم العلاقات الاجتماعية المتصلة بخصوصيات المنزل وصيانة الأعراض .فدخول البيوت لا يكون إلا باستئذان ث َّم إذن ،واعتذار صاحب المنزل عن استقبال الزائر خي ٌر من الوقوع في الحرج ،وعودة الزائر من حيث أتى هو أكثر طهر ًا للمشاعر النفسية والممارسات العملية ،فلا يقع في النفس حر ٌج يؤ ِّثر سلب ًا في العلاقات بين الناس .وغ ُّض البصر بين الرجال والنساء كذلك أكثر زكا ًة وطهر ًا للمشاعر، وأحفظ للفروج من تركيز البصر وتتابعه؛ لما قد يأتي به ذلك من مخاطر تتم َّثل في فساد الضمائر والنفوس ،وانحراف السلوك والجوارح .قال تعالى﴿ :ﯯ ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﯿﰀﰁﰂﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭝ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭰﭱﭲ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭾﭿ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮑ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮙﮚﮛﮜ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ﴾ [النور.]31-27: ثالث ًا :مقاصد تربوية للعمران: فهمنا أ َّن مقصد التوحيد يتصل بعقيدة الإيمان بالله الواحد ،وأ َّن مقصد التزكية يتصل بالنفس الإنسانية وعلاقاتها وأنماط سلوكها .وسنب ِّين الآن كيف نستكمل المك ِّون الثالث من منظومة المقاصد القرآنية ،وهو العمران الذي يتصل بالحياة على هذه الأرض ،والقيام بحق الخلافة والعمران فيها. 335
ففي المصطلح القرآني جاءت مادة \"العمران\" من الجذر الثلاثي ( َع َم َر) بعدد من المعاني ،منها الحياة﴿ .ﯟﯠﯡ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧ﴾ [الأنبياء .]44:وقد تطول الحياة بالفرد الإنساني حتى يبلغ أرذل العمر﴿ .ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯚ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ﴾ [النحل .]70:وجاءت بمعنى \" ُنسك العمرة\" فيما يبقي المسج َد الحرام عامر ًا بالمعتمرين ،ومعمور ًا بهم على مدار العام﴿ .ﮱﯓ ﯔﯕﯖ﴾ [البقرة .]196:وجاءت بمعنى عمران المساجد وبنائها﴿ .ﮙﮚﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﴾ [التوبة.]18: وجاءت بمعنى الإقامة في الأرض ،والاستقرار فيها ،وفلاحتها ،وتشييد القصور ،والتخ ّلي عن حياة البادية ،والأخذ بأسباب الاستقرار والتم ُّدن والحضارة﴿ .ﮂﮃﮄﮅ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮗ﴾ [الروم .]9:وقد يكون وجود بعض الناس في الأرض فساد ًا ،وليس عمران ًا﴿ .ﯾ ﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ﴾ [الروم.]41: فالعمران حيا ٌة ،وعم ٌل في الحياة؛ حيا ٌة يحياها الفرد أجل ًا مق َّدر ًا ،وحيا ٌة تحياها الأُ َّمة بحضورها وآثارها في الواقع والتاريخ ،وحياة البشرية إلى أ ْن تنتهي الحياة الدنيا. فما المقصد من هذه الحياة؟ لقد عاب الله تعالى على أقوام يطلبون الحياة ،أ ّي ًا كانت هذه الحياة ،حتى لو كان فيها الذلة والمهانة﴿ .ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ﴾ [البقرة .]96:ولا ُب َّد أ ْن تكون الحياة لمقصد أسمى ،وإذا لم تتح َّقق الحياة بمقصدها الأسمى، فقد يكون الموت خير ًا منها؛ إذ قابل الله حياة الأرض بعد نزول الماء من السماء بالموت قبل نزوله ،وقابل الحياة الدنيا الخالية من المقصد الأسمى التي تمتلئ باللهو واللعب زمن ًا قصير ًا ،وتنتهي بالموت ،بالحياة الآخرة الممتدة الدائمة بلا موت ولا انقطاع. ﴿ﯭﯮ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﰁﰂﰃﰄﰅﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭠﭡ﴾ [العنكبوت.]64-63: 336
قال ابن عاشور عن اللهو واللعب\" :واللهو :ما يلهو به الناس ...أو ي ْعمرون به أوقاتهم الخلية عن الأعمال ...واللعب :ما ُيق َصد به الهزل والانبساط(((\". إذن ،فلا قيمة لهذه الحياة إذا كانت معمورة باللعب واللهو ،ولا ُب َّد أ ْن يكون المقصد الذي أراده الله سبحانه أسمى وأكرم لحياة الإنسان في هذه الدنيا .وإذا كانت الآخرة هي دار الحياة الممتدة الباقية بلا انقطاع ،فهي دار الجزاء التي تقابل دار العمل في الدنيا ،فما العمل الذي يريد الله من الإنسان أ ْن يعمر به الدنيا؟ إذن ،فمقصد العمران هو العمل في هذه الدنيا وهذه الأرض ،التي م َّكن الله فيها الإنسان ،وجعل له فيها معايش ،وجعله فيها خليفة ،واستعمره فيها؛ ف َث َّمة توا ُص ٌل وتكا ُمل في مقاصد خلق الإنسان على هذه الأرض ،لهذه الحياة الدينا ،تتصل بالتمكين والاستخلاف والاستعمار .وقيام الإنسان بتحقيق هذه المقاصد هو معنى العبادة بالشعائر والمعاملات .وكلها أعمال وفق ما أمر الله تعالى ،ي َّتجه بها الإنسان إلى الله سبحانه. وقد حاولنا جمع هذه الأعمال في المخطط المجاور الذي يع ِّبر في مجمله ع ّما يمكن للإنسان أ ْن يعمر به حياته ،وفق مقاصد الحق من الخلق .فإذا كانت عبادة الإنسان لله الواحد هي المقصد العام ،فإ َّن كل ما ورد من مواصفات معيارية لحياة الإنسان في الأرض إ َّنما تي َّسر للإنسان لتحقيق المقصد العام؛ فهو في الأرض خليفة يقوم بالمهمة التي أوكلها إليه ال ُمستخ ِلف، وهي عمران الأرض﴿ .ﯿﰀ﴾ [هود .]61:وذلك يتط َّلب أ ْن يكون الإنسان ُم َم َّكن ًا فيها﴿ .ﮯ ﮰﮱ ﯓ﴾ [الأعراف .]10:وأن تكون مس َّخرة له﴿ .ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ﴾ [الحج.]65: فالعبادة بمعناها الأشمل هي العمل في عمران الأرض؛ أ ْي إصلاحها ،والعمل الصالح فيها. ((( المرجع السابق ،تفسير الآية ( )63من سورة العنكبوت ،ج ،21ص.31 337
ويتض َّمن فقه العمل العمراني تنظيم الحياة المادية والمعنوية للناس .ويتج ّلى العمران المعنوي باستتباب الأمن ،وإقامة العدل ،وممارسة الشورى ،و ُن ُظم الإدارة والرعاية التي تي ِّسر ُسبل الحياة للناس ،وترفع عنهم الحرج والمش َّقة .ويتج ّلى العمران المادي بتشييد الأبنية ،وش ِّق الطرق ،وفلاحة الأرض ،وبناء المصانع .وبالتكا ُمل بين العمران المعنوي والعمران المادي يعيش كل الناس حياة كريمة طيبة؛ فخاصة الناس يسهرون على مصالح الناس والرحمة بهم ،والعامة منهم يدعون للخاصة بالخير ،وبمزيد من البركة والق َّوة. ونود تأكيد أ َّن العمران البشري في المصطلح القرآني الذي أشرنا إلى مواقع منه، هو المصطلح الذي أخذ به ابن خلدون ،وهو عنده يتصل اتصالاً مباشر ًا بمعنى التم ُّدن والتح ُّضر؛ لذا لا نجد بأس ًا في الربط بين الحضارة والعمران ،بوصفهما تعبيرين عن حالة الحياة في المجتمع البشري ،بجانبيها :المعنوي ،والمادي(((. ونحاول فيما يأتي تل ُّمس بعض المقاصد التربوية للعمران: .1الالتزام بالنظام والقانون عن طيب خاطر؛ فقد أ ّدى تكاثر الناس وتضارب مصالحهم إلى تنظيم عمران حياتهم وإدارتها بصورة تحفظ الحقوق وتح ِّقق الأمن ،وهذا يقتضي الالتزام بالقوانين والتشريعات المدنية التي ر َّبما يشعر معها الإنسان بالح ِّد من حريته في التص ُّرف .فتقدير قيمة التح ُّضر والتم ُّدن والعمران البشري ،وما تتط َّلبه من تنظيم يح ِّقق المصالح العامة للمجموع ،هو مسأل ٌة تربوي ٌة يدعمها الرضا النفسي بحق العمران ،وتع ِّززها طرق التنشئة التربوية في الأسرة، وبرامج التوجيه في المؤسسات التربوية والإعلامية وغيرها. .2الأبعاد القانونية التي يتط َّلبها العمران يتعاضد معها جان ٌب ثقافي تحكمه الأعراف والعادات ،وأنماط التفكير العقلي ،والتعبير اللغوي ،والسلوك الاجتماعي في الحياة الخاصة والحياة العامة .وللجانب التربوي في المسألة الثقافية وجهان؛ الأول :التنشئة على فهم الثقافة السائدة في المجتمع ،وتقديرها واحترامها ،لا سيما ما ُيش ِّكل منها عناصر الهوية المجتمعية والدينية .والثاني :الوعي بما قد ((( ملكاوي ،منظومة القيم العليا :التوحيد والتزكية والعمران ،مرجع سابق ،العمران والحضارة في فصل العمران ،ص.153 338
تتض َّمنه هذه الثقافة من عناصر الضعف والتخ ُّلف ،والتعا ُون على معالجتها، والح ُّد من آثارها .ور َّبما تقتضي برامج التنشئة والتربية في هذا العمران الثقافي التوعية الكافية بالجمع بين متط َّلبات الانتماء والإصلاح ،وبرامج التعا ُون والعمل المشترك لتحقيق الأمرين مع ًا. .3العمران البشري يتط َّلب توفير ُفرص اكتساب العلم والمعرفة لجميع أفراد المجتمع .ولك ْن ،من المؤ َّكد أ َّن الناس يتفاوتون في مدى استفادتهم من ال ُفرص التعليمية المتاحة؛ إذ إ َّن هناك على الدوام ِمن الناس َمن يعلمون أمور ًا ،وآخرون لا يعلمونها ،وإ َّن هناك دائم ًا حاجة إلى مؤسسات التعليم والتدريب والبحث والدراسة ،و ُفرص للتفا ُعل بين الناس في المجتمع من مستويات معرفية متفاوتة .والمقصد التربوي من هذه الظاهرة العمرانية يتج ّلى في شعور كل فرد بالتواضع فيما لديه من علم ،وبالحاجة إلى الاستفادة من ال ُفرص المتاحة للزيادة فيه .والتفاوت في الكسب العلمي بين المجتمعات يفرض عليها كذلك التعا ُون ،وتبادل الخبرات والمكتسبات المعرفية ،بما يح ِّقق النمو في الحضارة، والتق ُّدم في العمران. .4إ َّن ُفرص التعا ُون على اكتساب العلم والمعرفة ،والخبرة في البناء العمراني والحضاري داخل المجتمع ،وبين المجتمعات ،لا تمنع التنافس والتسابق، والسعي إلى التم ُّيز والإبداع .فالركون إلى الوضع القائم والحالة الراهنة من العلم والمعرفة على مستوى الفرد ومستوى المجتمع ينتهي إلى التراجع والتخ ُّلف، و ِم ْن َث َّم العطالة الحضارية والعمرانية .فمبدأ التعا ُون في التعليم ،والتع ُّلم ضمن الفريق ،والعمل التربوي المشترك؛ كلها أمور مهمة لها فوائدها في الرفع من المستوى التعليمي العام للمجموع .بيد أ َّن توفير الحوافز اللازمة للسبق والتم ُّيز بين الأفراد داخل المجتمع ،والتخطيط لتحقيق الإسهام المتم ِّيز لكل مؤسسة من مؤسسات المجتمع ،ولحضور المجتمع ساحة العا َلم ،وإضافة الجديد المفيد إلى الحضارة العالمية؛ كلها أمور مهمة تستدعيها المشاعر التربوية الفردية والجماعية في تحقيق الذات ،وفي استمرار التق ُّدم العلمي والمعرفي. 339
.5مقصد العمران يقتضي التربية على التع ُّدد ،والتعايش مع التن ُّوع وقبول الاختلاف؛ ف َث َّمة نصو ٌص في القرآن الكريم َت ِر ُد فيها الإشارة إلى العمران الذي يخت ُّص بالمساجد .وعمرانها يكون ببنائها بما تي َّسر من مواد العمران وهندسته ومك ِّوناته ،وبالحضور فيها للصلاة والاجتماع في أبواب الخير؛ من :تعليم، ومصالح إدارية وتنظيمية .وعمرانها يقتضي حمايتها من احتمال الهدم ،بتوفير القوة اللازمة لهذه الحماية ،ولك َّن اللافت أ َّن القرآن الكريم قد ربط هذه الحماية بحماية أماكن العبادة لغير المسلمين؛ تأكيد ًا لحرية العقيدة ،وقبول التع ُّدد في الدين وحمايته﴿ .ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ﴾ [الحج .]40:وكما ورد الحديث عن َد ْفع الله المؤمنين من عباده لمواجهة أعدائهم من إجل حماية أماكن العبادة ،فقد ورد الحديث عن َد ْفع الناس بعضهم ببعض لحماية الأرض من الفساد والاستبداد، وعمرانها باستتباب الأمن ،وتحقيق الرخاء ،وبسط العدل﴿ .ﮰﮱﯓ ﯔﯕ ﯖﯗﯘ﴾ [البقرة.]251: .6اشتمال الحديث الصحيح على ما يستدعي وعي الإنسان المسلم بالصلة بين الروح والجسد؛ فالتربية الروحية ليست منفصلة عن التربية المادية ،كما لا تنفصل روح الإنسان عن جسده إلا بانتهاء العمران وتو ُّقف الحياة .ولك ٍّل من الروح والجسد متط َّلباته التربوية المناسبة؛ َع ْن َأبِي ُه َر ْي َر َة َقا َل\" :إِ َذا َخ َر َج ْت ُرو ُح ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َت َل َّقا َها َم َل َكا ِنُ ،ي ْص ِع َدانِ َهاَ ،قا َل َح َّما ٌدَ :ف َذ َك َر ِم ْن ِطي ِب ِري ِح َها َو َذ َك َر ا ْل ِم ْس َكَ ،قا َلَ :و َي ُقو ُل َأ ْه ُل ال َّس َما ِء ُرو ٌح َط ِّي َب ٌة َجا َء ْت ِم ْن ِق َب ِل ا ْلَ ْر ِض َص َّلى ال َّل ُه َع َل ْي ِك َو َع َلى َج َس ٍد ُكنْ ِت َت ْع ُم ِرينَ ُه (((\". ...فالروح تعمر الجسد في أثناء الحياة، ومن دون الزاد الروحي يفقد الجسد عمرانه ،ويصبح خراب ًا لا قيمة له ،ولا خير فيه .ومثل ذلك عمران القلب؛ فالقلب عام ٌر بالقرآنَ ،خ ِر ُب من دونه .والقرآن للقلب بمنزلة الروح من الجسد؛ فقد روى الدارمي بسنده موقوف ًا على الصحابي عبد الله بن مسعود ،قالَ \" :وإِ َّن ا ْل َق ْل َب ا َّل ِذي َل ْي َس فِي ِه ِم ْن ِك َتا ِب ال َّل ِه َش ْي ٌء َخ ِر ٌب ((( مسلم ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،كتاب :الجنة ،باب :عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه ،حديث رقم ،)2872( :ص.1151 340
َك َخ َرا ِب ا ْل َب ْي ِت ا َّل ِذي َل َسا ِك َن َل ُه (((\".وعنده أيض ًا َأثر يرويه بسنده موقوف ًا على قتادة بن دعامة السدوسي ،من التابعين\" :ا ْع ُم ُروا بِ ِه ُق ُلو َب ُك ْمَ ،وا ْع ُم ُروا بِ ِه ُب ُيو َت ُك ْم، ُأ َرا ُه َي ْعنِي :ا ْل ُق ْرآ َن(((\". .7إ َّن قيمة الجهود التربوية في هداية ال ُمتع ِّلمين إلى ما يراد لهم من المقاصد والأهداف التربوية .فإذا كان السير في الصراط المستقيم هو الهدف التربوي، فإ َّن القرآن الكريم هو الروح التي تعمر حيا َة الإنسان ،وما فيه من الشرائع هو مصدر الهداية إلى خير الناس في دنياهم و ُأخراهم .فحلول الهدى في القلوب والعقول ،مثل \"حلول الروح في الجسد ،فيصير َح ّي ًا بعد أ ْن كان ُج َّثة\"(((... والقرآن كذلك نور؛ فما فيه من الإيمان والهدى والعلم ُيشبِه النور ،مثلما ُيش َّبه الضلا ُل والجه ُل والكف ُر بالظلا ِم﴿ .ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭩﭪﭫﭬ ﭭ﴾ [الشورى.]52: .8إ َّن المجتمعات البشرية تنمو في العمران والحضارة ،وتتر ّقى عن طريق ما يصلها من الهدي الإلهي ،وما يكون فيه من تزكية نفسية ،وتوجيهات أخلاقية، وتشريعات اجتماعية .وتتراكم خبرات هذه المجتمعات عن طريق ما تكتسبه من العلوم والمعارف والتجارب ،وما تتناقله هذه المجتمعات فيما بينها من هذه الخبرات النامية .ولك َّن التر ّقي العمراني والتق ُّدم الحضاري إ َّنما يتم وفق قوانين الاجتماع البشري ،وطبائع هذا الاجتماع ،والسنن النفسية والاجتماعية للطبائع والوقائع ،وهي سنن يمكن دراستها ،وتوجيه السعي إلى التر ّقي في العمران البشري على أساسها .ولذلك َيلزم أ ْن تتض َّمن المناهج الدراسية في مراحلها المختلفة ما َيلزم من مستويات العلم بقوانين النمو والتط ُّور ،في كل فرع من ((( الدارمي ،أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل (توفي255 :ﻫ) .مسند الدارمي «سنن الدارمي» ،تحقيق: حسين سليم الداراني ،الرياض :دار المغني1420 ،ﻫ ،كتاب :فضائل القرآن ،باب :في تعاهد القرآن ،ج،4 حديث رقم ،)3350( :ص .2083 ((( المرجع السابق ،ج ،5حديث رقم ،)3385( :ص.375 ((( ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،تفسير الآية ( )52من سورة الشورى ،ج ،25ص.154 341
فروع العلم .وقد أ َّكد ابن خلدون ذلك ،وك َّرره كثير ًا ،ودعا إلى دراسة التغ ُّيرات والأحداث الاجتماعية بصورة منهجية منظمة ،تعتمد ما يمكن أ ْن نتب َّينه من طبائع الأشياء ووقائع الأحداث؛ إذ قال\" :فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة ،أ ْن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران، ونم ِّيز ما يلحقه من الأحوال لذاته ،وبمقتضى طبعه \"...وهذا يستدعي عند ابن خلدون تحديد علم العمران ومسائله ،وهو كذلك \"شأن ك ِّل عل ٍم من العلوم، وضعي ًا كان أو عقلي ًا (((\".ولذلك ينبغي أ ْن تكون الدعوة إلى التغيير والإصلاح في واقع المجتمعات الإسلامية المعاصرة؛ للتخ ُّلص من مظاهر التخ ُّلف العمراني والحضاري ،بصورة مبنية على دراسة قوانين التغيير في النفس والمجتمع ،وأ ْن تتض َّمن برامج التعليم في جميع المراحل دراسة هذه القوانين. .9إ َّن التخطيط لتحقيق المقاصد العامة التي تتصل بحياة الأُ َّمة يقتضي أ ْن يعمل النظام التربوي على إعداد العلماء المتخ ِّصصين القادرين على التب ُّحر والإبداع في كل مجال من مجالات بناء المجتمع ،والنهوض الحضاري لل ُأ َّمة ،وأ ْن يتم ذلك برؤية استشرافية مستقبلية .والإعداد هذا لا يكون لجيل من الأجيال ،ث َّم لا يكون متوافر ًا لجيل آخر ،بل إ َّن الإعداد يكون لأجيال تتواصل وتتلاحق حتى لا يخلو منها تخ ُّصص من التخ ُّصصات ،ولا زمن من الأزمان. ((( ابن خلدون ،مقدمة ابن خلدون ،مرجع سابق ،ج ،3ص.332 342
المبحث الخامس تفعيل المقاصد التربوية وتقويمها أولاً :التفعيل والفعل والفاعل: \"ال َّت ْفعي ُل\" من \" َف َّع َل\" ،و َف َّع َل الأم َر :ن َّشطه ،ق ّواه ،ن َّفذه ،و َجع َله فاعل ًا وواقع ًا .والأصل الثلاثي ( َف َع َل) ،يقالَ :ف َع َل الشي َء؛ أ ْي عمله وصنعه .والفا ِعل َّي ُة مصد ٌر صناع ٌّي من \"فا ِعل\"، وهي :مقدرة الشيء على التأثير .وفاعلية الخطة :قدرتها على تحقيق الأهداف التي ُو ِضعت من أجلها .وفاعلية الأداة :تحقيق الغرض من استعمالها بالكفاءة المناسبة. ويقوم الاهتمام بفكرة تفعيل المقاصد على أ َّن \"المقاصد ليست مج َّرد معرفة ومتعة معرفية ،وليست مج َّرد تع ُّمق فلسفي في الشريعة :معانيها ومراميها ،بل هو كسائر علوم الإسلامِ ،ع ْل ٌم ُينتِج عمل ًا وأثر ًا؛ ِع ْل ٌم له فوائده وعوائده(((\". فالفعل هو الأثر الذي ُيس ِّببه مؤ ِّثر ،والإنسان يفعل نوعين من الأفعال؛ نوع ًا يفعله مضطر ًا بحكم طبيعته ،فلا يلحقه مد ٌح ولا َذ ٌّم ،ونوع ًا آخ َر يفعله بإرادته ،وهو ما يدخل في التكليف ،وتدور عليه الأحكام .وقد يقوم الإنسان بفعل معين -مدفوع ًا بهوى نفسه- يكون فيه منفعة لنفسه أو غيره ،أو استجابة لأمر الله وطلب ثوابه .والحكم بقبول الفعل عند الله ،والحصول على ثوابه مرهون بأمرين :أ ْن يأتي الإنسان بالفعل بِنِ َّي ِة الاستجابة لأمر الله ،وأ ْن يكون على الطريقة التي أمر بها الله ،بن ٍّص في كتابه ،أو به ْد ٍي من رسوله .فالن َّية هنا هي القصد الذي يتو َّجه به الإنسان بفعله ،ويتط َّلع إليه ،والله سبحانه يقبل الفعل ،وير ِّتب عليه أثره ،تبع ًا لهذا القصد .وكل ما شرعه الله للإنسان إ َّنما القصد منه بناء صلة الإنسان بالله تعالى في أعماله الاختيارية ،كما هي الصلة به مع أفعاله الاضطرارية .وحول هذا المعنى يقول الشاطبي\" :المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج ال ُمك َّلف من داعية هواه حتى يكون عبد ًا لله اختيار ًا ،كما هو عب ٌد لله اضطرار ًا(((\". ((( الريسوني ،الفكر المقاصدي؛ قواعده وفوائده ،مرجع سابق ،ص.90 ((( الشاطبي ،الموافقات في أصول الشريعة ،مرجع سابق ،ص.318 343
فالن ِّية في فعل الإنسان هي التي تربط عم َله بالمقصد الشرعي ،والن ِّية تتصل بجميع أفعال الإنسان الإرادية؛ إذ \"جرت الأحكام الشرعية في أفعال ال ُمك َّلفين على الإطلاق ،وإ ْن كانت آحادها الخاصة لا تتناهى؛ فلا َع َمل ُيف َر ُض ،ولا حركة ،ولا سكون ُي َّدعى إلا والشريعة عليه حاكمة إفراد ًا وتركيب ًا (((\".وهذا يعني أ َّن ك َّل فع ٍل من أفعال الإنسان الإرادية لله فيه حكم. وقد تع َّرض الشاطبي للتوا ُفق أو التعا ُرض بين الأعمال والمقاصد على حالات، بدأها بقول الرسول ﷺ\" :إ َّنما الأعمال بالن ّيات (((\".فال ُمعت َبر هو ما كان موافق ًا للشرع عمل ًا ون َّي ًة ،وإ ْن كان مخالف ًا مع ن َّية صحيحة فقد ُيعت َبر؛ لأ َّن العمل ذو روح على الجملة، وإ ْن خالف القصد ووافق العمل فإ َّنه جسم بلا روح؛ لأ َّن الأعمال بالن ّيات ،ولأ َّن المقاصد أرواح الأعمال ،وإ ْن كان العمل والقصد مخالفين فلا روح ولا جسد(((. والن ِّية في أ ِّي فعل هي التي تجعل الفعل جزء ًا من إيمان المؤمن ،يتق َّرب به المؤمن من ربه ،ويجعله لون ًا من ألوان عبادته؛ فبعض العبادات هي عبادات فردية ،وبعضها جماعية، وبعضها مجتمعية .فحديث النبي ﷺ\" :الإيمان بض ٌع وسبعون ُشعبة ،أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق\"((( جعل إماطة الأذى من الطريق من ُشعب الإيمان ،التي تبدأ بالتوحيد \"لا إله إلا الله\" ،وتتض َّمن الكثير من متط َّلبات التزكية ،التي تتصل بالأخلاق والفضائل والآداب الاجتماعية ،إضاف ًة إلى ما هو من متط َّلبات العمران ،حتى وصلت إلى إماطة الأذى عن الطريق .ومن المؤ َّكد أ َّن إماطة الأذى عن الطريق لا تقتصر على مثل شوكة أو حجر في طريق رملي في صحراء أو سفح جبل ،وإ َّنما تتض َّمن ش َّق الطرق للسيارات التي تصل القرى والبوادي والأرياف والمدن ،وتمهي َد هذه الطرق بكل ما يي ِّسر ُسبل السير وأساليب الانتقال؛ من :استواء الطريق ،واستقامتها ،واتساعها ،وإنارتها ،وتزويدها بسائر الخدمات والمرافق التي تقتضيها جهود التر ّقي والنهوض بالحالة الحضارية والعمرانية ((( المرجع السابق ،المقدمة التاسعة ،ص.45 ((( البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :بدء الوحي ،باب :كيف كان بدءالوحي إلى رسول الله ﷺ، حديث رقم ،)1( :ص.3 ((( الشاطبي ،الموافقات في أصول الشريعة ،مرجع سابق ،ص.425 ((( مسلم ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،كتاب :الإيمان ،باب :بيان ُشعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان ،حديث رقم ،)35( :ص.48 344
في المجتمع .والطريق هنا قد تكون برية ،أو بحرية ،أو جوية .ومن المؤ َّكد أ َّن اختيار مثال مح َّدد من شعب الإيمان ،مثل إماطة الأذى عن الطريق ،لا يق ِّلل من أهمية الأمثلة الأُخرى، وإ َّنما يأتي التنويه بالمثال المذكور للتنبيه على الحاجة إليه ،والتذكير بأهمية الفعل الذي يقتضيه ،ور َّبما ليمتد تفكير المؤمن إلى غيره من الأمثلة ،وتذكيره بها. والذي يعنينا في التفعيل -في نهاية المطاف -هو \"فِ ْع ُل\" الإنسان ،في مجال إرادته وحريته واختياره ،وهو الفعل الذي يترك آثار ًا في حياته وحياة غيره من الناس ،وفي الطبيعة والبيئة التي يحيا فيها .وقد ر َّتب الله سبحانه على الآثار نتائج عاجلة في الحياة الدنيا ،ونتائج آجلة في الآخرة .وقد تكون الآثار إيجابية محمودة ،وقد تكون غير ذلك. والعقل هو النعمة التي م َّيز الله بها الإنسان ل ُت ِعينه على أداء مهمته في الحياة الدنيا، وجعله سبحانه مسؤولاً عن إعمال عقله وتوظيفه فيما ُخ ِلق له ،كما هو الأمر في أدوات الوعي الأُخرى﴿ .ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ﴾ [الإسراء .]36:ومن حكمة الله سبحانه في الحديث عن العقل أ َّنه لم يتح َّدث عنه بوصفه شيئ ًا له اسم؛ إذ لم َي ِر ِد العقل في القرآن الكريم بصيغة الاسم ،وإ َّنما ورد بوصفه فعل ًا وعمل ًا وممارس ًة وحرك ًة في الحياة الفردية والاجتماعية .ولذلك ،فإ َّن تفعيل العقل يقتضي ممارسة فعل التد ُّبر في آيات الله المسطورة والمنظورة ،والنظر ،والتب ُّصر ،والتف ُّكر ،والتذ ُّكر ،والاعتبار ،والتف ُّقه. ... ويربط الشيخ العلواني بين اعتماد \"منظومة المقاصد العليا الحاكمة\" والآثار المتر ِّتبة على تفعيلها ،أو تشغيلها -بحسب اصطلاحه .-فإذا جرى \"تشغيلها\" ،فإ َّنها \"سوف تضفي حيوية وفاعلية كبيرة على \"خصائص الشريعة\" .فمنظومة المقاصد كما جرى عرضها في التراث الأصولى ،ومنظومة المقاصد العليا (التوحيد ،والتزكية ،والعمران) التي يقترحها العلواني إذا ُش ِّغلتا مع ًا ،فإ َّنهما ُت ْح ِدثان في التراث الفقهي والأصولي تجديد ًا وتنقي ًة لفقه التقليد بآثاره السلبية التي \"جعلت بين الفقه والتربية حاجز ًا كثيف ًا \".ويق ِّرر العلواني أ َّن خصائ َص الشريعة الخاتمة هي أسا ٌس تنطلق منه منظومة القيم العليا ،وتستطيع هذه المنظومة عند اعتمادها أ ْن \"تخرج تلك الخصائص من دائرة الفضائل المج َّردة إلى دائرة الفاعلية والعمل(((\". ((( العلواني ،مقاصد الشريعة ،مرجع سابق ،ص.143-142 345
لقد كان علم أصول الفقه مجموعة من القواعد التي تن ِّظم عملية استنباط الأحكام الفقهية ،ث َّم أصبح موضوع المقاصد مبحث ًا من مباحث علم الأصول ،وتط َّور الوعي بالمقاصد عبر مراحل متتابعة ،ع َّبرت عن اجتهادات العلماء في التعامل مع المشكلات المتج ِّددة عبر العصور .ولا شك في أ َّن واقع المجتمعات الإسلامية اليوم يتصل اتصالاً وثيق ًا بنظام العا َلم المعاصر ،وما يمارسه هذا النظام من إكراهات وضغوط ر َّبما لم يألفها الفقه الإسلامي من قب ُل .ولذلك ،فإ َّن ما ُينت َظر من علماء الأُ َّمة اليوم من اجتهاد يحتاج إلى ما س ّماه النجار \"نهضة مقاصدية\" في الفقه الإسلامي ،تكون وظيفتها تفعيل مقاصد الشريعة\" ،بإعادة تحريرها وتقريرها وتصنيفها ،وبالتحقيق فيها من حيث ذاتها ،ل ُيبنى ك ُّل حكم على المقصد المناسب له ،وبالتحقيق في مآلاتها ،ل ُتبنى الأحكا ُم على المقاصد التي تتح َّقق في الواقع ،وتعالج المشاكل الواقعية .ويقع اليوم ضر ٌر كبي ٌر بالأُ َّمة نتيجة الغفلة عن هذا التفعيل للمقاصد في مراحله المختلفة(((\". ولا شك في أ َّن تفعيل المقاصد يخت ُّص بالبحث عن وسائل تحقيقها .فحفظ العقل -مثل ًا -هو أح ُد المقاصد الخمسة التي أكثر الأصوليون الحديث عنها ،وتحقيق هذا المقصد يتط َّلب وسائل متعددة ،منها :التربية الفكرية من أجل تكوين العقلية العلمية ،وبناء المنهج العلمي والتعليم .وتقوم هذه التربية على عدد من المق ِّومات ،منها :التع ُّبد بالتف ُّكر والنظر العقلي ،ورف ُض الظ ِّن في موضع اليقين ،والسم ُّو بالنفس عن الأهواء ،ورف ُض التقليد الأعمى للآباء ،ورعاي ُة سنن الله في الكون والمجتمع ،وغي ُر ذلك. إ َّن بناء المنهج العلمي في النظر والبحث ،وبناء المعرفة واختبارها وتوظيفها، يتط َّلب معرفة أنواع المناهج والوظيفة التي يمكن أ ْن يح ِّققها ك ٌّل منها؛ ف َث َّمة طر ٌق متعددة للاستدلال العقلي والتجريبي والاستقراء ،وغير ذلك كثير ،يمارسها الباحثون في مناهج البحوث التاريخية والوصفية والتجريبية ،وغيرها .وعن طريق مق ِّومات التربية العقلية وبناء مناهج النظر والتفكير والبحث ،يمكن للعملية التعليمية والتربوية أ ْن تح ِّدد أنواع العلوم المطلوب تعليمها ،والمستوى المناسب تعليمه من كل نوع ،وتوزيع العلوم وموضوعاتها على مراتب الضرورة والحاجة والتحسين. ((( النجار ،مراجعات في الفكر الإسلامي ،مرجع سابق ،ص.138-137 346
ثاني ًا :تفعيل المقاصد يحتاج إلى الفقيه المقاصدي: الفقيه في المصطلح الإسلامي هو العالِم بأحكام الشريعة الإسلامية ،الذي يتعامل مع القضايا التي ُيط َلب فيها ال ُحكم الشرعي ،ور َّبما ُيص ِدر ُحكم ًا في قضية ،و ُيفتي في مسألة، و ُيق ِّدم علم ًا في موضوع ،ويكون \"الفقي ُه الح ُّق\" في كل ذلك فقيه ًا مقاصدي ًا \" ُمستح ِضر ًا في نظره الفقهي المقاصد المبتغاة من تلك الأحكامُ ،متح ِّري ًا -في بنائها بالاجتهاد -ما هو مح ِّق ٌق منها للمصلحة ،ودار ٌئ للمفسدة \".ويتح َّقق للفقيه المقاصدي ذلك الاستحضار وهذا التح ّري في\" :مراحل ثلاث على الفقيه المقاصدي أ ْن يستصحبها في نظره ،كي تكون مقاص ُد الشريعة فاعل ًة في إنتاج الأحكام التي تعالج القضايا المطروحة المعالجة الناجعة الصحيحة :تقرير المقاصد وتم ُّث ُلها تص ُّور ًا علمي ًا ،والتح ُّقق في ذات المقاصد لتنسيبها إلى أحكامها ،والتحقيق في مآلات المقاصد عند تنزيل الأحكام في الواقع(((\". وأهمية الوعي بهذه المراحل تأتي من المعرفة النظرية والعملية لمقاصد القضية المح َّددة التي يبتغي الفقيه لها حكم ًا ،ومن المعرفة بأ َّن المقاصد متعددة في النوع، ومتفاوتة في الق َّوة؛ فلا ُين َسب ما هو ضرور ٌي إلى ما هو حا ِج ٌّي أو تحسينِ ٌّي ،أو العكس. وتأتي كذلك من العلم بأ َّن ملابسات الواقع قد تحول دون ما تخ َّيله الفقيه من مآلات. فالفقية المقاصدي عند النجار هو الذي يفقه أمور ًا ثلاث ًة :العلم بمقاصد الموضوع المراد بيان الحكم فيه ،وبمراتب المقاصد وأنواعها التي تخت ُّص بذلك الموضوع ،وتقدير مآل الحكم في ذلك الموضوع على ضوء ملابسات الواقع زمان ًا ومكان ًا. غير أ َّن المهم ،ور َّبما الجديد في معالجة النجار لتفعيل المقاصد ،هو في ضرب الأمثلة على المراحل الثلاث بصورة تتسع للتفكير في الأحكام الشرعية الخاصة بالحياة المعاصرة ومشكلاتها في السياقات المحلية والعالمية؛ من :امتهان كرامة الإنسان وطمس فطرته ،وهدم نظام الأسرة ،ومخاطر التل ُّوث البيئي ،وأمثال ذلك .وهذا يعني أ َّن الفقيه المقاصدي هو الفقيه بالموضوع الذي ُيراد بيان الحكم فيه؛ فالموضوع قد يلابسه ظهور أهمية وحاجة لم تكن ظاهرة من قب ُل ،وهو ما يتط َّلب تجديد ًا في تصنيفات المقاصد ،فلا ((( المرجع السابق ،ص.133-132 347
ُيلت َزم بالضرورة بما ورد في التراث ،وقد تتزاحم فيه مقاصد مختلفة ،تضطر الفقيه إلى الموازنة وفق ق َّوة الأثر من التحقيق النظري والعملي لمصلح ٍة ،أو در ِء مفسد ٍة .وقد تبدو ق َّوة الأثر من التحقيق العملي القريب في نتيجة معينة ،ث َّم تؤول -في نهاية الأمر -إلى نتيجة مختلفة ،فيكون على الفقية المقاصدي \"أ ْن يستشرف مستقبل المقصد الذي ح َّدده ...لأ َّن للواقع الجاري منطق ًا خاص ًا به ،يكون أحيان ًا معاند ًا للمنطق النظري .فعلى الفقيه أ ْن يم َّد ببصره المقاصدي إلى ذلك المنطق العملي ،ولع َّل هذا هو المقصود من اشتراط أ ْن يكون المجتهد فقيه ًا بأحكام الشرع ،وفقيه ًا أيض ًا بأحكام الواقع وملابساته(((\". ويستشهد النجار على أهمية فقه الواقع بن ٍّص للشاطبي ،يشير إلى ضرورة هذا الفقه رغم الصعوبات التي تحول دون َت َح ُّق ِقه على الوجه الأمثل ،و ُيع ِّقب على ذلك بقوله\" :ولمعالجة هذه الصعوبات في تب ُّين أ ْي ُلو َلة المقاصد يمكن للفقيه أ ْن ي َّتبع قواعد وطرق ًا ُت ِعينه على بعضها مكتشفا ُت العلوم الاجتماعية والإحصائية والنفسية .ومن ذلك: العلم بالمؤ ِّثرات في أ ْي ُلو َلة المقاصد نظري ًا من خصوصيات ذاتية ،وخصوصيات ظرفية، وخصوصيات واقعية ،وكذلك ا ِّتباع مسالك الكشف عن مآلات المقاصد واقعي ًا(((\". ويفيدنا هذا المنهج الذي يستخدمه النجار في الحديث عن تفعيل المقاصد في أ ِّي مجا ٍل من مجالات الحياة الاجتماعية .فالفقية المقاصدي ليس الفقيه المتخ ِّصص في عل ٍم من العلوم الدينية؛ إذ َث َّمة فق ٌه في العمل التربوي والتعليمي ،وفق ٌه في العمل السياسي، وفق ٌه في العمل الاقتصادي ...،وحتى يتح َّقق تفعيل المقاصد في هذه الميادين؛ لا ُب َّد من وجود الفقيه المقاصدي التربوي ،والفقيه المقاصدي السياسي ،وهكذا. ثالث ًا :الأفكار بين الفاعلية والتفعيل: َث َّمة أفكا ٌر صحيحة في ذاتها ،لكنَّها قد لا تكون صالحة للتطبيق في ظروف معينة من الزمان والمكان والحال ،وهناك أفكا ٌر نظرية تحتاج أ ْن تنتقل إلى التطبيق العملي لهذه الأفكار .وإذا كانت الأفكار هي نتائج تفكير الإنسان ،فإ َّن الإنسان كذلك هو الذي ُيتو َّقع أ ْن ُيط ِّبقها حتى تصل نتيجة فِ ْعل الإنسان الرشيد إلى نهايته المنشودة ،وبالكفاءة المطلوبة. ((( المرجع السابق ،ص.136 ((( المراجع السابق ،ص .137 348
والفكر َ -م ْهما كانت صحته وجودته -يكون في حالة النهوض فكر ًا واضح ًا ،مح َّدد ًا، مبدع ًا ،متج ِّدد ًا ،ف ّعالاً ،ممتلئ ًا بالثقة والمبادأة .أ ّما في حالة التخ ُّلف فإ َّن الفكر نفسه يكون في حال ٍة غامض ٍة ،مبهم ٍة ،ويميل إلى المحافظة ،والجمود ،والعزلة ،والتقليد .وقد م َّيز مالك بن نبي بين مفهوم الفكرة الأصيلة والفكرة الف ّعالة؛ فأصالة الفكرة لا تعني فعاليتها، والفكرة الف ّعالة لا تعني أ َّنها صحيحة. إ َّن الفعالية عند مالك بن بني هي فاعلية الإنسان القادر على شحن الفعالية في الأفكار؛ سواء كانت هذه الأفكار صحيحة ،أو غير صحيحة .فالأفكار التي تصنع التاريخ هي الأفكار الف ّعالة ،حتى لو لم تكن صحيحة .إ َّن وجود \"فكرة أصيلة لا يعني ذلك فعاليتها الدائمة ،وفكرة ف ّعالة ليست بالضرورة صحيحة ،والخلط بين هذين الوجهين يؤدي إلى أحكام خاطئة ،و ُتل ِحق أشد الضرر في تاريخ الأمم ،حينما يصبح هذا الخلط في أيدي المتخ ِّصصين في الصراع الفكري وسيل ًة لاغتصاب الضمائر(((\". وبعض الأفكار لا تجد فعاليتها إلا بعد إعطائها نفح ًة روحي ًة ،تكسبها شيئ ًا من القداسة .ويرى مالك بن نبي أ َّن حضارة القرن العشرين تح َّققت عندما \"أودعت أوروبا القرن التاسع عشر قدرها في ثلاث كلمات :العلم ،التق ُّدم ،الحضارة .فكانت هذه أفكار ًا مقدسة ،سمحت لها أ ْن ترسي داخل حدودها قواعد حضارة القرن العشرين ،وأ ْن تبسط خارج حدودها سلطتها على العا َلم .وحتى قيام الحرب العالمية الأُولى ،لم تفلح أ َّية (هرطقة) ،ولم تتمكن أ َّية معارضة من مواجهة هذه الأفكار .لقد كانت ف ّعالة! لا فرق: أصحيحة هي أم باطلة ،طالما ك ٌّل ينحني للقانون الأكثر فعالية والأقوى(((\". وفعالية الإنسان عند مالك بن نبي تتح َّدد في النظر في طبيعة الإنسان ،وفهمنا له؛ فهو\" :يم ِّثل معادلتين :معادلة تم ِّثل جوهره إنسان ًا َصنَ َعه َم ْن أتقن كل َّ شي ٍء ُصن َعه ،ومعادلة ثانية تم ِّثله كائن ًا اجتماعي ًا يصنعه المجتمع .ومن الواضح أ َّن هذه المعادلة الأخيرة هي التي تح ِّدد فعالية الإنسان؛ إنسان في جميع أطوار التاريخ ،لا يتغ َّير فيه شيء ،بل تتغ َّير ((( ابن نبي ،مالك .مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي ،ترجمة :بسام بركة وأحمد شعبو ،إشراف وتقديم :عمر مسقاوي ،بيروت ودمشق :دار الفكر المعاصر ودار الفكر2002 ،م ،ص.102 ((( المرجع السابق ،ص.105 349
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210
- 211
- 212
- 213
- 214
- 215
- 216
- 217
- 218
- 219
- 220
- 221
- 222
- 223
- 224
- 225
- 226
- 227
- 228
- 229
- 230
- 231
- 232
- 233
- 234
- 235
- 236
- 237
- 238
- 239
- 240
- 241
- 242
- 243
- 244
- 245
- 246
- 247
- 248
- 249
- 250
- 251
- 252
- 253
- 254
- 255
- 256
- 257
- 258
- 259
- 260
- 261
- 262
- 263
- 264
- 265
- 266
- 267
- 268
- 269
- 270
- 271
- 272
- 273
- 274
- 275
- 276
- 277
- 278
- 279
- 280
- 281
- 282
- 283
- 284
- 285
- 286
- 287
- 288
- 289
- 290
- 291
- 292
- 293
- 294
- 295
- 296
- 297
- 298
- 299
- 300
- 301
- 302
- 303
- 304
- 305
- 306
- 307
- 308
- 309
- 310
- 311
- 312
- 313
- 314
- 315
- 316
- 317
- 318
- 319
- 320
- 321
- 322
- 323
- 324
- 325
- 326
- 327
- 328
- 329
- 330
- 331
- 332
- 333
- 334
- 335
- 336
- 337
- 338
- 339
- 340
- 341
- 342
- 343
- 344
- 345
- 346
- 347
- 348
- 349
- 350
- 351
- 352
- 353
- 354
- 355
- 356
- 357
- 358
- 359
- 360
- 361
- 362
- 363
- 364
- 365
- 366
- 367
- 368
- 369
- 370
- 371
- 372
- 373
- 374
- 375
- 376
- 377
- 378
- 379
- 380
- 381
- 382
- 383
- 384
- 385
- 386
- 387
- 388
- 389
- 390
- 391
- 392
- 393
- 394
- 395
- 396
- 397
- 398
- 399
- 400
- 401
- 402
- 403
- 404
- 405
- 406
- 407
- 408
- 409
- 410
- 411
- 412
- 413
- 414
- 415
- 416
- 417
- 418
- 419
- 420
- 421
- 422
- 423
- 424
- 425
- 426
- 427
- 428
- 429
- 430
- 431
- 432
- 433
- 434
- 435
- 436
- 437
- 438
- 439
- 440
- 441
- 442
- 443
- 444
- 445
- 446
- 447
- 448
- 449
- 450
- 451
- 452
- 453
- 454
- 455
- 456
- 457
- 458
- 459
- 460
- 461
- 462
- 463
- 464
- 465
- 466
- 467
- 468
- 469
- 470
- 471
- 472
- 473
- 474
- 475
- 476
- 477
- 478
- 479
- 480
- 481
- 482
- 483
- 484
- 485
- 486
- 487
- 488
- 489
- 490
- 491
- 492
- 493
- 494
- 495
- 496
- 497
- 498
- 499
- 500
- 501
- 502
- 503
- 504
- 505
- 506
- 507
- 508
- 509
- 510
- 511
- 512
- 513
- 514
- 515
- 516
- 517
- 518
- 519
- 520
- 521
- 522
- 523
- 524
- 525
- 526
- 527
- 528
- 529
- 530
- 531
- 532
- 533
- 534
- 535
- 536
- 537
- 538
- 539
- 540
- 541
- 542
- 543
- 544
- 545
- 546
- 547
- 548
- 549
- 550
- 551
- 552
- 553
- 554
- 555
- 556
- 557
- 558
- 559
- 560
- 561
- 562
- 563
- 564
- 565
- 566
- 567
- 568
- 569
- 570
- 571
- 572
- 573
- 574
- 575
- 576
- 577
- 578
- 579
- 580
- 581
- 582
- 583
- 584
- 585
- 586
- 587
- 588
- 589
- 590
- 591
- 592
- 593
- 594
- 595
- 596
- 597
- 598
- 599
- 600
- 601
- 602
- 603
- 604
- 605
- 606
- 607
- 608
- 609
- 610
- 611
- 612
- 613
- 614
- 615
- 616
- 617
- 618
- 619
- 620
- 621
- 622
- 623
- 624
- 625
- 626
- 627
- 628
- 629
- 630
- 631
- 632
- 633
- 634
- 635
- 636
- 637
- 638
- 639
- 640
- 641
- 642
- 643
- 644
- 645
- 646
- 647
- 648
- 649
- 650
- 651
- 652
- 653
- 654
- 655
- 656
- 657
- 658
- 659
- 660
- 661
- 662
- 663
- 664
- 665
- 666
- 1 - 50
- 51 - 100
- 101 - 150
- 151 - 200
- 201 - 250
- 251 - 300
- 301 - 350
- 351 - 400
- 401 - 450
- 451 - 500
- 501 - 550
- 551 - 600
- 601 - 650
- 651 - 666
Pages: