Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

Published by آيه الشوابكه, 2021-04-03 00:56:36

Description: الفكر التربوي الاسلامي- ملكاوي

Search

Read the Text Version

‫التعامل في داخل المجتمع سبب ًا \"من أسباب الاستقرار الذي يقتضيه العمل التربوي\"(((‪،‬‬ ‫وأهم ما في هذه الدلالة هو تكريم الفرد الإنساني وتحريره‪ ،‬وبناء نموذج لشخصية الإنسان‪،‬‬ ‫وتكليف الدولة والمجتمع بحسن صناعتها‪ ،‬لتكون لبن ًة في بناء المجتمع والأُ َّمة‪ .‬ذلك أ َّن‬ ‫\"هذه المقاصد تؤدي إلى أ ْن يرقب المتعاملون فيما بينهم أعلى ُمثل العدل والإحسان‬ ‫والتضامن في بلوغ المصلحة الشرعية المقصودة من التعامل\"‪ ...‬ولاح َظ أ َّن صف َة الشمول‬ ‫والعموم في هذه المقاصد ُتو ِّجه التعاملات في المجتمع إلى \"نماذج مستقرة مفهومة من‬ ‫الأحكام المتفقة مع نظام الشرع ومقاصده\"‪ ،‬وأ َّن صف َة الثبات في هذه المقاصد تحمي‬ ‫تعاملات المجتمع من التغ ُّير المفاجئ يما يضمن انطلاق حركة المجتمع في أ ْم ٍن وثقة‪(((.‬‬ ‫والألفاظ العربية ذات الصلة بالمقاصد والأهداف التربوية لها ما يقابلها في اللغات‬ ‫الأُخرى‪ .‬ويلاحظ كذلك أ َّن ألفاظ اللغات الأُخرى تتداخل وتتمايز في مستوى التحديد‬ ‫لما هو مطلوب ضمن زمن مح َّدد‪ ،‬والجهد المطلوب بذله‪ .‬ففي اللغة الإنجليزية ‪-‬مثل ًا‪-‬‬ ‫ُتستخ َدم في التعليم‪ ،‬وفي غيره من برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية‪ ،‬ألفا ٌظ‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫(‪ ).Purpose, Aim, Goal, Objective, Desired result, etc‬حيث يدل لفظ ‪ ،aim‬ولفظ‬ ‫‪ purpose‬على النتيجة المرغوب فيها ‪ ،desired result‬بينما يدل لفظ ‪ ،goal‬ولفظ ‪objective‬‬ ‫على سلسلة العمليات التي يؤدي ك ٌّل منها إلى التق ُّدم في الوصول إلى الغرض النهائي‪.‬‬ ‫ويكون لفظ ‪ aim‬أكثر الألفاظ عمومية عندما يريد الطالب أ ْن يصبح طبيب ًا‪ ،‬بينما يكون لفظ‬ ‫‪ objective‬أكثرها تحديد ًا عندما يريد الأستاذ ‪-‬بعد انتهاء المحاضرة الصباحية هذا اليوم‪ -‬أ ْن‬ ‫يح ِّدد الطالب وظائف أعضاء الجهاز الهضمي‪(((.‬‬ ‫((( علي‪ ،‬سعيد إسماعيل‪ .‬نشأة التربية الإسلامية (موسوعة التطور الحضاري للتربية الإسلامية‪ ،)2-‬القاهرة‪ :‬دار‬ ‫السلام‪2010 ،‬م‪ ،‬ص ‪.31‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.32-31‬‬ ‫((( يقترح التربويون أ ْن يتصف الهدف التربوي بخمس صفات‪ ،‬يجمعها لفظ مختصر ‪ acronym‬هو ‪ .SMART‬وهذه‬ ‫الصفات هي‪ :‬مح َّدد ‪ ،S – Specific‬يمكن قياسه ‪ ،M – Measurable‬يمكن تحقيقه ‪ ،A – Attainable‬واقعي‬ ‫‪ ،R – Realistic‬له وقت ‪.T- Timed‬‬ ‫‪300‬‬

‫المبحث الثاني‬ ‫مرجعية المقاصد والأهداف التربوية‬ ‫تتم َّثل المرجعية القرآنية للمقاصد التربوية في القرآن كله؛ فهو كتاب هداية إلى‬ ‫صراط الله المستقيم‪ ،‬يهدي َمن سلك هذا الصراط؛ من‪ :‬فرد‪ ،‬أو جماعة‪ ،‬أو ُأ َّمة‪ ،‬في الحياة‬ ‫الدنيا‪ ،‬إلى الاستقامة لتحقيق مقاصد هذه الحياة من خير وسعادة‪ ،‬وأمن وسلام‪ ،‬لينتهي به‬ ‫المطاف إلى ما يريده الله في الحياة الآخرة من السعادة الأبدية والسلام الدائم‪.‬‬ ‫ومع أ َّننا نرى الإسلا َم مدرس ًة للإنسان‪ ،‬والقرآ َن الكريم كله المنها َج التربوي لهذه‬ ‫المدرسة‪ ،‬فإ َّننا نج ُد في القرآن الكريم إشارا ٍت مباشر ًة إلى المقاصد التربوية؛ فأول آيات‬ ‫القرآن نزولاً كانت آيات علم وتربية‪﴿ .‬ﭻﭼﭽﭾﭿ﴾ [العلق‪ .]1:‬ونحن نفهم أ َّن الأمر‬ ‫بالقراءة في أول لفظ قرآني يعني أ َّن القراءة هي أساس العلم والتع ُّلم في هذا الدين الخاتم‪.‬‬ ‫وقد جاء الأمر بقراءتين وردتا نص ًا في هذه الآيات الخمس‪:‬‬ ‫القراءة الأُولى‪﴿ :‬ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ﴾ [العلق‪ .]2-1‬فالقراءة هنا‬ ‫تعني التف ُّكر والتأ ُّمل في مخلوقات الله لنقرأ فيها حكمته سبحانه من الخلق‪ ،‬ونتع َّلم بها‬ ‫أساليب التم ُّكن‪ ،‬واكتساب المعايش‪ ،‬وبناء العمران‪.‬‬ ‫والقراءة الثانية‪﴿ :‬ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ﴾ [العلق‪.]5-3:‬‬ ‫فالقراءة هنا تعني قراءة ما ُكتِب بالقلم‪ ،‬فتكون الكتابة أساس ًا لما سوف ُيق َرأ بعد ذلك‪.‬‬ ‫وهذه القراءة متلازمة مع الكتابة‪ ،‬والقراءة والكتابة ستكونان أساس ًا للعلم والتع ُّلم والتعليم‬ ‫في الحضارة البشرية‪.‬‬ ‫لقد جاء الأمر بالقراءتين مع ًا؛ ما يعني أ َّن كل قراءة ُت ِعين الأُخرى‪ ،‬وتتكامل معها‪.‬‬ ‫ث َّم إ َّن القراءة المأمور بها هي قراءة باسم الر ِّب‪ ،‬والر ُّب سبحانه هو المر ّبي الذي وضع‬ ‫للإنسان نظام ًا للتربية؛ وضعه على علم وبصيرة بما يصلح لهذا الإنسان؛ فهو سبحانه الذي‬ ‫خلق الإنسان‪ ،‬ويعلم ما يصلح له‪ .‬ونظام التربية هذا نظام عام شامل يصلح للناس جميع ًا‬ ‫عبر الزمان والمكان‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإ َّن من المؤ َّكد أ َّنه يصلح أساس ًا للأنظمة الخاصة بأ َّية ُأ َّمة‪،‬‬ ‫وفي أ ِّي وقت‪.‬‬ ‫‪301‬‬

‫ودستور التربية في صورته الكاملة التامة هو هذا القرآن كله؛ فهو ﴿ﮔﮕﮖﮗ‬ ‫ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ﴾ [هود‪\" .]1:‬والإحكام‪ :‬إتقان الصنع‪ ،‬مشتق من الحكمة‪...‬‬ ‫وهي إتقان الأشياء بحيث تكون سالمة من الأخلال التي َت ْع ِرض لنوعها؛ أ ْي جعلت آياته‬ ‫كاملة في نوع الكلام‪ ،‬بحيث سلمت من مخالفة الواقع‪ ،‬ومن إخلال المعنى واللفظ‪...‬‬ ‫والتفصيل‪ :‬التوضيح والبيان‪ ،‬وهو مشتق من الفصل بمعنى التفريق بين الشيء وغيره‬ ‫بما يم ِّيزه‪ ...‬ومن ﴿ َل ُد ْن َح ِكي ٍم َخبِي ٍر﴾؛ أ ْي من عند الموصوف بإبداع الصنع لحكمته‪،‬‬ ‫وإيضاح التبيين لق َّوة علمه‪ ،‬والخبير العالِم بخفايا الأشياء‪ ...‬فالحكيم مقابل أحكمت‪،‬‬ ‫والخبير مقابل ف ّصلت‪ ،‬وهما‪ ...‬متع ّلق العلم ومتع ّلق القدرة؛ إذ القدر ُة لا تجري إلا على‬ ‫وفق العلم‪ (((\".‬وهو ﴿ﭘﭙ ﭚﭛﭜﭝﭞ﴾ [ ُف ِّصلت‪\" .]3:‬فهذه الآيات‬ ‫كاملة البيان‪ ،‬خالصة من الالتباس‪ ،‬واضحة الأغراض‪ ...‬في دلالة كل آية على المقصود‬ ‫بها‪ ...‬والقرآن‪ :‬الكلام المقروء المتلو‪ ،‬وكونه قرآن ًا من صفات كماله‪ ...‬وهو ُمو َّجه‬ ‫﴿ﭝﭞ﴾‪ ...‬يعلمون \"فوائد تنزيله وتفصيله‪ ...‬فكأ َّنه لم ينزل إلا لهم؛ أ ْي فلا بدع إذا‬ ‫أعرض عن فهمه المعاندون‪ ،‬فإ َّنهم قوم لا يعلمون‪﴿ (((\".‬ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ‬ ‫ﮖﮗﮘﮙﮚ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠ﴾ [ ُف ِّصلت‪\" .]42-41:‬والعزيز النفيس‪ ،‬وأص ُله ِم َن‬ ‫ال ِع َّزة وهي المنَعة؛ لأ َّن الشيء النفيس ُيدا َفع عنه‪ ،‬و ُيحمى عن النبذ‪ ،‬فإ َّنه بين الإتقان وعلو‬ ‫المعاني ووضوح ال ُح َّجة‪ ،‬ومثل ذلك يكون عزيز ًا‪ ،‬والعزيز أيض ًا الذي َيغ ِلب ولا ُيغ َلب‪...‬‬ ‫وأ َّنه لا يتط َّرقه الباطل‪ ،‬ولا يخالطه صري ُحه ولا ضمن ُّيه؛ أ ْي لا يشتمل على الباطل بحال‪...‬‬ ‫والمقصود استيعاب الجهات تمثيل ًا لحال انتفاء الباطل عنه‪ ،‬في ظاهره‪ ،‬وفي تأويله‪(((\".‬‬ ‫فمنهاج التربية هو هذا القرآن الكريم‪ ،‬والمقصد من تنزيله هو الهداية إلى ما يص ِلح الناس‬ ‫في جميع أزمانهم‪ ،‬وفي جميع شؤون حياتهم الدنيا‪ ،‬ويهديهم إلى نعيم حياتهم الأُخرى‪:‬‬ ‫‪ -‬فهو هداية تامة كاملة تتض َّمن من العناصر ما لا يحتاجون معها إلى شيء آخر‪ ،‬غير‬ ‫التطبيق‪ ،‬والتجريب‪ ،‬واكتساب الخبرة‪ ،‬والتم ُّتع بنتائج التطبيق‪﴿ .‬ﭯﭰ‬ ‫ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ﴾ [النحل‪ .]89:‬وهو ِم ْن َث َّم بيا ٌن‬ ‫((( ابن عاشور‪ ،‬تفسير التحرير والتنوير‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،11‬ص‪.315-314‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،24‬ص‪.231-230‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،24‬ص‪.309-308‬‬ ‫‪302‬‬

‫تفصيل ٌّي وص َل ح َّد التمام‪ ،‬يجعل ال ُمتل ّقين له في زمن التنزيل وفيما بعده من أزمان‬ ‫يتف َّكرون فيما وراء المعرفة المباشرة لمعاني الآيات‪ ،‬وفيما وراء تطبيقها المباشر‬ ‫بحضور الرسول المبين‪﴿ .‬ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ‬ ‫ﭮ﴾ [النحل‪ .]44:‬وبذلك يكون القرآن هداي ًة للناس في كل زمان‪.‬‬ ‫‪ -‬وهو رحمة بالناس؛ لكيلا يشقوا في الضلال‪ ،‬وهم يتن َّكبون هذه الهداية‪﴿ .‬ﰀﰁ‬ ‫ﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎ﴾ [النحل‪.]64:‬‬ ‫‪ -‬وهو نو ٌر‪ ،‬يخرجون به من ظلمات الجهل والشرك والضلال؛ ليكونوا على ب ِّينة‬ ‫لا يلابسها ش ٌّك‪ ،‬ووضوح لا يغ ِّشيه غب ٌش فيه‪ ،‬واستقامة لا يرافقها انحرا ٌف‪ .‬قال‬ ‫تعالى‪﴿ :‬ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ‬ ‫ﭰﭱﭲ﴾ [إبراهيم‪ ،]1:‬وقال سبحانه‪﴿ :‬ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ‬ ‫ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯳ‬ ‫ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ﴾ [النساء‪.]175-174:‬‬ ‫‪ -‬وهو برنامج عمل‪ ،‬وخطة تربوية متد ِّرجة‪ ،‬تتر َّفق بالناس‪ ،‬وتنتقل بهم خطوة بعد‬ ‫خطوة‪ ،‬وتستجيب لما يكون من أحداث‪ ،‬ويستج ُّد من قضايا‪ .‬ولذلك لم ينزل‬ ‫القرآن جمل ًة واحد ًة‪ ،‬ث َّم قيل للناس‪ :‬هذا نظام حياتكم‪ ،‬فاقرأوه وط ِّبقوه‪ ،‬وإ َّنما‬ ‫ُأن ِزل على نب ٍّي منهم‪ ،‬يخاطبهم بما يفهمونه‪ .‬وكان هذا القرآن‪-‬الخطة التربوية‬ ‫ينزل بالآية أو الآيات القلائل‪ ،‬في موضوعات مح َّددة‪ ،‬فيتلوها النب ُّي عليهم‪،‬‬ ‫ويأمر بكتابتها‪ ،‬وحفظها‪ ،‬وتطبيق ما فيها من توجيهات‪﴿ .‬ﭜﭝﭞﭟﭠ‬ ‫ﭡﭢﭣﭤ﴾ [الإسراء‪]106:‬؛ \"أي أنزلناه ُمنَ َّجم ًا ُمف َّرق ًا‪ ،‬غير ُمجت ِم ٍع ُص ْبر ًة‬ ‫واحد ًة‪ .‬يقال‪ :‬ف َّرق الأشياء إذا باعد بينها‪ ،‬وف َّرق ال ُّص ْبرة إذا ج َّزأها‪ .‬و ُيط َلق ال َف ْرق‬ ‫على البيان؛ لأ َّن البيان ُيشبِه تفريق الأشياء المختلطة‪ ،‬فيكون \" َف َر ْقنَا ُه\"‪ ‬محتمل ًا‬ ‫معنى ب َّينّاه وف َّصلناه‪ ...‬وقد ُع ِّلل بقوله‪﴿ :‬ﭞﭟﭠﭡﭢ﴾؛ فهما ِع َّلتان‪:‬‬ ‫أ ْن ُيق َرأ على الناس‪ ،‬وتلك ِع َّل ٌة لجعله قرآن ًا‪ ،‬وأ ْن ُيق َرأ على ُم ْكث؛ أي َم ْهل وب ْطء‪،‬‬ ‫وهي ِع َّل ٌة لتفريقه‪ .‬والحكمة في ذلك أ ْن تكون ألفاظه ومعانيه أثبت في نفوس‬ ‫السامعين‪ ...‬ويجوز أ ْن يراد‪ :‬فرقنا إنزاله رعي ًا للأسباب والحوادث‪(((\".‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،15‬ص‪.231‬‬ ‫‪303‬‬

‫فالهداية هي المقصد العام للقرآن الكريم‪ ،‬وكان من الواضح أ َّن هذا المقصد العام‬ ‫يتض َّمن جمل ًة من المقاصد التفصيلية‪ ،‬والمقاصد الفرعية‪ .‬وكانت الدلالة اللغوية للمقصد‬ ‫واضح ًة تمام الوضوح في لغة القرآن وأساليب البيان اللغوي الذي يستعمله‪ .‬ولك ْن‪ ،‬ما‬ ‫نريد أ ْن نؤ ِّكده هنا هو أ َّن مفهوم \"المقاصد\" ليس مفهوم ًا طارئ ًا اكتشفه العلماء السابقون‪،‬‬ ‫أو اللاحقون‪ ،‬وإ َّنما هو نصو ٌص ثابت ٌة في القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية‪ ،‬ومعا ٍن ب ِّين ٌة‪ ،‬كان‬ ‫الصحابة يعرفونها‪.‬‬ ‫يقول ابن الق ِّيم‪\" :‬فإذا تأ َّملت شرائع دينه التي وضعها بين عباده وج ْدتها لا تخرج‬ ‫عن تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان‪ ،‬وإ ْن تزاحمت ُق ِّدم أه ُّمها‬ ‫وأج ُّلها‪ ،‬وإ ْن فاتت أدناها‪ ،‬وتعطيل المفاسد الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان‪ ،‬وإ ْن‬ ‫تزاحمت ُع ِّطل أعظ ُمها فساد ًا باحتمال أدناها‪ .‬وعلى هذا وضع أحكم الحاكمين شرائع‬ ‫دينه دا َّل ًة عليه‪ ،‬شاهد ًة له بكمال علمه‪ ،‬وحكمته‪ ،‬ولطفه بعباده‪ ،‬وإحسانه إليهم‪((( \". ...‬‬ ‫\"كيف والقرآ ُن و ُسنَّ ُة رسو ِل الله ﷺ مملوآن من تعليل الأحكام بال ِح َكم والمصالح‪،‬‬ ‫وتعليل الخ ْلق بهما‪ ،‬والتنبيه على وجوه ال ِح َكم التي لأجلها ش َر َع تلك الأحكام‪ ،‬ولأجلها‬ ‫خ َل َق تلك الأعيان‪ ،‬ولو كان هذا في القرآن وال ُّسنَّة في نحو مائة موض ٍع أو مائتين ل ُس ْقناها‪،‬‬ ‫ولكنَّه يزي ُد على ألف موض ٍع بطر ٍق متن ِّوعة‪َ .‬فتار ًة َيذك ُر لا َم التعليل الصريحة‪ ،‬وتار ًة َيذك ُر‬ ‫المفعول لأجله‪ ،‬الذي هو المقصود بالفعل‪ ،‬وتار ًة َيذك ُر \" ِم ْن أ ْجل\" الصريحة في التعليل‪،‬‬ ‫وتار ًة َيذك ُر أدا َة \" َكي\"‪ ،‬وتار ًة َيذك ُر \"الفاء\" و\"إن\"‪ ،‬وتار ًة َيذك ُر أداة \"لع َّل\" المتض ِّمنة للتعليل‬ ‫المج َّردة عن معنى الرجاء المضاف إلى المخلوق‪ ،‬وتار ًة ُين ِّبه على السبب ب ِذ ْك ِره صريح ًا‪،‬‬ ‫وتار ًة َيذك ُر الأوصاف المشتقة المناسبة لتلك الأحكام‪ ،‬ث َّم ُير ِّت ُبها عليها ترتي َب المس َّببات‬ ‫على أسبابها‪ ...‬وتار ًة يستدعي من عباده التف ُّكر والتأ ُّمل والتد ُّبر والتع ُّقل ل ُح ْسن ما َب َع َث‬ ‫به رسو َله‪ ،‬وش َر َعه لعباده‪ ،‬كما يستدعي منهم التف ُّكر والنظر في مخلوقاته و ِح َك ِمها وما‬ ‫فيها من المنافع والمصالح‪ ...‬والقرآن مملوء من أوله إلى آخره بذكر ِح َكم ال َخ ْلق والأمر‬ ‫ومصالحهما ومنافعهما‪ ،‬وما تض َّمناه من الآيات الشاهدة الدا َّلة عليه‪(((\". ... ،‬‬ ‫((( ابن ق ِّيم الجوزية‪ ،‬أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب (توفي‪751 :‬ﻫ)‪ .‬مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية‬ ‫العلم والإرادة‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد الرحمن بن حسن بن قائد‪ ،‬الرياض‪ :‬دار عالم الفوائد‪1432 ،‬ﻫ‪ ،‬ص‪.915-912‬‬ ‫((( المرجع السابق‪.‬‬ ‫‪304‬‬

‫وفي \"إعلام الموقعين\" يقول ابن الق ِّيم ُمع ِّبر ًا عن وعي الصحابة بمسألة المقاصد‪،‬‬ ‫ومرجعيتها في ال ُّسنة النبوية‪\" :‬وقد كان الصحاب ُة أفه َم الأُ َّمة لمراد نب ِّيها‪ ،‬وأتب َع له‪ ،‬وإ َّنما‬ ‫كانوا ي َد ْن ِد ُنون حول معرفة مراده ومقصوده‪ ،‬ولم يكن أح ٌد منهم يظهر له ُمرا ُد رسول الله‬ ‫ﷺ ث َّم َي ْع ِد ُل عنه إلى غيره ألب َّتة‪ .‬والعلم بمراد المتكلم ُيع َرف تار ًة من عموم لفظه‪ ،‬وتار ًة‬ ‫من عموم ِع َّلته‪ ،‬والحوالة على الأول أوض ُح لأرباب المعاني والفهم والتد ُّبر‪(((\".‬‬ ‫والعلوم التي نشأت بعد ذلك في ديار الإسلام إ َّنما بدأت من ذلك الفهم المباشر‬ ‫للقرآن الكريم‪ ،‬والبيان المباشر للنبي ‪ ،‬ث َّم َن َم ْت وتط َّورت وأصبحت علوم ًا‬ ‫وصناعات متخ ِّصصة؛ فالقرآن الكريم‪\" :‬نزل بلغة العرب‪ ،‬وعلى أساليب بلاغتهم‪ ،‬فكانوا‬ ‫ك ُّلهم يفهمونه‪ ،‬ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه‪ ،‬وكان ينز ُل ُجمل ًا ُجمل ًا‪ ،‬وآيات‬ ‫آيات؛ لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع‪ ...‬وكان النبي ﷺ يب ِّين المجمل‪،‬‬ ‫ويم ِّيز الناسخ من المنسوخ‪ ،‬ويع ِّرفه أصحا َبه فعرفوه‪ ،‬وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى‬ ‫الحال‪ ...‬وتداول ذلك التابعون من بعدهم‪ ،‬و ُن ِقل ذلك عنهم‪ ،‬ولم يزل كذلك متناقل ًا بين‬ ‫الصدر الأول والسلف‪ ،‬حتى صارت المعارف علوم ًا‪ ،‬و ُد ِّونت الكتب‪(((\".‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬فإ َّن مفهوم \"المقاصد\" في الإسلام مفهو ٌم قدي ٌم‪ ،‬ارتبط بالقواعد الأصولية‬ ‫لاستنباط الأحكام الشرعية من أد َّلتها‪ ،‬حيث كانت هذه القواعد واضح ًة في أذهان‬ ‫الصحابة والتابعين‪ ،‬كما فهموها من القرآن الكريم‪ ،‬وكما عايشوها في ال ُّسنة والسيرة‪.‬‬ ‫ولك َّن الإمام الشافعي أرسى هذه القواعد‪ ،‬وجعلها ِع ْلم ًا ُع ِرف باسم أصول الفقه‪.‬‬ ‫وقد تت َّبع أح ُد الباحثين المحدثين حضور المعاني والدلالات المتعددة للمقاصد فيما‬ ‫كتبه الشافعي‪ ،‬واستشهد بعبارات نقلها عد ٌد من الأئمة‪ ،‬لا سيما إمام الحرمين الجويني‪،‬‬ ‫تفيد بأ َّن الشافعي هو أو ُل َمن استعمل مصطلح \"مقاصد الشريعة\"‪ .‬وقد ف َّسر ابن مختار‬ ‫عدم وجود ما نقله الجويني عن الشافعي في كتاب \"الرسالة\" الذي بين أيدينا اليوم‪ ،‬بأ َّن‬ ‫الجويني ر َّبما نقل عن ن ِّص الرسالة الكامل الذي لم يصل إلينا‪ ،‬ود َّلل على ذلك بن ٍّص‬ ‫للشافعي نجده في \"الرسالة\" التي بين أيدينا‪ ،‬يقول فيه الشافعي‪\" :‬وغاب عني بعض كتبي‪،‬‬ ‫((( ابن ق ِّيم الجوزية‪ ،‬أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب (توفي‪751 :‬ﻫ)‪ .‬إعلام الموقعين عن ر ِّب العالمين‪،‬‬ ‫تقديم وتعليق وتخريج‪ :‬مشهور بن حسن آل سلمان‪ ،‬الدمام‪ :‬دار ابن الجوزي‪1423 ،‬ﻫ‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.387-386‬‬ ‫((( المرجع السابق‪.‬‬ ‫‪305‬‬

‫وتح َّققت بما يعرفه أهل العلم م ّما حفظت‪ ،‬فاختصرت خوف طول كتابي‪ ،‬فأتي ُت ببعض ما‬ ‫فيه الكفاية‪ ،‬دون تق ّصي العلم في كل أمره‪ (((\".‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن ابن مختار نقل عن الحجوي‬ ‫المالكي أ َّن مالك بن أنس \"أشار في الموطأ إلى بعض القواعد الأصولية\"‪ ،‬وأ َّن السرخسي‬ ‫الحنفي ق َّرر أ َّن أول َمن صنَّف في علم الأصول هو أبو حنيفة‪ ،‬وتلاه صاحباه أبو يوسف‬ ‫ومحمد بن الحسن‪ ،‬ث َّم الشافعي‪(((.‬‬ ‫ويبدو أ َّن أتباع كل مذه ٍب يحاولون نسبة بدء التصنيف في علم الأصول إلى أئمتهم‬ ‫في المذهب‪ .‬ولك َّن ابن خلدون المالكي ر َّبما ع َّبر عن رأي الجمهور حين ق َّرر أ َّن الإمام‬ ‫الشافعي هو أول َمن وضع علم أصول الفقه‪\" :‬وأ ْملى فيه رسالته المشهورة‪ ... ،‬ث َّم َك َت َب‬ ‫فقها ُء الحنفية فيه‪ ،‬وح َّققوا تلك القواعد‪ ،‬وأوسعوا القول فيها‪(((\".‬‬ ‫وإذا كان الشاطبي هو الذي أبرز مبحث المقاصد من مباحث أصول الفقه‪ ،‬في كتاب‬ ‫\"الموافقات\"‪ ،‬و ُع َّد ما كتبه فيه تأسيس ًا لعلم المقاصد‪ (((،‬فإ َّنه يؤ ِّكد ما ق َّرره ابن الق ِّيم من‬ ‫حضور مفهوم \"المقاصد\" عند الصحابة رضوان الله عليهم؛ إذ يصف الشاطبي الصحابة‬ ‫بأ َّنهم‪\" :‬عرفوا مقاصد الشريعة فح َّصلوها‪ ،‬وأ َّسسوا قواعدها وأ َّصلوها‪ ،‬وجالت أفكارهم‬ ‫في آياتها‪ ،‬وأ ْع َملوا الج َّد في تحقيق مباديها وغاياتها‪(((\".‬‬ ‫((( الشافعي‪ ،‬محمد بن إدريس (توفي‪204 :‬ﻫ)‪ .‬الرسالة‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد محمد شاكر‪ ،‬القاهرة‪ :‬مطبعة مصطفى‬ ‫البابي الحلبي‪1938 ،‬م‪ ،‬ص‪.431‬‬ ‫((( ابن مختار‪ ،‬أحمد وفاق‪ .‬مقاصد الشريعة عند الإمام الشافعي‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار السلام‪2014 ،‬م‪ ،‬ص‪.55‬‬ ‫((( ابن خلدون‪ ،‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.962‬‬ ‫((( جعل الشاطبي كتاب \"الموافقات\" في خمسة أقسام‪ ،‬وس ّمى كل قسم كتاب ًا‪ ،‬فتناول في كتاب المقاصد اثنتين‬ ‫وستين مسألة من مقاصد الشارع ومقاصد ال ُمك َّلفين‪ ،‬شغلت مئتين وستين صفحة من مجموع صفحات الكتاب‬ ‫البالغة (‪ )936‬صفحة‪ .‬انظر في ذلك‪:‬‬ ‫‪ -‬الشاطبي‪ .‬الموافقات في أصول الشريعة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.479-219‬‬ ‫((( الشاطبي‪ ،‬الموافقات في أصول الشريعة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.14‬‬ ‫‪306‬‬

‫المبحث الثالث‬ ‫تصنيف المقاصد التربوية‬ ‫الإسلام هو دين الله الذي جاء به جميع الأنبياء والرسل إلى الناس‪ ،‬فكان يأتي مع كل نب ٍّي‬ ‫هداية للناس‪ ،‬ورحمة بهم؛ ليو ِّفر عليهم عناء البحث في المسائل الوجودية التي لا يس ِعفهم‬ ‫فيها البحث‪ ،‬وهي التي تخت ُّص بالمعرفة عن الله والكون والإنسان‪ .‬فالله سبحانه هو الخالق‬ ‫الرازق المد ِّبر‪ ،‬والكون بأشيائه وأحداثه وظواهره مخلو ٌق محكو ٌم بسنن الله‪ ،‬والإنسا ُن‬ ‫ُمستخ َل ٌف في هذا الكون ليعمره ويس ِّخره وفق المنهج الذي و َّفره الله له‪ .‬وقد اختلفت شرائع‬ ‫هذا الدين التي كانت تنزل للرسل باختلاف الأوضاع التي كانت تم ُّر بها أجيال البشرية؛‬ ‫لتتر َّفق بالناس‪ ،‬وتي ِّسر لهم ُسبل الهداية‪ .‬وحين أراد الله لهذه البشرية شريع ًة واحد ًة للناس‬ ‫كاف ًة كانت رسالة محمد ﷺ؛ خاتم النب ِّيين‪ ،‬وكانت شريعة الإسلام الخاتمة‪ ،‬في كتاب كريم‪،‬‬ ‫مجيد‪ ،‬حكيم‪ ،‬تض َّمن مجموعة من مبادئ الهداية وبرامجها ومضامينها‪ ،‬بصورة وافية من‬ ‫البيان‪ ،‬وخصائص كافية من الشمول والتكا ُمل‪ ،‬ونزل بكيفية حكيمة من التد ُّرج والتر ُّفق في‬ ‫التربية والتطبيق العملي‪ ،‬فكان القرآن الكريم هو كتاب هذه الهداية الكاملة‪.‬‬ ‫فالمقصد العام للتربية في القرآن الكريم هو هداية الإنسان إلى طريقة مح َّددة في‬ ‫الحياة الدنيا؛ استعداد ًا للحياة الأُخرى‪ ،‬علم ًا بأ َّن‪:‬‬ ‫‪ -‬الإنسان هنا هو الجنس البشري كله؛ فالشريعة الإسلامية لا تقتصر على قضايا التعامل‬ ‫بين المسلمين‪ ،‬وإ َّنما تتسع لتشمل التعامل مع جميع فئات غير المسلمين كذلك‪.‬‬ ‫‪ -‬الهداية لا تقتصر على عبادة الإنسان لله سبحانه في مجالات الشعائر‪ ،‬وإ َّنما تشمل‬ ‫العبادة في سائر مجالات التعامل‪ :‬السياسية‪ ،‬والاقتصادية‪ ،‬والاجتماعية‪ ،‬وغيرها‪.‬‬ ‫‪ -‬طريقة الحياة التي يهدي القرآن إليها ليست إصر ًا وأغلالاً تق ِّيد حركة الإنسان‪،‬‬ ‫وتع ِّطل طاقاته‪ ،‬وإ َّنما هي مبادئ عامة شرعها الله تيسير ًا ورحم ًة و ُبشرى؛ لتحقيق‬ ‫مصالح الإنسان ومنافعه‪ ،‬حتى لا يضل ويشقى‪ ،‬وفتح المجال للنمو والتط ُّور‬ ‫والاجتهاد في اكتساب الخبرة البشرية اللازمة لإدارة شؤون الحياة وفق تلك‬ ‫المبادئ‪ ،‬وإدراك المقاصد التي ُش ِرعت هذه المبادئ من أجلها‪.‬‬ ‫‪307‬‬

‫‪ -‬الحياة الدنيا هي القريبة الحاضرة الآن‪ ،‬وهي تقابل الحياة الآخرة النهائية الموعودة‬ ‫مستقبل ًا‪ .‬ومنزلة الإنسان في الحياة الآخرة تتو َّقف على سعيه وكسبه في الحياة‬ ‫الدنيا‪ .‬ولأهمية هذه الحياة الدنيا؛ أنزل الله لها الشرائع الهادية للسعي البشري‬ ‫فيها‪ ،‬من أجل تحقيق مراد الله منها في تزكية الإنسان‪ ،‬وتشييد العمران‪ .‬وما قد ينال‬ ‫الحياة الدنيا من َذ ٍّم إ َّنما يتو َّجه إليها؛ لأ َّنها قصير ٌة مؤ َّقت ٌة لا تصلح لاعتبارها غاية‬ ‫في ح ِّد ذاتها‪ ،‬قياس ًا إلى النتائج المتر ِّتبة عليها في دار الخلود في الآخرة‪.‬‬ ‫‪ -‬الحياة الأُخرى يتح َّقق فيها عدل الله تعالى المطلق‪ ،‬في الجزاء المناسب لكل َمن‬ ‫أحسن في الحياة الدنيا‪ ،‬أو أساء فيها‪ .‬من أجل ذلك‪ُ ،‬تؤخ ُذ الحياة الدنيا بج ٍّد‬ ‫ومسؤولي ٍة؛ لأ َّن لها ما بعدها‪ .‬وإذا لم يستهدف سعي الإنسان عمران الحياة الدنيا‬ ‫من أجل ثواب الآخرة‪ ،‬فإ َّن ﴿ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ‬ ‫ﭴﭵ﴾ [الحديد‪ ]20:‬ث َّم تكون حطام ًا‪ ،‬ث َّم يكون الحساب في الآخرة من جنس‬ ‫العمل في الدنيا‪.‬‬ ‫هذا هو المقصد العام الكلي من الرسالة الإسلامية‪ ،‬وأ ُّي حديث عن مقاصد التربية‬ ‫بعد ذلك سيكون تفصيل ًا لهذا المقصد‪ ،‬واجتهاد ًا في التعبير عن هذا التفصيل‪ ،‬وتنزيله‬ ‫في النظام التربوي العام الذي تتو َّزع مهامه على مؤسسات المجتمع الإنساني‪ :‬الأسرة‪،‬‬ ‫والمدرسة‪ ،‬والجامعة‪ ،‬والفضاء الاجتماعي العام بفعالياته‪ ،‬ونشاطاته‪ ،‬ومؤسساته‬ ‫الإعلامية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬والقانونية‪ ،‬وغيرها‪.‬‬ ‫أولاً‪ :‬مقاصد تربوية للدنيا‪ ،‬ومقاصد تربوية للآخرة‪:‬‬ ‫كان الحديث في الفقرة السابقة عن حضور مفهوم \"المقاصد\" بصورة عامة‪ .‬أ ّما ما‬ ‫يخت ُّص بمقاصد التربية‪ ،‬فإ َّننا نراها حاضر ًة في ك ِّل ما ب َّينه القرآن الكريم عن الغاية من خلق‬ ‫الإنسان واستعماره في الأرض؛ فالقصد الأسمى هو العبادة والعمران‪ .‬قال سبحانه‪﴿ :‬ﭳ‬ ‫ﭴﭵﭶﭷﭸ﴾ [الذاريات‪ ،]56:‬وقال ع َّز وج َّل‪﴿ :‬ﯻﯼﯽﯾﯿ‬ ‫ﰀ﴾ [هود‪ .]61:‬وقد ب َّين سبحانه المقصود بالعبادة والعمران؛ فليس المقصود بالعبادة فقط‬ ‫ال ُب ْعد الشعائري؛ من‪ :‬صلاة‪ ،‬وصيام‪ ،‬وزكاة‪ ،‬وحج‪ ،‬وصورها الظاهرة؛ إذ إ َّن لكل عبادة‬ ‫من هذه الشعائر مقاصد‪ ،‬فمن مقاصد الصلاة أ َّنها تنهى عن الفحشاء والمنكر‪ ،‬ومن مقاصد‬ ‫‪308‬‬

‫الصيام الصب ُر على الطاعة والتح ُّقق بالتقوى‪ ،‬ومن مقاصد الزكاة تطهي ُر النفس من ال ُّش ِّح‪،‬‬ ‫ونما ُء المال‪ ،‬وتكاف ُل المجتمع‪ ،‬ومن مقاصد الحج أ ْن يشهد المسلمون منافع لهم‪. ...‬‬ ‫ونلاحظ أ َّن مقاصد هذه العبادات تتجاوز ال ُب ْعد الفردي ل َمن يؤديها‪ ،‬وتتسع لتحقيق‬ ‫كثير من المصالح لأبناء المجتمع‪ ،‬وتستمر في تو ُّسعها لتشمل الناس جميع ًا‪ ،‬بوصفها‬ ‫خطاب ًا للإنسان‪ ،‬والله الخالق سبحانه هو ر ُّب الناس جميع ًا‪ .‬فغاية هذه العبادات هي تربية‬ ‫الإنسان‪ ،‬وتشكيل شخصيته‪ ،‬وتنظيم علاقاته بر ِّبه‪ ،‬ومجتمعه‪ ،‬وبيئته‪ .‬ونستطيع أ ْن نق ِّرر‬ ‫أ َّن ما قد يكتشفه الإنسان م ّما يقع تحت المس َّميات الحديثة للعلوم السلوكية والنفسية‬ ‫والتربوية والاجتماعية إ َّنما هو محاولات لتحقيق الفهم المتج ِّدد لنصوص القرآن الكريم‬ ‫وال ُّسنة النبوية‪.‬‬ ‫وفيما يخ ُّص مقصد العمران‪ ،‬فمن الواضح أ َّن دلالاته مفتوحة للسعي البشري في‬ ‫ترقية الحياة بما قد تصل إليه خبراتهم وتجاربهم‪ ،‬من تسخير ما خلق الله لهم في هذا‬ ‫العا َلم‪ ،‬وم َّكنهم فيه من معايش‪﴿ .‬ﮯﮰ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ‬ ‫ﯛ﴾ [الأعراف‪ ،]10:‬فجميع ما في السماوات والأرض من أشياء وظواهر وطاقات هي‬ ‫مجالات للتف ُّكر في طرق توظيفها في الاكتشاف والاختراع لبناء التيسيرات المادية‪ ،‬وفي‬ ‫فهم حقائق الإنسان والعمران البشري لبناء الأنظمة والقوانين وتنظيم العلاقات‪﴿ .‬ﰄ‬ ‫ﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔ﴾ [الجاثية‪ .]13:‬وفي مجال‬ ‫العمران هذا نستطيع كذلك أ ْن نق ِّرر أ َّن ما قد يكتشفه الإنسان م ّما يقع ضمن مس َّميات‬ ‫العلوم الطبيعية والتطبيقية إ َّنما هو محاولات لفهم متج ِّدد لنصوص القرآن الكريم وال ُّسنة‬ ‫النبوية‪ .‬ولكنَّنا نفهم مقاصد العمران اليوم بأ َّنها لا تقتصر على الجانب المادي‪ ،‬وما يح ِّققه‬ ‫من تيسيرات في حياة الناس‪ ،‬وإ َّنما يتض َّمن كذلك ما َيلزم بناؤه من تشريعات وقوانين‬ ‫تح ِّقق الحرية والعدالة والتنمية في الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية‪ ،‬وغيرها‬ ‫من جوانب الاجتماع والعمران البشري‪.‬‬ ‫ومن حكمة الله سبحانه أ ْن خل َق الإنسان في أحسن تقويم؛ جسمي ونفسي‪ ،‬ومن‬ ‫ذلك أ َّن سعي الإنسان في الدنيا في مجال العبادة والعمران نوعان‪ :‬سع ٌي إلى تع ُّلم مطالب‬ ‫العبادة والعمران لما يح ِّقق نعيم الحياة الآخرة‪ ،‬وهو من المقاصد التربوية‪ ،‬وسع ٌي في‬ ‫تع ُّلم ما تتط َّلبه العبادة والعمران في شؤون الحياة الدنيا‪ ،‬وهي مقاص ُد تربوية كذلك‪.‬‬ ‫‪309‬‬

‫وقد و َّضح الراغب الأصبهاني أهمية الجمع ‪-‬في مفهوم عبادة الإنسان لله سبحانه‪ -‬بين‬ ‫المعنى الخاص بالشعائر‪ ،‬والمعنى العام الذي يتصل بالاستخلاف في الأرض وعمرانها‪،‬‬ ‫فقال‪\" :‬في الغرض الذي لأجله أوجد الإنسان ومنازلهم‪ :‬الغرض منه أ ْن ُيع َبد الله‪ ،‬ويخلفه‪،‬‬ ‫وينصره‪ ،‬ويعمر أرضه‪ .‬كما ن َّبه الله تعالى بآيات في مواضع مختلفة حسب ما اقتضت‬ ‫الحكم ُة ذك َره‪ ،‬وذلك قوله تعالى‪﴿ :‬ﭳﭴﭵﭶﭷﭸ﴾ [الذاريات‪(((\". ...]56:‬‬ ‫ونظر ًا لأ َّن الإنسان بطبعه ُي ْؤثِر القريب العاجل؛ فقد وعد الله سبحانه َمن يعمل صالح ًا‬ ‫من الناس؛ ذكور ًا أو إناث ًا‪ ،‬بالحياة الطيبة في هذه الدنيا‪ ،‬إضاف ًة إلى الجزاء في الآخرة‪.‬‬ ‫﴿ﮉﮊﮋﮌﮍ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮗﮘ‬ ‫ﮙﮚﮛ﴾ [النحل‪\" .]97:‬وهذا وع ٌد بخيرات الدنيا‪ .‬وأعظمها الرضى بما قسم لهم‪،‬‬ ‫وحسن أملهم بالعاقبة‪ ،‬والصحة والعافية و ِع َّزة الإسلام في نفوسهم‪ .‬وهذا مقام دقيق تتفاوت‬ ‫فيه الأحوال على تفاوت سرائر النفوس‪ ،‬و ُيعطي الله فيه عبا َد ُه المؤمنين على مراتب هممهم‬ ‫وآمالهم‪ .‬و َمن راقب نفسه رأى شواهد هذا‪ (((\".‬وفي تفسير الحياة الطيبة عند ابن كثير‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫\"والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أ ِّي جه ٍة كانت‪ \".‬ث َّم ذكر معاني مختلفة جاءت في‬ ‫بعض الآثار‪ ،‬مثل‪ :‬القناعة‪ ،‬والسعادة‪ ،‬والرزق الحلال‪ ،‬والعبادة في الدنيا‪ ،‬والعمل بالطاعة‬ ‫والانشراح بها‪ .‬وختم بقوله‪\" :‬والصحيح أ َّن الحياة الطيبة تشمل هذا كله‪ (((\".‬وقال أبو زهرة‬ ‫في تفسير هذه الآية الكريمة إ َّن الله سبحانه \"لم يذكر في الحياة الطيبة أ َّنها أجر‪ ،‬بل ذكرها‬ ‫على أ َّنها ملازمة للعمل الصالح الصادر من قلب سليم؛ فهي ثمر ٌة للصالح كثمرة الشجرة‪،‬‬ ‫وكإنتاج الزرع‪ ،‬وحيثما ُو ِجد العم ُل الصال ُح كانت الحياة الطيبة‪(((\".‬‬ ‫هذا في الدنيا‪ ،‬أ ّما في الآخرة‪ ،‬فإن الله يجزي بفضله ورحمته هولاء المؤمنين الذين‬ ‫عملوا الصالحات‪ ،‬وصبروا على بلواء الحياة الدنيا‪ ،‬فيختار أحس َن عم ٍل عملوه في‬ ‫((( الراغب الأصفهاني‪ ،‬أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل (توفي‪502 :‬ﻫ)‪ .‬تفصيل النشأتين وتحصيل‬ ‫السعادتين‪ ،‬بيروت‪ :‬دار مكتبة الحياة‪1983 ،‬م‪ ،‬ص‪.48‬‬ ‫((( ابن عاشور‪ ،‬التحرير والتنوير‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬تفسير الآية ‪ 97‬من سورة النحل‪ ،‬ج‪ ،14‬ص‪.273‬‬ ‫((( ابن كثير‪ ،‬أبو الفداء إسماعيل بن عمر الدمشقي (توفي‪774 :‬ﻫ)‪ .‬تفسير القرآن العظيم‪ ،‬تحقيق‪ :‬سامي بن محمد‬ ‫سلامة‪ ،‬الرياض‪ :‬دار طيبة للنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪1420( ،2‬ﻫ‪1999 /‬م)‪ ،‬تفسير الآية (‪ )97‬من سورة النحل‪،‬‬ ‫ج‪ ،4‬ص‪.601‬‬ ‫((( أبو زهرة‪ ،‬محمد‪ .‬زهرة التفاسير‪ ،‬بيروت‪ :‬دار الفكر العربي‪ ،‬ط‪1987 ،1‬م‪ ،‬مجلد واحد‪ ،‬ص‪.4265‬‬ ‫‪310‬‬

‫الدنيا‪ ،‬ويجزيهم على أساسه‪ ،‬وهذا من فضل الله وكرمه‪ ،‬ومن فضله وكرمه أ َّنه يعفو عن‬ ‫السيئات‪ ،‬و ُيضا ِعف الحسنات‪.‬‬ ‫والمؤمن الذي يعمل صالح ًا لا ينبغي أ ْن يؤدي به الطمع في الحياة الطيبة إلى إيثار‬ ‫الحياة الدنيا‪ ،‬والاطمئنان لها‪ ،‬والتكاثر بمتاعها؛ لأ َّنها قصيرة الأمد‪ ،‬وعاجلة‪ ،‬و ُمؤ َّقتة‪،‬‬ ‫وسرعان ما َين َفد متاعها‪ .‬ولذلك‪ ،‬ف َمن يكتفي بالاستمتاع بها ُم ْع ِرض ًا عن ذكر الله‪﴿ ،‬ﯷﯸ‬ ‫ﯹﯺ﴾ [طه‪ ،]124:‬وليس حياة طيبة‪ .‬أ ّما َمن ي َّتبِع هدى الله سبحانه طمع ًا فيما هو خير‬ ‫وأبقى‪ ،‬فإ َّنه ُيجزى بأحسن م ّما عمل‪.‬‬ ‫إ َّن تفريط الإنسان في ابتغاء الآخرة؛ إيثار ًا لما يطمع فيه من منافع الدنيا القريبة‪ ،‬يفقده‬ ‫حظه من تلك الآخرة‪ .‬أ ّما َمن أراد الآخرة‪ ،‬وسعى لها سعيها في الدنيا‪ ،‬فلا بأس أ ْن يستمتع‬ ‫بالحياة الطيبة‪ ،‬ويصدق عليه قو ُل ابن عاشور‪\" :‬فأ ّما الاستكثار من منافع الدنيا مع عدم‬ ‫إهمال أسباب النجاة في الآخرة فذلك َميدا ٌن للهمم‪ ،‬وليس ذلك بمح ِّل َذ ٍّم‪(((\".‬‬ ‫ولع َّل حضور المقاصد التربوية التي تجمع بين مصالح الإنسان في الحياة الدنيا‬ ‫ومصالحه في الحياة الآخرة‪ ،‬هي ميز ٌة أساسية للتربية الإسلامية‪ ،‬تصلح أ ْن تكون إضاف ًة‬ ‫مهم ًة فيما يخ ُّص الإسهام التربوي الإسلامي المعاصر‪.‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬مقاصد تربوية غائِ َّية‪ ،‬ومقاصد تربوية و َسلِ َّية‪:‬‬ ‫يتصل معيار تصنيف المقاصد التربوية إلى غا ِئ َّية وو َس ِل َّية‪ ،‬بمعيار تصنيفها إلى أهداف‬ ‫دنيوية و ُأخروية‪ .‬ومن الملاحظ أ َّن معظم أدبيات التربية المعاصرة تتفق في اهتمامها‬ ‫بالأهداف التي تخت ُّص بالفرد والمجتمع في مستوى الوسائل‪ ،‬وليس الغايات والمقاصد‬ ‫العليا‪ .‬والسبب في ذلك أ َّن الغايات والمقاصد العليا تكون عاد ًة بعيدة المدى‪ ،‬و ُتع ِّبر عن‬ ‫حالات نفسية ووجدانية واجتماعية يصعب قياسها‪ .‬لذلك تميل الثقافة التربوية السائدة‬ ‫إلى النظر فيما يمكن التح ُّقق من وجوده من هذه الأهداف على صعيد السلوك الفردي‬ ‫الواضح‪ ،‬أو على صعيد تق ُّدم المجتمع ضمن حدوده الوطنية السياسية‪ .‬وفي الحالة‬ ‫الدينية عموم ًا‪ ،‬والحالة الدينية الإسلامية خصوص ًا‪ ،‬تتصل الأهداف عند مستوى الغايات‬ ‫والمقاصد ‪-‬إضافة إلى ذلك‪ ،‬وليس بديل ًا عنه‪ -‬بمسائل غيبية‪ ،‬ومصير الإنسان بعد‬ ‫الموت‪ ،‬والوعي باليوم الآخر‪.‬‬ ‫((( ابن عاشور‪ ،‬التحرير والتنوير‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬تفسير الآية (‪ )18‬من سورة الأعلى‪ ،‬ج‪ ،30‬ص‪.290‬‬ ‫‪311‬‬

‫ويتفاوت اجتهاد الباحثين في بيان ما يرونه غاية الغايات في التربية؛ فنجد عبد الحليم‬ ‫فتح الباب يق ِّرر أ َّن غايات الشريعة تقوم على ثلاثة أسس؛ أولها الوظيفة العامة التي رسمها‬ ‫القرآن لخلافة الإنسان في الأرض‪ ،‬وثانيها استعداد الإنسان للعمل في إعمار الأرض‪،‬‬ ‫وثالثها ما يقتضيه وجود الإنسان على الأرض من حفظ حياته‪ ،‬ولكنَّه لا يتمكن من القيام‬ ‫بذلك إلا إذا تح َّققت غاية الغايات‪ ،‬وهي \"الحرية بمعنى الخلاص من القيود التي ُتع ِّوق أو‬ ‫تح ُّد من تفكير الإنسان؛ حركته‪ ،‬وفعله‪ ،‬واتخاذه قراره عن رض ًا ذاتي‪ ...‬هذه الغاية تتم َّيز‬ ‫بسمتين‪ :‬أ َّنها عامة أو كلية‪ ،‬تصلح غاية للناس جميع ًا‪ ...‬وأ َّنها تكون غاية لكل ما قبلها‪،‬‬ ‫وليست وسيلة لغاية بعدها‪((( \".‬‬ ‫وعلى هذا يتم تحديد خصائص هذه الحرية‪ ،‬ومجالات فعلها؛ فهي مسؤولية فردية‪،‬‬ ‫ومسؤولية اجتماعية‪ ،‬وغاية عالمية‪ .‬وكل الغايات الأُخرى التي يتح َّدث عنها العلماء‬ ‫تحت عنوان \"مقاصد الشريعة\" ُت َع ُّد غايات و َس ِل َّية‪ .‬وعليه تكون الغايات الو َس ِل َّية هي‬ ‫غايات التربية التي تؤدي إلى تحقيق غاية الحرية؛ فهي وسيلة إليها‪ .‬وغاية الحرية هي غاية‬ ‫إنسانية عالمية للتربية تصلح للناس جميع ًا‪ ،‬فهي تح ِّرر الإنسان من القيود التي تعيق تفكيره‬ ‫وحركته‪ .‬فإذا تح َّققت أمكن بعد ذلك أ ْن تتح َّقق الغايات الأُخرى‪ ،‬مثل‪ :‬غاية تع ُّلم الكتاب‬ ‫والحكمة‪ ،‬وغاية التزكية والتقويم الذاتي‪ ،‬وغاية الكسب والاحتراف‪ ،‬وغاية تحقيق ميزان‬ ‫الأعمال‪ ،‬وغاية التع ُّلم أو البحث عن العلم‪.‬‬ ‫وقد سبق أ ْن أشرنا إلى تمييز الكيلاني في أهداف التربية بين الأهداف المقاصد‬ ‫أو الأغراض‪ ،‬والأهداف الوسائل‪\" ،‬ولا ِغنى لأ ٍّي من القسمين عن الآخر؛ فالأهداف‬ ‫الأغراض دون وسائل نوع من الأمنيات البعيدة المنال‪ ،‬والتط ُّلعات ال ُمع ِّوقة للإنجاز‪.‬‬ ‫والأهداف الوسائل دون أغراض تنقصها الدوافع ال ُمح ِّركة والغايات ال ُمو ِّجهة‪ (((\".‬وقد‬ ‫اعتمد الكيلاني في تمييزه بين المستويين من الأهداف على فهمه للنصوص القرآنية‪.‬‬ ‫((( سيد‪ ،‬فتح الباب عبد الحليم‪\" .‬الغايات والأهداف التربوية في القرآن والسنة\"‪ ،‬في‪ :‬بحوث المؤتمر التربوي‪،‬‬ ‫تحرير‪ :‬فتحي حسن ملكاوي‪ ،‬ج‪1991 ،2‬م‪ ،‬ص‪.175-129‬‬ ‫((( الكيلاني‪ ،‬أهداف التربية الإسلامية‪ :‬مقارنة بين أهداف التربية الإسلامية والأهداف التربوية المعاصرة‪ ،‬مرجع‬ ‫سابق‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫‪312‬‬

‫فعندما تتح َّدث الآيات القرآنية ‪-‬مثل ًا‪ -‬عن مقاصد الخلق‪ ،‬فإ َّنها تجعل هذه المقاصد في‬ ‫مستويات متتالية‪ ،‬يقود بعضها إلى بعض آخر‪ ،‬ومتد ِّرجة من أهداف وسائل إلى أهداف‬ ‫غايات‪ .‬ونرى ذلك واضح ًا في كثير من الآيات القرآنية‪ ،‬لا سيما تلك التي تتح َّدث عن‬ ‫مشاهد المخلوقات المس َّخرة للإنسان‪.‬‬ ‫يقول الله سبحانه في مطالع سورة النحل‪﴿ :‬ﯙ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟ‬ ‫ﯠﯡ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﭑﭒﭓﭔ‬ ‫ﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ‬ ‫ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭶﭷ‬ ‫ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ‬ ‫ﮋﮌﮍﮎﮏ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ‬ ‫ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ‬ ‫ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ‬ ‫ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ‬ ‫ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ﴾ [النحل‪.]14-5:‬‬ ‫فنحن نؤمن بأ َّن القرآن يهدي للتي هي أقوم من صور العلم والفهم والاعتبار‪ .‬وهذه‬ ‫الآيات تو ِّضح لنا بصورة متك ِّررة أهداف المخلوقات التي خلقها الله لتكون مس َّخرة‬ ‫للإنسان ال ُمستخ َلف فيها‪ ﴿ :‬ﯚﯛﯜ﴾‪﴿ ،‬ﮙﮚ﴾‪﴿ ،‬ﮇﮈ﴾‪﴿ ،‬ﮫ‬ ‫ﮬﮭ﴾‪ .‬ث َّم تب ِّين ِع َّلة التسخير بلام التعليل التي تشير إلى أهداف وسائلية مباشرة‬ ‫يظهر تح ُّققها‪﴿ :‬ﭤﭥ﴾‪﴿ ،‬ﯟﯠ﴾‪﴿ ،‬ﯣ﴾‪﴿ ،‬ﯫ﴾‪ .‬ث َّم‬ ‫تقود إلى أهداف من مستوى أعلى‪ ،‬فتكون هذه المس َّخرات آيا ٍت دا َّل ًة على فضل الله على‬ ‫الإنسان‪ُ ،‬ت ِعينه على التف ُّكر‪ ،‬والتع ُّقل‪ ،‬والتذ ُّكر‪﴿ :‬ﮖﮗ﴾‪﴿ ،‬ﮨﮩ﴾‪،‬‬ ‫﴿ﯘﯙ﴾‪ .‬وفي النهاية كان عطف ال ِع َّلة الذي يكشف عن الهدف‪-‬الغاية‪:‬‬ ‫﴿ﯮﯯ﴾ الله سبحانه‪ ،‬على ما ُذ ِكر من ِعل ٍل في الآيات السابقة‪ ،‬فيكون‬ ‫الهدف الغاية والمقصد النهائي من كل ما س َّخر الله للناس من نِ َع ٍم؛ ل ُت ِعينهم على الاعتراف‬ ‫بفضل الله‪ ،‬وشكره على نِ َع ِمه؛ وبذلك تتح َّقق العبودية التي من أجلها ُخ ِلقوا‪ ،‬لقوله سبحانه‪:‬‬ ‫‪313‬‬

‫﴿ﭳﭴﭵﭶﭷﭸ﴾ [الذاريات‪ .]56:‬قال ابن عاشور‪\" :‬واللام في ﴿ﭸ﴾‪ ‬لام‬ ‫ال ِع َّلة؛ أ ْي ما خلقتهم ل ِع َّل ٍة إلا ِع َّلة عبادتهم إ ّياي‪ .‬والتقدير‪ :‬لإرادتي أ ْن يعبدون‪ ،‬ويدل على‬ ‫هذا التقدير قوله في جملة البيان‪﴿ :‬ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ﴾ [الذاريات‪ .]57:‬وهذا‬ ‫التقدير يلاحظ في كل لا ٍم َت ِر ُد في القرآن تعليل ًا لفعل الله تعالى؛ أ ْي ما أرضى لوجودهم إلا‬ ‫أ ْن يعترفوا لي بالتف ُّرد بالإلهية‪ ....‬وأ َّن تكاليف الله للعباد على ألسنة الرسل ما أراد بها إلا‬ ‫صلا َحهم العاجل والآجل‪ ،‬وحصو َل الكمال النفساني بذلك الصلاح‪ ،‬فلا َجرم أ َّن الله أراد‬ ‫من الشرائع كما َل الإنسان‪ ،‬وضب َط نظامه الاجتماعي في مختلف عصوره‪ ،‬وتلك حكمة‬ ‫إنشائه‪ ،‬فاستتبع قو ُله‪﴿ :‬ﭷﭸ﴾‪ ‬أ َّنه ما خلقهم إلا لينتظم أمرهم بوقوفهم عند حدود‬ ‫التكاليف التشريعية من الأوامر والنواهي‪ ،‬فعبادة ال ِإنسان ر َّبه لا تخرج عن كونها مح ِّقق ًة‬ ‫للمقصد من َخلقه‪ ،‬و ِع َّل ًة لحصوله عاد ًة‪(((\".‬‬ ‫ولا شك في أ َّن الإيمان بالغيب هو الصفة الأُولى للمؤمنين المتقين الذين ُيك َتب‬ ‫لهم الفلاح‪﴿ .‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭛﭜﭝﭞﭟ‪ ﴾...‬إلى قوله‬ ‫تعالى‪﴿ :‬ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ﴾ [البقرة‪ .]5-1:‬والحياة الآخرة من الغيب‪،‬‬ ‫وفي الآخرة حياة باقية خالدة‪ ،‬لا يقاس أ ُّي شيء من متاع الحياة الدنيا بها‪ ،‬لذلك فهي‬ ‫الغاية والمنتهى‪ .‬ولك َّن الإنسان لا يملك أ ْن ينتهي إليها إلا عن طريق الحياة الدنيا؛ فالدنيا‬ ‫وسيل ٌة‪ ،‬والآخرة غاي ٌة‪ .‬وفي طريق الدنيا إلى غاية الآخرة سع ٌي وعم ٌل لا يملك الإنسا ُن إلا‬ ‫أ ْن يؤديه بصور ٍة أو ُأخرى‪ .‬وتتو َّقف النيتج ُة في الآخرة على السعي في الدنيا‪.‬‬ ‫لقد امتلأ التراث الإسلامي بالكلام عن َذ ِّم الدنيا‪ ،‬والزهد في متاعها‪ ،‬وانطلق كثي ٌر‬ ‫من هذا التراث من فه ٍم قاص ٍر لنصوص القرآن الكريم وال ُّسنة النبوية‪ ،‬وكانت النتيجة أ َّن‬ ‫طوائف من أبناء المجتمع الإسلامي تط َّلعت قلو ُبهم إلى ما في الآخرة من نعي ٍم‪ ،‬فظنوا أ َّن‬ ‫الانقطاع إلى العبادة الشعائرية والأذكار هو الوسيلة إلى ذلك النعيم‪ ،‬وقادهم هذا الفه ُم‬ ‫القاصر والظ ُن الس ِّيئ إلى ترك العمل ال ُمنتِج‪ ،‬الذي يفيدهم ويفيد غيرهم في هذه الدنيا من‬ ‫العلم والبحث‪ ،‬والكسب المادي‪ ،‬والزراعة والصناعة‪ ،‬والإسهام بنصيبهم المفروض من‬ ‫الإعداد لق َّوة المجتمع والأُ َّمة‪ ...‬وكأ َّن الذين يؤدون واجبهم في ميادين العمل الدنيوي؛‬ ‫تحقيق ًا لغاية الحق من الخلق‪ ،‬ليس لهم طمع في الآخرة‪ ،‬علم ًا بأ َّن ما ورد في القرآن‬ ‫((( ابن عاشور‪ ،‬تفسير التحرير والتنوير‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬تفسير سورة الذاريات‪ ،‬ج‪ ،27‬ص‪.27-25‬‬ ‫‪314‬‬

‫الكريم وال ُّسنة النبوية عن الزهد في الدنيا كان الهدف منه أ ْن تكون واجبات العمل الدنيوي‬ ‫من عمرا ٍن‪ ،‬واستخلا ٍف‪ ،‬وتمكي ٍن‪ ،‬وسي ٍر في الأرض بحث ًا واكتشاف ًا‪ ،‬وسع ٍي في إقامة‬ ‫العدل ورفع الظلم؛ كلها طريق إلى ما يتط َّلعون إليه من نعيم الآخرة‪ .‬وما متاع الحياة الدنيا‬ ‫إلا م ّما س ّماه الله ﴿ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ﴾ [الأعراف‪ .]32:‬فليس َث َّمة حر ٌج‬ ‫على الذين آمنوا أ ْن يستمتعوا في الدنيا بما س ّماه الله ﴿ﭦﭧ ﭨﭩﭪ﴾‪ ،‬وبهذه‬ ‫﴿ﭫﭬﭭﭮ﴾‪ ،‬كما يستمتع غيرهم من الناس‪ .‬أ ّما في الآخرة فهي خالصة للمؤمنين‬ ‫دون غيرهم‪ .‬يقول الله سبحانه‪﴿ :‬ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ‬ ‫ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ﴾ [الأعراف‪.]32:‬‬ ‫إ َّن هذا العمل الدنيوي هو مسؤولي ُة الغريب وعابر السبيل الذي يوصله إلى غايته‪(((.‬‬ ‫ف َمن ينجح في أداء هذه الواجبات‪ ،‬فإ َّنه سرعان ما يتركها وراءه عند موته‪ ،‬فيستمتع بها‬ ‫الآخرون في دنياهم‪ ،‬ويأخذ هو الجزاء الذي كان يتط َّلع إليه في آخرته‪ ،‬ليس فيما عمله‬ ‫هو فحسب‪ ،‬بل جزاء َمن عمل بعمله‪ ،‬واستفاد منه َمن بعده كذلك‪ .‬فحياة عابر السبيل‬ ‫تعبي ٌر عن قصر السفر في الحياة الدينا‪ ،‬وهو دعو ٌة إلى الاجتهاد في استثمار هذا الوقت‬ ‫القصير أحسن استثمار‪ .‬وحين نتذ َّكر تعبي َر النب ِّي ص ّلى الله عليه وس َّلم عن حياة الإنسان‬ ‫في الدنيا بالمسافر الذي يرتاح قليل ًا تحت ظ ِّل شجرة‪ ،‬ث َّم يتركها ويمضي إلى غايته‪(((،‬‬ ‫نتذ َّكر كذلك كيف أ َّنه هو النب ُّي نف ُسه ﷺ الذي مارس ما كان يمارسه سائر الناس في أيامه‬ ‫من الأعمال الدنيوية المتاحة‪ ،‬ث َّم بذل أقصى ما يمكن بذله؛ من‪ :‬دعو ٍة‪ ،‬وتبلي ٍغ‪ ،‬وتعلي ٍم‪،‬‬ ‫وتنظي ٍم‪ ،‬وإدار ٍة‪ ،‬وجها ٍد‪ ،‬وقتا ٍل‪.‬‬ ‫ويتسع التمييز بين المقاصد الغا ِئ َّية والمقاصد الو َس ِل َّية إلى التمييز بين موقع العلوم‬ ‫بالنسبة إلى بعضها بعض ًا؛ ف َث َّمة علو ٌم لا يسهل تع ُّلمها إلا بعلوم ُأخرى‪ .‬وقد ف َّصل ابن‬ ‫((( قال النبي ﷺ لابن عمر رضي الله عنهما‪\" :‬كن في الدنيا كأ َّنك غريب أو عابر سبيل‪ \".‬انظر‪:‬‬ ‫‪ -‬البخاري‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬الرقاق‪ ،‬باب‪ :‬قول النبي ﷺ‪ :‬كن في الدنيا كأ َّنك غريب أو‬ ‫عابر سبيل‪ ،‬حديث رقم‪ ،)6416( :‬ص‪.1232‬‬ ‫((( روى الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه‪ ،‬عن النبي ﷺ‪ ،‬قال‪\" :‬ما لي وللدنيا‪ ،‬إ َّنما مثلي ومثل الدنيا كمثل‬ ‫راكب قال ‪-‬أ ْي نام‪ -‬في ظل شجرة‪ ،‬في يوم صائف‪ ،‬ث َّم راح وتركها‪ \".‬انظر‪:‬‬ ‫‪ -‬ابن حنبل‪ ،‬أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (توفي‪241 :‬ﻫ)‪ .‬مسند الإمام‬ ‫أحمد‪ ،‬تحقيق‪ :‬شعيب الأرنؤوط وآخرون‪ ،‬إشراف‪ :‬عبد الله بن عبد المحسن التركي‪ ،‬بيروت‪ :‬مؤسسة‬ ‫الرسالة‪ ،‬ط‪1421( ،1‬ﻫ‪2001/‬م)‪ ،‬ج‪ ،7‬حديث رقم‪ ،)4208( :‬ص‪.253‬‬ ‫‪315‬‬

‫خلدون بين النوعين من العلوم‪ ،‬فقال‪\" :‬علو ٌم مقصود ٌة بالذات‪ ،‬كالشرعيات من التفسير‬ ‫والحديث والفقه وعلم الكلام‪ ،‬وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة‪ ،‬وعلوم هي آلِ َّية‪،‬‬ ‫وسيل ٌة لهذه العلوم‪ ،‬العربية والحساب وغيرهما للشرعيات‪ ،‬وكالمنطق للفلسفة‪ ،‬ور َّبما‬ ‫كان آل ًة لعلم الكلام ولأصول الفقه على طريقة المتأخرين‪ .‬فأ ّما العلوم التي هي مقاصد‪،‬‬ ‫فلا حرج في توسعة الكلام فيها‪ ،‬وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار‪ ،‬فإ َّن ذلك‬ ‫يزي ُد طال َبها تم ُّكن ًا في ملكته‪ ،‬وإيضاح ًا لمعانيها المقصودة‪ .‬وأ ّما العلوم التي هي آل ٌة لغيرها‪،‬‬ ‫مثل‪ :‬العربية‪ ،‬والمنطق‪ ،‬وأمثالها‪ ،‬فلا ينبغي أ ْن ُين َظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير‬ ‫فقط‪ \".‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن ابن خلدون لا يمنع من أ ْن تكون العلوم الآلية اختصاص ًا يتر ّقى فيه‬ ‫َمن تنزع به ه َّم ُته إليه‪ ،‬ما شاء له التر ّقي؛ فهو يقول‪\" :‬فلهذا يجب على ال ُمع ِّلمين لهذه العلوم‬ ‫الآلية أ ْن لا يستبحروا في شأنها‪ ،‬وين ِّبهوا ال ُمتع ِّلم على الغرض منها‪ ،‬ويبقوا به عنده‪ ،‬ف َمن‬ ‫نزعت به ه َّم ُته بعد ذلك إلى شيء من التو ُّغل‪ ،‬ف ْل َي ْر َق له ما شاء من المراقي صعب ًا أو سهل ًا‪،‬‬ ‫وك ٌّل مي َّس ٌر لما ُخ ِلق له‪(((\".‬‬ ‫ونحن نقول اليوم إ َّن التخ ُّصص في علم الطب لا يعني أ ْن يبدأ الطالب مباشرة في‬ ‫تع ُّلم كيفية تشخيص الداء ووصف الدواء‪ ،‬وإ َّنما يعني أ ْن يبدأ بكثير من العلوم الأساسية‬ ‫من كيمياء وبيولوجيا؛ ففيما يخ ُّص بيولوجيا الإنسان يدرس الطالب علوم ًا تفصيلي ًة‪،‬‬ ‫مثل‪ :‬علوم الخلية‪ ،‬والأنسجة‪ ،‬والتشريح‪ ،‬ووظائف الأعضاء‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬ودارس علوم‬ ‫الفيزياء يحتاج إلى كثير من علوم الرياضيات‪ ،‬ودارس الهندسة يحتاج إلى كثير من الفيزياء‬ ‫والرياضيات‪ ،‬وعلوم المواد‪ .‬ومع أ َّن أصناف العلوم الرئيسة والفرعية تتمايز فيما بينها‬ ‫حتى تبدو فروع ًا علمي ًة مستقل ًة‪ ،‬فإ َّن بعض هذه الفروع أساس لفروع ُأخرى‪.‬‬ ‫ث َّم إ َّن الموضوعات المختلفة في كل علم ُتصنَّف في عدد من المستويات المتراتبة‪،‬‬ ‫ويكون المستوى الأدنى أساس ًا للمستوى الذي يليه؛ أ ْي وسيل ًة له‪ .‬فإذا كانت دراسة الطب‬ ‫تبدأ بدراسة بعض العلوم الطبيعية‪ ،‬فإ َّن الطالب يستم ُّر في دراسته حتى يصبح طبيب ًا عام ًا‪،‬‬ ‫ث َّم يدخل في مزيد من الدراسة حتى يصبح طبيب ًا متخ ِّصص ًا في أحد فروع الطب المتعددة‬ ‫((( ابن خلدون‪ ،‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.1115-1114‬‬ ‫‪316‬‬

‫(العيون‪ ،‬العظام‪ ،‬المسالك البولية‪ ،‬القلب‪ .)... ،‬ومثل ذلك في الهندسة‪ ،‬والزراعة‪،‬‬ ‫وغيرهما‪ .‬فالمستوى العام من أ ِّي علم هو وسيلة للمستوى المتخ ِّصص في العلم نفسه‪.‬‬ ‫وقد عرفت النُّ ُظم التعليمية اليوم ترتيب ًا للإجازة التعليمية (أو الشهادة‪ ،‬أو الدرجة) في‬ ‫كل علم‪ .‬فمعظم الأنظمة الجامعية في العا َلم تح ِّدد درجة البكالوريوس في التخ ُّصص‪،‬‬ ‫التي تكون أساس ًا لدرجة الماجستير‪ ،‬ث َّم لدرجة الدكتوراه‪ .‬وحتى يستطيع الطالب الالتحاق‬ ‫بالدراسة الجامعية؛ فإ َّنه يتع َّين عليه أ ْن يمضي اثني عشر عام ًا في التعليم العام‪ ،‬وأ ْن يدرس‬ ‫في كل عام منها مستو ًى معين ًا من بعض العلوم‪ ،‬ث َّم ينتقل في العام الذي يليه إلى مستوى‬ ‫أعلى‪ ،‬حتى ُينهي الدراسة الثانوية‪ ،‬علم ًا بأ َّن حصيلة الطالب الـ َم ْحدودة من بعض العلوم‬ ‫لا تجعله بالضرورة أهل ًا للدراسة الجامعية في فرع علمي معين‪.‬‬ ‫ثالث ًا‪ :‬تصنيف المقاصد التربوية حسب موضوعات العلوم‪:‬‬ ‫إذا أخذنا تصنيف العلوم في برامج التربية المعاصرة بالحسبان‪ ،‬فإ َّننا نجد أ َّن‬ ‫مقاصد التربية في هذه البرامج تتو َّزع على الفئات الرئيسة للعلوم‪ :‬الدينية‪ ،‬والاجتماعية‪،‬‬ ‫والطبيعية‪ ،‬وعلى فروع ك ٍّل منها‪ .‬ونجد كذلك أ َّن مقاصد كل فئة وكل فرع تتو َّزع على‬ ‫عدد من المستويات التي تقع ضمن التصنيفات المألوفة للأهداف العامة‪ ،‬التي يق ِّررها‬ ‫المجتمع لشخصية الفرد ال ُمتع ِّلم؛ عقلي ًا‪ ،‬وروحي ًا‪ ،‬واجتماعي ًا‪ ،‬ومهني ًا‪ .‬وهذه الأهداف هي‬ ‫التي تح ِّدد مناهج التعليم العام‪ ،‬وتو ِّزع موضوعات هذه المناهج على مواد دراسية؛ فمنها‬ ‫ما يقع ضمن مس ّمى العلوم الدينية‪ ،‬مثل‪ :‬مواد القرآن‪ ،‬وال ُّسنة‪ ،‬والفقه‪ ،‬وغيرها؛ أو العلوم‬ ‫الاجتماعية والإنسانيات‪ ،‬مثل‪ :‬التاريخ‪ ،‬والاقتصاد‪ ،‬والفلسفة‪ ،‬وغيرها؛ أو العلوم الطبيعية‬ ‫والرياضية‪ ،‬مثل‪ :‬الكيمياء‪ ،‬والفيزياء‪ ،‬والجبر‪ ،‬والهندسة‪ ،‬وغيرها‪.‬‬ ‫وتتض َّمن مناهج التعليم في كل مرحلة من مراحل التعليم العام مستويات معينة من هذه‬ ‫العلوم‪ ،‬من باب المعرفة والثقافة العامة‪ ،‬وقد يبدأ شيء من التخ ُّصص في المرحلة العليا من‬ ‫التعليم العام‪ ،‬وتضيق دوائر التخ ُّصص في التعليم الجامعي‪ ،‬حتى ينتهي التعليم الجامعي‬ ‫بأ ْن يتخ َّرج الطالب فيه بتخ ُّصص دقيق واحد في أحد العلوم النظرية أو العملية‪ ،‬فيكون‬ ‫‪317‬‬

‫مف ِّسر ًا للقرآن‪ ،‬أو فقيه ًا في مذهب من المذاهب‪ ،‬أو عالِم ًا متخ ِّصص ًا في فرع من فروع اللغة‪،‬‬ ‫أو الأدب‪ ،‬أو التربية‪ ،‬أو الاقتصاد‪ ،‬أو الكيمياء‪ ،‬أو الطب‪ ،‬أو الهندسة‪ ،‬أو غيرها‪.‬‬ ‫ومن المهم هنا أ ْن نتذ َّكر ما سبق قوله عن المصادر الأربعة للفكر التربوي الإسلامي‬ ‫المعاصر‪ ،‬الذي نريد بناءه‪ ،‬وهي‪ :‬القرآن الكريم‪ ،‬وال ُّسنة النبوية‪ ،‬والتراث الإسلامي‪،‬‬ ‫والخبرة المعاصرة‪ .‬فالقرآن الكريم وبيانه في ال ُّسنة النبوية هما المرجعية الحاكمة‪،‬‬ ‫والتراث الإسلامي هو خبرة أجيال الأُ َّمة في فهمها المقاصد التربوية للقرآن وال ُّسنة‪،‬‬ ‫وممارستها إ ّياها؛ فهي تجربة تاريخية مفيدة‪ ،‬في جوانبها الإيجابية والسلبية‪ .‬أ ّما الخبرة‬ ‫التربوية المعاصرة فهي نقطة البدء التي ننطلق منها في تحديد حالة واقعنا في مجتمعنا‬ ‫الذي نعيش فيه‪ ،‬وحاجته إلى الإصلاح والتطوير‪ ،‬وخططنا لهذا الإصلاح والتطوير‪،‬‬ ‫حيث يكون دور التعليم في مراحله المختلفة تشكيل شخصيات الصالحين والمصلحين‪،‬‬ ‫وإعداد الخبراء والمتخ ِّصصين‪.‬‬ ‫ونحن نجد في الحالة التربوية للمجتمع الذي نعيش فيه حياتنا المعاصرة فلسف ًة‬ ‫تربوية‪ ،‬ونظام ًا تربوي ًا‪ ،‬ومناهج تربوي ًة‪ ،‬ومؤسسا ٍت تربوي ًة‪ ،‬ونجد كذلك ِع ْلم ًا تربوي ًا‬ ‫معاصر ًا يتضمن نظريات مختلفة وممارسات متن ِّوعة‪ ،‬ونجد الحالة التربوية لمجتمعنا‬ ‫تتأثر بعوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية‪ ،‬وتمارس ضغوط ًا داخلية تفرضها الأولويات‬ ‫والإمكانات المحلية‪ ،‬وضغوط ًا خارجية تتصل بتو ّجهات العولمة‪ ،‬ومعاييرها الدولية‪،‬‬ ‫وكل ذلك أمو ٌر لا تملك جهود التخطيط للتطوير التربوي والتعليم‪ ،‬إلا أ َّن تأخذها‬ ‫بالحسبان‪ ،‬فتح ّدد الأهداف التربوية في مستوياتها المختلفة‪ ،‬وتح ّدد في ضوئها المواد‬ ‫التعليمية اللازمة لتحقيق هذه الأهداف‪ ،‬وطرق تعليمها وتقويمها‪.‬‬ ‫رابع ًا‪ :‬تصنيف الأهداف التربوية وفق مؤسسات التربية في المجتمع‪:‬‬ ‫التربية في الرؤية الإسلامية لا تقتصر مسؤوليتها على مؤسسات التعليم النظامية من‬ ‫مدارس وجامعات‪ ،‬وإ َّنما تتع ّدى ذلك إلى كل مؤسسات المجتمع؛ فلك ٍّل منها مهمته‬ ‫ومسؤوليته في التربية بمعناها العام‪ .‬فالأسرة مؤسسة تربوية بكل معنى الكلمة‪ ،‬ومهمتها‬ ‫تبدأ قبل مؤسسة المدرسة وأثناءها وبعدها‪ .‬والأصل في المدرسة أ َّنها تشترك مع الأسرة‬ ‫‪318‬‬

‫في التربية‪ ،‬أ ّما التعليم فهو جزء من هذه التربية‪ .‬ومهمة الجامعة هي في الأساس مهمة‬ ‫تعليم وتدريب‪ ،‬إلا أ َّن دورها التربوي يأخذ منح ًى آخ َر في صياغة الشخصية الإنسانية‬ ‫وصقلها‪ .‬ولع َّل الإعلام بأنواعه ومؤسساته يزداد أث ُره في المجتمع المعاصر‪ ،‬حتى يكاد‬ ‫يؤ ِّثر في فعالية المؤسسات الأُخرى‪ .‬ويبقى الفضاء الاجتماعي العام وأنظمته السياسية‬ ‫والقانونية والاقتصادية بيئ ًة خصب ًة لتسريب الأفكار والاتجاهات وأنماط السلوك‪ ،‬وتش ُّبع‬ ‫الفرد بها بصورة واعية أو غير واعية‪.‬‬ ‫إ َّن الوعي بوجود هذه المؤسسات التربوية وتأثيرها في أشكال النمو عند الفرد‬ ‫وصياغة شخصيته‪ ،‬يقتضي التمييز بين المقاصد التي يمكن أ ْن تح ِّققها كل مؤسسة منها‪.‬‬ ‫فالأسرة ‪-‬مثل ًا‪ -‬هي ال ِم ْح َضن الذي ينمو فيه جسد الإنسان وعقله ومشاعره في السنوات‬ ‫الأُولى من عمره‪ .‬والتنشئة التي يحصل عليها الفرد في الأسرة‪ ،‬في مجال اللغة والعادات‬ ‫والتقاليد والاتجاهات النفسية‪ ،‬هي على قدر كبير من الأهمية‪ ،‬بحيث لا يسمح أ ْن تتم هذه‬ ‫التنشئة بطريقة عفوية أو تقليدية‪ ،‬وإ َّنما يجب الوعي بالمقاصد التي يمكن أ ْن تتح َّقق في هذه‬ ‫المجالات‪ .‬ولنأخذ ‪-‬مثل ًا‪ -‬التربية اللغوية‪ ،‬صحي ٌح أ َّن الطفل يتش َّرب اللغة بطريقة لا يتوافر‬ ‫فيها الوعي الكافي في غالب الأحيان‪ ،‬لا عند الطفل‪ ،‬ولا عند أبويه‪ ،‬أو عند أعضاء الأسرة‬ ‫الآخرين‪ .‬ولك ْن‪ ،‬في الأحيان القليلة التي يتوافر فيها الوعي‪ ،‬فإ َّن النمو اللغوي ال ُمو َّجه في‬ ‫المراحل المبكرة الذي ُيخ َّطط له بالأساليب المناسبة‪ ،‬ر َّبما يؤ ِّثر في حياة الفرد طوال حياته‬ ‫اللاحقة‪ .‬ومثل ذلك يقال عن تنشئة الطفل على العادات الاجتماعية المناسبة‪ ،‬والمشاعر‬ ‫النفسية الإيجابية‪ ،‬وأنماط السلوك الخلقي الفاضل؛ فذلك كله مقاصد تربوية تتح َّقق في‬ ‫السنوات الأُولى من حياة الإنسان في أسرته‪ ،‬وتبقى آثارها في مراحل حياته اللاحقة‪ .‬وخير‬ ‫وسيلة لتنشئة الأطفال بصورة تتح َّقق فيها هذه المقاصد هي المثال والقدوة الحسنة‪ ،‬اللذان‬ ‫يق ِّدمهما الأبوان وأعضاء الأسرة الآخرون‪ .‬والمهم أ ْن تتح َّقق بصورة تم ِّكنها من الاستقرار‬ ‫والصمود في مواجهة ما قد يتح َّقق في المؤسسات الأُخرى بصور ٍة مناقض ٍة‪.‬‬ ‫إ َّن المقاصد التربوية التي يمكن أ ْن تتح َّقق في الأسرة تقتضي تهيئة الأسرة وإعدادها‬ ‫لتؤدي هذه المهمة‪ .‬ومن الخطورة أ ْن يلجأ الإنسان إلى أنماط من السلوك‪ ،‬تتم َّثل فيها‬ ‫أنواع التنشئة التي تش َّربها في حياته‪ ،‬ومارسها بصورة غير واعية مع أطفاله؛ ف َم َث ُل هؤلاء‬ ‫َم َث ُل أولئك الذين ﴿ﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ﴾ [الزخرف‪.]22:‬‬ ‫‪319‬‬

‫وبعض المجتمعات المعاصرة تو ِّفر ُفرص ًا مختلفة لإعداد الزوجين لما َيلزمهما‬ ‫في الحياة الزوجية‪ ،‬وتنشئة الأطفال قبل الزواج‪ ،‬وتدريبهما على ما قد َيلزم لحل‬ ‫المشكلات الزوجية والأسرية‪ ،‬أو منع حدوثها‪ .‬وبعض الجامعات تق ِّدم دورات تدريبية‬ ‫ومساقات تعليمية في التربية الوالدية ‪ parenting‬ته ِّيئ الوالدين لتوفير البيئة التربوية‬ ‫المناسبة لتنشئة الأطفال‪.‬‬ ‫والمجال لا يتسع للتفصيل في مهام المؤسسات الأُخرى‪ ،‬والمقاصد التربوية‬ ‫المنوط تحقيقها لك ٍّل منها‪ .‬ويكفي أ ْن نقول إ َّن المقاصد التربوية في المدرسة‪ ،‬في الرؤية‬ ‫الإسلامية‪ ،‬ينبغي أ ْن تتد َّرج وتتن َّوع وتتكامل مع تتا ُبع السنوات‪ ،‬وتتو َّزع على سائر المواد‬ ‫الدراسية‪ ،‬وتتكامل مع المقاصد التربوية المنوطة بالمؤسسات الأُخرى‪ ،‬مثل‪ :‬الأسرة‪،‬‬ ‫والمسجد‪ ،‬والنادي‪ ،‬وغيرها‪.‬‬ ‫أ ّما المسجد‪ ،‬فالمقصد التربوي الذي ُيع َّول عليه في تحقيقه لا يخت ُّص بأداء الصلاة‬ ‫كيفما اتفق‪ ،‬وإ َّنما بإقامة الصلاة جماعة على وجهها؛ خشوع ًا‪ ،‬واطمئنان ًا‪ ،‬وترتيب ًا‪ ،‬والتزام ًا‬ ‫بالوقت‪ .‬وفي صلاة الجماعة ُفر ٌص للتعا ُرف والتعا ُون في كثير من وجوه العمل المشترك‪،‬‬ ‫وبناء صلات الصحبة والصداقة‪ ،‬وتبادل الخبرات‪ .‬والمسجد بيئ ٌة تربوي ٌة في المجال‬ ‫الروحي والأخلاقي والاجتماعي‪ .‬وفي المسجد ُفر ٌص للعلم والتع ُّلم لإتقان تلاوة القرآن‬ ‫وأركان الصلاة وآدابها‪ .‬وكل ذلك مقاصد تربوية مهمة‪.‬‬ ‫والفضاء الاجتماعي العام هو البيئة التي تتفاعل فيها المؤسسات المتعددة‪ ،‬بما في‬ ‫ذلك طبيعة النظام العام في المجتمع‪ ،‬وأنماط الفكر الذي يتبنّاه المجتمع‪ ،‬وتم ُّثلاته في‬ ‫الحياة السياسية‪ ،‬والاقتصادية‪ ،‬والاجتماعية‪ ،‬والدينية‪ ،‬والقانونية‪ ،‬والإعلامية‪ ،‬وغيرها‪،‬‬ ‫وموقع المجتمع وموقفه من المؤ ِّثرات الإقليمية والدولية؛ فكل ذلك له تأثيراته السلبية‬ ‫أو الإيجابية في أنماط التنشئة الأسرية‪ ،‬والنظام التعليمي‪ ،‬ويكون أثرها في تربية الفرد هو‬ ‫المح ِّصلة الكلية لتفا ُعل هذه القوى والمؤ ِّثرات المتعاضدة‪ ،‬أو المتنافسة‪ ،‬أو المشاكسة‪.‬‬ ‫ولا نريد أ ْن يستقر في الأذهان أ َّن الأثر التربوي في شخصية الفرد؛ نتيجة خطط هذه‬ ‫المؤسسات والقوى والعوامل‪ ،‬هو قد ٌر لا را َّد له‪ .‬و ِم ْن َث َّم‪ ،‬فالفرد لا يتح َّمل مسؤولي َة ما‬ ‫ينتهي به المطاف نتيجة هذه المؤ ِّثرات‪ .‬ولا نريد كذلك أ ْن يستقر في الأذهان أ َّن التربية‬ ‫المدرسية هي المسؤولة عن إبطال مفعول التربية الأسرية‪ ،‬لذلك فلا قيمة للأسرة‪ ،‬أو‬ ‫‪320‬‬

‫أ َّن البيئة الاجتماعية العامة‪ ،‬وما قد يكون فيها من فوضى التوجيه السياسي والتوظيف‬ ‫الإعلامي‪ ،‬تحبِط ما قد تق ِّدمه الأسرة أو المدرسة‪ .‬ومن الخطورة الوصول إلى مثل هذه‬ ‫النتيجة من القلق والإحباط‪.‬‬ ‫فالفكر التربوي الإسلامي الذي نسعى إلى تطويره ينطلق من ثلاثة أمور متلازمة‪:‬‬ ‫‪ -‬قيمة الأثر الإيجابي لأ َّية مؤسسة‪ ،‬مثل‪ :‬الأسرة‪ ،‬أو المدرسة‪ ،‬أو غيرهما‪ ،‬قد تكون‬ ‫قوية فاعلة بما يكفي للتخفيف من الآثار السلبية للقوى الأُخرى‪.‬‬ ‫‪ -‬المسؤولون عن كل مؤسسة يتح َّملون في الدينا والآخرة ‪-‬سلب ًا‪ ،‬أو إيجاب ًا‪ -‬الحالة‬ ‫التربوية الناتجة عن فعلهم في مؤسستهم‪.‬‬ ‫‪ -‬الفرد الإنساني ‪-‬في نهاية المطاف‪ -‬هو المسؤول عن حالته التربوية في حياته‪،‬‬ ‫وهو حين يخضع لأثر المؤسسات المختلفة‪ ،‬ويتر ّقى في الوعي‪ ،‬ويتق َّدم في‬ ‫النضج‪ ،‬سوف يصل إلى شي ٍء من الإدراك والمسؤولية؛ ما يم ِّكنه من ش ِّق طريقه‬ ‫في الحياة بقدر من الاستقلال‪ .‬فإذا كانت الآخرة‪ ،‬فإ َّنه يأتي ر َّبه فرد ًا‪ ،‬ولا يكون له‬ ‫يومها إلا ما سعى‪.‬‬ ‫خامس ًا‪ :‬المقاصد التربوية حسب نوعية التعليم‪:‬‬ ‫قلنا في فصل سابق أ َّن الحديث عن التربية يكون بمعن َي ْين؛ الأول يخت ُّص بما يكتسبه الفرد‬ ‫في مراحل نشأته ونموه وحياته‪ ،‬عن طريق ما تق ِّدمه المؤسسات المختلفة‪ ،‬وما يكتسبه الفرد‬ ‫بجهده الذاتي‪ .‬والمعنى الثاني هو المعنى الخاص الذي تق ِّدمه مؤسسات التعليم بدرجات‬ ‫متفاوتة من التخطيط والضبط المنهجي‪ .‬وكلا ال َم ْعنَ َي ْي ِن يشتركان في صياغة شخصية الفرد‬ ‫من جهة‪ ،‬وفي إعداده وتهيئته ليكون عضو ًا فاعل ًا في المجتمع من جهة ُأخرى‪.‬‬ ‫وقد م َّيز التربويون بين ثلاثة أنواع من التعليم من حيث درجة صلتها بالنظام التعليمي‪،‬‬ ‫وكلها تشترك في بناء الشخصية‪ ،‬وفي إعداد الفرد للإسهام في خدمة المجتمع‪ .‬ولكل نوع‬ ‫من أنواع التعليم الثلاثة مقاصد تعليمية‪-‬تربوية‪ .‬وهذه الأنواع هي‪:‬‬ ‫‪ -‬التعليم النظامي ‪ :Formal education‬هو ما تق ِّدمه المدرسة من تعليم‪ ،‬عن طريق‬ ‫برامج ومناهج مح َّددة‪ ،‬وبإشراف كامل‪ .‬ومقصده الأساس هو اكتساب الخبرات‬ ‫‪321‬‬

‫التعليمية من معلومات ومهارات واتجاهات‪ ،‬عن طريق تعليم موضوعات العلوم‬ ‫المختلفة ضمن مراحل يجتازها ال ُمتع ِّلم‪ ،‬لينتقل إلى المرحلة اللاحقة‪ .‬وتكون‬ ‫فئات ال ُمتع ِّلمين متجانسة في العمر والخبرة إلى ح ٍّد كبير‪.‬‬ ‫‪ -‬التعليم غير النظامي ‪ :Nonformal Education‬هو تعليم يتصف بقدر من التحديد‬ ‫والبرمجة‪ ،‬لكنَّه يتم خارج المدرسة‪ ،‬ومعظم أشكاله تعليم المهن والحرف‬ ‫والصنائع‪ .‬والأساس فيه خبرة ال ُمع ِّلم‪ /‬ال ُمد ِّرب التي يريد أ ْن ينقلها إلى ال ُمتع ِّلم‪/‬‬ ‫ال ُمتد ِّرب من خلال التدريب العملي؛ ليكتسب بعض المهارت (التناولية)‬ ‫‪ .Manipulative Skills‬وفيه مستويات من الأداء المطلوب من ال ُمتد ِّرب‪ ،‬وفيه‬ ‫مرونة وهامش من حرية الاختيار‪ ،‬والاستمرار‪ ،‬وقد يكون فيه شهادات‪ ،‬وترقيات‪،‬‬ ‫وقد لا يكون‪ .‬ولا يشترط فيه تجانس فئات ال ُمتع ِّلمين؛ فقد يكون بعض الأطفال‪،‬‬ ‫أو الشباب‪ ،‬أو البالغين بحاجة إلى الاستفادة من هذا التعليم‪ .‬والمقصد الأساس‬ ‫في هذا التعليم هو امتلاك المهارات العملية اللازمة للحصول على عمل‪ ،‬أو رفع‬ ‫مستوى الأداء في ذلك العمل‪.‬‬ ‫‪ -‬التعليم اللانظامي ‪ ​ :Informal Education‬الأصل فيه أ َّنه تعليم لا يخضع لأ ِّي‬ ‫برمجة مقصودة‪ ،‬ويأتي تأثيره من الحياة في الفضاء الاجتماعي العام‪ ،‬حيث‬ ‫الإعلام المقروء والمسموع والمرئي‪ ،‬وبرامج الترفيه والتوجيه الثقافي العام‪،‬‬ ‫والعمل الخيري‪ ،‬وأماكن العبادة‪ ،‬وجماعات الرفاق‪ ...‬فالتعليم الذي يكتسبه‬ ‫الفرد لا يهدف إليه هو في أغلب الأحيان؛ إذ إ َّنه غي ُر مقصو ٍد من هذه الناحية‪،‬‬ ‫ولذلك ُيس ّمى التعليم ال َع َر ِضي‪ .‬ولك َّن النظام السياسي الذي يسمح بهامش من‬ ‫المعارضة‪ ،‬وحرية الرأي والتعبير‪ ،‬والبرامج الإعلامية المؤ ِّيدة لسياسات الحكومة‬ ‫والمعارضة لها‪ ،‬يعمل بصورة واعية مقصو دة للتأثير في الأفراد‪ ،‬وفي تشكيل‬ ‫آرائهم ومواقفهم وتو ُّجهاتهم الفكرية والنفسية‪ ،‬وحتى في بعض ممارساتهم‬ ‫العملية‪ .‬وقد يكون الفرد واعي ًا بالتأثير الفكري والنفسي والسلوكي‪ ،‬وباتجاهات‬ ‫هذا التأثير‪ ،‬وقد لا يكون على قدر كا ٍف من الوعي بذلك‪ .‬والذي نقترحه مقصد ًا‬ ‫أساس ًا لهذا النوع من التعليم هو وعي القيادات الفكرية والاجتماعية والتربوية في‬ ‫‪322‬‬

‫المجتمع بما يصلح أ ْن يكتسبه الفرد من هذا النوع من التعليم‪ ،‬وتوجيه الفرد إليه‪،‬‬ ‫وتدريبه على إدراك مصدر المعلومات‪ ،‬والتث ُّبت من صحتها‪ ،‬والتفسير الأفضل‬ ‫لها‪ ،‬والوعي بما قد يتس َّرب إليه من تأثيرات تربوية غير مرغوب فيها‪ .‬والمهم‬ ‫أ َّن الفرد ‪-‬بعد درجة من النضج في شخصيته‪ ،‬والتر ّقي في خبراته‪ -‬سوف يكون‬ ‫مسؤولاً عن موقفه المستقل في تبنّي الآراء واتخاذ المواقف‪ ،‬ومن غير المقبول‬ ‫أ ْن يكون ق َّش ًة في مهب الريح‪.‬‬ ‫والذي َي ُه ُّمنا في سياق الحديث عن المقاصد التربوية في أنواع التعليم الثلاثة‪،‬‬ ‫هو أ ْن تكون الجهات المسؤولة عن كل نوع‪ ،‬وكذلك الأفراد الذين يخضعون له‪ ،‬على‬ ‫درج ٍة من الوعي بمقاصد هذا التعليم‪ ،‬وآثاره المنشودة في شخصية الفرد‪ ،‬وتمكينه من‬ ‫النمو السليم المتوازن‪ ،‬والتر ّقي في هذا النمو إلى القدر الذي تم ِّكنه منه قدراته‪ .‬والوعي‬ ‫كذلك بالآثار غير المرغوبة في شخصية الفرد التي ر َّبما تنتج عن قصور في طرق تحقيق‬ ‫المقاصد المنشودة‪ ،‬أو القصور في تك ُّيف بعض الأفراد مع البيئات التعليمية المتوافرة‪ ،‬أو‬ ‫غير ذلك من الأسباب‪ .‬ومع أ َّن التعليم المدرسي يهتم بالأفراد في مرحل ٍة ُعمري ٍة معين ٍة من‬ ‫نمو الأفراد‪ ،‬ويكون على درجة عالية من التخطيط والبرمجة والمساءلة‪ ،‬فإ َّن التعليم غير‬ ‫النظامي والتعليم اللانظامي يمارسان أثرهما في الأفراد في جميع المراحل العمرية بما‬ ‫فيها المرحلة المدرسية‪ ،‬وتق ُّل فيهما درجة التخطيط والبرمجة أو تختفي‪.‬‬ ‫‪323‬‬

‫المبحث الرابع‬ ‫المقاصد القرآنية العليا وتج ِّلياتها التربوية‬ ‫إذا كان القرآن الكريم هو المنهاج التربوي في مدرسة الإسلام‪ ،‬فإ َّنه سيكون من‬ ‫المناسب الاجتهاد في تحديد ما يمكن أ ْن يهدي إليه القرآن الكريم من المقاصد العليا‬ ‫للوجود الإنساني في هذه الحياة‪ .‬وقد اجتهد كثي ٌر من الباحثين في هذا التحديد عن طريق‬ ‫تصنيف الآيات القرآنية في عدد من الفئات وفق الموضوعات التي تتح َّدث عنها‪.‬‬ ‫فقد صنَّف فضل الرحمن ‪-‬مثل ًا‪ -‬موضوعات القرآن في سبع فئات‪ ،‬هي‪ :‬الله‬ ‫(سبحانه)‪ ،‬والإنسان‪ ،‬والطبيعة‪ ،‬والوحي والنبوة‪ ،‬والمعاد‪ ،‬والخير والشر‪ ،‬والحياة‬ ‫الاجتماعية‪ (((.‬ونظر ًا لأ َّن كتاب فضل الرحمن كان خطاب ًا للأكاديمية الغربية؛ فقد جاء‬ ‫تصنيفه لموضوعات القرآن متقارب ًا مع الأسئلة السبعة التي يطرحها الباحثون الغربيون عن‬ ‫رؤية العا َلم ‪ (((.worlview‬وقد صنَّفها الشي ُخ محمد الغزالي في خمسة موضوعات؛ أولها‪:‬‬ ‫الله سبحانه وقضية التوحيد‪ ،‬وثانيها‪ :‬الكون الدال على خالقه‪ ،‬وثالثها‪َ :‬ق َصص القرآن‬ ‫بوصفه وسيلة تربوية‪ ،‬ورابعها‪ :‬قضية البعث والجزاء‪ ،‬وخامسها‪ :‬ميدان التربية والتشريع‪(((.‬‬ ‫أ ّما القرضاوي فصنَّفها في سبع فئات‪ ،‬هي‪ :‬تصحيح العقيدة‪ ،‬وتكريم الإنسان‪،‬‬ ‫وعبادة الله وتقواه‪ ،‬وتزكية النفس‪ ،‬وتكوين الأسرة‪ ،‬وبناء الأُ َّمة الشاهدة‪ ،‬وبناء عا َلم إنساني‬ ‫متعا ُون‪ (((.‬و َث َّمة تصنيفا ٌت متعددة‪ ،‬يعتمد ك ٌّل منها على اجتهاد المؤ ِّلف في فهم مقاصد‬ ‫القرآن الكريم‪ ،‬ور َّبما يكون المؤ ِّلف متأ ِّثر ًا بما يحمله من َه ٍّم‪ ،‬أو قلق علمي‪ ،‬أو إصلاحي‪،‬‬ ‫يج ُد له سند ًا من فهمه لتلك المقاصد‪.‬‬ ‫ويبدو لنا أ َّن معظم هذه التصنيفات لمقاصد القرآن هي أقرب إلى أ ْن تكون طرائق‬ ‫في تصنيف الآيات القرآنية حسب موضوعاتها‪ ،‬وطرائق في تنظيم عمليات تعليم هذه‬ ‫‪(1) Rahman, Fadhlu. Major Themes of the Quran, With a new Forword by Ebrahim Musa,‬‬ ‫‪Chicago: University of Chicago Press, 2009, see the table of content and the forword of‬‬ ‫‪Ebrahim Musa, pp. xii-xiii.‬‬ ‫‪(2) Sire, James W. The Universe Next Door, Downers Grove, Illinois: IVP Academic, 5th. Edition,‬‬ ‫‪2009, pp. 22-23.‬‬ ‫((( الغزالي‪ ،‬محمد‪ .‬المحاور الخمسة للقرآن الكريم‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪2005 ،‬م‪ ،‬فهرس الكتاب‪.‬‬ ‫((( القرضاوي‪ ،‬يوسف‪ .‬كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪2000 ،‬م‪ ،‬ط‪ ،3‬ص‪.71‬‬ ‫‪324‬‬

‫الموضوعات؛ لتحقيق المقاصد التي جاءت الآيات من أجلها‪ .‬ومن المؤ َّكد أ َّن مقاص َد‬ ‫القرآن‪ ،‬و ِم ْن َث َّم أهداف عرض الموضوعات‪ ،‬و ِعللها وأسبابها والحكمة المرادة منها‪ ،‬هي‬ ‫ب ِّينة واضحة في نصوصه صراح ًة‪ ،‬بالأساليب القرآنية المتعددة‪ .‬ففي الأحكام َيذكر القرآ ُن‬ ‫ال ُح ْك َم‪ ،‬و ُيب ِّين ِع َّل َته وحكمته‪ ،‬و َيذكر القص َة‪ ،‬و ُيب ِّين جان َب الاعتبار فيها‪ ،‬ويتح َّدث عن‬ ‫المشاهد الكونية‪ ،‬و ُيب ِّين ضرورة التد ُّبر والتف ُّكر‪ .‬وحين لا تكون ال ِع َّلة أو الحكمة واضحة‪،‬‬ ‫فإ َّن من السهل استنباطها بالمرجعية القرآنية نفسها‪ .‬وقد أشرنا إلى ما ذكره ابن الق ِّيم في‬ ‫عدد من كتبه عن طريقة القرآن في بيان مقاصد الآيات القرآنية‪(((.‬‬ ‫وقد سبق أ ِن اجتهدنا في تحديد منظومة القيم العليا في القرآن الكريم‪ ،‬التي تتك َّون‬ ‫من ثلاث قيم‪ ،‬هي‪ :‬التوحيد‪ ،‬والتزكية‪ ،‬والعمران‪ .‬وب َّينّا كيف أ َّن هذه القيم هي مقاصد‬ ‫عليا للقرآن الكريم‪ ،‬وهي مبادئ حاكمة‪ ،‬تقود سعي الراغبين في الاهتداء بالقرآن الكريم‬ ‫في حياتهم‪ .‬ووجدنا أ َّن هذه القيم الثلاث هي القيم العليا الرئيسة‪ ،‬وأ َّنه يتف َّرع عن ك ٍّل منها‬ ‫فئات متعددة‪ ،‬نجدها في القرآن الكريم‪ ،‬وتشمل‪ :‬الإرشاد والتوجيه في جميع شؤون حياة‬ ‫الفرد والمجتمع‪(((.‬‬ ‫ونجد للاجتهاد في اعتماد هذه المنظومة المقاصدية بعناصرها الثلاثة عدد ًا من‬ ‫المس ِّوغات‪ ،‬نشير إلى اثنين منها‪:‬‬ ‫‪ -‬هذه المنظومة ُت َع ُّد أهم تج ِّليات وحدة الدين الإلهي‪ ،‬الذي ُأر ِسل به جميع الأنبياء‬ ‫والرسل؛ فهذه المقاصد هي مقاصد الدين الإلهي الواحد‪ ،‬بالرغم من بعض‬ ‫جوانب الاختلاف في شرائع هذه الأديان‪.‬‬ ‫‪ -‬تحديد هذه المنظومة وحصرها على هذا الوجه جاء نتيجة للاستقراء التام لآيات‬ ‫القرآن الكريم‪ (((.‬وأ ُّي اجتهاد آخر في تسمية مقصد غيرها سيكون متض َّمن ًا في‬ ‫واحد من هذه المقاصد الثلاثة‪ .‬وقد ص َّرح الشاطبي في تحديده ل ُص ْلب العلم بما‬ ‫يأتي‪\" :‬هو الأصل والمعتمد‪ ...‬وذلك ما كان قطعي ًا أو راجع ًا إلى أصل قطعي‪،‬‬ ‫((( انظر‪ :‬مرجعية المقاصد من هذا الفصل‪ ،‬ص‪.٣٠٦-٣٠١‬‬ ‫((( ملكاوي‪ .‬منظومة القيم العليا‪ :‬التوحيد والتزكية والعمران‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬ ‫((( العلواني‪ ،‬طه جابر‪ .‬مقاصد الشريعة‪ ،‬سلسلة قضايا إسلامية معاصرة‪ ،‬بيروت‪ :‬دار الهادي‪2001 ،‬م‪ ،‬ص‪.147‬‬ ‫‪325‬‬

‫والشريعة المباركة ُمن َّزلة على هذا الوجه‪ .‬ولذلك كانت محفوظة في أصولها‬ ‫وفروعها‪ ...‬لأ َّنها ترجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫الضروريات‪ ،‬والحاجيات‪ ،‬والتحسينات‪ ،‬وما هو ُمك ِّمل لها‪ ،‬و ُمت ِّمم لأطرافها‪.‬‬ ‫وهي أصول الشريعة‪ ،‬وقد قام البرها ُن القطع ُّي على اعتبارها ‪ ...‬هذا إ ْن كانت‬ ‫وضعية لا عقلية‪ .‬فالوضعيات قد تجاري العقليات في إفادة العلم القطعي‪،‬‬ ‫وعلم الشريعة من جملتها؛ إذ العلم مستفاد من الاستقراء العام الناظم لأشتات‬ ‫أفرادها‪ ،‬حتى تصير في العقل مجموعة في كليات مطردة‪ ،‬عامة ثابتة‪ ،‬غير زائلة‬ ‫ولا متب ِّدلة‪ ،‬وحاكمة غير محكوم عليها‪ ،‬وهذه خواص الكليات العقليات‪ .‬وأيض ًا‪،‬‬ ‫فإ َّن الكليات العقلية مقتبسة من الوجود؛ وهو أم ٌر وضع ٌّي‪ ،‬لا عقل ٌّي‪ ،‬فاستوت مع‬ ‫الكليات الشرعية بهذا الاعتبار‪ ،‬وارتفع الفرق بينهما‪(((\".‬‬ ‫ونجتهد فيما يأتي في تل ُّمس تج ِّليات التربية المنبثقة من هذه المقاصد العليا‪.‬‬ ‫أولاً‪ :‬مقاصد تربوية للتوحيد‪:‬‬ ‫عندما درس العلماء مبحث التوحيد في علوم العقيدة الإسلامية انصرف كثي ٌر من‬ ‫جهدهم واهتمامهم إلى مسائل كلامية مج َّردة‪ ،‬تف َّرعت فيها آراء المتكلمين فِرق ًا ومذاهب‬ ‫ش ّتى‪ ،‬حتى فقدت قيمتها العملية في حياة المؤمن‪ .‬في حين أ َّن منه َج عرض التوحيد في‬ ‫القرآن الكريم كان يتصل اتصالاً مباشر ًا بحياة الإنسان المؤمن‪ ،‬في صلته بالله سبحانه‪،‬‬ ‫وفي خوالج نفسه وأشواقه ونوازعه‪ ،‬وفي بيئته الاجتماعية والطبيعية‪ ،‬حتى إ َّن المؤمن‬ ‫يجد أ َّن التوحيد هو \"جوهر الخبرة الدينية‪ (((\"،‬ويشعر بالقيمة التربوية والنفسية للتوحيد‪،‬‬ ‫وهو يجده حاضر ًا في كل فكرة تراوده‪ ،‬وفي كل كلمة ينطقها‪ ،‬وفي كل حركة يأتي بها‪.‬‬ ‫فالله سبحانه الذي يعبده المؤمن هو إل ٌه واح ٌد لا شريك له‪ .‬وحين يقرأ المؤمن قوله تعالى‪:‬‬ ‫﴿ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ﴾‬ ‫[الأنعام‪ ،]163-162:‬فإ َّنه لن يتو َّجه إلى غيره سبحانه بأ ِّي أم ٍر من الأمور‪.‬‬ ‫((( الشاطبي‪ ،‬الموافقات في أصول الشريعة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬المقدمة التاسعة‪ ،‬ص‪.45‬‬ ‫((( الفاروقي‪ ،‬إسماعيل راجي‪ .‬والفاروقي‪ ،‬لويس لمياء‪ .‬أطلس الحضارة الإسلامية‪ ،‬ترجمة‪ :‬عبد الواحد لؤلؤة‪،‬‬ ‫مراجعة‪ :‬رياض نور الله‪ ،‬الرياض‪ :‬مكتبة العبيكان‪ ،‬ط‪1419( ،1‬ﻫ‪1998/‬م)‪ ،‬ص‪.98‬‬ ‫‪326‬‬

‫وحين نتف َّكر في دلالات الآيات القرآنية الكريمة التي تجعل التوحيد موضوع ًا لها‬ ‫نجدها من الكثرة في العدد والتن ُّوع في الأساليب ما يؤ ِّكد لنا أ َّن التوحي َد هو المقص ُد‬ ‫الأعلى للقرآن الكريم‪ ،‬بل إ َّن القرآن الكريم يؤ ِّكد أ َّن التوحيد كان جوه َر الدين الإلهي‬ ‫الذي أراده الله للبشر‪ ،‬منذ بدء خلق الإنسان‪ ،‬وأ َّن الله سبحانه كان ُير ِسل الرس َل والأنبياء‬ ‫إلى الناس كلما نسوا هذا الجوهر‪ ،‬وانحرفوا عن التوحيد‪﴿ .‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ‬ ‫ﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ﴾ [الأنبياء‪ .]25:‬قال ابن عاشور في هذه الآية‪\" :‬وفيها إظها ٌر‬ ‫لعناية الله تعالى بإزالة الشرك من نفوس البشر‪ ،‬وقطع دابره؛ إصلاح ًا لعقولهم‪ ،‬بأ ْن ُيزال‬ ‫منها أفظع خطل‪ ،‬وأسخف رأي‪(((\".‬‬ ‫وقد يكون مفهوم \"التوحيد\" حاضر ًا في بعض الديانات الباقية اليوم‪ ،‬ولك َّن مفهومه‬ ‫في الإسلام متم ِّي ٌز تمام ًا؛ متم ِّي ٌز في تص ُّوره للإله الواحد‪ ،‬وفي آثار هذا التص ُّور على علاقة‬ ‫الإله الواحد بموجودات العا َلم الذي خلقه‪ ،‬وهو متم ِّي ٌز في تص ُّور موقع الإنسان الذي‬ ‫جعله الله خليف ًة في هذا العا َلم‪ ،‬وفي تنظيم علاقة الإنسان بالخالق‪ ،‬وعلاقات الناس في‬ ‫داخل المجتمع‪ ،‬وعلاقات المجتمعات بعضها ببعض‪.‬‬ ‫ومسأل ُة التوحيد في الإسلام ليست مسأل َة عقيد ٍة عقلية ساكنة تقع في هامش‬ ‫معتقدات الإنسان‪ ،‬بل إ َّنها عقيد ٌة متح ِّرك ٌة دافع ٌة رافع ٌة‪ ،‬لها من التج ِّليات العملية ما يضع‬ ‫للإنسان مبادئ تتصل بكل مجالات الحياة الاجتماعية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬والاقتصادية‪ ،‬والفنية‪،‬‬ ‫وغيرها‪ ،‬في حياة الإنسان المسلم‪ ،‬وفي ُن ُظم المجتمع المسلم‪ ،‬وعلاقة المجتمع المسلم‬ ‫بالمجتمعات الأُخرى‪.‬‬ ‫ونكتفي في هذا المقام أ ْن نشي َر إشارا ٍت موجزة إلى بعض التج ِّليات التربوية العامة‪،‬‬ ‫مع التنويه بأ َّن التج ِّليات التربوية التي نقصدها هنا تتصل بالحالة العقلية والنفسية والسلوكية‬ ‫للإنسان المؤمن بالتوحيد؛ فالحالة العقلية تتصل بمنهجية التع ُّقل والتف ُّكر والتد ُّبر‪ ،‬لتحقيق‬ ‫الفهم وبناء الوعي والإدراك‪ .‬والحالة النفسية تتصل بالمشاعر والأحاسيس‪ ،‬بما فيها من‬ ‫مؤ ِّشرات الإخلاص‪ ،‬وال ُحب‪ ،‬والرضا‪ ،‬وصلاح البال‪ .‬والحالة السلوكية تتصل بأشكال‬ ‫التعامل‪ ،‬والحياة العملية الشخصية والمهنية والاجتماعية‪:‬‬ ‫((( ابن عاشور‪ ،‬التحرير والتنوير‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬تفسير الآية (‪ )25‬من سورة الأنبياء‪ ،‬ج‪ ،17‬ص‪.49‬‬ ‫‪327‬‬

‫‪ .1‬وحدة المرجعية؛ فقد ضرب الله مثل ًا في القيمة العظيمة التي تم ِّثلها وحدة‬ ‫المرجعية بالمقارنة مع تع ُّددها‪ ،‬فقال سبحانه‪﴿ :‬ﯫﯬﯭﯮﯯ ﯰ‬ ‫ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ﴾ [الزمر‪.]29:‬‬ ‫فعندما يعمل الإنسان تحت إمرة جهتين مختلفتين‪ ،‬فإ َّنهما تتشاكسان وتتناقضان‬ ‫فيما تق ِّدمانه من توجيهات؛ فإحداهما تأمره بعمل‪ ،‬والأُخرى تأمره بعدم العمل‪.‬‬ ‫ولا يقف الأمر عند عدم الإنجاز‪ ،‬وإ َّنما يمتد أث ُر هذا التع ُّدد في المرجعية إلى‬ ‫التم ُّزق النفسي والحيرة والقلق‪ .‬ومن أوضح الآثار التربوية للتوحيد ما يصل‬ ‫إليه الإنسان من نفس مطمئن ٍة تتو َّحد طاقا ُتها ومشاعرها في جهة واحدة‪ ،‬تشعر‬ ‫بالرضا والسعادة‪ ،‬وتتصف بالنشاط واله َّمة والإيجابية‪ ،‬وتطمئن إلى الحكمة‬ ‫فيما يتف َّضل به الله عليه من نصيب الدنيا‪ ،‬وما ي َّدخره له في الآخرة‪.‬‬ ‫‪ .2‬بناء رؤية توحيدية للعا َلم؛ وهي الرؤية الوحيدة التي ُتن ِقذ المؤم َن بالتوحيد من‬ ‫حالة الحيرة والقلق التي تنتاب غير المؤمن نتيجة غيابها‪ .‬ورؤية الإنسان للعا َلم‬ ‫هي أهم مح ِّدد للحالة العقلية والنفسية والسلوكية للإنسان‪ ،‬و ِم ْن َث َّم أهم ُمع ِّبر‬ ‫عن حالته التربوية‪ .‬فحين تتك َّرر عبارة \"ر ُّب العالمين\" في القرآن الكريم‪ ،‬وفي‬ ‫سياقات الإشارة إلى العوالم الطبيعية والاجتماعية والنفسية‪ ،‬وتتك َّرر عبارة \"عا َلم‬ ‫الغيب والشهادة\"‪ ،‬ويتك َّرر لفظ \"الرؤية\" باشتقاقاتها ودلالاتها المتعددة؛ سواء‬ ‫الرؤية بالباصرة وما تتط َّلبه من ضبط المشاهدات والقياسات والتجارب‪ ،‬أو‬ ‫الرؤية العالمة التي تستدعي وتتذ َّكر ما هو معلوم ليكون جزء ًا من البناء المعرفي‪،‬‬ ‫أو الرؤية بالبصيرة المتد ِّبرة لما وراء الظواهر المنظورة‪ ،‬والمعتبرة بتق ُّلبات الأيام‬ ‫ومصائر الأقوام؛ كل ذلك يبني رؤية للعا َلم‪ ،‬تجيب عن الأسئلة ال ُم ِل َّحة عن‬ ‫الخلق والخالق‪ ،‬والإنسان والطبيعة‪ ،‬والحياة والموت‪ ،‬والخير والشر‪ ،‬والعلم‬ ‫والمعرفة‪ ...‬فالإجابات التي تق ِّدمها الرؤية التوحيدية تريح الإنسان من فوضى‬ ‫المعتقدات‪ ،‬لتنطلق طاقاته في الاتجاه الإيجابي البنّاء‪.‬‬ ‫‪ .3‬صياغة نظرية المعرفة؛ فإذا كان توحيد الله سبحانه هو ُأ ُّس العقيدة‪ ،‬ورأس الإيمان‬ ‫بالغيب‪ ،‬فإ َّن ذلك ليس بديل ًا عن التعامل مع عا َلم الشهادة بأشيائه وأحداثه‬ ‫وظواهره؛ فالله الواحد سبحانه هو \"عا َلم الغيب والشهادة\"‪ ،‬وهو مصدر العلم‬ ‫‪328‬‬

‫والمعرفة‪ .‬و ِم ْن َث َّم‪ ،‬فنظرية المعرفة عند المؤمن تتكامل في مصدرين لا ثالث‬ ‫لهما‪ :‬الوحي الذي ُير ِسل به الل ُه أنبيا َءه من عا َلم الغيب‪ ،‬وعا َلم الشهادة الذي‬ ‫يتض َّمن العوالم الطبيعية والاجتماعية والنفسية‪ ،‬فتتف َّرع معرفة الإنسان إلى فرعين‬ ‫كبيرين‪ :‬علوم النقل ومرجعيتها آيات الله المسطورة‪ ،‬وعلوم العقل ومرجعيتها‬ ‫آيات الله المنظورة في الطبيعة المادية والاجتماع البشري والعا َلم النفسي‪ ،‬ونجد‬ ‫فيها عشرات من فروع العلوم الأساسية‪ ،‬والاجتماعية‪ ،‬والإنسانية‪ ،‬والتطبيقية‪.‬‬ ‫فتوحيد الله سبحانه يقتضي تكا ُمل ما يتف َّضل به الله على الإنسان‪ ،‬فلا تصا ُدم‪،‬‬ ‫ولا تعا ُرض بين مصادر العلم‪ .‬ويقتضي كذلك تكا ُمل وسائل العلم؛ فهو يدخل‬ ‫مختبر البحث العلمي‪ ،‬بما فيه من قياسات وحسابات وتجارب‪ ،‬و ُيع ِمل فيه ك َّل‬ ‫قدراته على التع ُّقل والفهم والإدراك؛ وصف ًا‪ ،‬وتفسير ًا‪ ،‬وتن ُّبؤ ًا‪ ،‬وتح ُّكم ًا‪ ،‬وهو‬ ‫في هذا َي ُع ُّد نفسه في محراب العبادة العملية‪ُ ،‬متط ِّلع ًا إلى عون الله في البحث‪،‬‬ ‫وشاكر ًا فضله فيما يصل إليه من نتائج‪ .‬ومع هذا النوع من التكا ُمل في مصادر‬ ‫المعرفة‪ ،‬والتكا ُمل في وسائلها‪ ،‬تتح َّقق للإنسان درجة عالية من التكا ُمل التربوي‬ ‫في شخصيته‪ ،‬في عنصريها‪ :‬العقلي‪ ،‬والوحي‪.‬‬ ‫‪ .4‬إطلاق طاقات الإنسان الفكرية والعملية؛ فشهادة التوحيد \"لا إله إلا الله‪ ،‬محمد رسول‬ ‫الله\" هي باب الدخول في الإسلام‪ ،‬وأول ركن فيه‪ ،‬وعلى أساسه تقوم أركان الإسلام‬ ‫الأربعة الأُخرى‪ .‬وبهذه الأركان الخمسة يتح َّقق الإسلام في واقع الفرد والمجتمع؛‬ ‫عقيد ًة‪ ،‬وعباد ًة‪ ،‬ونظا َم حيا ٍة‪ .‬وبمقتضى شهادة التوحيد تتح َّدد أركان الإيمان الستة‪،‬‬ ‫ويسمو بها الإنسان في آفاق التوا ُزن بين المادة والروح‪ ،‬وتنطلق بها طاقاته الفكرية‬ ‫والوجدانية والعملية في فضاءات الدنيا والآخرة‪ ،‬وتتخلص من أوهام الخرافة إلى‬ ‫يقين العلم‪ .‬وبتح ُّقق أركان الإسلام وأركان الإيمان تنعقد ُأخ َّوة المؤمنين في بناء ُأ َّمة‬ ‫واحدة‪ُ ،‬تس ِهم في ترشيد سعي الإنسان لتحقيق الخلافة والعمران‪.‬‬ ‫‪ .5‬إخلاص العبادة لله؛ إذ تتواصل دلالات التوحيد من الإسلام إلى الإيمان‪ ،‬ث َّم‬ ‫إلى الإحسان‪ ،‬حيث تتر ّقى قوى الإنسان في مراتب التزكية‪ ،‬والسمو النفسي‪،‬‬ ‫والعدل الاجتماعي‪ ،‬والبناء الحضاري‪ .‬وبذلك تتج َّمع تج ِّليات التوحيد في‬ ‫التربية العقلية والنفسية وآثارها السلوكية والعملية في سائر مجالاتها (الاجتماع‬ ‫‪329‬‬

‫البشري‪ ،‬والعمران الحضاري)‪ .‬وعندها كذلك تتو َّجه جميع صور النشاط‬ ‫البشري بالعبادة الخالصة إلى الله سبحانه؛ إذ يستشعر المؤمن حضور الله تعالى‬ ‫في قلبه‪ ،‬في كل خاطرة تم ُّر به‪ ،‬وفي كل عمل يعمله‪.‬‬ ‫‪ .6‬الشعور بالحرية والكرامة؛ فالتو ُّجه الخالص لله بالعبادة ُيش ِعر المؤمن أ َّنه ليس‬ ‫مسؤولاً أمام أحد غير الله سبحانه‪ .‬ولا يطمع في فضل أحد سواه‪ ،‬وبذلك‬ ‫يتح َّرر من أ ِّي تو ُّجه إلى غيره؛ فلا يكون ُمو َّزع ًا بين مرجعيات متعددة‪ ،‬وولاءات‬ ‫متشاكسة‪ ،‬والأهم من ذلك أ َّنها تح ِّرر الإنسان من أهواء نفسه وشهواتها‪ ،‬التي‬ ‫قد تح ُّد من حريته وقدرته على توظيف طاقاته وإمكاناته فيما هو خي ٌر له في‬ ‫دنياه و ُأخراه‪ .‬وهذه الحرية تمنحه ثق ًة بالنفس‪ ،‬وشعور ًا بالع َّزة والكرامة؛ لأ َّنه لا‬ ‫يحتاج إلى الخضوع لأ ِّي قه ٍر‪ ،‬أو إذلا ٍل‪ ،‬أو مهان ٍة‪ .‬وهذه تربي ٌة على الحرية تتف َّوق‬ ‫‪-‬في أثرها في الفرد‪ -‬على أ ِّي معنى آخر من معاني الحرية؛ سواء انتسبت هذه‬ ‫المعاني الأُخرى للحرية إلى القانون الطبيعي‪ ،‬أو القانون الاجتماعي‪.‬‬ ‫‪ .7‬الإحسان والإتقان في العمل؛ فإذا كان مبدأ التوحيد يصل الإنسان بالله الواحد‪،‬‬ ‫فإ َّنه يح ِّدد طبيعة هذه الصلة‪ .‬فحضور الله سبحانه في قلب المؤمن والشعور‬ ‫الدائم بمراقبته يملأ قلبه بالحب والإخلاص له‪ .‬و ِم ْن َث َّم‪ ،‬فإ َّنه يتو َّجه إليه سبحانه‬ ‫بأفضل ما يستطيع من قول أو عمل‪ ،‬ويحاول الوصول إلى درجة الإحسان‪ ،‬فتكون‬ ‫درج ُة الإحسان عنده مقياس ًا لإتقان العمل وإجادته‪ ،‬وهو مقيا ٌس أكث ُر فاعلية من‬ ‫المقاييس التي تح ِّددها دوائ ُر ضمان الجودة‪ ،‬التي تتصل غالب ًا بالنواحي ال َك ِّمية‬ ‫المحكومة بمح ّكات دنيوية نسبية‪ .‬ويتح ّلى ال ُب ْعد التربوي للتوحيد في مسألة‬ ‫الإحسان والإتقان بحفز الفرد إلى إنجاز العمل بدرجة عالية من النجاح‪،‬‬ ‫وتمكين المجتمع ‪-‬استناد ًا إلى دوافع الإحسان عند الأفراد‪ ،‬والإدارة بالإحسان‬ ‫في المؤسسات‪ -‬من تنفيذ برامج الإصلاح وخطط النمو والتق ُّدم‪.‬‬ ‫‪ .8‬حوافز لمواصلة البحث والزيادة في العلم؛ إذ يتصل مبدأ توحيد الله سبحانه‬ ‫بالإيمان بالمعتقدات الغيبية‪ .‬فالإنسان المؤمن مهما بلغ من العلم م ّما هو من‬ ‫ظواهر الحياة الدنيا المحسوسة‪ ،‬فإ َّنه يؤمن بعوالم الغيب المستورة عن حوا ِّسه‪،‬‬ ‫‪330‬‬

‫و ِم ْن َث َّم تكون العوالم التي يعيش فيها الإنسان في الدنيا (العوالم الطبيعية‪،‬‬ ‫والاجتماعية‪ ،‬والنفسية) عوالم تمتد وتتسع حتى تكون أكبر بكثير من بيئته‬ ‫المحدودة‪ ،‬فيتواضع في علمه‪ ،‬ويواصل طلبه للمزيد؛ لأ َّن الله سبحانه‪ ،‬وهو‬ ‫يعلم الغيب المطلق‪ ،‬يمكن أ ْن ُي ْط ِلع َمن يسعى في العلم‪ ،‬ويسلك أسبابه‪ ،‬على‬ ‫بعض ما ُي َع ُّد من الغيب النسبي الذي يصبح ‪-‬بعد الا ِّطلاع عليه‪ -‬من الزيادة في‬ ‫العلم بظاهر الحياة الدنيا‪ .‬وكل ذلك ُين ّمي عند الإنسان الرغبة في النظر العميق‪،‬‬ ‫والا ِّطلاع الواسع على ما يتي َّسر‪ ،‬مع معرفة وعلم عن آفاق الكون والحياة‬ ‫والإنسان‪ ،‬وانفتاح هذا العلم على المجهول الذي ينتظر الاكتشاف‪ ،‬وعلى ما‬ ‫وراء ذلك من آفاق علم الله‪.‬‬ ‫‪ .9‬غياب الفكر المقاصدي عن ميدان التعليم الديني؛ ما جعل قضايا الإيمان والعقيدة‬ ‫مادة للجدل الكلامي بنزعاته وفِرقه ومذاهبه‪ .‬ول ّما كانت قضايا العقيدة والإيمان‬ ‫هي الأساس لغيرها من علوم الدين‪ ،‬مثل الفقه والأصول والتفسير‪ ،‬فقد انعكس‬ ‫الجمود والخمول على كثير من الممارسات التعليمية في هذه العلوم‪ ،‬وفقدت‬ ‫شيئ ًا من حيويتها‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإ َّن من اللازم أ ْن تصل الصحوة المقاصدية إلى الدرس‬ ‫العقدي؛ ليصبح فيه موضوع التوحيد وسيل ًة لبناء الصلة بالله سبحانه‪ ،‬ومعرفته‬ ‫بما ع َّرف به نفسه‪ ،‬وحضوره في قلب المؤمن؛ ليطمئن القلب بحضوره وذكره‪.‬‬ ‫فالمقصد هنا هو توجيه الدرس العقدي إلى غايته‪ ،‬بالتركيز على أثره النفسي‬ ‫والعقلي‪ ،‬والتخلص م ّما يقع فيه هذا الدرس من البحث فيما لا ينبني عليه عمل‪.‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬مقاصد تربوية للتزكية‪:‬‬ ‫إذا كان التوحيد مقصد ًا قرآني ًا‪ ،‬يتصل في الأساس بعقيدة الإيمان بوحدانية الله سبحانه‪،‬‬ ‫وتتج ّلى آثاره في ترشيد الصلة بالله الواحد عن طريق العبادات الشعائرية والتعاملية‪ ،‬فإ َّن‬ ‫التزكية مقصد قرآني يتصل في الأساس بالإنسان الذي استخلفه الله على الأرض؛ الإنسان في‬ ‫ضميره‪ ،‬وعلاقاته‪ ،‬وأنماط سلوكه‪ .‬و ِم ْن َث َّم‪ ،‬فإ َّن موضوع التزكية هو إصلاح واقع الإنسان؛‬ ‫فرد ًا‪ ،‬وجماع ًة‪ ،‬و ُأ َّم ًة‪ ،‬ونوع ًا بشري ًا‪ ،‬وإصلاح الإنسان؛ ماد ًة‪ ،‬وروح ًا‪ .‬والمقصد المباشر هو‬ ‫‪331‬‬

‫ترقية هذا الإنسان في مراتب التزكية والتنقية والتطهير في المشاعر والخلجات والخواطر‬ ‫النفسية‪ ،‬على مستوى الفرد الإنساني‪ ،‬وفي التطهير والبركة والنمو في ماله وممتلكاته‪،‬‬ ‫وفي الترقية والإحسان في علاقاته الأسرية والاجتماعية؛ ليكون الإنسان أقدر على تحقيق‬ ‫الإصلاح في البناء الاجتماعي والعمران البشرى‪ .‬وقد استوعبت آيا ُت القرآن الكريم في‬ ‫التزكية هذه المقاصد كلها‪ .‬وفيما يأتي بعض الأمثلة على المقاصد التربوية للتزكية‪:‬‬ ‫‪ .1‬أساس التج ِّليات التربوية لمقصد التزكية هو حالة الفرد النفسية التي تنعكس على‬ ‫حالته العقلية والسلوكية‪ .‬وعلى هذا الأساس نحاول أ ْن نفهم ال َق َسم الأ ْط َول في‬ ‫القرآن الكريم؛ فقد أقسم الله سبحانه بمخلوقاته المتعددة على أ َّن طريق الفلاح‬ ‫في الوصول إلى المراد هو تزكية النفس الإنسانية‪ ،‬وأ َّن َمن لا يتح َّقق بتزكية النفس‬ ‫فإ َّن مصيره الخسران‪ .‬والنفس الإنسانية هنا هي ذات الإنسان؛ جسم ًا‪ ،‬وعقل ًا‪،‬‬ ‫وروح ًا؛ وهي الفرد والجماعة‪ ،‬وما يتاح لهذه الذات من ُع ُم ٍر في حياتها‪ ،‬وما ٍل‬ ‫في ممتلكاتها‪ ،‬وبيئ ٍة هو ُمستخ َل ٌف فيها‪ ،‬ولك َّن محور التزكية في كل ذلك هو‬ ‫الوجدان الإنساني الذي يكون موضوع ًا للتربية والتنمية‪﴿ .‬ﭨﭩﭪﭫ‬ ‫ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ﴾ [الشمس‪.]10-7:‬‬ ‫‪ .2‬إذا كانت التزكية مقصد ًا‪ ،‬فهي كذلك وسيلة إلى مقصد الفلاح؛ إذ ُيع ِّبر عن‬ ‫ذلك قوله تعالى‪﴿ :‬ﯿﰀﰁﰂ﴾ [الأعلى‪ .]14:‬وفِ ْعل \"التز ّكي\" من ال َّت َف ُّعل؛ وهو‬ ‫بذل الجهد الزائد على المعتاد من فعل التزكية‪ .‬والفلاح هو النجاح فيما يبتغيه‬ ‫الإنسان‪ ،‬والفوز فيما يرجوه من فضل الله عليه في مصالح الدنيا ومنافعها‪،‬‬ ‫والنجاة من النار ودخول الجنة في الآخرة‪ ،‬عندئ ٍذ‪ ،‬يتح َّقق الفوز الأكبر‪﴿ .‬ﮩ‬ ‫ﮪ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ﴾ [آل عمران‪ .]185:‬فالمفلحون الذين بدأت‬ ‫سورة \"المؤمنون\" بذكرهم وتعداد بعض صفاتهم‪ ،‬جعلتهم الوارثين الذين يرثون‬ ‫الفردوس والخلود فيه‪﴿ .‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ‬ ‫ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ‬ ‫ﭫﭬ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭶﭷﭸﭹﭺ‬ ‫ﭻﭼﭽﭾﭿ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮈ‬ ‫ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﴾ [المؤمنون‪.]11-1:‬‬ ‫‪332‬‬

‫وكما بدأت السورة بذكر الفلاح للمؤمنين‪ ،‬انتهت ب َحجب الفلاح عن الكافرين‬ ‫الذين يدعون مع الله إله ًا آخ َر لا برهان لهم به‪﴿ .‬ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ‬ ‫ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯴﯵﯶﯷ﴾ [المؤمنون‪ .]117:‬فالمقصد التربوي‬ ‫من التزكية هو م ُّد التط ُّلع والاستشراف إلى النتيجة التي تؤدي إليها التزكية من‬ ‫صور الفلاح في الحياة الدنيا والحياة الآخرة‪.‬‬ ‫‪﴿ .3‬ﭹ ﭺﭻ﴾؛ أ ِي الذين أدركوا ما طلبوا‪ .‬والفلاح‪ :‬الفوز وصلاح‬ ‫الحال‪ ،‬فيكون في أحوال الدنيا وأحوال الآخرة‪ .‬والمراد به في اصطلاح الدين‬ ‫الفوز بالنجاة من العذاب في الآخرة‪.‬‬ ‫‪ .4‬تزكية النفس طلب ًا للفلاح تتج ّلى كذلك في تزكية المال؛ فالمال فتنة واختبار‪.‬‬ ‫والنجاح والفلاح في هذا الاختبار يكون بإنفاق المال في وجوهه‪ ،‬وتزكيته‬ ‫بمقاديره‪ ،‬وبذلك يتو ّقى الإنسا ُن ُش َّح النفس‪ ،‬ويكون من المفلحين‪ ،‬وينتظر وعد‬ ‫الله بأ َّن عائد الإنفاق هو مضاعفة ما يبقى منه؛ برك ًة‪ ،‬ونفع ًا‪ ،‬وزياد ًة‪ ،‬ونم ّو ًا‪﴿ .‬ﮝ‬ ‫ﮞﮟ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ ﮫﮬ‬ ‫ﮭﮮﮯﮰﮱ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ‬ ‫ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ﴾ [التغابن‪ .]17-15:‬وعندما‬ ‫يتأ َّصل ُش ُّح النفس في الإنسان‪ ،‬ولا يتو ّقى نتائج هذا ال ُّش ِّح‪ ،‬فيكون تعامله المالي‬ ‫على أساس الربا‪ ،‬فإ َّن المال لا يربو‪ ،‬ولا يزكو‪ ،‬ولا يتضاعف‪﴿ .‬ﮬﮭﮮ‬ ‫ﮯ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯞﯟﯠﯡﯢ‬ ‫ﯣ﴾ [الروم‪ ]39 :‬وإنما يكون مصيره الـ َم ْح َق والتلف في الدنيا والعقاب في‬ ‫الآخرة‪﴿ .‬ﮄﮅﮆﮇﮈﮉ﴾ [البقرة‪.]276:‬‬ ‫‪ .5‬بنا ًء على الارتباط الذي رأيناه بين التزكية فعل ًا‪ ،‬والفلاح نتيج ًة‪ ،‬يمكننا أ ْن نتت َّبع‬ ‫وسائل الوصول إلى التزكية للحصول على الفلاح‪ ،‬فنجد أ َّن من هذه الوسائل ما‬ ‫يتجاوز مشاعر النفس الإنسانية وتعاملها المالي‪ ،‬لتصل إلى خصائص المجتمع‪.‬‬ ‫فالمجتمع المفلح هو المجتمع الذي تتع َّزز فيه الدعوة إلى الإصلاح‪ ،‬ويزكو‬ ‫‪333‬‬

‫بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪﴿ .‬ﮖﮗﮘﮙ‬ ‫ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ﴾ [آل عمران‪.]١٠٤:‬‬ ‫وإذا كان الفلاح نتيجة للأمر بالمعروف والصلاح والنهي عن المنكر والفساد‪،‬‬ ‫فإ َّن النجاة من الهلاك والخسران في الدنيا قبل الآخرة إ َّنما تكون بالتر ّقي من‬ ‫الصلاح إلى الإصلاح‪﴿ .‬ﯣ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯮ‬ ‫ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ‬ ‫ﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ﴾ [هود‪.]117-116:‬‬ ‫‪ .6‬من أروع تج ِّليات التربية النفسية والاجتماعية أ ْن َي ِر َد لفظ \"التزكية\" في القرآن‬ ‫الكريم في حالة الخلاف الأسري الشديد‪ .‬فالنفس البشرية تت َل َّبس أحيان ًا بحالات‬ ‫من الاستياء والغضب‪ ،‬تؤدي إلى اختلافات بين الزوجين‪ ،‬تصل إلى قطع‬ ‫أواصر المودة والرحمة‪ ،‬ور َّبما تنتقل البغضاء والشحناء إلى عائلتي الزوجين‪،‬‬ ‫وتنتهي باستبعاد ُفرص الخير والإصلاح‪ .‬ومن هنا‪ ،‬تأتي الموعظة بتقديم ُفرص‬ ‫الإصلاح‪ ،‬ومنع الأسباب التي تحول دون استثمار ما ُبنِ َي من مودة ورحمة بين‬ ‫الزوجين؛ فمنع أسباب القطيعة والفرقة وإعادة المودة والرحمة هو الأزكى‬ ‫والأطهر من العلاقات‪ .‬والتزكية هنا لا تقتصر على توجيه المشاعر والخواطر‬ ‫النفسية إلى الفرد‪ ،‬وإ َّنما تتجاوز ذلك إلى تزكية علاقات المجتمع وأنظمته‪،‬‬ ‫وتقديم المعالجة الحكيمة لما يقع فيه من مشكلات‪﴿ .‬ﮄﮅﮆﮇ‬ ‫ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮘ‬ ‫ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮤﮥﮦﮧ﴾ [البقرة‪ .]232:‬ويرى‬ ‫ابن عاشور أ َّن عبارة \" َأ ْز َكى َل ُك ْم\" تعني‪\" :‬أوفر لل ِعرض‪ ،‬وأقرب للخير‪ .‬فأزكى‬ ‫دا ٌّل على النماء والوفر‪ ،‬وذلك أ َّنهم كانوا يعضلوهن َح ِم َّية وحفاظ ًا على المروءة‬ ‫من لحاق ما فيه شائبة الحطيطة‪ ،‬فأعلمهم الله أ َّن عدم العضل أوفر لل ِعرض؛ لأ َّن‬ ‫فيه سعي ًا إلى استبقاء الود بين العائلات التي تقاربت بالصهر والنسب‪ ،‬فإذا كان‬ ‫العضل إباية للضيم‪ ،‬فالإذن لهن بالمراجعة حلم وعفو ورفاء للحال‪(((\".‬‬ ‫((( المرجع السـابق‪ ،‬تفسـر الآية (‪ )232‬من سورة البقرة‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.428‬‬ ‫‪334‬‬

‫‪ .7‬في سورة \"النور\" تتك َّرر التربية النفسية والاجتماعية‪ ،‬مع الربط الحكيم بين تزكية‬ ‫نفوس المؤمنين وفلاحهم‪ ،‬فيأتي التذكير بالتزكية في سياق تنظيم العلاقات‬ ‫الاجتماعية المتصلة بخصوصيات المنزل وصيانة الأعراض‪ .‬فدخول البيوت لا‬ ‫يكون إلا باستئذان ث َّم إذن‪ ،‬واعتذار صاحب المنزل عن استقبال الزائر خي ٌر من‬ ‫الوقوع في الحرج‪ ،‬وعودة الزائر من حيث أتى هو أكثر طهر ًا للمشاعر النفسية‬ ‫والممارسات العملية‪ ،‬فلا يقع في النفس حر ٌج يؤ ِّثر سلب ًا في العلاقات بين‬ ‫الناس‪ .‬وغ ُّض البصر بين الرجال والنساء كذلك أكثر زكا ًة وطهر ًا للمشاعر‪،‬‬ ‫وأحفظ للفروج من تركيز البصر وتتابعه؛ لما قد يأتي به ذلك من مخاطر تتم َّثل‬ ‫في فساد الضمائر والنفوس‪ ،‬وانحراف السلوك والجوارح‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬ﯯ‬ ‫ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾ‬ ‫ﯿﰀﰁﰂﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭝ‬ ‫ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ‬ ‫ﭰﭱﭲ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭾﭿ‬ ‫ﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ‬ ‫ﮑ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮙﮚﮛﮜ‬ ‫ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ‬ ‫ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ‬ ‫ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ‬ ‫ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ‬ ‫ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ﴾ [النور‪.]31-27:‬‬ ‫ثالث ًا‪ :‬مقاصد تربوية للعمران‪:‬‬ ‫فهمنا أ َّن مقصد التوحيد يتصل بعقيدة الإيمان بالله الواحد‪ ،‬وأ َّن مقصد التزكية يتصل‬ ‫بالنفس الإنسانية وعلاقاتها وأنماط سلوكها‪ .‬وسنب ِّين الآن كيف نستكمل المك ِّون الثالث‬ ‫من منظومة المقاصد القرآنية‪ ،‬وهو العمران الذي يتصل بالحياة على هذه الأرض‪ ،‬والقيام‬ ‫بحق الخلافة والعمران فيها‪.‬‬ ‫‪335‬‬

‫ففي المصطلح القرآني جاءت مادة \"العمران\" من الجذر الثلاثي ( َع َم َر) بعدد من‬ ‫المعاني‪ ،‬منها الحياة‪﴿ .‬ﯟﯠﯡ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧ﴾ [الأنبياء‪ .]44:‬وقد‬ ‫تطول الحياة بالفرد الإنساني حتى يبلغ أرذل العمر‪﴿ .‬ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ‬ ‫ﯚ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ﴾ [النحل‪ .]70:‬وجاءت بمعنى \" ُنسك العمرة\"‬ ‫فيما يبقي المسج َد الحرام عامر ًا بالمعتمرين‪ ،‬ومعمور ًا بهم على مدار العام‪﴿ .‬ﮱﯓ‬ ‫ﯔﯕﯖ﴾ [البقرة‪ .]196:‬وجاءت بمعنى عمران المساجد وبنائها‪﴿ .‬ﮙﮚﮛﮜ‬ ‫ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﴾ [التوبة‪.]18:‬‬ ‫وجاءت بمعنى الإقامة في الأرض‪ ،‬والاستقرار فيها‪ ،‬وفلاحتها‪ ،‬وتشييد القصور‪ ،‬والتخ ّلي‬ ‫عن حياة البادية‪ ،‬والأخذ بأسباب الاستقرار والتم ُّدن والحضارة‪﴿ .‬ﮂﮃﮄﮅ‬ ‫ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ‬ ‫ﮗ﴾ [الروم‪ .]9:‬وقد يكون وجود بعض الناس في الأرض فساد ًا‪ ،‬وليس عمران ًا‪﴿ .‬ﯾ‬ ‫ﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ﴾ [الروم‪.]41:‬‬ ‫فالعمران حيا ٌة‪ ،‬وعم ٌل في الحياة؛ حيا ٌة يحياها الفرد أجل ًا مق َّدر ًا‪ ،‬وحيا ٌة تحياها‬ ‫الأُ َّمة بحضورها وآثارها في الواقع والتاريخ‪ ،‬وحياة البشرية إلى أ ْن تنتهي الحياة الدنيا‪.‬‬ ‫فما المقصد من هذه الحياة؟ لقد عاب الله تعالى على أقوام يطلبون الحياة‪ ،‬أ ّي ًا كانت هذه‬ ‫الحياة‪ ،‬حتى لو كان فيها الذلة والمهانة‪﴿ .‬ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ‬ ‫ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ﴾‬ ‫[البقرة‪ .]96:‬ولا ُب َّد أ ْن تكون الحياة لمقصد أسمى‪ ،‬وإذا لم تتح َّقق الحياة بمقصدها الأسمى‪،‬‬ ‫فقد يكون الموت خير ًا منها؛ إذ قابل الله حياة الأرض بعد نزول الماء من السماء بالموت‬ ‫قبل نزوله‪ ،‬وقابل الحياة الدنيا الخالية من المقصد الأسمى التي تمتلئ باللهو واللعب‬ ‫زمن ًا قصير ًا‪ ،‬وتنتهي بالموت‪ ،‬بالحياة الآخرة الممتدة الدائمة بلا موت ولا انقطاع‪.‬‬ ‫﴿ﯭﯮ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ‬ ‫ﰁﰂﰃﰄﰅﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ‬ ‫ﭠﭡ﴾ [العنكبوت‪.]64-63:‬‬ ‫‪336‬‬

‫قال ابن عاشور عن اللهو واللعب‪\" :‬واللهو‪ :‬ما يلهو به الناس‪ ...‬أو ي ْعمرون به أوقاتهم‬ ‫الخلية عن الأعمال‪ ...‬واللعب‪ :‬ما ُيق َصد به الهزل والانبساط‪(((\".‬‬ ‫إذن‪ ،‬فلا قيمة لهذه الحياة إذا كانت معمورة باللعب واللهو‪ ،‬ولا ُب َّد أ ْن يكون المقصد‬ ‫الذي أراده الله سبحانه أسمى وأكرم لحياة الإنسان في هذه الدنيا‪ .‬وإذا كانت الآخرة هي‬ ‫دار الحياة الممتدة الباقية بلا انقطاع‪ ،‬فهي دار الجزاء التي تقابل دار العمل في الدنيا‪ ،‬فما‬ ‫العمل الذي يريد الله من الإنسان أ ْن يعمر به الدنيا؟‬ ‫إذن‪ ،‬فمقصد العمران هو العمل في هذه الدنيا وهذه الأرض‪ ،‬التي م َّكن الله فيها‬ ‫الإنسان‪ ،‬وجعل له فيها معايش‪ ،‬وجعله فيها خليفة‪ ،‬واستعمره فيها؛ ف َث َّمة توا ُص ٌل‬ ‫وتكا ُمل في مقاصد خلق الإنسان على هذه الأرض‪ ،‬لهذه الحياة الدينا‪ ،‬تتصل بالتمكين‬ ‫والاستخلاف والاستعمار‪ .‬وقيام الإنسان بتحقيق هذه المقاصد هو معنى العبادة بالشعائر‬ ‫والمعاملات‪ .‬وكلها أعمال وفق ما أمر الله تعالى‪ ،‬ي َّتجه بها الإنسان إلى الله سبحانه‪.‬‬ ‫وقد حاولنا جمع هذه الأعمال في المخطط المجاور الذي يع ِّبر في مجمله ع ّما‬ ‫يمكن للإنسان أ ْن يعمر به حياته‪ ،‬وفق مقاصد الحق من الخلق‪ .‬فإذا كانت عبادة الإنسان‬ ‫لله الواحد هي المقصد العام‪ ،‬فإ َّن كل ما‬ ‫ورد من مواصفات معيارية لحياة الإنسان‬ ‫في الأرض إ َّنما تي َّسر للإنسان لتحقيق‬ ‫المقصد العام؛ فهو في الأرض خليفة يقوم‬ ‫بالمهمة التي أوكلها إليه ال ُمستخ ِلف‪،‬‬ ‫وهي عمران الأرض‪﴿ .‬ﯿﰀ﴾‬ ‫[هود‪ .]61:‬وذلك يتط َّلب أ ْن يكون الإنسان‬ ‫ُم َم َّكن ًا فيها‪﴿ .‬ﮯ ﮰﮱ ﯓ﴾‬ ‫[الأعراف‪ .]10:‬وأن تكون مس َّخرة له‪﴿ .‬ﭑ‬ ‫ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ﴾ [الحج‪.]65:‬‬ ‫فالعبادة بمعناها الأشمل هي العمل في عمران الأرض؛ أ ْي إصلاحها‪ ،‬والعمل الصالح فيها‪.‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬تفسير الآية (‪ )63‬من سورة العنكبوت‪ ،‬ج‪ ،21‬ص‪.31‬‬ ‫‪337‬‬

‫ويتض َّمن فقه العمل العمراني تنظيم الحياة المادية والمعنوية للناس‪ .‬ويتج ّلى العمران‬ ‫المعنوي باستتباب الأمن‪ ،‬وإقامة العدل‪ ،‬وممارسة الشورى‪ ،‬و ُن ُظم الإدارة والرعاية التي‬ ‫تي ِّسر ُسبل الحياة للناس‪ ،‬وترفع عنهم الحرج والمش َّقة‪ .‬ويتج ّلى العمران المادي بتشييد‬ ‫الأبنية‪ ،‬وش ِّق الطرق‪ ،‬وفلاحة الأرض‪ ،‬وبناء المصانع‪ .‬وبالتكا ُمل بين العمران المعنوي‬ ‫والعمران المادي يعيش كل الناس حياة كريمة طيبة؛ فخاصة الناس يسهرون على مصالح‬ ‫الناس والرحمة بهم‪ ،‬والعامة منهم يدعون للخاصة بالخير‪ ،‬وبمزيد من البركة والق َّوة‪.‬‬ ‫ونود تأكيد أ َّن العمران البشري في المصطلح القرآني الذي أشرنا إلى مواقع منه‪،‬‬ ‫هو المصطلح الذي أخذ به ابن خلدون‪ ،‬وهو عنده يتصل اتصالاً مباشر ًا بمعنى التم ُّدن‬ ‫والتح ُّضر؛ لذا لا نجد بأس ًا في الربط بين الحضارة والعمران‪ ،‬بوصفهما تعبيرين عن حالة‬ ‫الحياة في المجتمع البشري‪ ،‬بجانبيها‪ :‬المعنوي‪ ،‬والمادي‪(((.‬‬ ‫ونحاول فيما يأتي تل ُّمس بعض المقاصد التربوية للعمران‪:‬‬ ‫‪ .1‬الالتزام بالنظام والقانون عن طيب خاطر؛ فقد أ ّدى تكاثر الناس وتضارب‬ ‫مصالحهم إلى تنظيم عمران حياتهم وإدارتها بصورة تحفظ الحقوق وتح ِّقق‬ ‫الأمن‪ ،‬وهذا يقتضي الالتزام بالقوانين والتشريعات المدنية التي ر َّبما يشعر معها‬ ‫الإنسان بالح ِّد من حريته في التص ُّرف‪ .‬فتقدير قيمة التح ُّضر والتم ُّدن والعمران‬ ‫البشري‪ ،‬وما تتط َّلبه من تنظيم يح ِّقق المصالح العامة للمجموع‪ ،‬هو مسأل ٌة تربوي ٌة‬ ‫يدعمها الرضا النفسي بحق العمران‪ ،‬وتع ِّززها طرق التنشئة التربوية في الأسرة‪،‬‬ ‫وبرامج التوجيه في المؤسسات التربوية والإعلامية وغيرها‪.‬‬ ‫‪ .2‬الأبعاد القانونية التي يتط َّلبها العمران يتعاضد معها جان ٌب ثقافي تحكمه الأعراف‬ ‫والعادات‪ ،‬وأنماط التفكير العقلي‪ ،‬والتعبير اللغوي‪ ،‬والسلوك الاجتماعي في‬ ‫الحياة الخاصة والحياة العامة‪ .‬وللجانب التربوي في المسألة الثقافية وجهان؛‬ ‫الأول‪ :‬التنشئة على فهم الثقافة السائدة في المجتمع‪ ،‬وتقديرها واحترامها‪ ،‬لا‬ ‫سيما ما ُيش ِّكل منها عناصر الهوية المجتمعية والدينية‪ .‬والثاني‪ :‬الوعي بما قد‬ ‫((( ملكاوي‪ ،‬منظومة القيم العليا‪ :‬التوحيد والتزكية والعمران‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬العمران والحضارة في فصل‬ ‫العمران‪ ،‬ص‪.153‬‬ ‫‪338‬‬

‫تتض َّمنه هذه الثقافة من عناصر الضعف والتخ ُّلف‪ ،‬والتعا ُون على معالجتها‪،‬‬ ‫والح ُّد من آثارها‪ .‬ور َّبما تقتضي برامج التنشئة والتربية في هذا العمران الثقافي‬ ‫التوعية الكافية بالجمع بين متط َّلبات الانتماء والإصلاح‪ ،‬وبرامج التعا ُون والعمل‬ ‫المشترك لتحقيق الأمرين مع ًا‪.‬‬ ‫‪ .3‬العمران البشري يتط َّلب توفير ُفرص اكتساب العلم والمعرفة لجميع أفراد‬ ‫المجتمع‪ .‬ولك ْن‪ ،‬من المؤ َّكد أ َّن الناس يتفاوتون في مدى استفادتهم من ال ُفرص‬ ‫التعليمية المتاحة؛ إذ إ َّن هناك على الدوام ِمن الناس َمن يعلمون أمور ًا‪ ،‬وآخرون‬ ‫لا يعلمونها‪ ،‬وإ َّن هناك دائم ًا حاجة إلى مؤسسات التعليم والتدريب والبحث‬ ‫والدراسة‪ ،‬و ُفرص للتفا ُعل بين الناس في المجتمع من مستويات معرفية‬ ‫متفاوتة‪ .‬والمقصد التربوي من هذه الظاهرة العمرانية يتج ّلى في شعور كل‬ ‫فرد بالتواضع فيما لديه من علم‪ ،‬وبالحاجة إلى الاستفادة من ال ُفرص المتاحة‬ ‫للزيادة فيه‪ .‬والتفاوت في الكسب العلمي بين المجتمعات يفرض عليها كذلك‬ ‫التعا ُون‪ ،‬وتبادل الخبرات والمكتسبات المعرفية‪ ،‬بما يح ِّقق النمو في الحضارة‪،‬‬ ‫والتق ُّدم في العمران‪.‬‬ ‫‪ .4‬إ َّن ُفرص التعا ُون على اكتساب العلم والمعرفة‪ ،‬والخبرة في البناء العمراني‬ ‫والحضاري داخل المجتمع‪ ،‬وبين المجتمعات‪ ،‬لا تمنع التنافس والتسابق‪،‬‬ ‫والسعي إلى التم ُّيز والإبداع‪ .‬فالركون إلى الوضع القائم والحالة الراهنة من العلم‬ ‫والمعرفة على مستوى الفرد ومستوى المجتمع ينتهي إلى التراجع والتخ ُّلف‪،‬‬ ‫و ِم ْن َث َّم العطالة الحضارية والعمرانية‪ .‬فمبدأ التعا ُون في التعليم‪ ،‬والتع ُّلم ضمن‬ ‫الفريق‪ ،‬والعمل التربوي المشترك؛ كلها أمور مهمة لها فوائدها في الرفع من‬ ‫المستوى التعليمي العام للمجموع‪ .‬بيد أ َّن توفير الحوافز اللازمة للسبق والتم ُّيز‬ ‫بين الأفراد داخل المجتمع‪ ،‬والتخطيط لتحقيق الإسهام المتم ِّيز لكل مؤسسة من‬ ‫مؤسسات المجتمع‪ ،‬ولحضور المجتمع ساحة العا َلم‪ ،‬وإضافة الجديد المفيد‬ ‫إلى الحضارة العالمية؛ كلها أمور مهمة تستدعيها المشاعر التربوية الفردية‬ ‫والجماعية في تحقيق الذات‪ ،‬وفي استمرار التق ُّدم العلمي والمعرفي‪.‬‬ ‫‪339‬‬

‫‪ .5‬مقصد العمران يقتضي التربية على التع ُّدد‪ ،‬والتعايش مع التن ُّوع وقبول‬ ‫الاختلاف؛ ف َث َّمة نصو ٌص في القرآن الكريم َت ِر ُد فيها الإشارة إلى العمران الذي‬ ‫يخت ُّص بالمساجد‪ .‬وعمرانها يكون ببنائها بما تي َّسر من مواد العمران وهندسته‬ ‫ومك ِّوناته‪ ،‬وبالحضور فيها للصلاة والاجتماع في أبواب الخير؛ من‪ :‬تعليم‪،‬‬ ‫ومصالح إدارية وتنظيمية‪ .‬وعمرانها يقتضي حمايتها من احتمال الهدم‪ ،‬بتوفير‬ ‫القوة اللازمة لهذه الحماية‪ ،‬ولك َّن اللافت أ َّن القرآن الكريم قد ربط هذه الحماية‬ ‫بحماية أماكن العبادة لغير المسلمين؛ تأكيد ًا لحرية العقيدة‪ ،‬وقبول التع ُّدد في‬ ‫الدين وحمايته‪﴿ .‬ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ‬ ‫ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ﴾ [الحج‪ .]40:‬وكما ورد الحديث عن َد ْفع الله‬ ‫المؤمنين من عباده لمواجهة أعدائهم من إجل حماية أماكن العبادة‪ ،‬فقد ورد‬ ‫الحديث عن َد ْفع الناس بعضهم ببعض لحماية الأرض من الفساد والاستبداد‪،‬‬ ‫وعمرانها باستتباب الأمن‪ ،‬وتحقيق الرخاء‪ ،‬وبسط العدل‪﴿ .‬ﮰﮱﯓ‬ ‫ﯔﯕ ﯖﯗﯘ﴾ [البقرة‪.]251:‬‬ ‫‪ .6‬اشتمال الحديث الصحيح على ما يستدعي وعي الإنسان المسلم بالصلة بين‬ ‫الروح والجسد؛ فالتربية الروحية ليست منفصلة عن التربية المادية‪ ،‬كما لا‬ ‫تنفصل روح الإنسان عن جسده إلا بانتهاء العمران وتو ُّقف الحياة‪ .‬ولك ٍّل من‬ ‫الروح والجسد متط َّلباته التربوية المناسبة؛ َع ْن َأبِي ُه َر ْي َر َة َقا َل‪\" :‬إِ َذا َخ َر َج ْت‬ ‫ُرو ُح ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َت َل َّقا َها َم َل َكا ِن‪ُ ،‬ي ْص ِع َدانِ َها‪َ ،‬قا َل َح َّما ٌد‪َ :‬ف َذ َك َر ِم ْن ِطي ِب ِري ِح َها َو َذ َك َر‬ ‫ا ْل ِم ْس َك‪َ ،‬قا َل‪َ :‬و َي ُقو ُل َأ ْه ُل ال َّس َما ِء ُرو ٌح َط ِّي َب ٌة َجا َء ْت ِم ْن ِق َب ِل ا ْلَ ْر ِض َص َّلى ال َّل ُه‬ ‫َع َل ْي ِك َو َع َلى َج َس ٍد ُكنْ ِت َت ْع ُم ِرينَ ُه‪ (((\". ...‬فالروح تعمر الجسد في أثناء الحياة‪،‬‬ ‫ومن دون الزاد الروحي يفقد الجسد عمرانه‪ ،‬ويصبح خراب ًا لا قيمة له‪ ،‬ولا خير‬ ‫فيه‪ .‬ومثل ذلك عمران القلب؛ فالقلب عام ٌر بالقرآن‪َ ،‬خ ِر ُب من دونه‪ .‬والقرآن‬ ‫للقلب بمنزلة الروح من الجسد؛ فقد روى الدارمي بسنده موقوف ًا على الصحابي‬ ‫عبد الله بن مسعود‪ ،‬قال‪َ \" :‬وإِ َّن ا ْل َق ْل َب ا َّل ِذي َل ْي َس فِي ِه ِم ْن ِك َتا ِب ال َّل ِه َش ْي ٌء َخ ِر ٌب‬ ‫((( مسلم‪ ،‬صحيح مسلم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬الجنة‪ ،‬باب‪ :‬عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه‪ ،‬حديث‬ ‫رقم‪ ،)2872( :‬ص‪.1151‬‬ ‫‪340‬‬

‫َك َخ َرا ِب ا ْل َب ْي ِت ا َّل ِذي َل َسا ِك َن َل ُه‪ (((\".‬وعنده أيض ًا َأثر يرويه بسنده موقوف ًا على‬ ‫قتادة‪ ‬بن دعامة السدوسي‪ ،‬من التابعين‪\" :‬ا ْع ُم ُروا بِ ِه ُق ُلو َب ُك ْم‪َ ،‬وا ْع ُم ُروا بِ ِه ُب ُيو َت ُك ْم‪،‬‬ ‫ُأ َرا ُه َي ْعنِي‪ :‬ا ْل ُق ْرآ َن‪(((\".‬‬ ‫‪ .7‬إ َّن قيمة الجهود التربوية في هداية ال ُمتع ِّلمين إلى ما يراد لهم من المقاصد‬ ‫والأهداف التربوية‪ .‬فإذا كان السير في الصراط المستقيم هو الهدف التربوي‪،‬‬ ‫فإ َّن القرآن الكريم هو الروح التي تعمر حيا َة الإنسان‪ ،‬وما فيه من الشرائع هو‬ ‫مصدر الهداية إلى خير الناس في دنياهم و ُأخراهم‪ .‬فحلول الهدى في القلوب‬ ‫والعقول‪ ،‬مثل \"حلول الروح في الجسد‪ ،‬فيصير َح ّي ًا بعد أ ْن كان ُج َّثة\"(((‪...‬‬ ‫والقرآن كذلك نور؛ فما فيه من الإيمان والهدى والعلم ُيشبِه النور‪ ،‬مثلما ُيش َّبه‬ ‫الضلا ُل والجه ُل والكف ُر بالظلا ِم‪﴿ .‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ‬ ‫ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭩﭪﭫﭬ‬ ‫ﭭ﴾ [الشورى‪.]52:‬‬ ‫‪ .8‬إ َّن المجتمعات البشرية تنمو في العمران والحضارة‪ ،‬وتتر ّقى عن طريق ما‬ ‫يصلها من الهدي الإلهي‪ ،‬وما يكون فيه من تزكية نفسية‪ ،‬وتوجيهات أخلاقية‪،‬‬ ‫وتشريعات اجتماعية‪ .‬وتتراكم خبرات هذه المجتمعات عن طريق ما تكتسبه من‬ ‫العلوم والمعارف والتجارب‪ ،‬وما تتناقله هذه المجتمعات فيما بينها من هذه‬ ‫الخبرات النامية‪ .‬ولك َّن التر ّقي العمراني والتق ُّدم الحضاري إ َّنما يتم وفق قوانين‬ ‫الاجتماع البشري‪ ،‬وطبائع هذا الاجتماع‪ ،‬والسنن النفسية والاجتماعية للطبائع‬ ‫والوقائع‪ ،‬وهي سنن يمكن دراستها‪ ،‬وتوجيه السعي إلى التر ّقي في العمران‬ ‫البشري على أساسها‪ .‬ولذلك َيلزم أ ْن تتض َّمن المناهج الدراسية في مراحلها‬ ‫المختلفة ما َيلزم من مستويات العلم بقوانين النمو والتط ُّور‪ ،‬في كل فرع من‬ ‫((( الدارمي‪ ،‬أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل (توفي‪255 :‬ﻫ)‪ .‬مسند الدارمي «سنن الدارمي»‪ ،‬تحقيق‪:‬‬ ‫حسين سليم الداراني‪ ،‬الرياض‪ :‬دار المغني‪1420 ،‬ﻫ‪ ،‬كتاب‪ :‬فضائل القرآن‪ ،‬باب‪ :‬في تعاهد القرآن‪ ،‬ج‪،4‬‬ ‫حديث رقم‪ ،)3350( :‬ص‪ .2083‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،5‬حديث رقم‪ ،)3385( :‬ص‪.375‬‬ ‫((( ابن عاشور‪ ،‬التحرير والتنوير‪ ،‬تفسير الآية (‪ )52‬من سورة الشورى‪ ،‬ج‪ ،25‬ص‪.154‬‬ ‫‪341‬‬

‫فروع العلم‪ .‬وقد أ َّكد ابن خلدون ذلك‪ ،‬وك َّرره كثير ًا‪ ،‬ودعا إلى دراسة التغ ُّيرات‬ ‫والأحداث الاجتماعية بصورة منهجية منظمة‪ ،‬تعتمد ما يمكن أ ْن نتب َّينه من‬ ‫طبائع الأشياء ووقائع الأحداث؛ إذ قال‪\" :‬فالقانون في تمييز الحق من الباطل في‬ ‫الأخبار بالإمكان والاستحالة‪ ،‬أ ْن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران‪،‬‬ ‫ونم ِّيز ما يلحقه من الأحوال لذاته‪ ،‬وبمقتضى طبعه‪ \"...‬وهذا يستدعي عند ابن‬ ‫خلدون تحديد علم العمران ومسائله‪ ،‬وهو كذلك \"شأن ك ِّل عل ٍم من العلوم‪،‬‬ ‫وضعي ًا كان أو عقلي ًا‪ (((\".‬ولذلك ينبغي أ ْن تكون الدعوة إلى التغيير والإصلاح في‬ ‫واقع المجتمعات الإسلامية المعاصرة؛ للتخ ُّلص من مظاهر التخ ُّلف العمراني‬ ‫والحضاري‪ ،‬بصورة مبنية على دراسة قوانين التغيير في النفس والمجتمع‪ ،‬وأ ْن‬ ‫تتض َّمن برامج التعليم في جميع المراحل دراسة هذه القوانين‪.‬‬ ‫‪ .9‬إ َّن التخطيط لتحقيق المقاصد العامة التي تتصل بحياة الأُ َّمة يقتضي أ ْن يعمل‬ ‫النظام التربوي على إعداد العلماء المتخ ِّصصين القادرين على التب ُّحر والإبداع‬ ‫في كل مجال من مجالات بناء المجتمع‪ ،‬والنهوض الحضاري لل ُأ َّمة‪ ،‬وأ ْن يتم‬ ‫ذلك برؤية استشرافية مستقبلية‪ .‬والإعداد هذا لا يكون لجيل من الأجيال‪ ،‬ث َّم لا‬ ‫يكون متوافر ًا لجيل آخر‪ ،‬بل إ َّن الإعداد يكون لأجيال تتواصل وتتلاحق حتى لا‬ ‫يخلو منها تخ ُّصص من التخ ُّصصات‪ ،‬ولا زمن من الأزمان‪.‬‬ ‫((( ابن خلدون‪ ،‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.332‬‬ ‫‪342‬‬

‫المبحث الخامس‬ ‫تفعيل المقاصد التربوية وتقويمها‬ ‫أولاً‪ :‬التفعيل والفعل والفاعل‪:‬‬ ‫\"ال َّت ْفعي ُل\" من \" َف َّع َل\"‪ ،‬و َف َّع َل‪ ‬الأم َر‪ :‬ن َّشطه‪ ،‬ق ّواه‪ ،‬ن َّفذه‪ ،‬و َجع َله فاعل ًا وواقع ًا‪ .‬والأصل‬ ‫الثلاثي ( َف َع َل)‪ ،‬يقال‪َ :‬ف َع َل الشي َء؛ أ ْي عمله وصنعه‪ .‬والفا ِعل َّي ُة مصد ٌر صناع ٌّي من \"فا ِعل\"‪،‬‬ ‫وهي‪ :‬مقدرة الشيء على التأثير‪ .‬وفاعلية الخطة‪ :‬قدرتها على تحقيق الأهداف التي‬ ‫ُو ِضعت من أجلها‪ .‬وفاعلية الأداة‪ :‬تحقيق الغرض من استعمالها بالكفاءة المناسبة‪.‬‬ ‫ويقوم الاهتمام بفكرة تفعيل المقاصد على أ َّن \"المقاصد ليست مج َّرد معرفة ومتعة‬ ‫معرفية‪ ،‬وليست مج َّرد تع ُّمق فلسفي في الشريعة‪ :‬معانيها ومراميها‪ ،‬بل هو كسائر علوم‬ ‫الإسلام‪ِ ،‬ع ْل ٌم ُينتِج عمل ًا وأثر ًا؛ ِع ْل ٌم له فوائده وعوائده‪(((\".‬‬ ‫فالفعل هو الأثر الذي ُيس ِّببه مؤ ِّثر‪ ،‬والإنسان يفعل نوعين من الأفعال؛ نوع ًا يفعله‬ ‫مضطر ًا بحكم طبيعته‪ ،‬فلا يلحقه مد ٌح ولا َذ ٌّم‪ ،‬ونوع ًا آخ َر يفعله بإرادته‪ ،‬وهو ما يدخل‬ ‫في التكليف‪ ،‬وتدور عليه الأحكام‪ .‬وقد يقوم الإنسان بفعل معين ‪-‬مدفوع ًا بهوى نفسه‪-‬‬ ‫يكون فيه منفعة لنفسه أو غيره‪ ،‬أو استجابة لأمر الله وطلب ثوابه‪ .‬والحكم بقبول الفعل‬ ‫عند الله‪ ،‬والحصول على ثوابه مرهون بأمرين‪ :‬أ ْن يأتي الإنسان بالفعل بِنِ َّي ِة الاستجابة لأمر‬ ‫الله‪ ،‬وأ ْن يكون على الطريقة التي أمر بها الله‪ ،‬بن ٍّص في كتابه‪ ،‬أو به ْد ٍي من رسوله‪ .‬فالن َّية هنا‬ ‫هي القصد الذي يتو َّجه به الإنسان بفعله‪ ،‬ويتط َّلع إليه‪ ،‬والله سبحانه يقبل الفعل‪ ،‬وير ِّتب‬ ‫عليه أثره‪ ،‬تبع ًا لهذا القصد‪ .‬وكل ما شرعه الله للإنسان إ َّنما القصد منه بناء صلة الإنسان‬ ‫بالله تعالى في أعماله الاختيارية‪ ،‬كما هي الصلة به مع أفعاله الاضطرارية‪ .‬وحول هذا‬ ‫المعنى يقول الشاطبي‪\" :‬المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج ال ُمك َّلف من داعية‬ ‫هواه حتى يكون عبد ًا لله اختيار ًا‪ ،‬كما هو عب ٌد لله اضطرار ًا‪(((\".‬‬ ‫((( الريسوني‪ ،‬الفكر المقاصدي؛ قواعده وفوائده‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.90‬‬ ‫((( الشاطبي‪ ،‬الموافقات في أصول الشريعة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.318‬‬ ‫‪343‬‬

‫فالن ِّية في فعل الإنسان هي التي تربط عم َله بالمقصد الشرعي‪ ،‬والن ِّية تتصل بجميع‬ ‫أفعال الإنسان الإرادية؛ إذ \"جرت الأحكام الشرعية في أفعال ال ُمك َّلفين على الإطلاق‪ ،‬وإ ْن‬ ‫كانت آحادها الخاصة لا تتناهى؛ فلا َع َمل ُيف َر ُض‪ ،‬ولا حركة‪ ،‬ولا سكون ُي َّدعى إلا والشريعة‬ ‫عليه حاكمة إفراد ًا وتركيب ًا‪ (((\".‬وهذا يعني أ َّن ك َّل فع ٍل من أفعال الإنسان الإرادية لله فيه حكم‪.‬‬ ‫وقد تع َّرض الشاطبي للتوا ُفق أو التعا ُرض بين الأعمال والمقاصد على حالات‪،‬‬ ‫بدأها بقول الرسول ﷺ‪\" :‬إ َّنما الأعمال بالن ّيات‪ (((\".‬فال ُمعت َبر هو ما كان موافق ًا للشرع‬ ‫عمل ًا ون َّي ًة‪ ،‬وإ ْن كان مخالف ًا مع ن َّية صحيحة فقد ُيعت َبر؛ لأ َّن العمل ذو روح على الجملة‪،‬‬ ‫وإ ْن خالف القصد ووافق العمل فإ َّنه جسم بلا روح؛ لأ َّن الأعمال بالن ّيات‪ ،‬ولأ َّن المقاصد‬ ‫أرواح الأعمال‪ ،‬وإ ْن كان العمل والقصد مخالفين فلا روح ولا جسد‪(((.‬‬ ‫والن ِّية في أ ِّي فعل هي التي تجعل الفعل جزء ًا من إيمان المؤمن‪ ،‬يتق َّرب به المؤمن من‬ ‫ربه‪ ،‬ويجعله لون ًا من ألوان عبادته؛ فبعض العبادات هي عبادات فردية‪ ،‬وبعضها جماعية‪،‬‬ ‫وبعضها مجتمعية‪ .‬فحديث النبي ﷺ‪\" :‬الإيمان بض ٌع وسبعون ُشعبة‪ ،‬أعلاها لا إله إلا الله‪،‬‬ ‫وأدناها إماطة الأذى عن الطريق\"((( جعل إماطة الأذى من الطريق من ُشعب الإيمان‪ ،‬التي‬ ‫تبدأ بالتوحيد \"لا إله إلا الله\"‪ ،‬وتتض َّمن الكثير من متط َّلبات التزكية‪ ،‬التي تتصل بالأخلاق‬ ‫والفضائل والآداب الاجتماعية‪ ،‬إضاف ًة إلى ما هو من متط َّلبات العمران‪ ،‬حتى وصلت إلى‬ ‫إماطة الأذى عن الطريق‪ .‬ومن المؤ َّكد أ َّن إماطة الأذى عن الطريق لا تقتصر على مثل شوكة‬ ‫أو حجر في طريق رملي في صحراء أو سفح جبل‪ ،‬وإ َّنما تتض َّمن ش َّق الطرق للسيارات‬ ‫التي تصل القرى والبوادي والأرياف والمدن‪ ،‬وتمهي َد هذه الطرق بكل ما يي ِّسر ُسبل السير‬ ‫وأساليب الانتقال؛ من‪ :‬استواء الطريق‪ ،‬واستقامتها‪ ،‬واتساعها‪ ،‬وإنارتها‪ ،‬وتزويدها بسائر‬ ‫الخدمات والمرافق التي تقتضيها جهود التر ّقي والنهوض بالحالة الحضارية والعمرانية‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬المقدمة التاسعة‪ ،‬ص‪.45‬‬ ‫((( البخاري‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬بدء الوحي‪ ،‬باب‪ :‬كيف كان بدءالوحي إلى رسول الله ﷺ‪،‬‬ ‫حديث رقم‪ ،)1( :‬ص‪.3‬‬ ‫((( الشاطبي‪ ،‬الموافقات في أصول الشريعة‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪.425‬‬ ‫((( مسلم‪ ،‬صحيح مسلم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬كتاب‪ :‬الإيمان‪ ،‬باب‪ :‬بيان ُشعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء‬ ‫وكونه من الإيمان‪ ،‬حديث رقم‪ ،)35( :‬ص‪.48‬‬ ‫‪344‬‬

‫في المجتمع‪ .‬والطريق هنا قد تكون برية‪ ،‬أو بحرية‪ ،‬أو جوية‪ .‬ومن المؤ َّكد أ َّن اختيار مثال‬ ‫مح َّدد من شعب الإيمان‪ ،‬مثل إماطة الأذى عن الطريق‪ ،‬لا يق ِّلل من أهمية الأمثلة الأُخرى‪،‬‬ ‫وإ َّنما يأتي التنويه بالمثال المذكور للتنبيه على الحاجة إليه‪ ،‬والتذكير بأهمية الفعل الذي‬ ‫يقتضيه‪ ،‬ور َّبما ليمتد تفكير المؤمن إلى غيره من الأمثلة‪ ،‬وتذكيره بها‪.‬‬ ‫والذي يعنينا في التفعيل ‪-‬في نهاية المطاف‪ -‬هو \"فِ ْع ُل\" الإنسان‪ ،‬في مجال إرادته‬ ‫وحريته واختياره‪ ،‬وهو الفعل الذي يترك آثار ًا في حياته وحياة غيره من الناس‪ ،‬وفي‬ ‫الطبيعة والبيئة التي يحيا فيها‪ .‬وقد ر َّتب الله سبحانه على الآثار نتائج عاجلة في الحياة‬ ‫الدنيا‪ ،‬ونتائج آجلة في الآخرة‪ .‬وقد تكون الآثار إيجابية محمودة‪ ،‬وقد تكون غير ذلك‪.‬‬ ‫والعقل هو النعمة التي م َّيز الله بها الإنسان ل ُت ِعينه على أداء مهمته في الحياة الدنيا‪،‬‬ ‫وجعله سبحانه مسؤولاً عن إعمال عقله وتوظيفه فيما ُخ ِلق له‪ ،‬كما هو الأمر في أدوات‬ ‫الوعي الأُخرى‪﴿ .‬ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ﴾ [الإسراء‪ .]36:‬ومن حكمة الله‬ ‫سبحانه في الحديث عن العقل أ َّنه لم يتح َّدث عنه بوصفه شيئ ًا له اسم؛ إذ لم َي ِر ِد العقل في‬ ‫القرآن الكريم بصيغة الاسم‪ ،‬وإ َّنما ورد بوصفه فعل ًا وعمل ًا وممارس ًة وحرك ًة في الحياة‬ ‫الفردية والاجتماعية‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإ َّن تفعيل العقل يقتضي ممارسة فعل التد ُّبر في آيات الله‬ ‫المسطورة والمنظورة‪ ،‬والنظر‪ ،‬والتب ُّصر‪ ،‬والتف ُّكر‪ ،‬والتذ ُّكر‪ ،‬والاعتبار‪ ،‬والتف ُّقه‪. ...‬‬ ‫ويربط الشيخ العلواني بين اعتماد \"منظومة المقاصد العليا الحاكمة\" والآثار المتر ِّتبة‬ ‫على تفعيلها‪ ،‬أو تشغيلها ‪-‬بحسب اصطلاحه‪ .-‬فإذا جرى \"تشغيلها\"‪ ،‬فإ َّنها \"سوف تضفي‬ ‫حيوية وفاعلية كبيرة على \"خصائص الشريعة\"‪ .‬فمنظومة المقاصد كما جرى عرضها في‬ ‫التراث الأصولى‪ ،‬ومنظومة المقاصد العليا (التوحيد‪ ،‬والتزكية‪ ،‬والعمران) التي يقترحها‬ ‫العلواني إذا ُش ِّغلتا مع ًا‪ ،‬فإ َّنهما ُت ْح ِدثان في التراث الفقهي والأصولي تجديد ًا وتنقي ًة لفقه‬ ‫التقليد بآثاره السلبية التي \"جعلت بين الفقه والتربية حاجز ًا كثيف ًا‪ \".‬ويق ِّرر العلواني أ َّن‬ ‫خصائ َص الشريعة الخاتمة هي أسا ٌس تنطلق منه منظومة القيم العليا‪ ،‬وتستطيع هذه‬ ‫المنظومة عند اعتمادها أ ْن \"تخرج تلك الخصائص من دائرة الفضائل المج َّردة إلى دائرة‬ ‫الفاعلية والعمل‪(((\".‬‬ ‫((( العلواني‪ ،‬مقاصد الشريعة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.143-142‬‬ ‫‪345‬‬

‫لقد كان علم أصول الفقه مجموعة من القواعد التي تن ِّظم عملية استنباط الأحكام‬ ‫الفقهية‪ ،‬ث َّم أصبح موضوع المقاصد مبحث ًا من مباحث علم الأصول‪ ،‬وتط َّور الوعي‬ ‫بالمقاصد عبر مراحل متتابعة‪ ،‬ع َّبرت عن اجتهادات العلماء في التعامل مع المشكلات‬ ‫المتج ِّددة عبر العصور‪ .‬ولا شك في أ َّن واقع المجتمعات الإسلامية اليوم يتصل اتصالاً‬ ‫وثيق ًا بنظام العا َلم المعاصر‪ ،‬وما يمارسه هذا النظام من إكراهات وضغوط ر َّبما لم يألفها‬ ‫الفقه الإسلامي من قب ُل‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإ َّن ما ُينت َظر من علماء الأُ َّمة اليوم من اجتهاد يحتاج‬ ‫إلى ما س ّماه النجار \"نهضة مقاصدية\" في الفقه الإسلامي‪ ،‬تكون وظيفتها تفعيل مقاصد‬ ‫الشريعة‪\" ،‬بإعادة تحريرها وتقريرها وتصنيفها‪ ،‬وبالتحقيق فيها من حيث ذاتها‪ ،‬ل ُيبنى ك ُّل‬ ‫حكم على المقصد المناسب له‪ ،‬وبالتحقيق في مآلاتها‪ ،‬ل ُتبنى الأحكا ُم على المقاصد التي‬ ‫تتح َّقق في الواقع‪ ،‬وتعالج المشاكل الواقعية‪ .‬ويقع اليوم ضر ٌر كبي ٌر بالأُ َّمة نتيجة الغفلة عن‬ ‫هذا التفعيل للمقاصد في مراحله المختلفة‪(((\".‬‬ ‫ولا شك في أ َّن تفعيل المقاصد يخت ُّص بالبحث عن وسائل تحقيقها‪ .‬فحفظ العقل‬ ‫‪-‬مثل ًا‪ -‬هو أح ُد المقاصد الخمسة التي أكثر الأصوليون الحديث عنها‪ ،‬وتحقيق هذا‬ ‫المقصد يتط َّلب وسائل متعددة‪ ،‬منها‪ :‬التربية الفكرية من أجل تكوين العقلية العلمية‪ ،‬وبناء‬ ‫المنهج العلمي والتعليم‪ .‬وتقوم هذه التربية على عدد من المق ِّومات‪ ،‬منها‪ :‬التع ُّبد بالتف ُّكر‬ ‫والنظر العقلي‪ ،‬ورف ُض الظ ِّن في موضع اليقين‪ ،‬والسم ُّو بالنفس عن الأهواء‪ ،‬ورف ُض‬ ‫التقليد الأعمى للآباء‪ ،‬ورعاي ُة سنن الله في الكون والمجتمع‪ ،‬وغي ُر ذلك‪.‬‬ ‫إ َّن بناء المنهج العلمي في النظر والبحث‪ ،‬وبناء المعرفة واختبارها وتوظيفها‪،‬‬ ‫يتط َّلب معرفة أنواع المناهج والوظيفة التي يمكن أ ْن يح ِّققها ك ٌّل منها؛ ف َث َّمة طر ٌق متعددة‬ ‫للاستدلال العقلي والتجريبي والاستقراء‪ ،‬وغير ذلك كثير‪ ،‬يمارسها الباحثون في مناهج‬ ‫البحوث التاريخية والوصفية والتجريبية‪ ،‬وغيرها‪ .‬وعن طريق مق ِّومات التربية العقلية وبناء‬ ‫مناهج النظر والتفكير والبحث‪ ،‬يمكن للعملية التعليمية والتربوية أ ْن تح ِّدد أنواع العلوم‬ ‫المطلوب تعليمها‪ ،‬والمستوى المناسب تعليمه من كل نوع‪ ،‬وتوزيع العلوم وموضوعاتها‬ ‫على مراتب الضرورة والحاجة والتحسين‪.‬‬ ‫((( النجار‪ ،‬مراجعات في الفكر الإسلامي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.138-137‬‬ ‫‪346‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬تفعيل المقاصد يحتاج إلى الفقيه المقاصدي‪:‬‬ ‫الفقيه في المصطلح الإسلامي هو العالِم بأحكام الشريعة الإسلامية‪ ،‬الذي يتعامل مع‬ ‫القضايا التي ُيط َلب فيها ال ُحكم الشرعي‪ ،‬ور َّبما ُيص ِدر ُحكم ًا في قضية‪ ،‬و ُيفتي في مسألة‪،‬‬ ‫و ُيق ِّدم علم ًا في موضوع‪ ،‬ويكون \"الفقي ُه الح ُّق\" في كل ذلك فقيه ًا مقاصدي ًا \" ُمستح ِضر ًا‬ ‫في نظره الفقهي المقاصد المبتغاة من تلك الأحكام‪ُ ،‬متح ِّري ًا ‪-‬في بنائها بالاجتهاد‪ -‬ما هو‬ ‫مح ِّق ٌق منها للمصلحة‪ ،‬ودار ٌئ للمفسدة‪ \".‬ويتح َّقق للفقيه المقاصدي ذلك الاستحضار‬ ‫وهذا التح ّري في‪\" :‬مراحل ثلاث على الفقيه المقاصدي أ ْن يستصحبها في نظره‪ ،‬كي‬ ‫تكون مقاص ُد الشريعة فاعل ًة في إنتاج الأحكام التي تعالج القضايا المطروحة المعالجة‬ ‫الناجعة الصحيحة‪ :‬تقرير المقاصد وتم ُّث ُلها تص ُّور ًا علمي ًا‪ ،‬والتح ُّقق في ذات المقاصد‬ ‫لتنسيبها إلى أحكامها‪ ،‬والتحقيق في مآلات المقاصد عند تنزيل الأحكام في الواقع‪(((\".‬‬ ‫وأهمية الوعي بهذه المراحل تأتي من المعرفة النظرية والعملية لمقاصد القضية‬ ‫المح َّددة التي يبتغي الفقيه لها حكم ًا‪ ،‬ومن المعرفة بأ َّن المقاصد متعددة في النوع‪،‬‬ ‫ومتفاوتة في الق َّوة؛ فلا ُين َسب ما هو ضرور ٌي إلى ما هو حا ِج ٌّي أو تحسينِ ٌّي‪ ،‬أو العكس‪.‬‬ ‫وتأتي كذلك من العلم بأ َّن ملابسات الواقع قد تحول دون ما تخ َّيله الفقيه من مآلات‪.‬‬ ‫فالفقية المقاصدي عند النجار هو الذي يفقه أمور ًا ثلاث ًة‪ :‬العلم بمقاصد الموضوع المراد‬ ‫بيان الحكم فيه‪ ،‬وبمراتب المقاصد وأنواعها التي تخت ُّص بذلك الموضوع‪ ،‬وتقدير مآل‬ ‫الحكم في ذلك الموضوع على ضوء ملابسات الواقع زمان ًا ومكان ًا‪.‬‬ ‫غير أ َّن المهم‪ ،‬ور َّبما الجديد في معالجة النجار لتفعيل المقاصد‪ ،‬هو في ضرب‬ ‫الأمثلة على المراحل الثلاث بصورة تتسع للتفكير في الأحكام الشرعية الخاصة بالحياة‬ ‫المعاصرة ومشكلاتها في السياقات المحلية والعالمية؛ من‪ :‬امتهان كرامة الإنسان وطمس‬ ‫فطرته‪ ،‬وهدم نظام الأسرة‪ ،‬ومخاطر التل ُّوث البيئي‪ ،‬وأمثال ذلك‪ .‬وهذا يعني أ َّن الفقيه‬ ‫المقاصدي هو الفقيه بالموضوع الذي ُيراد بيان الحكم فيه؛ فالموضوع قد يلابسه ظهور‬ ‫أهمية وحاجة لم تكن ظاهرة من قب ُل‪ ،‬وهو ما يتط َّلب تجديد ًا في تصنيفات المقاصد‪ ،‬فلا‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.133-132‬‬ ‫‪347‬‬

‫ُيلت َزم بالضرورة بما ورد في التراث‪ ،‬وقد تتزاحم فيه مقاصد مختلفة‪ ،‬تضطر الفقيه إلى‬ ‫الموازنة وفق ق َّوة الأثر من التحقيق النظري والعملي لمصلح ٍة‪ ،‬أو در ِء مفسد ٍة‪ .‬وقد تبدو‬ ‫ق َّوة الأثر من التحقيق العملي القريب في نتيجة معينة‪ ،‬ث َّم تؤول ‪-‬في نهاية الأمر‪ -‬إلى نتيجة‬ ‫مختلفة‪ ،‬فيكون على الفقية المقاصدي \"أ ْن يستشرف مستقبل المقصد الذي ح َّدده‪ ...‬لأ َّن‬ ‫للواقع الجاري منطق ًا خاص ًا به‪ ،‬يكون أحيان ًا معاند ًا للمنطق النظري‪ .‬فعلى الفقيه أ ْن يم َّد‬ ‫ببصره المقاصدي إلى ذلك المنطق العملي‪ ،‬ولع َّل هذا هو المقصود من اشتراط أ ْن يكون‬ ‫المجتهد فقيه ًا بأحكام الشرع‪ ،‬وفقيه ًا أيض ًا بأحكام الواقع وملابساته‪(((\".‬‬ ‫ويستشهد النجار على أهمية فقه الواقع بن ٍّص للشاطبي‪ ،‬يشير إلى ضرورة هذا‬ ‫الفقه رغم الصعوبات التي تحول دون َت َح ُّق ِقه على الوجه الأمثل‪ ،‬و ُيع ِّقب على ذلك‬ ‫بقوله‪\" :‬ولمعالجة هذه الصعوبات في تب ُّين أ ْي ُلو َلة المقاصد يمكن للفقيه أ ْن ي َّتبع قواعد‬ ‫وطرق ًا ُت ِعينه على بعضها مكتشفا ُت العلوم الاجتماعية والإحصائية والنفسية‪ .‬ومن ذلك‪:‬‬ ‫العلم بالمؤ ِّثرات في أ ْي ُلو َلة المقاصد نظري ًا من خصوصيات ذاتية‪ ،‬وخصوصيات ظرفية‪،‬‬ ‫وخصوصيات واقعية‪ ،‬وكذلك ا ِّتباع مسالك الكشف عن مآلات المقاصد واقعي ًا‪(((\".‬‬ ‫ويفيدنا هذا المنهج الذي يستخدمه النجار في الحديث عن تفعيل المقاصد في أ ِّي‬ ‫مجا ٍل من مجالات الحياة الاجتماعية‪ .‬فالفقية المقاصدي ليس الفقيه المتخ ِّصص في عل ٍم‬ ‫من العلوم الدينية؛ إذ َث َّمة فق ٌه في العمل التربوي والتعليمي‪ ،‬وفق ٌه في العمل السياسي‪،‬‬ ‫وفق ٌه في العمل الاقتصادي‪ ...،‬وحتى يتح َّقق تفعيل المقاصد في هذه الميادين؛ لا ُب َّد من‬ ‫وجود الفقيه المقاصدي التربوي‪ ،‬والفقيه المقاصدي السياسي‪ ،‬وهكذا‪.‬‬ ‫ثالث ًا‪ :‬الأفكار بين الفاعلية والتفعيل‪:‬‬ ‫َث َّمة أفكا ٌر صحيحة في ذاتها‪ ،‬لكنَّها قد لا تكون صالحة للتطبيق في ظروف معينة من‬ ‫الزمان والمكان والحال‪ ،‬وهناك أفكا ٌر نظرية تحتاج أ ْن تنتقل إلى التطبيق العملي لهذه‬ ‫الأفكار‪ .‬وإذا كانت الأفكار هي نتائج تفكير الإنسان‪ ،‬فإ َّن الإنسان كذلك هو الذي ُيتو َّقع‬ ‫أ ْن ُيط ِّبقها حتى تصل نتيجة فِ ْعل الإنسان الرشيد إلى نهايته المنشودة‪ ،‬وبالكفاءة المطلوبة‪.‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.136‬‬ ‫((( المراجع السابق‪ ،‬ص ‪.137‬‬ ‫‪348‬‬

‫والفكر ‪َ -‬م ْهما كانت صحته وجودته‪ -‬يكون في حالة النهوض فكر ًا واضح ًا‪ ،‬مح َّدد ًا‪،‬‬ ‫مبدع ًا‪ ،‬متج ِّدد ًا‪ ،‬ف ّعالاً‪ ،‬ممتلئ ًا بالثقة والمبادأة‪ .‬أ ّما في حالة التخ ُّلف فإ َّن الفكر نفسه يكون‬ ‫في حال ٍة غامض ٍة‪ ،‬مبهم ٍة‪ ،‬ويميل إلى المحافظة‪ ،‬والجمود‪ ،‬والعزلة‪ ،‬والتقليد‪ .‬وقد م َّيز‬ ‫مالك بن نبي بين مفهوم الفكرة الأصيلة والفكرة الف ّعالة؛ فأصالة الفكرة لا تعني فعاليتها‪،‬‬ ‫والفكرة الف ّعالة لا تعني أ َّنها صحيحة‪.‬‬ ‫إ َّن الفعالية عند مالك بن بني هي فاعلية الإنسان القادر على شحن الفعالية في‬ ‫الأفكار؛ سواء كانت هذه الأفكار صحيحة‪ ،‬أو غير صحيحة‪ .‬فالأفكار التي تصنع التاريخ‬ ‫هي الأفكار الف ّعالة‪ ،‬حتى لو لم تكن صحيحة‪ .‬إ َّن وجود \"فكرة أصيلة لا يعني ذلك فعاليتها‬ ‫الدائمة‪ ،‬وفكرة ف ّعالة ليست بالضرورة صحيحة‪ ،‬والخلط بين هذين الوجهين يؤدي إلى‬ ‫أحكام خاطئة‪ ،‬و ُتل ِحق أشد الضرر في تاريخ الأمم‪ ،‬حينما يصبح هذا الخلط في أيدي‬ ‫المتخ ِّصصين في الصراع الفكري وسيل ًة لاغتصاب الضمائر‪(((\".‬‬ ‫وبعض الأفكار لا تجد فعاليتها إلا بعد إعطائها نفح ًة روحي ًة‪ ،‬تكسبها شيئ ًا من‬ ‫القداسة‪ .‬ويرى مالك بن نبي أ َّن حضارة القرن العشرين تح َّققت عندما \"أودعت أوروبا‬ ‫القرن التاسع عشر قدرها في ثلاث كلمات‪ :‬العلم‪ ،‬التق ُّدم‪ ،‬الحضارة‪ .‬فكانت هذه أفكار ًا‬ ‫مقدسة‪ ،‬سمحت لها أ ْن ترسي داخل حدودها قواعد حضارة القرن العشرين‪ ،‬وأ ْن تبسط‬ ‫خارج حدودها سلطتها على العا َلم‪ .‬وحتى قيام الحرب العالمية الأُولى‪ ،‬لم تفلح أ َّية‬ ‫(هرطقة)‪ ،‬ولم تتمكن أ َّية معارضة من مواجهة هذه الأفكار‪ .‬لقد كانت ف ّعالة! لا فرق‪:‬‬ ‫أصحيحة هي أم باطلة‪ ،‬طالما ك ٌّل ينحني للقانون الأكثر فعالية والأقوى‪(((\".‬‬ ‫وفعالية الإنسان عند مالك بن نبي تتح َّدد في النظر في طبيعة الإنسان‪ ،‬وفهمنا له؛‬ ‫فهو‪\" :‬يم ِّثل معادلتين‪ :‬معادلة تم ِّثل جوهره إنسان ًا َصنَ َعه َم ْن أتقن كل َّ شي ٍء ُصن َعه‪ ،‬ومعادلة‬ ‫ثانية تم ِّثله كائن ًا اجتماعي ًا يصنعه المجتمع‪ .‬ومن الواضح أ َّن هذه المعادلة الأخيرة هي‬ ‫التي تح ِّدد فعالية الإنسان؛ إنسان في جميع أطوار التاريخ‪ ،‬لا يتغ َّير فيه شيء‪ ،‬بل تتغ َّير‬ ‫((( ابن نبي‪ ،‬مالك‪ .‬مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي‪ ،‬ترجمة‪ :‬بسام بركة وأحمد شعبو‪ ،‬إشراف وتقديم‪ :‬عمر‬ ‫مسقاوي‪ ،‬بيروت ودمشق‪ :‬دار الفكر المعاصر ودار الفكر‪2002 ،‬م‪ ،‬ص‪.102‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.105‬‬ ‫‪349‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook